نوفيلا نوتفكيشن (كاملة) بقلم دينا إبراهيم

 نوفيلا نوتفكيشن كاملة (جميع فصول الرواية) بقلم دينا إبراهيم  

نوفيلا نوتفكيشن كاملة (جميع فصول الرواية) بقلم دينا إبراهيم 


 نوفيلا نوتفكيشن الفصل الأول

نوفيلا "نوتفكيشن"

الفصل الأول

توقفت سيارة حديثة الطراز والمطلية باللون الوردي الصارخ بأن المالك ما هي إلا أنثى مدللة، ركنتها المالكة مباشرة أمام أحد المباني الفاخرة شاهقة العلو والمنتشرة في حي جاردن سيتي، ثم خرج منها شاب يشعر بالملل كما تشير عيناه العسلية المائلة للون الخضرة والناعسة.
حك الشاب الوسيم لحيته السوداء المزينة لوجه وتلقي رونقًا جذابًا يليق برجل في أواخر العشرينات من عمره، عكست ترجله من مقعد القيادة فتاة بشعرٍ أسود كثيف يحير ثُقل هيئته عين الرائي عندما يقارنه بمدى نحافتها التي تميل للضعف أكثر منها إلى الرقة، أغلقت السيارة بإحكام وتحركت كي تواجه الشاب مثبته عيونها السوداء الواسعة والتي يكاد يجزم أنها تزداد وسعًا مع كل لحظة توتر تمر بها.
لعق الشاب شفتيه وهو غارق في تفحص جاذبيتها الفريدة التي لا يستطيع تحديد سببها من الأساس، فهي ليست خارقة الجمال أو فاتنة الانوثة وتفاصيلها هادئو إلا أن هناك شيء داخل حدقتيها يجعله مهووسًا برغبته في الغرق بهما وكأنها تتوسل إليه لإنقاذها ولكنها أنهت حيرته بصوتها الرفيع المرتبك:

-زي ما اتفقنا إياك تعمل حاجة من دماغك وأي حركة أو رد فعل منك هيكون بإذني، مفهوم؟
أرتفع جانب ثغر "زيدان" في ابتسامه ساخرة بينما يميل برأسه ناحية اليمين يطالعها وهي تتحدث بتسلية كبيرة وكأنها قردً في حديقة الحيوان، فأغمضت جفونها في غيظ قبل أن تخبره في انزعاج:

-أنت فاهم أنا بقول أيه!

اتسعت ابتسامته على آخرها وكأنه سعيد بانه نجح في ازعاجها واتلاف أعصابها المحترقة إلا إنه فاجئها حين مد ذراعه حول كتفيها يقربها نحو جسده في سهولة مخبرًا إياها في نبرته الخشنة الرجولية أو ربما هي خشنة لأن المقيت لم يتحدث معها أو يفتح فمه بكلمة واحدة طوال الطريق، هزت رأسها كي تصب كامل انتباهها على كلماته:

-أنتي ليه محسساني أن عمر ما حد حضنك قبل كده.

جذت على أسنانها وهي ترمقه بنظرات محتقرة وداخلها يصرخ مجيبًا لأنه لم يسبق أن يضمها رجل من قبله قط، لكنها اكتفت بنزع ذراعه عنها محاولة إخفاء حمرة الخجل عن وجهها وتشتيته في نبرتها الغاضبة:

-أنت ازاي تتجرأ، احنا ما اتفقناش على كده!

لم يعيرها أي اهتمام بل أعاد ذراعه حولها وكأن شيء لم يكن ثم جرها معه نحو المبنى محذرًا:

-لا نهدى كده الله يكرمك، بلاش نفضح العلاقة القذرة دي من أولها.. ما تنسيش إني جوزك..
كادت تمطره بوابل من الشتائم بانه ليس زوجها بالفعل، لكن وصول صديقتها قطع توبيخها ما أن رصدتهما وتقدمت في فضول نحوهما مرحبة:

-ميرا واقفة ليه كده يلا بينا الشله كلها فوق....

قطعت حديثها وهي تنظر ل "زيدان" من أعلاه إلى أسفله مستفسرة:

-مش هتعرفينا ولا أيه؟

رسمت "ميرا" ابتسامه مهتزة فوق فمها قبل أن تجذب نفس عميق قائلة:

-أيوة طبعًا ليلو صاحبتي، زيدان جوزي!

نظرت لها الفتاة بأعين متسعة قبل أن تهتف في خضة:

-جوزك...no way مش مصدقه!

-أيوة احنا متجوزين عُرفي.

رفعت ميرا رأسها في عنجهية وفخر تحسد عليهما في حديث فاسد يتعجب له "زيدان" وكلتاهما يتحدثان عنه أمامه وعن الزواج العرفي وكأنهما يتحدثان عن حالة الطقس أو طبق اليوم!
اتسعت ابتسامه الفتاة وهي تتفحصه في وقاحة دون خجل قبل أن تحرك رأسها في قبول هامسة:

-اممم nice قطتنا كبرت وبقت naughty .

انتهت جملتها وهي تلتفت للتحرك مشيرة لهما لأتباعها وقد فعلا حتى وصلا شقة أخذ الدخان والموسيقى الصاخبة يتسابقان منها ما أن فُتح الباب، حافظ زيدان على تعابير وجهة الثابتة كي لا يظهر طبيعة مشاعرة المشمئزة من المشهد الدائر حوله من فتيات وشباب لا يتحاوزوا العشرين عامًا، يلهون ويتراقصون في مجون وكأنهم في إحدى دول أوروبا.
اشتدت أصابعه حول كتفها الرفيع يحاول كبح مشاعره الغاضبة عليها لتورطها مع هؤلاء ولكنه رفع أصابعه عنها في سرعة وكأنه يخشى كسر عظامها الرقيقة.
زاد غيظه وهو يتابع لمعة عيونها بالانتماء والمحبة وهي ترمي السلام هنا وهناك بين الشباب والشابات قبل أن تستقر على أريكة لشخصين مشيره له بعينيها كي يجاورها.
رسم ابتسامه هادئة على وجهة ثم جلس يصطنع التسلية وعدم المبالاة بما يدور حوله حتى تدخلت تلك المدعوة ليلو بانبهار مقزز وكأنها ربحت اليناصيب:

-أسمحولي افاجئكم واقولكم مين ده، ده زيدان ... يبقى جوز ميرا !

-نعم!

علا صوتً ذكوري واحد فوق الجلسة من بين شهقات الجميع الصادمة وتمتماتهم الغير مصدقة، فارتفع حاجب "زيدان" و انتبهت حواسه لهذا الشاب الجالس أمامه يطالعه في حقد جلي للجميع ما عدا الحمقاء المبتسمة في فخر بجواره.

-اهلا أنا زيدان جوز ميرا.

حرك الشاب رأسه وكأنه يستجمع أفكاره ويخرج من صدمته قبل ان يبادله التحية:

-اهلا، أنا رامي صاحب ميرا.

على الفور بدأت عجلة التفكير تدور في عقل "زيدان" وهو يشتم رائحة الغيرة المقطرة من حروفه ولكنه تجاهله وجلس بأريحية يتابع نظرات الفتيات إليه.
ابتسم لنفسه في غرور فهو شاب يملك وسامة مصرية أصيلة وله عيون ناعسة قادرة على سرقة قلوب الفتيات وفي الواقع فمعظم فتيات الجيل الجديد فارغات في التأسيس الأبوي أو التربوي بمعنى صحيح وغارقن في العلاقات الجانبية بشكل لا يتركه يبذل الكثير من الجهد من أجل إيقاعهن في شباكه.
رمق البلهاء المبتسمة بجواره والتي تحاول إلصاق كتفها به وكأنها بذلك تصك ملكيتها عليه، ولولا أنه يشعر بدمائه تغلي داخله لخرجت منه ضحكات عالية على سخافتها.... أيفترض أن يكون هذا التصرف وقحً من نوع ما؟ ... حرك رأسه في تعجب من سذاجتها ودون تفكير رفع ذراعه يحيطها به من جديد متجاهلًا تصلبها واتساع عينيها وهو يقربها منه قبل ان يميل على أذنها هامسًا:

-اضحكي كأني بقولك حاجة، المفروض المتجوزين بس هما اللي يقولوها.

احمرت وجنتها في خجل رغمًا عنها فارتفع حاجبة وهو يهمس:

-الابتسامة؟

اهتزت شفتيها في شبة ابتسامه وانخفضت عينيها تشعر بخجل شديد من هذا الاقتراب الحميمي أمام الجميع.
حمقاء غريبة الأطوار تكاد تفقده ما تبقى من صوابه بتصرفاتها المتناقضة وتجعل مهمته في تحليل تصرفاتها وفهم مداخل شخصيتها مهمة شبة مستحيلة، رفعت عيناها المرتبكة نحوه ترمقه في توسل كي يرحمها من اقترابه ولكنه وجد نفسه يفعل العكس بإحكامه لذراعه حولها بينما يعدل جلسته مستندًا بظهره للخلف ضامً لها جواره وكأنها زوجته بالفعل.
حسنًا ... هي وضعت البداية وما هو إلا الناهي في تلك الحكاية!...
فكر في خبث وهو يسترجع بداية الجنون في حكايتهم.

***
-أنت طلعت دماغ يا زيدوو المنشور قلب الدنيا ولف الفيس بوك كله!

قال "محمد" صديقة بينما تابع صديقهم الثالث "كيرو" في مرح:

-اومال أيه دماغ بصحيح، إلا قولي يا زيدوو عملتها ازاي دي!

ضحك "زيدان" على حماسه أصدقائه وكأنه مخترع الذرة وليس منشور على موقع للتواصل الاجتماعي ... لكنه ابتسم في غرور سعيدًا أن المنشور لاقى اعجاب مئات الآلاف بشكل خرافي أنبهر به أصدقائه المخابيل.

-الحقوا ده في جريدة إلكترونية كاتبة عننا ... قام شاب أسمه زيدان بتنزيل منشور يجمع صور له ولعدة من أصدقائه وقد ارفق ممازحًا على صورة صديقة الاول الحقي واحجزي عرض لفترة محدودة باد بوي أوي .. وسيم .. عربية،
أما عن الصديق الثاني فأكمل ممازحًا جنتلمان .. معسول الكلام...هينفعك أوي في الفسح مع صحابك الكابلز ... أما عن صورته فكتب بكل غرور....

قاطع زيدان "محمد" في ملل وانزعاج :

-ما خلاص يا ابني ما أنا اللي ناشر البوست وحافظه.

-ماشي يا سيدي زعق براحتك، بردو هسامحك.

ضحك الأصدقاء ليشاكسه "كيرو" بقوله:

-طبعا لازم تسامحه بعد كمية البنات اللي دخلت تشتري خدماتكم فعلًا!،
احنا اتسيطنا أوي يا زيدوو يا عم اعمامنا كلنا!

حرك زيدان رأسه لليمين واليسار في يأس ثم أخبرهم:

-لا نركز مع بعض كده عشان ربنا يكرمها معانا ويكملها على الخير البوست نزل كدعاية وشوو قبل ما نفتح الكافية بتاعنا احنا التلاته،
وياريت مننساش ان البيه متجوز والتاني خاطب وشكرًا.

نظر الثنائي لبعضهم البعض نظرات ذات مغزى قبل أن يرمقوا زيدان في حنق يترجمه محمد بقوله المنزعج:

-فاهمين، عايز تقولنا نلم الدور وما نلفش على كل البنات دي، عايزنا نرفص النعمة يا جاحد!

علت ضحكات "زيدان" وقرر تجاهلهم وهو يمسك هاتفه يتنقل بين اشعاراته الكثيرة ولكن إشعار واحد فقط نجح في جذب انتباهه أكثر مما ينبغي، اتبع فضوله وفتح الرسالة المرسلة من فتاة اسمها "ميرا".
والذي حارب لكي يبعد عيناه الشاردة في تفاصيل ملامحها الظاهرة من صورتها المصغرة أعلى غرفة الدردشة بأعجوبة وداخلة شعور بانه يعرفها، ثم انتقل يقرأ ما ارسلته في ذهول، حرك رأسه في صدمه يحاول استعادة انتباهه المشتت وأعاد قراءة كلماتها المريبة:

-محتاجاك تمثل انك متجوزني عرفي لمدة ست شهور وهديك مبلغ كبير جدا فوق ما تتخيل.

مالت شفتاه للأسفل في اشمئزاز متمتمًا:

-أيه الطلب الحقير ده، يعني مش أمثل إني متجوزها لا أمثل إني متجوزها عرفي، أكيد ده تهريج مش بجد.

أنهى همساته وهو يتجه مباشرة لفتح الصفحة الشخصية الخاصة بها وتلقائيًا تحرك أصبعه لفتح وتكبير صورتها الشخصية، تنقل بنظراته المتفحصة كأي رجل في العالم فوق جسدها النحيف المخفي تحت ثوب مخملي فضفاض بلون السكر ورقيق للغاية يستقر نهايته أسفل ركبتيها مباشرة ويبدو ملمسه مريحًا للجسد والعين على حد سواء.
وما ان انتقل نحو وجهها الرفيع ذو الذقن المدبب نوعًا ما، حتى تعلقت عيناه بعدستيها السوداء الواسعة، وقد أسرته الألفة فيها ونظرتها المبهمة المحملة بالعديد من المشاعر فبالرغم من وجود ابتسامة خفيفة مزينة لثغرها الصغير إلا أنها تخفي في عيناها خوفً أو ضعفً دفين أنطلق كالسهم مهاجمًا صدره مثيرًا مشاعر غريبة عنه تدفعه دفعًا لحمايتها.
ضاقت عيناه وهو يحاول تبين ملامحها أكثر والتحقق منها بينما يؤكد له عقله رؤيتها من قبل ومعرفته بها بشكل أو بأخر، عض على شفتيه يحاول عصر أفكاره ليتذكر أين رءاها من قبل ولكن دون جدوي.
اتجه لقراءة بياناتها المتاحة والتقليب بين ألبومات الصور الخاصة به في عزم شديد لمعرفته هويتها حتى انفرج فاهه مصدومًا وهو يتعرف على صورة والدتها !
إنها العمة "أماني" الحفيدة الكبرى للشقيق الأكبر لجده رحمة الله، حمد الله في سرة انه لم يغرق في معضلة ارتباطها الأسرى به فهي قريبته من بعيد ووالده أخبرهم بمناداتها "عمتي" في كل لقاءاتهم العائلية القليلة..
من سيخدع؟ فتلك اللقاءات تقتصر على حالات الوفاة وحفلات الزفاف فقط.
حرك رأسه في ذهول وهو يتذكر أخر لقاء منذ ثلاث أعوام تقريبًا كان يوم وفاة أحد أقاربهم، يومها رأي تلك ال "ميرا" ولكن شتان بين هيئتها في تلك الصورة وهيئتها يومها فقد كانت صغيرة بالكاد تتعدى السادسة عشر عامًا وشديدة النحافة تختبئ أسفل قبعتها.
كانت منزوية في أحد المقاعد كعادتها كلما تصادف ولمحها في أي تجمع عائلي وكأنها تحاول عزل نفسها عن نظرات الشفقة والتنمر من حولها.
تذكر يومها كيف ثار غضبه عندما نعتتها إحدى الفتيات بعود الكبريت وكيف ظهرت الربكة على محياها وهي تفتعل انشغالها بهاتفها وعدم سماعها لهم بل إنها تمادت بأن وضعت سماعات الأذن لتختفي أكثر وأكثر في ذاتها بعيدًا عن الجميع.
كما تذكر كيف كاد يقتلع لسان ابن خالته عندما تحدث معها ولم يجد منها ما يجاري حديثه فرماها بوصفً بشعًا كبشاعة قلبه ولولا تدخل والده على الفور وإنهائه للأمر قبل أن ينتبه الأخرون لكسر صفي أسنانه بقبضته.
لطالما كانت الصغيرة تناشد بقعة داخلة وكأنها تطلب منه الحماية والأمان بسوداويتها الواسعة وكأنها تائهة بين بقاع العالم وتنتظر أن يرشدها هو.
ارتسمت ابتسامه طفيفة على فمه وهو يتذكر التقاطه لعيناها الواسعة والتي كانت أكثر وسعًا آنذاك نتيجة لنحافتها المفرطة، كيف لم يتعرف عليها بل كيف لم يميز مشاعره الدفاعية الوليدة داخله كلما رءاها وتلك الرغبة في الاحتواء التي تقدر هي وحدها على إشعالها في صدره.
اختفت ابتسامته وحنينه للماضي وسرعان ما تبدلت وملء العبوس الفراغ في منتصف جبينه وهو يتذكر محتوى رسالتها!

-لا هي أكيد عارفة إني قريبها وبتهزر معايا، مفهاش كلام تاني.

تمتم للهواء من حوله فأخرجه صوت "كيرو" الذي يلصق وجهه في هاتف زيدان متطفلًا:

-هي مين دي يا نمس؟

أغلق "زيدان" هاتفه على الفور وهو يدفع صديقه موبخًا:

-يا انسان يا بارد خليك في حالك.
وقف مغادرًا إلى أحد الغرف ووجد نفسه يراسلها مجيبًا:

"عرفي مرة واحدة، طيب اخدعيني الأول."

أتاه ردها الجاف المتجاهل لمزحته سريعًا وكأنها تنتظر إجابته على أحر من الجمر:

"ولمدة ست شهور لو أنت مهتم، قابلني بكره في ".." الساعة أربعة العصر."

لعق شفتيه وهو يفكر في حيره وارتباك لماذا لا تبادله المزاح أو تخبره بأنها تعلم هويته، قرر مسايرتها فالأمر به خدعة لا محال ف "ميرا" وذلك الطلب المشؤوم لا يجتمعان سويًا في جملة واحدة، عض شفته وهو يحرك أصابعه فوق الهاتف مرسلًا:

"اتفقنا."

أغلق الهاتف وعقله منشغل بما سيحدث في الغد من ألاعيب.

***

رمى أحد الأشخاص بجسده إلى جواره مخرجًا إياه من ذكرياته، فنظر "زيدان" إلى الفتاة الجالسة جواره مبتسمه بشكل واسع قبل أن تمد كفها نحوه قائلة:

-هاي، أنا ليلو تاني نورت شيلتنا.

رفع يده عن كتف "ميرا" ليلتقط كف "ليلو" غريبة الأطوار قائلًا في نبرة مفعمة بالمغازلة:

-زيدان، ومنورة بيكي صدقيني.

-ميرا عايزك.

التفت "زيدان" نحو "رامي" الذي مد كفه يلتقط كف "ميرا" الصغير بينما يحدق في عينيه متحديًا في وقاحة منتشلًا إياها من جواره ثم اتجه معها إلى داخل الشرفة، تجمد "زيدان" في مكانه لحظات ثقيلة قبل أن تغلي الدماء في رأسه يحاول القيام برد فعل سريع فهو لن يترك قريبته هائمة بين الفاسدين أمام ناظرة.
وقف متجاهلًا "ليلو" التي كانت منغمسة في حديث معه وانطلق خلفهما يرافقهما في الشرفة، التقط وجوده "رامي" اولًا وكاد يجزم أنه رأى الحقد يتناثر من مقلتيه، هذا الفتى لديه مشاعر نحو الحمقاء.

-صدقني زيدان حد كويس.

التقت أُذُنه إجابتها التي لابد أنها إجابة على شكوك "المدلل" في شخصه النبيل .. فكر ساخرًا ثم ابتسم في غرور يرميه بنفس نظراته المتحدية قبل أن يمسك بأصابع "ميرا" متجاهلًا الارتعاش الطفيف التي تمالك أطرافها، ثم قال في نبرة هادئة:

-ميرا، يلا بينا.

نظرت له "ميرا" متعجبة اقتراحه ولوهلة شعر برغبه في صفعها، اذا هي لا تحضر فقط وسط هؤلاء الحمقى بل تسهر لأوقات غير مفترض أن يسمح بها لفتاة وبالتأكيد ليس فتاة في مثل سنها، اخرجه من سياق أفكاره صوت "رامي" المنزعج:

-الساعة لسه عشرة، ميرا متعودة تسهر معانا ووالدتها عارفة.

رماه "زيدان" بنفس ابتسامته المستفزة وهو يخبره بنبرة ماكرة:

-ومن قالك إنها هتروح بيتها، ولا أية يا روحي؟

كاد يبتسم حين رمقته في حدة على تدليله لها فقد علقت أكثر من مرة مؤكدة كرهها لهذه الكلمة.

-أه .. أيوه .. فعلًا، معلش يا رامي مضطره امشي.

وجهت حديثها لرامي بصوتها السعيد أكثر من اللازم قبل أن يجرها "زيدان" خلفه للرحيل، فمالت عليه في طريقهم للخارج هامسه:

-أنت بتعمل أيه بالظبط؟

-هاخدك وأروح عشان عندي شغل الصبح.

-أفندم!

نظرت له وكأنه مجنون ولكنها صمتت مبتلعة اعتراضاتها حتى خرجا من الشقة ومن المبنى كليًا ووصلا إلى داخل السيارة، وقتها التفتت نحوه هاتفه من بين أسنانها في لهجة مستنكرة:

-ممكن أفهم أنت ازاي تتصرف من دماغك.
مط ذراعيه قبل أن يعدل مقعد السيارة للخلف بشكل أكثر أريحية مجيبًا في تهكم:

-في العادة الناس بتتصرف من دماغها، لكن لو أنتي غير مقدرش أجادلك.

ارتفع ثغرها في شبه ابتسامه مستهجنه تنظر له بعدم تصديق قبل أن تردف:

-اه انت رايق وبتستظرف وأنا محروق دمي،
أنت كان المفروض تقضي وقت جنبي من سكات وتسمع كلامي وبس مش تتصرف من دماغك!

-طيب وأنا عندي شغل الصبح وما ينفعش أسهر أكتر من كده.

عقدت ذراعها أمام صدرها ثم رددت في حدة تتناقض مع حجمها الضئيل:

-محدش طلب منك تسهر، بعد كده لو مشغول، امشي لوحدك ما تجرنيش وراك أنا ملحقتش أقعد معاهم!

دوت ضحكته المكان ما أن أنهت تذمرها وكاد يقسم وهو يراقبها تقبض أصابعها أنها تحارب كي لا تصفعه على وجهه ولن ينكر أن داخلة جزء صغير تمنى لو تفعلها كي يرد لها الصفعة صفعتين علها تنعش خلايا عقلها المحتضرة، ثم قال ساخرًا يحاول إخفاء نواياه الغامضة خلفها:

-حلو وبما أن وقت اللعب انتهى وشوفت أصحابك اللُذاذ طحن، تقدري تسمعي شروطي في اللعبة.

ارتفع حاجبها الأيسر وهي ترمقه بريبه متسائلة:

-شروط أيه، احنا ما اتفقناش على كده.

-ما احنا بنتفق يا روحي.

-ما تقوليش يا روحي!

-اسمعي ما تقاطعنيش!

هتف في حدة أكثر من اللازم لكنها كانت كافية لصدمها وغلق فمها فأستكمل مؤكدًا جديته:

-ممنوع منعًا بتاتًا تيجي هنا أو تتلمي مع أصحابك دول وأنا مش موجود معاكي.

رفع أصابعه في الهواء يوقف فمها المنفرج بالتأكيد للاعتراض ثم استطرد:

-ممنوع تقفي مع أي راجل غيري أو أنك تسمحي لحد يمسك إيدك أو يحط أيده على أي مكان في جسمك طول ما انا في الصورة.

-لا أنت اتجننت رسمي، فوق شوية أنت مش جوزي بحق وحقيقي.

-واحد صدقيني واحد، طالما أنتي أرتبطي بيا قدامهم يبقى الموضوع مفيش نقاش فيه.

-وأنا مش موافقة على التهريج ده.

حرك رأسه في تروي قبل أن يخبرها في غرور وحزم :

-تمام يبقى الاتفاق ملغي.

-أفندم يعني أيه ملغي، بعد ما شافوك واتعرفوا عليك عايزهم يقولوا اني كنت بسرح بيهم أظهرك مرة في حياتي وبعدين تختفي.

صرخت في حدة لا تصدق وقاحته لكنه أصر على موقفه مجيبًا في لامبالاة ونبرة باردة جعلت رأسها على حافة الانفجار:

-والله هو ده اللي عندي.

-ومقولتش ليه من الأول.

سألته في حقد وهي تطالعه بعيونها الواسعة المشعة بغضبها عليه فأكتفى بتحريك كتفه مردفًا:

-المفروض دي بديهيات مش محتاج أقولها.

ساد الصمت بينهما قليلًا وهو ينظر خارج النافذة يعلم في قلبه انها ستخضع له وحاول كبح ابتسامه حين سمع زئيرها الخافت قبل أن تخبره:

-ماشي يا زيدان أي شروط تانية؟

لمعت عيناه وهو يرمقها بنظراته الوقحة من أعلاها لأسفلها:

-الطاعة يا روحي.


نوفيلا نوتفكيشن الفصل الثاني

نوفيلا "نوتفكيشن"

الفصل الثاني


تجاهلت "ميرا" رنين الهاتف حين سطع اسم "زيدان" فوق سطح هاتفها الملقى بإهمال على المقعد جوارها، فابتسمت وكأنها تشفي غليلها بتجاهله متمته:

-أنا هوريك الطاعة يا "روحي".

مطت حروف دلاله الشهير لها والذي يستفز حواسها، زفرت حانقة عندما عاد الرنين من جديد لكنها همت ترفعه بأصابع مرتعشة ما أن قرأت اسم والدها.
اختفى المرح من على محياها ولبرهه كادت تنهار طقوس استعداداتها النفسية التي تستغرق من يومها ساعات طويلة حتى تكسر قوقعتها وتتمكن من مواجهة العالم الخارجي.
كادت تستلم لمشاعرها الحقيقة التي حرصت على دفنها عميقًا وتنهمر في البكاء حسرة على غياب هذا الوالد من حياتها، كان يتملكها رغبة كبيرة في الانتقام منه وعقابه على إهماله لها شهرً كاملًا دون أن يجري اتصالًا واحدًا يطمئن فيه على أحوال فتاته.
لكنها كالعادة وجدت نفسها تنساق وراء رغبة الطفلة الصغيرة المفتقدة لصوت والدها، فتنهدت في استسلام متأكدة أنه سيختلق أي سبب لانتقادها إلا أنها أجابته على أي حال:

-أيوة يا بابا.

-اسمها أيوة؟ هو ده الاحترام اللي امك بتعلمه ليكي عشان تتعاملي بيه معايا،
المفروض أني بتعب وأبعتلك آلالافات كل شهر تعيشك ملكة، عشان في الآخر تتكلمي معايا بالطريقة دي؟

-أسفة مكنتش أقصد، حضرتك فهمتني غلط.

رددت سريعًا في لهجة غلب عليها الحيرة والارتباك لا تصدق سرعة التقاطه للنقد وكأنه يتصل فقط لتوبيخها، قطع "شريف" أفكارها بصوته الغليظ:

-خلاص مش عايز اتكلم في الموضوع ده، على العموم أنا حبيت أقولك أن مصروفك اتحول على حسابك، وأن مصاريف الجامعة وصلتلهم،
وحبيت كمان أطمن عليكي بس واضح أنك كويسة.

انقطعت كلماتها المتلهفة ورغبتها في تبرير الموقف بصوت "جلال" مساعد والدها الشخصي الذي صدح بجواره يعلن وصول أحد السفراء ثم اتبعه صوت والدها المنشغل:

-مضطر أقفل حاليًا، وبطلي تقابلي شوية الفاشلين اللي ملموه عليهم، مش كل مكالمة هكرر تحذيري ليكي.

ارتعشت شفتاها السفلى غير قادرة على التنفس ما ان أغلق المكالمة، هربت دموعها الحارة لدقيقة مرت عليها طويلًا قبل أن تمرر أصابعها بعنف فوق وجهها تجففها.
تكره ضعفها وعدم قدرتها على مواجهة أبيها بمشاعرها وهو بؤرة علتها، فبرغم أنها على الطريق الذي رسمته لنفسها من أجل التمرد والتحول من خامة مثيرة للشفقة والتنمر إلى أخرى عبارة عن كتلة من الثقة قادرة على سرقة الانتباه والاهتمام ممْن ترغب في اهتمامهم .... إلا إنها تفشل في عبور هذا الجسر مع أهم شخص هي متعطشة لاهتمامه.
شعرت بدمائها تغلي لأنها متأكدة ان ما دفعه لمحادثها هو رغبته في تحذيرها من أجل عن اصدقائها، سببًا أخر لتمردها وتعلقها بهم فكرت في سخرية فكلما تمردت نجحت في جذب انتباهه المسروق عنها.
حركت رأسها تشعر بالخيبة لا تصدق أن له عين للمطالبة بابتعادها عنهم، بعد أن وجدت نفسها بينهم وشعرت أخيرًا أنها إنسانة طبيعية، بعدما عانت لأعوام كثيرة وتخبطت وحدها بين اضطراباتها النفسية والجسدية وانطواءها عن العالم الخارجي، بعد صراع مضني مع الرهبة والخجل من البشر وصراعً أشرس ضد نحافتها المفرطة والتي كانت عامل اساسي في وضع هذا الحاجز الوهمي بينها وبين التعاملات الانسانية بشكل أصبح شبة مرضي.
وفوق هذا وهذا كان عليها تحمل فراق والديها اللذان لم يتواصلا مع بعضهما البعض لأكثر من تسعة أعوام، من يصدق أن شخصان تزوجا ولديهم أبنه من تلك الزيجة قادران على بغض أحدهم الأخر بهذه الطريقة لدرجة عدم قدرتهم على التواصل الصوتي!
وفي النهاية كانت هي ضحية تلك الفجوة العميقة بينهما، والآن يريد أن يتذكر أنه والدها كي يتمعن في إفساد فرصتها لاستعادة الذات، بإبعادها عمن أصبحوا محور حياتها ولم يبخلوا عليها بالاهتمام والانتباه لما يقرب العام، هؤلاء من كانوا حافزًا لها كي تتسلخ من قشرتها القديمة.

-هينفعني أصل هو وقتها.

تمتمت مغتاظة من عجرفته، رافضة الخضوع لأنها فقط من ستتضرر، فقد ذاقت وحدها مرارة محاولاتها الفاشلة في لملمه شتات النفس المبعثرة دون اللجوء لطبيب نفسي لأنها لا تحتاج سببً جديدً للتنمر، هي قوية قادرة على مواجهة الحياة، بللت شفتيها تسترجع عصارة الفيديوهات والقراءات السرية التي وصلت لها عن طريق الأنترنت وساعدتها في الوصول إلى ضالتها المنشودة وساعدتها في المرور من تلك المرحلة.
فهي الآن قادرة على الادعاء بأنها شخصًا أخر، أكثر ثقة، قادرًا على لفت انتباه من حولها في طريقة تغذي طاقتها الإيجابية.
أخرست بشكل كلي ذلك الصوت القلق والخافت داخلها بأنها تغرق في دائرة أوسع مما كانت عليه وقت اضطراباتها، حركت رأسها لتوازي حركة سبابتها المشيرة بالنفي للهواء أمامها، فهي ليست مريضة وترفض التفكير بكونها مريضة بأي مرض سواء نفسيًا أو جسديًا.
لا ... هي مجرد فتاة متعطشة لاهتمام أبوين غارقيين في الأنانية ورغباتهم الشخصية معتقدين ان كل الأمور تحل بالأموال، هي متعطشة للحياة وتجربة كل ما ضاع منها، كما إنها اكتسبت ما يقارب من العشرون كيلو جرامات فوق وزنها الضئيل،
فعن اي مرض تتحدثين!
أنتِ محاربة نجحت في إيجاد الذات .. نعم هذا هو الأمر تمامًا.
هكذا رددت داخل عقلها أكثر من مرة منهيه اضطرابها اللحظي بهزة مؤكده من رأسها فأن كانت مريضة إذا كل الممثلون مرضى!
جذبت أنفاسً عميقة متتالية وهي تتمتم لنفسها بكلمات تغيبها عن تخبطها الغير محسوب، ومرت دقائق عليها قبل أن تستعيد شتات نفسها ناظرة إلى المرآة أمامها تعاين احمرار عيناها المنتفخة ووجها، فتحت حقيبتها على عجلة في غضب لأنها لم تنتبه لبكائها المستقر، أخرجت مناديلها الورقية تجفف بقايا دموعها وحمدت الله على استخدامها مساحيق التجميل المضادة للماء فقد حسبت حساب قضاء اليوم على حمام السباحة مع رامي وريناد.
مررت نظرها على وجهها مرة أخيرة ثم أومأت رأسها راضية عن الشكل النهائي لها، ترجلت من سيارتها توصدها وتوصد معها ما حدث للتو.
وفي لحظة أسرع من طرفة العين كانت منتقله إلى عالمها الخاص بشكل درامي وكأن شيء لم يكن، عدلت حقيبتها الحمراء المتماشية مع لون ثوبها البسيط السماوي وأزراره الحمراء، ابتسمت لنفسها في ثقة فرغم توترها من تلك التجربة الجديدة التي على وشك السير فيها والتي سينتج عنها ظهور معظم جسدها النحيف للجميع عندما ترتدي ثوب السباحة الجديد المكون من قطعة واحدة، والتي كانت حريصة على توفيق لونه مع لون أزرا ثوبها الحمراء كنوع من الأناقة.
عدلت صدر الثوب كي لا تظهر بذلة السباحة منه وقد اقترحت عليها "ريناد" ذلك أثناء رحلة تسوقهما سويًا، ابتسمت سعيدة انها وجدت شخص يهتم بها فعليًا متذكرة كيف نصحتها بضرورة التأقلم وإثبات تواجدها داخل دائرتهم لأنها أصبحت امرأة ناضجة وعليها خلع بقايا الطفلة الخجلة بداخلها فهي على مشارف عامها العشرين ولا تزال بلا تجارب في الحياة خاصة العاطفية منها!

-أنا حلوة ونضجت.

تمتمت تحفز نفسها على الإقدام مسترجعه رد فعل "ريناد" المنبهرة حين رأتها بثوب السباحة ومديحها لها بانها تشبه إحدى عارضات الأزياء ولكن بالطبع دون السيقان الطويلة.
ابتسمت ابتسامه بلهاء فهي قصيرة بالفعل وتعتبر أقصر أصدقائها، كما انها أقصر من "زيدان" بطوله الكبير الفارع مقارنة بها، فهي بالكاد تصل لحافة كتفه حتى عندما ارتدت الكعب العالي يوم لقائهم في الأسبوع الماضي، شعرت بقشعريرة تسري في جسدها وهي تتذكر عيناه الناعسة في نعومه رغم حده ملامحه لكنها تفضل ارجاعها إلى ذلك النسيم الطفيف الذي يداعب طرف ثوبها المستقر أسفل ركبتيها كما تفضل معظم أثوابها.
وقفت لحظة كالبلهاء متسائلة لما بحق السماء تفكر في ذلك الوغد المتكبر؟
حركت رأسها مرات متتالية كي تستعيد انتباهها للحاضر رافضة التفكير في ذلك المجنون الذي بات يحاصرها منذ دخل حياتها ويحادثها عشرات المرات يوميًا وكل هذا في أسبوع واحد ومبرره الوحيد هو التعرف عليها لاستكمال كذبتهم الخاصة.

-شكلك هتكون أخطر كدبة وقعت فيها.

غمغمت مخاوفها للهواء ثم التفتت حولها في خجل خشية أن يسمعها أحد ويظنها مجنونه تتحدث مع نفسها.
دلفت "ميرا" داخل أحد أشهر الأندية في القاهرة والتي تمتلك عضوية دائمة به، مكان لطيف تستمتع بوقتها كثيرًا بين جدرانه فرغم أنه ليس النادي الوحيد الذي لديها عضوية به، لكنه الوحيد الذي نادرًا ما يرتاده رجال السياسة والسلك الدبلوماسي أمثال والدها ووالد صديقها رامي وحال معظم أباء أصدقائها.
جلست على أحد الطاولات الفارغة أمام بركة السباحة بعد أن جالت بعينيها باحثة عن رفاقها ولم تجدهم، رفعت هاتفها لمحادثتهم فصدح اسم "زيدان" من جديد، زفرت في حنق وهي تنهي الرنين الاستفزازي، وكادت تجذب شعرها في جنون حين أتاها صوت اشعار جديد تعلم هوية مرسلها، تنهدت وهي تقرأ كلماته:

-مش بتردي ليه، أنتي فين؟
حركت أصابعها فوق الشاشة مقررة الإجابة والانتهاء من فضوله:

-في المحاضرة مش عارفة أرد.

بللت شفتيها وهي تعيد قراءة كذبتها الصغيرة ولكنها لن تسمح لشخص لا تعرفه بالسيطرة عليها والتحكم بها، وضعت الهاتف من يدها حينما لم يصلها رسالة منه راضية بأنه ابتعد عنها اخيرًا.

****

وقف "زيدان" يتابع تلك الجالسة أمامه دون أن تنتبه لوجوده، لكنه أبعد نظره عنها لحظة والتفت للرجل اللطيف غليظ الفهم والذي أضاع من عمره ساعتين، شرح فيهما تفاصيل العقود بين النادي وشركة الخطوط الهاتفية التي يعملها بها كمندوب بشكل مؤقت حتى يفتتح مطعمه الخاص.
أعاد نظرة نحوها من جديد وارتفع حاجبه عندما لاحظ الفاتها كثيرًا حولها وكأنها تنتظر شخصًا ما، ضاقت عيناه في شك ثم رفع هاتفه يحادثها، وقبض فكيه بقوة عندما أنهت المكالمة دون إجابه وسرعان ما اتبعتها برسالة:

-في المحاضرة مش عارفة أرد.

خرجت منه ضحكة صغيرة غاضبة خالية من المرح ولكنه قرر تركها وشأنها للآن فقد رأت منه ما يكفي طوال الأسبوع الماضي، حافظ على ابتسامته الماكرة أثناء تحركه للمغادرة.
اه لو تعلم ما اوقعت نفسها به حين طلبت منه المساعدة... ابتسم لنفسه متمتمًا في سره ... هي طلبت المساعدة والمساعدة بالتأكيد سيمنحها على طريقته الخاصة!
عاد للواقع عندما لمح "رامي" يدلف من باب النادي وشعر بالدماء تغلي في عروقه،
المخادعة الصغيرة تتحايل على شروطه إذًا!
توقف "رامي" بمنتصف الطريق بينما يخبط كفه فوق رأسه وكأنه نسى غرضًا ما واستدار متجهًا للخارج، بالتأكيد نحو سيارته فكر "زيدان" وهو يعود أدراجه للداخل مقررًا إنهاء تلك المهزلة.
ضري الأرض في خطوات كبيرة ثابتة يحاول من خلالها إفراغ شحنة كبيرة من الغضب الذي يتملكه، وفي لحظات قليلة كان يقف أمامها، تابع صدمتها حين اتسعت عيناها وكادت تخرج من مقلتيهما لرؤيته، كان ليبتسم على رد فعلها بكن النار المشتعلة في صدره تعوقه.

-زيدان، أنت بتعمل أيه هنا؟

-المفروض ده سؤالي، مش كنتي في محاضرة تقريبًا.

جاء رده سريعًا محمل بالسخط مع صوته الرخيم، فتلعثمت مبررة وهي تفرك خصلاتها السوداء خلف أذنها:

-أه محاضرة .. ما هي خلصت... وأنا جيت أخد قهوة من هنا.

حك ذقنه في خيبة أمل على محاولتها الفاشلة في المماطلة، واستمرارها في اختلاق الكذب لكنه يمد كفه نحوها قائلًا في نبرة جادة لا تقبل النقاش:

-قومي معايا من سكات، قبل ما يجي لأن ساعتها رد فعلي مش هيعجبك.

راقب طرف أسنانها تتعلق بشفاها في حيرة وتوتر يتناقض مع حمرة الغضب المغطية وجهها ولكنها كانت ذكية بما يكفي لان تذهب معه دون مقاومة.
جذبت "ميرا" حقيبتها ساخطة عليه لكنها تركته يضم كفها الصغير بين أصابعه الخشنة دون مقاومة مقررة تأجيل ما تشعر به من غضب للوقت المناسب ، ارتبكت وهدأت حركة خطواتها حينما اقتربت من المخرج وتقابلت عيناها مع عيون رامي المتسائلة والتي تظهر صدمته جلية بسبب وجود "زيدان" فقد كان حريصًا على إخبارها برغبتهم في الاجتماع معها دونه لأمرًا هام.
كادت تبكي من شدة الإحراج حين تحرك زيدان في خطواته الواسعة مجبرًا إياها على استكمال الحركة شبة الركض خلفه دون أن يقف مجرد لحظة واحدة اعتبارا لوجود "رامي"، رغم أنها علي يقين من تواصل أعين الأثنان في تحدى ذكوري بحت وكأنه يصك ملكيته عليها بدون أي حق!

-عربيتي اهيه.

هتفت عندما دفعها نحو سيارته ولكنه تجاهلها وهو يجبرها على الجلوس بالمقعد قبل الابتعاد والتوجه لتولي عجلة القيادة.

-ممكن أفهم اللي أنت ليه مُصر تدمر حياتي؟

هتفت ما أن تحرك بالسيارة ولكنه اكتفي بأن وضع أصبعه فوق فمه في هدوء وكأنه لم يفقدها ماء الوجه للتو أمام أصدقاءها!

-أنت إنسان مستفز بلوة وبليت نفسي بيها!

-حلو لو تحبي ممكن أرجع حالًا وأقول لحبايبك الكلمتين دول.

وضعت كفيها فوق وجهها في الوقت المناسب كي تخفي دموع الغضب التي تفر من عيونها رغمًا عنها، لا تصدق ما يفعله هذا المخلوق بها وبجدرانها المشيدة حول نفسها وكأنه ينبش لإخراج شخصها الحقيقي!
نظرت بعيدًا عنه تخفي وجهها الباكي مقررة الصمت وتجاهله على أمل أن ينتهي هذا الكابوس قريبًا.

*****

شعرت ببعض الخوف عندما جرها خلفه أمام أحد المولات ومنها إلى مبنى بوابته مغطاه بأقمشة يبدو وكأنه تحت الإصلاح فتساءلت في ريبة:

-أيه المكان ده؟

-ما تخافيش مش هقتلك.

-ظريف جدًا، ممكن أفهم أيه المكان ده وبنعمل أيه هنا؟

قالت مدعية الهدوء بينما قلبها ينتفض من شدة التوتر والخوف فالحقيقة انها لا تعلم عن "زيدان" الكثير سوى إنه من مشاهير التواصل الاجتماعي نسبيًا، فربما هو قاتل متسلسل أو مغتصب دنيء يختبئ أسفل وسامته وعيونه الناعسة!
شهقت خارجة من عبث أفكارها حين اغلق الباب خلفهما والتفتت تواجهه وجهًا لوجه وكأنها تخشى أن توليه ظهرها بينما تتحرك للخلف متسائلة:

-أنت بتقفل الباب ليه؟

-وهسيبه مفتوح ليه؟

سألها في ملل وكأنها حمقاء فتشدقت معلله:

-عشان ما يصحش!

-لكن يصح أنك تكذبي على جوزك؟

سألها وهو يتقدم منها في خطوات بسيطة لكنها ارعبتها فهتف في إصرار:

-أنت مش جوزي!

-مش هتفرق وأنا حذرتك أن طول ما اسمك مربوط باسمي يبقى ممنوع تقابلي راجل غريب من غيري حصل ولا لا؟

-أنت عارف أن رامي مش راجل غ ...

-أنا عارف أنه مش راجل المهم أنتي تعرفي.

قاطع باقي جملتها في سماجة ملصقًا ابتسامته الصفراء فوق فمه فتأففت حانقة على تصرفه الطفولي وودت لو تمحي تلك النظرة المنتصرة فأردفت مستهجنة فعلته:

-أنت بتلاعبني بالكلام ليه؟

-عايزة ألعبك ازاي وألاعبك؟

همس وهو يمرر نظراته الوقحة فوق تقاسيم وجهها، فجذت على اسنانها تخبره:

-يا سيدي لا تلاعبني ولا ألاعبك!

استكمل في نبرته المشاكسة وهو يقترب منها متعمدًا إثارة خجلها بنظراته الجريئة:

-لا احنا نلعب.

-زيدان اتلم.

رفعت سبابتها في تحذير أثناء هروبها للخلف بعيدًا عنه وكأنها تخشى قربه بالفعل، تلك الفتاة تثير جنونه بالتأكيد فهي تتنقل من الفتاة الوقحة عديمة الأخلاق والتي يرغب في صفع بعض الأخلاق داخلها إلى فتاة أخرى خجلة تخفي من القيم القليل بين سواد حدقيتها وكأنها ترغب في إخفاؤها عن أعين الجميع، خرج عن مسار خيالاته وهو يراقبها تبتعد عنه بذعر فهمس ممازحًا:

-يا ستي أقعدي هو في حد هيبصلك بشنطة الخضار اللي أنتي مسكاها دي!

-شنطة خضار!
دي شانيل مخصصه للبحر وحمامات السباحة.

-انشانتيه مدام شانيل، فرصة سعيدة.

دوت ضحكته الساخرة المكان ما ان انهى جملته ورأى كيف رفعت حقيبتها وكأنها ستقذفها في وجهه لكن وقوع أنبوب واقي الشمس أنقذه منها ، نظرت له "ميرا" في حقد ومالت تلتقطها إلا ان ابتسامته اختفت عندما صفعة أخر فسألها في لهجة حادة:

-أنتي كنتي نازلة حمام السباحة بأيه؟

-ب swimsuit طبعا!

جاءت إجابتها سريعة وهي تنظر له وكأنه غبي، فرد مسرعًا يكاد يبكي من الورطة الذي اوقع نفسه فيها:

-اللهم صلي على الحبيب النبي، قوليلي أن شنطة الخضار دي فيها مايوه شرعي!

-يعني أيه مايوه شرعي؟

-اصلًا ... أفتحي الشنطة يا ميرا واشجيني بالمايوه اللي كنتي نازلة بيه!

-لا طبعا، دي خصوصيات.

-خصوصيات؟
ده نص الشعب المصري كان هيشوفه النهارده.

عقدت ذراعيها في خجل بسبب صحة كلماته لكنها أردفت غير متخليه عن عنادها:

-ما تتعبش نفسك هو مش في الشنطة.

قضب "زيدان" حاجبيه في بلاهة يحاول تحليل كلماتها ثم اتسعت عيناه في إدراك وهو يطالع الطرف الأحمر المطل من صدر ثوبها السماوي في تمرد وتلقائيًا غامت عيناه سوادًا في مشاعر مختلطة خاصة عندما رفعت أصابع يدها الصغيرة تغطي صدرها عن عيناه وكأنها تستمع لمخيلاته الوقحة، ثم سمعها توبخه في لهجة مهتزة:

-بلاش قلة أدب، أنا همشي!

تركها تتحرك لتتجاوزه لكنه قبض على معصها مقربًا لها نحوه هامسًا بنبرة خشنة تحمل خطورة مشاعره المختلطة بين الغضب والإثارة:

-وريني !

-أأ...أفندم؟

ردت "ميرا" في تلعثم وقد جف حلقها من النظرات الخطرة التي يُصُوبها نحوها أو ربما الخطر يكْمُن في تلك العيون الناعسة!
تأوهت في هلع حين جذب جسدها الرفيع نحوه حتى كادت تلتصق به تمامًا، ثم قال:

-ما تخلنيش أشوفه بنفسي.

طالعته بعيونها السوداء المتسعة في ذعر غير قادرة على تحريك لسانها لتوسل الرحمة منه، لكنه لم يعطيها فرصة للتفكير ومد ذراعه يقبض على خصلات شعرها المرتمية حتى أسفل ظهرها بإهمال ثم جذبه حتى مالت رأسها عنوة للخلف هامسًا في قسوة:

-انا ما يفرقش معايا مين أبوكي أو أمك،
يمين بالله لو اتكررت تاني وفكرتي حتى تلبسي حاجة كده تاني، تصرفي ساعتها مش هتتخيليه في أسوأ كوابيسك، أنتي سمعاني؟

حركت رأسها في سرعة أو حاولت تحريكها بالقدر الذي تسمح به قبضته القوية على خصلاتها، ولم تشعر أنها تبكي حتى مرر أنامله الأخرى فوق وجهها ماسحًا عبراتها بملامح متحجرة لا تصرح عن محتواها.

-هتكسري كلمتي من تاني؟

-لا.

خرجت نبرتها خافتة متقطعة فترك خصلاتها وابتعد للخلف خطوتين، راضيًا بينما يتابع محاولاتها في السيطرة على عبراتها فأخبرها بنبرة هادئة:

-أنتي زعلانه من الشخص الغلط، أنا عايز مصلحتك.

كادت تصرخ في وجهه بانه لا يعرف عنها شيء كي يتصنع كل هذا الاهتمام بشأنها لكنها ظلت صامتة تعدل خصلاتها للخلف تارة وتفرك الألم الخفيف في فروة رأسها تارة أخرى لا تصدق إنه عنفها بتلك الطريقة فهي لا تذكر أخر مرة عنفها والديها سوى بالتعنيف اللفظي.
شعر "زيدان" بالخجل والندم للحظات من فعلته ويكره إنه كلما نظر إلي عيونها السوداء كالبئر رأى ضعف ولمح حقيقة تحاول اخفاءها.
مرر كفيه على جانبي رأسه مستجمعًا ذاته فكلما أقترب خطوة من هدفه تراجع عنه في الخطوة التالية عشرات الخطوات، فقد كان يخطط للاقتراب منها وفهم دواخلها وتحليل دوافعها كي يستطيع مساعدتها ويساعد ضميره اللعين سبب مصائبه في الارتياح.
فهذا التناقض الجذري في شخصها يجعله يشك في وجود خطب ما بها وبرفاقها، فشتان بين تصرفاتها مفردها وجنونها معهم، لدرجة أنه أصبح لديه هاجس بأن أحد هؤلاء الحمقى يضغط عليها ويجبرها على التواجد معهم ممسكًا أمرًا خطيرًا ضدها، وربما هنا تكمن مهمته لأشعارها بالقدر الكافي من الثقة التي تجعلها تعترف له بما يؤكد تلك الهواجس.
راقبها ترتب تحرك أصابعها في توتر بين ترتيب خصلاتها في صمت وبين تمريرها فوق ثوبها قليلًا فأقترب على بعد خطوتين منها ثم مد أصابعه يربت في خفه فوق خصلاتها هامسًا:

-أنا أسف، مكنتش أقصد صدقيني.

كان يعلم من نظرتها وحركه رأسها السريعة بالموافقة بانها تجاريه للانتهاء من الموقف حنى تتمكن من الفرار لكنه قرر المماطلة وهو يدور مشيرًا للمكان في محاولة ساذجة لتغيير محور الحديث:

-ما قولتليش أيه رأيك في المكان؟

نظرت للمكان حولها قبل ان تجيبه في نبرة خافتة بينما تسترق نظرات نحو البوابة وكأنها تتمنى الهروب:

-الdecoration جميل وغريب شوية.

-المطعم italian food المفروض يكون مختلف.

-هو ده مكانك؟

سألت أول ما جال في عقلها تحاول الحصول على معلومات أكثر عن حياته كي تتمكن من إيجاد بعض الهدوء النفسي وتسيطر على توترها:

- مكاني أنا وأصحابي أنتي عارفاهم اللي كانوا في المنشور إياه كمان الافتتاح قرب.

أخبرها وهو يدور حول المكان يتفحص بعض الرسومات التي لازالت قيد الإنشاء والتفت يطالعها عندما سألت مستفسرة:

-أنت مش قولت إنك شغال مندوب في شركة اتصالات.

-أيوة ده مشروع خاص، ولا هو عشان مندوب مينفعش يبقى عندي حاجة خاص بيا؟

لا يدري لما شعر بالغيظ من سؤالها وكأنها تراه أقل منها لكنه مرر كلماتها وقرر المضي في مخططه الذي يتابع في خرقه مع كل منحنى معها، فوجد نفسه يخبرها في اعتيادية:

-أنا عارف انك مخضوضة مني وحقك أنا ذات نفسي بتخض من أفعالي شوية،
بس لازم تفهمي إني راجل أكبر منك ب سنين مش مجرد شاب في سنك تقدري تتعاملي مع قراراته وكلامه باستهتار.

صمت ثم اتجه يمسك أصابعها عادة خاطئة أصبح لا يسيطر عليها قبل أن يجذبها للجلوس مستكملًا في رضا عندما شعر بانتباه كل حواسها إليه:

-وفاهم ان الموضوع بالنسبة ليكي لعبة، ومش هجادلك لكن لازم كل واحد منا يحترم شخصية التاني ورغباته.

حركت رأسها دون أن تنطق حرف وارتعشت رموشها في ارتباك عندما قرفص أمامها ممسكًا بكفها الصغير ورفضت عيناها التنحي عن لقاء عيناه الناعسة التي تشع بالسيطرة وتأسرها بالإكراه وكأنه يجبر عدستيها على عصيان أمرها بالتمرد فتظل متعلقة به دون أن تجد القدرة على كسر تعويذته عليها!

-وعشان نحترم بعض والاتفاق ده يمر بسلام لازم نقرب من بعض ونفهم بعض أكتر،
ولو فكرتي في كلامي هتلاقيه في صالحك وهنقدر نقنع أصحابك بحكاية الجواز ده بشكل أسهل.

دار بؤبؤي عيناها داخل مقلتيها في تفكير جدي وكاد ينفجر ضاحكًا لولا تعلق عيناه بحركة شفتيها التي تبللها بطرف لسانها، أجفل عيناه مرتين وفي لحظة علت دقات قلبه داخل صدره معبرًا عن مشاعر غريبة نحوها والتي تتفاقم مع كل ثانية تمر بينهما.
سعل في خفة وهو يستقيم مبتعدًا عنها وابتسم عندما صدح صوتها الرقيق:

-أنا موافقة بس بشرط، زي ما انا هسمع كلامك في حاجات أنت كمان لازم تسمع كلامي في حاجات تانية.

ارتفع حاجبة الأيسر في إعجاب فللحظة ظن أنه كسر تمردها وامتلك دواخلها، تنهد مقررًا مجاراتها ومنحها بعض السيطرة بما يكفي لإنجاح خطته فردد:

-هدنة؟

مد كفه أمامه منتظر كفها وكبت ابتسامه ساخرة حين لاحظ ارتباكها اللحظي قبل أن تقترب منه وتصافحه متمته:

-هدنة.


نوفيلا نوتفكيشن الفصل الثالث 

"نوفيلا نوتفكيشن"

الفصل الثالث

في اللقاء التالي بعد مرور أيام من "الهدنة" وقفت "ميرا" تنتظر هبوط "زيدان" من سيارته، مبعدة أنظارها عنه في شموخ وتعنت لأنه أجبرها على ركن سيارتها الوردية ومرافقته في سيارته المملة، تأففت حين طالت حركته البطيئة وكانه يتعمد استفزازها بالتأخير فصاحت فيه:

-أنا مش فاهمة لو الموضوع مضايقك وتقيل على قلبك كده وافقت تساعدني ليه؟

أدار "زيدان" وجهه نحوها متعجبًا من تذمرها العنيف ثم سألها في براءة مشيرًا إلى صدره:

-أنا؟، لا خالص أنا سعيد.

تحركا بؤبؤي عيناها داخل مقلتيها في تهكم عندما انفرج فمه في ابتسامة مجبرة مع نهاية جملته ثم تحركت تسبقه كي تجبره على ملاحقتها إلى بوابة النادي لكنها توقفت حين ناداها:

-استني مكانك، نسيت حاجة مهمة.

تأففت متوقفة تحبر نفسها على التزام الهدوء، تابعت يعود إلى السيارة وانكمشت ملامحها مغتاظة يخرج قلمًا منها واضعًا له في مقدمة قميصه، غلت الدماء في عروقها بسبب إصراره الصريح على استفزازها بتلك التفاهات فزمجرت فيه معترضة:

-أنت بتهرج ما تنجز يا زيدان!
وأصلًا اللي بتعمله ده ضيع استايل القميص اللي لابسه على فكرة.

مرر أصابعه فوق جيب قميصه حيث يقبع القلم في فخر قبل أن يغمز لها متعمدًا إغاظتها بكل الطرق، قائلًا في نبره واثقة بلا أي اهتمام لاعتراضها:

-أنتي تعرفي أيه في الموضة غير فساتينك المشلحه دي، أمشي قدامي.

تحركت للأمام في خطوات طفولية غير مرتبه، تستشيط غضبًا لأنه ينتقد طراز أثوابها الفريد والمتماشي مع قوامها وطولها.
ماذا؟! ففي حال لم ينتبه هي قصيرة القامة بالكاد تتعدى متر ونص، ولن ترتدي ملابس أطول منها أو تتركها تلاصق كعب قدميها!
تصلبت في مكانها منهية استنكارها الداخلي عندما صاح يوقفها من جديد:

-استني!

انعقد حاجباها في غيظ وكادت تصرخ بعلو صوتها وقد نفذ صبرها منه لولا إنها تشتت وتوقف عقلها حين راقبت خطواته المتسارعة نحوها بأعين متسعة، لماذا يتخيل لها إنه سيباغتها باقتحام مساحتها الشخصية كعادته؟
رفعت كلا ذراعيها للأمام محذرة:

-إياك تحضني أو تعمل زي المرة اللي فاتت أنا بتحرج!

-يعني مش عشان عيب؟!

تنهد ساخرًا متجاهلًا اضطراب ملامحها الحائرة في محاولة بائسة لإجابته، لكنه باغتها بإمساك يدها مستكملًا لعبته في المراوغة:

-ما تهتميش بالرد، لكن لازم أمسك إيدك عشان الحبكة الدرامية.

زحفت الحمرة محتلة ملامحها ككل مرة يبتلع فيها كفه الدافئ أصابعها الصغيرة لكنها قالت في استهجان من بين أسنانها المنغلقة:

-حبكة أيه بالله عليك!

-الحبكة، أيه مش بتتفرجي على أفلام أو تقري روايات؟

تأففت "ميرا" دون رد للمرة الألف منذ لقائهما اليوم، لكنها واكبت خطواته السريعة إلى الداخل في استسلام وما هي إلا دقائق قليلة حتى وصلها صوت ضحكات الرفاق قبل أن تراهم يتوسطون طاولتين ملتصقتان ببعضهما، ابتسمت تلقائيًا وقد غمرها شعور بالحماسة للانضمام لهم :

-هاي، عاملين أيه؟

-ميرا أيه التأخير ده يا بنتي.

كان "حازم" أول من حيا وجودها ثم انتقل ببصره نحو "زيدان" محركًا رأسه للأعلى والأسفل مرة في ترحيب صامت دون أن تتوقف أصابعه عن مداعبة خصلات "روان" الجالسة بجواره والتي تطالعه بكل ما في الدنيا من حب وهيام.
بينما اكتفت كلًا من ليلو، ريناد ورائف "زوجها السري" بتحريك أصابعهم في الهواء بإهمال، استدارت "ميرا" نحو الثنائي الحقيقي المحب "حازم وروان" داخل دائرة الأصدقاء ثم ابتسمت ابتسامة واسعة صادقة وهي تميل للجلوس جوارهما واتبعها زيدان من الناحية الأخرى.
نظرت نحو "رامي" الذي ينظر لها في صمت غامض وارسلت له ابتسامه معتذرة محركه كفها أمامه كعلامة على الترحيب تترجى السماح في صمت فهي تدري إنه منزعج بسبب ذهابها مع "زيدان" المرة السابقة معتقدًا إنها تعمدت تجاهله.
اتسعت ابتسامتها في بلاهة ورضا حين تنهد وغمز لها مشاكسًا يعلن الصفح عنها، احمر وجهها ثم نظرت جوارها خجلة إلا أن قلبها انتفض حين لاقت عيون "زيدان" المشعة بنظراته الغاضبة دون سبب، والتي نجحت في إثارة توترها فاختفت ابتسامتها ناظرة بعيدًا عنه في هلع.
سرعان ما استرخت "ميرا" بمرور الوقت بينهم وهي تستمع إلى المزاح الذي انخرط فيه الجميع عادا "زيدان" الجالس جوارها صامتًا طوال الوقت، تجاهلته ووازت ضحكاتها ضحكاتهم إلا أن مزاجها سرعان ما انقلب حين قررت "ليلو" أو "الساحرة الشريرة" كما تلقبها "ريناد" أن الوقت قد حان للتنمر والسخرية على حساب ميرا ونحافتها عندما اعترضت "روان" على طلب المزيد من الطعام متحججة بانها تتبع حمية غذائية لخسارة بعض الوزن:

-أوكي خسي يا عيوني لكن خدي بالك لتختفي زي "ميرا" أنا بقيت لما أدخل مكان هي فيه أبص على الكرسي لتكون موجودة وأنا مش شيفاها،
ده ربنا يكون في عون زيدان الحقيقة مش عارفة بيتعامل ازاي مع رفعها ده!

أنهت "ليلو" جملتها ونظراتها تتراقص فوق "زيدان" بابتسامة ساخرة، فارتعش وجه "ميرا" المتصلب الملامح في شبة ابتسامه تحاول الادعاء بإن كلماتها القاسية ومزاحها لا يؤرقها ويمزق ثقتها حتى إنها تأهبت لأن يشاركها "زيدان" المزاح فيزيد من إهانتها أمام نفسها لكنها استدارت تطالعه في صدمة حين ردد "زيدان" سابقًا بصوته نظرات "رامي" المحذرة نحو "ليلو":

-غريبة مع أن أول حاجة عيني بتشوفها في أي مكان هي ميرا، سواء موجودة أو مش موجودة فيه دايمًا مغطية على الكل.

لاحت من شفتيه ابتسامة المستفزة الشهيرة بينما ارتفعت أنامله لمداعبة أنف "ميرا" المتسمرة في وضعها المتفاجئ والتي حبست أنفاسها أكثر مما ينبغي وظلت تشاهده مذهولة من تلقائيته وسرعته في المدافعة عنها.
ولو يدري أثر وقع كلماته الكبير على قلبها القافز كالقنابل النارية!
علت أنفاسها تحاول الخروج من قوقعتها فقد أجبرها على التقهقر عائدة لنفسها الحقيقة التي تخوض شعورًا جديدًا غير مألوف بالنسبة لها؛ حيث أنها لا تتذكر أن هناك مَن دافع عنها بتلك الحمئية التلقائية، ودون أسباب أو مبررات.
التوت شفتاها في تمهل لترتسم ابتسامة واسعة تشرق تقاسيمها المليحة والتي توازي ابتسامته المساندة لها وكأنه يشجعها على نشل نفسها مما تعرضت له والعودة للواقع، جذبت شهيقًا متقطعًا عندما عادت للواقع فعلًا على صوت "ليلو" المغتاظ حين قالت متهكمة:

-ميرا الشفافة بقت مغطية على الكل.

-ليلو!

حذرها "رامي" في نبرة حادة موبخًا لها فطالعته "ليلو" بضع لحظات بنظرات حارقة تبادلت فيها أعين الأثنان حديثًا خفيًا قبل ان تتأفف معتذرة ل "ميرا":

-سوري يا ميرا، أنا اتخانقت مع مامي قبل ما أنزل ونفسيتي مش متظبطه.

-حصل خير مفيش مشاكل.

قالت ممسكه بكف "زيدان" توقف كلماته الجارحة والتي تنعكس على وجهة قبل أن يتدفق بها لسانه، أما هي فقد تمنت لو تنشق الأرض وتبتلعها من هذا الانتباه الغير مرغوب فيه متوقعة أن يتفحصها الجميع الآن من منظار "ليلو" ... ويكتشفوا صحة حديثها.
أحست بحرارة نظرات "زيدان" المتعلقة بجانب رأسها فالتفتت على مهل وتروي تنظر لعيناه الغائمة بلون العسل السائل سامحة لنفسها بأن تمنحه ابتسامه شكر وامتنان، فلن تنكر أن قلبها لا يزال يرفرف في سعادة لما تفوه به دفاعًا عنها.
عكس "زيدان" ابتسامتها حينما أطالت النظر إليه فصار يتفحصها بفضول وكأنها أحجية يصعب عليه فك شفراتها فهي تارة غاضبة لا تطيق رؤيته وتارة تنظر إليه وكأنه يملك عالمها بين قبضتيه.
انغمس الجميع في الحديث مجددًا متجاهلين ما حدث، والغريب انه برغم الأهمية التي تضعها "ميرا" لهم إلا أن لا أحد منهم يهتم بأمرها بالشكل الجلي أو المبالغ فيه.
زفر "زيدان* متململًا في مقعده بعد مرور ساعة مملة ثم قرى عدم الانتظار أكثر حاسمًا أمره، فمال نحوها هامسًا في حزم مستعدًا لمواجهة اعتراضاتها:

-مش يلا نروح؟

ارتفع حاجبه وهو يحدق في عدستيها الذي يغفى في ظلامها سواد الليل، وزادت من ذهوله حين هزت رأسها في حركة خفيفة توافقه الرأي دون تفكير، ضاقت عيناه لحظة في توجس لكنه مد كفه الكبير نحوها متشكك في دوافعها إلا أنها فاجأته بوضع كفها داخله في خضوع، أحتضن كفها دون تأخير ثم استقام قائلًا:

-طيب يا شباب نشوفكم بعدين.

القت "ميرا" السلام على الجميع وتركته يجذبها خلفه دون اعتراض، حانت منه نظرات خاطفة نحوها ولم يستطع كبح ابتسامته الراضية وهو يتابع ابتسامتها الكبيرة التي لم تترك وجهها منذ أخرس صديقتها الحمقاء ليتيقن في تلك اللحظة انه كان محق في وجهة نظره عنها، فتلك الصغيرة لا تزال في طور التشكيل، متخبطة في جنبات الطريق، باحثة عن ينابيع الأمان وبقاع الانتماء.

*****


في المساء، دخل "زيدان" إلى المنزل ثم لمعت عيناه في سعادة حينما وجد والدة مستيقظًا على غير العادة فتوجه نحوه مرحبًا:

-مساء الخير يا بابا، غريبة سهران انهارده.

أغلق والده التلفاز وصب جام تركيزه على "زيدان" مجيبًا في مشاكسة:

-مساء الخير، غريبة ليه عشان قفشتك وأنت راجع البيت بعد نص الليل؟

ضحك "زيدان" أثناء جلوسه فوق المقعد المجاور لوالده ثم قال ممازحًا:

-انا سبعة وعشرين سنة يا بابا مش عشر سنين عشان تقفشني.

-الله يرحمها أمك لو كانت عايشه كانت روحتك من المغرب.

أخبره والده بابتسامه سرعان ما اهتزت على وجهه فسارع زيدان مبدلًا منحنى الحديث عن والدته المتوفية:

-صحيح يا بابا كنت عايز أسأل حضرتك عن طنط أماني اللي هي حفيدة ... أخو ... جدي.

طالعه والدة ضاحكًا على معاناته في لفظ صلة القرابة ثم أردف منهيًا مأساته:

-أسمها أماني بنت عمي على طول يا أبو سبعة وعشرين سنة مش لازم تجيب شجرة العيلة كلها،
اتفضل مالها أماني؟

أنهى مزاحه بسؤاله الفضولي منتظر التفسير لذكرها فابتسم زيدان محاولًا امتهان الاعتيادية قبل الاجابة:

-ماشي هزأني براحتك،
عادي كنت عايز أسأل عنها وعن جوزها أصلي اكتشفت اني مش عارف أسمه.

زال المرح من على ملامح والده المرهقة التي تبوح بكبر سنة، قبل أن يقول في لهجة شبه موبخه:

-تاني يا زيدان؟

-تاني أيه؟
أنت فهمتني غلط، أنا عندي فضول مش أكتر عشان اتكلمت مع بنتهم بالصدفة على النت.

رد سريعًا يحاول محض شكوك والده لكنه استمر في عناده الذي ورثه عنه:

-ميرا من تاني؟

-بابا ارجوك أنت لسه مصدق اني كنت بحبها دي كانت طفلة وقتها،
والموضوع كله ان القرابة نقحت عليا لما ابن خالتي اتنمر عليها وحسيت انه لازم يتربى.

صمت والده منغمسًا في تفكيره فكلماته لم تختاز جسر الصدق معه ثم طالعه في غموض متسائلًا:

-عايز تعرف أيه؟

ظهر الذهول بشكل لحظي على محيا "زيدان" لكنه محاه سريعًا وهو ينتهز فرصة موافقة والده مستفسرًا:

-هي عايشه مع أمها ولا أبوها؟
وأطلقوا ليه؟
وأيه رأيك فيهم كشخصية؟

-حاليا مش عارف بس عمتك كانت قالت من فترة قدامي لمرات عمك أن البنت عايشه مع أمها ووقت سفرها البنت بتروح تقعد مع أبوها.

-هي بتشتغل أيه؟

سأله في فضول بعيون متنبهه فاستكمل والده بعيون أكثر تنبه بمنتهى الريبة والاتهام:

-في الإرشاد السياحي، ومضطرة تسافر كتير بس داخلي مرة شرم مرة الأقصر وهكذا.

-لكن أنا أعرف أن والد ميرا غني جدًا وانه بيبعت مبالغ محترمه كل شهر، ليه الشحططه؟

سأل زيدان يحاول تفسير اختيارها للابتعاد عن ابنتها اللي يتضح من فقدانها للكثير من العناية والتربية فأتاه رد والده الساخرة:

-العند بيولد الكفر.

-مش فاهم.

قال "زيدان" وهو يعتدل في أريحية يحاول ترتيب المعلومات في عقله:

-على حد علمي والد ميرا راجل شديد وعملي بطريقة زايده ده غير إنه أناني جدًا واللي سمعته أن لما ربنا كرمه وعلا في مجاله كان شايف ان شغل أماني مبقاش مناسب لمركزه الجديد وطلب تسيبه،
وتقريبا هي كانت بتتلكك ومش قادرة تعيش معاه فطلبت الطلاق وتم فعلا.


-اطلقوا ودمروا بيتهم عشان شغل؟

قال زيدان مستنكرًا في ذهول من سطحية الموقف فاستطرد والده:

-مش قولتلك العند بيولد الكفر.

قال الوالد فحرك "زيدان" رأسه للأعلى والأسفل في موافقه قبل أن يستقيم متمتمًا:

-صدعتك معايا، تصبح على خير يا بابا.

رد والده في قلق واضح من قرارات طفله لكنه كالعادة يعطيه مساحته بعدم التدخل:

-وأنت من اهل الخير، وأتمنى من كل قلبي انك تبقى عارف أنت بتعمل أيه.

-ما تقلقش يا بابا.

لم يجيبه والده واكتفى بحركة من رأسه قبل أن يلتفت للتلفاز بينما توجه "زيدان" إلى غرفته يبدل ملابسه سريعًا كي يتكأ على فراشه ويبدأ في حياكة تلك المعلومات والتفاصيل مقررًا محو وجهة نظرة السطحية عنها، خاصة بعد ما التمسه منها فهي شخصية مترددة سهلة الإرضاء ممزوجة بصفات غامضة تخفيها عمدًا عن أعين الناس عكس ما توقعه ونسجه في خياله عنها كفتاة مدللة أفسدت الأموال أخلاقها.
ميرا تحب الظهور بمظهر لا يتناسب مع خضوع لؤلؤتي عيناها له مع أول زمجرة منه، قشرة القوة الوهمية والتمرد المحيطة بها تتصدع أمام حدته وعنفوانه.
ربما هي ضحية والدين أهملا واجباتهما الأبوية حين وجدا في إفلات الحبال والتغاضي عن تصرفاتها الخاطئة؛ ملاذًا سيكسبهما ثقة أبنتهم وحبها لهما.
أو ربما أكثر هي ضحية حرب شخصية صامتة بين الطرفان، هدفها تفضيل المسكينة لأحدهما على الأخر.
ولا ينسى أثر التنمر على تركيبها النفسي والفكري فبعد تفكير عميق، توصل أن تعرضها للتنمر أوصلها للمحاربة من أجل مواكبة من حولها دون تفكير في منطقية أو صحة الأفعال، ففي يومنا هذا انقلبت معايير الصواب والخطأ وصار المستقيم هو من يثير الجلبة والربكة في قلب مجتمع فاسد.
ولن يخفي شعوره بوخيزات صغيرة تشفق عليها عندما عاصر بنفسه ما تتعرض له وهذا المفترض قادم من بئر الأصدقاء.
تململ في فراشُه غارقًا في تحليلاته وقد تأكد من أتخاذه للقرار الصائب بالاندساس في حياتها حتى وان كانت الطريقة خاطئة، فهي في حاجة مُلحة إلى التوجيه والصرامة بل هي في حاجة لمن يسيطر على لجام تمردها، وإذا كانت السيطرة ما تنقصها

... هو ملك السيطرة ...

*****

بعد مرور بضع أسابيع مرت سريعة على "ميرا" و "زيدان" ولكنها بالتأكيد كانت هامة لها تأثير كبير في منحنى صداقتهم وامتزاج حياتيهما، جلست "ميرا" أمام الحاسوب الخاص بها تمارس شغفها في تصميم الصور إحدى المهارات المحببة لقلبها التي تخفيها عن الجميع وتساعدها على تخطي وحدتها منذ الصغر، انتقل بصرها نحو الهاتف تستطلع عن الوقت فقد تأخر "زيدان" عن محادثتها اليوم والغريب إنها وجدت نفسها متحمسة تواقة للحديث معه، وهذا عكس ما توقعته وما كانت عليه في الأيام الأولى لمحادثاتهما.
تنهدت ثم وضعت رأسها فوق كفيها شاردة فيه فزيدان شاب معسول الكلام يهتم بالأخرين كثيرًا نعم متعجرف أكثر من اللازم إلا أنه مراعي لشعور الأخرين، ابتسمت لنفسها هامسة:

-الله يرحم.

وهي تتذكر وعيدها بأن تنتقم منه وأن تجعل حياته جحيمًا بعد ما حدث في مطعمه وإخافته لها وكيف جلست تخطط للتحايل على القوانين التي يجبرها عليها ولكنها يوم بعد يوم وجدت نفسها تغرق في دوامة سحره الفريد حتى إنها باتت تتوق للحديث معه وحكاية أحداث يومها الممل له.
رفعت خصلاتها الغزيرة التي تهرب من الرباط كل بضع دقائق مبتسمة في تسلية فعلى الأقل هي تستمتع باهتمامه بأدق تفاصيل ورحابة صدره في سماع ثرثرتها، شعور جديد عليها لم تعهده حتى مع أصدقائها وحرفيًا هم محور تجاربها مع المشاعر الإنسانية.
زاد تأففها مع مرور الدقائق وتلقائيًا دون تفكير رفعت الهاتف في نفاذ صبر مقررة محادثته، هدأ توترها الملازم لها في كل مرة تقرر فيها رسم خطوة البداية، عندما أتاها صوته الرخيم أسرع من اللازم:

-كنت لسه برفع الفون أكلمك، عاملة أيه؟

-الحمدلله.

احمرت وجنتيها وشعرت بالغباء لوهلة لكنه لم يعطيها فرصة للانسحاب فاستطرد ممازحًا:

-ادفع نص عمري وأمسح عميله قابلتها انهارده من حياتي.

ضحكت بخفه على نبرته المرتفعة في انزعاج، ثم تساءلت في فضول:

-ليه، ضايقتك؟

-لا بتموت فيا.

اختفت ابتسامتها دون وعي منها وسألت بفم ملتوي:

-ودي حاجة تضايقك، ما أن بتحب ال attention ولفت الانتباه.

كان على طرف لسانه جملة "شوف مين بيتكلم" لكنه اكتفى بمقولته المشاكسة:

-لا لفت انتباه عن انتباه يفرق هعمل أيه بانتباه واحده عندها أربعين سنة ومطلقة مرتين.

-اوه وكمان عرفت ان عندها أربعين سنة وحالتها الاجتماعية وكل ده في مقابلة واحدة.

ساد الصمت للحظات قبل أن يصدمها ويربك ثباتها بسؤاله المشاكس:

-أنتي بتغيري عليا؟

-أيه ...لا ...لا طبعا ...ايه ده ...وأنا هغير عليك ليه، أنا بس مستغربة من تناقض كلامك.

كاد ينفجر ضاحكًا على اجابتها السريعة المتلعثمة ولكنه لن ينكر أنه شعر بسعادة داخلية تغمره بلا أي سبب واضح، فمشاعرها تلك ليست غريبة عليه فهو يعلم أنه يملك جاذبية مميزة مع الإناث، كما إنه يملك عيون ناعسة يسكنها سحر خاص ينجح في سرقة قلوبهن.

-سخيف أوي.

همست تحاول انقاذ ماء الوجه، بينما اعتدل هو في جلسته سعيدًا بما لمحة في نبرتها من مشاعر ولا يدري سر تلك السعادة لأنها ليست المرة الأولى التي تخصه فيها امرأة بتلك المشاعر.
حتى انه اعتاد على تلقي العديد من الاعترافات الصريحة والمباشرة بالحب والهيام، لكنه لا يتذكر شعوره بمثل هذه السعادة حينها بل إنه لا يتذكر إنه اعتراف في مرة لفتاة بحبه، وربما هذا هو سبب غروره ودلاله على مشاعر "ميرا" اليافعة، عاد للواقع على صوت أنفاسها العالية وقد أربكها صمته أكيد، فقرر مجاراتها بقوله:

-تناقض في أيه؟

جاءت اجابتها بعد بضع ثوان طويلة:

-أنك متضايق منها في حين انكم اندمجتم لدرجة انك عرفت معلومات شخصية عنها.

رمت "ميرا" الهاتف في خضه حين قطع حديثهما دخول والدتها التي يخجل سن الأربعين من الالتصاق بها، فهي فائقة الجمال مفعمة بالحياة والاستقلالية، صفات فشلت "ميرا" في وراثتها أو هكذا تظن وتمنتها سرًا في كل ليلة متسائلة لما لا تستطيع أن تكون في ثقة وجمال والدتها ولما عليها أن تعيش حياة المسخ المختبئ معظم حياتها:

-حبيبتي لسه هتنزلي مع ريناد الساعة داخله على تسعة مش أفضل تأجليها لبكره.

-مش هقدر طبعا هي نادرًا ما بتطلب تقابلني بعيد عن صحابنا ومش هينفع أتخلى عن حد محتاجني.

أخبرت والدتها في لهجة دفاعية مفرطة فارتفع حاجب والدتها في امتعاض مؤكدة:

-أنا مش عدوتك، أنا من حقي أخاف عليكي.

قالت والدتها في هدوء تخفي خلفه الكثير فهي تخشى خسارة أبنتها العنيدة فتعزل وجودها عن حياتها كما تفعل مع أبيها، نعم ميرا تذهب لقضاء أيام عملها معه لكن فتاتها بالكاد تقابله أو تتحدث معه.
كادت تبتسم في مرارة فرغم انها لم تتواصل معه منذ الانفصال إلا إنها متأكدة إنه لا يملك من الوقت ما يؤهله للتواصل العاطفي مع ابنته فمن غيرها عاشره لسنوات كي تعرف طباعه.

-غريبة وخوفك مش بيبان لما بتسافري للشغل وتسيبيني لوحدي؟

أشعرتها اجابة ميرا المتمردة بالحرج وكأنها تحاسبها على اختيارها للمضي في حياتها:

-ما تحاوليش تبتزيني عاطفيًا، أنا مش بسيبك لوحدك، أنتي بتكوني مع باباكي ده غير إنك المفروض كبرتي وبقيتي فاهمة إني لازم أشتغل.

-مش فاهمة الصراحة لما أنا كبرت يبقى خايفة أنزل مع ريناد ليه؟

أغمضت والدتها جفونها تستجمع أعصابها للرد على تلك الماكرة الصغيرة التي تملك من ذكاء والدها ودهائه أكثر مما تريد الاعتراف به لكنها صرحت لها عاقدة ذراعيها أمامها في نبرة مغتاظة:

-تمام طالما هنتكلم بصراحة يا ميرا، فالبنت دي مش مريحة ومش شبهك.

ضحكت "ميرا" ساخرة مجيبة في استنكار وكأنها مجنونة:

-وأنا أكيد مش بدور على اللي شبهي.

ردت والدتها باستسلام رافعة يديها في الهواء:

-تمام يا ميرا اللي يريحك أنا مش عايزة أتخانق قبل ما أسيبك وأسافر، لكن شوفي شريف هيتعامل ازاي لو عرف انك لسه مع العيال دي.

وبذلك خرجت مغلفة الباب في حدة وقلة حيلة من افعال صغيرتها، نعم كانت سعيدة بالتحول الجديد في حياتها وابتعادها عن الانطوائية لكنها بالتأكيد غير راضية عن أسبابه الآن.
تعلقت أنظار "ميرا" المتذمرة في حنق طفولي بأرداف والدتها الممتلئة والبارزة من ملابسها المنزلية الضيقة ومطت شفتيها متناسية شجارهما، ساخطة على القدر الذي قرر حرمانها من مميزات شخصية وجسدية تتمناها كثيرًا.
شهقت في خضه وهي تطالع هاتفها فقد تناست تمامًا وجود "زيدان" على الخط ولا تعرف كيف تبرر له إلقاءها للهاتف أو شجارهم، فوالدتها على علم بحديثها مع رامي وحازم ولكنهما الشابان الوحيدان في دائرة الأصدقاء وحديثهما أمامها شبه منعدم، كما انها دوما ما تلمح بأن يكون الحديث بينهم يجب أن يظل في حدود الصداقة.
أما عن "زيدان" فهي لا تعلم بوجوده من الأساس كما أن علاقتها به علاقة أخرى غامضة الملامح ومخيفة بالنسبة لها ولكنها وبكل نضوج ستتخطى تفسير مشاعرها نحوه مكتفية بإلقاء اللوم على اتفاقهم الصغير، فكرت ساخرة مضيفة إلى اللائحة خوفها من ان تكتشف والدتها انها استأجرت شاب ليدعي كونه زوجً سريً لها.
دعت بكل طاقتها أن يكون قد أغلق المكالمة ولكن بالتأكيد الحظ ميزة أخرى تفتقدها:

-ألو .. آممم... أسفة انك سمعت اللي حصل ده.

-انتي نازلة ؟

أتاها صوته الرخيم الهادئ بشكل يثير القلق داخلها دون مبرر صحي يميزه عقلها فتلعثمت تخبره:

-اه لكن مش هتأخر نص ساعة وهرجع.

-ومعاها رامي؟

-لا خالص، دي مقابلة أنا وهي بس!

-وبعدين معاكي يا ميرا؟

جاء صوته حازمًا فاقدًا الأمل في أن يتفهمها فأجابته في ارتباك كأنها طفلة يحاسبها والدها:

-أنا عملت أيه؟

-أنتي مكسوفة تحافظي على نفسك؟
يعني لو في حاجة غلط قررتي ماتعمليهاش، الناس هتشاور وتقول اللي معملتش حاجة غلط أهيه.

اشتدت حرارة الخجل فوق وجنتيها الحمراء، لكنها أجابته في نبرة منزعجة وضيق من كلماته المتهكمة:

-أنا مش بعمل حاجة غلط يا زيدان.

-مش عيب لما الانسان يعترف أنه عمل حاجة غلط رغم انه عارف إنها غلط، لكن العيب والخوف انه يبجح ويقول انها مش غلط.

ظهر الانزعاج جليًا في لهجته العالية ورغمًا عنها ارتعش قلبها في رهبه وليدة حصريه له فقط وكأنها تخشى عدم مراضاته، فأردفت معترضة:

-ممكن تبطل تهِني بكلامك كل شوية!

-أنا مش بهينك يا ميرا.

صمت قليلًا محاولًا تمالك غضبه كي لا ينهار مخططه ويعود للخانة صفر من جديد ثم زفر مستغفرًا لله مؤكدًا في هدوء مخادع:

-مش احنا أصدقاء؟
مش انتي بتعتبريني نوعًا ما صديق؟

-ايوه.

همست موافقة رغم ارتعاش نبرتها فتساءل في جدية:

-والصديق المفروض مهمته انه ينصح ويحافظ على صديقه خاصة لو الصديق ده مميز؟

-ايوه.

اعادت في خفوت مجددًا وهي تقضم أظافرها، فاندفع يؤكد في نبرته القوية الخشنة:

-جميل وأنا صديقك يا ميرا وعايز أحافظ عليكي عشان انتي مميزة عندي،
السؤال هنا هل ده سبب كافي يخليكي تسمعي كلامي؟

لم تستطع تفسير الابتسامة البلهاء المرتسمة على وجهها ولكن حرفيًا كان هذا أكثر حديث عاطفي لطيف لامس قلبها يومًا فوجدت نفسها تهمس في تلقائية:

-ايوه.

-ايوه أيه، أنتي علقتي؟

حثها على الحديث وقد هدأت نبرته المندفعة عما كانت ذي قبل، ورغم إنها تعلم أنه يريدها فقط أن تؤكد رضوخها له ليزداد عجرفة عليها إلا إنها استكملت:

-هسمع كلامك.

-الله، قوليها مرة كمان كده.

ضحكت حينما وصلتها نبرته الرجولية المشاغبة وشاركها "زيدان" الضحك راضيًا عن خضوعها الغير متوقع قبل أن يستطرد:

-روحي كلميها وقوللها انك مش هتقدري تقابليها انهارده واننا كده كده هنتقابل بكره بليل.

-هي اكدت عليا نتقابل لوحدنا من غيرك.

-اخص عليها وانا وأنتي أيه؟
.... مش واحد يا روحي.

-يا بارد.

وبخت في صوتٍ رفيع منزعج متعمدة مط كلماتها المتذمرة من استفزازه المستمر لها لكنها استسلمت لضحكاتها التي امتزجت بعد فترة مع صوت ضحكاته الرجولية فشعرت بإن قلبها تحول لحديقة مليئة بالفراشات المتراقصة في شجن على حبال صوته الرنانة، سرقها من أحلامها حين أخبرها مبتسمًا:

-هضطر أدخل أنام عشان تعبان أوي، وعلى فكرة مبسوط اني هقابلك بكره.

وصله صوت ضحكة خجولة وكأنها مراهقة حالمة ليذكره عقله بانها بالفعل مراهقة، بالكاد ستتخطى العشرين من عمرها الشهر القادم، ثم ردت في صوتها الحاني:

-وأنا كمان، تصبح على خير.

-وأنتي من أهل الخير.

أنهى زيدان المكالمة وخرجت منه تنهيدة عالية مفعمة بمشاعر حراقة في صدره فعلى غير المتوقع أثبتت ميرا انها مجرد فتاة بسيطة مليئة بالبراءة والتخبط كأي فتاة قرر ووالديها نسيان المسئولية والانسياق وراء الأنانية متناسين أولياتهم المتمثلة في تربية الأبناء، ميرا فتاة رائعة لكنها مضطربة المشاعر بلا أهداف سوى جذب انتباه من حولها وخلق مشاعر خاصة بها داخلهم وكأنها تشتاق لشخص يميزها عن الجميع.
كان هذا أول تفسير توصل له من خلال تقاربهم وعلى عكس ما كان يظن وجد نفسه يشفق عليها أكثر مما يغضب على تصرفها، بل وجد نفسه يصب جام انتباهه عليها كلما اجتمعا سويًا وسط المدعون "أصدقاءها" والذي لا يجد لهم تفسيرًا منطقيًا لوجودهم في حياتها فهم لا يتعاملون كأنها صديقتهم بالشكل المنطقي والطبيعي فأقصى نشاطها معهم هو المشاركة بالحديث وأكثر من ينتبه لها هو المدعو "رامي" والذي سيقتلع عيناه يومًا ما أن لم يتوقف علة التحديق بها طوال الوقت بعينيه القذرة.
هذا الترابط بينها وبينهم سر أخر وضع على عاتقه مهمه تفسيره!
ابتسم لنفسه يكاد يتذوق طعم الانتصار ففي خلال الأسابيع الماضية استطاع ان يستحوذ على معظم طاقتها دون أن تدري وقد حان الوقت للإسراع في رتم معركته التي قرر الخوض فيها منذ أول لقاء معها.

***

في اللقاء الأول بينهما، رفع زيدان عينيه يلتقط عيون الفتاة الواسعة، ذات الشعر القاتم الغزير وجلس يفرك اصبعه فوق شفتيه منتظرًا انتهاء المزحة التي طالت دون معنى.

-اعتبر انك موافق؟

-انتي مصره تكملي لعب؟

-لعب أو لا ده قراري أنا، قولت أيه deal or no deal.

نوفيلا نوتفكيشن الفصل الرابع

رفع زيدان عينيه يلتقط عيون الفتاة الواسعة، ذات الشعر القاتم الغزير امامه وجلس يفرك اصبعه فوق شفتيه منتظرًا انتهاء المزحة التي طالت دون معنى.

-اعتبر انك موافق؟

-انتي مصره تكملي لعب؟

-لعب أو لا ده قراري أنا، قولت أيه deal or no deal.

عاد للوراء يجلس بأريحيه أكثر ثم أخذ يطالع "ميرا" في شك قائلًا:

-أنتي بجد مش عارفة أنا مين؟

-بلاش غرور مش علشان طلبت مساعدتك هتعيش دور مشاهير السوشيال عليا،
ثم أنا هدفعلك مبلغ محترم.

لم يجيب وظل يراقبها في ذهول وقد حطمت غروره بالفعل فعلى ما يبدو أن قريبته لم تنتبه لوجوده ولو مرة واحدة على الأقل، نظرتها الحمقاء تجعله متيقن بانها لا تعلم صلة القرابة بينهما وتطلب منه تمثيل بالزواج منها في السر فعلًا!!
هو دونًا عن غيره.
سوء حظ أم حسن حظ ؟
لا يهم فهو على وشك إبراحها ضربًا حتى الموت إن فتحت فمها بطلبها الجريء من جديد أو أفضل ينتابه شعور قوي بتمزيق خصلات شعرها الغزير الذي يسرق انتباه من حولهم، والذي لا يتناسب مع ضعف قوامها ثم يجرها جرًا حيث والدتها لعلها تنفخ فيها بعض التربية الصحيحة.
تنفس من فمه يحاول سماع هذا الصوت الداخلي بعدم التدخل والرفض دون افتعال أي فضائح ثم الرحيل بشكل سلس نظيف بعد أن يلقي عرضها الوقح في القمامة.
لكنه جز على أسنانه يكبح غضبه ويحاول تمالك أعصابه حين أخرجته من بلورة أفكاره على صوتها الحاد الذي تخفي خلفه ارتباك وتوتر يشع من نظراتها:

-شوف لو مش موافق خلاص.

فرك وجهه في قوة يراقب عيونها المتعجبة من صمته الغريب فلا بد إنها تحسبه مجنونًا معدومة الحياء تلك وهو من كان يظنها ملاك منزوع الأجنحة سقط بالخطأ على أرضٍ من الذنوب، كاد يصرخ بالرفض في وجهها لكنها سبقته بقولها:

-أنا عندي حد يقبل عرضي متشغلش بالك خلاص.

علا داخله الصراع بين ضميره الحي ممثل الهموم الأزلي في حياته وسبب تورطه الدائم في مصائب لا تعنيه وهذا كله بسبب القيم التي تربى عليها، وبين هذا الصوت الخافت الذي يحثه على حمايتها والذي يحاوطه كلما وقعت عيناه عليها، زفر في حدة مستقرًا على قرار قبل أن يزجرها غاضبًا:

-أهدي شويه على نفسك أنا بفكر مش أكتر،
ثم أنا عايز أفهم أيه السبب اللي يخلي واحدة تطلب من واحد غريب يمثل انه جوزك ومش بس جوزك لا ده جواز في السر!

-السبب ده يعنيني أنا ومش ضروري تعرفه، اعتبر ده شغل أنت هتقوم بشغلك وأنا هلتزم بوعدي،
ولو تحب أنا ممكن أديك نص المبلغ دلوقتي والنص التاني بعد الست شهور، قولت أيه؟

ضاقت عيناه يطالعها في غموض يكبح داخله ثورة عارمة ولكنه قرر التراجع عن دفعها بعيدًا فهو لن يتركها تطلب المساعدة من شخص أخر فما أدراه ماذا سيفعل الأخر معها وكيف سيكون؟
لأن شخصً يقبل دور كهذا لن يمت للنبالة بصلة، أغمض جفونه لحظة قبل أن يفتحهما معلنًا قراره:

-اتفقنا ومش محتاج أخد فلوس دلوقتي، خليها ف أخر الاتفاق.

-اللي يريحك.

جاء ردها سريعًا وبريق السعادة والانتصار يلمع جليًا داخل عيناها، كاد يبتسم ساخرًا من شعورها الواهي بالنصر فقد برمت صفقتها للتو مع الجلاد .

***

خرج "زيدان" من ذكرياته متمتًا كلمات غير مفهومة وكأنه يشجع ذاته على الإقدام والمواصلة فيما هو عازم عليه، ربما كان عليه إخبار ذويها والانتهاء من الأمر لكنه يشفق عليها من ردود أفعالهم التي قد تدمرها تمامًا فهو لا يرى فيهم الطريق الأمثل للمعاملة ومعالجتهم للموقف ستكون شبه مستحيلة، فهذا الخلل في طفلتهم لم يتولد من الفراغ.

*****

في اليوم التالي، جذبت "ميرا" حقيبتها وقبعتها السوداء نغلقه باب السيارة قبل ان تلقي نظرة خاطفة في مرآة السيارة على ثوبها الأحمر الفضفاض منزوع الكتفين والذي يصل إلى أسفل ركبتيها كمعظم أثوابها المستوحاة من طراز الخمسينيات، فقد وجدت فيه كهف ملاذها تخفي فيه عدم تصالحها النفسي مع مؤهلات جسدها النحيف فهي تضفي عليها رونقًا وترسمها لأعين الناظرين بشكل لائق.
فكرت ساخطة على نحافتها وقصر قامتها لكن الابتسامة عادت تبتلع فمها متذكرة إعجاب "زيدان" بالنساء القصيرات مؤكدًا على تفضيله لهن، أما عن النحافة فهي لن تقسو عليها لأنها سعيدة بالتغيير الذي طرأ على جسدها الأسابيع الماضية، فقد تفاجأت بالميزان يهلل لها فرحًا معلنًا زيادتها بضع كيلوجرامات قليلة في الأسابيع الماضية دون تخطيط منها.
وهو ما تعتبره شيء خارق خارج عم المألوف، فقد وضعت الكثير من طاقتها من أجل إيجاد طرق لزيادة الوزن بين اتباع حميات غذائية شهيرة وابتلاع أدوية تعمل كفاتح الشهية بالإضافة إلى لجؤها لأخصائية تغذية وكل هذا انتهى بالفشل دون تحقيق ما تسمو إليه.
ابتسمت لنفسها سعيدة بالرضا المنبثق منها اليوم، ثم حركت طرف إبهامها فوق فمها ترتب أحمر شفاها قبل أن يقطعها صوت "زيدان" المتذمر:

-أنتي شكلك مش عايزة تطلعي، يبقى نروح أحسن.

التفتت ناظرة له من أسفله لأعلاه في انزعاج متجاهلة وسامته المشعة دون أي جهد يذكر منه فهو يرتدي جينز أسود وقميص أبيض سادة يحتضن صدره سوى من بضع الإنشات في أعلاه يعرضها بفخر للعيان، حركت رأسها مبعدة أنظارها عنه في خجل من وقاحة أفكارها قبل أن تردد مؤكدة:

-قدامي يا كسلان على فوق، وكمان مفيش نوم بدري أنا بحذرك.

أخبرته بحركة صغيرة من رأسها تؤكد قرارها بينما تلقي بخصلاتها للخلف متحركة لداخل المبني ثم إلى أعلاه حيث يقبع أصدقائها.
اتبعها زيدان المبتسم شاعرًا بتلك الثقة المتزايدة يومًا بعد يوم فقد لاحظ امتلاء جسدها بشكل ملفت في الأسابيع السابقة، لتتأكد شكوكه بأن شهيتها مرتبطة بحالتها النفسية، وان نحافتها ما هي إلا انعكاس لاضطراباتها الداخلية ارتفع فمه في ابتسامه راضية متأكد ان وجوده في حياتها هو سبب هذا التوهج.
دلفا سويًا وبعد التحيات والتفاهات تركها بقلب ثقيل تنغمس بين الفتيات اللواتي لولا أموالهم الطائلة لظننت إنهن امتهن العُهر، سعل بخفه يمحض رغبته في أن ينتشل "ميرا" حاملًا إياها عنوة من بينهم كي يخبأها بعيدًا عن مستنقع فسادهم.
تحركت عيناه بشكل تلقائي كلما شعر بالكره صوب "رامي" المسلط أنظاره الحاقدة فوقه فأومأ رأسه في حركة ساخرة انتهت قبل أن تبدأ مبتسمًا في مكر كي يزيد من غليانه، كما تغلي دماءه فهو متأكدًا من اهتمامه الزائد بتلك الحمقاء جواره والتي تحركت مقتربة منه عندما غير قادرة على فرض وجودها أكثر حينما اندمج الجميع في حديث ليس بها به مكان، متجاهلين تواجدها.
ابتلع مرارة مشاعره الكارهة لتواجده وتواجدها في هذا المكان وتلك الأجواء الماجنة بين شباب يتراقصون وأخرون غارقون في الخمر وكأنه ماء الحياة، أغمض جفونه يحث ذاته على الصبر فقد اقتربت النهاية.

-أنا أسفه ماما مكنتش موافقة انزل أقابلك امبارح، كان في حاجة؟

صدح صوت "ميرا" قاطعًا أفكاره فالتفت يتابع حديثها الموجة ل "ريناد" التي نظرت لها ببلاهة كأنها تحاول إدراك مقصد كلماتها أو ربما هي تحت تأثير مخدر ما:

-حاجة أيه؟

-الحاجة اللي كلمتيني عنها امبارح عشان أقابلك؟

تدخل "رامي" سريعًا يجذب انتباه "ريناد" لحديث داخلي داخل مقلتاه قبل أن يحذو بنظره نحو "ميرا" التي تشاهدهم في عدم فهم لكن "ريناد" أنهت الموقف مجيبة في لهجه مرتبكه سريعًا:

-اه اه، دي حاجة مكنتش مهمة نتكلم فيها بعدين.

حركت "ميرا" رأسها في براءة مرسلة ابتسامه لهما، بينما ضاقت عيون "زيدان" الذي يرغب في هز جسدها يحثها على فتح عيونها تلك الغبية وقد بدأت الشكوك تلتهم دواخله فهؤلاء الحمقى يخططون لأمر لن يعجبه البته.
أخرج نفس متقطع يحاول السيطرة على انفعالاته ثم انتقل بصره فوق "رائف" الذي بدأ يبتلع أقراص عده ومتنوعة بعيون واسعة فعلى ما يبدو أن الأحمق قررت الموت اليوم!
انقلب ثغره في تقزز وتلقائيًا مد يده يلقط كفها قبل أن يدفعها للاقتراب منه أكتر متجاهلًا تشنج جسدها المضطرب لكنها استرخت بعد دقائق وراقبها كيف انتقلت من السكون التام وكأنها ضائعة إلى الحماس والحديث بلا توقف منتشيه ببعض الانتباه التي يمررها لها "حازم" والذي كان ليبدو لطيفًا لولا وجوده في تلك الدائرة، استمر في حديثه التافه معها وهو يسألها عن العلامة التجارية لقبعتها.
ثم استقام زيدان تلقائيًا يجاورها عندما صحبها حازم للشرفة كي تلقي نظرة على دراجته الجديدة وحين عادا بعد دقائق لاحظ كيف مدت الحمقاء يدها في اعتياديه لتلتقط كوب العصير الخاص بها فمال يهمس في أذنها:

-ما تشربيش العصير طالما سبتيه ومشيتي!

نظرت له متعجبة ثم سألت في استغراب:

-ليه؟

-أنتي قاعدة حرفيًا في غرزة، يعني وارد أوي حد من المساطيل دول يحطلك حاجة في العصير.

-وهيعملوا كده ليه؟

-مساطيل بقى هنعمل أيه!

حرك رأسه يائسًا من أن تدرك الحياة يومًا، تابع مراقبة لمن حولهم في صمت وتركها تنغمس في حديث عن "طفولتها" وفي رأيه هذا حديث ساخر حين يجاورك شخص يغفو في حالة من السُكر، وأخر أذهبت المخدرات عقله كليًا حتى إنه بدأ في ملامسة الفتاة جواره بشكل لا يلائم تواجدهم حوله!
لكن بالتأكيد لم تجذب تلك المشهد انتباهها وكادت تتطرق لموقف حدث لها في الصغر جعلها مرتبطة بالقبعات إلا ان إحدى الفتيات صرخت بمزحة تتناسب مع الحوار قبل أن تغرق في ضحكاتها وكأنها مزحة حائزة على الأوسكار سارقة رؤوس من لايزال محتفظًا بوعيه.
راقب كيف تسمرت "ميرا" وتراجعت في مقعدها باستسلام منسحبه عن ساحة الأضواء، وقتها أراد أن يسألها ما هو سر تعلقها بهذا الجمع فكل ما يراه منهم نحوها هو الشفقة، وأكثر انتباه يعيرونه لها لا يتعدى بضع كلمات هنا وهناك وهذا في قاموس العالم ليست صداقة، أو على الأقل هي ليست صداقة في قاموسه هو!
لكنه يستثني من الشفقة "رامي" بالطبع والذي يقبض عليه يسترق النظر نحوها كل بضع ثواني، فكر ساخرًا لكنه نفض تلك الأفكار عنه واعتدل يصب جام انتباهه فوقها متسائلًا في فضول مفتعل:

-أيه السبب؟

نظرت له في تساءل لا تدري مغزى كلماته قبل أن تبتسم في خفة متسائلة:

-سبب أيه؟

-البورنيطه اللي على راسك دايمًا.

أشار إلى حديثها المنقطع قبل قليل، فتعلقت نظرتها الحائرة بنظره الغامض في حرب صامتة تحاول فيها اختراق دواخله وكأنها ستقبض على رغبة خفية هدفها الإيقاع بها والسخرية منها، قابل نظراتها المتفحصة بابتسامته الهادئة ولا يدري كيف أجابتها عيناه العسلية المائلة للون الخضرة ولكنها كانت إجابه كافية بأن تبادله الابتسام وتبدأ في الحديث تحكي دون توقف قرابة الساعة حتى أخذ الوضع يخرج عن السيطرة جواره بين ريناد ورائف اللذان بدأ في التقبيل علانيه دون مراعاه لمن حولهما، وقتها لم يستطع التحمل وتحدث معترضًا:

-احنا قاعدين هنا على فكرة!

التف له "رائف" يرمقه في انزعاج وعدم رضا عن تدخله قائلًا بلسان ثقيل:

-دي مراتي وأنا حر.

حك "زيدان" ذقنه مقررًا ألا ينخرط في نقاش مع ديوث مُخدر، لكنه مال نحوها هامسًا في أذنها:

-ما تيجي نمشي ونروح ناكل؟

-ونسيبهم؟

سألت في صوت ضعيف متردد فأشار لها بعيونه نحو أصدقاءها اللاهين في شئونهم الخاصة، مجيبًا في سخرية:

-محدش فاضي لينا أصلًا.

تابع في ترقب على أحر من الجمر كيف عضت شفتيها في خفة وهي تلقي نظرة خاطفة على الجميع ثم استقرت عيناها عليه محركة رأسها في موافقه مقتنعة بحديثة.
كاد يلقي قبضته في الهواء منتصرًا فكل ما يدور في عقله إنه نجح لتوه في سرقة اهتمامها وانتباهها عنهم وتركيزه صوبه هو!
حسنًا إذا كان الاهتمام هو غايتها، فسيمنحه لها دون توقف.
المهمة الأولي ... تمت بنجاح ...
فكر في صبيانية ثم ابتسم في غرور وهو يمد أصابعه نحوها ملتقطًا كفها كي يجذبها للوقوف ومرافقته للخارج.

*****

بعد تناول وجبة العشاء قرر "زيدان" مكافئتها بأن تشاركه متعته الخاصة بأن يقود سيارته متجولًا على الطرق بلا هدف.

-ما تتكلمي ساكتة ليه؟

صدح صوت "زيدان" قاطعًا الصمت المخيم داخل السيارة فحركت كتفيها بلا إجابة محددة وهي ترمقه بعناية ثم قالت:

-عادي، تقريبًا الأكل كتم على نفسي.

-ميرا فوقي يا روحي، أنتي اكلتي نص برجر مش خروف.

ابتسمت "ميرا" له شاعرة بإحراج من انتباهه لضعف شهيتها لكنها استكملت مغيرة الحديث في لهجة مشاكسة:

-طيب يا لمض اتكلم أنت.

ارتفع حاجبه في تعجب من حماستها مجيبًا دون أن يحيد بعينيه عن الطريق:

-هقول أيه؟

-مش عارفة، كلمني عن حياتك مثلًا.

لوى رقبته نحوها مرسلًا لها ابتسامة صبيانية ثم أعاد وجهة نحو الطريق وهو يخبرها متعجبًا:

-أنتي عارفة كل حاجة في حياتي، احنا بقالنا كتير بنتكلم في أدق تفاصيل حياتنا.

-لا أقصد عن نفسك وعيلتك مش عن شغلك وأصحابك ويومك، أنت تقريبًا عمرك ما اتكلمت عن حد غير والدك.

أخبرته شبة متلعثمة بينما تضم شفتاها تشعر ببعض الخجل من تطفلها المباشر، لكنه أوقف توترها بحديثه التلقائي عن نفسه:

-عشان ماليش غيره بعد أمي الله يرحمها، وأنا وحيد أبويا وأمي ماليش أخوات.

حانت منه نظرة خاطفة نحو وجهها حين ساد الصمت وارتفع حاجبة في تعجب وهو يتفحص تقاسيمها الحزينة المندمجة مع قصته فابتسم ممازحًا:

-انتي هتعيطي ولا ايه بقولك وحيد مش متوحد!

زفرت في ملل من تبلد مشاعره وقد انكمشت ملاحمها في تذمر وعيناها تدور داخل مقلتيها مردده:

-أنا غلطانة اني بعبر عن مشاعري معاك.

علا صوت ضحكاته ثم مد أصابعه يعبث بأزرار المذياع حتى أستقر على إحدى المقاطع الغنائية الهادئة ثم رمقها بطرف عينه متسائلًا في فضول:

-كلميني عن طفولتك؟

اهتزت ضحكتها ولكنها نظرت بعيدًا متمته في عدم اكتراث:

-كانت طفولة عادية مفيهاش حاجة مميزة.

-وكنتي متعلقة بأصحابك بردو زي دلوقتي؟

سأل في نبره متقطره بالفضول فهمست محرجة أثناء نظرها من النافذة جوارها للخارج :

-مكنش عندي أصحاب وقتها، كان في بنت بحبها بس للأسف بعدت عنها لما اشترت كلب.

-لا حول ولا قوة إلا بالله، خسرتي صاحبتك عشان اشترت كلب!

-أيوه أنا عندي فوبيا الكلاب، ممكن أنتحر اساسا لو شوفت كلب،
كمان مخسرتهاش بالمعنى الحرفي أنا بس كان نفسي نبقى أصحاب وهي مكنتش مهتمة.

شعر بموجات من عدم الراحة والتوتر الزائد تنبعث منها واكبتها حركة أصابعها المتسارعة فوق فخديها فتحدث مغيرًا الحديث في نبرة مشاغبة:

-أحسن حاجة، مفيش أرخم من الصحاب الصغيرين وأن عيل عنده خمس سنين يتفاوض معاكي على سندوتشاتك بدل ما يقول للميس انك بتحبيها!

دارت برأسها نحوه في صدمة قبل ان تنفجر ضاحكة مشيرة بنظرات الاتهام نحوه مستنكره:

-مستحيل كنت بتحب الميس وانت عندك خمس سنين؟!

رفع أصبعه في الهواء مجيبًا بملامحه الجادة:

-أنا ممكن أكون خمس سنين لكن كنت مخلص بكل كياني، طيب أنتي عارفة لما بنت كانت تقولي بحبك مصيرها كان بيبقى أيه؟

-أيه؟

-كنت بفقعها علقة موت!
قسمًا بالله أي بنت كنت ألمحها كده بتحبني كان بيبقى يومها أسود من قرن الخروب.

اتسع عيناها في ذعر ثم حركت رأسها لليمين واليسار في ذهول مسترسلة وسط ضحكاتها:

-أنت مش طبيعي!


أوقف السيارة أمام كورنيش النيل واعتدل يطالعها بابتسامه مستكملًا في مشاكسة:

-اه، أنا راجل عصامي أحب أبني بؤس حياتي بنفسي، أحب الست اللي عمرها ما تحبني، لكن أحب واحدة مناسبة ليا وتحبني زي ما بحبها، أيه هنكفر ولا ايه؟!

-والله العظيم مجنون، طيب ودلوقتي بتعمل أيه في البنات لما تحبك؟

سألته تحاول تغطية فضولها بنبرتها الممازحة فارتفع فمه في نصف ابتسامه ماكرة وهو يطالع الفضول والارتباك المتفاقم داخل حدقتيها ثم أردف في لهجة خبيثة:

-خليها تحبني ونشوف هيحصل أيه!

انعقد حاجباها في حيرة متعجبة إجابته المزعجة فمال يقرص وجنتها الحمراء مستكملًا في مشاغبة :

-تحبي أحكي كنت بعمل أيه مع البنات لما بقى عندي عشر سنين؟

-مش محتاجة اكيد كنت بتكهربهم.

اندمجت ضحكاتهما سويًا حتى توقفا لالتقاط الأنفاس، ساد الصمت المريح بين كلاهما مدة إلى أن قطعة صوت رنين هاتفها فتغيرت ملامح وجهها تمامًا قبل أن تقطع الاتصال.
حك زيدان جانب ذقنه يشعر بمشاعر مختلطة ترتفع داخل صدره وصار يخشى عواقبها الوخيمة على قلبه الساذج أكثر من عواقبها عليهاؤ فهو لا يرغب في فرض حصاره المندفع حولها ولكنه فشل في كبح مشاعر غيرته عليها وانتهى الحال به متسائلًا:

-مين بيتصل؟

-دي ماما.

-ما ردتيش عليها ليه؟

قضبت بين جبينها لا تشعر بالراحة في الإفصاح عن جام مشاعرها له واكتفت بهمستها:

-مالوش لازمة

-أنك تطمني أمك عليكي مالوش لازمة؟
عارفة لو بابا اللي اتصل بيا كنت سيبت الدنيا تولع ورديت عليه، وعلى فكرة مامتك ست لطيفة من شوية المواقف اللي عاصرتها بينكم واضح انها زي اي أم خايفة على بنتها وعايزه مصلحتك.

كاد يضيف أن خطأها الوحيد إنها تترك زمام الامور في ملعبها دون مراعاة لجنون هذا السن وعدم اكتمال نمو شخصيته بشكل كامل أو منطقي لكنه سيطر على لسانه.
تفاقم غضبها من تدخله وحديثها عن علاقتها بوالدتها وكأنها طفلة متمردة بل مدللة فلا أحد عاش ما عاشته ولا عاصر ما عاصرته من جنون في حياتها:

-أنا حرة يا زيدان دي حاجة خاصة، متدخلش لو سمحت.

تعلقت عيناها بعيونه المتصلبة التي لا تبوح عن مكنونات صدره أو ردود أفعاله تجاه نوبة غضبها، وشعرت بارتعاش طفيف يهز قلبها.
بينما عض "زيدان" فوف لسانه في قوة كي لا يثور في وجهها غاضبًا ليس على حديثها معه بهذا الشكل ولكن بسبب قراراتها المتهورة كمعظم المراهقين يرون في ذويهم العقاب متناسيين أنهم منبع الأمان لهم.
أدار محرك السيارة في صمت دون إجابة محافظًا على ملامحه الساكنة لكنه متأكد من تأثير صمته عليها فقد كانت تتلوى جواره كقطعة من اللحم تستوى على فحم الانتظار، لعق شفتيه وتأهب مترقبًا حديثها في أي لحظة، فخبراته التي اكتسبها مع النساء لن تضيع هباء:

-ممكن أفهم أنت زعلان ليه ويفرق معاك ليه ارد أو لا ؟

أوقف السيارة في حدة متعمدًا إثارة مخاوفها ثم أخبرها في جدية تامة:

-أنتي فاهمة كويس أنا زعلان ليه فيلاش لف ودوران،
أنا كنت فاكر أننا على درجة كبيرة من التفاهم، واعتبرتك أقرب أصدقائي رغم فترة التعارف البسيطة بينا، بس واضح اني قرأت بين السطور أكتر من اللازم.

أنهى جملته باهتزاز عاطفي مقصود يومأ رأسه كأنه يشعر الخذلان من فعلتها، نجح فيها من إثارة الدقات المتضاربة بين ضلوعها فأسرعت مبررة:

-أنا كمان بحسك قريب مني، أنا مقصدتش كل ده الموضوع وما فيه ان علاقتي أنا وماما معقدة شوية.

-لازم تتعقد يا ميرا أنتي مش بتدي نفسك فرصة تتكلمي مع مامتك زي أي بنت وأم طبيعين، لو بتديها نص الاهتمام اللي بتدي ل رودينا مثلًا صدقيني العلاقة بينكم هتتحسن.

أصر وهو يحرك يده من حوله وكأن كلماته أمرًا بديهيًا فأغمضت جفونها قائلة في استسلام:

-طيب حصل خير، ممكن نتكلم في الموضوع ده بعدين؟

فركت ذراعها في توتر لا تجد إجابة تترجم مشاعرها المتخبطة المكبوتة وكأنها تخشى انفجارها وإخافته من مدى حاجتها لأحد جوارها تتفهمه ويتفهمها.

-اللي يريحك.

-أنا أسفة لو حسيت اني عليت صوتي عليك.

ارتفع جانب وجهه ساخرًا يخبرها في عنجهية لا تجد لها مبرر طبيعي:

-لا مفيش داعي للأسف، لو حسيت أن صوتك علا عليا كنت قصيت لسانك.

ضمت شفتيها في انزعاج من إجابته الاستفزازية لكنها لم تتوقع أبدًا كلماته التالية وكأنه يتعمد وضعها في خلاط يدوي كبير، زر تحكمه دفين تحت إبهامه، يضرب داخله حصونها وأقنعتها ويعريها داخليًا لعيونه الناعسة الثاقبة:

-هو أنا لو طلبت منك تبطلي لبس الفساتين اللي بتبين نص جسمك ده، هتسمعي كلامي؟

حدقت به دون فهم لمطلبه أو فهم لسرعة تحوله من موقف إلى أخر، هل سبب له جسدها نوع من الاشمئزاز؟
فركت أعلى كتفها العاري متوترة وقد أشعرتها كلماته بخلوه من القماش ودبت البرودة إلى أطرافها، لكنها وجدت نفسها تسأله متلعثمة :

-هو مش لايق عليا؟

-للأسف هو لايق عليكي أكتر من اللازم.

تعلقت عيناهما للحظات قبل ان تنسحب هي اولاً مستفسرة في توتر:

-ودي حاجة وحشة؟

فرك خصلاته مرات متتالية يحاول تجميع كلماته:

-وحشة لما يشوفها اللي مالوش حق فيكي، أنا مش بتكلم عشان أديكي درس في الحلال والحرام لأنك خلاص داخلة على عشرين سنة وأكيد عارفة إنه حرام فعلًا،
أنا بتكلم معاكي لأن في حاجة جوايا بتخليني متضايق لما أشوف أي واحد بيبصلك.

-بيبصلي أنا؟!

سألت "ميرا" في صدمة وهي تضع يدها على صدرها كأنها لا تصدق كلماته التي توحي بأن أحدًا من الجنس الأخر قد يهتم بوجودها، فحرك رأسه في قلة حيلة مؤكدًا:

-أنتي جميلة على فكرة.

-أنا جميلة؟ أنت شايفني جميلة بجد يا زيدان؟

سألت في هدوء وعيناها الواسعة تطالعه في براءة، فأخبرها في ضيق بسبب تحريكها السافر لمشاعره:

-لو مش جميلة هقولك ما تلبيس كده تاني ليه؟
ما انا مش ههتم ساعتها!

-أنا بلبس كده عشان بحس بثقه في نفسي أكتر، أنا رفيعة لو أنت مش واخد بالك!

رد في نبرة هادئة وكأنه يخشى التخبط وإخافتها من تدخله المفاجئ في حياتها:

-مش معنى انك رفيعة انك وحشة، ربنا خلقنا مختلفين لسبب، وكل انسان وعنده جماله الخاص وأنتي ربنا رزقك الجمال في ضعفك ورقتك.

-ضعفي؟

-ممكن ما تفهميش كلامي بس أنا لما بشوفك قدامي بحس اني عايز أخبيكي عن العالم كله وبكون عايز أقتل اي واحد ممكن يبصلك بصة وحشة.

طالعته متصلبة كتمثال حجري في ذهول وقد غرقت في حالة من الصدمة غير متوقعة كلماته، رمشت ثم ارتفع أنفاسها المترقبة تحاول السيطرة على الأعيرة النارية التي يطلقها قلبها فرحًا وهي تستجمع شجاعتها متسائلة:

-ليه؟

-حاليًا مش لاقي جوايا مبرر غير عشان أنتي أقرب أصدقائي وغالية في نظري فوق ما تتصوري.

أنهى جملته في حنو بالغ نجح في إزاله العبسة بين حاجبيها ووجد نفسه يميل كي يمرر أنامله فوق وجنتها مبعدًا بعض خصلاتها خلف أذنها في سكون.
غامت عيناه بمشاعر مضطربة وهو يراقب صدرها يعلو ويهبط بأنفاس متقطعة وكأنها تلهث لاستنشاق الهواء، وكيف نجحت عيناها المخادعة في خطف أنفاسه وكأنها تسحبه معها لمشاركتها تقطع الأنفاس وكأنها توشم روحه بتواجدها، شعر بالحرارة تسري في جسده فأبعد انامله عنها مستغفرًا الله في باطنه محركً رأسه لليمين واليسار كي تهرب منه الشياطين، ثم أكمل مؤكدًا:

-ميرا أنا مش بطلب منك تغيري لبسك بشكل جذري ممكن جاكت أو شال صغير على كتافك ويا سلام لو فساتينك تطول لحد السمانة شويه يبقى كتر خيرك،
هو طلب يبان سخيف أو تافه لكن هيفرق معايا وهيخليني حاسس براحة أكتر.

-راحة في أيه؟

همست في نبرة منخفضة متلعثمة وعيناها غارقة في عالم الأحلام تراقب كل حركة منه فرد مبتسمًا في خفة:

-راحة في الزيجة دي، أنتي ناسية إنك مراتي ولا أيه .... يا روحي؟

لكمته بتلقائية في ذراعه تحاول تغطيه ابتسامتها بتوبيخها له:

-تصدق طالما بتغيظني يبقى مش موافقة.

لمعت عيناه الناعسة ثم قال في ثقة عالية لا يدري مصدرها وكأنه يحتكر صكوك ملكيتها مدى الحياة:

-يبقى اتفقنا يا روحي.

ضاقت عيناها مستنكرة استفزازه ومشاكسته الدائمة لها، لكنها ابتسمت لنفسها في مكر فلو يدري مدى تأثرها وتعلقها به كلما خرجت حروفه الحانية والساخرة بنطق كلمة "روحي" لهرب من هنا إلى الجانب الأخر من العالم سيرًا على الأقدام.

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-