رواية وريث آل نصران الفصل السابع عشر 17 بقلم فاطمة عبدالمنعم

 رواية وريث آل نصران الفصل السابع عشر 17 بقلم فاطمة عبدالمنعم

رواية وريث آل نصران الجزء السابع عشر

رواية وريث آل نصران الفصل السابع عشر 17 بقلم فاطمة عبدالمنعم


رواية وريث آل نصران البارت السابع عشر

الفصل السابع عشر ( الحقيقة أثمن من الذهب)
#رواية_وريث_آل_نصران
بسم الله الرحمن الرحيم

إن الأبشع من الحرمان من نعمة ما...هو سماع أصحابها يتحاكوا كم هي ممتعة!
فأسوء شعور يمر على فاقد حنان الوالد هو سماع أحدهم يحكي عن بطولات أبيه في إسعاده.
وأكثر إحساس مؤلم يمكن أن تعيشه امرأة متزوجة برجل جهل معاني الاهتمام هو وجودها في محيط يتحدثن فيه النساء عن أزواجهن الذين يتفننوا في إسعادهن.

ربما تعتاد الروح على نقص الحنان، الأمان والحياة ولكن الأكيد أن الألم قاتل حين يتحدث أحدهم عن مدى جمال هذه النعم... ليس ألم قاتل فقط بل مميت،
مميت إلى حد لا حد له.

حل الصمت واتخذت النظرات مكانها لتصبح هي المسيطرة الوحيدة، نظراتها المستغيثة تطلب منه نجدتها، ونظرات "باسم" المتشفية وهو يتنحى بعيدا عنها بعد أن كرر المشهد القديم حينما رأى "عيسى" مع "رزان" .... أما "عيسى" فلم تكن نظراته مفهومة بالنسبة لها، بعد أن ابتعد عنها "باسم" وجلس على الأريكة واضعا الساق فوق الآخرى ينتظر ردة الفعل وجد "عيسى" يتحرك ناحيتها، قبض على كفها وحثها على السير بكلمة واحدة:
امشي.

كانت قبضته تعتصر كفها، ولكنها لم تشك فهذه الكلمة طمأنتها، جعلت الأمان يعرف طريقه لها بعد هذه اللحظات السوداء التي عاشتها هنا في هذا المكان.
خرجا من الغرفة معا، كانت تتلاشي النظر ناحية هذا المكان، أعطاها الأمل صبر على صوت الضجيج المزعج الصادر من هنا، وبالفعل أصبحوا خارج المكان بأكمله، أتت لتتحدث ولكنه منعها حين فتح باب سيارته لها قائلا:
ادخلي.

وافقت ودخلت وعينها تطالعه ، كانت دقات قلبه في حرب، عيناه تنذر بانفجار وشيك، قطع هو تفحصها حين قال قبل أن يغلق باب السيارة:
نص ساعة وراجع.

تركها واتجه إلى الملهى مجددا قاصدا غرفة "رزان"، ليست خطوات بل بركان أوشك على الثوران، و دقات قلب تتسارع، فتح الباب فاستقام " باسم" واقفا يقول بضحك:
كنت عارف إنك هترجع... أنا مش عايزك تفهم غلط، دي واحدة قابلتها في الشارع وركبت، ولسه عارف حالا إنها تخصك، لما أول ما شافتك قالت اسمك وأنت خدتها وخرجت .
تصنع البراءة متابعا:
Really, I'm so sorry
محصلش أي حاجة على فكرة، أنا كنت مجرد ببدي إعجابي بس...
قاطع حديثه لكمة عنيفة لم يتوقعها أبدا، فالأمر بينهم منذ قديم الأزل لم يصل إلى التشابك سوى مرة واحدة قديما.
لم يكن مدركا لما حدث وسمع "عيسى" صائحا:
دي لا.

أدرك أنه في معركة معه، فبدأ يصوب اللكمات هو الآخر، "عيسى" يتفادى تارة، وهو يتفادى الضربة تارة آخري.... نشب عراك عنيف ولكن الأكيد أن غضب غريمه هذا ليس طبيعي بالمرة، وكأنه يخرج طاقة مخزنة بغير احساس... مكن شروده هذا "عيسى" من ضربه الضربة الأخيرة والتي أسقطته على الأريكة خلفه وهو يسمعه يقول بنبرة طعمها بشراسته الزائدة عن الحد:
دي مش "رزان" و لا حاجة هتتسابق عليها معايا... اخر واحدة تفكر تدخلها في حسابات بيني وبينك.
أطاح بمحتويات الطاولة، وأخذ يلهث بعنف ... اقترب من الباب ليغادر فاستقام "باسم" واقفا وقد أصبح السائد في الغرفة هو الفوضوية.
التفت "عيسى" منبها قبل رحيله:
متخليش الماضي يهف عليك.

_هعتبر نفسي مسمعتش حاجة.
قالها "باسم" وهو يرمق ما فعله في وجه "عيسى" وقد شابه الأثار التي تركها ضرب "عيسى" على وجهه.

أجابه "عيسى" محذرا:
براحتك، كل واحد حر في اللي بيعمله... وكل واحد يشرب بقى مطرح اللي عمله.

أنهى حديثه وترك الغرفة بل المكان بأكمله، قاصدا الخارج وبالأخص سيارته، وصل إليها وفتح الباب ليجلس على مقعده أمام عجلة القيادة ثم تبع ذلك بغلق الباب... لم يقم بالقيادة فحاولت هي الحديث مبررة:
عيسى أنا...
ضرب على عجلة القيادة بقبضتيه بشدة صارخا بما جعلها تنتفض في مكانها:
ملكيش دعوة بيا دلوقتي.

طالعته بخوف شديد، فتنهد هو غاضبا إثر ما بثه فيها، وقال:
متتكلميش معايا دلوقتي أحسن ليكي.

أنهى كلماته ومال يسند رأسه على عجلة القيادة، ابتلعت ريقها وقد ثبتت حدقتاها عليه، خرج منها سؤال حذر يهاب ردة الفعل:
أنت كويس؟

لم تحصل على إجابة فاختارت الصمت بريبة منتظرة ما سيحدث، مضى ما يقرب من الربع ساعة، اعتدل بعدها وقاد سيارته مغادرا المكان بأكمله دون التفوه بكلمة واحدة، تركها هكذا تتخبط بين الأمواج ولا مجال لطلب الإجابة لأن التواجد هنا كان اختيارها من البداية.

★***★***★***★***★***★***★***★

لا يشعر بثقل الوقت إلا المنتظر وهكذا كان انتظار "هادية" وابنتيها في منزل "نصران" فلقد مرت ساعة اخرى حاول "طاهر" تفادي أثرها الواقع على ضيوفهم بقوله:
متقلقيش، أنا كلمته وقالي إنها معاه وجايبها وجاي بس هو الطريق من القاهرة لهنا بياخد وقت شوية.

ابنتها ذهبت إلى القاهرة بمفردها، لا تعرف كيف، لم تقص عليها "شهد" سوى ما حدث قبل ترك "ملك" المكان أما ما حدث بعد ذلك فالجميع هنا يجهلوه.

أصدر هاتف "مريم" ذلك الرنين المميز، فتحته فوجدت رسائل على تطبيق _الواتساب_ من رقم تجهله، فتحت الرسائل لترى أمامها عدة مقاطع مصورة، اخترق القلق روحها، وشعرت أن هناك شيء ما، وانتفضت حين سألت والدتها بعد أن رأت التغير الظاهر على تقاسيمها:
في إيه؟

_مفيش حاجة عادي.
قالتها "مريم" وهي تغلق الهاتف بارتباك ولكن أتى اتصال هاتفي وقبل أن ترفضه "مريم" جذبت "هادية " الهاتف منها أمام مرأى الجالسين وأجابت لتسمع إحداهن تقول بغنج متشفية:
هاي يا مريم، ياريت يا روحي تبقي تشوفي ال videos اللي بعتهالك على الواتساب، هتعجبك أوي وكمان وريها لمامي أعتقد هتعجبها أكتر منك.

تبادل "طاهر" و "نصران" النظرات القلقة حول ما يحدث ، أما هادية فأغلقت المكالمة واتجهت إلى تطبيق الرسائل لترى ماهية ما أُرسل، ضغطت على زر الصوت لتخفض الصوت كليا كي لا يسمع أحد، وفتحت أحد المقاطع لترى ابنتها في حالة مماثلة لذلك اليوم الذي أتت فيه من الخارج بحالة رثة، لا تعي أي شيء، ولكن الجديد في هذه المقاطع أن ابنتها في ما يشبه الملهى الليلي، وتتوسط ساحة الرقص متمايلة هنا وهناك.
أغلقته وكسا عينيها تعبير قاسي، استطاعت "مريم" لمح ما ترى والدتها، ونظرت ل "شهد" بخوف مما دفع "شهد" للسؤال:
في إيه يا ماما؟

لم تجب عليها بالكلمات، كانت الإجابة نظرة نارية، علمت "شهد" أن الأمر له علاقة بما حدث في حفل "ميار"، فهي تتوقع حدوث أي شيء منذ ذلك اليوم، فبعد مواجهتها مع " ميار" و إنكارها هي و "ريم" كل شيء توقعت منهم ما هو الأقبح.

_خد "شهد" و "مريم" يا طاهر وسيبنا لوحدنا شوية.
قالها "نصران" بهدوء، فهز "طاهر" رأسه موافقا ورافقهما حتى الخارج، تاركا والده و "هادية".... بمجرد خروجهم قالت " مريم" لشقيقتها بغضب:
حد بعت على واتساب فيديوهات حضرتك مش في وعيك فيها، و عمالة ترقصي هنا وهناك في وسط الواقفين في حتة أقل ما يتقال عنها إنها كباريه.

شعرت بانسحاب أنفاسها، وبدا على وجهها كل ما أصابها من تخبط مما جعل "طاهر" يسأل باهتمام:
"شهد" في مشكلة؟

طالعته فرأى في عينيها ذلك التعبير الذي لاحظه ذلك اليوم حين تملكها الخوف قبل الدخول لجامعتها، بينما في نفس التوقيت كانت "هادية" تتآكل في الداخل، كل شيء يثير أعصابها منذ بداية اليوم وأتى الآن هذا الانفراد المفاجئ والذي مكنها من القول بحرية:
كويس إننا بقينا لوحدنا علشان أقولك الكلمتين اللي عايزة أقولهم.
تابعت بإصرار محذرة:
حق ابنك عند "شاكر" تموتوه بقى، تسامحوه، تولعوا فيه بجاز أنا مليش دعوة، لكن بنتي يا "نصران" لا... البت دي شافت كتير أوي، أنا بصحى كل يوم على صرختها في عز الليل، بعاني مع خوفها اللي من كل حاجة من ساعة الحادثة دي.
طالعته لترى تعبيره، فسمعته يقول:
كملي سامعك.

_أظن هي عملت اللي عليها وقالت على اللي حصل، لكن الكلام اللي سمعته من "شهد" ده وجواز البت من ابنك ده مش هيحصل.
قاطع حديثها الذي حاولت جاهدة أن تبث فيه كل رفضها وهو يسأل ضاحكا:
وأنتِ بقى سألتيها عن رأيها؟

تسارعت الأنفاس، فلقد أثارت ضحكته استفزازاها فأجابت بطريقة فجة:
مش محتاجة أسألها، واحدة أول ما عرفت إن واحد عايز يتجوزها طلعت تجري، المفروض كده بقى إنها بتحبه وموافقة.

رفعت كفها متابعة الحديث الذي جعله يرفع حاجبيه متصنعا الاندهاش:
بقولك إيه كفاية أوي لحد كده، أنا استحملت ذل وإهانة سنين كتير أوي، اتجوزت بالغصب واتداس عليا من الكل وأنت أكتر واحد عارف ومع ذلك عيشت وحبيته، مات و سابني لأخوه ومراته اللي قبلت أعيش في قرفهم علشان عيالي.... اللي جاي مش قد اللي راح وأنا مكسبي في الحياة كله التلات بنات دول فأهون عليا أقعد بيهم في الشارع ولا أني أقعد مع حد يتحكم ويدوس تاني.

سألها مستنكرا وهو ينظر لها بضحكة غير مصدقة:
ومن امتى وأنا كنت بدوس ولا بتحكم يا هادية؟....ده أنا قلبي متداسش غير منك أنتِ، مفيش فرق كبير على فكرة، أنا كمان اتجوزت وحبيتها أكتر من أي حاجة وسابتني وماتت، لكن قولت ربنا عوضني بالعيلين، العيلين اللي راح منهم شاب زي الورد يا "هادية" وقالولي تعالى شيل جثة ابنك.
ترك مقعده مشيرا لها بتنبيه رأته في عينيه قبل حديثه:
مش أنتِ لوحدك اللي بتخافي على عيالك، بس مش أنتِ برضو اللي محروقة على ابنك اللي مات وعايزة تجيبي حقه.
أنتِ هنا في بلدي صحيح، بس ده ميخلنيش أفرض عليكي حاجة، محدش هيغصب على بنتك جوازة، ابني طلب وهي عايزة توافق براحتها، عايزة ترفض براحتها برضو.

حل الصمت بعد جملته الأخيرة وبقى فقط لقاء العيون، ذلك اللقاء الذي حمل في طياته سنين دس فيها الزمن لحظات من الفرح واخرى من الألم والمعاناة، حديثهم الآن كان تفريغا لما في الصدور ولكنه انتهى بأنه جعل خوفها على ابنتها اتهام غير مباشر له أنه سيكون أحد أسباب معاناتها لذا فضلت الصمت وتوقف هو عن الحديث حين انتهى مما أراد قوله.
في نفس التوقيت كانت الباقي على الوصول ليس كثير إطلاقا، فلقد مر ساعة و نصف ولم يبق سوى نصف ساعة أو أقل.
قاومت السكون السائد منذ بداية الطريق حين زفرت، وتبع ذلك محاولة منها للحديث بعينين جفت الدموع منهما:
أنا أسفه على اللي عملته....
لكن أنا مفكرتش في أي حاجة.

_ماهو أنتِ مبتفكريش أصلا من ساعة ما عرفتك، فمش محتاجة تعتذري، الهروب مش جديد عليكِ.
قالها وهو يتابع الطريق أمامه ولم يلتفت لها ولكنه سمع نبرتها التي برز فيها الألم واضحا:
أنا معرفش "باسم" ده، أنا أتصدمت من اللي عمله أصلا.

أخرج إحدى لفافات تبغه ودسها بين شفتيه قائلا بكلماته التي تضرب كسوط بلا رحمة:
حتى دي مش محتاجة تبرريها، من معرفتي الصغيرة بيكِ إن الجبن ده كله بتحوليه في لحظة لشراسة لما بتجيبي أخرك، شوفت ده في عينك لما واجهتي عمك ، لما "باسم" حاول يقرب منك، بس بيتهيألي كان لازم تاخدي خطوة التحول دي بدري شوية عن كده... لولا إني جيت محدش عارف إيه اللي كان ممكن يحصل.

نظرت من النافذة جوارها دون حديث، فداهمها بقوله الذي سبقه ضحكة مستهجنة:
الغريبة إنك بتقولي..أنا بحب فريد بس مش المفروض القوة اللي بتتحولي ليها دي كانت ظهرت أول مرة سألتك مين قتل فريد؟...أصلها اتأخرت أوي وعقبال ما ظهرت كان "شاكر" فص ملح وداب.

سألت وقد بدأ عقلها يعود لعمله مجددا بعد ليلة قضاها خائفا، مرهقا:
أنت عايز تتجوزني، علشان تخلي "شاكر" يظهر صح؟... اللي خلاه قتل قبل كده، هيخليه يعمل غلطة ويظهر علشان يمنع الجوازة تتم.... طالعته متابعة سؤالها بنظرة بدا فيها التعب واضحا:
مش ده اللي بتفكر فيه برضو ؟
لم يكن لسؤالها إجابة، كما لم يكن لطلبه رد.... كل منهما حينما وُضِع في الموقف ذاته امتنع عن الحديث،

_عموما أنا مش محتاجة إجابة، وردي على طلبك هقوله لما نرجع، أنا بس عايزة أقولك شكرا إنك كنت موجود النهاردة
كانت تقصد تلك اللحظة بالأخص في غرفة "رزان" ، استطردت وقد شعرت للمرة الأولى أنه يتابع ما تتفوه به باهتمام:
لما شوفتك موجود، ولما خدتني وخرجنا حسيت اني مش خايفة، أنا من لحظة موت فريد وأنا مبعملش حاجة غير إني خلصانة و بس ، رغم إني كان المفروض أبقى خايفة لما شوفتك، على الأقل حتى أخاف تفهم غلط بس أنا محستش ده.
قالت آخر كلماتها بنفس الصدق:
شكرا على الكام دقيقة اللي حسيت فيهم إن حد لحقني، الكام دقيقة دول لو كانوا موجودين ليلة موت فريد كانت حاجات كتير أوي اتغيرت.

حديثها عصف به، جعل عقله يسبح في بحور حاول جاهدا نسيانها، جملتها الآن بأنها شعرت بالحماية وعدم الخوف حين وقعت عيناها عليه، قيل له عكسها منذ سنين، من واحدة كان من المفترض أن تكون زوجته، يستطيع الآن رؤية نفسه في ذلك المشهد القديم وهو يسألها بضجر:
يعني أنتِ عايزة إيه يا "ندى" مش فاهم،
المفروض إني كنت أسيبه عادي ؟

صاحت فيه بكيل قد طفح منذ زمن:
تقوم تضربه؟، أنا بقيت أخاف من وجودك يا "عيسى"...و بعتذر لو قولتلك أني مش هستحمل، نطقت آخر كلماتها بعينين دامعتين:
بس أنا أضعف من إني أسيبك.

فاق من شروده، وكأن أحدهم أنقذه من الغرق في هذه البحور التي لا تذكره إلا بما لا يريد، تنهد يحاول الاسترخاء قبل أن يتفوه بكلمة كانت صادقة ونبعت من قلبه، وهو يطالعها:
شكرا.
كان بالفعل ممتن لهذه الكلمات التي قالتها تلقائيا ولكنها مثلت له الكثير، بعض الكلمات تعطينا حياة، وبعضها الاخر يسلبها منا ولكن الأكيد أن كلماتها كانت لينة لا تعرف السلب، وانقطعت علاقتها به منذ زمن بعيد.

★***★***★***★***★***★***★***★

وقفت " رزان" أمام ماكينة القهوة في منزلها، تعد كوب لها، فرأسها على وشك الانفجار.... انتهت الماكينة وسمعت معها دقات على باب منزلها، اعتادت ألا يأتي أحد إلى هنا سوى "باسم"... يأتي في أي توقيت فسألت متوقعة الإجابة:
مين؟

_باسم... افتحي.
فتحت حاملة بيدها قدح القهوة الخاص بها، دخل وأغلق الباب خلفه فقالت:
أنت جاي منين كده؟...أنا مقدرتش أنزل النهاردة.

استدارت خلفها لتستفهم عن سبب صمته، ولكن خرجت منها صرخة عالية وهو يجذب خصلاتها، سقط قدح قهوتها إثر الصدمة، وصاح " باسم" بنبرة جهورية:
هو أنا يا بت مش قايلك، لسانك ما ينطقش بحاجة عن اليوم اللي كنتي قاعدة فيه معايا وقابلنا "شاكر" و "محسن".

حاولت الدفاع وإبعاد يده صارخة:
سيب شعري...وأنا هفهمك.

دفعها فسقطت على الأرضية الباردة، ثم تبع ذلك بصفعته على وجهها:
تفهميني ايه؟... مهما حاولت أنضفك هتفضلي كده يا زبالة.

حاربت من أجل الحديث مجددا محاولة إزاحته عنها:
أنت قولتلي إنه موقف عادي، وإنه شارب وبيقول أي كلام.... وبعدين متمدش إيدك عليا أنت تبقالي إيه علشان تضربني.

_وقولتلك برضو، لسانك ما يقعش بحاجة قدام
" عيسى" لحد ما ادور أنا في الموضوع، لكن ازاي لازم تكسبي نقطة عنده مش كده.
قال كلمته الأخيرة و قد ضربها من جديد فصاحت:
أنت فاهم غلط، أنا مقولتلوش الكلام جاب بعضه.

كانت تزحف حتى وصلت إلى الغرفة فهرولت مسرعة ناحية الداخل وأغلقت في وجهه تاركة إياه في الردهة
وهي تصرخ من الداخل:
اطلع برا يا حقير، امشي مش عايزة أشوفك تاني...
الزبالة مبتعرفش غير اللي زيها وطالما أنا كده يبقى غور في ستين داهية.

سقط قلبها أرضا وهي تراه يحاول فتح الباب، ظنت أنه سيرحل ولكن هذه الحركات التي أبرزت ثورته العنيفة في محاولته لفتح الباب أثبتت لها أن ظنها كان خاطئ حقا... خاطئ إلى حد لم تدركه أبدا.

★***★***★***★***★***★***★***★

وصلت إلى البيت أخيرا، إنه الدفء يحتضن زوايا بيتهم الصغير هنا، غرفتها المشتركة مع شقيقتها هي أكثر الأماكن أمان في هذا الكون، ذهب بها "عيسى" إلى منزل "نصران" أولا... طلبت من الجميع عدم التحدث في أي شيء، أخذهن "طاهر" إلى المنزل، كانت لحظات صامتة، طلبت من والدتها برجاء أن تتركها تنعم بها حتى الصباح، تتركها بلا تعنيف الآن ونجحت في إقناعها، والآن هي على الفراش، الحائط يحتضنها من الجهة اليمنى، ولكن أين "شهد"؟
لم تأت شقيقتها للنوم لسبب هي لا تعرفه، أما عن
" شهد" فكانت في غرفة والدتها و "مريم" تنتظر توبيخ والدتها بصمت تام وبدأ بالفعل بسؤال والدتها:
كنتِ مع "ريم" بتشربي حاجة مش كده؟

رفعت المقاطع المصورة أمام وجهها سائلة بشراسة:
إيه ده؟

نظرت لوالدتها وتهربت من الإجابة، ولكن سبقتها "هادية" حين ضربتها بالهاتف في وجهها ناطقة:
انطقي فهميني ايه ده؟

حاولت "مريم" تهدئة والدتها في حين قالت "شهد" مدافعة:
معرفش حاجة عنه، أنا اتعزمت على خطوبة واحدة صاحبتي وملحقتش أقولك، وحصل بعد كده اللي عرفتيه شربت وأنا معرفش إن في حاجة في اللي بشربه، وحالتي بقت كده.

صاحت بغيظ:
اللي بعتت الحاجات دي عيلة منفسنة مني، يهمها إنها تعملي مشكلة وخلاص.

ألقت والدتها الهاتف وانفجرت فيها بغضب حقيقي:
أنا تعبت من اللم وراكي، أبوكي زمان لما قال البت دي تقعد في البيت كان عنده بعد نظر.

_لا وحياتك ده كان عنده "مهدي" و "كوثر" الحرباية اللي مش عايزين "شهد" تتعلم، علشان متبقاش زي "علا" بنتهم اللي مفيش زيها، قال البت دي تقعد في البيت علشان كان مسلم رقبتنا لأخوه ومراته.
خرجت منها الكلمات بعنف حمل في طياته ألم طفلة تذكرت حرمانها المؤقت في الصغر من تعليمها، ولكن صفعتها والدتها مخرجة إياها من الغرفة وهي تقول ببكاء:
غوري من هنا.

حاولت الدخول إلى غرفة والدتها قائلة برجاء:
طب افتحي أنا أسفة.

لم تجد إجابة، فنزلت دموعها هي الاخرى، لا تعلم ماذا حدث بعد ذلك، جلست تبكي بصمت في غرفتها، وبعد أن تأكدت من نوم الجميع سحبت وشاح من خزانتها واتجهت به نحو الأسفل.... الآن هي تجلس في الهواء الطلق، على ذلك السور المجاور للدكان الخاص بهم تبكي في صمت، اصطدمت بشقيقتها "ملك" تقف أمامها، رمقتها بحزن... ثم قفزت هذه المساحة الصغيرة ، و ألقت نفسها في حضن شقيقتها، قائلة:
والله العظيم ما شربت غير عصير برتقال، أمك هي اللي فهماني غلط.

سألت "ملك" باستغراب:
هو أنتِ خدتي العلقة المرة دي علشان عصير البرتقال؟

عادت تجلس على السور مجددا، وجاورتها "ملك" التي تصنعت النوم في الأعلى ولكنها شاهدت شقيقتها التي بكت لفترة لا بأس بها ثم غادرت المنزل بأكمله.
الآن هي بجوارها هنا تسمع منها ما حدث حتى ختمت:
الغلطان في الحكاية دي كلها اللي اسمه "طاهر" هو لو مكانش كذب عليها ساعتها، كان زماني صحيت وقولت الحقيقة واضربت العلقة دي من أسبوع.

استطاعت انتشال الابتسامة من شقيقتها عنوة، وقد فردت الوشاح عليها هي الآخرى لتسمع آخر صوت توقعت سماعه:
يعني في الآخر طلعت أنا اللي غلطان؟

_أنت؟
قالتها بغيظ شديد، و حل الاستغراب على "ملك" أيضا من وجوده فقال:
هو أنا مش طايقك، بس بعد ما سمعت "مريم" وهي بتقول على المقلب اللي اتعمل فيكي، قولت أعدي من هنا أشوفهم بيطلعوا روحك فوق ولا لا... ولقيتك قاعدة اهو قدام بيتكم زي القطة بسبع أرواح.

قفزت تاركة مكانها مجددا وهي تعترض على ما يقول:
جك طلعت روحك... أنا مطلبتش منك مساعدة،
وياريت تمشي من هنا علشان المرة اللي فاتت جتلي طليقتك تعمل فضيحة، المرة دي مش بعيد ألاقيها جاية وساحبة عيلتها.

_حد قالك قبل كده إنك قليلة الزوق و تستاهلي يتولع فيكي؟
سألها فأجابت مسرعة بالنفي:
لا محدش قالي ولا حد يقدر يقولي.

أشار على نفسه ناطقا بابتسامة صفراء:
طب أنا بقى بقولهالك.

فلتت ضحكة من بين شفتي "ملك" التي صاحت فيها "شهد" غاضبة:
قوليله يمشي من هنا.

حركت "ملك" نظراتها بينهما فقال هو قبل انصرافه:
أنا ماشي أصلا، مش محتاج لسانك اللي بينقط كلام شبه صاحبته يقولي إني أمشي.

صمت بعد أن قالها، فهو بالفعل شعر أن شيء ما يحضره إلى هنا بعد أن انتهى من زيارة "فريد" التي أخرج فيها شحنة كبيرة من البكاء يبث فيها فقيده اشتياقه....تذكر بعد ذلك حديث "مريم" وتعنيفها لها، وشعر أنها في مأزق حقيقي، فوجد نفسه في نهاية المطاف هنا، أفعال صبيانية من جديد يفعلها والسبب هي.

رمقته بشراسة وقد أوشكت على الفتك به فقال لملك ضاحكا:
قوليلها تكبر بقى، علشان متضربش تاني.

جذبت "شهد" أحد الأحجار الصغيرة من الأرضية و انتظرت ابتعاده ثم قذفته في أثره، سقط خلفه فاستدار من بعيد يرزقنا بتوعد فرفعت له حاجبيها ضاحكة بانتصار.

ابتسمت "ملك" على ما يحدث، مما جعل "شهد" تقول وهي تعود للجلوس جوارها:
يا شيخة ده أنا كنت نسيت شكل ضحكتك.

نامت على كتفها، و تنهدت "ملك" بعمق وهي تتأمل السماء، و "شهد" التي عادت تفكر في طريقة لإصلاح ما أفسدته مع والدتها.... بينما في نفس التوقيت كان "عيسى" ما زال في مكتب والده منذ عودته، سمع سؤال والده وهو يشرب مش مشروبه لينال استرخاء بعد يوم طويل:
و بعدين يا "عيسى"؟

_حق " فريد" في رقبة اخواته، ولو مرجعش يبقى منستاهلش نقعد دقيقة في قرية "نصران" يا بابا.
قالها "عيسى" لوالده الذي أخبره ولأول مرة:
أنا جوايا نار، مش هتطفي غير لما أحس إن اللي عمل فيه كده مذلول قدامي.

طمأنه "عيسى" مبتسما:
متقلقش، هتشوف ده وعد مني.

_طب و "ملك" ؟
سأل "نصران" منتظرا إجابة تشفي فضوله ولكن الإجابة زادت حيرته:
والله أنا عرضت عرض، عايزة توافق هي حرة، عايزة ترفض هي حرة برضو.

حدثه والده طالبا:
هي هترفض، ملكش دعوة بيها يا "عيسى"، تنسى الطلب ده.

سأله باسما:
طب ولو وافقت؟

هز والده رأسه نافيا وهو يخبره بثقة:
مش هيحصل، مش هتوافق.
تبع ذلك بقوله:
سيبنا من سيرة " ملك" دلوقتي،
في حاجة كنت عايزك تشوفها، السبب اللي خلى أرض جدك من زمان عليها خناقات.

أثار اهتمامه حقا، فانتبهت كافة حواس "عيسى" له، وخصوصا حين ترك والده مقعده، واتجه ناحية الخزنة، يكتب الأرقام بأريحية أمام "عيسى" وقبل أن يفتح أمر ابنه بقوله:
قوم تعالى.

ترك "عيسى" الزجاجة على الطاولة واتجه بالفعل ناحية والده يقف جواره، تبادلا النظرات وقد وصل حماس "عيسى" للذروة ففتح والده باب الخزنة ناطقا:
السبب أهو.

زاد اتساع حدقتي "عيسى"، إن ما يراه بالتأكيد ليس سراب، حقا إنه يريد النوم بشدة لكنه على يقين تام أنه مستيقظ الآن ليس في أحد الأحلام، إن ما يراه أمامه لم يكن سوى شيء جعله يرمق والده بغير تصديق... إنه ذهب.

إن الشوق لمعرفة الحقيقة، هو أكثر الأشواق قتلا.... ذلك الشوق الذي يشتعل لهيبه في أجسادنا لنهرول بحثا عن السر.
لقد صدق ذلك الروسي الذي قال:
(الحقيقة أثمن من الذهب ) – مثل روسي –
فالحقيقة التي عرفها اليوم لا يساويها أي شيء، حقيقة صراع قتله الشوق لمعرفة سببه....
حقيقة لا ينساها أبدا.

يُتبع 💙

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-