رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني كامل بقلم منال سالم

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني كامل بقلم منال سالم 

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني كامل

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني كامل بقلم منال سالم - مدونة يوتوبيا


رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني الحلقة الأولى بقلم منال سالم


مقدمة الرواية (الفصل الأول)


بنصف عينٍ تطلعت أمامها محاولة إجبار نفسها على الاستيقاظ بعد ليلة مرهقة ذهنيًا وعصبيًا لها، غلبها النعاس واستكانت لبرهة، استشعرت "خلود" سطوع النهار من خلال تلك الإضاءة الخافتة المتسللة من نافذة الغرفة الموصودة، تقلبت على جانبها الآخر ويدها قد امتدت لتتحسس الفراش، لم يكن دافئًا مما أوقظ إدراكها، وباتت واعية تقريبًا، فتحت عينيها على الأخير، تلفتت حولها باحثة عن زوجها الذي على ما يبدو هجر فراشها، تساءلت مع نفسها:
-هو راح فين؟

بدا المكان ساكنًا من حولها، ظنت أنه ربما ذهب إلى عمله مُبكرًا، ولم يرغب في إيقاظها، اعتدلت في رقدتها واستدارت ناحية الكومود لتمسك بهاتفها المحمول حتى تنظر إلى الوقت، لكنها تفاجأت بوجود زجاجة الدواء التي قامت بتبديل أقراصها موضوعة عليه، انقبض قلبها في خوفٍ، وأحست برهبة موترة تجتاحها، مدت "خلود" يدها لتلتقطها، تفحصتها بعينين خائفتين، ابتلعت ريقها وتساءلت في توجسٍ:
-إيه دي؟ بتعمل إيه هنا؟

أحست بثقلٍ يجثم على صدرها، كما ازدحم عقلها بأفكار متواترة تشير إلى احتماليات مخيفة لم تحبذ التفكير بها لأنها ستحيل حياتها إلى جحيم، وجدت لسان حالها يلهج باسمه:
-"تميم"!

أزاحت الغطاء عنها، وهبطت عن الفراش لتفتش عنه في أرجاء المنزل لتتأكد من وجوده، توجهت ناحية الحمام، دقت على بابه قبل أن تفتحه، لم يكن متواجدا بالداخل مما زاد من ريبتها، واصلت البحث عنه في كل غرف المنزل انتهاءً بالمطبخ، كان الاحتمال الأكبر أنه اتجه لعمله بالدكان، ظلت محتفظة بالزجاجة في يدها، ثم نظرت مطولاً إليها، وتساءلت، وكأنها :
-هو ساب الإزازة دي ليه هنا؟
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني الحلقة الثانية بقلم منال سالم


زحــامٌ لا يطاق سيطر على الأزقة الضيقة والطرقات المؤدية إلى الدكان في ساعة الظهيرة مع ارتفاع درجة الحرارة نسبيًا، كذلك احتلت ناصية الشارع شاحنة ضخمة لتفرغ البضائع التي أتت بها، انهمك العمال في حمل الأقفاص ونقل الخضر والفاكهة إلى مكان تخزينها بالدكان، بينما تحرك "تميم" في اتجاه "محرز" الذي كان يقف على رأس العمال ليتابعهم، سأله الأول بصوتٍ مجهد:
-دي النقلة الكام كده؟


 
أجابه بوجه متعرق:
-الخامسة يا "تميم".
زفر قائلاً في تعب:
-كده مش فاضل غير نقلتين كمان ويبقى قفلنا التوريد، مظبوط؟
هز رأسه معقبًا:
-أيوه.
سأله "تميم" بجديةٍ ظاهرة على قسماته:
-الفواتير استلمتها؟ لو معاك هاتها، عاوز أرجعها.


 
تردد للحظة في إعطائها له، فهناك حمولة زائدة تخصه جاءت ضمن المنقول، وليست مسجلة في الأوراق، وربما إن قام بالمراجعة لاكتشف أمرهم، ابتسم "محرز" ليخفي توتره، وقال:
-حاضر يا أبو نسب، أخلص بس دول وهاشوفهم.
تعقدت تعابيره متسائلاً في استغراب:
-ليه؟ هما مش معاك؟
أجاب بنفاذ صبر:
-هما موجودين جوا، بس إنت شايف الشغل الكتير و..


 
أنجده من افتضاح أمره رنين هاتفه، ادعى بحثه عنه وتابع:
-هاشوف مين بيتصل.
التوى ثغر "تميم" في امتعاضٍ من سماجته ومماطلته، تلفت حوله ليتابع حركة العمال البطيئة، هدر بهم بضيقٍ:
-يالا يا رجالة، مش هانقضي اليوم كله في الكام قفص دول.
هتف "محرز" فجـــأة وقد تبدلت تعابيره للقلق:
-جاي على طول يا "هاجر"، هو واقف جمبي، إنتي بس متتحركيش.
انتبه له "تميم"، وسأله:
-في إيه؟


 
أجابه وتلك الربكة قد سيطرت عليه:
-"هاجر" بتولد، وأنا رايحلها.
ربت على كتفه قائلاً:
-الحقها، وأنا هاجيب أمي وأحصلكم على المستشفى.
رد عليه مؤكدًا:
-متتأخرش بالله عليك، لأحسن دي موصياني.

علق مبتسمًا:
-يا عم دي أختي، هي حد غريب؟ كفاية رغي وروحلها
-على طول، كملها بالخير معاها يا رب.
هتف "محرز" بتلك الكلمات وهو يهرول ركضًا نحو سيارته ليستقلها، بين اتجه "تميم" عائدًا إلى والده ليطلعه بأمر شقيقته –وكذلك والدته- ليصطحبهما لاحقًا إلى المشفى بينما يتابع هو استكمال الأعمال الناقصة.


 
زغرودة تبعتها بأخرى أكثر حماسة وسعادة لتملأ جنبات الغرفة بصوتها المهلل تعبيرًا عن ابتهاجها بولادة حفيدها الأول، اضطرت "ونيسة" مرغمة أن تتوقف عن ذلك بناءً على الاعتراض الجدي من إدارة المشفى لأجل توفير الهدوء للمرضى، غطت علامات الفرحة أوجه كل المتواجدين، ورغم أنين "هاجر" الخافت إلا أن فرحتها كانت لا توصف، فاليوم قد وضعت رضيعها، أدارت رأسها للجانب لتحدق في فراش المولود الملاصق لفراشها، مسحت والدتها على جبهتها بيدها، وانحنت عليها تقول:
-حمدلله على سلامتك يا قلب أمك.

تساءلت "هاجر" بصوتٍ واهن:
-وابني؟
أجابتها بفرحة تغمر صوتها ونظراتها نحوه:
-بخير يا حبيبتي، أهوو جمبك نايم زي الملاك، ربنا يحفظه من العين.
هلل "محرز" صائحًا ببهجة عارمة:
-الحمدلله ربنا رزقنا بأول حفيد للعيلة...
ثم دنا من حماه وأضاف بلؤمٍ ماكر:
-وبعد إذنك يا حاج "بدير" أنا ناوي أسميه "سلطان" عشان تحل البركة علينا.


 
ربت الأخير على كتفه مرحبًا:
-وماله يا ابني، ونقوط "سلطان" الصغير جاهزة.
هتفت "ونيسة" من خلفه معقبة:
-ده غير أحلى ليلة وسبوع هيتعمله، ده أول فرحتنا، بس تقوم أمه بالسلامة إن شاء الله.
اتسعت ابتسامة "محرز" المنتشية، وقال بامتنانٍ:
-ده ابنكم قبل ما يكون ابني.
بالطبع كان مترقبا على أحر من الجمر لتلك اللحظات حتى يحصل على جزءا آخر من تلك الثروة التي لا تنضب، يحتاج لملء جيوبه بالمزيد من الأموال، وإن كان بالتملق والتدليس، المهم ألا يخرج فارغ الأيدي.

لم تترك لها الخيار سوى الذهاب إليها، وإجبارها على الحديث معها في مقر عملها، فإن كانت ترفض مواجهتها وتتجنبها، وكأنها غير موجودة، فهي لن تستسلم وترتضي بعزوفها عنها، لن تترك الأمور معلقة بينهما هكذا، ستدفعها للإصغاء إليها وتقبل وجهة نظرها، تشجعت "همسة" واتجهت إلى محل الهدايا الذي تعمل به توأمتها، سحبت نفسًا عميقًا لفظته دفعة واحدة قبل أن تلج لداخل المكان، ألقت نظرة مترددة على من فيه، شعرت بقليل من الارتياح لعدم وجود زبائن فيه، ستكون على أريحيتها، التفتت برأسها للجانب حين نادتها "علا" بترحيب ودود:
-مش معقول، "همسة"! إيه المفاجأة الحلوة دي؟!

ابتسمت برقةٍ وهي تسألها مجاملة:
-إزيك يا "علا"؟
أجابتها بحيويةٍ وقد امتدت يدها لتصافحها:
-أنا تمام ..
ثم أحنت رأسها عليها لتقبلها من وجنتيها قبل أن تتراجع "همسة" لتقول ونظراتها تتجه ناحية شقيقتها:
-مش هاعطلكم كتير، أنا كنت جاية لـ "فيروزة".

هزت "علا" رأسها في تفهم، كانت على علم مسبق بالخلاف بينهما، دعتها للبقاء قائلة بلباقةٍ ومن تلقاء نفسها:
-تعالي يا "هموسة"، ده محلك، كده كده أنا طالعة أسلم أوردرات، خدوا راحتكم.
شكرتها بنظراتها الممتنة، وترقبت انصرافها لتبادر ممهدة للحديث بينهما:
-لسه برضوه زعلانة مني؟
تجهمت تعابير "فيروزة"، ورمقتها بنظرة حادة قبل أن تدمدم في ضيقٍ:
-جاية ليه؟

ابتلعت ريقها وردت:
-عاوزة أتكلم معاكي.
هتفت ببرودٍ، وكأنها تطردها:
-وده مش مكان للكلام، أنا ورايا شغل كتير.
وبالرغم من أسلوبها القاسي المليء بالجفاء إلا أنها تفهمت موقفها نحوها، وقالت بإصرارٍ رافضة الاستسلام:
-مش هامشي يا "فيرو"!

ضاقت عينا "فيروزة" بانزعاجٍ واضح، بينما تابعت "همسة" موضحة:
-ما هو أنا مش عارفة أتلم عليكي في أي مكان، وإنتي مش مدياني فرصة أشرحلك حاجة، وآ....
قاطعتها بحدةٍ لتغلق سبل الحوار معها:
-إنتي حرة في اختياراتك، أنا ماليش دعوة بيكي.
اعتذرت منها "همسة" برأسٍ منكس قليلاً، وعينين حزينتين:
-أنا أسفة يا "فيروزة" .. حقك عليا ...

سددت لها نظرات غاضبة، وأطبقت على شفتيها مانعة نفسها من الكلام، في حين أكملت "همسة" بنفس الوتيرة الهادئة، وتنهيداتها تسبقها:
-أنا مقصدش أحرجك قصادهم، بس فعلاً أنا عاوزة أكمل حياتي مع "هيثم" واتجوزه.. هو بني آدم كويس وبيحبني.
انفجرت صارخة فيها علها تفيق من الأوهام التي تظن أنها تملأ رأسها الفارغ:
-ده مش مناسب ليكي، إنتي تستاهلي الأحسن منه، إيه اللي يربطك بواحد زي ده؟ عشان كلام اتقال من أمه الحقودة ولا أخته الغلاوية؟
اعترفت لها بصدقٍ، ودون ادعاء:
-أنا بأحب "هيثم" زي ما هو بيحبني، دي الحقيقة.

ردت ساخرة منها:
-بتحبيه؟ على إيه بالظبط؟ إيه المميز فيه يخليكي تحبيه؟
أجابتها ببساطة:
-متمسك بيا رغم اللي حصل.
يأست "فيروزة" من محاولاتها الفاشلة لإزالة تلك الغشاوة التي تحجب الحقيقة عنها، وهتفت ترد بإحباطٍ ظاهر على ملامحها، وأيضًا ملموس في نبرتها:
-بصي أنا تعبت من الكلام في الحكاية دي، اعملي اللي إنتي عاوزاه، ميخصنيش.

ثم أولتها ظهرها لتكمل عملها في تغليف علبة الهدايا، ورغم الحزن البادي على وجه "همسة" من جمودها معها، إلا أنها تقدمت نحوها، وضعت يدها على ذراعها، وقالت بما يشبه الرجاء:
-أنا عاوزاكي جمبي زي زمان، احنا روح واحدة وآ...
هتفت مقاطعة جملتها المستجدية لمشاعر الأخوة:
-"همسة" أنا ورايا شغل، مش فاضية.

لم تجد الأخيرة بدًا من النقاش معها، ومع ذلك امتدت ذراعاها لتحتضنها من الخلف، أسندت "همسة" رأسها على كتف توأمتها، وأخفضت صوتها قائلة لها بصدقٍ:
-حقك عليك يا "فيرو"، مسمحاكي مهما زعلتي مني، وبأحبك على فكرة أوي.
اقشعر بدنها من كلماتها العفوية، كانت تفتقد إلى حضنها كثيرًا بالرغم من القساوة التي تدعيها، أدارت رأسها نحوها وردت بصوتٍ شبه مهتز محاولة إخفاء تأثرها:
-ممكن تسيبني أكمل شغلي.

أرخت ذراعيها عنها، وتنهدت قائلة:
-حاضر، بس هستناكي نتغدى سوا لما ترجعي البيت.. مش هاكل غير وإنتي معايا، ماشي؟
وقبل أن تعلق بالرفض انسحبت "همسة" من المحل تودعها:
-أشوفك على خير.
نظرت "فيروزة" مطولاً وبعينين مشفقتين نحو الباب الذي خرجت منه توأمتها وقد تهدل كتفاها، ثم نفخت مرددة باستياءٍ، وكأنها تبوح بمشاعرها المخبأة علنًا:
-أنا خايفة عليكي يا "همسة"، وزعلني منك عشان ترجعي عن اللي في راسك.

بنظراتٍ ماكرة ووجه تحتله أمارات الخبث أصغت "بثينة" –التي جاءت لزيارة ابنتها بعد بضعة أيامٍ- للتطورات الحادثة بين ابنتها وزوجها بعد الحادثة الأخيرة التي كادت تكشف مخططتهما اللئيم في استنزاف رجولته بالأدوية المنشطة .. اشتكت "خلود" لوالدتها من حالة الجفاء السائدة بينهما، وهجر "تميم" للفراش بشكلٍ أصابها بالخوف والحنق لليالٍ متواصلة. احترقت شوقًا لأحضانه، كما تلهفت بجنون لحبه النابع منه وليس بمفعول الدواء الذي يثير غرائزه، اغرورقت عيناها بالدمعات الكثيفة، وهتفت متسائلة في حيرة، والحزن العميق يخيم على قلبها:
-يامه ده مش عاوز يقرب مني من ساعة اللي حصل، وبينام في الأوضة التانية، وأنا هاموت ويرجع معايا زي الأول.

زمت شفتيها قائلة بتعابير جادة:
-كله هيتحل، وبعدين هو إنتي عملتي حاجة غلط؟!
أومأت نافية، فواصلت والدتها القول موضحة لها:
-إنتي اتصرفتي صح، وجدعة إنك رستيني على الحوار من أوله...
ثم شددت من نبرتها حين أضافت تنصحها:
-واتكي على النقطة دي كتير، إنك عملتي ده عشان تخلي أخوكي مايعملش الغلط مع بنات الناس، وما تزوديش معاه في الكلام.

ارتفع الكدر في عيني "خلود"، شهقت قائلة بأنفاسٍ متقطعة بسبب بكائها المتزايد:
-أنا قلبي واقع في رجليا من اليوم ده يامه، خايفة يكتشف الحقيقة، ولا أغلط بكلمة توديني في داهية.
قاطعتها حاسمة الأمر بالنسبة لها لتحثها على السيطرة على خوفها:
-يا بت اجمدي كده، وبعدين قولتلك أي مصيبة تحصل لبسيها في أخوكي والبومة اللي اتنيل خطبها، أل يعني هي عاوزة تخرب بينكم عشان تنتقم لأختها، وكتر خيرك إنك بتحاولي تجمعي بينهم.

برقت نظراتها بشكلٍ أظهر قبولها بكلماتها الخبيثة .. ابتسمت "بثينة" مضيفة في مكر:
-وأنا هافهم المحروس جوزك كده بالمحسوس إنه يراعي ربنا فيكي، إنتي ليكي حقوق عليه، والمفروض ما يقصرش معاكي.
هنا هتفت "خلود" ترجوها، وكأن حية لدغتها لتتوقف نوبة بكائها ذعرًا:
-لأ يامه، كده هتعمليلي مشكلة معاه، هو ما بيحبش نتكلم في المواضيع دي مع أي حد، ده لو عرف إني بأحكيلك أي حاجة هيولع فيا!!!!
هزت رأسها معلقة بامتعاضٍ:
-خلاص هاجيبهاله بشكل تاني، إني نفسي أفرح بعوضكم، أظن ده من حقي؟!

وافقت على ذلك، وردت بإيجازٍ:
-ماشي.
لكزتها والدتها في جانب كتفها، وأضافت:
-وبعدين كده روقي، ده إنتي ربنا ساترها معاكي عشان نيتك الصافية.
كفكفت عبراتها المحتجزة في عينيها لترد بعبوسٍ: موافق
-أيوه.. بس هو مش جمبي.

نظرت لها في ضيقٍ قبل أن تشرد لبرهة لتستغرق في أفكارها، وكأنها تسعى لإيجاد الحل السحري الذي يعيد روابط الود والوصــال بينهما، هداها عقلها بعد تفكيرٍ متعمقٍ لحل بسيط، كانت واثقة أنه سيفي بالغرض .. وبثقة واضحة استطردت تقول:
-محلولة يا بت، وحياة مقاصيصي هيلزق فيكي.
أوحت لها تعبيرات والدتها أنها على يقين كامل من صلاحية اقتراحها الغامض، لذا قطبت جبينها متسائلة في فضولٍ متلهفٍ:
-إزاي؟

أجابت مسترسلة:
-استغلي موضوع ولادة أخته وقوليله إنك عاوزة تقعدي مع خالتلك تساعديها، باعتبار إن البت "هاجر" أختك، وماينفعش تسبيها، وبكده إنتي هاتجبريه يبات معاكي في نفس الأوضة، ولما يبقى معاكي لوحده ادلعي عليه، وبكام حركة كده من إياهم هتلاقي الشوق جايبه.
انفرجت أساريرها مبتهجة لحلها، ودون انتظارٍ ارتمت في أحضانها تحتضنها قائلة بما يشبه الثناء:
-الله عليكي يامه، هي دي الحلول، من غيرك ماكنتش هاعرف أتصرف.

ربتت على ظهرها قائلة بتفاخرٍ:
-ده بنتي، هو أنا هابخل عليكي بحاجة؟
ثم أبعدتها عنها، وتابعت بتعبيراتها المهتمة:
-قومي يالا كلميه عشان تعرفيه إنك هتروحي هناك.
ردت واللهفة تملأ قسماتها:
-على طول.

على غير المتوقع، انتهت كلتاهما من إنجاز العمل المطلوب في زمن قياسي، وتبقى فقط جرد النواقص لشرائها في الغد، فرغت "فيروزة" من معاينة ما يخصها وسجلته في ورقة صغيرة، ثم أضافت عليها "علا" ما تحتاجه لتتولى الأخيرة بعد ذلك الاتصــال بالمكتبة للتأكيد على إرســال المطلوب كاملاً، وبعد نصف الساعة كانت الاثنتان تقفان أمام باب المحل بعد إغلاقه .. مدت "فيروزة" يدها بورقة صغيرة مطوية لرفيقتها، وقالت:
-دي ورقة بالحاجات الناقصة، هنراجعهم لما الطلبات توصل الصبح قبل مانستلم الحاجة.

ردت عليها "علا" بإيماءة صغيرة من رأسها:
-أيوه، المرة اللي فاتت كان ناقص الكروت الكبيرة والجليتر.
أكملت حوارها بجديةٍ وهي تعلق حقيبتها على كتفها:
-أنا عاملة حسابي، مش هاخلي صاحب المكتبة يغالطنا تاني.
تفحصت "علا" قفل المحل بدقةٍ لتتأكد من إغلاقه قبل أن تعقب بإيجازٍ:
-تمام.

ثم التفتت نحو "آســر" الذي تساءل عاليًا بمرحٍ:
-أوعوا تكونوا قفلتوا؟
شعت نظراتها بحيوية غريبة بالرغم من اندهاشها لتواجده، أجابته مبتسمة بفرحةٍ ظاهرة عليها:
-"آسر"! حمدلله على السلامة، إنت رجعت امتى؟
أوضح بهدوءٍ وعيناه تتحولان للنظر نحو رفيقتها المتجهمة:
-دي كانت سفرية يومين وخلصت، مالهاش لازمة الأعدة هناك.

حاولت "فيروزة" ألا تتطلع إليه، كان حضوره ثقيلاً عليها، غير مستساغٍ رغم لطفه الزائد، نظرت فقط إلى "علا" التي ردت بابتهاجٍ كبير:
-بصراحة فرحتني أوي يا "آسر"، وأنا مش واخدة على المفاجآت الحلوة دي.
سألهما مجددًا ونظراته تتوزع بينهما:
-إنتو رايحين فين كده؟
جاوبته بعفويةٍ:
-مروحين، خلصنا بدري النهاردة
على الفور استغل الفرصة ليقول بانتشاءٍ معكوس على ملامحه:
-طب اسمحولي أوصلكم.

هنا بادرت "فيروزة" بالرد بتكشيرة متعاظمة:
-ماشي يا "علا"، أنا هاطلع أركب من على أول الشارع، ورايا مشوار كده هاخلصه
نظرت لها في دهشةٍ، وعلقت:
-غريبة؟ إنتي مقولتليش على كده.
ادعت كذبًا:
-راح من بالي يا "لولو"..
ثم تصنعت الابتسام، وتابعت:
-وبعدين مش هاينفع يا "علا"، خليكي إنتي مع الأستاذ، وعشان معطلكوش.

التوت شفتا "آسر" بابتسامته العذبة، اقترح بلطفٍ مستخدمًا يده في الإشارة قاصدًا الضغط عليها لتقبل بعرضه:
-أنا فاضي يا آنسة "فيروزة"، شوفي إنتي حابة تروحي فين وأنا هاوصلك، وبعدين عربيتي موجودة، وأحسن من بهدلة المواصلات.
تقلصت تعبيراتها بوجومٍ أكبر، وقالت دون أن تبتسم:
-شكرًا، أنا طريقي غير طريقك.

رفع عينيه إلى وجهها، بدا فيهما تصميم عجيب على عدم التفريط بها، ثم هتف بإلحاحٍ:
-أنا مُصر، مش هاقبل بالرفض يا آنسة "فيروزة"، مش معقول هتكسفيني كده كل مرة، قولي لصاحبتك يا "علا".
غامت عيناها من أسلوبه المراوغ في إقناعها، بينما تعلقت رفيقتها بذراعها، أسبلت عينيها هامسة بما يشبه الرجاء:
-ماتبقيش بايخة بقى، تعالي يالا، واحنا هنركب سوا.
ضغطت على شفتيها لترد بصوتٍ خافت:
-يا "علا" آ...

قاطعتها بتوسلٍ كبير:
-بليز.. عشان خاطري، أنا عاوزة نكون سوا.
تحرجت من الرفض أمام نظراتها المستعطفة، وقالت بسأمٍ لتعبر عن رضوخها:
-أوف.. طيب.
حلت تعابير السرور على وجه "آسر"، وهتف متغزلاً ونظراته ترتكز على "فيروزة":
-ده أنا أسعد واحد النهاردة، الجميلات هيركبوا معايا في عربيتي المتواضعة.
ورغم عبارته التملقية التي يمكن أن تسعد أي فتاة تتوق لسماع معسول الكلام إلا أن تعبيراتها اِربدت بالعبوس الواجم.

كل المؤشرات رجحت إدانته في مسألة تعاطيه لتلك المنشطات إلا أن "تميم" لم يحبذ مفاتحة ابن خالته في الأمر حتى لا يفقده الثقة في نفسه بعد أن تعهد له بدفن الماضي بما فيه من أمور مخزية، تحرج من سؤاله بشكلٍ مراوغ بعد ملاحظته لتعديل سلوكياته المنحرفة مؤخرًا وتركه لكافة الموبقات، ليدع الأمر جانبًا الآن إلى أن تأتي اللحظة المناسبة .. تحرك بسيارته نحو وجهة محددة، منزل عائلة "همسة" لدعوة أفراد أسرتها لحضور حفل الاحتفال بالمولود الصغير في منزل أبيه "بدير"، ذاك الحفل الذي يُصر الجميع على إقامته، ومع ذلك ذهابه لدعوتهم بشخصه زيارة غير مستحب تواجده فيها لأسبابٍ لم يحاول التطرق لها وإن كان بين نفسه..

فضل البقاء منتظرًا في سيارته على ألا يصعد للأعلى، ليس فقط تجنبًا لرؤية من تسبب له التخبط في أفكاره والارتباك في مشاعره، ولكن لكونه قد حسم الأمر بعدم السماح لنفسه بالالتقاء بـ "فيروزة" تحت أي عذر حتى لا يتمادى في تفكيره غير الجائز بها، أقنع نفسه بضرورة التركيز حاليًا مع ما يصيب استقراره الشخصي والعائلي، وخاصة المشكلات التي نشبت في الآونة الأخيرة مع "خلود"، انتشله من سرحانه المحير والمفعم بالتوتر والإرهاق الذهني صوت "هيثم" المتسائل:
-هتعمل إيه يا "تميم"؟

أجابه باقتضابٍ:
-زي ما أنا.
أعاد تكرار السؤال عليه بصيغة أخرى:
-يعني مش جاي معايا؟
رد نافيًا:
-لأ، مالوش لازمة أطلع.
أشـار بيده معترضًا عليه:
-طب ما إنت أخوها، ولما تيجي منك هاتبقى تقدير كبير ليهم، ودي فرصة نقرب حبال الود بين الجماعة.

زفر مرددًا بوجه مكفهر:
-معلش، أنا مش عاوز أتحشر في أي حاجة، مش ناقص مشاكل، وماتضغطش عليا.
تحدث "هيثم" من زاوية فمه قائلاً:
-براحتك.
امتقع وجهه أكثر وهو يأمره بلهجة خشنة:
-بس ماتطولش فوق، انجز معاهم، كلمتين في السريع.
هز رأسه بالإيجاب قبل أن يترجل من السيارة ليرد:
-طيب.

تتبعه بعينيه وهو يتجه للمدخل حتى اختفى بداخله، نفخ مجددًا في ضجرٍ ليتلفت بعدها حوله ناظرًا بغير تركيز، بحث عن ولاعته في جيبه بعد أن أخرج علبة السجائر .. أشعل "تميم" طرف السيجارة وترجل من سيارته ليستند بذراعه على بابها المفتوح، لفظ دخانها الحارق الذي تشبعت به رئتيه في الهواء، ثم استدار برأسه للجانب ليتابع حركة السيارة الأخرى التي تباطأت في سرعتها ليتمكن من لمح وجهها من النافذة الخلفية، خفق قلبه بقوةٍ وارتبك بدنه، دومًا لها تأثير السحر عليه بالرغم من كافة السبل التي يبذلها لمقاومتها، ازدرد ريقه ودقق النظر فيها وقد فتحت "فيروزة" بابها وأطلت بعنفوانها المحفز لحواسه، تحولت نظراته الفضولية لجمرات متقدة حين أبصر "آســر" يترجل من الأمام وتلك الابتسامة السمجة تزين وجهه، قست ملامحه وتوحشت عيناه سائلاً نفسه باستنكارٍ بيِّن:
-إيه ده؟ هي بتعمل إيه معاه ...؟!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني الحلقة الثالثة بقلم منال سالم



لم تنخفض نظراته عنها طــوال الطريق المؤدي إلى منزلها، كان يراقبها بإمعانٍ، ابتسامته اللبقة احتلت قسمات وجهه وهو يدعي متابعته لحديث "علا" الأجوف، لكن عقله وكامل حواسه كانت تركز معها فقط، وكأنه يحفظ ما يخصها ليحفره في ذاكرته. شعر "آسر" بالانزعاج لكون مهمته قد انتهت بإيصالها، بدا ذلك مرئيًا على خلجاته، انتفض مترجلاً من سيارته حين ترجلت "فيروزة" منها، لحقها قبل أن تتجه للرصيف متسائلاً، ودون أن ينتبه لمن يقسو عليه من الخلف بنظراته المحتقنة:
-هاشوفك تاني؟


 
التفتت "فيروزة" نحوه متعجبة من سؤاله الغريب، غطى وجهها الوجوم وهي ترد باستنكارٍ:
-أفندم؟! مش فاهمة معنى كلامك؟
صحح مقصده ليقول مبتسمًا وقد دار حول مؤخرة السيارة ليصبح مواجهًا لها:
-يعني إنتي موجودة مع "علا" دايمًا، صح.
مطت شفتيها في امتعاضٍ، وزفرت ترد باقتضابٍ غامض:
-ربنا يسهل.
مــد يده ليصافحها قائلاً:
-عمومًا هيبقى من حظي إن أقابلك.


 
نظرت ليده مطولاً ونظراتها المنزعجة لم تفارق عينيها، وقبل أن تفكر في تبادل المصافحة معه منعًا لإحراجه، امتدت يد "تميم" لتقبض على كفه، اعتصره بأصابعه القوية مرحبًا به:
-منور حتتنا يا أستاذ.
اختفت مظاهر السرور من تعبيراته، وتطلع إليه في استغرابٍ مزعوج، ثم رد متسائلاً وهو يحاول سحب يده من قبضته الشديدة:
-إنت مين؟
دقق "آسر" النظر فيه متفرسًا في وجهه المألوف قبل أن يتابع:
-أنا تقريبًا شوفتك قبل كده! بس مش فاكر فين.


 
تعمد التحقير من شأنه كي لا يعطيه قيمة بالرغم من تذكره لملامحه المتجهمة، بينما حلت الدهشة على "فيروزة" التي تفاجأت هي الأخرى بوجود "تميم"، تلقائيًا انخفضت عيناها لتتأمل يده القابضة على كف "آسر"، والأخير يحاول جاهدًا جذبها منه في يأسٍ، تقوست شفتاها قليلاً بابتسامة ساخرة من إحراجه أخفتها سريعًا قبل أن يلاحظها أحدهما، فالاثنان يليقان ببعضهما البعض، تصنعت الجمود وتركزت عيناها مع "تميم" عندما استطرد قائلاً بصوته الأجش:
-افتكرني كويس، أنا المعلم "تميم سلطان".

هز "آسر" رأسه بإيماءة بدت مستهزأة به، وقال بنصف ابتسامة:
-تشرفنا.
ثم التفت نحو "فيروزة" ليخاطبها:
-لو عوزتي أي حاجة يا آنسة فأنا تحت أمرك.
نظرت له بحدة وهي ترد:
-شكرًا، مش محتاجة لحد.
تنحنح معقبًا:
-طيب عن إذنك.
تحركت عينا "فيروزة" نحو زجاج السيارة حين سمعت رفيقتها تودعها:
-باي يا "فيرو"، أشوفك بكرة.
ابتسمت مجاملة وهي ترد:
-إن شاءالله.


 
لوح "آسر" بيده لها قبل أن يستدير متجهًا إلى سيارته ليستقلها، بينما تحركت "فيروزة" مبتعدة عن "تميم" لتصعد على الرصيف، انتفضت كليًا في ضيقٍ عندما اعترض الأخير طريقها بجسده، رفعت عينيها إليه وهتفت فيه، وكأنها تأمره:
-في حاجة يا معلم؟ يا ريت وسع من طريقي
-يصح اللي عملتيه ده يا أبلة؟
كتفت ساعديها متسائلة بأسلوب هجومي، ونظراتها النارية تنفذ إليه:
-عملت إيه؟

أجابها بضيقٍ غير مفهومٍ بالنسبة له:
-ماينفعش تنزلي من عربية واحد غريب، احنا في حتة شعبية، ومليانة رجالة ولاد بلد.
انقلبت تعبيراتها لعبوس أكبر، وعلقت بتهكمٍ:
-لا والله!
تابع مبررًا بعبارات منتقاة بعناية حتى لا تسيء فهمه:
-مش عاوزين حد ياخد فكرة عنك وحشة لو شافك معاه..


 
صمتت "فيروزة" لتتأمله في دهشة مستنكرة، فالتقت النظرات المتوترة بالعينين العميقتين، اهتز كيانه بشكلٍ عاصف مما زاد من تخبطه، استجمع "تميم" أفكاره التي تطايرت من رأسه أمام نظراتها المباشرة والنافذة إليه، وقال بصوتٍ بدا مذبذبًا لكنه عبر عن صدق نواياه، وربما مشاعره:
-الناس مابترحمش، وأنا خايف عـ.. عليكي .. قصدي كلامهم ما آ...

ارتخى ساعداها، وقاطعته قبل أن يتمادى في سرد أعذار ترفضها كليًا مشيرة بيدها:
-ولو إني مش المفروض أرد عليك ولا حتى أبررلك إنت أو غيرك تصرفاتي، بس أنا مكونتش لوحدي معاه ولا أعدة جمبه، صاحبتي كانت موجودة.. واضطريت أركب، ارتحت كده:
تنحنح مرددًا بنبرة موجزة سبقتها تنهيدة سريعة:
-كويس يا أبلة.

غمغمت في تبرمٍ:
-يادي كلمة أبلة اللي طالعلي بيها.
سألها والدهشة تعتريه:
-هي بتضايقك؟
عقدت حاجبيها في استغرابٍ وهي توجه الحديث لنفسها بنفاذ صبر وبصوتٍ مسموع:
-أنا وافقة معاك ليه، عن إذنك؟
تجاوزته لتعبر الرصيف وتتجه إلى مدخل بيتها، تابعها "تميم" حتى اختفت عن أنظاره ليتساءل مع نفسه بما يشبه السخرية:
-يعني أقولك إيه؟ "فيروزة" حــاف؟!!


 
التقى بها "هيثم" أثناء خروجه، رمقها بنظرة حذرة وهو يســرع الخطى ليتجنبها، تنهد في ارتياح وهو يقول:
-الحمدلله خلصت مهمتي قبل ما تيجي، كان زمانها قفلت كل السكك في وشي، ده إن مكانش طردتني.
رد عليه "تميم" معترضًا بأسلوب مازح:
-دي قلبها طيب.
هتف في استنكارٍ تام:
-دي؟ يا عم قول كلام تاني...

ضاقت عينا "هيثم" متسائلاً في اهتمامٍ فضولي:
-هو إنت اتكلمت معاها؟
أجابه نافيًا وقد ظهرت ربكة طفيفة عليه:
-كلام إيه يا ابني، هي بتدي فرصة لحد يبلع ريقه حتى!
وافقه الرأي معلقًا عليه:
-على رأيك.
وكزه "تميم" بخفة في جانب ذراعه ليحثه على التحرك قائلاً:
-بينا من هنا، وخلينا نشوف شغلنا.

-طيب.
قالها "هيثم" وهو يفتح باب السيارة ليستقر في مقعده قبل أن يجلس ابن خالته إلى جواره ونظراته لا تطاوعه، ما زالت تبحث عن طيفها لتشبع تلك الرغبة المتأصلة في إدراكه، تلك التي يسعى لكبتها قبل أن تتفاقم وتخرج عن السيطرة.

نظرة متأنية ألقتها على المكان بمجرد أن وطأته مع خطيبها الذي أصر على دعوتها لتناول الطعام معه بالخــارج بعد استئذان والدتها، ثم القيام بنزهة سيرًا على الأقدام في منطقة الكورنيش، أشــار "هيثم" بيده نحو مائدة منزوية في نهاية المطعم وبالقرب من شاشة التلفاز، اتجهت "همسة" إلى حيث أرشدها وجلست قبالته، أمسك الأول بقائمة الطعام وتصفحها بنظرات سريعة وهو يسألها:
-نفسك تاكلي إيه؟

أجابته بحيرة ظاهرة عليها:
-أي حاجة؟ كله كويس.
نحى القائمة جانبًا، وقال ببساطة:
-بصي أنا ماليش في الأسماء المكلكعة اللي مكتوبة هنا، إيه رأيك ناكل مشكل مشاوي؟
ابتسمت وهي تومئ برأسها موافقة:
-ماشي.

استدعى "هيثم" النادل بإشارة من يده فأتى إليه الأخير وسجل في ورقة صغيرة طلبهما لينصرف بعدها، تنهدت "همسة" مضيفة بحماسٍ:
-على فكرة "فيروزة" رجعت تكلم تاني معايا.
لم يظهر على وجهه علامات الرضا وهو يستمع إلى جملتها الأخيرة، فرك طرف ذقنه متسائلاً بقليلٍ من التجهم:
-خير، وعلى كده هتحضر معاكي السبوع؟
هزت كتفيها تجيبه:
-مش عارفة، ماما هتقولها، وإن شاء الله توافق.

دمدم مع نفسه بصوتٍ خفيض:
-يكون أحسن إنها ماتجيش، مش ناقصة نكد.
أحضر النادل أصناف الطعام المطلوبة، وشرع كلاهما في تناوله مع تبادل الأحاديث الودية اللطيفة .. طرأ في بال "همسة" شيء ما، لذا تركت شوكتها واستندت بمرفقيها على الطاولة، ركزت أنظارها مع خطيبها، وقالت:
-أما جت في دماغي حتة فكرة، لو ظبطت معانا هتحسن علاقتك بأختي.

رمقها بنظرة حائرة قبل أن يسألها:
-فكرة إيه دي؟
أوضحت له بابتسامتها المتحمسة:
-دلوقتي "فيروزة" شغالة في محل بيعمل هدايا وبيجهز حاجات السبوع، إيه رأيك لو تخلوها هي اللي تعمل حاجة المولود قريبكم؟
بدا غير مستوعبٍ لما تقصده من إشراكها في الأمر، واستفهم منها:
-مش فاهم، يعني عاوزاها تعمل إيه؟

لوحت بكف يدها متابعة عن ثقة اكتسبتها وقد تخمرت الفكرة أكثر في رأسها:
-هاوضحلك أكتر، وصدقني ده هيفيدك جدًا، بس تعمل اللي هاقولك عليه بالظبط.
هز رأسه موافقًا وهو يرد:
-ماشي.

كان اقتراحها بسيطًا للغاية؛ الذهاب لمحل الهدايا الذي تعمل به توأمتها والإصرار على شراء ما يلزم المولود الجديد من أشياء تُستخدم خلال حفل (السبوع) منه، مع الإشادة بمجهود "فيروزة"، تفانيها، ودقتها في العمل لتشعر بالحرج من الإطراء الذي تتلقاه منه تحديدًا، وفي نفس الوقت تُمحى أي ضغائن سابقة ليبدأ كلاهما صفحة جديدة .. لم يكن من اليسير عليه أن ينفذ فكرتها بحذافيرها دون اللجوء لمساعدته، وبرجاءٍ أقرب للتوسل طلب "هيثم" مساعدة ابن خالته في تلك المسألة التي اعتبرها مصيرية، قَبَل "تميم" على مضضٍ الذهاب معه، ليس محبة فيه، لكن إشباعًا لتلك الرغبة المُلحة التي تستحثه على رؤيتها تحت أي ظرف..،

استنكر انسياقه وراء نزوة عابرة احتلت لا وعيه وباتت تنغص عليه وعيه، نزوةٌ خيالية هو طرفها الوحيد، يعيش تفاصيلها بمفرده وبين جوارحه خلسة وفي أحلامه المحظورة .. قاوم تلك المشاعر غير المألوفة عليه مُجبرًا نفسه على مواجهتها ليثبت أنها من محض خيالاته المحرمة. قبيل العصر اتجه الاثنان إلى المحل .. تطلعا إلى الواجهات المختلفة للمحــال التي تتجاور فيما بينها في ذلك الشارع الحيوي، تساءل "تميم" بجدية وإرهاق:
-هو ده المكان؟ متأكد منه يعني؟

حك مؤخرة عنقه قائلاً بترددٍ:
-مش عارف، بس مافيش إلا هو في الحتة...
ثم أشــار بيده نحو اللافتة، وواصل القول:
-مكتوب عليه هدايا أهوو.
كان يعلم أنها ضيقة الصدر، تميل للتشاجر، وربما رؤيته ستجدد تلك النزعات الكارهة نحوه، نفخ "تميم" بزفيرٍ طويل قبل أن يرد عليه متسائلاً:
-أنا مش عارف إنت ليه حاشرني معاك؟!
أجابه بمنطقية بحتة:
-المرادي لازم تبقى موجود، إنت خال المولود، يعني الكلام جاي منك على طول، مش من حد تاني ...

وضع يده على كتفه وأكمل بوجه بائس:
-وبعدين اقف جمبي في الخدمة دي، خلي الجوازة تكمل.
ضغط "تميم" على شفتيه قائلاً بضيقٍ:
-إنت بتورطني، وأنا مش عاوز كده.
رد عليه "هيثم" ونظراته مسلطة عليه:
-اعتبرها بجميلة معايا، ومردودالك.
تنفس بعمقٍ ليعلق بعدها بنبرة موجزة:
-يا مسهل.

شحذ "تميم" كامل قواه ليتقدم بعدها في اتجاه باب المحل، دفعه بيده، وولج للداخل ملقيًا التحية:
-سلامو عليكم.
بحثت عيناه سريعًا عنها، لكن كان المكان خاليًا من حضورها مما أصابه بالإحباط، التفت برأسه للجانب حين ردت عليه "علا":
-وعليكم السلام، أي خدمة؟
يبدو أنها لم تتعرف إلى شخصه بالرغم من تذكره لوجهها، تنحنح متسائلاً بوجهه الجاد:
-أومال فين الأبلة؟
زوت ما بين حاجبيها متسائلة في حيرة:
-أبلة مين؟

تدخل "هيثم" في الحوار ليوضح أكثر:
-بصي .. أنا خطيبتي "همسة" أختها شغالة هنا.
ابتسمت "علا" قائلة لكليهما ونظراتها تتجول عليهما:
-قصدكم "فيروزة"؟ هي في مشوار وجاية، تحبوا تستنوها؟ أنا ممكن أساعدكم لو في حاجة ضروري.
وقبل أن يكمل "هيثم" حديثه فُتح الباب مجددًا لتطل "فيروزة" بوجهها المشدود شاكية بتذمرٍ:
-يا ربي على الزحمة، مش ممكن، الواحد مش عارف الناس دي كلها جاية منين.
رفعت عيناها نحو الاثنين المحدقين بها، حلت بها الصدمة، ونطقت في دهشة عجيبة:
-إنتو؟

لا يدري لماذا تصيبه تلك الربكة في حضورها، كانت قادرة على إفساد ترتيباته، وكلما أعد نفسه للمواجهة فشل قبل أن يحاول، حتى أن تأثيرها قد امتد ليؤثر على جسده، شعر بتقلصات في معدته، بعدم انتظام أنفاسه .. تركزت أنظار "فيروزة" معه، حدقت فيه مطولاً، وكأنها تريد النفاذ لداخله، انتظرت أن يبادر بتفسير سبب تواجده، لكنه استطرد يقول ببلاهة:
-صباحك فل.

ضغطت على شفتيها تسأله بنبرة عملية بحتة:
-خير، في حاجة؟
رد عليها "هيثم"، وتعابيره توحي بانزعاجه:
-احنا جايين في شغل؟
رفعت حاجبها للأعلى مرددة في استغرابٍ وهي تتجه إلى الطاولة المستطيلة لتسند عليها الحقائب التي تحملها في يديها:
-شغل؟!!
هز برأسه مؤكدًا وهو يرد:
-أيوه، طبعًا..
ثم دفع بيده ابن خالته حين أضاف:
-ماتقولها يا "تميم".

خشي الأخير أن تتبين مدى الارتباك الواضح عليه، غالب حالة التخبط المتمكنة منه باحثًا عن خيط يبدأ به حديثه، وكأن الكلمات قد فرت من على طرف لسانه كفرار الطريدة من الأسد المتربص بها.. ساعده انشغالها بترتيب الحقائب على تصفية ذهنه، استنشق الهواء بعمقٍ، ثم قال بلجلجة محسوسة:
-بصي.. احنا عندنا سبوع و.. كنا عاوزين نشوف إيه المطلوب واللي المفروض يتعمل فيه.
هزت رأسها في تفهم لترد دون أن تنظر إليه:
-تمام.

أضـاف "هيثم" موضحًا أكثر ليظهر جديته في الأمر مثلما أخبرته "همسة":
-السبوع ده بتاع ابن أخته حبيبنا كلنا..
وتابع موجهًا سؤاله لـ "تميم":
-صح ولا إيه يا خال؟
لعق شفتيه وحرك رأسه قائلاً:
-مظبوط.
ردت باقتضاب تهنئه وقد استدارت كليًا لتنظر إليه:
-مبروك.

وكأن طاقة عظيمة من المشاعر المستثارة قد نفذت إليه لتضاعف من الاضطراب الدائر بداخله، اكتفى بإشارة خفيفة من رأسه، بينما تساءلت "فيروزة" باهتمامٍ وهي تدون ما يقوله في مفكرة صغيرة:
-طيب إنتو عايزين إيه بالظبط؟
تبادل "تميم" مع "هيثم" نظرات حائرة وهمهمات خافتة لتعبر عن تخبطهما .. تدخلت "علا" في الحوار مقترحة:
-في أوبشنز كتير عندنا، ممكن أقولهالكم باختصار لو تحبوا.
التفت "هيثم" نحوها ليعلق:
-احنا عايزين أحسن حاجة.
أشارت "علا" بيدها متابعة:
-أوكي، في حاجات ممكن أوريهالك وإنت تقولي رأيك تنفع أو لأ.

قال في استحسانٍ:
-إن كان كده ماشي.
ثم مال على ابن خالته يسأله:
-هاتيجي معايا يا "تميم".
تنحنح قائلاً بصوت متحشرج:
-أيوه.

منحها نظرة أخيرة مهتمة قبل أن يسير بخطوات متكاسلة نحو الجانب الآخر من المحل حيث المعروضات التي تخص المواليد الذكور، ساعدتهما "علا" كثيرًا في مسعاهما، وبقيت تلك النظرات الخاطفة عليها من آن لآخر وسيلته المتاحة ليملي عينيه منها، وكأن القلب ينتعش بها. أفسد متعته السرية مجددًا حضور "آسر"، والذي على ما يبدو اعتاد المجيء إلى المحل، اِربد وجهه بالضيق الشديد حين هتف بسماجة ليمدح الشابتين:
-قمرات المكان.

تركت "علا" ما في يدها بعد أن رأته، اعتذرت مبتسمة بتلهفٍ ونظراتها تتجه إليه:
-آ..خدوا فكرة وأنا رجعالكم، عن إذنكم.
استدار "هيثم" لينظر إلى حيث تحدق، وتساءل بصوتٍ خفيض:
-هو مش ده الرخم إياه؟
رد عليه "هيثم" بعبوسٍ غلف كامل تعابيره:
-أه هو.
وقفت "علا" أمامه تتغنج في مرح قبل أن تقول:
-"آسر"، أنا كده هاتغر، إنت كل يوم عندي.

ابتسم موضحًا بأسلوبه اللبق في الحوار:
-أصلي حبيت المكان هنا، وكمان لما بألاقي نفسي فاضي بأعدي عليكم، يعني معرفش غيركم بصراحة.
هتفت بأنفاس منفعلة في سرور:
-أنا بصراحة مبسوطة أوي إنك بتعمل كده.
انخفضت عيناها نحو يده التي أخرجت بلَّورة بها ثنائي متحابين يجلسان على فرع شجرة تدور وتنير حين تضغط على زر صغير بأسفلها، قدمها لها قائلاً:
-اتفضلي.

عضت على شفتها السفلى في رقة، وسألته بوجه متورد:
-إيه دي؟
أخرج "آسر" واحدة أخرى من الحقيبة، وثبت عيناه على "فيروزة" متابعًا بهدوءٍ:
-دول هدايا كنت جيبهالكم من آخر سفرية بس ملحقتش أديهالكم.
ردت "علا" تشكره بامتنانٍ:
-ميرسي أوي يا "آسر"، مكانش ليه لزوم.
ابتسم مجاملاً لها، وسار نحو رفيقتها ليقدم لها هديتها قائلاً بتهذيبٍ:
-اتفضلي يا آنسة "فيروزة"، دي عشانك.

نظرت له بحدةٍ، ورفضت بجمودٍ:
-شكرًا مش عاوزة.
ألح عليها بلباقةٍ وقد أسبل عيناه:
-مش هاقبل تكسفيني، ده تذكار بسيط، والنبي قبل الهدية.
تابع "تميم" المشهد من الخلف وذلك الغليان يستعر بداخله، كان يتعاظم مع سماجة "آسر" المتزايدة، بدت كالحنط في الجوف، همس لنفسه بحنقٍ متوعد وهو يكور قبضته:
-خديها منه وإديهاله في نافوخه.
أسند "آسر" البلَّورة على الطاولة التي تخصها، لم تبتسم له، وحذرته بلهجة لا تمزح:
-كتر خيرك، بس يا ريت متكررهاش.
-حاضر.

قالها وقد تقوست شفتاه عن بسمة صغيرة، ثم استدار ليتحدث مع "علا" التي كانت تستعلم منه عن مسألة ما، في حين ارتكزت أنظار "تميم" على البلَّورة، استحوذ على تفكيره المزيد من الأفكار السوداوية تجاهه، تنتهي كلها بتحطيمها فوق رأس ذاك السخيف، أحس بشيء مزعج يجثم على صدره ويستحثه على تنفيذ ما يدور في رأسه ليفرغ تلك الشحنة العدائية المتعاظمة بداخله، خرج من تحديقه الغاضب بالبلَّورة على صوت "فيروزة" المتسائل:
-عاوز كام كارت كبير؟

نظر بترددٍ لابن خالته، مال الأخير عليه يهمس له:
-إنت عاوز كام تقريبًا.
حاول "تميم" بحسبة سريعة إجرائها في عقله احتساب العدد المطلوب تقريبًا، ثم تقدم نحوها وتلك الابتسامة العبثية ترتسم على شفتيه، ففكرة أخرى ماكرة راودته للتو، ونفذها ببساطة، وقف قبالتها ولوح بظهر كفه قائلاً:
-تقريبًا خمسين كارت..

حينها دفع –وعن قصدٍ- البلَّورة لتسقط عن الطاولة ويتهشم زجاجها ليبدو وكأنه لم يفعل ذلك عمدًا، أحدث صوت تحطيمها ضجة كبيرة، ناهيك عن الفوضى التي عاثت في المكان، وبابتسامة منتصرة هتف معتذرًا:
-لا مؤاخذة، مقصدش.
انتفض "هيثم" مرددًا في صدمة:
-يا ساتر، في إيه؟
ردت فيروزة عليه بوجهٍ غير غاضب، وكأنها استراحت لتخلصها منها:
-حصل خير.

أضــاف "تميم" بعفويةٍ:
-يالا أهي خدت الشر وراحت.
تحرك "آســر" في اتجاهه ليتفاجئ بتهشيم بلَّورته، تشنجت عروقه، واختلج وجهه بغضبٍ مبرر، ثم صـــاح يسأله في حدة حانقة:
-إنت عملت إيه؟
رد "تميم" ببرود استفزه:
-ولا حاجة
هدر به في غيظٍ تضاعف بعد نظراته الشامتة الظاهرة عليه:
-إنت أصلاً بتعمل إيه هنا؟
أجابه "تميم" بسخطٍ، وعيناه تحذراه من غضبته الوشيكة إن استمر في مناطحته الند بالند:
-هو ممنوع ولا نيجي هنا ولا حاجة يا كابتن؟

رد عليه بوقاحةٍ متعمدًا ازدرائه بنظراته الاحتقارية:
-لأ.. بس واضح إن في ناس مابتفهمش في الذوق
لكزه "تميم" في كتفه بقساوة وهو يرد:
-نعم ياخويا؟ الكلام ده ليا؟
تدخلت "علا" في الحوار قبل أن يتطور لمشادة كلامية:
-دول زباين يا "آسر"، أنا هاشوف طلباتهم، متضايقش نفسك..

والتفتت تنظر إلى "فيروزة" لتتعامل مع الموقف، خاصة أنهما على صلة بها، ادعت الأخيرة الابتسام، واعتذرت بلطفٍ بدا مصطنعًا:
-خلاص يا أستاذ "آسر"، حصل خير، أكيد مايقصدش.
تنفس بعمقٍ ليكبح غضبه، وقال وعيناه تقدحان بالشر لـ "تميم":
-مافيش مشكلة، هاجيبلك مكانها.
أشــارت بكفها رافضة:
-متكلفش نفسك.

تنحنحت "علا" بصوتٍ مرتفع، وقالت وهي تشير بيده:
-اتفضل معايا يا أستاذ عشان نعمل الفاتورة.
-طيب.
قالها دون أن يبعد نظراته المتشفية عن وجه ذاك السمج، وقبل أن يتبعها مال عليه برأسه ليخبره بصوتٍ خفيض، وبما يشبه النصيحة:
-خدها مني كلمة، الحاجات اللي زي كده آخرها الزبالة.

اشتعلت عينا "آسر" على الأخير عقب جملته تلك، بينما بدا "تميم" مستمتعًا بتخريب هديته وتعكير مزاجه، راقبه بصدرٍ مغلول إلى أن ابتعد عنه ليغمغم بين أسنانه يسبه في حقدٍ ظاهر عليه:
-بني آدم مستفز ...!
يتبع..


رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني الحلقة الرابعة بقلم منال سالم


سحبت شعرها الذي تناثر أسفل بلوزتها المنزلية لتجمع خصلاته معًا وعقدته كعكة أعلى رأسها، ثم التفتت نحو الفراش لتلتقط ثيابها الملاقاة عليه ووضعتها في السلة الخاصة بالملابس المتسخة. لمحت "فيروزة" توأمتها وهي تختلس النظرات من باب الغرفة، بالطبع كانت تتشوق لمعرفة نتائج المقابلة المدبرة مع "هيثم" وابن خالته، جلست على طرف الفراش تطالعها بنظراتها المتفرسة فيها، تقدمت "همسة" نحوها وهي تفرك يديها معًا، في حين استطردت الأولى تفاتحها في الحديث:
-مكانش ليها لازمة الحركة دي يا "همسة"، باينة أوي على فكرة.


 
ابتلعت ريقها، وعلقت بتباطؤ محاولة البحث عن كذبة جيدة لتنطلي عليها:
-هو "هيثم" كان.. بيسأل.. عن حد بيعمل هدايا السبوع.
قالت بتهكمٍ:
-على أساس إن مافيش غيرنا في البلد؟!
عضت على شفتها السفلى في ربكة أكبر، وهتفت مبررة:
-ما هو.. يعني.. إنتي أولى.. والحكاية جت بالصدفة.
لوت ثغرها مرددة بنفس الأسلوب الساخر:
-بجد؟ صدفة؟


 
ابتسمت "همسة" مضيفة وهي تجلس إلى جوارها:
-إنتي مكبرة الموضوع ليه يا "فيروزة"؟ دول زباين زي أي حد.
رمقت توأمتها بنظرة متشككة نفذت إليها، وردت عليها بجدية:
-عمومًا بلغيه يجي يستلمها بنفسه، مش لازم البودي جارد بتاعه.
تطلعت إليها في حيرة، وسألتها مستفهمة:
-قصدك مين؟


 
أجابتها بنبرة تعمدت تفخيمها لتسخر منه:
-هايكون مين غيره، سبع الليل المعلم "تميم".
دافعت عنه "همسة":
-تعرفي إن "هيثم" على طول بيشكر فيه وبيقول عليه جدع وابن بلد وآ....
قاطعتها بنبرة ناقمة وقد قست نظراتها:
-"همسة" الظاهر إنك بتنسي بسرعة، اللي بتقولي عليه جدع ده هو السبب في كل المشاكل اللي وقعنا فيها.


 
نظرت لها توأمتها في خجلٍ، كانت مصيبة في قولها، بينما تابعت "فيروزة" الإفراج عن مكنونات صدرها لتذكرها بما غفلت عنه:
-عاوزاني أصدق إنه ابن بلد وإنتي شوفتي البلطجية بتوعه عملوا فينا إيه؟ دول حرقوا عربيتنا ومحدش قدر يفتح بؤه، مش عشان هو جدع وابن أصول، لأ عشانه بلطجي ودي العينة اللي مصاحبها..
غلف صوتها المزيد من المرارة والألم وهي تكمل:
-حتى حقي مخدتهوش منه، ده أنا اتنازلت عنه مُجبرة بعد ما خالك عدمني العافية..

نكست "همسة" رأسها في خزيٍ، وأضافت "فيروزة" بصوتها الذي اختنق:
-وإنتي نفسك خطوبتك مكانتش بالرضا، فاكرة حصلت إزاي؟ بالإجبار يا "همسة"، بالإجبار!
انتفضت واقفة لتقول برجاءٍ:
-كفاية يا "فيروزة".
نهضت واقفة هي الأخرى، وأمسكت بها من كتفيها لتديرها إليها، ثم نظرت في عينيها لتقول بجمود اكتسبته نبرتها:
-دي الحقيقة اللي إنتي بتحاولي تخليني أنساها، وأتعامل معاهم عادي، بس للأسف مش نافع.


 
ورغم إحساس القهر الذي يعتريها إلا أنها ردت:
-انسي الماضي باللي فيه، وجايز اللي جاي يكون أحسن.
تساءلت في استنكارٍ:
-بأمارة إيه معلش؟!!!
تبادلت كلتاهما نظرات مطولة متناقضة، فالأولى رافضة لمبدأ التسامح مع من تسبب لها في الأذى، والثانية تميل للخنوع والاستكانة.. وقفت والدتهما عند أعتاب الغرفة متسائلة في استغرابٍ حين رأتهما على تلك الحالة:
-في إيه يا بنات؟

التفتت "همسة" برأسها نحوها، وأنهت المناقشة قائلة:
-مافيش يا ماما.
تراجعت "فيروزة" عن توأمتها لتعاود الجلوس على طرف الفراش، وظلت الأخيرة واقفة تستمع إلى والدتها التي استأنفت كلامها:
-طب تعالوا .. مرات خالكوا برا
وضعت "حمدية" يدها على كتف شقيقة زوجها، وقالت مبتسمة بسماجةٍ:
-ويجوا ليه؟ هو أنا غريبة، دول بناتي.


 
سلطت أنظارها عليهما قبل أن تلج للغرفة لتلقي نظرات متفحصة على محتوياتها، وهتفت في لؤمٍ:
-سمعت إنكم رايحين السبوع حفيد المعلم "بدير"، وطبعًا احنا معاكو.
نفخت "فيروزة" في ســأم، وعلقت هامسة بتبرمٍ:
-يا ربي، أنا مش نقصاها.

وضعت "حمدية" ذراعها على "همسة"، وسألتها بنظرات غريبة غامضة:
-"هموستي" حبيبتي، هو إنتي هتلبسي شبكتك؟
لم تفهم المغزى من سؤالها، وأجابت وهي تهز كتفيها بالنفي:
-معتقدش.

برقت عيناها بوهجٍ ماكر وهي تستأذنها بلطفٍ مبالغ فيه لا يتماشى مع شخصيتها:
-طب أنا كنت عاوزة أستلف منك السلسلة ألبسها يومها؟ ماشي يا حبيبتي..
ثم تصنعت العبوس، وأكملت بأسلوبها الناعم الملتوي المراوغ في الحديث لتحصل على مبتغاها:
-لأحسن معنديش حاجة تليق، برضوه لازم نظهر قصاد نسايبنا إننا نملى العين،ولا إيه رأيك يا "آمنة"؟

اندهشت "همسة" من وقاحتها التي لا يضاهيها شيء، ونظرت إلى والدتها منتظرة تدخلها لحسم الأمر حتى لا تختلق مشكلة معها من لا شيء، لكن الأخيرة ألقت الكُرة في ملعبها حرجًا منها، واستطردت تقول:
-مش عارفة يا "حمدية"، دي حاجة "همسة"، هي اللي تقول.
زوت ما بين حاجبيها بقوةٍ، وغمغمت محتجة بتأفف:
-هو أنا هسرقها؟ ده الحاجة معايا تزيد يا "آمنة".. جرى إيه؟

لم تجد "فيروزة" بدًا من إحراجها حين رأت التردد على وجهي كلتيهما، فتشدقت متسائلة بما يشبه السخرية:
-تفتكري يا مرات خالي لما نسايبنا المبجلين يلاقوكي لابسة شبكة "همسة" هيقولوا إيه؟!
تجاهلت الرد على سؤالها، وصاحت بتذمرٍ:
-قولوا إنكم مستخسرينها فيا؟
ردت عليها تواجهها ونظرات الازدراء تعلو حدقتيها:
-لأ يا مرات خالي، بس مش هاينفع، فكري فيها كويس.

سددت لها "حمدية" نظرة نارية مغتاظة منها تود خنقها، وهتفت بتكشيرة عظيمة:
-ماشي بشوقكم.
ثم اتجهت للخــارج فتبعتها "آمنة" على الفور لتسألها:
-رايحة فين يا "حمدية"؟ ده أنا علقت على الشاي و...
قاطعتها بتجهمٍ كبير ملوحة بذراعها:
-طالعة بيتي، نفسي اتسدت.
ضربت "فيروزة" كفها بالآخر مبتسمة في سخطٍ قبل أن تعلق على الموقف برمته:
-أنا مشوفتش في بجاحتها الصراحة.
شاركتها "همسة" الابتسام وردت:
-معاكي حق.

يومــان آخران انقضيا عليها في المحل وقد أكملت كل ما كُلفت به من مهام لتصبح كافة الطلبيات جاهزة للتسليم، تركتها "علا" بمفردها في المحل لتبتاع النواقص، وتابعت "فيروزة" ترتيب الرفوف العلوية بالجديد من المعروضــات لتلفت أنظار الزبائن حين يزورون المحل، لم تنتبه لذاك الذي وطـأ المكان في ميعاده المحدد مُسبقًا لرؤيتها وهي تقف على الكرسي الخشبي توليه ظهرها، وكأن تركيزها بالكامل منصب على ما تفعله..

خفقة موترة داعبت قلب "تميم" حين رأها بجسدها المشدود أمامه بمجرد دخوله وبحث عيناه عنها، أخفض نظراته في حرجٍ، وتنفس بعمقٍ ليثبط تلك المشاعر التي استيقظت فجــأة بداخله، وحدها من تفعل به ذلك رغم الجهد العنيف الذي يبذله لوأد تلك الأحاسيس التي أصبحت ملازمة له في حضورها، وكلما قاومها أصرت ألا تستسلم وتعاود الظهور كل مرةٍ بشكل يفوق المرة السابقة ليصبح أكثر انجذابًا إليها .. لعق شفتيه وازدرد ريقه في حلقه الجاف متسائلاً مع نفسه في تخبطٍ ملحوظٍ عليه:
-أناديها يا أبلة زي تملي ولا أقولها يا.. عروسة؟

التوى ثغره بابتسامة صغيرة متابعًا حديث نفسه بمرحٍ:
-وساعتها هتفتكرني بأعاكسها وتسود عيشتي، وأنا واخد كفايتي منها.
تأهب في وقفته وتحفزت حواسه حين هتفت فجأة دون أن تنظر إليه وذراعها ممتد للخلف:
-امسكي يا "علا".

اكتست تعابيره بعلامات التردد، تفقه ذهنه لكونها تعتقد أنه رفيقتها في العمل، وليس أحد العملاء، كان يخشى من ردة فعلها إن أدركت وجوده خلفه، ربما سيختل توازنها وتسقط عن المقعد إن صحح خطئها، أو ربما ستقذفه بشيء في وجهه لتشتيت انتباهها .. تدارك الموقف ولازم الصمت، ثم مد يده ليتناول منها العلبة دون أن ينطق بكلمة واحدة تعبر عن كينونته، بينما تابعت "فيروزة" من تلقاء نفسها:
-كده عاوزين نجيب صمغ لمسدس الشمع، خلص الموجود عندنا.

أطبق على شفتيه وهو يهز رأسه، كأنه يشاركها الحوار بلغة الصمت .. هبطت عن المقعد لتستدير كليًا نحوه، تفاجأت بوجوده على مسافة قريبة منها؛ يفصل بينهما طاولتها المستطيلة .. ضاقت عيناها في انزعاجٍ، وكزت على أسنانها مرددة:
-إنت؟
تنحنح مبعدًا نظراته عن وجهها المتشنج، وقال مرحبًا بأسلوب ودود:
-سلامو عليكم.

استندت ضاربة بكفيها بقوةٍ طفيفة على الطاولة لترد بوجومٍ:
-وعليكم السلام .. جاي ليه؟
تعجب من سؤالها الفظ وكأنه يتسول منها، غلف وجهه تعبيرات ضائقة، وعلق في استنكارٍ:
-أفندم؟ أنا جاي زي ما بلغتونا بالميعاد على فكرة.
زمت شفتيها قبل أن تصحح له، وقد لاحظت ضيقه:
-أقصد ما بعتش "هيثم" قريبك بدل ما تكلف نفسك وتيجي؟
تقدم نحوها ليقول بنبرة ذات دلالة واضحة:
-أنا خال النونو...

لكن تحول أسلوبه الجاد للمزاح وهو يتابع:
-والمثل بيقول جحا أولى بلحم توره.
أخفت ابتسامتها على طرفته، وأولتها ظهره لتقول بجديةٍ:
-أها .. تمام ..
انحنت "فيروزة" لتحمل العلب الكرتونية الضخمة التي وضعت بها ما تم طلبه من قبل واحدًا تلو الآخر لتسنده على الطاولة أمامها، وقالت:
-اتفضل، كل حاجة جاهزة.
ألقى نظرة فاحصة لما تضمنته العلب وهو يسألها:
-والحساب؟

أشــارت بيدها نحو المكتب الفارغ قبل أن تجيبه:
-مع "علا" الفاتورة بتاعتك.
التفت برأسه للجانب لينظر إلى حيث أشــارت، عاود التحديق في وجهها متسائلاً:
-وهي فين؟ أنا مش شايفها!
أجابته ببساطةٍ:
-هي في مشوار وجاية دلوقتي، تقدر تستناها عند مكتبها.

هز رأسه معقبًا عليها:
-ماشي، بس هاودي الحاجة العربية.
-أوكي.
اقتضبت في الحديث وهي تجلس على المقعد لتراقبه خلال ذهابه وعودته بعينين نافذتين حتى انتهى من وضع كافة الصناديق، ورغم يقينه من انزعاجها لوجوده إلا أنه كان مستمتعًا باللحظات المحدودة التي يقضيها بصحبتها، خاصة حينما تكون ساكنة، رائقة المزاج، وبدون من يقاطعه.

مـــر بعض الوقت ولم تعد "علا" بعد من الخارج، وظل كلاهما في المحل بمفردهما دون أن يدخل إليه أحد، وكأن العالم خلا إلا من وجودهما .. جلس "تميم" على المكتب قبالتها يتطلع إليها بنظرات حذرة محاولاً التمتع بتأمل ملامحها دون أن تمسك به، بضعة أسئلة شغلت تفكيره كلما أطال النظر إلى وجهها وشرد في تعبيراتها العابسة، ما زالت لمحة الحزن تغلف قسماتها، تشجع ليقول وهو يضغط على أصابع يده:
-هو أنا مضايقك في حاجة؟

اعتدلت "فيروزة" في جلستها خلف طاولتها، سلطت أنظارها عليه وسألته بجمودٍ وكامل عيناها عليه:
-تفتكر إيه؟
سحب شهيقًا عميقًا يضبط به تلك الزوبعة الدائرة فيه، واسترسل معبرًا عما يشعر به حين يلتقي بها:
-يعني .. حاسس إنك مش طيقاني، وأنا ما بحاولش أفرض نفسي عليكي.
ابتسمت في استخفافٍ من جملته تلك، وتنهدت تجيبه بلمحةٍ ساخرة:
-باختصــار لو فكرت فيها كويس هتلاقي إنك سبب كل مصيبة حصلتلي..

برقت عيناه مصدومًا من صراحتها غير القابلة للتزييف، نكس رأسه في أسفٍ، وسمع صوتها تقول له:
-أظن كده الإجابة وصلت؟
لم يستطع الرد عليها أو حتى التبرير، كانت محقة في اتهامه مباشرة بأنه المتورط الأساسي في كل ما حل على رأسها من أذى وخراب، شعر بغصة مؤلمة تجتاحه حين تابعت بنفس أسلوبها الجاف والقساوة تنطلق من عينيها:
-سوري عندي شغل، مش فاضية للكلام معاك، ده أكل عيشي.

أشــاح بوجهه كليًا عاجزًا عن رفع أنظاره نحوها، شعر بنغصة تضرب قلبه لتزيد من إحساسه بالذنب نحوها .. مشاعر أخرى ناقمة تنضم للكراهية والعدائية نحوه تحديدًا، لا أمل للتصالح أو النسيان، أكدت له نبرتها ذلك وإن لم تبوح بهذا علنًا.

في تلك الأثناء، صف "آســر" سيارته على الجانب المقابل لرصيف المحل لعدم وجود مكانٍ شاغر لركنها به، كانت السعادة تتراقص بين ضلوعه لذهابه إلى هناك، خاصة أنه رغب في رؤيتها بشدة، اختفى الحماس المليء باللهفة حين لمح "تميم" عبر الزجاج جالسًا بالداخل، تقلصت عضلات وجهه، واِربد بالضيق الواجم، ظلت عيناه المنزعجتان ترتكزان عليه خلال عبوره للطريق وهو يسأل نفسه:
-بيعمل إيه جوا البني آدم ده؟

تجاهل صوت البوق الصــادح الذي ينبهه للسيارة القادمة بسرعتها من على بعدٍ، حاول قائدها تفاديه لكن لمساحة الشارع الضيقة لم يتمكن من فعل ذلك، فما كان منه إلا أن صدمه ليتدحرج "آسـر" على الطريق وسط صرخات وصدمة الجميع ..
انتفض من جلسته "تميم" لينظر من الزجاج للحادث المروري الذي جرى على مقربة منه مرددًا:
-يا ساتر يا رب.

ومن تلقاء نفسها خرجت "فيروزة" لتتفقد الحادث، ذهول صادم حل بها حين أبصرت جسده مسجى على الأسفلت، تحركت شفتاها لتناديه بارتعابٍ طبيعي من هول المنظر:
-ده "آسر"، حصله إيه؟
نظر لها "تميم" بعينين مزعوجتين لترديدها اسمه، أحس بمشاعره الحانقة تطفو على السطح لتغطي أي مشاعر نادمة أو حزينة، تبعها متجهًا إليه وسط الحشد الذي تجمع حوله، تعالت الأصوات اللائمة فقال أحدهم:
-يا عم في بشر ماشيين على الأرض، مش حيوانات عشان تدوسونا.

احتج قائد السيارة المتهم ليدافع عن نفسه:
-وربنا هو اللي غلطان، أنا ضربتله كلاكس من أول الشارع وهو مصمم يعدي، ولا كأن في حد بيزمرله.
لكزه أحدهم في كتفه قبل أن يلومه:
-دوس فرامل يا جدع إنت.. وخلونا نشوف هو مين ولا آ...
جثت "فيروزة" على ركبتها قبالة "آسر" لتقول عاليًا:
-أنا عارفاه يا جماعة..
ثم انخفضت نظراتها نحوه لتسأله في قلقٍ:
-إنت كويس؟ حاسس بإيه؟

اندفعت حمية "تميم" الذكورية لتغزي عروقه في ضيقٍ سافر وهو يتابع المشهد الدائر، غالب ما ينتفض في كيانه وسلط نظره على "آسر" الذي صرخ متأوهًا بألمٍ وهو يتحسس ساقه:
-آه.. مش قادر.
سألته "فيروزة" بعينين تدوران على وجهه لتتفحص بنظراتها مدى خطورة إصابته:
-طب قادر تتحرك؟
هز رأسه بالنفي وصرخاته تعلو في الهواء، اقترح عليه المتسبب في الحادث بعد الاعتذار منه:
-يا أستاذ أنا والله ما أقصد، ولو تسمحلي أوديك أقرب مستشفى نطمن عليك، والتكاليف على حسابي.

ردت عليه "فيروزة" دون تفكير:
-أنا هاجي معاه، أنا أعرفه كويس.
هنا تدخل "تميم" ليقول وهو يدفع الرجل للخلف ليقف مكانه في الصدارة:
-لأ خلاص يا كابتن، الموضوع مش مستاهل، وأنا معايا عربية وهوديه.
واصل "آســر" صراخه الموجوع، واستنجد بها بعد أن قبض بيده على ذراعها ليتشبث أكثر بها وليضمن عدم تركها له:
-الحقيني يا آنسة "فيروزة"، أنا بموت ولا إيه؟

هزت رأسها ترد وهي تنتزع يده عنها:
-متقلقش، احنا كلنا جمبك..
ألقت نظرة غريبة على "تميم" الذي مرر ذراعيه أسفل جسد "آسر" ليرفعه عن الإسفلت، اعتدلت في وقفتها وأشــارت نحو الخلف متابعة حديثها بأنفاسٍ شبه مضطربة:
-أنا هاقفل المحل وأجي معاك، اطمن.. هاتبقى كويس يا أستاذ "آسر".

ضغط "تميم" بقبضتيه على ضلوع الأخير الذي يسنده، وكأنه يريد تفتيتها وهو يتابع مدى اللهفة والخوف في عينيها، شعورٌ خانقٌ للصدور تمكن منه، ولم يستطع كبحه أو إيقافه، بل تركه يسري في بدنه ولسان حاله يردد بغيظٍ:
-هي واخدة بالها أوي منه كده ليه
-آآآه.

صــرخ "آسر" متألمًا من ضغطاته العنيفة على أنحاء جسده الذي يئن بآلامها المستحدثة، ونظر له باشمئزازٍ من طرف عيه كما لو كان يوبخه، ولكن بلهجة آمرة:
-بالراحة، هو إنت معندكش دم، مش شايفني متبهدل إزاي؟
توحشت نظرات "تميم"، وكز على أسنانه ليرد بوقاحة:
-ابقى اتعلم تمشي إزاي في الشارع بدل ما تكوم كده، واللي زيي في الآخر بيشيلك.

ثم لف ذراعه حول كتفيه ليتمكن من السير به إلى سيارته، فتح له الباب الخلفي وأجلسه على المقعد ليمدد ساقه المتألمة في المساحة المتسعة، لم يكف "آسر" عن الصراخ والشكوى، أغلق "تميم" الباب ونظراته المزدرية نحوه لا تفارقه، استدار ليجد "فيروزة" مقبلة عليه فسد بجسده الباب الخلفي مقترحًا عليها:
-تعالي قدام هنا، مش معقول هتلزقي فيه، وإنتي شايفة حالته عاملة إزاي؟
شبت على قدميها محاولة النظر من خلف كتفه، وقالت في تفهمٍ:
-معاك حق.

بدا كمن أزيح عن صدره ذلك الثقل الجاثم بعدم اعتراضها على طلبه، ودمدم مع نفسه بارتياحٍ:
-كويس..
وفي لباقة غريبة منه فتح لها الباب الأمامي لتجلس على المقعد، استقرت فيه، وأغلقه ليدور حول مقدمة السيارة هامسا لنفسه في سرور بدد ضيقه المسيطر عليه قبل لحظاتٍ:
-أخيرًا عملت حاجة عدلة في حياتك يا برميل الرخامة.

-مالك مكلضمة كده ليه؟
سألت "بثينة" ابنتها بتلك الكلمات المهتمة وهي تتمعن في وجه ابنتها المكفهر بداخل غرفة نوم "تميم" في منزل أختها، وكأن السعادة قد فارقتها منذ أدهرٍ، وتركت فقط آثارها على ملامحها نفخت "خلود" في زفيرٍ ممل وطويل لتشرد أمامها بنظرات فارغة جوفاء، أدارت رأسها ناحية والدتها التي كانت تنتظر ردها، وقالت بيأسٍ:
-كنت مفكرة إن "تميم" هيبات معايا لما جينا هنا..

وضعت إصبعيها أسفل ذقنها، وردت تسألها في إنكارٍ:
-أومال بيبات فين؟!!
أجابتها بإحباطٍ:
-يا في الوكالة يا في البيت ..
ثم زمت شفتيها لتتابع بتذمرٍ:
-وأنا اتهد حيلي هنا، طلبات عمال على البطال، وهو طول النهار برا أما خلاص هاشق هدومي من الغيظ.

ربتت على ظهرها في حنوٍ، وشدت من أزرها قائلة:
-معلش يا بت، بكرة تتعدل معاكي.
انتبهت كلتاهما للدقات الخافتة على الباب فتوقفتا عن الحديث، أطلت "ونيسة" برأسها وهي تسأل في فضولٍ:
-واخدين جمب كده ليه يا "بثينة" وقافلين عليكو الباب؟
أجابتها الأخيرة ببسمة مفتعلة مستخدمة يدها في الإشارة:
-مافيش ياختي، ده احنا عاملين بنرتب للسبوع، بنشوف هنعمل فيه إيه.

ردت عليها والحماس يملأوها:
-ماتشلوش هم، الحاج "بدير" هيعمل كل حاجة.
هزت "بثينة" رأسها في استحســانٍ، وأضافت:
-ربنا يبارك في عمره.
دنت "ونيسة" من ابنة أختها لتمسح على جانب وجهها الهادئ بحنوٍ، نظرت إليها بنظرات أموميةٍ قبل أن تدعو لها:
-وعقبال ما نفرح بعوض حبيبة قلبي.

انطلقت تنهيدات عاشمة من بين شفتيها وهي تغمغم برجاءٍ متزايد:
-يا رب يا خالتي، ادعيلي كتير.
قالت مبتسمة:
-بأدعيلك ربنا يديكي على أد نيتك
علقت "بثينة" في تهكمٍ:
-ما بلاش الدعوة دي، ادعيلها ربنا يفتحها في وشها.

كركرت "ونيسة" ضاحكة لترد بعدها بسجيتها الطيبة النابعة من فطرة لم تدنسها الضغائن:
-حاضر يا حبيبتي، هو أنا عندي أغلى من مرات ابني، دي بنتي التانية ...!!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني الحلقة الخامسة بقلم منال سالم



جلسا متقابلين على المقاعد المتاحة في الردهة بالمشفى بعد إيصــال "تميم" لذاك السمج الذي تعرض لحادث السير وتولي الطاقم الطبي مهمة التعامل مع حالته، لم تتركه "فيروزة" وظلت باقية تنتظر بتوترٍ نتائج فحص حالته، بالطبع اضطرت أن تهاتف رفيقتها "علا" لتطلعها على الأمر، لكونها أيضًا لا تعرف أصدقاء له أو حتى أي أقرباء سواها، نفخت في سأمٍ وهي تنظر لساعة هاتفها المحمول، مر الوقت بطيئًا عليها، وكانت في حالة قلقٍ واضحة، خشيت من وقوع الأسوأ. راقب "تميم" ما يصدر عنها بنظراتٍ حذرة آملاً ألا تمسك به وهو يتطلع إليها خلسة، كان على دراية بحدة طباعها، وعصبيتها الوشيكة، ناهيك عن تحفزها للانقضاض في التو على من يتجرأ عليها.


 
لاحظ الإرهــاق البادي على ملامحها، ما زال بها ذاك الشيء الغامض الذي يستحثه على النظر إليها دون ضجر وفي صمت لذيذ، حتى عيناها كانتا متعبتين، كل بضعة لحظات تفركهما بأناملها، تأهب في جلسته وقد نظرت إليه بغتةٍ لتسأله:
-في حاجة؟
تنحنح بخفوتٍ قبل أن يجيبها متعللاً:
-مكانش ليها لازمة تتعبي نفسك وتيجي، أنا بأعرف أتعامل في المواقف اللي زي دي و...


 
قاطعته وهي تشيح بوجهها للجانب:
-شكرًا.. كان لازم أجي، أنا أعرفه، بس إنت لأ.
ورغم إحراجها الواضح له إلا أنه لم ينزعج من صراحتها، لكن أغضبه اهتمامه الزائد بذلك الغريب الذي على ما يبدو لم تلتقِ به سوى بضعة مراتٍ ليستحوذ على ذلك القدر من قلقها، شعوره بالغيرة منه تعاظم بداخله، انصــرف عن التفكير في تصرفاتها معه حين أطل عليهما الطبيب، نهض واقفًا لينظر إليه، وقبل أن يبادر بالسؤال عن أحواله كانت "فيروزة" تتساءل بتلهفٍ:
-خير هو عامل إيه دلوقتي؟

كان "تميم" كالقابض على جمرٍ في راحته، كظم تلك الأحاسيس المنزعجة في صدره وحاول أن يبدو هادئًا، ما زال ذلك السؤال الغريب يلح عليه في رأسه، لماذا هو حانق هكذا بشأن اهتمامها بغيره؟ أليست غريبة عنه وأمرها لا يعنيه؟ كيف تنتابه تلك المشاعر المستاءة وتكاد تفتك بصدره؟ انتبه لسؤال الطبيب الروتيني المستفهم:
-إنتو قرايب المريض؟


 
تبادلت معه "فيروزة" نظرة مترددة قبل أن تعاود التحديق في وجه الطبيب لتجيبه:
-أيوه.. أنا أعرفه، وكلمت معارفه وهما في الطريق.
استفاض في شرح حالته موضحًا:
-عمومًا هو بخير، مافيش غير كسر في الساق، وهيتحط في الجبس لمدة شهر، مع شوية رضوض وكدمات طبعًا ده نتيجة الارتطام العنيف بالأرض، احنا عملناله أشعة مقطعية على المخ، والحمد لله مافيش ضرر.

تنهدت في ارتياحٍ وهي تجيبه:
-الحمدلله.
تابع الطبيب حديثه قائلاً:
-هو دلوقتي واخد مسكنات ونايم، وعلى الصبح هايكون فاق وتقدروا تتكلموا معاه.
هزت رأسها في تفهمٍ وهي ترد:
-تمام .. شكرًا يا دكتور.
قال مجاملاً قبل أن ينصرف:
-ربنا يطمنكم عليه.


 
ظلت "فيروزة" متسمرة في مكانها وقد بدت إلى حد ما شــاردة ومستغرقة في أفكارٍ تخصها .. حك "تميم" مؤخرة عنقه متسائلاً في اهتمامٍ، ونظراته مرتكزة عليها:
-أومال هتعملي إيه بعد كده؟
على ما يبدو أنها لم تنتبه له، صمتت مطولاً فلوح بيده أمام وجهها قائلاً:
-يا أبلة سمعاني؟
تقلصت تعبيراتها من حركته تلك، وعلقت بتهجمٍ:
-في إيه؟
تحدث من زاوية فمه قائلاً:
-بأقولك هو إنتي آ...

لم يتمكن للأسف من إتمام عبارته بسبب صياح رفيقتها المزعج:
-إيه الأخبار يا "فيروزة"؟
نظر لها في ضيقٍ وهي تلاحقها بأسئلتها:
-"آسر" عامل إيه دلوقتي؟ كويس ولا جراله إيه؟
ربتت على كتفها في رفقٍ، وأجابت بابتسامة صغيرة حتى تهدأها:
-اطمني يا "علا"، الدكتور لسه مخلص كلام معايا، وقالي حالته كويسة وتمام.


 
تنفست رفيقتها بعمقٍ لتزيح تلك الكتلة المقلقة الجاثمة على صدرها، وقالت بتضرعٍ وهي تضم قبضتيها معًا:
-الحمدلله يا رب.
غمغم "تميم" مع نفسه في سخطٍ:
-إيه المبالغة دي؟ هو داسه قطر وأنا معرفش؟!
بينما رفعت "فيروزة" أنظارها نحو أخيها الذي جاء بصحبتها، وسألته من تلقاء نفسها:
-إزيك يا "ماهر" بيه؟
سألها الأخير بصوتٍ جاد:
-إيه اللي حصله يا "فيروزة"؟

هزت كتفيها في عفوية وهي تجيبه:
-مش عارفة بالظبط، بس الظاهر إنه كان بيعدي الشارع وماخدش باله من العربيات، لأن شوفناه مرمي جمب الرصيف والناس حواليه.
حرك رأسه معقبًا عليها بلهجته شديدة الجدية:
-دلوقتي هنتكلم معاه ونفهم بالظبط إيه اللي حصل.


 
ردت عليه مشددة:
-لأ مش هاينفع، الدكتور قال على بكرة هنقدر نشوفه.
وضعت "علا" يدها على ذراع رفيقتها لتقول بنبرة ملتاعة، وعيناها تحبسان الدمع فيهما:
-كويس إنك كلمتينا.. أنا هاتجنن بصراحة عليه.
عضت "فيروزة" على شفتيها مبررة تصرفها في حرجٍ طفيف:
-ما هو أنا معرفش قرايب ليه، وبما إنه عارفكم فأكيد هتعرفوا تتعاملوا.

هزت رأسها في استحسانٍ وكأنها تشكرها على لجوئها إليها لمساعدته في أزمته المفاجأة، بينما تحولت كافة الأنظار إلى "تميم" الذي أشــار إلى وجوده حين استطرد هاتفًا:
-شدة وتزول.
ضاقت عينا "ماهر" بشكٍ وهو يسأله بما يشبه التعالي:
-هو إنت؟
لوح "تميم" بيده بحركة عسكرية مرحبًا بالضابط:
-مساءك فل يا باشا
قال باقتضابٍ وترفع:
-أهلاً..

أشــار "تميم" بيده إلى صدره متابعًا:
-أنا اللي لفحته على كتفه وجيبته هنا على فكرة.
التفتت "علا" نحوه لتشكره ببسمة متكلفة:
-ميرسي على تعبك.
رد عليها بفتورٍ:
-مافيش فيه حاجة خطيرة، هيعدي منها على خير يا أستاذة.

اكتفت بهزة خفيفة من رأسها قبل أن تنظر ناحية شقيقها لتطلب منه برجاءٍ كبير:
-عاوزين نطمن عليه ونشوفه يا "ماهر"، بليز خليهم يوافقوا ندخله.
استسلم أمام إلحاحها فقال على مضضٍ:
-حاضر.
شعرت "فيروزة" أن وجودها لم يعد مجديًا، بالإضافة إلى تأخرها كثيرًا في العودة إلى منزلها، وحتمًا ستقلق والدتها، لذا تشدقت قائلة:
-طيب أنا هستأذنكم هامشي دلوقتي، مش هاينفع أقعد أكتر من كده، وفي البيت قلقانين عليا.

ردت عليها "علا" وقد تفهمت أسبابها الشخصية:
-مش عارفة أقولك إيه يا "فيروزة"، وجودك فرق معاه حقيقي.
ابتسمت وهي ترد:
-ربنا يقومه بالسلامة.
اقترح عليها "ماهر" بلباقةٍ:
-تحبي أوصلك؟
اعتذرت بتهذيبٍ:
-المشوار مش بعيد ولا حاجة يا "ماهر" بيه، خليكوا إنتو مع الأستاذ "آسر"، وإن شاء الله يبقى كويس.
تضرعت "علا" مرددة في رجاءٍ:
-يا رب.

حافظت "فيروزة" على ابتسامتها المرسومة على شفتيها، وقالت:
-هاكلمك آخر النهار يا "لولو".
ردت وهي تومئ برأسها:
-أوكي.
تبادلت الاثنتان القبلات على الوجه لتعلق بعدها "فيروزة" حقيبتها على كتفها، اتجهت بخطواتٍ شبه سريعة إلى الدرج لتهبط عليه، ولكن استوقفها "تميم" الذي لاحقها مناديًا:
-يا أبلة..

استدارت لتنظر نحوه بوجومٍ:
-خير.
مرر يده على رأسه في ربكةٍ ظاهرة نسبيًا عليه، وقال مقترحًا عليها بأسلوب جاهد ليبدو لطيفًا للغاية:
-أنا رايح على الدكان، ممكن أوصلك في سكتي لو مش هيضايقك.
نظرت له بغرابةٍ قبل أن ترد معتذرة:
-شكرًا، هاركب من على أول الشارع.

وكأن برحيلها يصيبه فارغًا عجيبًا، فأصر عليها ممازحًا:
-يا ستي الطريق واحد، اعتبريني تاكسي لو ده يريحك.
التزمت برفضها، وعلقت عليه:
-مش هاينفع.. عن إذنك!
لم تتمهل في خطواتها وهي تهبط الدرجات سريعًا لتختفي من أمامه، تباطئ "تميم" في سيره مرددًا لنفسه بما يشبه المدح، وملامحها القريبة المليئة بالتفاصيل المشوقة قد باتت محفورة في ذاكرته:
-دماغك حجر .. بس بنت بلد وجدعة.

على الأريكة المريحة أمام شاشة التلفاز العريضة جلست "خلود" بشرودٍ واجم تحدق بعينين غير مكترثتين المشاهد المتتابعة التي تُعرض أمامها، حادثتها خالتها لأكثر من مرة، وكأنها ترغب في مشاركتها التعليق على الأحداث، لكنها ظلت صامتة، تسرح في عالم خاصٍ بها، انتبهت لها "ونيسة" واعتدلت في جلستها لتسألها مباشرة، ونظراتها مثبتة عليها:
-مالك يا "خلود"؟ مضايقة من إيه؟

زفيرٌ مهموم خرج من جوفها قبل أن ترد باقتضابٍ:
-مافيش.
أثارت في نفسها الشكوك بردة فعلها الحزينةة التي تحمل الكثير من الدلالات المقلقة، لذا أصرت عليها علها تنجح في سبر أغوارها:
-إزاي مافيش؟ هو أنا عامية مش شايفة شاكلك عامل إزاي؟

نكست "خلود" رأسها لتبدو أكثر حزنًا، واستندت بوجهها على راحة يدها دون أن تنطق فتثير من فضول خالتها، تحركت الأخيرة من مكانها لتجلس إلى جوارها، مسحت برفقٍ على كتفها وجانب ذراعها، ثم قالت:
-قولي يا حبيبتي، في إيه اللي حصل؟
حاولت أن تستدعي عبراتها لتحجزها في محجريها وهي تجيبها:
-أنا حاسة إن "تميم" واخد جمب مني.
قطبت "ونيسة" جبينها متسائلة في قلقٍ:
-ليه بتقولي كده؟

استرسلت مستفيضة في توضيح أسباب استيائها:
-معرفش.. بس من ساعة ما جيت هنا وهو زي ما يكون مصدق، طول النهار برا، لا بيجي ياكل ولا حتى بيعدي يسأل عليا..
قصدت أن يظهر صوتها مختنقًا وهي تكمل شكواها:
-ويدوب لو جه يغير هدومه آخر يوم بينزل تاني على طول..

انفجرت باكية لتواصل حديثها بصعوبة فتقنع من يصغي إليها:
-ده أنا مابلحقش أشوفه ولا اتكلم معاه، زي ما أكون غريبة عنه، ده غير إنه قاصد يبات برا، وأنا زعلانة منه بصراحة، هو أنا مش مراته ومن حقي أقلق عليه؟!
ربتت مهونة عليها حزنها، وقالت بنبرة مواسية:
-يا عيني يا بنتي .. كل ده شيلاه في قلبك وساكتة.
أخفت عينيها الباكيتين عنها براحة يدها، وعللت بلؤمٍ:
-ما أنا خايفة اشتكي تزعلوا مني.

ردت عليها خالتها بحزمٍ، وقد بدت داعمة لها:
-لا مالوش حق، إنتي مراته مش حد غريب، أنا هاكلم عمك "بدير" وهاخليه يشد عليه.
رفعت أنظارها نحوها، ثم ادعت النحيب وهي ترجوها بأسلوبٍ ماكر خبيث:
-لأ بلاش يا خالتي، "تميم" يزعل مني إكمني اتفكيت معاكي بكلمتين.

ابتسمت تقول عن ثقة وقد سقطت بسذاجةٍ في فخها البسيط:
-متخافيش، مش هاجيبله سيرة، أنا أمه وليا لي كلام معاه، والليلة هايكون في حضنك.
على الفور احتضنتها في امتنانٍ زائف وهي تشكرها:
-ربنا ما يحرمني منك يا خالتي.

تراجعت عنها الأخيرة لتنظر إليها وهي تكفكف عبراتها، ثم قالت بوداعةٍ:
-ده إنتي غالية عندي..
وربتت على كتفها مجددًا قبل أ، تداعبها في ودٍ:
-شوفي الضحكة نورت في وشك إزاي.. ربنا ما يجعلها تفارقك
تنهدت معقبة عليها:
-يا رب يا خالتي.. يا رب.

أتت شكواها بنتائجها المرجوة، فحين حل المســاء، كان "تميم" عائدًا بصحبة أبيه إلى منزل الأخير ليقضي ساعات الليل به، بالطبع تلقى توبيخًا لا بأس به من أبويه، ولم يبرر لهما تصرفه في الانزواء عن زوجته، كان كعادته يُبقي ما يخصه سرًا لا يبوح به لكائنٍ من كان .. ولج إلى غرفته بتباطؤٍ، أزاح سترته عنه وأسندها على المِشْجب ليلتفت نحو زوجته التي باغتته باحتضانه وضمه إليها، بدا كالصنم للحظة من المفاجأة غير المرغوبة، لم يحاول حتى محاوطتها، تجمد في مكانه وهي تقول له باشتياقٍ:
-وحشني حضنك أوي.

أبعدها عنه برفقٍ ليقول ببرودٍ واضح في نبرته ونظراته إليها:
-أنا لسه ماصفتش من ناحيتك.
غالبت غيظها من قساوته، وسألته بنبرة مستكينة تدعي من خلالها براءتها:
-وهو أنا غلطت في إيه يا حبيبي؟
أجابها بما يشبه الهجوم:
-إنك تخبي عليا حاجة ولا تستغفلني ده أنا مقبلوش!!!!

عادت لتضمه، واستندت برأسها على صدره معتذرة منه بصوتها النادم:
-حقك عليا، أنا عمري ما أقدر أزعلك، إنت حبيبي وبس.
مل "تميم" من سماع مثل تلك العبارات المستهلكة، خاصة أنها لم تكن تلامس مشاعره، ولم يصل مضمونها الصادق إليه، أزاح ذراعيها عن جسده وتحرك نحو الدولاب ليأتي بملابسه، تبعته مختلقة المزيد من الأكاذيب:
-إنت عارف "هيثم" أخويا، مستهتر ومابيهموش حد، وإنت أكيد اتكلمت مع أمي وقالتلك على عمايله، أنا نفسي حاله يتصلح.

دمدم مع نفسه بصوت خفيض ظن أنها لن تسمعه:
-ما جايز تكونوا مطبخينها سوا، الله أعلم بنواياكم!
انقبض قلبها مما التقطته أذناها، ورددت والخوف يكسو تعبيراتها:
-نعم.. مش فهماك؟
التفت ليواجهها قائلاً، وتلك النظرة المتشككة تملأ حدقتيه:
-شوفي أخوكي فيه كل العبر، بس سكة المنشطات دي غريبة عليه، ومالوش فيها.

لعقت شفتيها، واستطردت مدافعة عن كذبتها:
-إنت.. بتقول إيه؟ يعني .. أنا هاكدب؟
لوى ثغره مرددًا بجمودٍ:
-الله أعلم..
وحدث نفسه في شكٍ دون أن يبعد نظراته النافذة عن وجهها المرتبك في تعبيراته:
-مسيرى هسأله في مرة.

استندت "خلود" بيدها على ضلفة الدولاب وقد شعرت بدوارٍ عجيب يلف رأسها، ترنحت في وقفتها، وقالت وهي تضع يدها على جبينها:
-مش عارفة مالي.. أنا دايخة كده.
علق "تميم" في تهكمٍ وهو يبتعد عنها:
-ما إنتي كنتي زي القردة من شوية.
ردت بأنفاس مضطربة، وهي بالكاد تحاول الوقوف ثابتة:
-لأ.. مش قادرة أقف على حيلي.

دقق النظر في هيئتها، لم تكن طبيعية بالمرة، عاد إليها وعاونها على السير ليمددها على الفراش، تأوهت أكثر من التعب، ألقى نظرة حائرة عليها، ثم قال:
-استني أشوفلك برشام ولا حاجة في الدرج.
فتح الكومود الملاصق لفراشه فوقعت عيناه على منديل الرأس والمشبكين، تلبك بشكلٍ متوترٍ وأغلقه على الفور، سلط أنظاره القلقة على زوجته المستلقية في حالة من الإعياء محدثًا نفسه:
-دي لو شافتهم هتقلبها حريقة.

تنحنح يقول لها:
-مافيش هنا، أنا هاطلع أشوفلك دواء يناسبك عند أمي.
ردت بوهنٍ وبصدر متهدجٍ:
-ماشي.. يا حبيبي.

خرج "تميم" من الغرفة و"خلود" تتطلع إليه بنصف عين، وما إن اختفى حتى اتسعت حدقتاها وزفرت كتلة من الهواء دفعة واحدة، وكأنها تخلص من شيء يجثم على أنفاسها، تحسست وجهها المتعرق بعرقه البارد قائلة بصوتٍ خفيض:
-كنت هاتكشف.. ربنا عداها على خير.

لليوم الثاني على التوالي، ولم تظهر على الساحة، اكتفت بمكالمة عادية لرفيقتها لتطمئن منها على وضعه دون القيام بأي زيارة استثنائية له مبررة بأنها المسئولة حاليًا عن إدارة المحل في غياب صاحبته التي تفرغت للبقاء بجواره.. ظهرت علامات الإحباط واضحة على وجه "آسر"، ورغم تعافيه قليلاً إلا أن انزعاجه كان واضحًا، حاولت "علا" تسليته، فاقترحت عليه:
-تحب أجيبلك شطرنج؟ أنا عارفة إنك بتحب تلعبه، أنا ممكن أغلبك كمان و..

قاطعها في فتورٍ:
-لا ماليش مزاج.. أنا عاوز أفضل كده.
ضمت شفتيها بيأسٍ وصمتت لتراقبه في صمتٍ، حملق "آسر" في الفراغ مستعيدًا في ذاكرته مشهد تشجع قليلاً ليسألها بأسلوب مراوغ:
-مافيش حد سأل عليا؟
هزت رأسها بالنفي وهي ترد:
-لأ..

ابتسم قائلاً بما يشبه المزاح:
-صاحبتك مش جدعة على فكرة، مفكرتش تيجي تزورني مرة، كإنها مصدقت خلصت مني.
أوضحت له بعفويةٍ:
-غصب عنها، هي شايلة الشغل كله مكاني، وأنا مابروحش خالص، بس كذا مرة اتصلت تسأل عليك.
انتبه لجملتها الأخيرة فتأهبت حواسه، وسألها بتلهفٍ:
-بجد؟ سألت عليا؟
ردت مبتسمة في رقةٍ:
-أيوه..

ثم عمدت إلى تغيير مجرى الحوار، وسألته:
-قولي مش عطشان؟ أجيبلك عصير؟ في نكهات كتير هنا.
تنهد معلقًا بحماسٍ:
-شوفي اللي يعجبك، أنا راضي بيه.
أحست "علا" بفيضٍ من السعادة يتسلل إليها لاستجابته لطلبها بأسلوبه المعتاد الذي يجذبها دومًا إليه .. لم تعلم أن حماسه الغريب راجعًا لاهتمامه بـ "فيروزة"، تلك التي شغلت تفكيره أكثر مما مضى بإنقاذها لحياته.

بعينين طامعتين يملأهما الشره والجشع حدقت "حمدية" في صواني الطعام المعبأة بالأطباق الشهية وهي تتجه نحو بناية عائلة "سلطان"، زمت "حمدية" شفتيها لأكثر من مرة ولعابها يكاد يسيل طمعًا في الاستحواذ على كل تلك الخيرات، مالت برأسها على زوجها ليبدو صوتها قريبًا من أذنه وهي تقول بحقدٍ:
-باين عليهم صارفين ومكلفين، شايف الأكل يا "خليل".

جاب زوجها بنظراته على الأوجه المألوفة المتراصة على المقاعد الخشبية حول المدخل في تجمعات بشرية ليرد عليها بانتشاءٍ:
-اللهم صلي على النبي، لأ وكبار التجار منورين كمان..
انخفضت نبرته محدثًا نفسه بنوعٍ من التفاخر:
-وقريب هابقى قاعد معاهم ومنهم لما نوضب الدكان وأتعرف عليهم.
توقفت "حمدية" عن السير لتخبره بما يشبه الأوامر:
-طيب أنا هاطلع مع الحريم فوق وإنت خلي العيال معاك بدل ما يلبخوني.

هتف معترضًا بنبرة متذمرة:
-بس دول هيصدعوا دماغي.
زجرته قائلة بصوتٍ خافت وبضيقٍ وهي تكز على أسنانه:
-يا خويا بأقولك عشان أعرف أعبي الأكل براحتي، إنت مش واخد بالك من الهلومة دي ولا إيه؟!
رد على مضضٍ وهو يحك رأسه:
-طيب.

نظرت "حمدية" من خلف كتف زوجها لتأمر أخته بنبرة مهتمة:
-مدي رجليكي شوية يا "آمنة"، هنتأخر على الجماعة.
لوحت لها الأخيرة بذراعها مرددة بابتسامتها الودودة:
-أنا وراكي أهوو.
نفخت "فيروزة" معلقة بقليلٍ من السخط:
-هي مستعجلة على إيه؟
مازحتها "همسة" بضحكة حذرة:
-تكونش نسايبها واحنا منعرفش!

أضافت توأمتها ساخرة منها بأسلوبها المتهكم:
-هي مرات خالك كده، تحب تتحشر في اللي مالهاش فيه، وفي الآخر بتاخد على دماغها لما تتزنق.
أخفضت "همسة" من صوتها لتقول:
-طب أقولك تلاقيها جاية مخصوص عشان تاكل وتلغ.
ردت عليها مؤيدة إياها في الرأي:
-أيوه، وتعبي في شنطتها، هي عادتها ولا هتشتريها.

استمعت "آمنة" إلى ثرثرتهما الخافتة فنهرتهما محذرة:
-بطلوا يا بنات بدل ما تسمعكم
كتمت الاثنتان ضحكاتهما العابثة ولحقتا بوالدتهما لتصعد ثلاثتهن الدرجات على مهلٍ حتى وصلن إلى منزل "بدير" .. استقبلت "ونيسة" ضيفاتها فاتحة ذراعيها في الهواء، وهي تردد بصوتها المهلل:
-يا مراحب بالغاليين.

مدت "حمدية" يدها لمصافحتها، وقالت بعشمٍ مبالغ فيه:
-مبروك يا حاجة "ونيسة" يتربى في عزكم، وربنا كأنه ابننا بالظبط، ده احنا من ساعة ما سمعنا الخبر واحنا الفرحة مش سيعانا.
جاملتها في الرد هاتفة:
-الله يبارك فيكي، تعالي عشان تسلمي على أم العريس.

ربتت على ذراعها في لطفٍ وهي تقول بضحكة مفتعلة:
-طبعًا، دي الغالية أم الغالي، عريسنا الصغير.
ثم أسرعت في خطواتها لتقدم التهنئة لـ "هاجر"، وقفت "آمنة" عند أعتاب باب المنزل تقوم بدورها في المباركة، ابتسمت مستطردة حديثها معها:
-إزيك يا حاجة، ربنا يبارك في الحفيد الصغير.

انحنت عليها "ونيسة" لتقبلها من خديها بعشرات القبلات المتتابعة قبل أن تشكرها:
-الله يبارك فيكي، وعقبال ما تفرحي بالبنات وعوضهم.
هزت رأسها معقبة:
-إن شاء الله.

قدمت كلاً من "فيروزة" و"همسة" مباركاتهما لها قبل أن تستقر الاثنتان بجوار والدتهما على المقاعد الشاغرة .. توالى دخول البقية ملقين التحيات والتهنئات ليبدأ بعدها الحفل المعتاد بترديد أغاني السبوع الشهيرة بواسطة فرقة شعبية ملأت الأجواء صخبًا وحماسة .. بعد ما يزيد عن نصف الساعة هدأت الضوضاء لتبدأ "ونيسة" وقريباتها في توزيع الحلوى والفول السوداني على الحضور كتقليد متبع عند الاحتفاء بالمولود الجديد .. انتظرت "حمدية" ريثما اقتربت منها صاحبة المنزل لتسألها بوقاحة ودون أدنى تمهيد:
-بأقولك إيه يا حبيبتي؟ عاوزين كده نبص على الشقة اللي هتتجوز فيها عروستنا، مش بردك هي هنا في العمارة؟

ورغم استغرابها من طلبها الذي لا يعد مناسبًا في مثل هذا الظرف العائلي إلا أنها ردت بتهذيبٍ:
-أيوه .. إديني لحظة أقول للحاج "بدير" يجيبلي المفتاح.
سألتها "حمدية" مستفهمة وقد ضاقت نظراتها:
-هو إنتي مش معاكي نسخة؟
جاوبتها بالنفي وموضحة أيضًا:
-لأ، هو اللي متولي موضوع الشقة من الألف للياء .. مش كان متفق معاكو على كده؟!

رفعت "حمدية" حاجبها للأعلى، وأضافت بوقاحةٍ سمجة:
-طب احنا كمان عاوزين نسخة.. يعني العروسة محتاجة تطل كل شوية عليها تشوف ناقص إيه وتحطه، مش معقول في الراحة والجاية هنعدي عليكم.. زدي حقها بردك! ولا أنا غلطانة؟!
استنكرت "ونيسة" طريقتها المبتذلة في التوضيح، وردت بوجهٍ عابس:
-ماهي بتاعتها، محدش قال غير كده.

قالت "حمدية" مُلطفة حين لاحظت تبدل تعبيراتها للضيق:
-أنا مش عاوزاكي تضيقي مني يا حاجة، ده إنتي على راسي من فوق والله...
ثم سحبتها من ذراعها بعيدًا عن الضوضاء والأعين المراقبة لها لتهمس بمكرٍ مخادع:
-بس هاعمل إيه أخت جوزي عمالة تزن عليا، وأنا الصراحة محروجة منك وفي نص هدومي.

هزت رأسها في تفهمٍ دون أن تنطق، بينما ابتسمت لها الأولى قائلة بخبثٍ:
-تعيشي يا حاجة، وعقبال ما نفرح بعوض المعلم "تميم".
ردت مجاملة باقتضابٍ:
-يا رب.
نظرت "فيروزة" شزرًا إلى تلك السمجة التي تتطفل بلا داعي فيما يخص شئون عائلتها، وانزعجت أكثر حين رأتها تنفرد بمضيفتهن، تمتمت بضيقٍ معكوسٍ على قسماتها المشدودة:
-الولية دي إيه اللي حاشرها معانا، مش فاهمة بصراحة، لولا الفضايح كنت قومت اتخانقت معاها.

قالت "همسة" بصوتٍ خفيض محاولة تهدأتها:
-كبري دماغك منها، هي حابة تعمل نمرة قصادهم، ما إنتي عارفاها، ماتستهلش إننا نسأل فيها، دي تلاقيها متغاظة مني عشان موضوع السلسلة.
نفخت عاليًا وباستياءٍ ضجر منها، انتبهت "فيروزة" لتلك الاهتزازة في حقيبتها، فتحتها لتخرج منها هاتفها المحمول، نظرت إلى شاشته فوجدت اسم رفيقتها يحتله، نهضت واقفة ووضعت حقيبتها مكانها لتقول بوجهٍ جاد في تعبيراته:
-ثواني هاشوف "علا" بتتصل، هاطلع أكلمها من برا.
أومأت "همسة" برأسها:
-طيب يا "فيرو".

بحثت وسط الزحام المتزايد في المنزل عن منفذٍ يمكنها من الخروج، لكن بدا الطريق مسدودًا بسبب المقاعد الكثيرة المتراصة حتى المدخل، التفتت تبحث عن مخرجٍ آخر لها، فلمحت الردهة، اتجهت إلى هناك لتقف عند بقعة شبه خالية من الضيوف، وقبل أن تجيب على الاتصــال بدأت الفرقة الشعبية تشدو أغانيها من جديد مما أفسد عليها الفرصة لسماع الطرف الآخر بوضوح، تابعت سيرها في الردهة الطويلة حتى نهايتها عند غرفة ما بابها موارب، سدت أذنها بيدٍ، ووضعت الهاتف على الأذن الأخرى تُجيبها بعبارات متلاحقة:
-ألو.. أيوه يا "علا" معلش يا حبيبتي مش عارفة أسمعك كويس، أنا برا مع آ...

بترت عبارتها وقد اعتلى تعبيراتها صدمة كبيرة، ثم قالت في ذهولٍ:
-أستاذ "آسر"؟
وعلى ما يبدو أنها لم تدرك وجودها بالقرب من غرفة الجد "سلطان" حيث كان حفيده بالداخل معه يدثره في فراشه بعد أن قضى الأول بعض الوقت بالخارج مستقبلاً المهنئين مع ابنه ليتمكن منه التعب فيستأذن ليستريح .. فتح "تميم" باب الغرفة على مصرعيه ليتفاجأ بها قبالته، خفقة كالصاعقة ضربت قلبه وانتشر كامل تأثيرها في كيانه، ابتسمت شفتاه تلقائيًا، ولمعت عيناه بشكلٍ عجيب، ما لبث أن اختفى ذلك في لحظة وقد التقطت أذناه اسم هذا اللزج تردده، وبكل ما اعتراه من مشاعر مغتاظة اندفعت بغتةٍ لتغزي عروقه تجرأ ونادها مجردة من أي ألقــــاب:
-"فيـــروزة"...!!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني الحلقة السادسة بقلم منال سالم


على ما يبدو أنها لم تنتبه إلى صوته المنادي باسمها مجردًا من أي ألقابٍ بسبب الضوضاء الصاخبة المحيطة بها مما منح "تميم" الفرصة لتدارك نفسه قبل أن يحدث ما لا يُحمد عقباه مع شخصية مندفعة مثلها، في حين استغرقت "فيروزة" في مكالمتها غير المريحة محاولة الإصغاء لصوت الطرف الآخر مما اضطره –وبناءً على رغبة ملحة بداخله- للتجرأ قليلاً والنقر بإصبعه على كتفها الأيمن لتشعر بتلك اللمسة الغريبة عليها، ربما لم يكن ليفعل ذلك مُطلقًا لولا سماعه لاسم هذا الكائن اللزج ينطلق من بين شفتيها، استشاط غضبًا وكأن بينهما عداوة غير مفهومة، استدارت كليًا للخلف لتتفاجأ به واقفًا ورائها، سريعًا ما احتل قسماتها الضيق، تحفزت لاختلاق المشاكل معه، وسألته بتلقائيةٍ:
-إنت بتعمل إيه هنا؟


 
ابتسم لرؤيتها محدقة به، وأجابها ببساطة، وبنبرة أقرب للمزاح:
-على حد علمي ده بيت أبويا.
تذكرت "فيروزة" أين هي، وشعرت بالحرج الشديد، ابتلعت ريقها ورددت معتذرة منه:
-سوري .. مخدتش بالي...
كذلك انتبهت أيضًا للمكالمة الدائرة مع "آسر" فأشارت بسبابتها لـ"تميم"، وأضافت:
-لحظة كده.


 
حافظ الأخير على ابتسامته اللطيفة مرسومة على محياه إلى أن استطردت قائلة بشكلٍ آلي:
-حمدلله على السلامة يا أستاذ "آسر"، مش هاينفع أتكلم مع حضرتك، لا الوقت ولا المكان مناسبين لده، بس دعواتي ليك بالشفاء، سلامو عليكم.
أحس "تميم" بالارتياح لأسلوبها الجاف في التعامل معه، وكأن كلماتها الجامدة قد أثلجت صدره، نظرت إليه مجددًا في استغراب حائر، بدا مستمتعًا على عكس طبيعته، انتبه لنظراتها الفضولية، واقترح عليها وتلك الابتسامة البلهاء تشكلت على ثغره:
-لو عاوزة تتكلمي براحتك فأوضتي القديمة هناك، مافيهاش حد وتقدري تاخدي راحتك.


 
لوحت بهاتفها المحمول أمام وجهه لتقول حاسمة الأمر:
-شكرًا.. المكالمة خلصت.
من تلقاء نفسه علق ساخرًا:
-أحسن برضوه.
لم تفهم كلماته المبرطمة فسألته وقد انعقد حاجباها:
-بتقول حاجة؟
حك جبينه قائلاً بأسلوب مموه:
-بأقول إن الطريق من هنا عشان ماتهويش.
هزت رأسها في تفهمٍ وهي ترد:
-أها.. شكرًا.


 
انتظر في مكانه ونظراته ترافقها إلى حيث اتجهت، خرج من صدره تنهيدة بطيئة مليئة بمشاعر أصبحت من طقوسه المميزة حين يراها، تحفز في وقفته وانتصب كتفاه حين سمع والدته تناديه عاليًا:
-"تميم"! تعالى عاوزاك.
اقترب منها متسائلاً، وعيناه تبحثان في خلسة عن "فيروزة" بين الحضور:
-خير يامه؟

أمسكت به "ونيسة" من ذراعه واشرأبت بعنقها للأعلى لتهمس له في أذنه بنبرة آمرة:
-انزل لأبوك قوله يجيب مفتاح الشقة اللي فوق، نسايب "هيثم" عاوزين يشوفوها.
توقف عن الدوران بعينيه حين حدد مكان جلوس "فيروزة"، عادت الابتسامة لتشرق على تعابيره وهو يرد:
-طيب.. هنزله.


 
ألقى "تميم" نظرة أخيرة عليها لينصرف بعدها لينفذ ما أملته عليه والدته من طلبات، بينما مالت "همسة" على توأمتها تسألها في اهتمامٍ بعد أن هدأت الضوضاء قليلاً:
-في حاجة مهمة حصلت مع "علا"؟
ردت نافية:
-لأ يا "همسة".
-أومال اتأخرتي ليه؟
أجابتها باقتضابٍ:
-هابقى أحكيلك لما نروح البيت.
هزت رأسها في تفهمٍ:
-ماشي.


 
على الجانب الآخر، وبداخل المطبخ المزدحم بعشرات الصحون المليئة ببقايا الطعام والتي تم تجميعها في الحوض لغسلها لاحقًا بعد جمع الأوساخ في القمامة جلست "خلود" في حالة من الإعياءِ وإلى جوارها والدتها تمسح على ظهرها برفقٍ، حاولت الأولى رفع رأسها المحني للنظر إليها، لكن ظل ذاك الدوار المزعج ملازمًا لها مما أجبرها على تنكيس رأسها أغلب الوقت، تحسست بيدها بشرتها، وهتفت شاكية:
-مش قادرة يامه، من الصبح بطني قالبة عليا.

سألتها "بثينة" بجديةٍ:
-كلتي إيه؟
التقطت أنفاسها بصعوبة لتهبط من إحساس الغثيان الذي يعتريها، وجاوبتها نافية:
-ولا الهوا..
تأوهت من الألم، وتابعت القول:
-شكلي خدت برد.

نهضت والدتها لتتجه للدواليب الخاصة بأدوات المطبخ باحثة عن أعشاب ما في داخل البرطمانات المتراصة به، وقالت بنوعٍ من التبرم:
-دلوقتي اعملك حاجة سخنة تهدي معدتك، ما إنتي يا حبة عيني مفحوتة معاهم، إياكش يقدروا!
شعرت "خلود" أنها على وشك التقيؤ من تلك الرائحة النفاذة التي تزعج أنفها وتزيد من تحفيز تقلصات معدتها، عبرت عما ينتابها من تقلبات غريبة قائلة:
-في ريحة كده غريبة .. مخلياني كده قرفانة.

انتصبت "بثينة" في وقفتها بعد أن تركت ما في يدها لتستدير نحوها، دنت منها متسائلة في لؤمٍ وقد انخفضت نبرتها:
-لأحسن يا بت تكوني آ....
بترت عبارتها عن عِمد ليتفقه ذهن ابنتها لما ترمي إليه من كلمات مقتضبة ذات دلالات صريحة غير قابلة للتشكيك، برقت عينا "خلود"، وهمست بقلبٍ يدق في توترٍ:
-قصدك إنه حصل يامه؟

ظهرت ابتسامتها من خلف تلك الضحكة الماكرة وهي تؤكد لها:
-مش بعيد، كل كلامك يتفهم كده.
خفق قلبها بشدة وقد راقتها الفكرة كثيرًا، قبضت "بثينة" عن رسغها مشددة عليها بلهجة لا تقبل بالهزل وقد غامت نظراتها:
-بأقولك إيه إخفي على الخبر ماجور لحد ما نتأكد، واللي يسألك قوليله كلتي حاجة قلبت معدتك.

سألتها باسترابةٍ:
-ليه؟
أجابتها بنفاذ صبرٍ:
-عاوزانا نعمل هوليلة على الفاضي، ويطلع في الآخر مافيش حاجة، لازم نتأكد وبعد كده نرمي الخبر زي القنبلة.
هزت رأسها توافقها الرأي وهي ترد:
-حاضر يامه.
تابعت قائلة بصوتها الخافت، وكأنها تملي عليها أوامرها:
-ومن بكرة الصبح هعدي أخدك نعمل تحليل.
-طيب.

قالتها وهي تعتدل في جلستها على المقعد، ناولتها والدتها كوبًا من الماء لترتشفه، وحذرتها مشيرة بنظراتها:
-وإنتي ماتخليش المحروس يقرب منك لحد ما نطمن.
تقلصت تعبيراتها بقليلٍ من الانزعاج، وتساءلت في ضيقٍ رافضة إطاعتها في مسألة علاقتها الحميمية بزوجها:
-ولو سألني؟ وكان عاوز آ.....
قاطعتها بفظاظة حاسمة المسألة عليها:
-ياختي حوش حوش كان مغرقك بحبه، ده ما هيصدق يا ادلعدي إنه يخلع.

وكأنها لامست وترًا حساسًا في علاقتها به، غلف وجهها تعابيرًا غاضبة، وردت بحزنٍ غطى صوتها:
-الله يامه، إنتي هتعتتي (توبخ) جتتي!
قالت لها بجمودٍ:
-لأ ياختي، عاوزة مصلحتك..
ثم ركزت أنظارها عليها لتتابع بنبرة أقلقتها:
-اسمعي كلامي وإنتي هتكسبي، غير كده هتخسري، وساعتها هتجيلي أصلحلك اللي فات.
لم يكن أمامها بدًا من الاعتراض أمام تعليماتها الواضحة، اضطرت أن ترضخ لها وتنفذ ما طلبته على غير رضا منها.

لمحه وهو يصطف بسيارته النصف نقل على مسافة قريبة من الحشد المرابط أمام مدخل البناية، لوح بذراعه لبعض المهنئين الذين قدموا لمباركة المولود الجديد .. لحظاتٍ واتجه "تميم" إلى ابن خالته وقد حصل على مفتاح المنزل من والده، انتظره حتى أوقف المحرك وترجل من السيارة ليسأله باهتمامٍ:
-إتأخرت ليه يا "هيثم"؟
أجابه مسترسلاً في الإيضاح بعد أن أوصد الباب:
-كان في شوية عكوسات في التوريد في المينا، بس ظبطت الدنيا.

أثنى عليه قائلاً وهو يربت على كتفه:
-الله ينور.
سأله "هيثم" مبتسمًا:
-السبوع خلص ولا إيه؟
رد نافيًا:
-لأ .. لسه شغال ..
ثم مد يده بالمفتاح ليقول له:
-خد المفتاح واطلع لنسايبك وريهم الشقة.
أشرق وجهه المرهق وهو يسأله بسعادة غريبة كست كامل ملامحه:
-هما جوم؟

تعجب من تبدل أحواله، ورد مشيرًا بيده:
-من بدري.
هندم "هيثم" من هيئته ليتأكد من ضبط ثيابه عليه، وقال بحماسٍ أكبر وقد همَّ بالتحرك:
-طيب هاطلعلهم على طول.
-ماشي
قالها وهو يستدير ليتبعه بخطواتٍ متهادية وهو ما زال متعجبًا من تأثير الوقوع في العشق عليه، إن لم يكن يعرف "هيثم" جيدًا لظن أنه يخادعه، ولكن إحقاقًا للحق خلال الفترة المنصرمة أظهر تغييرًا جذريًا في شخصيته المستهترة ليتحول للنقيض، أيمكن أن يفعل الحب المستحيل؟

عبأت حقيبتها بما استطاعت حمله من أطعمة شهية حتى لم تعد قادرة على غلق سحابها، ابتسمت "حمدية" لفسها في انتشاء لكونها قد اختارت تلك الحقيبة الجلدية المتسعة لتستخدمها خلال الحفل، استعانت أيضًا بحقيبة بلاستيكة سوداء وضعت بها الحلوى والفول السوداني متعللة أنهم لصغارها الأبرياء، ولم تبخل عليها مضيفتها في منحها المزيد حتى تألمت عضلات ذراعيها من حجم الثقل الذي تحمله، ورغم الوزن الزائد أصرت على الصعود للطابق العلوي لتتفقد المنزل مع البقية..،

ارتفع حاجباها للأعلى في اندهاش من مساحة المنزل المتسعة، حاولت أن تخفي غيرتها بوضع قناع الجمود، لكن بقيت نظراتها الحاقدة ظاهرة عليها، غمغم مع نفسها في غيظٍ:
-يا بنت المحظوظة، كلي دي هتبقى بتاعتك.

تساءل "هيثم" عن الانطباع الأولي لما أجراه من تعديلات وهو يراقب ردة فعل خطيبته:
-إيه رأيك؟
وبنظراتٍ متأففة متعالية بادرت "حمدية" بالرد:
-مش بطال.
صححت "همسة" على الفور ببسمة رقيقة:
-ماشاء الله جميلة.

بينما احتدت نظرات "فيروزة" نحوها، لم تحبذ أبدًا وجودها المستفز، ناهيك عن تعليقاتها السخيفة المحبطة، حاولت قدر المستطاع تجاهلها حتى لا تتسبب في إفساد الوضع، لتبقى على الحياد كما اختارت إلا إن تطلب الأمر تدخلها، تجولت في أرجاء الشقة متفقدة غرفها، في حين تولى "هيثم" مهمة شرح ما تم إجرائه من تعديلات مؤخرًا فيها، فقال بصوتٍ مرتفع نسبيًا مستخدمًا يده في الإشارة:
-النجارين غيروا حلقان الأبواب والشبابيك، وخدوا مقاسات الشبابيك الجديدة وهيدهنوا ويكونوا جاهزين كمان كام يوم.

ردت "همسة" تجامله:
-تمام .. تسلم على تعبك.
وأيدتها والدتها الرأي فقالت:
-ربنا يعينك يا ابني، الحاجات دي بتاخد وقت ومجهود.
ابتسم لهما في سعادةٍ، وتابع بنفس النبرة المتحمسة:
-احنا عملنا البلاط فاتح عشان يدي وسع للشقة.
علقت عليه "حمدية" بشفاهٍ مقلوبة وهي تتجول بين الصالة والردهة:
-مايضرش.

رمقتها "همسة" بنظرة منزعجة منها، والتفتت نحو "هيثم" الذي واصل حديثه قائلاً:
-والعفش في أي وقت نروح المعرض ننقي ونشتال على طول.
زمت "حمدية" شفتيها معقبة عليه:
-وماله.
ظهر الضيق على "هيثم" من تدخلها غير المقبول في الحوار، وتساءل:
-في حاجة مش عجباكي يا "همسة"؟ حابة تغيري في الألوان؟
أجابته مشيرة بيدها نحو الحائط:
-ممكن نخلي الصالة بيج، مش بأحب الألوان الغامقة.

هز رأسه قائلاً:
-اللي تعوزيه، هاعدي عليكي بعد بكرة يكون البوهيجي جابلي الكتالوج نختار منه اللي يعجبك.
ابتسمت في حبورٍ وهي ترد:
-شكرًا.
وقفت "حمدية" أمام النافذة المفتوحة فضربت نسمات الهواء العليلة وجنتيها، تنفست بعمقٍ وأخرجت الهواء من صدرها مرددة بما يشبه الحسد:
-الشقة شرحة، وبرحة، وهواها بحري يرد الروح.
علق عليها "هيثم" بعفوية:
-ولسه لما تتقفل.. هتبقى حاجة تانية خالص.

ردت عليه "آمنة" في استحسانٍ:
-تتهنوا بيها إن شاءالله يا ابني.
ضجرت "فيروزة" من الانتظار فقالت:
-مش يالا بقى.
حدجها "هيثم" بنظرة حادة قبل أن يعترض عليها:
-أنا لسه مخدتش رأيها في الإيشاني بتاع المطبخ.

نفخت الهواء دفعة واحدة لترد عليه:
-أوكي ..
ثم وجهت حديثها لتوأمتها ووالدتها قائلة:
-أنا هانزل أستناكو تحت.
ردت عليها "آمنة" بإيماءة صغيرة من رأسها:
-ماشي يا "فيروزة".

خرجت الأخيرة من المنزل متجهة إلى الدرج لكنها تفاجأت باتصالٍ متكرر من "علا"، ظنت أن "آسر" هو من يحاول التودد إليها مجددًا، وبحزمٍ قررت أن توبخه، لكن خاب تخمينها مع سماعها لصوتها المألوف، بادرت بمعاتبتها بضيقٍ:
-ينفع كده يا "علا"؟ هو أنا بتاعة الحركات دي؟
صمتت لتصغي إلى تبريرها:
-هو طلب مني إنه عاوز يشكرك بنفسه..

هتفت فيها بقليلٍ من الضيق:
-ده أنا كنت هاحرجه والله.
احتجت على جفائها قائلة:
-يا "فيرو" أنا شايفة الموضوع عادي.
أيقنت أنها لن تصل إلى نتيجة معها في ذلك النقاش لكونها متساهلة بعض الشيء فيما يخص علاقتها بالجنس الآخر، على عكسها دومًا متحفظة فيما يخص شئون الرجال، زفرت ببطءٍ قبل أن تنطق:
-حصل خير.

استأذنتها "علا" في رقةٍ:
-بصي يا قلبي، أنا بكرة مش هاينفع أروح المحل، أنا عارفة إني تقلت عليكي اليومين دول و...
تفهمت أسبابها وقاطعتها قائلة:
-خلاص ولا يهمك، أنا هتعامل وهاخلص المطلوب
شكرتها بحماسٍ رهيب:
-حبيبتي يا "فيرو"، ربنا يخليكي ليا.

في تلك الأثناء، ظهر رفيقه القديم على الساحة ليقدم التهنئة له، تعامل معه "تميم" بفتورٍ واضح، وكأنه لا توجد صداقة بينهما امتدت لسنواتٍ كثيرة، ما زال صدره يحمل له الضغينة جراء تهوره الأرعن، رأى بصحبته كلاً من "حمص" و"شيكاغو"، كلاهما قد جاءا لتقديم المباركات، وبنفس الأسلوب الحذر المقتضب تعامل معهما، حاول "ناجي" ممازحته ليذيب الجليد السائد بينهما، فسأله بابتسامة عريضة:
-إيه يا عم لا بتعدي ولا بتسأل؟

رد عليه متسائلاً بوجومٍ، ونظراته تجوب على أوجه الثلاثة:
-عاوز إيه يا "ناجي"؟ وجايب جوز المقاطيع دول معاك ليه؟
تلقائيًا استدار برأسه للخلف لينظر إلى تابعيه، وعاد ليحدق فيه موضحًا بنفس الأسلوب المازح:
-قولنا نعمل الواجب مع الحاج "بدير"، مبروك يا خال، وعقبال فرحتنا بولادك.
اقتضب في الرد قائلاً:
-متشكر.

ثم تركه ليرحب بآخرٍ قبل أن يتجه إلى مدخل البناية، استوقفه "ناجي" الذي تبعه عند أعتاب المنزل صائحًا بنبرته الجادة:
-شكلك لسه زعلان مني من ساعة الحكاية إياها.
التفت نحوه "تميم" ليرد بحدةٍ:
-بصراحة أه...

لم يدرك الأخير بوجود "فيروزة" في تلك البقعة المعتمة نسبيًا حيث كانت تهاتف رفيقتها، انتبهت للأصوات المرتفعة خاصة حين تابع "تميم" بنبرته اللائمة:
-إنت لبستني ليلة ماليش فيها يا "ناجي"، والجماعة مفكرين إني حرقت عربية الأكل بسبب جوز البهايم اللي معاك
تقدم صديقه نحوه متحججًا:
-مكانوش يقصدوا يا سيدي، كانوا مفكرين إنهم بيوجبوا معاك لما حرقوها.

هدر به في غيظٍ:
-وهو أنا طلبت منك تعمل كده؟
أجابه نافيًا وقد نكس رأسه قليلاً:
-الصراحة لأ.
حذره مجددًا بلهجة يشوبها الصرامة:
-فهم الجوز اللي معاك إني مش عايز منهم أي مصلحة، مشاكلي بأحلها بنفسي!

حلت الدهشة المصدومة على تعبيرات "فيروزة" بعد أن عرفت الحقيقة كاملة بمحضِ الصدفة، وقالت مستنكرة حكمها المجحف في حق من نصبته عدو مصلحتها:
-معقول .. يعني أنا ظلمته؟
حاول "ناجي" تلطيف الأجواء، فقال بنبرته الهازئة وهو يربت على كتفه:
-طب روق يا خال، ده الليلة فل وحاجة آخر جمال.
رد عليه بجمودٍ:
-"ناجي" شوفلك سِكة دلوقتي عشان أنا مش رايقلك.

تفهم عزوفه عن مجاراته في الحديث، وقال بيأسٍ:
-ماشي يا صاحبي، مش هعاتب عليك، لينا أعدة سوا بعدين، سلام!
لوح له بيده باستخفافٍ:
-سلامين يا سيدي.
استدار "تميم" ليتابع سيره نحو الدرج ليتفاجأ بوجود "فيروزة" قبالته، نفس تلك الحالة المتخبطة تظهر من العدم لتربكه، استغرب من نظراتها التي تتأمله بشكلٍ غريب لم يألفه منها، أحس بانقباضة تضرب قلبه، وباهتمامٍ زائد سألها:
-خير يا أبلة؟ في حاجة حصلت فوق؟

باغتته بسؤالها المباشر، وعيناها مثبتتان عليه:
-إنت محرقتش العربية؟
تدلى فكه السفلي في صدمة لحظية من سؤالها، خاصة مع لمعان حدقتيها المتسعتين، تشوش تفكيره لثوانٍ، لم يتوقع أبدًا أن تكون حاضرة خلال تلك المحادثة التي ربما رتبها القدر له، وسألها كما لو كان يفكر بصوتٍ مسموع:
-إنتي سمعتي الحوار؟

تنحنحت مبررة وجودها بنبرة هادئة حتى لا يُساء فهمها:
-بالصدفة، مكونتش قاصدة يعني.
بدا مسرورًا للغاية من استكانتها العجيبة التي نادرًا ما يراها في حضوره، وكأنها ازدادًا فتنة وسحرًا بتلك الهالة غير الاعتيادية من الرقة الخفية، وجد نفسه يبتسم في ابتهاجٍ وهو يرد:
-مش مشكلة، المهم تتأكدي إني ماليش دخل في العوأ ده كله.

تصنعت الجدية وعقبت عليه:
-هو موضوع واتقفل، وأنا ما ببصش ورايا.
تشجع ليطلب منها قبول تعويضه فبحث عن الكلمات المناسبة لخلق جملة مرتبة، لكن على ما يبدو خانه لسانه من جديد، وبربكةٍ ظاهرة عليها حاول أن يقول:
-طب إن كان ينفع آ.....
فسدت جملته قبل أن تكتمل واكتسب وجهه لمحة عابسة حين سمع الصوت الأنثوي المنادي من الأعلى:
-نادي على خالك يا "فيروزة" لو شايفاه عشان احنا ماشيين.

أدارت رأسها للخلف، وردت:
-حاضر يا ماما.
عادت "فيروزة" لتحدق في وجهه المتجهم بشكلٍ غريب قائلة:
-عن إذنك، عاوزة أروح لخالي.
لم ينتبه "تميم" لجسده الذي سد الطريق عليها، وفهم من نظراتها وحركة يدها أنها تريد المرور، عاد عقله ليعمل بكامل إدراكه بعد حالة التخبط المستحوذة عليه ليقول بصرامة ونظراته الجادة توحي بعدم تقبله للرفض:
-خليكي إنتي.. هو قاعد وسط الرجالة، مايصجش تخشي وسط الزحمة.

فاجأته للمرة الثانية بردها الهادئ المغلف بالشكر:
-اوكي .. شكرًا يا معلم
ابتسم قائلا في انتشاء وقلبه يقفز طربًا بين ضلوعه، وكأن حفلة صاخبة تُقام الآن فيه:
-العفو.
أملى عينيه بتأمل وجهها في تلك الثواني المعدودة قبل أن يستدير خارجًا من مدخل البناية وهو يفرك رأسه ومؤخرة عنقه، بدا كالمراهق في تصرفاتها الغريبة تلك، ومع هذا كان مستمتعًا لأقصى الحدود بما يفعله.

ليلة كئيبة محبطة نالتها مرة أخرى بعزوفه عنها وقضائه معظم الوقت بصحبة الحفيد الجديد يدللـه ويداعبه، كظمت "خلود" كمدها في صدرها صاغرة لأوامر والدتها بعدم محاولة جذبه إلى أحضانها بالغنج أو بغيره، عليها أن تتخذ حذرها حتى تتأكد إن كانت تحمل في أحشائها طفله أم مجرد حالة إعياءٍ عابرة، وبأعصابٍ مشدودة انتظرت وحيدة في فراشها حتى أشرق عليها النهار، حينها نهضت وارتدت ثيابها لتقابل والدتها متعللة بحاجة الأخيرة للمساعدة في تنظيف وترتيب المنزل بعد اعتذار الخادمة عن المجيء، وفي المكان المتفق عليه التقت بها.

توجهت كلتاهما إلى المختبر للقيام بتحليل للحمل، لم تفهم إحداهما نوعية التحليل المطلوب فوقع الاختيار على ذلك الذي تظهر نتائجه بعد نصف ساعة .. استلمت "بثينة" النتائج وقلبها ينبؤها بصدق حملها، أطلعتها الموظفة الموجودة بالمكان على إيجابية النتائج فغمرتها فرحة لا توصف، ومع ذلك أصرت على التوجه بابنتها التي بلغت عنان السماء بتلقيها مثل تلك الأخبار السارة إلى الطبيب النسائي، انتظرت الاثنتان دورهما الذي استغرق المزيد من الوقت، وبعد نظرة سريعة من الطبيب على ما في يده من تحليل استطرد يقول بهدوءٍ مريب:
-المدام فعلاً حامل.

أطلقت "بثينة" زغرودة عالية كتعبير عن اكتمالِ فرحتها قبل أن تهلل:
-الله أكبر.
أشار لها الطبيب بيده راجيًا:
-اهدي يا حاجة، احنا في عيادة.
بررت له "خلود" معتذرة، وسعادتها تتراقص في عينيها:
-معلش يا دكتور أمي فرحنالي، ودي عوايدنا.
هز رأسه في تفهمٍ قبل أن يضيف بلهجة روتينية:
-تمام، كل ده مفهوم، بس أنا عاوزك تعملي التحليل الرقمي.

تكشيرة عظيمة احتلت وجه "بثينة" التي بدت كمن تهاجمه حين سألته:
-وإيه الفرق؟ هي مش طلعتش حامل؟
رد موضحًا بتمهلٍ حتى تستوعب مقصده:
-أيوه، بس ده بيقول إن كانت حامل ولا لأ، لكن التاني بيطلع النسب المئوية بالظبط، وبيوضحلنا هرمون الحمل بيزيد ولا لأ.
تعذر عليها تفسير مقصده، فعلقت بتوجسٍ:
-إنت كده قلقتنا، يعني البت حامل ولا لأ؟

سحب شهيقًا عميقًا لفظه بتريثٍ وهو يخبرها دون أن يظهر الانزعاج على وجهه:
-يا حاجة التحليل بيقول حامل، لكن أنا عاوز أطمن إن الحمل ماشي في مراحله الطبيعية، مافيش فيه خلل.
زمت شفتيها لترد:
-طيب.. أما نشوف أخرتها إيه!!!
التفت الطبيب برأسه نحو "خلود" طالبًا منها وهو يدون شيء ما في الأوراق الموضوعة قبالته:
-هتطلعي من عندي تعملي التحليل الرقمي، وأنا كاتب اسمه في الروشتة هنا، وبعد يومين هتكرري التحليل تاني، وترجعيلي بالنتائج كلها.

ثم مد يده بالورقة لتأخذها منه وهي ترد:
-ربنا يسهل.
تبادلت "خلود" نظرات حائرة مع والدتها التي انتظرت انتهاء المقابلة لتردد بتزمتٍ:
-شكل الضاكتور ده مابيفهمش حاجة، هي كتر فلوس؟ تحاليل إيه دي اللي طالعلنا فيها؟
ردت عليها مفسرة الأمر لها:
-خلينا نطمن يامه، المهم إني حامل.
تنهدت تضيف في سأم وقد تعكر مزاجها:
-أيوه.

بضعة خطوات سارت بها نحو الأمام قبل أن تتوقف فجـــــأة لتعاود تذكير ابنتها وقد قست نظراتها نحوها بشكلٍ لئيم:
-بت يا "خلود"!
تطلعت إليها الأخيرة في اهتمامٍ والهموم المحبطة تنعكس عليها، فأوصتها والدتها مؤكدة من جديد بنبرة شديدة اللهجة حتى تلتزم بإبقائه سرًا:
-اوعي تتهفي في عقلك وتحكي عن اللي عملناه النهاردة! زي ما اتفقنا ماتقوليش لحد ما نقطع الشك باليقين، وساعتها هتبقي فوق دماغ الكل...!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني الحلقة السابعة بقلم منال سالم


يبدو أن رفيقتها استغلت الفرصة لتحصل على عطلة طويلة الأجل امتدت لأيامٍ متعاقبة دون أن تكبد نفسها مشقة المجيء لتفقد مالها، ووحدها من باتت مسئولة عن كل ما يتعلق بالعمل، لم تمانع "فيروزة" بالقيام بمسئولياتها على أكمل وجه، ربما أكسبها ذلك المزيد من الخبرة حين تدير عملها الخاص في المستقبل، انتهت من توضيب صندوق آخر مليء بالمطلوب لأحد الزبائن، راجعت محتوياته لمرة أخرى حتى تتأكد من عدم إغفالها لما يخص العميل، اتجهت بعدها لمكتب "علا" لتخرج دفتر الفواتير منه، انتبهت للفاتورة التي لم تحصل بعد، رفعتها لتقرأ الاسم، كانت مسجلة باسم "تميم سلطان"، تبدلت تعبيراتها للضيق، حكت مقدمة رأسها وهي تتساءل في حيرة:
-مش معقول، ده فاتورته لسه هنا؟

اعتصرت ذهنها لتستعيد سبب غفلتها عنها، بدت وكأنها تتناقش مع نفسها بصوت مسموع حين تابعت:
-أيوه.. من ساعة حادثة "آسر"، معنى كده إن الفلوس مادفعتش.
ضربت جبينها وهي تتابع بنبرة لائمة:
-ده الموضوع راح من بالي خالص، العمل إيه دلوقتي؟

أسندت الفاتورة على سطح المكتب، ونقرت بأصابعها عليه في لزمة متكررة لتفكر مليًا في حلٍ ملائم لتلك المعضلة، خاصة بعد أن مر على انقضاء حفل السبوع ما يقرب من ثلاثة أيام، رددت مع نفسها في ضيقٍ حرج:
-ما هي لو كانت فلوسي كنت عديت الموضوع، ودفعت الفرق حتى من جيبي، بس الفلوس اللي معايا ماتكفيش ربع المبلغ ده .. المفروض اتصرف إزاي؟

أراحت ظهرها للخلف وقد ظهرت عليها أمارات الحيرة أكثر، نفخت في استياءٍ قبل أن تقول لنفسها:
-بيتهيألي مافيهاش حاجة لما أفكره بده، أكيد هو زيي ناسي..
ثم ابتسمت لنفسها وهي تعلق بتهكمٍ:
-ما هو كان معايا أصلاً!
طوت "فيروزة" الفاتورة ووضعتها في حقيبتها وقد باتت شبه حاسمة لأمرها بعد تفكيرٍ عميق، ستذهب إليه خلال فترة استراحتها عند دكانه في زيارة ودية، قصيرة وسريعة تطالبه فيها بسداد ثمن البضائع دون حرجٍ .. هكذا أقنعت نفسها ببساطة!

قدمت خطوة وأخرت الثانية وهي تسير في اتجاهها نحو الدكان، نظرة مدققة ألقتها على من يمرون أمامه علها تجده بينهم، لم تتمكن من إيجاده فتابعت تقدمها نحو المكان وهي تعيد ترتيب أفكارها، كانت متحرجة من الموقف برمته، فليس من المفترض أن تطالبه بسداد شيء ما وهي في الأصل تدين له بمال المشفى، وإن كان ينكر ذلك، لكنها متيقنة من كونه الوحيد الذي راوغها خلسة وخدعها بطريقة ما لا تعلمها ليعيد بها المال المال، أفاقت "فيروزة" من سرحانها السريع في أفكارها على صوت أحد العمال المنادي لزميله، تنبهت لوجودها أمام المدخل، استعادت زمام أمرها، والتفتت برأسها للجانب لتجد الحاج "بدير" يتطلع إليها بوجهه البشوش، هتف الأخير مرحبًا بها:
-صباح الخير يا بنتي.

بادلته ابتسامة ودودة وهي ترد:
-صباح الخير يا حاج..
ثم ألقت نظرة عابرة على من بالداخل وهي تواصل القول:
-هو المعلم "تميم" موجود؟
أجابها نافيًا:
-لأ .. في مشوار.. خير في حاجة؟.
مطت شفتيها في حيرةٍ، فأصر عليها "بدير" بنظراته الجادة المسلطة عليها:
-قولي ماتتكسفيش.

تشجعت لتقول بحذرٍ:
-أصل الحكاية ومافيها إنه كان اشترى حاجات من المحل اللي أنا شغالة فيه عشان سبوع حفيدك، والفاتورة.. لسه مادفعتش.
سألها مباشرةٍ:
-هي فين؟
أخرجتها من حقيبتها لتعطيه إياها، نظر لها بإمعانٍ بعد أن تناولها منها، شعرت "فيروزة" بمزيدٍ من الحرج مع تدقيقه الواضح فيها، وقالت:
-أنا مكسوفة من حضرتك أوي.
رد عليه بابتسامةٍ عادية:
-حقك يا بنتي، أنا بس بأراجع الحسبة عشان لو في غلطة ولا حاجة، متأخذنيش اتعودت على كده.

علقت عليه بتوترٍ طفيف مستخدمة يدها في الإشارة:
-المشكلة دي فلوس ناس، ومش بتاعتي، وأنا المفروض كنت أخد بالي.
قال ببساطةٍ:
-الاتفاق اتفاق.. هو كلام عيال ولا إيه؟
نهض من جلسته مستندًا على عكازه، ثم دعاها بترحابه الودي:
-اشربي حاجة عقبال ما أجيبلك الفلوس.

ردت بتهذيبٍ وهي تجاهد لتحافظ على بسمتها العملية قبالته:
-مالوش لازمة.
ألح عليها بجديةٍ:
-لأ إزاي.. مايصحش، تبقي عندي وتتعاملي زي الغريب..
هزت رأسها بإيماءة موافقة، فأضاف في حماسٍ:
-وبعدين أكون وصيتهم يجهزوا كام حاجة يبعتوها على البيت.

شعرت بحرجٍ أكبر من كرمه الزائد، واعتذرت منه بلباقةٍ:
-خيرك سابق يا حاج، مافيش داعي و...
قاطعها "بدير" بإصرارٍ مشيرًا لها بنظراته:
-ده واجب عليا، ده إنتو من العيلة..
ثم رفع من نبرته ليأمر أحد عماله:
-كرسي بسرعة يا وله.
أحضر لها العامل مقعدًا خشبيًا بعد تلميعه لتجلس عليه، ابتسمت وهي ترد:
-شكرًا يا حاج "بدير".

غاب في الداخل لبضعة دقائق، وانتظرت "فيروزة" بترقبٍ تتابع في فتور حركة المارة العابرين من أمامها، استرعى انتباهها أصوات الشاحنات التي تنقل البضائع من وإلى الدكان، وكأن العمل لا يتوقف للحظة، عاد إليها "بدير" يمد يده ناحيتها أولاً بمفتاحٍ معلق به ميدالية فضية موضحًا:
-دي نسخة من مفتاح الشقة عشان أما تروحوها في أي وقت.
ضاقت عيناها مرددة في استغرابٍ:
-شقة؟!

تعجب من الحيرة الظاهرة عليها، وقال بمزيدٍ من الإيضاح:
-بتاعة أختك.
الآن تفقه ذهنها للأمر، ووضعته في حقيبتها لتقول متصنعة الابتسام:
-أيوه.. تمام.
استرسل في الحديث ليضيف من تلقاء نفسه:
-كانت الحاجة قالتلي إنكم عاوزين نسخة تبقى معاكو، وأنا كنت مستني قرب ما العمال تخلص شغل فيها عشان اخلي النجار يغير طبلة الباب وتبقوا معاكو النسخ الجديدة.

ورغم دهشتها من ذلك الطلب إلا أنها ردت مادحة إياه، فإذ ربما دار الحوار بينهما في عدم وجودها:
-مش مشكلة، كفاية اللي حضرتك عامله عشانا.

على الجانب الآخر، هبطت كلتاهما الدرجات الرخامية من تلك البناية – حديثة الطراز في تصميمها- بعد انتهائها من الكشف النسائي بعيادة الطبيب الذي قررت المتابعة معه، تأكدت "خلود" من سير حملها في مراحله الأولى بشكلٍ طبيعي من خلال نتائج التحاليل الرقمية التي أجرتها، حينها فقط قررت الإفصــاح عما تحمله أحشائها، اتجهت مع والدتها التي لازمتها إلى الطريق الرئيسي حيث ستنحرف منه عند الناصية للزقاق الجانبي لتصل منه إلى الدكان، بدا الوجوم بائنًا على ملامح "بثينة" التي عاتبتها بضيقٍ:
-بردك مصممة تعملي اللي في دماغك يا "خلود"؟ خلينا نرجع البيت، وابقي قوليله هناك.

أصرت عليها بحماسٍ، والسعادة تتراقص في حدقتيها:
-فرصة يامه واحنا خلاص بقينا قريبين من الدكان، عاوزة أطل عليه، وبالمرة أفرح حمايا، ويعرف إن حفيده الحقيقي جاي.
ضاقت نظرات والدتها بشكٍ نحوها، وكأنها تنفذ إليها لتكشف عن أغوارها، تنهدت تسألها في مكرٍ:
-حماكي بردك؟ ولا عاوزة تفتشي ورا جوزك؟

ثم مصمصت شفتيها لتدافع عنه بصدقٍ:
-مع إنه مالوش في اللف ولا الدوران.
تطلعت إليها ابنتها بنظرة غامضة، فوالدتها الوحيدة التي تقرأها بوضوح وتعرف نواياها، حاولت التهرب من إجابتها بصراحةٍ، وقالت.
-أنا عارفة، بس هوديني وخلاص، مش هنخسر حاجة.
زفرت ترد على مضضٍ:
-أما نشوف أخرتها إيه، بس عاوزين نجيب الفيتامينات والمثبتتات اللي قال عليها الضاكتور ده
ابتسمت قائلة لها:
-هنعدي على الصيدلية في طريقنا..

وقبل أن تنحرف الاثنتان عند الناصية لمحت كلتاهما "بدير" وهو يمد كفه بمظروف به نقودٍ ليعطيه لـ "فيروزة"، على ما يبدو كان يحصيهم قبل غلقه للتأكد من العدد، شخصت أبصارهما في ذهولٍ، وفي لحظة اختفت علامات الفرحة لتظهر مكانها القتامة والكراهية .. كزت "خلود" على أسنانها في غيظٍ كبير، وهتفت بأنفاسٍ شبه منفعلة تشكو والدتها:
-شوفتي، أهوو أنا قلبي كان حاسس، بنت الأبلسة واقفة هناك أهي!!

تساءلت "بثينة" في فضولٍ متزايد، وعيناها تلمعان بشكلٍ مقلق:
-ودي جاية ليه؟
أجابت نافية وشعورها بالغيرة قد تعاظم بداخلها:
-مش عارفة، بس أكيد عاوزة تشغل جوزي، أنا إحساسي ما بيكدبش.
أضافت عليها والدتها في امتعاضٍ حاقد:
-لأ وشوفي حماكي بيطلع بواكي فلوس ويديها، وهي ما هتصدق تغرف طبعًا، ما هو مال سايب وأتة محلولة.

ردت عليها "خلود" بنبرة عبرت عن غِلها:
-أكيد جاية تبلفه بكلمتين وتضحك عليه بوش العقارب ده.
أيدتها الرأي، وأضافت عليها في حنقٍ:
-أومال إيه؟ لزوم تكاليف توضيب الشقة، ويبقى ما صرفوش حاجة، وابني عمال يدفع ويصرف على البت دي.
شحذت "خلود" قواها الغاضبة لداخلها، ونطقت من بين شفتيها تتوعدها:
-أنا رايحلها أعرفها مقامها.

حذرتها والدتها بجديةٍ وقد شدت على رسغها لتوقفها:
-اوعي تعملي حاجة مجنونة يا بت، ماتبوظيش الطبخة على شوية ملح.
استلت يدها من أصابعها، وقالت بكل غيظها المتجمع بداخلها:
-سيبيني يامه، لازم أوقفها عند حدها.
اعترضت طريقها بجسدها، وحذرتها من جديد بلهجة صارمة وهي تشير لها بعينيها الخبيثتين:
-ماتخليش واحدة زي دي تعلي عليكي وتكسب الراجل ده.

صاحت بها في عصبيةٍ:
-حاسبي يامه، كله إلا جوزي.
دفعتها لتواصل تقدمها وشرارات الغضب تنطلق من حدقتيها المشتعلتين، دمدمت والدتها من ورائها:
-استر يا رب.
نفخت كتل الهواء من جوفها طوال سيرها المتعصب نحو الدكان، ثم استنشقت دفعة أخيرة بعمق لتحجم بها انفعالاتها الثائرة، للحظة تداركت نفسها ومنعتها من التهور برعونة، حاولت أن تبدو لطيفة، طيعة، ودودة حين قالت بابتسامة لطيفة:
-سلامو عليكم، إزيك يا عمي؟

استدار نحوها "بدير" ليتفاجأ بوجودها، تساءل بعفويةٍ:
-"خلود"، خير يا بنتي؟ جاية هنا ليه؟
ضغطت على كل كلمة تتلفظ بها وهي ترد، وعيناها تنظران إلى "فيروزة" بحقدٍ رغم وداعتها المصطنعة:
-جاية أبشرك بأخبار حلوة، بس "تميم" جوزي فين؟ عاوزاه يسمع معاك يا عمي.
أجابها "بدير" بتمهلٍ:
-وراه مصالح بيخلصها.. عاوزة تقوليلي إيه؟

احتدت نظرات "بثينة" التي أتت ركضًا من خلفها، همست لنفسها برجاءٍ آملة في نفسها ألا تفسد ابنتها ما تخطط له:
-اوعي يا بنت المجنونة! كده هتبوظي كل حاجة!
ماطلت "خلود" في حديثها قائلة:
-أصل أنا كنت تعبانة اليومين اللي فاتوا دول أوي يا عمي، مكونتش قادرة أقف على حيلي أبدًا، والحمدلله اطمنت وعرفت السبب.

انتبه لجملها الغامضة، وتساءل والفضول مرسوم على ملامحه:
-خير يا بنتي؟ إن شاءالله مافيش حاجة خطيرة.
ابتسامة ماكرة احتلت شفتاها وهي توضح:
-يا عمي كلها كام شهر وتبقى جد لحفيد من صلبك، أنا قولت أبشرك قبل أي حد..
هلل "بدير" بفرحة حقيقية:
-اللهم لك الحمد والشكر، إنتي متأكدة يا بنتي؟

ردت بابتسامة أكثر اتساعًا:
-أيوه، حتى جوزي الغالي لسه مايعرفش.
رددت "فيروزة" مع نفسها بنبرة متهكمة ساخرة منها وهي تصغي لكم الزيف في حديثها الأجوف:
-أه طبعًا جوزي حبيبي قرة عيني.
تابعت "خلود" حديثها قائلة بتملقٍ مليء باللؤم:
-البشارة يا عمي لازم تكون عندك الأول، ده إنت الغالي عندي.

وكأن سعادة الدنيا قد تجمعت في نظراته نحوها بعد أخبارها المشوقة تلك، امتداد اسم عائلته سيكون من خلال الحفيد المنتظر، عبر "بدير" عن فرحته العارمة قائلاً:
-اللهم صلي على النبي.. هي دي الأخبار اللي تفرح، يا خير ما عملتي.. ربنا يكملك على خير..
ربتت "بثينة" بيدها في قوةٍ ملحوظة على كتف "فيروزة" تستحثها بنبرة ذات مغزى:
-مش تباركلي لـ"خلود" يا حلوة.

نظرت لها الأخيرة شزرًا من طرف عينها قبل أن توجه نظراتها نحو ابنتها السمجة، وقالت باقتضابٍ:
-مبروك.
ردت عليها "خلود" بترفعٍ، كأنها تجبر نفسها على الحديث معها:
-متشكرة.
تنحنح "بدير" مقترحًا:
-ما تمشوش، أنا هابعت معاكو حد يوصلكم البيت عشان بهدلة المواصلات، وأول ما "تميم" يرجع هبعته عندك تفرحيه.

ردت "خلود" تشكره بتعبيراتٍ مبتسمة:
-كتر خيرك يا عمي.
ابتعد "بدير" للحظاتٍ لتفرغ الساحة لثلاثتهن حيث تتكشف الأقنعة وتظهر الأوجه الحقيقية، ألقت "خلود" نظرة احتقارية شملت "فيروزة" من رأسها لأخمص قدميها قبل أن تنطق بوقاحةٍ:
-عقبالك إنتي وأختك... ولو إن مافيش حاجة مضمونة اليومين دول، صح يامه؟

دعمتها "بثينة" في حديثها السمج، وقالت:
-أيوه.. كله مغشوش يا بت، وياما كتير اتغفلوا أونطة
تحفزت "فيروزة" في وقفتها لتنظر لكلتيهما باستخفافٍ، دلت كلماتهما على حقدها الدفين، بدت أكثر ثباتًا وغرورًا عن زي قبل وهي تعمق من نظراتها نحوهما، ثم علقت حقيبتها على كتفها لترد ببرود استفزهما:
-معاكو حق.. حتى الحامل نفسها، مش مضمون يكمل حملها ولا لأ.. وخصوصًا لو كانت منفسنة وبتغِل في نفسها كتير.

استشاطت "خلود" غضبًا، وردت عليها بحدةٍ، وكأن الدماء تكاد تنفجر في عروقها:
-إنتي بتقولي إيه؟
تابعت "فيروزة" القول بنفس البرود الهادئ دون أن تتبدل تعابيرها:
-خافي على صحتك يا .. مدام وبلاش هري كتير، مش كويس عليكي.. إنتي لسه في الأول!
أتبعت جملتها بضحكة مستهزأة بها، فاغتاظت "خلود" أكثر من نبرتها الهازئة، وهمَّت بلعنها بصوتٍ محتد:
-يا بنت الـ...

منعتها والدتها من التفوه بحماقة لتهمس في أذنها:
-اهدي يا "خلود"، ليها يومها
ردت عليها بنظراتها المشتعلة:
-إنتي مش شيفاها يامه؟
توعدتها بكلمة حاسمة كانت واثقة أنها ستنفذ ما تنتويه:
-اصبري، ماتبوظيش الدنيا.
ضغطت "خلود" على أسنانها هامسة بسخطٍ:
-عقبال ما نعزي فيها قريب.

خطت "فيروزة" مبتعدة عن الاثنتين قبل أن تتورط معهما في مشكلة حتمًا ستنتهي في القسم الشرطي بعد ضربهما بشراسة، اتجهت إلى داخل الدكان لتقول لـ "بدير" الذي كان مشغولاً بالحديث في هاتفه:
-هامشي أنا يا حاج عشان لسه ورايا شغل.
أبعد الهاتف عن أذنه ليرد:
-استني ده أنا جاي أقعد معاكي.
اعتذرت بلطفٍ:
-تتعوض وقت تاني، ومبروك ..
قال في ابتهاجٍ:
-الله يبارك فيكي.

تعمدت "فيروزة" أن تخرج من الباب الآخر للدكان لتتجنب رؤية تلك الوقحة وأمها، اتجهت صوب الشارع الفرعي لتختصر المسافات لتعود إلى عملها، في حين انتظرت "خلود" بالخارج وحقدها متفشي فيها، تساءلت في مكرٍ محاولة إخفاء غضبها حين عاد إليها حماها:
-أومال أخت عروسة أخويا جاية ليه؟

رد "بدير" متهربًا من الإجابة لكون الأمر لا يعنيها:
-كانت جاية في مصلحة كده وانتهت.
ابتلع ريقها على مضضٍ، وقالت ونيران غيظها تكاد تنفث من أذنيها:
-أنا هاقوم يا عمي، هارجع بيتي بقى، لأحسن تعبانة.
رد في تفهمٍ:
-ماتعمليش حاجة، وأنا أول ما "تميم" يرجع هابعته عندك.
ابتسمت بودٍ زائف وهي تقول:
-بإذن الله.

استندت على ذراع والدتها لتسير معها وقد تبددت اللطافة الظاهرة عليها، وبختها "بثينة" بوجهها العابس:
-اتسحبتي من لسانك وقولتي قصادها ليه؟ دي ممكن تحسدك!
نفخت قائلة في سأمٍ:
-أهوو اللي حصل..
ما لبث أن تحولت نبرتها للحقد عندما تابعت:
-وبعدين كان لازم أوقف البت دي عند حدها يامه، عشان لو بترسم على جوزي.

زجرتها أمها قائلة:
-وأنا مليون مرة أفهمك جوزك مالوش في الملاوعة، وشغل الحريم الصيع.
ردت بإصرارٍ وقد امتلأ صدرها بأضعافٍ مضاعفة من الغل والكراهية غير المبررة ناحيتها:
-لأ يامه إنتي مش فاهمة البت دي...
غامت عيناها أكثر وعكست حدقتاها ظلامًا واضحًا عندما أكملت:
-زي الحرباية، بتتمسكن لحد ما تتمكن!

ألقت بنفسها في أحضانه بمجرد أن عاد إلى المنزل -بعد يوم مرهق كالعادة- مغلقًا الباب من خلفه، مرغت "خلود" رأسها في صدر زوجها، وضغطت على جسده بذراعيها لتُشعر نفسها بأنه يحتويها ويضمها إليها رغم كونه لا يزال جامدًا في مكانه، رفعت رأسها لتنظر إليه بعينين يملأوهما الشغف، ابتسمت قبل أن تتنهد بعمقٍ لتقول له باشتياقٍ:
-حبيبي، وحشتني أوي.

هز "تميم" رأسه مبتسمًا، وكأن الكلمات تأبى الخروج من جوفه لتنطق كذبًا معبرة عن مشاعر لا يشعر بها نحوها، ما زال عالقًا في منطقة الحياد فيما يخص أمرها .. خللت أناملها في أصابعه لتسحبه خلفها وهي تتابع بحماسٍ:
-تعالى عشان هافرحك.
تساءل في اهتمامٍ قليل وهو يتبعها:
-خير، أبويا قالي إنك عاوزة تقوليلي حاجة مهمة.

أجلسته على الأريكة القريبة وجلست في حجره، مسحت بيدها على ذقنه النابتة وعيناها المسبلتان تتجولان على تفاصيل وجهه، بادلها نظرة حائرة مستغربًا مما تفعله، فاستطردت تقول بابتسامة عريضة أظهرت نواجذها:
-أنا .. حامل.
تأهب في جلسته وردد مصدومًا:
-حامل؟!
أومأت برأسها مُسهبة في الحديث معه:
-أيوه، روحت للدكتور واتأكدت، والحمدلله ربنا كرمنا، وهتبقى أب يا حبيبي.

للحظة ظل على حالةٍ من الذهول الصادم، مزيح من المشاعر العجيبة اقتحمته فجأة، حلمًا لم يكن تحقيقه في الحسبان بعد، لم يعرف كيف يعبر عما انتابه في تلك اللحظة، أو حتى يوصف حالته في مثل ذلك الموقف.. راقبت "خلود" ردة فعله الفاترة، وسألته بتوجسٍ وقد خبت سعادتها نسبيًا من صمته المستريب:
-هو إنت مش فرحان ولا إيه؟

أخفض "تميم" يده ليتلمس بطنها ومسح عليها برفقٍ، ثم نظر إليها مبررًا ربكته:
-فرحان طبعًا، أنا بس مش مصدق، يعني مش عارف أقولك على اللي جوايا، بس أنا مبسوط يا حبيبتي.
رغم انزعاجها من رده العادي الذي خالف ما تخيلته في عقلها من حماسٍ مفرط فور تلقيه ذاك الخبر السار، أو حتى قيامه بالرقص ابتهاجًا وتعبيرًا عن فرحته، وربما تقبيلها بعشرات القبل الحميمية إلا أنها أخفت ضيقها منه، ابتسمت مستأنفة حديثها معه:
-ولسه لما تشيله بين إيديك، مش هتصدق نفسك، هيبقى حتة منك.

لجأت كذلك للحيلة لتطلب منه:
-مش عاوزاك تزعلني بقى، الزعل مش حلو على اللي زيي، وإلا هاشتكيك لعمي "بدير".
سألها في اهتمامٍ:
-أبويا عرف؟
ردت مؤكدة وذلك البريق الغريب يكسو نظراتها:
-أيوه، وطاير من الفرحة، ده الحفيد اللي بجد يا حبيبي.
هز رأسه في حبورٍ قبل أن تكمل بمكرها الخبيث المغلف بمعسول الكلام:
-طبعًا، ده حفيده اللي هيشيل اسم العيلة من بعد عمر طويل، ولسه لما جدي "سلطان" يعرف.

مسح على وجنتها قائلاً:
-ربنا يباركلنا في عمرهم.
أسبلت "خلود" عينيها نحوه لتقول بغير احترازٍ:
-إنت مش عارف أنا كنت مستنية اللحظة دي إزاي، زي ما يكون حلم واتحقق، ده أنا كنت مستعدة أعمل أي حاجة عشان أخلف منك.
بدت جملتها الأخيرة نزقة بعض الشيء، فسألها مستوضحًا:
-مش فاهم؟ تعملي إيه بالظبط؟

أدركت زلة لسانها، وقالت مراوغة لتغطي على غبائها:
-ده أنا حاسة إني بأحلم، عاوزة أملى البيت ده كله عيال، يكونوا شبهك في كل حاجة.
تغاضى عن ردها الغريب ليمازحها:
-هيتهد حيلك معاهم.
هتفت غير مبالية وقد بدت أكثر حماسة عن ذي قبل:
-مش مهم، كفاية إنهم منك، وهيشيلوا اسم العيلة.

أزاحها "تميم" برفقٍ عنها ليتمكن من الوقوف، نظر لها بتفاؤلٍ وهو يعقب عليها:
-قومي من الحمل ده على خير الأول، وبعد كده ربك يسهل.
احتضنته من جديد لتقول بتنهيدة عميقة، ورأسها مستند على كتفه:
-يا رب.

عند تلك اللحظة الفاصلة قرر "تميم" أن يُغالب تلك المشاعر غير الاعتيادية التي غزت وجدانه، أن يُوأدها في مهدها، أن يقتلع جذروها قبل أن تتغلل أكثر فيه، فزوجته لا تستحق منه ذلك، وإن كانت أحاسيسه لا تتخطى حاجز خيالاته، لكنه ملتزم بالإخلاص لها، بالتفكير فيها وحدها، سيسعى جاهدًا لمنحها الاهتمام، سيعطيها الحب الذي لا يستطيع الشعور به نحوها، سيوجد من العدم مشاعرًا جديدة تشملهما، وربما سينجح في ذلك من أجل أسرته.

اصطفت سيارة النقل الصغيرة أمام مدخل البناية لتنقل المنقولات التي تخص العروس، تعاونت "فيروزة" مع توأمتها في حمل الصناديق واحدة تلو الآخر، وتولت والدتهما مهمة إفراغ ما بهم لرصهم على الفور في أماكنهم، بالطبع كانت الأسبق في الحضور "حمدية" لتقف على رؤوس الأشهاد في تلك المناسبة، توقفت الأختان لالتقاط أنفاسهما للحظاتٍ، وتساءلت "همسة" في تعبٍ بعد ذلك المجهود الشاق الذي بذلته في فترة وجيزة:
-فاضل كام كرتونة؟

أجابتها "فيروزة" وهي تنظر لورقة صغيرة في يدها:
-احنا طلعنا 15 واحدة، ناقص 10.
علقت عليها توأمتها بما يشبه المدح:
-كويس إنك مرقماهم، عشان مانتلخبطش.
أضافت موضحة أيضًا وقد أبرزت مفكرة صغيرها احتفظت بها في جيب بنطالها:
-وكل كرتونة مكتوب فيها ايه، ده هيسهل علينا كتير.

اقترحت عليها "همسة" بنوعٍ من التذمرٍ:
-مش كنا قولنا لـ "هيثم" كان جه وساعدنا
رمقتها بنظرة حادة قبل أن ترد:
-"همسة" إنتي عارفاني، عاوزين نكون على راحتنا، مش ناقصين دوشة ومُحن من خطيبك ده، وجايز يبقى جايب أمه معاه، صدقيني مش هنخلص، ده غير حرقة الدم.
قالت على مضضٍ، وقد بدت شبه عابسة:
-طيب.
التفتت كلتاهما للخلف معًا حين سمعا الصوت المتسائل:
-إنتو هنا من بدري؟

ملأ السرور تعابير "همسة"، فخطيبها قد جاء –ليس بمحض الصدفة- لرؤيتها، نظرت له بخجلٍ، وردت مبتسمة ابتسامة صغيرة:
-يعني.. مش أوي.
سددت "فيروزة" لتوأمتها نظرة حادة متشككة، وأخفضت صوتها لتقول بتبرمٍ:
-ده بيجي على السيرة ولا إيه؟
ألقى "هيثم" نظرة متفحصة للصناديق التي احتلت ركنًا من الصالة، وتساءل:
-طلعتوا دول لواحدكم؟

أجابته "همسة" على الفور مستخدمة يدها في التلويح:
-أيوه، ولسه في شوية تحت وهانروح نجيب شنط الهدوم وآ...
قاطعها بحزمٍ:
-طيب كفاية عليكو كده، ارتاحوا، وأنا و"تميم" هنطلع الباقي.
اعترضت عليه "فيروزة" بلهجة أظهرت انزعاجها:
-لأ كتر خيرك، مالوش لازمة تعرفه، احنا هنعرف نظبط أمورنا.

استغرب "هيثم" من عزوفها عن مساعدته، وقال بإصرارٍ:
-ما هو شايف العربية اللي سادة المدخل، وبعت جاب عمال من عندنا كمان عشان ننجز وننقل حاجتي بالمرة.
احتجت بمزيدٍ من العناد المعارض لقدومه:
-وليه يتعب نفسه من الأساس؟
مالت "همسة" على شقيقتها لتهمس لها في أذنها:
-إنتي ناسية إن ده بيت عيلته؟ أكيد هيبقى عارف.
ردت عليها بصوتها الخافت:
-ماشي، بس مش مبرر يعني.

نظرت لها برجاءٍ قبل أن تُصر عليها:
-معلش بقى، وبعدين كده هنلحق نخلص بدري عشان نطلع على الأتيليه ونشوف الفستان يا "فيروزة".
كانت محقة في الجزئية الأخيرة، الوقت محدود للغاية لإنجاز الكثير فيه، تنهدت قائلة في استسلامٍ:
-إن شاء الله.
تدخل "هيثم" في حوارهما مشددًا:
-زي ما اتفقنا يا "همسة"، مش بأحب الحاجات العريانة ولا المكشوفة.
توردت بشرتها وهي تعلق عليه:
-اطمن، أنا أصلاً مش كده.

اضطرت "فيروزة" أن تتراجع خطوة للخلف وتتنحى للجانب حين لمحت "تميم" صاعدًا على الدرج، لم تحبذ رؤيته، خاصة بعد الصدامات غير اللطيفة مع زوجته، والتي لا تتوانى عن مضايقتها إما بحديثٍ أرعن أو تلميحاتٍ سخيفة، انسحبت نحو الردهة مدعية انشغالها بتفحص الصناديق .. وبهدوءٍ يناقض طبيعة دقات قلبه المتحفزة بشكلٍ عجيب استطرد "تميم" ملقيًا التحية:
-سلامو عليكم.

أفسح له "هيثم" المجال ليمرق وهو يدعوه للدخول:
-اتفضل يا "تميم".
تساءل الأخير في حيرة:
-أحط الكرتونة دي فين؟
أجابته "همسة" ببساطةٍ:
-اسندها في أي حتة، احنا لسه هنشوف هنرص الحاجة إزاي.

وكأن بالقلب بوصلة تقوده إلى حيث المرفأ والوطن الحقيقي، اتجه عفويًا إلى المكان الذي تقف به "فيروزة" وتلك الابتسامة المرحة تزين شفتيه، وكأنها تتحداه، لم يدرك أنه يبتسم لها، لكن قُوبل وجوده بنفورٍ صريح على تعبيرات وجهها مما أجبره على العبوس والتزام الصمت، لم يكن ليفرض نفسه أبدًا عليها، انحنى ليضع الصندوق دون أن ينبس بكلمة، كان جلَّ ما يكفيه منها ابتسامة عادية تسعد روحه المعذبة مؤخرًا..،

ابتسامة ساخطة ظهرت على جانب شفتيه وهو يشعل تلك السيجارة ليدخنها بالقرب من النافذة، وكأن الحياة تعانده بخلق الفرص بينهما، فكلما قاوم حضورها كلما ظهرت وطغت بقوةٍ عليه لتستحوذ على فراغ عقله، ووحدها فقط من تغدو المسيطرة عليه.
هتفت "آمنة" من الداخل بنبرة عالية:
-تعالوا يا بنات شوفوا الرصة اللي في الدولاب دي كويسة.

استدارت "همسة" برأسها لترد بصوتٍ شبه مرتفع:
-حاضر يا ماما.
انتبهت "حمدية" للأصوات الذكورية التي تصدح في الصالة، حثها فضولها على الخروج من غرفة النوم لتفقد المتواجدين وهي تتساءل مع نفسها:
-هما بيرغوا مع مين برا؟
تجمدت نظراتها على "هيثم"، وقالت بشفاه مقلوبة:
-الله، ده العريس هنا.
تبعته بنظراتها الماكرة وهو يمد يده ليصافح "آمنة" قائلاً لها بودٍ:
-إزيك يا حماتي؟

ردت عليه بإيماءة صغيرة من رأسها:
-بخير يا ابني.
تقدمت "حمدية" في خطواتها لتصبح على مرأى ومسمع مما يحدث، ثم بادرت تشكو بتنمرٍ مفتعل:
-احنا طالع عينا من بدري، وريقنا ناشف، ومافيش حتى لقمة ترم عضمنا.
التفتت نحوها "فيروزة" لترد بضيقٍ وقد تحرجت كثيرًا من طريقتها السخيفة في التسول:
-في إيه يا مرات خالي؟ ما احنا اتغدينا قبل ما ننزل، ولا هي طفاسة؟

ردت ببرودٍ:
-الله، إنتو كلتوا، أنا ملحقتش احط لقمة في بؤي، ولا أخرت خدمة الغز علقة؟
لاحظ "هيثم" التوتر السائد بين الاثنتين، واقترح بلطفٍ:
-طب ارتاحوا شوية وأنا هابعت أجيب أكل
مدحته "حمدية" بابتسامةٍ متكلفة:
-يدوم العز.
في حين حدجتها "فيروزة" بنظرة نارية من عينيها وهي تردد بتبرمٍ:
-واحدة جعانة فعلاً، بطنها مابتشبعش!

تلقائيًا تحركت نظراتها مع "هيثم" الذي صاح:
-بصي يا "همسة" أنا حطيت صورة أبويا هنا في الصالون، لو مضيقاكي نغير مكانها.
ردت باستحسانٍ:
-لأ تمام.
تابع "هيثم" مكملاً وهو يشير لها لتتحرك نحو زاوية أخرى:
-وأما نتجوز نبقى نحط صورة فرحنا في الحتة دي.
-ماشي.

ظلت أنظار "فيروزة" مثبتة على الصورة الفوتوغرافية الكبيرة التي احتلت مساحة لا بأس بها من الحائط، دنت أكثر منها لتمعن النظر في تفاصيلها غير الغريبة عليها، لم تحد ببصرها عنها وهي تتساءل في حيرة:
-الشكل ده مش غريب عليا.

اعتصرت عقلها بجهدٍ كبير محاولة تذكر أين رأت ذاك الرجل، برقت عيناها فجأة في ذهولٍ ملبك لبدنها، للحظة توقف الزمن عن الدوران لتعود عقارب الزمن بها للوراء لسنوات مضت، عند تلك اللحظة الشنيعة التي عاشتها بكيانها، وجوارحها، بل وظلت مخلدة في وجدانها .. لا تفارقها أبدًا .. تراودها في صورة ومضات تقتحم عقلها بين الحين والآخر .. انخفضت أنظار الصغيرة "فيروزة" نحو السبرتاية التي نشرت شرارات لهبها المتطاير حولها لتصل إلى ما يحاوطها..،

رأت كيف اندلعت النيران بغتةً في دلوٍ مليء بزيت الطلاء، ذعرت وتراجعت للوراء وقلبها يخفق بقوة، كانت صغيرة بالقدر الذي يمنعها من إدراك الموقف والاستغاثة فورًا، راقبتها متوقعة أن تخبو، لكن حدث العكس، في أقل من دقيقة انتشرت النار بشكلٍ مخيف، ضاقت نظراتها مع احتدام ألسنة النيران وازدياد قوتها، وبعفوية هتفت وهي تقاوم السعال الجارح لحلقها مستخدمة يدها في الإشارة نحو الحريق:
-عمو، في نار كتير هنا.

انتفض "غريب" خوفًا مع رؤيته لذلك المنظر المرعب، هب ركضًا للداخل محاولاً إنقاذ ما يمكن إنقاذه وهو يردد:
-يا ساتر يا رب، وده حصل إزاس؟
التفت الفتى الذي بدت ملامحه مألوفة لها، ولكن في عمرٍ أصغر مما عليه الآن، حين صرخ بها:
-ابعدي عن النار..

قبض على رسغها ليجذبها بعيدًا عن كتلة اللهب الحارقة، دفعها في عنفٍ طفيف نحو الخارج ونظرته الصارمة ناحيتها ما زالت تَذكرها، أحضر "غريب" ملاءة قديمة حاول بها إخماد اللهب الذي وجد ضالته الثمينة في الانتشار بسرعةٍ أكبر وهو يصيح بصوتٍ بدا مختنقًا من كثافة الدخان الخانق:
-نادي على أبوك بسرعة يا "تميم"، قوله المحل بيولع.
رد عليه الفتى يحذره بأنفاسٍ لاهجة:
-خد بالك يا عم "غريب".
تحولت نبرته لصراخٍ قوي حتى يلفت انتباه الجميع:
-انجدونا يا جدعــــان، النار هبت في المحل.

لحظة واحدة مميتة طالت فيها ألسنة اللهب جسد "غريب" الذي اشتعل بالكامل وسط صرخات الصغيرة وهلع الفتى، هرع إليه الأخير لينقذه وقد التقط دلوًا مليئًا بالماء ليطفئ ما استعر في جلده المتآكل من نار حامية، لكن سقطت تلك الكتلة الخشبية عليه فطرحته أرضًا، انتفضت "فيروزة" في مكانها جزعًا، لكنها هرولت بشجاعة متهورة تناقض سنوات عمرها الصغيرة نحوه لتهب لنجدته بعد أن سكن جسده كليًا، وكأن غريزة البقاء كانت ما تستحثها، جثت على ركبتيها تهزه بعنفٍ.. لا استجابة على الإطلاق! تلفتت حولها باحثة عمن يساعدها، الكل مشغولٌ بإخماد الحريق الهائل..،

نهضت مستندة على كفيها لتقف عند قدميه، انحنت عليه بجسدها الهزيل لتمسك به من عقبيه، حاولت جره بعيدًا عن النيران لكنها لم تستطع، فقد كان وزنه ثقيلاً بالنسبة لها. لهثت وتعرقت وتسارعت أنفاسها، ومع ذلك لم تيأس، استمرت في المحاولة مستنزفة كل قواها، بدأت في السعال المتألم بعد أن ازدادت كثافة سحب الدخان الذي عبأ المكان وملأه. توقفت عن سحبه لتضع يدها على أنفها مانعة نفسها من استنشاق المزيد من الأدخنة الخانقة، جابت بنظراتها المرتاعة المكان الذي تحول لكتلة من الضباب وهي معتقدة أنها النهاية، لا مخرج.. لا نجاة، تهاوت جاثية على ركبتيها وقلبها يكاد ينخلع من عنف دقاته، وضعت يديها المرتعشتين حول عنقها المتيبس تتحسسه في عجزٍ، وكأنها تستجدي بذلك آخر نفسٍ لها في الحياة.

ظلت عالقة لبرهة في تلك الذكرى المؤسفة، بل بدت كما لو كانت تعايشها الآن بكامل حواسها، انتبهت "همسة" لشرودها الغريب، تقدمت نحوها ونادتها بخفوت علها تستفيق مما هي فيه، لكنها بقيت على جمودها المريب، تُطالع الصورة بوجه شاحب أرعبها، أدركت على الفور أن توأمتها تعاني من نفس حالة الصدمة التي لازمتها لوقت طويل، صرخت بها وقد لاحظت تلك التشنجات التي أصابت جسدها:
-"فيـــــــــروزة"...!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني الحلقة الثامنة بقلم منال سالم


دفعة من الدخان الحارق تحررت من رئتيه ليتبعها بأخرى تلفظها عله بذلك يذهب غيظ قلبه قبل أن يلقي بعقب سيجارته أسفل قدمه ليدعسه وهو يقف خارج المنزل مترقبًا وصول عامل توصيل الطلبات، لم يحبذ التواجد بالداخل ونفورها منه واضحًا، نأى بنفسه بعيدًا عنها وبقي مستندًا بظهره على الدرابزين .. شكره "هيثم" على كرمه الزائد مع عائلة خطيبته وتحمله تكاليف تلك العزومة الطارئة، لم يكترث "تميم" للأمر كثيرًا، لكونه من طباع أسرته إكرام الضيف وحسن ضيافته، استغل تلك الفرصة الجيدة لينصح ابن خالته بما يفيده ولا يضره، فاستطرد يقول له:
-عاوزك تخف البرشام إياه.


 
نظر له "هيثم" في حيرة قبل أن يسأله:
-برشام إيه؟
أجابه مباشرةً وقد أشعل سيجارة أخرى لينفث دخانها:
-الحباية الزرقا.
امتعضت تعبيرات "هيثم" بشكل منزعج، وعلق بما يشبه التهكم:
-مش للدرجادي أنا واقع وخرع!
ازداد عصبيًا وهو يضيف:
-كمان هاخد حباية منيلة زي دي، على أساس إني مش راجل؟


 
استغرب من حدته في تلك المسألة التي تعتبر عادية بالنسبة له بناءً على الادعاءات السابقة من زوجته عليه؛ بأنه يتعاطى المنشطات الجنسية بصورة شبه مستمرة، قرر استدراجه في الحديث ليكشف الحقيقة الغائبة عنه، وتابع بأسلوبٍ مراوغ:
-أومال أنا سامع كلام إنك على طول بتاخده.
انفجر فيه محتجًا بحدة أكبر:
-ده مين ابن الـ ..... اللي قال كده؟ هاتهولي أخزقله عينيه.

ورغم الضيق البادي على ملامح "تميم" لتأكده من كذب زوجته عليه إلا أنه حافظ على جمود ملامحه، وعلق عليه:
-يا عم دي نصيحة لله.
رد عليه ابن خالته بنفس النبرة الغاضبة:
-حد الله بيني وبين الهباب ده، صحيح عملت حاجات كتير غلط، بس البرشام أزرق ولا أخضر ماليش فيه...
تجهمت ملامح "تميم" بشكلٍ يدعو للريبة، بينما أكمل "هيثم" حديثه قائلاً:
-هما يدوب نفسين كده بأخدهم في ساعة رواقة، وكمان بطلتهم من ساعة ما ربنا هداني.


 
هز رأسه معقبًا عليه وقد غامت نظراته:
-كده الكلام بقى حلو أوي.
سأله في عدم فهمٍ:
-كلامه إيه يا عم؟ بأقولك مابخدش برشام.
ربت على كتفه ليقول متصنعًا الابتسام:
-مصدقك يا سيدي.


 
لكن نظراته أوحت بغيظٍ متعاظم بداخله لكونه قد صدق كالأحمق كذبة زوجته التي نشطت ذهنه بمشاعرٍ حسية كانت تنتابه بشكلٍ شبه منتظم تستنزف قواه الذكورية رغم عدم رغبته في ممارسة مثل تلك الأمور الغرائزية.

وكأنها قد رأت شبحًا قادمًا من عالم الموتى متجسدًا أمامها بألسنة اللهب التي تأكل جلده حيًا، انحبس صوتها في حلقها رغم محاولاتها المستميتة للصراخ ونجدته قبل أن يتفحم، فشلت مجددًا والدموع الحارقة تنساب بغزارة من مقلتيها، كانت "فيروزة" عالقة بين اليقظة والهذيان، انخرطت في نفس الذكرى بتأثيرها المؤلم بشكل يكاد يكون حسيًا عنه معنويًا، انفصلت عمن حولها وعاشت أسوأ أيامها إلى أن انتشلها صوت "همسة" المذعور من تلك الدوامة القاتلة لتغرق في ظلام آخر ربما يكون الأمن لها حاليًا .. ترنح جسدها ومال بثقله على توأمتها التي تلقفتها بذراعيها وهي تصرخ خوفًا عليها:
-"فــــيروزة"!

وبحذرٍ تام تمددت بها على الأرضية وهي تحاوطتها، استغاثت منادية والدتها بنبرة آثارت فزع البقية:
-يا ماما الحقيني بسرعة!
تنبه كلاً من "تميم" و"هيثم" لصوت صراخها فتوقفا عن التدخين، هرول الاثنان للداخل ليجدا "فيروزة" مستلقية على الأرضية وشقيقتها تحاول إفاقتها، حالة من الخوف الممزوجة بالقلق الشديد سيطرت على "تميم" لمجرد رؤيتها هكذا، وكأنه تناسى كليًا الوعود التي قطعها على نفسه بعدم الاقتراب منها، أو التواجد في محيطها، اندفع جاثيًا على ركبته بعد أن أبعد توأمتها عنها ليرفع جسدها إليه بعد أن مرر ذراعيه من أسفل ذراعيها ليسحبها نحوه، وللمرة الأولى ترتطم رأسها بصدره ليشعر بتلك الخفقة المؤلمة التي وخزت قلبه هلعًا عليها، أمعن النظر في ملامحها الباهتة التي غلفها الإعياء، تدخل " هيثم" هو الآخر ليعاونه في رفعها..،


 
حيث أمسك بها من ساقيها، رغم كونها خفيفة الوزن حملها الاثنان واتجها بها نحو الأريكة الجديدة الموضوعة بردهة المنزل المتسعة، لم يكن ليتركها "تميم" أبدًا لولا ما قد يُقال بالباطل عنها إن ظل ملتصقًا بها، وخوفه الزائد عليها بائن على ملامحه، تراجع للخلف مفسحًا المجال لوالدتها لتمر، جلست قبالتها على مقعدٍ أحضره لها "هيثم"، وأسرعت "همسة" بإخراج زجاجة عطرها من حقيبتها لتستخدمه في إفاقتها من تلك الإغماءة التي قلما تتكرر.

كانت الفرصة مناسبة لـ "تميم" للتحري بدقة عن حالتها، لعل وعسى يخرج بمعلومة مفيدة من خلال "حمدية" التي أظهرت امتعاضها، دنا منها متسائلاً باهتمام:
-هي الحكاية دي بتجيلها كتير؟
أجابته بعد زفيرٍ بطيء:
-ساعات كده، مش دايمًا...
ثم أخفضت نبرتها لتضيف بخبثٍ:
-بعيد عنك وعن السامعين الظاهر لابسها جن من ساعة الحادثة إياها.


 
لم يكترث للهراء الفارغ الذي تفوهت به، استرعى انتباهه كلمة واحدة بدت بالنسبة له محور كل شيء، ضاقت نظراته وهو يعاود سؤالها بفضولٍ:
-حادثة إيه دي؟
هزت كتفيها وهي تجيبه مسهبة في الحديث معه:
-مش فاكرة بالظبط، بس أبوها الله يرحمه هو اللي كان معاها وقتها.. أصلها كانت عيلة صغيرة بضفاير ساعتها، بس اللي افتكره إننا غُلبنا معاها عشان تطلع من الهم ده، ولف بيها من دكتور للتاني عشان تتعالج، وفين وفين لما بقت كويسة، بس الظاهر إن الحالة رجعتلها من تاني.

لم يتبين من حديثها ما يشبع فضوله، ولم تكن "حمدية" من ذاك النوع الواضح في الإجابات، مجرد ردود عادية لا تسمن ولا تغني من جوع، حرك رأسه متسائلاً:
-هي بتاخد الدوا ده لسه؟
لوت ثغرها قائلة بتأفف:
-مش عارفة، اسأل أمها.
تأكد "تميم" أنه لن يحصل منها على ما يرضيه، مجرد ثرثرة فارغة تحشو بها أذنيه، تركها واتجه بعيدًا عنها باحثًا عن زاوية جيدة تمكنه من رؤية وجه "فيروزة" الذي بات محجوبًا عنه، عل قلبه الملتاع يهدأ قليلاً.

بدت وكأنها تغرق في سباتٍ عميق، وديعة، هادئة، لا تعاني من شيء، دومًا كان ينتهي ذلك الكابوس المؤلم بنوبة من السكينة العجيبة، شعرت "همسة" بالارتياح بمجرد خبوت تلك التشنجات واستغراق توأمتها في النوم، أحضرت لها غطاءً وضعته على جسدها ومسدت برفق على رأسها، بينما ظلت والدتها باقية إلى جوارها تقرأ لها من المصحف الصغير الذي تحتفظ به دائمًا في حقيبتها.. أشــار "هيثم" بيده لخطيبته لتأتي إليه، سألها بنوعٍ من المزاح:
-أول مرة أعرف إن أختك بهفة!

رمقته بنظرة حادة وهي تعاتبه:
-"هيثم" لو سمحت مافيش داعي للكلام ده، إنت مش عارف حاجة.
قال معبرًا عن اندهاشه مما رأه:
-أصل اللي يشوفها وهي طايحة في خلق الله ما يشوفهاش وهي كده.
قالت على مضضٍ وهي تضغط على شفتيها:
-حكمة ربنا هنعمل إيه بقى.

ابتسم معقبًا عليها:
-ولا حاجة،
حاول أن يصلح زلة لسانه التي بدت سمجة ليقول ملطفًا:
-متقلقيش، دلوقتي هتبقى كويسة.
تنهدت قائلة في رجاءٍ:
-يا رب
مصمصت "حمدية" شفتيها قبل أن تنطق بفظاظة، وقد ضجرت من جلوسها هكذا لا تفعل شيئًا، ناهيك عن تقلصات معدتها التي أشارت لجوعها:
-هي عادتها ولا هتشرتيها، لازم الشويتين دول يتعملوا عشان الصعبنيات.

ردت عليها "همسة" ترجوها بنبرة منزعجة:
-الله يكرمك يا مرات خالي، الحكاية مش ناقصة.
لوحت لها بيدها متابعة قولها:
-طب تعالي كده اشربيلك حاجة بدل ما شكل الدم هربان من وشك.
نفخت مرددة في سأم:
-شكرًا، ماليش نفس.
علقت عليها بتذمرٍ:
-يعني وقفتك جمبها هتفوقها؟ يا بت خلينا ناكل حاجة بدل ما الأكل يبرد، الناس صارفة ومكلفة.

نظر لها "هيثم" بغرابةٍ، بينما تحرجت "همسة" من أسلوبها غير اللطيف في التعبير عن شراهتها للطعام، وبضيقٍ ملموس في صوتها ردت:
-روحي إنتي يا مرات خالي..
تطلع "حمدية" إلى "هيثم" تسأله، وتلك الابتسامة السخيفة مرسومة على ثغرها:
-أومال إنت حاطط الأكل فين يا عريس؟
أجابها مستخدمًا يده في الإشارة:
-هناك يا حاجة.

ربتت على كتفه تشكره في امتنانٍ، وقد سال لعابها:
-تسلم وتعيش.
ظلت أنظاره تتابعها وهي تتفحص أكياس الطعام لتنتقي الأفضل وهو يقول لخطيبته بما يشبه السخرية:
-عسل أوي قريبتكم!
سألته في استخفافٍ:
-ده بجد ولا تريقة؟
أجابها بصراحةٍ غير قابلة للتشكيك:
-تريقة طبعًا، هو حد طايقها أصلاً.

انعزل عن البقية ليفكر بتروٍ فيما عرفه مصادفةً عن تلك الحالة المرضية الغريبة التي تصيبها، وكأن الأمر ينقصه ليفكر فيها وحدها دونًا عن بقية النساء، كانت كاللغز المشوق بالنسبة له، لا يمل منها أبدًا، كلما اكتشف جزءًا فيها ظهر في طريقه آخر استحثه على اكتشاف المزيد، تابع "تميم" والدتها التعيسة التي لم تتركها للحظة، أحضر لها علبة عصير لتتناول محتوياته بعد أن انخفضت مستويات السكر لديها تأثرًا بحال ابنتها المقلق، آه لو تعلم ما الذي يعتريه حاليًا رغم ادعائه بالصلابة والتماسك! أصر عليها "تميم" لتكمل شربه، وسألها باهتمامٍ اعتبرته كرمًا فائضًا من ناحيته:
-لو عاوزاني أبعت أجيب دكتور أنا جاهز.

ردت تشكره بتنهيدة متعبة:
-كتر خيرك يا ابني، شوية وهتفوق وهتبقى عادي..
استطاع أن يرى لمحة الحزن في نظراتها وتعبيراتها وهي تكمل بحسرةٍ:
-احنا مصدقنا عدينا الحكاية دي، أنا مش عارفة إيه اللي رجعهلها تاني.
بدا كل ما يسمعه يسثير جنونه ويدعوه لمعرفة المزيد، ومع ذلك تساءل باحترازٍ:
-هي حادثة كبيرة؟
حركت "آمنة" رأسها بالإيجاب وهي توضح له:
-تقريبًا، وقتها وقبل ما نستقر هنا، كنت بأجي من وقت للتاني عند بيت أبويا، نقعد أسبوع كده ولا 10 أيام قبل ما نسافر بلدنا.

حافظ على جمود تعبيراته متسائلاً:
-وبعدين؟
تابعت بزفيرٍ مهموم:
-زي ما إنت عارف، احنا كنا جيران الحاجة "ونيسة" زمان، في البيت اللي قصادها، وفي اليوم المشؤوم ده الحتة كلها اتقلبت عشان حريقة كبيرة حصلت.
هتف مدهوشًا:
-حريقة؟

تأهبت حواسه وتنشطت خلايا عقله بعد تلك الكلمة الخطيرة، فالحريق الوحيد الذي أفزع الجميع كان له صلة به، وظل الحديث عنه ممتدًا لسنوات، ما زال يتذكر صورة مبهمة غير واضحة المعالم لطفلة صغيرة التقاها فيه مصادفة لمرة واحدة لم تتكرر، آنذاك حاول إخراجها قبل أن تحرقها النيران الجائعة، خفق قلبه بقوة، وشعر بوجود رابط خفي ربما يجمعه بها، لكنه لم يكتشفه بعد .. المشهد لا يزال ناقصًا، أضافت "آمنة" بحزنٍ، وكأنها تعافر لنسيان الماضي وآلامه المفطرة للقلوب:
-أيوه، معرفش إيه اللي فكرنا بالماضي ده، الله يرحم عبيده..

كان على وشك سؤالها لولا رنين هاتفه الذي منعه من ذلك، اعتذر منها وهو يخرجه من جيبه لينظر إلى شاشته:
-هستأذنك أشوف التليفون اللي معايا.
ردت بتفهمٍ:
-اتفضل يا ابني.
وضع الهاتف على أذنه ليجيب بجدية بحتة:
-ألو، أيوه يا حاج "عوف".

كانت كمن تُلاعب أحدهم في لعبة أحجية غامضة دامت لسنوات استهلكت فيها تفكيرها ولا وعيها إلى أن ظنت أنها تغلبت عليه وانتصرت، لكن الحقيقة الصادمة أزاحت الغطاء عن كل شيء، اكتمل الناقص الآن، وباتت الأوجه معروفة لها، الفتى الغاضب الذي تسبب في إحراق المحل هو "هيثم" حين سرق والده في غفلة منه، وأسقط السربتاية أرضًا لتشتعل النيران وتحرق كل ما طالته حتى أبيه "غريب" صاحب الصورة الفوتوغرافية، والفتى الآخر الذي سعت لإنقاذه بعد أن فقد وعيه هو من تُشاجره حاليًا؛ "تميم"..

لم يعد هناك أي مفرٍ من الإنكار، أصبحت تدرك الحقيقة بملابساتها المؤلمة، بدأت تستفيق ببطءٍ وهي تحرك رأسها للجانبين، استغرقت بضعة لحظاتٍ لتستعيد كامل وعيها، اعتدلت في رفقدتها وأنزلت قدميها على الأرض، تأوهت "فيروزة" بصوتٍ خفيض مقاومة ذلك الصداع الهائل الذي يدور في رأسها، رفعت أنظارها نحو توأمتها التي ابتسمت لرؤيتها بخير، سألتها الأولى في حيرة:
-هو إيه اللي حصل؟

تلمست براحتيها وجهها وهي ترد متسائلة:
-إنتي كويسة يا حبيبتي؟ حاسة بحاجة؟
أجابت نافية، وكأنها تستغرب خوفها عليها:
-لأ أنا تمام.. مافيش حاجة فيا.
ألحت "همسة" في إصرارٍ:
-طمنيني عليكي؟
أكدت عليها بهدوءٍ:
-أنا بقيت أحسن، متقلقيش..

لم يخبُ الخوف من نظرات توأمتها، فحاولت طمأنتها وقالت ساخرة من الأمر برمته:
-ما إنتي عارفة اللي فيها، دايمًا كل فترة كده يحصلي حاجة غريبة، شكل مرات خالك حسدتني.
تنفست بعمقٍ لتعبر عن ارتياحها بعد سماعها لتلك العبارات، بينما ألقت "فيروزة" نظرة مدققة تجوب على المكان وما فيه، وكأنها تفتش عن شخص بعينه قبل أن تنطق فجأة بنبرة عازمة وهي تهم بالنهوض:
بصي أنا هنزل وكملوا إنتو شغل.

وقفت "همسة" على قدميها، وقالت بتلهفٍ:
-طيب استني هاجي معاكي، مش هاسيبك لوحدك.
اعترضت بابتسامة فاترة:
-لأ أنا بخير.. وكمان عشان تلحقوا تخلصوا، ده لسه في الفستان، ويدوب تلحقوا ميعاد الأتيليه.
ردت عليها بجدية وهي تومئ بعينيها:
-طيب، هنادي ماما، هي دخلت مع مرات خالي جوا يكملوا توضيب حاجة الدولاب، هما تلاقيهم خلصوا و...

قاطعتها بحسمٍ:
-لأ خليها .. وقوليلها أنا بقيت كويسة لو سألت عليا، وشوية وهاتصل بيها.. كفاية الخضة اللي عملتها
ردت بنوعٍ من التعاطف:
-متقوليش كده، هو احنا عندنا حد أغلى منك
احتضنت "فيروزة" توأمتها في حبٍ قبل أن تنسل من أحضانها لتوصيها:
-خدوا بالكم من نفسكم، وربنا يعينكم
ابتسمت قائلة برقة:
-حاضر.

أرادت الهروب من ذاك الجو الخانق الذي يطبق على أنفاسها، بل ويضغط عليها للبوح بما لا تستطيع قوله حتى بينها وبين نفسها، شبهت حالتها المضطربة بالفأر المذعور الذي وُضع في متاهة لا خروج منها، تدور في نفس الدوائر المغلقة من معاناتها الصامتة حتى تخور قواها على أمل أن ينتهي ذلك العذاب، ومع ذلك تمنت في نفسها أن يظل الماضي حبيس أعماقها فقط، لا يعاني سواها من تبعاته المدمرة، التفتت كالملسوعة برأسها للجانب حين سمعت صوت "تميم" الرخيم يسألها:
-يا أبلة! إنتي كويسة؟
تفاجأت "فيروزة" بوجوده خارج المنزل -على الدرج تحديدًا- في مواجهتها، تحاشت النظر إليه وأجابته بصوتٍ فشلت أن يكون ثابتًا:
-آ.. أيوه.

صعد إليها ليبدو قريبًا منها معترضًا طريقها بجسده فلا تتمكن من المرور إلا بدفعه، ورغم هذا لم تكن بالجسورة التي تناطحه الند بالند، كانت مختلفة كليًا، تعبيراتها واجمة، شاردة، ربما متعبة، إن صح التعبير مرتاعة قليلاً .. تعجب من نظراتها المتوترة التي تتجنبه، لم تكن أبدًا بالنافرة منه إن تم مقارنتها بالمعتاد منها، بدت وكأنها تخشاه، تحاول المناص منه بكافة السبل، كذلك لاحظ تلك الربكة الخفيفة في طريقة إمساكها بالدرابزين وضغطها عليه بأصابعها بعصبيةٍ طفيفة، وزاد هذا من فضوله، سلط كامل عيناه عليها مستطردًا:
-هو كان في حاجة عاوز أسأل عنها وآ...

قطعت جملته قبل أن يتمها لتقول متهربة منه عن عمدٍ:
-معلش.. ورايا شغل، عن إذنك.
حتى أنها لم تنظر إليه ليتحرك، بل تنحى للجانب من تلقاء نفسه ونظراته تصاحبها خلال ابتعادها المريب، تخبط كل ما يدور في رأسه حاليًا بشأنها، لكن رحيلها بتلك الصورة ترك أثرًا عميقًا في نفسه، انتبه "تميم" لصوت والدته التي خرجت من منزلها لترفع رأسها نحوه تسأله:
-خلصتوا يا "تميم"؟

ابتسم وهو يجيبها ليخفي حيرته:
-فاضل حاجة بسيطة.
ردت في تفهمٍ:
-ربنا يعينكم، ولو الجماعة فوق عايزين حاجة قولي، أنا جاهزة أطلع أساعدهم.
قال بفتور:
-كله تمام يامه.

للحظة طرأ بباله أن يتحرى عما يشغله ممن عاصروه، لذا بادر متسائلاً باهتمامٍ:
-بأقولك هو جدي صاحي؟
أجابت والدته بكلمة واحدة:
-أيوه.
هبط الدرجات متابعًا بعزمٍ:
-طيب أنا داخله.
رحبت به أمه قائلة بوجهها البشوش:
-تعالى يا ابني، إنت بتستأذن في بيتك؟

-خير يا "تميم"، جيتك السعادي مش لله، ولا أنا غلطان؟
تساءل "سلطان" بتلك العبارة بعد أن استأذن حفيده في المكوث معه لبعض الوقت دون أن يبدي أسبابًا واضحة لذلك خاصة في هذا التوقيت المتأخر غير الاعتيادي، ولكون جده على دراية بما ينتابه من حالات تخبط يلجأ فيها إليه، استهل "تميم" حديثه معه قائلاً بأريحية:
-إنت صح يا جدي، أصل في حاجة كده شاغلة بالي، وكنت عاوز أتأكد منها منك.

رد عليه بنبرته الخشنة:
-قول عاوز تعرف إيه.
دون مراوغة أو مماطلة سأله على الفور:
-هو في حريقة حصلت زمان غير بتاعة محل عم "غريب"؟
شرد مليًا للحظة ليفكر في الجواب المناسب قبل أن يدمدم موضحًا له:
-على حسب علمي، مافيش إلا هي.
ضاقت حدقتاه بشدة وهو يلاحقه بسؤاله التالي:
-ماتفتكرش حصل إيه بالظبط؟

استراح في رقدته على الفراش بعد أن وضع الوسادة خلف ظهره ليقول بعدها بتنهيدة بطيئة:
-عمك "غريب" الله يرحمه كان طماع، عاوز يتغنى بسرعة، معندوش صبر على حاجة، وخالتك زي ما إنت شايف ماتوصتش، مش تقوله بلاش ولا كفاية، لأ كانت بتشجعه يعمل أي حاجة إن شاءالله بالغش، المهم يبقى معاه فلوس كتير.
تحدث من زاوية فمه قائلاً:
-ما كل ده أنا عارفه.
تطلع "سلطان" إليه في حيرة، وسأله:
-أومال بتسأل عن إيه؟

تشجع ليبوح له بما يدور في رأسه من أمور تشغله بشأنها:
-يوم الحادثة يا جدي، كان معايا بت صغيرة، مظبوط؟
ظهرت علامات التفكير العميق على وجهه وهو يرد:
-تقريبًا، كانوا لاقوها جمبك، ماسكة فيك.
تضاعفت خفقات قلبه القلقة وهو يسأله بنبرة بدت إلى حد ما متلهفة:
-وكانت عايشة ولا ميتة؟
أجاب منهيًا حيرته:
-إنتو الاتنين بس اللي ربنا نجاكم من الحريقة.

أخرج "تميم" نفسًا عميقًا من صدره أزاح به كل التوترات التي أرهقته، ثم عاد ليسأل باهتمامٍ وقد أضاءت عيناه بوهجٍ غريب:
-ماتعرفش هي مين؟
هز رأسه نافيًا:
-مش فاكرها يا ابني .. السِن بقى وأحكامه، ودي حاجة عدت عليها سنين.
تقدم "تميم" نحو جده ليحني رأسه عليه، قبله من جبينه وهو يدعو له بتضرعٍ:
-ربنا يديك طولة العمر يا جدي.

ربت الأخير على كتفه بودٍ قبل أن يكمل مستفيضًا بتلقائية:
-بس على ما أظن أبوها كان راجل في حاله، طيب مش بتاع مشاكل، كان شغال صياد، مراكبي، حاجة زي كده، واسأل أبوك هو فاكر عني...
اكتفى حفيده بالابتسام، لكن تفرس " سلطان" في ملامحه وهو يسأله بدهشة مبررة:
-بس إنت إيه اللي فكرك بالحكاية دي دلوقتي؟
تعلل كاذيًا ليخفي ما لا يريد الإفصاح عنه له:
-يعني كنت بأدردش أنا و"هيثم"، وافتكرنا حكاية موت أبوه.

بدت إجابته مقنعة، فلم يشك بأمره، وقال:
-ربنا يرحمه، ويحسن ختامنا جميعًا.
-يا رب.
أضــاف "سلطان" بنبرة عادية:
-الواد ده نبتته كويسة، بس مالوش كبير يحاسبه، ده غير أمه، كتلة شر.
ابتسم لصراحته مؤيدًا إياه:
-صدقت يا جدي.
عمق "سلطان" من نظراته نحوه وهو يقول:
-وبنتها عاملة إيه معاك؟ كويسة ولا شبه أمها؟

أجاب بعبوسٍ كسا وجهه:
-يعني .. ربنا يهديها.
رد عليه في سخرية:
-هما كل الحريم كده، مافيش من وراهم راحة.
وكأنه أظهر المزيد من انزعاجه على تعابيره عندما قال بزفيرٍ طويل:
-على رأيك يا جدي.
مازحه الأول مبتسمًا ليبدد الوحشة التي ملأت محياه:
-ولسه لما تخلف كمان، هاتشوف العجب منهم، هتطفش يا واد يا "تميم" وتيجي عندي..

ضحك على طرفته، فأكمل "سلطان" بنوعٍ من التمني:
-ربنا يمد في عمري وأشوف عيالك.
رد عليه برجاءٍ كبير:
-إن شاء الله يا جدي، ويتربوا تحت طوعك
صدرت إيماءة خفيفة من رأسه حين قال معقبًا:
-يا رب.

انزوى بالشرفة جالسًا في كرسيه الخشبي يشعل سيجارة تلو الأخرى دون أن يحصي عدد ما دخنه، كان عقله مشحونًا، ومشغولاً بالكثير، من ناحية رغبته في معرفة هوية الطفلة الصغيرة التي تواجدت معه خلال الحريق المروع، وهواجسه نحو واحدة بعينها، ومن الناحية الأخرى شكوكه في زوجته، كيف يخبر الأخيرة ببساطة أن كذبتها التي برعت في إحكامها عليه قد انكشفت؟ خدعته لتخفي أمرًا لئيمًا حاكته من ورائه..،

إن كان الدواء المنشط لا يخص أخيها فإذًا هو لمن؟ إجابة السؤال كانت واضحة كالشمس في كبد السماء، بالطبع ليس لها! في البداية تحير كثيرًا ورفض تصديق الأمر إلى أن تجلت الحقائق في عقله كمشاهد متعاقبة ترشده إلى نهاية لا مناص منها؛ كان هو المغفل الذي يتجرعه ليلة بعد أخرى لتتحرك شهواته باهتياج تعجب منه شخصيًا، قوته الذكورية كانت مفرطة معها رغم فتور مشاعره نحوها، يندفع غرائزيًا لا وجدانيًا..،

يمنحها ما تريد ويخبو لهيب الرغبة فجأة كما اندلع فجأة .. ظل السؤال الذي يراوده كيف يتم الأمر؟ ومن أين واتتها الجراءة لتفعل ذلك به؟ لكن عاد عقله لينذره بهاجس مريب لم يستسغه؛ ألا يتسرع في إصدار الحكم عليها لمجرد إنكار "هيثم" لذلك، أليس من المحتمل أن يكون هو الطرف الكاذب؟ ربما أراد تحسين صورته أمامه وهو مقبلٌ على الزواج، انتشلته من حيرته المتعبة على صوتها المتدلل:
-مش هتاكل يا "تميم"؟

نظر لها مليًا بنظرات غريبة، مطولة، مليئة بالشك، وكأنه يريد النفاذ إلى داخل رأسها الداهية ليكشف عن خباياه، تعجبت "خلود" من تحديقه المطول بها وأعادت تكرار السؤال عليه ليرد بوجومٍ:
-لأ.. ماليش نفس.
دققت النظر في ملامحه المكفهرة وهي تتساءل:
-هو إنت كلت برا؟
أجاب باقتضابٍ:
-لأ..

ألحت عليه بشدةٍ:
-أومال إيه؟ ده أنا محضرالك الأكل اللي بتحبه، يالا عشان تاكل ونقعد سوا تحكيلي عملت إيه.
استاء من ضغطها المستمر عليه، خاصة وهو مهموم بشأن كذبتها، لذا صاح بها بعصبيةٍ
-مش عاوز يا "خلود".
استغربت من صياحه المنفعل، وقالت بتبرمٍ:
-براحتك.

لم يعلق عليها وظل يرمقها بتلك النظرات الغامضة التي لم تسترح لها، جلست "خلود" على الكرسي المقابل له تسأله بفضولٍ، وكأنها تشك في أمر ما:
-"هيثم" كان قال لأمي إنك كنت معاه لما نقلتوا حاجته النهاردة.
انحنى للأمام ليطفئ سيجارة أخرى وهو يرد موجزًا في الحديث:
-أيوه.
برقت نظراتها حين سألته في خبث:
-على كده خطيبته وأمها كانوا هناك؟

قال بهدوءٍ:
-أيوه
احتدت نظراتها حين انتقلت للسؤال التالي:
-والبت "فيروزة"؟
تحفز في جلسته وبادلها بنظرة شبه مزعوجة وهو يرد:
-مالها؟
أجابت متسائلة وقد بدت متأهبة لسماع رده:
-كانت معاهم؟
لم يمنحها ما تريد، وراوغها بالقول:
-بتسألي ليه؟
حاولت الابتسام وهي ترد:
-عادي يعني، عاوزة أعرف.

وكأنه يُعيد اكتشاف طباع زوجته الحقيقة لأول مرة دون زيف أو تجميل، لم تكن نظراتها مريحة، ولم تكن تعبيراتها مسترخية، قناع الغيرة الذي ترتديه لم يستلذه مطلقًا، نفخ في الهواء قبل أن يجيبها بسأم واضح عليه:
-أكيد.. طالما أختها هناك هتبقى معاهم.
ركزت عينيها عليه عندما سألته مباشرة:
-وإنت شوفتها؟ أعدت معاها؟

ضاقت نظراته هاتفًا في استنكار:
-"خلود" هو ده تحقيق وأنا مش عارف؟
تصنعت الضحك وهي تبرر أسئلتها المتعاقبة:
-لا يا حبيبي، أنا بس بأدردش معاك، وبعدين مافيهاش حاجة لما أطمن على جوزي حبيبي.
هب واقفًا ليجمع علبه سجائره وولاعته قبل أن ينطق بتزمتٍ:
-وأنا مش شايف أي دردشة، ولو عاوزة تعرفي حاجة كلميني دوغري، بلاش شغل التلت ورقات ده.

نهضت هي الأخرى لتقول بتأففٍ:
-أصل أنا مابستريحش للبت دي، سهونة كده وخبث الدنيا فيها، وجواها إسود كده، ربنا يحفظنا من اللي زيها.
وكأنها تحرضه على وغر مشاعره ضدها أكثر، نظرة استحقارٍ استطاعت أن تراها في عينيه وهو يحدق بها ليعقب بعدها:
-أنا رايح أنام، تصبحي على خير.
لاحقته بنظراتها الفضولية المتعجبة قبل أن تسأل نفسها في حيرةٍ:
-هو ماله ده ...؟!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني الحلقة التاسعة بقلم منال سالم


بدافعٍ من الحب الغريزي نحو شقيقتها قررت إبقاء الأمر طي الكتمان حرصًا على سعادتها البادية عليها، وحتى لا يُقال أنها أفسدت عليها فرحتها قبل اكتمالها، خاصة في مثل هذا التوقيت الحرج .. دفنت ما عرفته ضمن صفحات الماضي، لا داعي لإثارة الجدل بعد ما اكتشفته مصادفة، لتكن وحدها من يحمل السر إلى القبر..


 
تلقت أيضًا توبيخًا تستحقه لهروبها خلسة قبل أن تراها والدتها وتطمئن عليها، وكأنها ارتكبت ما تخجل منه، لم تلقِ بالاً لحدة أمها معها، أرادت فقط تخطي تلك الليلة بما احتوته من ذكريات مؤلمة. طوقت "همسة" توأمتها بذراعيها من كتفيها لتحتضنها وهي تتنهد قائلة:
-مش عاوزاكي تزعلي يا "فيرو"، والله ماما بتحبك، وأنا حاولت أفهمها إنك بقيتي كويسة.


 
ردت بتفهمٍ قبل أن تحرر من حضنها الدافئ:
-عادي يا "هموسة"، ماتحطيش في بالك.
أمعنت الأخيرة النظر في تعبيراتها الساكنة متابعة تبريرها لشدة والدتها معها:
-هي مكانتش حابة إنك تبقي لوحدك بعد اللي حصل، طبيعي تخاف عليكي وتقلق.
كانت "فيروزة" متفهمة لأبعد الحدود، بل بدت مسترخية أكثر من اللازم بما يدعو للشك، استلقت على الفراش، وعلقت:
-الموضوع مش مستاهل.
-طيب.


 
عادت "فيروزة" لتسألها لمرة أخيرة:
-قوليلي إنتي فعلاً بتحبي "هيثم" ده؟ يعني واثقة إنه هيسعدك؟ يستاهل حبك ليه؟
لاحت بسمة ناعمة على ثغرها وهي تجيبها بتأكيد:
-أيوه.. أنا بأحس معاه إني واحدة تانية، وهي بيعمل كل حاجة عشان يفرحني.
كان ردها كفيلاً بإعلانها الرسمي بالتزامها بما عاهدت عليه نفسها، تحركت شفتاها لتظهر ابتسامة لطيفة حين عقبت عليها:
-ربنا يفرحك يا "هموس"، إن شاء الله تبقي أحلى عروسة.


 
من تطلع إليه في تلك اللحظة ودقق النظر في تعبيرات وجهه المتقلصة لأدرك أنه يخوص الآن حلمًا يعايشه بكل طاقاته اللا شعورية، سحبته آلة الزمن المتحكمة في أحلامه المكبوتة –بإرادته- إلى سنوات مضت؛ حيث الحريق المشؤوم، في البداية بدا كل شيء متداخلاً، ومضات تروح وتجيء بشكلٍ غير مفهومٍ إلى أن استقر المشهد على طفلة تشير بيدها نحو حريق بالخلف، انعقد حاجباه بقوةٍ وهو يحاول تبين ملامحها، كانت مألوفة بدرجة جعلت قلبه يخفق، ونبضاته تتلاحق، نفس النظرات الحادة، والوجه الصارم، حتى أنه تذكر الجديلتين، أما رسمة الطاووس الملفتة التي احتلت صدر ثوبها عززت من إحساسه حول معرفته الشخصية بها، تذكر أيضًا تلك اللمسة الخشنة منه على رسغها الضعيف وهو يجرها للخارج ليمنع ألسنة النيران من الإمساك بجسدها الضئيل.

انتفض "تميم" محاولاً إنقاذ زوج خالته، لكن شرارات النار الجائعة كانت أسبق منه إليه، نالت من جسده وأحرقته حيًا وسط صرخات مفزعة مميتة للقلوب، شخص بأنظاره من هول المنظر المرعب، أحضر دلوًا مليئًا بالمياه لإطفاء ما استعر به، لكن عرقتله الكتلة المؤلمة التي انهالت على كتفه فتدحرج الدلو من يده، وطُرح أرضًا لا يقدر على الحركة، كان في حالة أقرب للإغماء وهو يرى من خلف ضلالاته المشوشة رسمة الطاووس المزركش وهي تدنو من عينيه تحاول شده إليها وسط حشرجة صوته الذي اختنق بالدخان القاتل، غزاه الظلام وهو يشعر بحركة عاجزة من الطاووس يحاول بها جره، أدرك أنها النهاية..،


 
لن ينجح ذلك الكائن الضئيل في نجدته، جاهد ليفتح عينيه ليلقي نظرة أخيرة على ما حوله وسط سحب الدخان الرمادية الكثيفة، كان وجهها ملاصقًا له، ساكنًا، مرتخيًا، ملامحها أصبحت واضحة، امتدت أصابعه المرتجفة لتلامس وجنتها المشتعلة بحمرة نتجت من عنف مجهود يفوق قدراتها الجسمانية، لم تتحرك .. بقيت هادئة، حينها فقط خرج صوته هامسًا يحمل أنينًا حزينًا وكأنه يناديها:
-"فيروزة"!

التقطت أذناها صوته الخافت وفتحت عينيها على اتساعهما، حملقت "خلود" في السقفية باندهاشٍ غاضب قبل أن تدير رأسها في اتجاه زوجها النائم إلى جوارها لتحدق فيه بكل ما يتقاذف من عينيها من شرارات الغضب والغل، أرهفت السمع لتتأكد إن كان ما سمعته صحيحًا أم مجرد خزعبلات وهمية أصابت رأسها غير الواعي حين غفلت بعد عناءٍ .. ظل "تميم" صامتًا، لم يتفوه بشيء..،

راقبته جيدًا وتابعت انتظام حركة أنفاسه، على ما يبدو ما زال مستغرقًا في النوم، انسحبت من الفراش وهي تشعر بقلبها المذبوح يتمزق لعشرات القطع، أيعقل أن يحلم بغيرها وهي تنام في أحضانه على الفراش؟ ربما كان يمنحها حبه الجسدي ويغدق على تلك البغيضة بما ضن عليها به! ضبطت بمجهودٍ عنيف أعصابها حتى تخرج من الغرفة لتستنشق الهواء بعد أن شعرت أنه يطبق على صدرها ويكاد يكتم أنفاسها .. اتجهت للمطبخ لتشرب كوبًا من الماء البارد، ما زالت الشكوك تلعب برأسها بشــأن وجود ما يخفيه عنها.


 
هجرانه لها أم جفائه معها لا تستطيع أن تحدد تغير معاملته رغم كونها تحمل في أحشائها طفله، يكاد ذلك يصيبها بالجنون، وما ظنت أنها سمعته عظم من إحساسها بالغضب المحقون، تسللت "خلود" بحذرٍ لتجلس في غرفة النوم الأخرى ومعها هاتفها المحمول بعد أن ألقت نظرة عابرة من الخارج على الفراش المتكومة أغطيته معتقدة في قرارة نفسها أن زوجها ما زال مستغرقًا في نومه العميق، يغط في أحلامه المحرمة تاركًا إياها تعاني ويلات برود مشاعره، واربت الباب خلفها واتجهت بخطواتٍ شبه متعصبة نحو الفراش..،

جلست على طرفه وظلت تهز ساقها في عصبية، لم تستطع صرف ذهنها عن التفكير في "فيروزة"، تلك الحقيرة التي تنسج الخيوط حول زوجها لتجره إليها جرًا، البغاء في أقذر صوره متجسدًا في شخصها اللعوب، التقطت هاتفها بيدها، ووضعته على خاصية السماعة الخارجية ليبدو صوت والدتها واضحًا نظرًا لتعذر سماعها بدون تلك الخاصية بسبب العطب الذي أصاب جهازها، وإغفالها عن إصلاحه، تنفست بضيقٍ قبل أن تنطق:
-أيوه يامه.

أجابت عليها "بثينة" باستغرابٍ:
-في إيه يا بت؟ إنتي صاحية ليه السعادي؟
أجابتها بقنوطٍ:
-خلاص معنتش قادرة استحمل، أنا شوية وهاتجنن، جبت أخري.
اختفت نبرة النعاس من صوت والدتها وهي تسألها بانتباهٍ:
-ليه حصل إيه تاني؟ جوزك عرف بحكاية البرشام إياه؟

في تلك الأثناء، نهض "تميم" من نومه على كابوسه المفزع، لكنه منحه إجابات كانت تنتظره حتى ينبش فيها، هو متأكدٌ أنه لم يخطئ في حدسه، "فيروزة" هي الطفلة الصغيرة التي كانت معه، وَلهَها بنقوشات الطاووس وأشكاله المختلفة لا يزال مرتبطًا بشخصها، نفس الملامح لم تتغير كثيرًا، حتى النظرات الحادة التي دومًا توحي بغضبها كما هي، التفت لجانبه ليتفقد زوجته فلم يجدها، دعك رأسه وفرك عينيه وهو ينهض عن الفراش حتى يستفيق..،

اتجه للخارج باحثًا عنها، صوت همهمات متعصبة كان يصدر من غرفة النوم الأخرى المضيئة، تحرك صوبها وقبل أن يضع يده على الباب الموارب كانت أذناه قد التقطت -بمحض الصدفة- جملةً جعلته يتصلب في مكانه مصدومًا، انزوى في بقعة معتمة حتى لا ترى انعكاس خيال ظله ليسمع بوضوح حديثهما الخطير .. نفخت "خلود" قبل أن ترد بنبرتها المنزعجة:
-لأ، "تميم" مايعرفش حاجة.

ردت "بثينة" ساخرة بعد ضحكة رقيعة مستمتعة:
-وهيعرف إزاي وإنتي كنتي بتحطهوله في الأكل؟ ما تجربي ده تاني، أنا هاجيبلك كام حباية كده تداريهم بمعرفتك.
اتسعت عينا "تميم" في ذهولٍ وقست تعابيره بشكل ينذر بعواقب غير محمودة أبدًا، أطبق على قبضتيه بقوةٍ حتى ابيضت مفاصله من غضبه المكبوت، حافظ على ثباته عله يكتشف المزيد، في حين كزت "خلود" على أسنانها قائلة:
-الموضوع ده عدى وانتهى، ومش هاينفع أعمل كده تاني.

سألتها والدتها بجدية:
-هو مسألكيش تاني عنه؟ يعني دخلت عليه حكاية إنه بتاع "هيثم"؟
أجابت على مضضٍ:
-أيوه.
عاد الفضول ليشغل تفكيرها وهي تسألها:
-أومال في إيه؟
أجابت بضيقٍ وهي تقضم أظافر يدها بأسنانها في توترٍ:
-شكله متغير عليا.

نهرتها والدتها بضجرٍ:
-هو إنتي غاوية تجيبي النكد لنفسك؟ هو كان لونه أصفر وقلب أخضر! يا بت اركزي وخدي بالك من اللي في بطنك، ماتبقيش حمأية وغبية كمان.
هتفت محتجة عليها دون أن ترفع من نبرتها:
-لأ إنتي مش فاهمة يامه، مابقاش زي الأول كده عاوزني وملهوف عليا.
ردت ببرود شبه مستفز غير مبالية بمشاعر ابنتها المحتقنة:
-وإيه يعني؟ مصلحة! ما الدكتور قايلك مافيش داعي للكلام إياه الفترة دي.

استاءت من فهم والدتها المنحصر في مسألة العلاقات الجسدية فقط، كانت تريد الأعمق من ذلك، الاستحواذ عليه في كل شيء يتضمن المشاعر، التفكير، وحتى في اختياراته البسيطة، حاولت أن تفسر الأمر لها، فاسترسلت بتنهيدة مهمومة:
-مش ده اللي بتكلم فيه، أنا حاسة بيه، هو متغير معايا، جمبي أه بس عقله بعيد عني.
علقت ببساطة متجاهلة أحاسيسها:
-ما جايز في حاجة في الشغل قرفاه.

اعترضت بألمٍ شعرت به ينغص صدرها:
-لأ، قلبي بيقولي غير كده.. وأنا شاكة إن البت العقربة إياها ورا قلبته عليا
تحفز "تميم" في وقفته وقد انخلع ما بين ضلوعه في توترٍ بعد استماعه لشكوكها، لكنه لا يقارن أبدًا بغضبه المتأجج فيه جراء الحقيقة المخجلة، ضغط على شفتيه بقوةٍ ليمنع نفسه من التهور، ما زالت الأمور في أولها، تساءلت "بثينة" بصوت وصل إليه:
-تقصدي مين؟

أجابت بغيظٍ واضح:
-الهبابة "فيروزة"! هو في غيرها؟
سألتها والدتها من جديد في استغرابٍ مستنكر:
-وهي مالها بيه؟
ردت بغلٍ بائن في صوتها قبل نظراتها:
-إنتي ناسية يامه المحروس أخويا وشبكته السودة، ما هما ساكنين فوق خالتي، طبعًا في الطالعة والنازلة هتشوف "تميم" وترسم عليه وتشاغله، ونظراته ليها مش مريحاني.

سخرت أمها من خيالها الجامح، وهتفت بتهكمٍ:
-وربنا كتر فرجتك على التلفزيون لحست مخك، جوزك ده زي القطر، مايعرفش لا حب ولا غيره.
تغاضت عن استخفافها بها، وأصرت على ما تقول:
-الحاجات دي تتحس يامه.
هتفت بها تحذرها من تماديها في أوهامها الحمقاء:
-بأقولك إيه اهتمي بصحتك اليومين دول، خلي حملك يكمل على خير، والبت دي سبيهالي، أنا هاشوف شغلي معاها.

أوغر صدر "تميم" في حقدٍ وكره ناقم من المؤامرات الماكرة التي تُحاك من وراء ظهره، والأدهى من يدبرها؟ زوجته بمساعدة خالته! استشاط غضبًا لكونه في موقف الأبله الذي منح ثقته لمن لا تكف عن إيذائه، ناهيك عن إفشاء أسرار بيته مخالفة عهدها معه .. توسلت "خلود" لوالدتها:
-بالله عليكي يامه اقفي جمبي، أنا مش هاستحمل واحدة تانية تشغل بال جوزي ولا تاخده مني، هو بتاعي أنا وبس، أنا صبرت ده كله واستحملت أسلوبه وطريقته عشان نبقى لبعض.

نصحتها والدتها بلهجةٍ شبه حازمة:
-طيب.. قومي نامي في فرشتك جمب جوزك بدل ما يقوم ومايلاقيكش.
تنهدت ببطءٍ قبل أن ترد:
-حاضر.

أنهت معها المكالمة بعد بضعة وصايا أخرى تخص الانتباه لصحتها وتناول الطعام الصحي لتنهض من الفراش وهي غير متوقعة من يقف لها بالخارج، انتفضت متراجعة للخلف في ارتعابٍ حين فتحت الباب وأطلت برأسها لتتفاجأ بزوجها يسد الطريق عليها، شبحت بشرتها، وأحست بتلك الخفقة العنيفة المرعوبة تضرب قبلها، اهتزت شفتاها ناطقة:
-"تميم"..!

لعقت شفتيها واستجمعت نفسها لتبدو طبيعية أمامه، اجتهدت لتبتسم لكن خرجت بسمتها مهزوزة يشوبها الخوف، سألته بعينين تدوران على وجهه القاتم بترقبٍ متوجسٍ:
-إنت هنا من امتى؟
لم يجبها، لكن تعابيره القاسية حذرتها من شيء مهلك، لوحت بالهاتف أمام وجهه موضحة بصوتها المرتبك:
-أنا.. كنت بأكلم ماما .. بتطمن على صحتي، مشغول بالها عليا و.. محبتش أعمل دوشة وإنت نايم، ماهي طلبتني.. وإنت عارفها بتحب ترغي وآ.....

ابتلعت باقي جملتها الكاذبة في جوفها حين صرخ بها بصوتٍ هز أركان الغرفة:
-يعني كنت أنا المغفل اللي بتحطيله الهباب ده؟
تراجعت بخطواتٍ مرتجفة للخلف لتتحاشى اقترابه الغاضب منها، وهتفت ترد في هلعٍ:
-إنت فاهم غلط
واصل صياحه المتشنج وعروقه تنتفض غضبًا وحنقًا:
-وفي الأكل يا قادرة؟

جحظت بعينيها حتى كادت تخرجان من محجريهما من شدة خوفها أمام شراسته المتعاظمة، تابعت تراجعها للخلف وقلبها يدق في عنفٍ، بينما أضــاف "تميم" بصوتٍ متهدج من انفعاله الكبير:
-شغل ولاد ليل بصحيح، أل وأنا اللي مفكر إن أخوكي بيبلبعه عمال على بطال.. طلعت أنا الخرع اللي بأخده ليل نهار.
هزت رأسها نافية وهي تشير بيدها أمام وجهه:
-لا يا "تميم"، إنت غلطان..

شعرت أن قلبها على وشك الاقتلاع من صدرها حين سألها بصوته الجهوري، ونظراته النارية:
-وكنتي بتحطهولي كام مرة في اليوم؟
ارتعشت وانكمشت على نفسها وهي بالكاد تحاول الصمود أمام بطشه المهدد، ابتلعت ريقها وردت بصوتٍ لاهث:
-مش كده خالص..
هدر بقوة أرعبتها أكثر:
-مجاش في بالي أبدًا إن مراتي بتديني برشام عشان أنام معاها لأنها شيفاني منفعش!!

نفت بصوتها الذي بح من شدة خوفها من وحشيته المتجسدة أمامها:
-أبدًا والله، إنت سيد الرجالة كلهم.
ارتطم ظهرها بالدولاب، لم يعد هناك مهربًا لها، خبأت بذراعيها وجهها خوفًا من اعتداءٍ سافر عليها جراء مصيبتها، لكنه قبض على رسغيها يشدها منهما بعد أن قيدهما بكفه ليظهر وجهها، وبيده الأخرى أطبق بغلظةٍ على فكيها يعتصره تحت قوة أصابعه، هزها بخشونة مؤلمة وهو يسألها:
-عملتي كده ليه؟

ردت من بين شفتيها وهي بالكاد تحاول الكلام:
-أنا .. كنت.. بس آ...
بدت كمن يحاول اختلاق كذبة سريعة علها تنطلي عليه، صفعة أولى قوية هوى بها على خدها أصابتها بألم شديد قبل أن يتبعها بأخرى فقدت خلالها إحساسها بذلك الجانب، كما نزفت خيطًا رفيعًا من شفتها التي جرحت بأسنانها، وقبل أن يفكر في إكمال ضربه لها، صرخت ترجوه:
-حرام عليك.. هاموت في إيدك، أنا حامل ماتنساش ده، عاوز ابنك يموت؟

ألجمته تلك الجملة فتجمد في مكانه دون أن يحررها، وكأنه يعيد التفكير في شأنها لأجل مصير ذلك الجنين، لكنه لعنها بكلمات نابية جرحت كرامتها بشدة:
-يا بنت الـ.........، مافيش (...) منك!
اعتذرت منه ببكاءٍ اعتقدت أنه سيجدي نفعًا معه ويسترق قلبه بعد نجاحها في كبح غضبه المندلع:
-أنا أسفة، أنا غلطت.. بس والله ما أقصد أضرك.
دفعها بعنف لتصطدم بضلفة الدولاب التي آلمت كتفيها، انصرف من الغرفة يلعنها وهو بالكاد يكافح لضبط أعصابه قبل أن يعود وينحر عنقها لكونها قد عبثت واستهانت برجولته غير القابلة للتشكيك.

ما يقرب من الساعة مكث فيها بالشرفة يحرق سيجارة وراء الأخرى حتى نفذ ما بعلبته، ضرب بقبضته على حافة السور لأكثر من مرة، فكلما تذكر كلماتها كلما تجدد حنقه عليها، ظلت مشاعره الثائرة تغلي في صدره حتى أوشكت أن تجهز عليه، اعتقدت "خلود" من سكونه الزائف أنه هدأ قليلاً، وربما يمنحها ذلك فرصة لتبرير الحقيقة وإعادة سردها بشكلٍ يخدمها أكثر، بدلت قميصها المنزلي القطني بآخر حريري بنفسجي اللون يبرز مفاتنها، وأفرطت في وضع عطرها المغري لتضمن تأثيرها الأنثوي على تحفيزه جسديًا، وضعت الروب على كتفيها لتغطي بشرتها، ثم وقفت عند أعتاب الشرفة تناديه بتنهيدة بطيئة:
-"تميم".

امتقع وجهه من حضورها المقيت، وشعر بالغثيان من صوتها المنفر وهو يهدر بها مهددًا:
-ابعدي عن وشي السعادي.
تلمست جانب عنقه بأناملها بحركة مغرية ومحفزة في نفس الوقت هامسة له:
-حبيبي، خليني أشرحلك الحكاية، إنت فاهم غلط.

استدار نحوها يرمقها بنظرة احتقارية قبل أن يغرز أصابعه في لحم ذراعها ليدفعها للداخل وهو يصيح بصوته الأجش:
-حكاية؟ ده إنتي كدبتي عليا لما سألتك! لأ وأنا الحمار اللي صدق كل حرف قولتيه، طلعتلك الملاك الغلبان، وأنا المفتري الظالم.. يا شيخة ده إنتي إبليس يتعلم منك.
كان لا يزال في ذروة غضبه، لم يتبدد أو ينتقص شيئًا، لكنه لم يؤذها، مجرد دفعات بسيطة، أو سباب مهين لها، وذلك طمأنها أكثر .. لذا استعادت جأشها لتقول:
-غصب عني يا "تميم"، أنا بأحبك أوي.. أنا عاوزاك ليا وبس.. نفسي في حضنك أوي.

مل من سماع نفس العبارات المستهلكة التي لم يشعر بصدقها أبدًا، كيف لرجل أن يقبل ببساطة أن تدس له زوجته في طعامه دواءً قد يقضي على رجولته لمجرد أنها وسيلتها لجره للفراش واستنزافه؟ استنكر بشدة ما فعلته، وهاجمها بكلماتٍ عدائية:
-بالطريقة ال... ده؟ فكرك إن البرشام هايجبني ليكي راكع؟ هيخليني تحت رحمتك، ما جايز إنتي أصلاً ماتمليش عيني؟ وأكيد كنت هادور على واحدة تانية غيرك.. أخونك معاها.

أهانها بكلماته الجارحة التي ذبحتها، وردت محاولة جمع ما بعثر من كبريائها النازف مؤكدة على إخلاصه:
-إنت مش كده، إنت بتحبني لوحدي زي ما أنا بأحبك.
ربما لم يقدم على الخيانة فعليًا، لكنها لا تستحق شفقته أو عطفه، استمر في ضغطه على ذراعها حتى أنت من الألم وهو يواصل تعنيفه بها:
-لأ وأمك.. اللي هي خالتي، بدل ما تقولك لأ، موالسة معاكي في الليلة دي من الأول، وأنا ليه مستغرب؟ ما هو طبعًا إنتي بنتها وتربيتها فكان ده المتوقع منكم..

دافعت عنها بوقاحةٍ استفزته وجعلت الدماء تثور في عروقه:
-هي عايزة مصلحتي، ماتلومهاش
رمقها بنظرة تحتقرها وهو يرد:
-ماهو باين.. جوز أبالسة!
واجهته بأسلوبٍ اعتبره فجًا للغاية:
-"تميم" قدر موقفي بقى.. أنا استنيتك كتير، محبتش حد في حياتي غيرك، اتولدت عشان أحبك إنت وبس، رضيت ببعدك، واستحملت كل حاجة عشان تبقى ليا، وكنت مستعدة أعمل أي حاجة تخليك على طول جمبي وليا لي لوحدي.

ترك ذراعها الذي التهب، ثم أولاها ظهره رافضًا النظر إليها، كأنها عاهرة رخيصة ارتكبت فاحشة مبينة، وقال بسأم دون أن تخبو نبرته المنفعلة:
-يادي أم الأسطوانة المشروخة دي! زهقت، غيري منها.
لحقت به، وقالت بجراءةٍ، ويدها قد امتدت لتلمس ذراعه المشدود في عضلاته:
-"تميم" استنى، أنا معملتش حاجة حرام.

انتفض في نفورٍ جلي من اقترابها، وكأن قاذورات قد ألقيت عليه، ثم صاح بها:
-بس.. ماتلمسنيش! أنا مش عايز أقولك أنا حاسس بإيه دلوقتي ناحيتك!
ترقرقت العبرات المقهورة في مقلتيها بعد عبارته تلك، استطاعت أن ترى بوضوح مدى بغضه لها، ومع ذلك قاتلت لتستجدي عشقه بتسولٍ:
-أنا بأحبك يا "تميم"، ليه بتعذبني؟ ليه قاصد دايمًا تجرحني وتقلل من حبي ليك؟

اكتسبت نبرته المزيد من الخشونة عندما سألها باستنكارٍ:
-هو اللي إنتي عملتيه ده بتسميه حب؟
قالت على الفور:
-أنا بأعشقك.. إنت بس لو تسمعني هـ...
قاطعها بحدةٍ رافضًا السماح لها بخداعه:
-يا شيخة ده أنا كان ممكن أموت من البرشام ده ومش دريان.
هتفت نافية والدموع تُذرف من عينيها:
-استحالة كنت أذيك.. إنت حياتي..

ثم كفكفت عبارتها، وأضافت موضحة بغباءٍ مستحكم:
-ده كان كل كام يوم لما بأحط قرص، ومش كله.. بيكون مطحون.
لم يعلم "تميم" إن كان من المفترض أن يضحك على جملتها تلك أم ينقض على عنقها يخنقه، رد في تهكمٍ ووجهه يكسوه علامات الغضب الشديدة:
-والمفروض أنا أفرح كده؟

ردت ببساطةٍ:
-اعتبره فيتامين.. لو ده يريحك، مش عيب إن الواحد ياخد حاجة تخلي صحته أفضل
كان من المستحيل أن يظل ساكنًا دون ردٍ رادع يؤدبها، كل ما كان يفعله هو كبح جموحه العنيف قبل أن ينفجر فيها ويزهق روحها بلا ندمٍ، شعرت باحتدام عدائي مهدد يغلف نبرته عندما قال وهو ينظر لها باستهجانٍ:
-يا برودك، الموضوع عادي بالنسبالك.. إنتي تحمدي ربنا إنك حامل، لأن لو مكونتش كده، أنا مش عارف كنت هاعمل فيكي إيه!

تطلعت إليه في خوفٍ محسوسٍ، وسألته:
-قصدك إيه؟
أجاب ملوحًا بذراعه:
-جوازتنا من الأول غلط.
تناست في لحظة ما ارتكبته من إهانة رجولته، وحولت الأمر لاتجاه مغاير بالقول بصراحةٍ ملقية اللوم كله على "فيروزة":
-إيه؟ أنا كده فهمت! إنت عاوز تلبسني الغلط عشان الست هانم بتاعتك!

غامت نظراته وتجهم وجهه أكثر وهو يرد بإنكارٍ:
-نعم؟ هو أي هبل بتقوليه والسلام، هانم مين دي؟
قالت بضحكة مفتعلة متهكمة، وكأنها أصابت بصحة افتراءها:
-إيه وجعك الكلام؟ فكرك أنا مش واخدة بالي من اللي بيحصل؟
تدلى فكه السفلي في امتعاضٍ عجيب من قدرتها الرهيبة في قلب الحقائق وتزييف الأمور، بدت كما لو كانت قرينة للحرباء المتلونة، سألها بصوته المليء بالدهشة:
-إنتي بتتكلمي عن إيه؟

بوقاحةٍ فظة أجابته:
-عن الزفتة اللي اسمها "فيروزة"، بترسم عليك وبتشاغلك وإنت مبسوط بكده، عاوز تحس إن في واحدة غيري مهتمة بيك، لأن اللي قايدة صوابعها العشرة مش مكفياك ولا مالية عينيك!!
تجدد غضبه أضعافًا مضاعفة، لم يتحمل أبدًا أن تمسها بالسوء، أو أن تزج باسمها في أكاذيبها، اندفع "تميم" نحوها كالمجنون ليمسك بها من ذراعها، ضغط عليه بقوةٍ وكأنه يريد خلعه من كتفها وهو يسألها:
-إنتي مجنونة؟ إنتي سامعة نفسك؟

حاولت التملص منه، وردت تهاجمه وقد أقنعت عقلها بذلك اقتناعًا تامًا لتبدو في نظر نفسها كالمجني عليها لا الجانية:
-وطبعًا هتلاقيلها أي مبرر، المهم إنك تحس بنفسك معاها.
رفع سبابته يحذرها بوجه قاتم تحولت فيه نظراته للإظلام:
-"خـــلود"! لحد دلوقتي أنا ماسك أعصابي بالعافية، مش عايز أتغابى عليكي!
استفزته بسؤاله:
-قولي؟ اتجوزتني ليه طالما مش طايقني؟ اتجوزتني ليه؟ رد عليا؟
اعترف بصدقٍ مزيحًا ذلك الثقل الجاثم على صدره:
-غلطت يا ستي، مكانش المفروض أتنيل أعمل كده!

حز بشدة في قلبها ما قاله، كأنه طعنها بخنجر حاد النصل قاصدًا قتلها، ومع ذلك رفضت تصديقه موهمة نفسها أنه يفعل ذلك لتعذيب روحها العاشقة له، وبكل غيظها تابعت ادعاءاتها:
-أقولك أنا، لأني الغبية اللي مشيت ورا قلبها، ورضيت تتجوزك وإنت مش بتحبها.. ما أنا اديتك فرصة وقولتلك سيبني وبلاش تظلمني معاك، بس إنت وعدتني تفضل معايا ورضيت بيا على عيوبي، ماتجيش دلوقتي تقولي غلطة، إنت بتحبني لوحدي.

نظر لها بازدراءٍ، بدت في تلك اللحظة كاللعنة المهلكة، وقال بنبرة مفعمة بالندم:
-مكونتش أعرف إن كل ده هيحصل!
أصرت على تصديق ما رسمه عقلها، وأضافت.
-لأ .. وإنت عارف كويس إني زي ما أنا، بأحبك من زمان، وحبي ليك مانقصش حاجة، ومستعدية أضحي بنفسي عشانك.
ضاق ذرعًا بأسلوبها المذل لاستجداء مشاعره، ورد بقساوة:
-كل الأفلام دي عشان تداري على عملتك السودة، مافيش واحدة محترمة تعمل كده في جوزها!
علقت بمرارةٍ وقهر، وقد تجمعت الدموع بكثافة في مقلتيها:
-أنا عاوزاك ليا، غلطت في إيه؟ قولي.

لم يجد ما يعلق به عليها، لكن سريعًا ما اِربدت قسماته بالمزيد من الغضب الثائر حين بررت بوقاحة:
-كل ده عشان كام مرة حطيتلك فيها برشام جايز تحس بمشاعري وتديني حبك؟ ما أنا كنت زي زيك؟ مقصرتش معاك، وشوفت مزاجك على الآخر!
أسلوبٍ رخيصٍ لا يصدر إلا من امرأة بائسة تحصر مشاعر المودة والحب في تلاحم الأجساد، لوح بإصبعه أمام وجهها ينذرها وقد تمكن منه غضبه الأعمى:
-ماتستفزنيش بكلامك، بدل ما رد السجون اللي جوايا يطلع، وتشوفي الوش التاني!

نظرت له بعينيها الدامعتين وقد ارتفع نحيبها، منحها نظرة باردة قبل أن ينطق بعزمٍ:
-ولا أقولك أنا سايبلك البيت وهاغور في داهية!
لم تتحمل فكرة ابتعاده، وانفجرت ثائرة فيه بيأسٍ غير مبالية بتبعات لسانها السليط:
-أيوه، عاوز تروح عندها.. جايز تحسسك إنك راجل وتنفع من غير برشام.

تخشب في مكانه مستنفرًا ودمائه المغلولة تندفع بغزارة لكامل جسده تزأر بقوة وطالبة بالثأر لرجولته التي استهانت بها وحطت من قدر إمكانياته، تخطى ذروة غضبه ليلفت نحوها قائلاً بزمجرة قادمة من أعماق الحجيم:
-إنتي طلبتيها ونولتيها!
انخلع قلبها من نظراتها التي توحشت، وتعابيره التي تحولت للشراسة، سألته والذعر يقفز من عينيها:
-إنت... هتعمل إيه؟
توحشت عيناه أكثر قبل أن يجيب بصوتٍ أجفل كامل بدنها:
-هاعرفك أنا راجل إزاي.. ومن غير برشام!

أطبقت على جفنيها بقوةٍ وهي تئن من الألم الذي انتشر في جسدها، لم تبكِ آسفًا على حالها بعد تعامله البربري معها، اعتبرت تلك الحالة الغرائزية الوحشية التي أطلق فيها العنان للحيوان القابع في الظلام بداخله تجربة شعورية جامحة غير اعتيادية بالنسبة لها، وأن لقائه الحميمي بها بالأمس توثيقًا آخرًا لمشاعره الذكورية المفرطة، وإن كان على حساب إهانتها وتحقيرها لتعامل كامرأة لإشباع الشهوة وليس زوجة محبة..،

المهم أنها نالت مرادها واستنزفت قواه أيضًا، ظنت أنها خرجت من تلك المعركة المؤسفة منتصرة بجره إلى الفراش بعد هجران طويل، هكذا أقنعت نفسها! رغم كون الحقيقة أنه لم يقدم لها حبًا عاصفًا، وإنما وحشية لا إنسانية تحت غطاء الغرام، أجبرت نفسها على النهوض والسير بتمهلٍ لتتفقده بعد أن رحل عنها، كان بالخارج يرتدي حذائه، تصنعت الابتسام، وقالت:
-صباح الخير.

نظر لها باشمئزازٍ قبل أن يشيح بوجهه بعيدًا عنها، دنت منه قائلة ببرود امتقع منه أكثر:
-ها.. اتبسط معايا امبارح؟
تحفز في وقفته، وحاول ألا ينساق في حوار معها، لكنها تابعت بنفس الأسلوب المنفر:
-ده أنا مراتك وقومت بواجبي معاك، مش المفروض تشكرني؟
كانت بائسة للحد الذي تتباهى فيه باعتدائه عليها، سدد لها نظرة احتقارية قبل أن ينطق بصوت اقشعرت من مجرد تخيل تكرار الأمر:
-حلو.. عشان من هنا ورايح هابقى كده!

ابتلعت ريقها الذي تحول لعلقمٍ مرير، ورغم خفقات قلبها المفقهور إلا أنها حافظت على ثبات ابتسامتها الباردة وهي ترد:
-وماله يا حبيبي، طالما يرضيك.
رمقها بنظرة دونية مشمئزة منها، لم يتخيل أن ينتهي بها الحال لتقبل ذلك وإن كان على غير رضاه، أطلق سبة لاعنة قبل أن يخرج من المنزل صافقًا الباب خلفه بعنفٍ انتفضت فيه على إثر قوة الصوت، تخلت "خلود" عن جمودها الزائف لتتحول تعبيراتها للاحتقان، ونظراتها للاشتعال، تهدل كتفاها في خزيٍ ونهج صدرها علوًا وهبوطًا في انكسارٍ، أي حياة وضيعة ارتضت بها الآن لتضمن أن يكون لها وحدها بجسده لا بروحه!

لم يتخيل مطلقًا أن يتصرف كذئب مفترس ينهش طريدته بلا رحمة، خاصة في طقوس الحب الحميمية، اخترق جسدها لا لمنحها الرضا والسعادة الأبدية، وإنما لإذلالها، لجرح كبريائها أكثر معتقدًا بذلك أنه يلقنها درسًا لاستهانتها برجولته التي تعد خطًا أحمرًا لا يُسمح بالمساس به أو تخطيه، ظلت المشاهد العنيفة حاضرة في ذهنه بالرغم من ابتعاده عن محيط المنزل وما يذكره بوحشيته المفرطة..،

تلك التي طالما استخدمها في محبسه لدرء الخطر، وكأن لـ"خلود" تعويذة مميتة لا تنتهي إلا حينما تزهق الأرواح البريئة، بدا الترياق الشافي لنفسه المعذبة هو رؤيتها، ودون ندمٍ تواجد منذ الساعات الأولى أمام محل عملها آملاً أن يتحدث معها، شعر بتلاحق دقاته فجأة قبل أن يلمحها، استشعر وجودها بالقرب منه، وصوتها الرنان عبر الهاتف داعب أذنيه كنغمة مخصصة لتحفيز الحواس، أدار رأسه في اتجاهها، وتلك الابتسامة الحزينة قد شقت طريقها في وجهه، تعجب "فيروزة" من وجوده، ورددت بدهشةٍ حين وقفت قبالته:
-إنت!

ارتكزت كامل نظرات "تميم" على وجهها ليملي عينيه منها متأكدًا بنفسه من كونها الصغيرة صاحبة الملامح المبهمة التي كانت تزوره من آن لآخر، تجددت بسمته بقليلٍ من الإشراق حين رأى حقيبتها مزدانة برسمة الطاووس المميزة وهي تدس بها هاتفها وتخرج المفاتيح منها، هزت رأسها في استغرابٍ من تحديقه المطول، لم تنكر أن طريقته في التطلع إليها باسترابةٍ قد أقلقها، توترت من احتمالية كشف هويتها، لامس قلبها تيارًا خفيًا جعل تلك الرجفة تسري في عروقها من تلك النظرة العميقة التي نفذت إليها من عينيه .. انفرجت شفتاها في صدمة وهو يسألها مباشرة ليبدد شكوكه:
-إنتي كنتي موجودة في حريقة محل عم "غريب" أو نقول "أبو هيثم" الله يرحمه ...؟!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني الحلقة العاشرة بقلم منال سالم


تقاذفت شارات الفضول المتقد من عينيه وهو يترقب بتلهفٍ تأكيد ما استشعره بكامل لا وعيه قبل إدراكه، لكنها لم تهتز قيد أنملة، أجادت الحفاظ على ثبات تعبيرات وجهها فبات غير مقروءٍ بالنسبة لها حين صدمها بسؤاله غير المتوقع، فقط رجفة خفيفة من رموش عينيها تداركتها سريعًا، مع خفقة لحظية متوترة عصفت بضلوعها، تصلبت "فيروزة" في وقفتها وبقيت ساكنة للحظة، فإن لانت قليلاً لربما أدرك أنه أصابها في مقتل، وباستغرابٍ مفتعل رددت تسأله، وكأنها تسمع عن الحادثة المريبة للمرة الأولى في حياتها:
-حريقة إيه؟


 
اغتاظ "تميم" من ادعائها الإنكار، وقال مباشرة:
-إنتي فهماني كويس.
أصرت على إنكارها قائلة:
-أنا مش عارفة حريقة إيه دي!
ثم أولته ظهرها لتقوم بفتح باب المحل وهي تتابع دون أن تنظر إليه حتى لا يكشف كذبها المرتب بعناية:
-شوف يا معلم "تميم"، الموضوع ومافيه إني تعبت شوية...


 
ولجت للداخل وأشعلت الإنارة لتضيء المكان ريثما تزيح الستائر الحاجبة للضوء، استرسلت في حديثها مضيفة بهدوءٍ:
-يعني زي ما إنت شايف الشغل كله هنا على دماغي، مابخدش أجازات ولا بارتاح، كل الحكاية إرهاق وبس.. لا أكتر ولا أقل.
انتظر إلى أن استدارت نحوه لينظر في عينيها بتشككٍ، وسألها بنظراتٍ ذات دلالة خاصة:
-إنتي متأكدة؟
وللمرة الأولى ركزت عينيها في عينيه لترد مبتسمة بثبات:
-أيوه.


 
ربما فشل في الحصول على إجابات لتساؤلاته الحائرة، لكنه فــاز بنظرة خالية من الكراهية من عينيها مع ابتسامة رقيقة جعلته لوهلة يرتعد من احتمالية أن يكون مفتونًا بأي ما يصدر عنها، بادرت بسؤاله بطريقة عملية بحتة:
-لو في حاجة تبع الشغل ممكن تطلبها، فـأنا تحت أمرك
بدت مهذبة معه أكثر من المعتاد مما أربكه بشكل غير اعتيادي، أخفض نظراته وتصنع الجدية معتذرًا:
-لا مؤاخذة عطلتك
ابتسمت في لطافةٍ وهي ترد:
-ولا يهمك.


 
لم يجد "تميم" ما يعلق وسط ما تمنحه اليوم له من وداعة غير مسبوقة جعلته بشكل أو بآخر لا يتوقف عن التفكير فيها متناسيًا ليلة الأمس المشحونة بالكراهية والوحشية .. انسحب في هدوء خارجًا من المحل، لكن العواصف الدائرة بداخله لم تخبت للحظة، التفت برأسه ليلقي عليها نظرة أخيرة عبر الزجاج، لم يشعر بنفسه وهو يبتسم .. ما أفسد عليه تلك اللحظات القيمة التي لا يجد من الكلمات المناسبة ما يوصفها هو ظهور اللزج "آسر"..،

منحه الأخير نظرة استعلاءٍ واضحة وهو يمرق بجواره ليدلف من المحل غير عابئ بإلقاء التحية عليه، شعر الأول بغليان يستعر في صدره، بصعود الدماء المحتقنة إلى رأسه تحثه على افتعال التشاجر معه من العدم لكونه لا يروقه دون سبب معلوم .. أسرع في خطاه محاولاً كبح أفكاره العدائية الجامحة آملاً في نفسه أن يستمر طاووسه الأبيض في التعامل مع أمثال ذلك السخيف بجفاء وصرامة.

تركت ما في يدها لتتجه بخطوات متعجلة إلى رفيقتها فور أن رأتها تدخل المحل برشاقة وضحكاتها المتحمسة الرنانة تسبقها إلى المكان، نادتها بترحيب وهي تقبل عليها لتحتضنها في اشتياقٍ واضح:
-"علا"، نورتي مكانك.. أخيرًا قررتي تيجي.
تراجعت عنها لتقول بحماسٍ وهي تدير رأسها للجانب:
-مش هاتصدقي مين جاي معايا ومصمم يشوفك.


 
تطلعت إليها في حيرة سريعة تلاشت فورًا حين رأت "آسر" يتقدم نحوها وهو يستند على عكازه المعدني، اندهاشة طفيفة كست تعبيراتها ما لبث أن تحولت لابتسامة فاترة وهو يقول لها:
-صباح الخير يا آنسة "فيروزة".
ردت تهنئه بخروجه من المشفى وتعافيه من إصابته:
-حمدلله على السلامة أستاذ "آسر".

تقدم خطوة أخرى نحوها ليقلص فارق المسافات بينهما، وتابع بنبرة متعشمة:
-ولو إني ليا لي عتاب عندك عشان مافيش ولا مرة فكرتي تيجي تشوفيني فيها.
اعتذرت منه بحرجٍ:
-مكانش ينفع والله، أنا .. كنت مشغولة، وبعدين "علا" كانت متواجدة باستمرار مع حضرتك.
علق على كلمتها الأخيرة مرددًا باستنكارٍ:
-حضرتي؟ طب ليه الرسميات دي؟


 
غيرت مجرى الحوار معه، وسألته بنبرة ادعت فيها اهتمامها به وهي تستدير عائدة لطاولتها المستطيلة لتختبئ خلفها:
-خرجت امتى؟
أجابها بعد زفيرٍ متعب وقد أحضرت له "علا" مقعدًا ليجلس عليه:
-النهاردة.
أضافت "علا" بمرحٍ:
-ده زي العيال الصغيرة يا "فيرو"، كل يوم يشتكي ويزن عاوز يطلع من المستشفى، وإنه زهق من الأعدة، وكلام كتير كده.
تجاهل عباراتها السخيفة وثبت نظراتها على "فيروزة" ليقول بابتسامةٍ ذات دلالة خاصة:
-كان لازم تكوني أول حد أشوفه.

ضاقت عيناها باسترابةٍ بعد سماعها لتلك الجملة الموحية، تجاهلت التعليق عليها لمنع أي فرصة للتودد معها، ادعت انشغالها بتغليف أحد صناديق الهدايا، لكن صوت "علا" القريب منها سألها:
-بيتهيألي مش فاضل كتير على جوازة "همسة" يا "فيرو"، صح؟
أجابت بلهجة جادة محاولة ألا تنظر في اتجاه "آسر"، حيث حرك الأخير مقعده ليدنو قريبًا من طاولتها:
-لأ .. على الأسبوع الجاي، وخالي سافر البلد يعزم قرايبنا.

تنحنح "آسر" مهنئًا، وتلك الابتسامة المرسومة تحتل شفتاه:
-ألف مبروك، وعقبالك.
ردت فقط على الجزء الأول من مباركته قائلة:
-الله يبارك فيك..
أراح "آسر" ذراعه على طاولتها متعمدًا أن تلمس يده كفها الذي يغلف الصندوق وهو يقول:
-وشكرًا على مساعدتك.

سرت في جسدها قشعريرة منزعجة بمجرد أن شعرت بملمس يده المباغت على بشرتها، سحبت يدها كالملسوعة من أسفل كفه وهي ترمقه بنظرة محذرة، ثم أولته ظهرها قائلة بنبرة رسمية:
-أنا ما عملتش حاجة، وأي حد مكاني كان هيتصرف كده.
نقر بأصابعه على السطح الخشبي مصححًا لها بنظرة نافذة ليؤكد لها أنه يقصدها:
-بس إنتي مش أي حد.

كانت تملك من الذكاء ما يخولها لفهم ما يرمي إليه ضمن حديثه، ومع ذلك فضلت أن تظل صامتة لتقتصر في الكلام معه، سألها بهدوءٍ:
-آنسة "فيروزة"، تسمحيلي أحضر الفرح، ده لو مش هيضايقك.
صوتٍ تردد في عقلها يستنكر تطفله:
-يحضر بصفته إيه إن شاءالله؟!!
حمدت الله في نفسها أن تفكيرها غير مسموعٍ وإلا لشعر بنبرة الازدراء الظاهرة في صوتها، انتبهت لـ "علا" حين دعته دون انتظار ردها النهائي:
-أنا رايحة وش يا "آسر"، وأكيد إنت معايا، "فيرو" ومامتها مش هايمنعوا، احنا تبع العروسة، وده عادي..

ولتظهر دعم رفيقتها لدعوتها سألتها منتظرة تأييدها:
-صح يا حبيبتي؟
تنحنحت قبل أن ترد عليها بجدية، وقد باتت في موقف حرج بسبب تسرعها:
-طبعًا.. هتنورونا يا أستاذ "آسر"، وكمان كل العيلة الكريمة.
أسبل نظراته قائلاً بتنهيدة سعيدة:
-وأنا مش هتأخر..

حاولت ألا تنظر ناحيته طوال الفترة الطويلة التي مكث بها في المحل لكونها لا تشعر بالارتياح من نظراته الموجهة لشخصها فقط، وحتى حديثها كان محدودًا مقتضبًا، لا تعلق إلا في أضيق الحدود، على عكس "علا" التي لم تتوقف عن الثرثرة والضحك معه، وكأنها مستمتعة بكل لحظة تقضيها في حضوره.

أراحت ظهرها في المغطس بعد أن ملأته بالمياه الدافئة، آنات خافتة موجوعة انفلتت من بين شفتيها وهي بالكاد تحاول استعادة قوتها البدنية التي استنزفت بالأمس، ما زالت آثار وحشيته مطبوعة على بشرتها، ومع ذلك بدت راضية كليًا عما وصلت إليه، اعتبرت ما حدث من زوجها من لقاء غرائزي بحت يخلو من أدنى المشاعر بأنه الوجه المرادف للحب الشغوف الذي يتضمن في طياته رغبات عنيفة، لا مانع من بعض القسوة طالما أنه يجدها قادرة على تلبية احتياجاته..،

لاقت فكرة كونها زوجته المطيعة حيث مباح له أن يفعل بها ما يشاء استحسانًا كبيرًا في تفكيرها المريض، لتفعل المستحيل حتى لا تسرقه منها غيرها، لتكن معه كالعاهرة في الفراش إن كان يستهويه الأمر، لا يهم! ففي النهاية استحوذت عليه، وقضى ليلته معها يطارحها الغرام.

عززت تلك الفكرة كثيرًا لتبرر تصرفه بل وربما تمتدحه على قدراته الفائقة، لم تهتم بإهانتها، بإذلالها، بتقليل منزلتها واحتقارها بتلك الصورة البشعة، المهم ألا تتحول لبضاعة راكدة في عينيه، نهضت "خلود" من المغطس لتلف نفسها بروبها القطني حتى يجف بدنها، خرجت من الحمام متجهة إلى غرفها نومها، تأملت الفراش غير المرتب الذي ما زال يحتفظ بأغطيته، ابتسمت في انتشاء وعيناها تتوهجان بوميض غريب،

لم تكن بحاجة لجرعات المنشط لتحصل على غايتها منه، فالليلة السابقة كانت جامحة ومختلفة، توقعت أن يكرر الأمر للتباهي بفحولته العظيمة، وهيأت نفسها للتجاوب معه متناسية تحذيرات الطبيب بضرورة تجنب اللقاءات الزوجية في تلك الفترة حرصًا على اكتمال الحمل، توقفت عن التحديق في الفراش حين سمعت قرع جرس الباب، ترددت في فتحه قبل أن تبدل ثيابها، ومع ذلك خرجت لتتفقد الطارق من العين السحرية، وضعت يدها على المقبض لتديره وتستقبل والدتها التي هتفت تسألها بأنفاسٍ لاهثة:
-إنتي فين يا بت من بدري؟ ما بترديش ليه على التليفون؟

ابتسامة صغيرة جانبية تشكلت على شفتيها وهي تدعوها للدخول:
-خشي الأول يامه، هنتكلم واحنا واقفين؟
خطت للداخل وهي تتأمل روبها وشعرها المبتل، سألتها بفضولٍ:
-هو إنتي كنتي بتستحمي ولا إيه؟
للحظة طرأ ببال والدتها أن تكون ابنتها قد خالفت تعليمات الطبيب لتستجيب لرغبة زوجها، فنطقت على الفور معبرة عما يدور في رأسها بصوتٍ مستنكر:
-اوعي تكوني يا بت نمتي مع جوزك وآ...

بترت عبارتها عن عمد وهي تنظر مليًا لابنتها لتتأكد من هواجسها، أصابت هدفها فتبدلت تقاسيم وجهها للغضب، قبضت على ذراعها تجرها منه خلفها وهي توبخها:
-إنتي عاوزة تضيعي اللي في بطنك بجريك ورا حبيب القلب.
تأوهت "خلود" من الألم الشديد الذي انتشر في عضلات ذراعها مع هز والدتها العنيف له قبل أن تتوسلها:
-بالراحة يامه، مش قادرة، جسمي مكسر.

استغربت "بثينة" من ردة فعلها رغم كونها لم تتعامل بعدائية معها، وسألتها:
-في إيه يا بت مالك؟
ولكونها تتطفل على ما يخص علاقة ابنتها الحميمية بزوجها استطاعت أن تستدرجها في الحديث لتفهم سبب أوجاعها، شهقت لاطمة على صدرها لتهتف باستهجانٍ:
-يخربيت عقلك؟ وإزاي توافقي على كده؟ إنتي مش حاسة بنفسك عملتي إيه؟

قالت ببرودٍ استفز والدتها بشدة:
-أنا مراته، وبأشوف مزاجه.
لم تتحمل غبائها فلكزتها بغيظٍ في جانب صدرها وهي تعنفها:
-الله يحرقك، كنتي كلمتني نصحتك تعملي إيه بدل الوحلة السودة دي.
شهقة أخرى مفزوعة امتزجت مع ما يشبه العويل وهي تشير بعينيها نحو الأسفل:
-يا نصيبتي، إيه ده؟

أخفضت ابنتها نظراتها نحو بقعة الدماء الصغيرة التي انزلقت من بين ساقيها لتلوث الأرضية، جحظت أمها بعينيها، وصرخت في وجهها تلومها:
-شوفتي جنانك وصلنا لإيه؟ ضيعتي الواد اللي كان هيقش كل حاجة!

جزع قلب "خلود" بشدة وأحست بانقباضة مميتة تعتصره وقد توقعت الأسوأ، إجهاض جنينها قبل أن يكتب له الحياة، اهتز جسدها بشدة، وبدأت فاصلاً من اللطم والعويل على صدغيها بعد أن تداركت تبعات كارثة تلك الليلة المحفولة بالمخاطر والإهانات .. أسرعت "بثينة" تجذبها من معصمها نحو غرفة النوم قائلة بحزمٍ، ودون أن تمنحها أي فرصة للاختيار:
-انجري قدامي غيري هدومك عشان نروح أوام للدكتور يشوفلنا حل..
بالطبع لم يكف لسانها عن لعنها فأضافت:
-منك لله يا شيخة، تخطيطي كله بـــاظ!!

نظرة عميقة لا حدود لنهايتها تركزت على أمواج البحر المتلاطمة وهو يستند بجسده على سيارته التي صفها بالقرب من منطقة الصخور الحجرية في نهاية الشاطئ الرملي، تأملها بعقلٍ شارد، حيث تكالبت مشاهد ليلة أمس في رأسه لتنغص عليه الصفاء الوقتي الذي حاز عليه بصحبة طاووسه قبل قليل، عاد الحزن ليحتل قلبه ويستأثر به من جديد، لم يحبذ "تميم" أبدًا أن يصبح مع زوجته الشخص الذي كان عليه بالأمس، وإن كانت فعلته بغرض الثأر لرجولته المنتهكة على يد من أئتمنها على نفسه قبل جسده، لكنه نبذ تصرفه الجامح بشدة..

خنقته الدموع ندمًا، لن ينساق وراء تناطحت أفكاره ما بين ثائرة ورافضة لما ارتبكه، تحفزت أنفاسه وامتلأ صدره غضبًا لمجرد أن رنت كلمات "خلود" المستفزة في عقله، وكأنها لم ترتكب أي خطيئة تُلام عليها، فرك وجهه في تعبٍ وهو يزفر ببطءٍ طامعًا أن يتمسك ببقايا عقله المشحون، لم يذهب إلى عمله، ولم يرغب في رؤية أحدهم، لينفرد لبعض الوقت بنفسه عل ثورته التي تحرق أحشائه تستكين.

ألقى نظرة فاترة على شاشة هاتفه المحمول حين رأى اسم والدته ينير عليها، تجاهل الرد عليها في المرة الأولى، لكن حين ألحت عليه اضطر أن يجيب حتى لا تقلق، وبصوتٍ متحشرج قليلاً قال:
-أيوه يامه، في حاجة مهمة؟
لاحقته بأسئلتها القلقة:
-إنت فينك يا "تميم"؟ أبوك قالب عليك الدنيا، لا بترد ولا بتكلم حد، حصل حاجة؟
تنهد مليًا قبل أن يدعي كذبًا:
-ورايا كام مصلحة بأخلصها.
سألته مستفهمة:
-تبع الدكان؟

رد نافيًا:
-لأ، حد من صحابي قاصدني في خدمة، وأنا معاه بأنجزها
قالت بتفهمٍ:
-وماله يا ابني، خلاص أنا هاطمن أبوك، ولما تفضى عدي عليا، عملالك ورق العنب اللي بتحبه، هستناك.
حك ذقنه مغمغمًا بفتورٍ:
-ربنا يسهل.
ألحت عليه بطريقتها الأمومية الناجحة في اجتذابه:
-والله ما هادوقه إلا لما تيجي، يرضيك أمك تفضل جعانة؟
وكأنه بحاجة ماسة إلى أحضانها الدافئة لتزيح عنه همومه، لم يرفض طلبها، وابتسم يعدها:
-طيب.. هاجيلك يامه.

-يا حاج "بدير"!
نـــادت بصراخ مرتفع تعمدت أن تلفت به أنظار المارة وتحشد به المتواجدين بالزقاق ليكونوا على رؤوس الأشهاد فيما ستفعله لاحقًا، تلك النظرة الخبيثة الماكرة توهجت في عينيها وهي تتأكد من تحقيق مسعاها الذي أتت لأجله، وبالرغم من كون حالة ابنتها بعد فحص دقيق لرحمها وأنسجتها من قبل طبيبها المتابع لحملها كانت لا تستدعي كل تلك الضجة إلا أنها كانت الفرصة المثالية لتحقيق أطماعٍ لئيمة..،

فالطبيب أخبرهما ببساطة أن بقع الدماء النازفة هي ردة فعل طبيعية بعد لقاء حميمي جامح من غير المفترض أن يتم في تلك الظروف، لكن ما زالت حالة الجنين مستقرة لا تدعو للخوف (حاليًا) .. ومع تكرارها لذلك النداء الغاضب تجمع الكثيرون أمام أبواب الدكان، خرج إليها صاحبه وعلامات الاندهاش تكسو وجهه، وقف قبالتها ينظر إليها بحدةٍ، لكنها تابعت ملقية اللوم بأكمله على ابنه البكري:
-هي دي الأمانة اللي ابنك المفروض يحافظ عليها؟!

سألها "بدير" في ضيقٍ بصوته الأجش الحازم:
-في إيه يا "بثينة؟ جاية بزعابيب أمشير ليه؟
زمجرت هادرة بكل ما فيها من عصبية لتبدو صاحبة حق تطالب بالقصاص العادل لفلذة كبدها المكلوبة على أمرها:
-بقى أنا يا حاج يا بتاع ربنا أجوز بنتي لابنك بعد ما استنته بالسنين ورفضت تقابل أي حد اتقدملها عشان سواد عيونه، وهو يعمل فيها كده؟!!
تطلع بعينين مزعوجتين سريعًا في أوجه الحضور وقد لاحظت الهمهمات الفضولية الدائرة من حوله قبل أن يرد بحدة:
-أنا مش فاهم حاجة، ما بتقولي "تميم" عمل إيه؟

تابعت ندبها الساخط مستخدمة ذراعيها في التلويح:
-طب بلاش نقول إنها مراته قبل ما تكون بنت خالته، يرحمها عشان اللي في بطنها، خلاص الرحمة اتعدمت من قلبه!
نفذ صبره من مماطلتها المتعمدة لتشويه سمعة ابنه على مرأى ومسمع من الحضور، وصاح بها:
-ما تنطقي وتقولي في إيه بدل ما إنتي بتكلمي بالألغاز كده!
أرادت أن تبدو منكسرة، مهيضة الجناح حين أجابته بنواحٍ
-يرضيك إنه يضربها ويعدمها العافية عشان اتمنعت عليه لأجل مصلحة ابنه اللي في بطنها..

تعقدت تعابيره في استنكارٍ حائر وهي تراوغه بالكلمات المثيرة للشكوك، فسألها بصوتٍ خبت حدته قليلاً:
-قصدك إيه؟
أجابت مسترسلة بأسلوب فج استطاعت به الحصول على همهمات ولمزات مستنكرة غاضبة ممن حولها:
-إيش حال ما كان الدكتور منبه إنه مايقربش منه وأنا موصيها يراعي ربنا فيها، يطنش ده كله ويركب دماغه إن شاء تسَقَط فيها!
كانت وقحة بشكلٍ يدعو للنفور للبوح بأسرار البيوت علنًا دون رادعٍ، عنفها بنبرة اخشوشنت على الأخير.
-ده كلام مايصحش يتقال هنا يا "بثينة"! عيب كده، تعالي نتكلم عندنا في البيت.

اعترضت عليه بشدةٍ:
-أنا مش رايحة معاك في حتة يا حاج، وبنتي هتفضل عندي لحد ما تشوفلي صرفة مع ابنك.
انضم "هيثم" إلى المشادة المحتدمة متسائلاً بغرابةٍ:
-هو في إيه يامه؟ جاية عند الدكان ليه؟
وجهت أنظارها النارية نحوه لتجيبه قاصدة استثارة مشاعره الأخوية:
-فيه إن ابن خالتك الفتوة ضرب أختك وعدمها العافية، ها يا ابن بطني، هاتسكت عن اللي عمله؟
نكست رأسها في أسف وادعت أنها تمسح دموعها غير الموجودة بطرف حجابها قبل أن تكمل:
-دي يا حبة عيني كانت هاتروح فيها، لولا ستر ربنا ...

تنهنهت بنواحٍ عالٍ مكملة استفزازها لمشاعره الذكورية وتحفيزه ضده للثأر منه:
-أل والمعدول ابنط يوم ما "هيثم" اتهف في عقله واتصرف بطيش وغلط عدمه العافية! ده مخلاش فيه حتة سليمة.
نجحت بمكرها الداهية في قلب ابنها على زوج أختها، انتفض "هيثم" ثائرًا ليقول بوعيد شرس:
-وربنا ما هاسكت، هي أده عشان يمد إيده عليها
تلك النظرة الخبيثة الفرحة برقت في عينيها قبل أن تخفيها لتولول بانكسارٍ:
-يا بهدلتنا من بعدك يا "غريب"، الكل عاملنا ملطشة للي رايح واللي جاي.

هتف بها "بدير" بصرامة:
-لمي الدور يا "بثينة" .. بنتك زي بنتي، وأنا اللي هاجيبلك حقها.
احتج عليه "هيثم" بعنادٍ أظهر فيه عدائيته الصريحة:
-حق أختي هاخده منه يا جوز خالتي، هي معدمتنيش!

كالأفعى السامة نجحت "بثينة" في وغر صدور الجميع وشحنهم بالكراهية والغضب، بل وقلب الطاولة على رأس "تميم" لتضعه في موقف حرج متخاذل مع أبيه أولاً قبل صدامه الشرس مع "هيثم"، كانت نظراتها المنتصرة تؤكد إحساسها بالنشوة من أدائها لدورها ببراعة، والحق يُقــال أن "محرز" من قدم لها المشورة لتطيح بالابن المفضل عن عرش قوته في ضربة واحدة سهلة مستغلة وحشيته مع ابنتها لصالحها.

اكتفى بتناول القليل من ورق العنب الذي أعدته والدته إرضاءً لها وتقديرًا لتعبها في إعداده، كان شهيًا بالقدر الذي جعله يرغب في المزيد، لكن حالته المزاجية لم تسمح له بالاستمتاع بتذوقه، اقتضب في الحديث معها رغم محاولاتها المتنوعة لاستخراج الكلمات من جوفه لتعرف سبب عبوسه والهموم المقروءة في عينيه، كان على وشك الانصراف حين تلقى مكالمة هاتفية من ابن خالته يطلب فيها رؤيته في التو والحال، توقع "تميم" أن يكون للأمر صلة بتجهيزات العرس، ولم يطرأ بباله مطلقًا تسبب خالته في جلبة من شأنها تدمير سمعته وشهامته بين أوساط رجال منطقته الشعبية.

فتح الباب لاستقباله لكنه تلقى لكمة عنيفة من "هيثم" أصابت فكه السفلي وهو يسبه:
-بتتشطر على أختي يا (...)؟
في البداية ترنح من المفاجأة، لكن ما لبث أن استعاد تماسكه ليرد متسائلاً بخشونة وقد توحشت نظراته:
-إنت اتجننت؟
رد غير مبالٍ وهو يقبل عليه متحفزًا للتضارب معه:
-ده الجنان الأصلي هايطلع عليك دلوقتي!

رفع "هيثم" ذراعه ليلكمه مجددًا، لكن قبضته وجدت ذراع "تميم" تصدها وتحول دون وصولها لوجهه، بل وبيده الأخرى المتكورة سدد له واحدة طرحته أرضًا إلى خارج المنزل من شدة قوتها، تأوه "هيثم" من الألم وهو يستند على مرفقه لينهض، بينما اندفع "تميم" للخارج مغلقًا الباب من خلفه ليمنع والدته من مشاهدة شجارهما العنيف، وإن كانت تصرخ من ورائه في جزع وصدمة.

انحنى على ابن خالته ليجذبه من تلابيبه، والآخر يسبه ويلعنه، كان "تميم" يفوقه في الطول، والقوة الجسمانية، ناهيك عن معرفته الجيدة بأساليب العنف ومواضع الإيلام التي يجيدها جراء بقائه في السجن لسنواتٍ طويلة، وبكل غيظه وغضبه المتجمع فيه دفعه دفعًا للطابق العلوي للانفراد به هناك بعيدًا عن عائلته، وحفظًا لماء الوجه حاول "هيثم" عرقلته والتصدي له بالركل تارة، وباللكم تارة أخرى في معركة غير متكافئة بينهما لفارق القوى الجسمانية ولصالح "تميم".

تجاذب الاثنان بشراسة وتلاحما جسديًا فوق سطح المنزل، هدر "هيثم" منفعلاً يلومه:
-بتتغابى عليها ليه؟ لو فاكرها من غير ضهر تبقى غلطان!
حال دون وصوله إليه بالإمساك بقبضته ولف ذراعه خلف ظهره ليعيقه مرددًا:
-إنت مش فاهم حاجة.
رد يتوعده بكامل عصبيته العمياء:
-ولا عايز أفهم غير إنك مديت إيدك على أختي! وأنا مش هاسيبها تعدي كده.

نجح "تميم" في لف ذراعه حول عنقه، أحكم سيطرته عليه وجعله مقيدًا غير قادرٍ على الإفلات منه قبل أن يدافع عن نفسه هاتفًا:
-إنت عارف أصلاً هي عملت إيه؟ ولا عرق الرجولة نط فيك فجأة فجاي تجربه فيا؟
اغتاظ "هيثم" من استخفافه به، وصاح في غضبٍ متعاظم وهو ينتفض بجسده ليتخلص من قبضتيه:
-أنا راجل غصب عن عين أتخن تخين في الحتة دي!!

تحرر منه وتراجع وهو يلهث في انفعالٍ، فواصل "تميم" القول بنوعٍ من السخرية المطعمة بالسخط:
-لأ جدع ياخويا، مافيش أرجل منك، بس قبل ما تيجي تغلطني مع مراتي، اللي بينا حاجة ماتخصكش.
رد عليه بعينين يتطاير منهما الشرر:
-لأ يخصني طالما عاوز تنام معاها عافية!
غامت عينا "تميم" وغلفهما غضب مخيف، انقض عليه يجذبه من ياقتيه وهو يصيح مستنكرًا وقاحة ما تنطق به، خاصة فيما يتعلق بحياته الزوجية الخاصة:
-إنت بتقول إيه؟

قال غير مبالٍ بردة فعله العنيفة:
-اللي سمعته.. "خلود" ليها أهل يعرفوا يجيبوا حقها من حيوان زيك مرعاش ربنا فيها ولا اللي في بطنها!
تفاجأ "تميم" من تلميحه الصريح عن ليلته الحميمية مع زوجته، وكأنه حوارًا مباح الكلام فيه بأريحية، وإن كان ما يعرفه قدرًا بسيطًا فقط لاستفزازه إلا أنه لم يكن -مطلقًا وأبدًا- ليقبل بتداول حياته الشخصية على ألسن الغرباء قبل الأقرباء .. كز على أسنانه متسائلاً بأنفاس مختنقة، ووجهه يلمع بوهج كأنه يفح نارًا حامية:
-هي وصلت لكده؟

بجراءة وعزم رد عليه "هيثم" غير معتقد بتفكيره الضيق بأنه يمنحه الحل السحري في نهاية المطاف بعد صراع وتخبط عظيمين بالقول دون احترازٍ وبنية صريحة:
-أه، و"خلود" مش رجعالك تاني.. اللي ما يصونش مراته ويقدرها ما يلزمناش ...!!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني الحلقة الحادية عشر بقلم منال سالم


العائلة .. دومًا تأتي في المقام الأول لديه، حين تتكالب المصائب فوق الرؤوس، تتكاثر الأزمات والمحن، تكون هي السند القوي الذي يشد من الأزر؛ وإن انفرط حبل الود والوصــال بين أفرادها باتوا مهددين بالتفرق والضياع .. انحدرت أخلاقها لتبوح بما يدور في فراش الزوجية دون حياءٍ أو وقار، استباحت الخوض في شرفه متلذذة بتحقيق انتقامها فيه، والنيل من سمعة العائلة. كل ما شعر به "تميم" حاليًا هو ضرب من الاستياء العميق بعد الفضيحة التي لحقت به، بدا في نظر نفسه كحيوانات البرية، يجري وراء غرائزه، ولا يختلف عنهم إلا بلسانٍ ناطق.


 
ظلت يداه قابضة على تلابيب ابنه خالته؛ لكن نظراته احتوت على غضب مخيف. هزه بعنف وهو يسأله بأنفاس متلاحقة، وقد استبد به حنقه:
-هي اللي قالتلك كده؟
رد "هيثم" بصوته الأجش:
-مش محتاجة تقول، وأنا مش هستنى لما تموتها عشان أدافع عنها، ولا أحميها منك.


 
تحركت قبضته لتطبق على عنقه، فانحشرت أنفاس ابن خالته في جوفه، ولم تجد لها المفر للانطلاق أو الدخول. قست نظراته والتهبت حين هدر به موضحًا:
-الواحدة لما تطلع أسرار بيتها لمين ما كان ما تستهلش تكون على اسمي!!
منعه من التمادي في عنفه البدني معه صوت أبيه المنادي به، بكل ما أوتي من قوةٍ:
-"تمــــيم"!

تجمد في مكانه، وعروقه منتفخة بدمائه الثائرة؛ لكن لم ترتخِ قبضته عن عنق "هيثم"، في حين قاتل الأخير للنجــاة بحياته قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة على يده. تحرك "بدير" على الفور ليقف قبالته، لإيقافه عن التصرف برعونة، وسحب ذراعه من على مجرى تنفسه المسدود آمرًا إياه:
-سيبه يا "تميم"!


 
بصعوبة تمكن من إقناعه بتركه، فسعل ابن خالته بألم طلبًا للهواء لينعش به رئتيه، بقيت نظراته المليئة بكل ذلك الغضب مرتكزة على وجهه وهو يقول:
-لو على القتل مافيش أسهل منه، بس أنا حسابي مش معاك...
توقف للحظة ليلتقط أنفاسه، وربما لإضفاء المزيد من الرعب في كلامه، قبل أن يتابع بوعيد مهلك:
-حسابي مع اللي اتجوزتها!


 
حذره "هيثم" بصوته المبحوح:
-إياك تقربلها، هتلاقيني واقفلك! حتى لو دخلت السجن
هنـــا صــاح "بدير" بنفاذ صبر:
-ولا كلمة زيادة إنتو الاتنين!
ثم التفت موجهًا حديثه لـ "هيثم" يأمره:
-انزل من هنا يالا، مش وراك شغل متعطل وطلبية توصلها؟
رد معترضًا بنظراتٍ مغلولة:
-أيوه يا جوز خالتي، بس أختي آ....


 
قاطعه بصوته الأجش الصارم:
-هي كلمة! الموضوع عندي، وأنا هاتصرف فيه، وأختك لو ليها حق هيرجع
قال بنوعٍ من التهكم، دون أن تبتعد نظراته عن "تميم":
-هنشوف!
وقبل أن ينطق ابن خالته هرب من محيطه متجهًا نحو باب السطح، استوقف "بدير" ابنه بوضع يده على كتفه، واستطرد ينصحه بحنكته:
-ماينفعش تاخد قرار، وإنت في الحالة دي.
انفجر صائحًا به بشراسة:
-حالة إيه يابا؟ إنت ماسمعتش بيقول إيه؟


 
رد عليه بضيقٍ لم يقل عنه؛ ولكنه كان أكثر هدوئًا في التعامل مع الموقف الحرج:
-ما هو أمه منها لله رمت الإسفين في الدكان، وقلبته آ....
حملق فيه مصدومًا من الكارثة الأخرى التي عرفها للتو، لم يأتِ بمخيلته أن يتم فضحه علنًا، وتداول ما حدث بينهما من عنف زوجي على ألسن العامة؛ وكأن شرفه مسألة عادية يجوز الخوض فيه دون احترازٍ، قاطعه بصوتٍ أشد تشنجًا:
-كمـــان، يعني أمة لا إله إلا الله كلها عرفت؟
حاول تخفيف وطأة الأمر عليه قائلاً:
-اهدى بس، وكل حاجة هتتحل.

تقوس فمه مرددًا في سخطٍ متهكم، وقد بات قاب قوسين أو أدنى من التحول لحالته الإجرامية السابقة:
-تتحل إيه؟ ده ناقص يعلقوا يُفط في قلب الحتة، ويكتبوا فيها شوفتوا "تميم" عمل إيه مع مراته في أوضة النوم!!!!
لم يحبذ أبدًا وضع ابنه في مثل ذلك النزاع العائلي، والتقليل من شأنه، لذا رد عليه "بدير" بحذرٍ، وهو يتطلع إليه في حزنٍ:
-مش للدرجادي يا ابني، يومين وكل حاجة هتدى، بلاش تكبر الحكاية في ساعة شيطان.

أظلمت عيناه، واختفت تعابير الرحمة منهما ليحل الشر المطلق، ثم قال بصوتٍ بدا أتيًا من الجحيم:
-هي كبرت لوحدها!
حدق فيه والده بنظرات حائرة محاولاً تبين ما ينتوي فعله؛ لكن تركه "تميم" واندفع ركضًا -بكل ما يعتريه من غضب، غيظ، غل، أي مشاعر عدائية صريحة- نحو باب السطح قاصدًا إشعال الأرض بمن عليها، لحق به "بدير" يرجوه:
-استنى يا "تميم".

لكنه فشل في الوصــول إليه أمام خطواته السريعة، هبط الدرجات قفزًا ليتجه للأسفل، وجد والدته في انتظاره، اعترضت طريقه فاردة ذراعيها في الهواء؛ وخصوصًا بعد أن عرفت أسباب ثورته العارمة. سألته بقلبٍ يدق في خوفٍ، وعلامات الارتعاب مرسومة على صفحة وجهها:
-رايح فين يا ابني؟ كلمني وقولي؟

لم ينطق بكلمة؛ لا جدوى من الحديث العقلاني، الرد العنيف هو كل ما يفكر به حاليًا، حاول المناص منها؛ لكنها سدت عليه الطريق بجسدها المترهل وخطاها الثقيلة. لم يمسها، ورغب في إزاحتها بالصراخ بها دون دفعها بالصياح بصوته الهائج:
-حاسبي يامه.
تعلقت بذراعيه، وقبضت عليهما بيديها المرتجفة. نظرت له " ونيسة" من بين عينيها الباكيتين خوفًا عليه تتوسله:
-بالله عليك ما تروح عندها وإنت كده.

وكأنها تتحدث عن أي شيء يمكن التغاضي عنه سوى ذكورته المستباحة حاليًا، لا بديل عن الثأر لرجولته، هدر بها بعصبيةٍ، وقد توحشت نظراته:
-يووه، حاسبي من سكتي...
اختنق صوته، وبدا وكأنه يفح نارًا حين تابع:
-أنا بأغلي من جوايا يامه، وهاصور قتيل السعادي.
انقبض قلبها بين ضلوعها، أحست بروحها تقتلع من جسدها، لا يمكنها بأي شكل أن تسمح له بالذهاب، حتمًا سيودي بنفسه للتهلكة، لذا ردت تستجديه بخوفها الغريزي النابع منها:
-إنت عاوزني أموت بحسرتي لما أسيبك تروح عندهم وترتكب جناية وتخش السجن من تاني؟!

زمجر معقبًا عليها، دون أن يأبه لما يمكن أن يحدث:
-إن شاءالله أتعدم حتى، أنا مش هاعدي الليلة دي على خير!
نظرت "ونيسة" من فوق كتفه لتجد زوجها يهبط الدرجات، صاحت به مستغيثة:
-حوشه يا "بدير".
التفت ابنها عفويًا برأسه للخلف ليجد والده مقبلاً عليه، وامتدت يده لتمسك به من كتفه، رجاه الأخير بصوته الرزين:
-تعالى يا "تميم" معايا، واستهدى بالله كده.

رد برفضٍ قاطع:
-لأ يابا.
رمقه بنظرة حادة، وسأله:
-بتعصاني؟
تملكته نزعة الاعتزاز برجولته والثأر لها، اعتذر منه بصوته اللاهث من فرط انفعاله، قاطعًا عليه كل السبل لأي مفاوضات:
-سامحني يا حاج، بس المرادي الكلام مايتسكتش عليه.

في تلك الأثناء، خرج من غرفته، ووقف عند أعتاب المنزل، لم يفهم سبب الجلبة الدائرة بالخارج؛ لكن الجو العام ينذر بكارثة بالفعل حدثت.. وليلملم شتات الأمور، دك بعكازه الخشبي الأرض بقوة اختلطت مع صوته الجهوري الأجش ليناديه:
-"تــــميم"!

كان صوت جده "سلطان" كفيلاً بتثبيته في مكانه، ليس فقط رهبة منه؛ وإنما احترامًا وتوقيرًا لمكانته الغالية في قلبه. التفت حفيده نحو برأسه يرمقه بعينين تقدحان بالغضب، ومع ذلك أجابه بتمهل محاولاً ألا يظهر غضبه:
-أيوه يا جدي.
أمره بلهجة من يُقرر عنه بحسمٍ لا من يخير:
-مافيش نزول من البيت.
ضغط على شفتيه محتجًا بحذر:
-بس آ...

قاطعه بحزمٍ، وبضربة أخرى من عكازه الغليط على الأرضية:
-هي كلمة، سمعت!!!
كبح غضبه الثائر -والمتراقص في عينيه- ليرد بأنفاس هادرة حارقة:
-ماشي يا جدي.
أمره "سلطان" بصرامة:
-تعالى ورايا.
وكأن حضوره كطوق النجاة لغريق أوشك على لفظ أنفاسه الأخيرة، ربت "بدير" على كتفه يحثه بصوتٍ خفيض:
-ورا جدك، اتحرك يا ابني.

كان يدفعه دفعًا للتحرك واللحاق بجده، ليثبط ما يعتريه من ثورة غاضبة مهددة بتخريب كل شيء، بناءً على سموم تلك الأفعى الخبيثة؛ "بثينة". تنفست "ونيسة" الصعداء، وتمتمت بتضرعٍ كبير:
-الحمدلله يا رب، اهديه وابعد عنه شيطانه.
شتان الفارق بين الشقيقتين؛ إحداهما وديعة، نقية القلب، لا تنطق إلا بالطيب، والأخرى حرباء، ماكرة، تبث شرورًا لا حصر لها.

أفادها الجلوس في منزل والدتها قليلاً بعد التوتر المخيف الذي عاشته لحظة أن رأت بقع الدماء تنساب من جسدها، توجهت إلى الطبيب المتابع لحالتها، وبخها الأخير لتقصيرها في الحفاظ على صحة جنينها، ومنعها منعًا تامًا من إقامة أي لقاء حميمي مع زوجها، وإلا ستكون ردة الفعل غير مضمونة؛ نظرًا لتعرضها لخطر النزف المبكر من رحمها، والذي يعد مؤشرًا غير مطمئن في الأشهر الأولى من الحمل. خرجت "خلود" من غرفتها وهي تحمل بيدها كوبًا من المشروب العشبي الدافئ الذي أعدته، لاحظت الصدام الكلامي الحاد بين والدتها وشقيقها عن أحدهم، وتطور الموقف لبعد خطير، لم تفهم سببه، فارتشفت القليل، وتساءلت ببرود:
-هو في إيه؟ مين ده اللي بتكلموا عنه؟

لوت "بثينة" ثغرها، وقالت من زاوية فمها باستهجانٍ غامض:
-المعدول .. هو في غيره!
تقلص وجهها، وجزع قلبها في ارتعابٍ قلق. ابتلعت ريقها، وتساءلت:
-قصدك مين؟
جاوب "هيثم" عن والدتها حاسمًا ما لم تتفقه إليه بعد:
-هي هتفضل هنا لحد ما نشوف صرفة مع جوزك.

انخلع قلبها مرة أخرى، وغمغمت بصدرٍ يلهج، وعيناها تبرقان في توجسٍ مرعب:
-"تميم".
علقت عليه "بثينة" بمزيد من السخط المهين:
-أيوه، بلطجي المنطقة.
تركت "خلود" الكوب من يدها، ووضعته على أقرب طاولة، اتجهت لتقف بينهما، ووزعت أنظارها متسائلة بقلبٍ يدق في عنفٍ من قلقها الزائد:
-إنتو عملتوا إيه؟

تفرست في تعبيرات وجهيهما، كلاهما كانا يبدوان منزعجان، وربما الأسوأ، ركزت نظرها مع أمها تُلح عليها بتوترٍ رهيب:
-قولي يامه عملتي إيه مع "تميم"؟
ابتسمت في انتشاءٍ، وأجابت رافعة حاجبها للأعلى في تفاخرٍ:
-عرفته غلطه، بس بطريقتي!
أدركت من تلك النظرة التي تحتل وجهها، ومن إيماءاتها أنها ارتكبت كارثة مدمرة، وبعفوية نطقت معبرة عما تشعر به:
-يبقى عملتي مصيبة..

اكتفت "بثينة" بالنظر نحوها بعينيها الحاقدين، في حين التفتت "خلود" نحو شقيقها قابضة على ذراعه، هزته بعصبية منه وهي تسأله:
-قولي يا "هيثم" إيه اللي حصل؟
أطبق على شفتيه، كأنه لم يسمع شيئًا، أمعنت النظر في الخدوش وآثار الحمرة في وجهه وحول عنقه، اتسعت نظراتها، وسألته بحلقٍ جاف، وهي تتمنى في نفسها ألا تكون شكوكها حقيقية:
-وإنت متبهدل كده ليه؟

أجابها بنوعٍ من التفاخر، وإن كان أغلب حديثه من وحي خياله:
-كنت بأدب جوزك بعد ما أمك سيحِتله قصاد الدكان، سخنتني عليه، وروحت أجيب حقك منه.
جحظت بعينيها في صدمة، تخيلت المشهد في عقلها؛ وإن لم تكن حاضرة، تمزق قلبها بين ضلوعها، أدركت أنها بفعلة والدتها الهوجاء قد منحت "تميم" الفرصة الذهبية للخلاص منها، وللأبد، وبأسبابٍ منطقية تعطيه العذر للتخلي عنها، ونبذها خارج حياته. لطمت "خلود" على صدغيها عدة مرات في ألم شديد لا يتحمله إنسان عاقل، وصوت نواحها يرن في أرجاء المنزل:
-يا لهوي، يا لهوي، يا لهوي!

لم تكترث "بثينة" بحالة الجنون التي انتابت ابنتها، وقالت ببرودٍ لتظهر استمتاعها بإلحاق الأذى به:
-مايستهلش إلا كده، أنا عملت معاه السليمة، وفضحته.
هاجت مُهاجها، وصرخت بلا وعيٍ تلوم والدتها بحرقةٍ، وعيناها تبكيان بدموعٍ غزيرة:
-يا نصيبتي، طب ليه كده؟ هو أنا اشتكيت؟ هو أنا طلبت منك تعملي حاجة؟
ردت بشفتين ممتعضتين؛ وكأنها لم تقترف جرمًا في حق كليهما:
-أنا عملت اللي فيه مصلحتك، ويعززك عند عيلته، أومال عاوزاني أسكتله؟

ضربت "خلود" على صدرها بقوةٍ متابعة عويلها الصارخ:
-حرام عليكو، كده بيتي اتخرب، ومش بعيد "تميم" آ....
ازداد اتساع حدقتاها، حتى كادتا تخرجان من محجريهما، وقالت بأنفاسٍ متلاحقة:
-يــ... يطلقني!
كان وقع التفكير في احتمالية حدوث ذلك مهلكًا لها، مدمرًا لحياتها، ومزهقًا لروحها، لم تتحمله، واندفعت بكل رعونة تسحب إسدالها لتضعه على جسدها، تبعتها والدتها تستوقفها:
-استني يا بت، رايحة فين؟

عندما أوشكت على الخروج قبضت على رسغها، وشدتها منه قائلة لها بصيغة شبه آمرة:
-استني هنا.
استلت ذراعها بعنفٍ من يدها لترد بصوتٍ باكٍ، وهي في حالة انهيارٍ تقريبًا:
-سيبني يامه، خليني ألحق جوزي.
تطلع إليها "هيثم" بضيقٍ وهو يفرك مؤخرة عنقه الملتهبة، ثم نطق بقنوطٍ:
-روحيله، وشوفي إن كان طلقك ولا لسه..

هوت كلماته الواقعية على قلبها كخناجر حادة حزت فيه بضراوة، في حين صاحت والدتها من خلفها توبخها:
-طول عمرك كده هتفضلي غبية، ولا فاهمة حاجة، ويوم ما أجي أعمل حاجة في مصلحتك تبوظيها!
وكأنها تحادث الفراغ، اختفت "خلود" على الفور من أمام أنظارها، لتهبط الدرجات ركضًا دون أدنى اهتمام بما تحمله أحشائها، فما يهم الآن هو زوجها؛ عشقها الأول والأخير.

وحده من يملك مفاتيح التحكم فيه؛ أو الأحرى ضبط انفعالاته غير العقلانية وتحويلها للنقيض بحديثه المنطقي الهادئ الذي ينفذ إلى عقله، وقلبه، ويخفف من حدة غضبه. أجلسه الجد "سلطان" بداخل غرفته معزولاً عمن بالخارج، ووقفت "ونيسة" على بابه تدعو الله في نفسها أن ينجح فيما عجزت عن فعله، وإلى جوارها وقف "بدير" يقول:
-ربنا يديك الصحة يابا، لولاه مكوناش عرفنا نمنعه يا "ونيسة".
ردت بأنفاس ارتياحٍ:
-يا رب يهديه على إيديه..

لكن ما لبث أن تحول صوتها للخوف وهي تتابع:
-هايضيع نفسه عشان شوية كلام اتقال.
نظر لها "بدير" بحدة من عينيه الغائمتين، وقال معقبًا عليها:
-ما هو مايصحش اللي أختك عملته بردك، لأ وقصاد الخلق، خلت إيه للغريب؟
تبرأت من ذنبها قائلة على الفور:
-وربنا ما كنت أعرف يا "بدير"، أنا في حالي طول عمري..

كان يعلم جيدًا الاختلاف الجذري بين الشقيقتين، ولذا لم يكن من اللائق لومها على أخطاء غيرها، تنحنح بخشونة، وأضاف:
-مش وقته، خلينا في ابننا دلوقتي.
صوت الدقات العنيف المصحوب بالقرع المتواصل على جرسه جعل الاثنان يلتفتان في اتجاهه؛ كانت "ونيسة" أول من أسرع الخطى للاتجاه نحوها. فتحته لتتفاجأ بوجود "خلود" قبالتها، بل وتحاول دفعها برفقٍ للمرور للداخل، برزت عينا خالتها في صدمة مستنكرة، وقبل أن تستوعب حقيقة وجودها، بادرت تسألها بصوتٍ لاهث ونظراتٍ مرتعبة:
-"تميم" فين يا خالتي؟

وضعت "ونيسة" يدها على حافة الباب لتمنعها من الدخول، وسألتها بوجومٍ:
-جاية ليه السعادي يا "خلود"؟
ردت ببكاءٍ، علها تستعطفها:
-خليني أدخل الأول.
اعترضت عليها تحذرها، ودون أن يرتخي ذراعها:
-ده لو ابني شافك هتحصل مصيبة.
على الفور نفت من تلقاء نفسها:
-أنا ماليش دعوة بأي حاجة يا خالتي، ومعرفش إيه اللي حصل، كل اللي أنا عاوزاه جوزي.

احتارت بشأن في السماح لها بالدخول؛ لكن إصرار "خلود" كان أقوى من ترددها، أبعدت يدها وولجت للداخل تجوب بعينين تائهتين الصــالة المتسعة بحثًا عنه. لم يسعفها صبرها، وصـــاحت تنادي عاليًا، غير مكترثة بما يمكن أن يحدث:
-"تميم"!
انتفض جسدها مع خروجه لمواجهتها بكل غيظه وحنقه، ومع ذلك تماسكت لتناديه بجراءةٍ:
-حبيبي.
رفع "بدير" عكازه أمام جسد ابنه ليمنعه من المرور، ورجــاه بصوته الأجش:
-خش يا ابني جوا.
نفت "خلود" بصوتها المهزوز وهي تتقدم نحوه في خطوة شجاعة منها:
-أنا ماليش دعوة باللي أمي عملته، اقسم بالله ما كنت أعرف حاجة.

حدجها بنظرة مميتة جعلت والدته التي تراقبه عن كثبٍ ترتعب من مجرد التفكير فيما يمكن أن يفعله بها إن تجاوز والده، وامتدت يده لتطال عنقها؛ حتمًا سيدكه. دنت "خلود" أكثر منه، ولم تبقِ على مسافة آمنة بينهما، ازدردت ريقها، وحاولت الابتسام، لكن صوتها خرج مذبذبًا حين شرحت له:
-أنا مراتك حبيبتك، عمري ما استغنى عنك، كل اللي اتقال واللي حصل ولا فارق معايا، المهم إنت عندي.

كان في نظراته شرًا عظيمًا ينتظر اللحظة التي يخرج فيها ليدمر ما حوله، وبلا صبرٍ هدر عاليًا يهددها؛ وكأنه التحذير الأخير قبل ارتباك جريمته:
-ابعدوها من قدامي، بدل ما ارتكب جناية حالاً.
خرج "سلطان" هو الآخر ليشهد على ما يحدث، وبلمسة خشنة على كتفه أمره:
-اهدى.

اشتعل وجهه، وظهر انتفاخ عروقه المشحونة بكل الأدرينالين الحانق، ضم"تميم" شفتيه مرغمًا، انصــاع لأمر جده النافذ بصعوبة كابحًا تلك الرغبة الجنونية بتوجيه جم غضبه عليها، وفي حضرة عائلته، في حين اتجه "بدير" إليها ليبقيها بعيدًا عن وجهه، فاستطرد يقول لها:
-تعالي معايا يا "خلود".

اعترضت ببسالةٍ متهورة:
-لأ يا عمي، أنا لازم أتكلم مع جوزي ويسمعني.
خطر لها خاطر سريع؛ لما لا تستغل وجود ذويه حولها في ضمهم لصفها؟ وبكل براءة أضافت، بكت بألمٍ، وانتحبت باختناقٍ؛ لتبدو في أعينهم حملاً وديعًا جنت عليه الحياة بشرور البشر:
-أنا غير أمي خالص، وخالتي عارفة ده، أنا متربية هنا في البيت ده، وهنا مكاني وآ...

نبرة صوتها مع ملامح وجهها شكلت لوحة مقززة لا يرجو التطلع إليها أبدًا بعد ما عاشه معها، وبهدير مختنق صاح:
-مش عاوز أسمع صوتك، هاخنقك، اقسم بالله هاقتلك!
استمرت في الاقتراب منه رغم ارتجافها من تعابيره الشرسة، وردت:
-والله ما كنت أعرف إنها هتعمل كده.
لوح بذراعه هادرًا بها بكلمات أصابتها في مقتلٍ:
-اللي تفضحني وسط الخلق مالهاش دية عندي.

تمسكت بآخر بقايا الأمل في الاحتفاظ به، ودافعت عن حقها فيه قائلة باستماتةٍ:
-يا "تميم" صدقني، أحلفلك بإيه أنا مقولتلهاش على حاجة بينا، وإنت حر معايا تعمل اللي عاوزه، وأنا مش هاقولك لأ!
كان نافرًا منها لأقصى الحدود، غير متقبل لاقتراحاتها السخيفة. رمقها بنظرة دونية قبل أن يهتف باستهجانٍ، متذكرًا في عقله اتفاقها الشيطاني السابق مع والدتها لاستنزاف رجولته:
-والمفروض أصدقك؟ ما هو قالوا للحرامي احلف!

التفتت "خلود" إلى خالتها ترمقها بنظراتها المنكسرة، بكت في عجزٍ، ورفعت من صوت نحيبها لتحصل على تعاطفها، ونجحت في ذلك؛ حيث تأثرت "ونيسة" بحالها البائس، شعرت بالألم يجتاحها لرؤيتها تُهان هكذا، وتدخلت من تلقاء نفسها قائلة بما يشبه الرجاء؛ علها تنجح في ترميم علاقتهما التي أصبحت محطمة تقريبًا:
-مش طريقة تفاهم يا ابني، اسمعها وآ....
قاطعها "تميم" مشيرًا بسبابته:
-ماتدخليش يامه.

لما لا تتقن دور الضحية أكثر؟ وإن كانت فعلاً هكذا، لذا ردت عليه "خلود" بتخاذلٍ، وكأنها تهدده:
-طالما مش هصدقي، أنا هاموت نفسي.
قال ببرود غير مبالٍ جعلها تستشيط غضبًا على عدم مراعاته لها، وتلك النظرة المقيتة تكتسح وجهه:
-اعمليها وريحنا كلنا.

ترددت في تنفيذ ما قالته، أوهمت نفسها أنه سيمنعها، وسيقبل عليها؛ لكنه كالعادة وقف قبالتها يتطلع لها بكراهية لم ترها في عينيه من قبل، اندفعت كالمغيبة نحو المطبخ الذي تعرفه كأصابع كفها، بينما ردد "بدير" على مسامع ابنه يعاتبه بحذرٍ:
-ده مش أسلوب كلام يا ابني.

وقبل أن يرد عليه بحدةٍ تركزت نظراته على زوجته التي أحضرت زجاجة تحوي سائل (الكيروسين)؛ تلك التي تحتفظ به خالتها في الدرج الموجود أسفل الحوض، لاستخدامها عند اللزوم. انتزعت غطائها، وأفرغت محتوياتها على رأسها، فابتلت ثيابها، ثم أمسكت بولاعةٍ تستخدمها "ونيسة" في إشعال البوتجاز مهددة بها:
-طالما مش مصدقني، يبقى الموت أريح.

لطمت خالتها على خدها صارخة في دهشة مذعورة:
-يا لهوي، إنتي بتعملي إيه؟
ثم التفتت نحو ابنها تستجديه:
-حوشها يا "تميم"!
لم تهتز له شعرة، وأشاح بعينيه بعيدًا عنها غير مصدق لعرضها المبتذل، تكاد ترف ابتسامة مستهجنة على زاوية فمه من شدة استنكاره لأسلوبها الرخيص في الاستحواذ على شفقته. رأت "خلود" انصراف نظراته عنها، فوخز ذلك قلبها، وقالت بمرارةٍ وذل:
-الموت أهونلي من إنك تسبني، ولا تبعد عني.

تحرك "بدير" نحوها يرجوها بشدة:
-اغزي الشيطان يا "خلود"، ماينفعش كده.
تجاهلته رغم حبها لعطفه الأبوي، وقالت موجهة حديثها لزوجها الذي تحجرت مشاعره من ناحيتها:
-إنت ظلمتني يا "تميم"..
دمدم بغيظٍ دون أن ينظر في اتجاهه:
-إنتي اللي ظلمتي نفسك.

ضغطت على زر إشعال الولاعة بيدها، وتابعت بأنفاسٍ مضطربة مكملة تهديدها؛ وكأنها تحمله بذلك الذنب كله:
-خلاص، بس إنت السبب في موتي، وزي ما أبويا اتحرق زمان قصاد عينك ومعرفتش تعمله حاجة، فأنا هاحصله ومعايا ابننا.
استدار "تميم" برأسه ناحيتها ليجدها بالفعل على وشك إضرام النار في جسدها المشبع بالكيروسين، رأى والدته تقف على بعد خطوة منها تحاول إثنائها عن رأيه بالتوسل، وعيناها تبكيان:
-حرام عليكي، هتموتي نفسك؟
أجابتها بوجه اربد بمزيد من الحمرة المنفعلة:
-محدش عايزني، وهو السبب.

أراد "تميم" إيقاف تلك المهزلة الرخيصة، ليس حرصًا منه على حياتها، وإنما لكشف حقيقتها أمام الأقرب إليه، فعلى ما يبدو قد انخدعوا بتمثيلها البارع، فيما عدا جده الذي ظل صامتًا، لم ينبس بكلمة، وراقب جيدًا ما يدور؛ وكأنه سيعيد سرده على الآخرين. اندفع نحوها يأمرها:
-إياكي تفكري تعمليها، إنتي مش ملك نفسك!

كان لتأثير كلامه عليها وقعًا عظيمًا، تجمدت عيناها عليه، تركته ينتزع الولاعة من يدها، وثبتت كامل نظراتها على وجهه، وهي لا تصدق أنها بالكاد استعادته، تطلع إليها "تميم" بعينين قاتمتين، لا تظهر حبًا ولا تعاطفًا معها؛ ومع ذلك كانت كافية لإقناعها بأنه عاد إلى أحضانها، ارتمت على صدره، ومرغت رأسها في كتفه تبكي وهي تقول له:
-أنا بأحبك، ومش هاستحمل تبعد عني.

أبعدها عن أحضانه؛ وكأن عقربة لدغته، لينظر إلى وجهها المفضوح قائلاً بلهجة خشنة:
-إنتي هاتفضلي هنا، بس أمك هحاسبها على اللي قالته..
ردت بنزقٍ:
-اللي إنت عاوزه أعمله، أنا كلي ملك.
تابع محذرًا إياها بقساوةٍ:
-وإياكي تفكري تأذي اللي في بطنك، لأني مش هارحمك.
رفرفت بعينيها قائلة بخنوعٍ:
-حاضر يا حبيبي.

شعر بالحنق منها، بالطبع سيستغرق الأمر وقتًا لكشف حقيقتها؛ لكنه سيتخلص منها في الأكيد، عليه فقط أن يرجئ مؤقتًا وضع الأمور في نصابها الصحيح، حتى يكون رده قويًا، وموجعًا .. الوحيد الذي أدرك ما يفكر فيه "تميم" كان "سلطان"، لاح على ثغره بسمة استخفافٍ، لم ينطق بحرف، وانسحب عائدًا إلى غرفته متوقعًا تصعيد الأمور في وقت قريب.

الأيام مضت سريعة عليها؛ كأنها في سباق مع الزمن، ليأتي يوم الزفاف الموعود، بعد مشقة وعناء. تم إعداد كل شيء، ووضعت اللمسات الأخيرة في منزل الزوجية، ليستقبل العروسين بعد انتهاء حفل عرسهما، وكذلك تم دعوة الكثير من المعارف والأقرباء للحضور في السرادق الكبير المقام عند منزل عائلة "سلطان". وطوال تلك الفترة الماضية لم تذهب "فيروزة" مع توأمتها لتوضيب منزلها، تجنبت على قدر المستطاع الالتقاء بـ "هيثم"..،

ما زالت تحتفظ بذكرياتها الأليمة معه فيما يخص تسببه في اندلاع الحريق، لم ترغب أن تلاحظ "همسة" توترها، وربما عزوفها عن الحديث معه، وإلا لساورتها الشكوك بشأنها. كما أن الأخير لسبب معلوم لأغلب من بالمنطقة تشاجر مع ابن خالته، وعلى ما يبدو حدثت قطيعة بينهما، بالرغم من تواجدهما معًا بالدكان، فقط لتبديد الشائعات التي تم تداولها بشــأن اعتداء "تميم" على زوجته؛ ومع هذا لم يتعاونا معًا.

زغرودة فرحة عالية انطلقت من جوف "آمنة" تبعتها بأخرى صاخبة، والمصففة تضع الطرحة فوق رأس العروس التي تزينت في أبهى الأثواب لتفتن عريسها، وتسلب لبه بمجرد أن يتطلع إليها. كان ثوب "همسة" منفوشًا، له فتحة صدر مثلثة، لكنها لا تتخطى مسافة شبر من بداية عنقها، بدت محافظة نوعًا ما، وأكمامه من قماش الدانتيل بنقوشاته الناعمة. لم تترك شعرها منسدلاً، عقدته في تصميم جديلة بشكلٍ معكوس دون أن يتحدد لها بداية أو نهاية، ووضعت الطرحة أعلاها بعد تثبيت التاج الرقيق بها. انحنت "فيروزة" على أذن شقيقتها اليمنى لتضع لها القرط المرصع بفصوصه اللامعة قبل أن تنتقل للأذن الأخرى، حملقت فيها قائلة بإعجاب وهي تضغط على كتفها برفقٍ:
-ماشاء الله زي القمر.

رفعت يدها لتتلمس يدها الموضوعة على كتفها، وقالت مجاملة:
-حبيبتي يا "فيرو".
تمتمت والدتهما بالدعاء وهي تلقي نظرة على ابنتيها:
-ربنا يتمملك على خير يا بنتي، ويكفيكي شر العين، وعقبال لما أفرح بيكي يا "فيروزة".
ردت بتكلفٍ:
-يا رب.

تقدمت "فيروزة" خطوة نحو المرآة لتضبط مشبك رأسها، والذي اتخذ رسمة الطاووس المزركش، ثبتته في الجانب جيدًا لكونه ينزلق من خصلات شعرها ويضيع دون أن تعرف أين وكيف. تلك المرة اختارت أيضًا أن ترتدي ثوبًا من اللون الفيروزي المشوق ليشبه اسمها، فتحة صدره دائرية، أبرزت عظام الترقوة، وحتى لا ينال منها البرد ليلاً اختارت أن تلف حول عنقها شالاً قصيرًا من الحرير، لونه درجة داكنة للون الفيروزي. استدارت نحو زوجة خالها التي اقتحمت الغرفة تطالعها بنظرات حادة حين بادرت بالقول:
-قوليلي بت يا "همسة"..

أجابت عليها العروس بهدوءٍ:
-خير يا مرات خالي
سألتها مباشرة وهي تختطف أحمر الشفاه من يد المصففة لتضعه على شفتيها:
-هو صحيح "هيثم" اتصالح مع المعلم "تميم"؟
ردت على مضضٍ، وقد بدا الانزعاج واضحًا على تعبيراتها:
-معرفش.
سألتها بتطفلٍ أكبر:
-هو مش بيكلمك كل يوم، يعني أكيد فضفض معاكي بكلمة كده ولا كده!
علقت "همسة" مصححة لها:
-أه بنتكلم، بس مش بنجيب في سيرته.

زمت "حمدية" شفتيها مرددة بتذمرٍ:
-ده أنا قولت رجعوا سمنة على عسل من تاني، والحياة بقت وردي بينهم..
لم يكن حديثها بالمثير لتتابعه "فيروزة"، لكن زوجة خالها أصرت على إفراغ ما في جعبتها، وقالت متنمرة على "خلود" تحديدًا:
-أصل بعد الفضيحة إياها أخته كانت لازقلنا في كل حاجة كنا بنعملها في الشقة، ياباي، دي سمجة بشكل، حاشرة مناخيرها في كل حاجة، تقولش بتفتش ورانا!
بمنطقيةٍ أوضحت لها "همسة"..

-طبيعي تعمل كده، طالما أعدة في بيت حماها، اللي هو تحتنا، هنلاقيها موجودة معانا.
علقت "حمدية" بسخافةٍ:
-أهي بوزها شبرين، وبومة!
نظرت لها "فيروزة" شزرًا قبل أن تتجه نحو حقيبة يدها الصغيرة، حيث انتبهت لرنين هاتفها المحمول بها، أخرجته منها، وتطلعت إلى شاشته، كانت المتصلة رفيقتها، أجابت عليها بتنهيدة متعبة قليلاً:
-أيوه يا "علا"، إنتو وصلتوا ولا إيه؟

أتاها صوتها قائلاً بحماسٍ:
-احنا واقفين تحت بيتك، وهنبقى معاكي في زفة العربيات.
ردت بابتسامة صغيرة:
-طب كويس.
سألتها "همسة" باهتمامٍ:
-هي "علا" جت؟
أجابت دون أن تنظر ناحيتها:
-ايوه.

ثم اتجهت تلقائيًا نحو النافذة لتنظر إليها، رأتها في ثوبها الذهبي البراق تشير لها بيدها، وباليد الأخرى ترفع طرفه حتى لا تتعثر به. رفعت "فيروزة" ذراعها لتلوح لها به؛ ولكنها تفاجأت بظهور "آســر" من خلفها، ويلوح لها أيضًا بابتسامته اللبقة المزيفة، ربكة حرجة اجتاحتها لحضوره، فأخفضت يدها على الفور، خشيت أن يظن أنها ترحب به أيضًا، وقد توقعت لآخر وقت عدم قدومه؛ لكنه صدمها بمجيئته. أبعدت عينيها عنهما، وحركتهما في اتجاه السيارة الأخرى المزدانة بأشرطة الزينة البيضاء، رأت باقة من الورد على مقدمتها، وهتفت بعفوية:
-باين العريس جه كمان!

جلبة خفيفة تصاعدت من ورائها استعدادًا لاستقبال "هيثم"، ومع ذلك بقيت "فيروزة" في مكانها عند النافذة تحدق منها بفتورٍ. كان كل شيء مثاليًا وهي تواصل تأملها لما يوجد بالأسفل إلى أن توقفت نظراتها على صاحب زوج الأعين الغاضبة المستند على جانب السيارة؛ كان يتطلع إليها بنظرات طويلة مليئة بالحنق، على ما يبدو رأى ما فعلته قبل قليل خلال ترحيبها برفيقتها. نظراته لم تكن بالعادية، بل كانت قاسية، نافذة، موترة؛ وكأنه يُدينها ...!!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني الحلقة الثانية عشر بقلم منال سالم


ضاقت عيناها نحوه بشكلٍ غريب حائر، استاءت من نظراته المليئة بالغضب، وتحفزت بشكلٍ ما ضدها؛ وكأنها ارتكبت جُرمًا في حقه. تجهمت تعبيراتها قليلاً، فإن كانت تلك وسيلته لإرهابها، حتى تعترف له بأنها من كانت معه في الحريق المشؤوم، فلن يحدث أبدًا! ليست "فيروزة" من ذاك النوع الخائف المرتعد، استقامت في وقفتها، لم يرف جفناها، وبادلته نظرة متغطرسة تنم عن شخصيتها القوية قبل أن تتراجع لتختفي بالداخل؛ لكن بقيت دقات قلبها تنبض في عنفٍ، لم تفهم سبب توترها، وأرغمت نفسها على تجاوز لقائه العابر. عادت لتبتسم بتكلفٍ وهي ترى زوجة خالها تحملق فيها بفضولٍ، ركزت عينيها عليها، ثم سألتها بأسلوبها الجاف:
-خير يا مرات خالي؟


 
أجابتها متسائلة بسخافةٍ:
-أومال فين الشبكة؟ ولا العروسة مش هتلبسها النهاردة كمان؟
ضغطت " فيروزة" على شفتيها بقوةٍ مانعة نفسها من التفوه بحماقةٍ، حتى لا تفسد الأجواء المبهجة، بينما تابعت "حمدية" بنوعٍ من العجرفة:
-ده كل العيلة هنا النهاردة، عاوزين نتمنظر قصادهم، ولا رأيك إيه يا "آمنة"؟
التفتت والدتها نحوها تسألها في حيرة:
-رأيي في إيه؟


 
أجابت "حمدية" موضحة بعبوسٍ مزعوج:
-الشبكة يا أم العروسة، هتخلي رقبة بنتك وإيديها فاضيين، عاوزة الناس تاكل وشنا؟
تداركت "آمنة" خطئها، وقالت على الفور:
-معاكي حق، راح من بالي خالص.
ثم اقتربت من "فيروزة" تقول لها بجدية:
-علبة الشبكة يا "فيرو" في الدولاب، إنتي عارفة مكانها، هاتيها
ردت عليها بتبرمٍ قبل أن تتحرك نحو الخارج:
-ماشي.


 
سددت "فيروزة" في طريقها نظرة سريعة حادة نحو "حمدية" التي بدت أكثر استمتاعًا بسيطرتها على والدتها الطيبة، ومنحتها الأخيرة نظرات مغترة وهي تربت على كتفها تستحثها:
-ماتتأخريش يا أخت العروسة.
كزت "فيروزة" على أسنانها تنعتها بهمهمة خافتة:
-حِشرية!

ارتفع الصخب من جديد في أرجاء المنزل الذي عج بالكثير من الأقارب، خاصة السيدات والفتيات والأطفال الصغار، ولولا بعض المساعدات العائلية من نساء عائلتها لما تمكنت "فيروزة" أو والدتها من التعامل مع الحشد المتواجد في الصالة والردهة المؤدية لغرفة نومهما. دنت إحدى السيدات –ذات الوجه البشوش- من "فيروزة" ما إن لمحتها تمر بجوارها، ونادت عليها بنبرتها الحنون:
-بنت الغالي.


 
التفتت برأسها نحوها، تحولت ملامحها للين والابتهاج حين رأت زوجة عمها السمحة؛ "سعاد"، أو كما تحب أن يدعوها الجميع "أم فضل" نسبة لابنها البكري. أقبلت عليها مرحبة بها، فقد وصلت للتو:
-مرات عمي، إزيك؟ وحشاني أوي؟
بادلتها الترحاب الحار، واحتضنتها بشدة، ثم قالت:
-حبيبة قلبي من جوا.

تراجعت عنها "فيروزة" لتسألها باهتمامٍ:
-حمدلله على السلامة، وصلتي امتى؟ وفين بنات عمي؟
أجابتها بتنهيدة بطيئة نسبيًا:
-الله يسلمك.. الدور ده أنا جاية بس مع عمك، لكن تتعوض إن شاءالله ليلة فرحك نكون عملنا حسابنا من بدري.
ردت بنفس ابتسامتها المسرورة:
-إن شاءالله.. ده ماما هتفرح أوي لما تشوفك.


 
علقت عليها بابتهاجٍ:
-وأنا والله، هو في زي "آمنة" وحلاوتها، أومال بناتها طالعين قمرات لمين؟!
ابتسمت في سعادة لكلماتها المادحة، وشكرتها بلطفٍ:
-ربنا يخليكي لينا يا مرات عمي، وأخبار "فضل" إيه؟

جاوبت بحماسٍ انعكس في نظراتها أيضًا:
-الحمدلله، أجزته قربت، هينزل كمان شهرين.
عادت لتسألها عن أحواله مبدية اهتمامها بتبادل الحديث معها:
-ربنا يجيبه بالسلامة، ومراته وعياله كويسين؟
ردت وهي تبتسم:
-في أحسن حال.. لو كان عندي ولد تاني مكونتش سيبتك يا غالية.


 
لم تكن لتفعل شيئًا في تلك المسألة، أولاً لكون ابن عمها يفوقها عمرًا، وكانت لا تزال صغيرة حين حضرت عرسه، ثانيًا زوجة عمها لم تنجب بعده سوى ثلاثة بنات، وأربعتهم يعدوا في منزلة إخوتها، وثالثًا بالنسبة لعمرها الحالي فقد يعتبرها البعض –من عائلتها- بأنها تخطت سن الزواج بكثير، وبالتالي فرص ارتباطها وتأسيس أسرة محدودة للغاية. انحنت "فيروزة" على جبينها لتقبلها منه، وقالت بتفهمٍ:
-كل واحد بياخد نصيبه، وأنا الحمدلله راضية بحالي.

غيرت "سعاد" مجرى الحوار لتسألها بنبرة ذات مغزى:
-الكلام خدنا ومشوفتش "حمدية"، هي فين؟ وزي ما هي كده ولا اتغيرت؟
ضحكت قبل أن تجيبها متسائلة:
-تفتكري إيه؟
لوحت بيدها متصنعة العبوس وهي تعقب عليها:
-يبقى زي ما هي، ربنا يهديلها حالها.

أفسحت لزوجة عمها المجال وأرشدتها عبر الردهة لتلج للداخل، ثم تركتها لتعود لإتمام مهمتها السريعة المكلفة بها من قبل والدتها؛ كانت أول من أبصرها "حمدية"، امتعضت ملامحها، وظهرت تكشيرة كبيرة على وجهها، زفرت على مهلٍ، ودنت منها متسائلة، دون أن تكلف نفسها عناء ترحيبها:
-"سعاد" وصلتي امتى؟

لم تنكر أن علامات الكراهية بائنة عليها، لأسبابٍ شخصية، ولما لا؟ فقد وقع الاختيار عليها لتتزوج أحد أعيان بلدتهم بدلاً منها حين تم التفضيل بينهما! وبوجه هادئ رددت "سعاد":
-شكلك مش مبسوط يا "حمدية" لما شوفتيني؟
ردت بترفعٍ وهي ترمقها بنظرة حاقدة لم تخفها:
-لأ ياختي، متقوليش كده، نورتي البيت.
تجاهلت سماجتها المعلنة لتسألها:
-فين أم العروسة؟

أشــارت بيدها قائلة على مضضٍ:
-هناك.
تحركت أنظار "سعاد" نحو الركن الداخلي للغرفة، حيث تقف "آمنة" خلف ابنتها التي انتهت لتوها من زينتها، استدارت نحوها الأولى، وتلك الابتسامة العريضة تختلج تعبيراتها، هتفت مهللة لاستقبالها:
-حاجة "أم فضل"، تعالي يا حبيبتي.
أقبلت عليها تحتضنها بذراعيها وهي تردد:
-الغالية مرات الغالي الله يرحمه.

بادلتها نفس الأحضان المشتاقة قبل أن تنطق وهي تستدير سائرة في اتجاهها:
-يا مليون حمدلله على السلامة.
توقفت كلتاهما عن الحركة، بينما عاتبتها "سعاد" دون أن تفتر ابتسامتها:
-بقى كده تاخدونا في توكة وماتقولوش من بدري؟ كنا عملنا الواجب وزيادة يا "آمنة".

اعتذرت منها بشدة:
-معلش، كل حاجة جت بسرعة، والعريس مستعجل
ربتت على جانب ذراعها قائلة بتفهمٍ:
-خلاص.. ملحوئة في "فيروزة"...
هزت رأسها في استحسان، لكن تبدلت تعبيراتها للقلق قليلاً حين أكملت:
-الحاج "اسماعيل" كان حلفان ما يجي.
جزعت متسائلة:
-طب ليه بس؟

أجابتها موضحة:
-إنتي عارفة مسائل الجواز وغيره لازم الكبارات يعرفوا بيها الأول، مش يبقوا زي الغريب
نكست رأسها في حرجٍ، فهناك بعد التقاليد الواجب اتباعها عند القيام ببعض المسائل العائلية المصيرية، والتي يتحتم فيها تدخل ذوي الشأن لإبداء الرأي الأخير؛ أما الغفلة عنها فتولد بعض المشاكل الجسيمة التي ربما تؤدي للقطيعة ونكران صلة القرابة، زمت شفتيها وغمغمت:
-معاكي حق.

لكن عادت "سعاد" لتؤكد عليها انتهاء المشكلة، وأضافت:
-بس عشان مايكسرش بخاطر "همسة"، ما هو بردك عمها الكبير، ولازم تتبهوا بيه قصاد نسايبكم.
تنفست الصعداء، وهتفت تشكرها:
-معاكي حق، الغلط مننا، وإن شاءالله مايحصلش.
ظلت "سعاد" محتفظة بابتسامتها المشرقة، ورددت في اهتمام وهي تواصل التقدم نحو العروس:
-سيبك من ده، وخليني أطل على عروستنا .. اللهم صلي على النبي، بدر البدور.

همَّت "همسة" بالنهوض لتحييتها قائلة:
-مرات عمي.
لوحت لها بذراعيها لتظل جالسة وهي ترد:
-ماتقوميش يا قمر العيلة، أنا هاجيلك لحد عندك.
بادلتها العروس ابتسامة رقيقة تناسبت مع جمالها الفاتن، ولم ترغب زوجة عمها في إفســاد زينتها بالتقبيل الزائد عن الحد، لذا اكتفت بالتطلع إليها بنظراتها المليئة بالفرحة والسعادة للغاية.
-العريس جه برا يا بنات.. وسعوا السكة.

ترددت تلك الكلمات العالية لتصل إلى آذان الجميع، بما فيهم العروس التي تلبكت واضطربت، وأحست بتقلصاتٍ خفيفة تصيب معدتها من توترها الطبيعي، ناهيك عن تخضب بشرتها بحمرة زائدة عن الحد. رفعت عينيها لتنظر إلى "فيروزة" التي أمسكت بزجاجة العطر، وأغرقت به ثوبها لتبدو رائحتها جذابة ومثيرة. تنحت للجانب حين رأت "هيثم" يدخل، وقبل أن ينطق بكلمةٍ اشرأبت "همسة" بعنقها لتهمس لتوأمتها:
-ما تسبنيش
ردت عليها "فيروزة" بصوتها الخافت:
-حاضر.. أنا معاكي.

للحظة ظن أن القمر قد ترك محله بالسماء، وهبط على الأرض لينير حياته الكئيبة بحضورها. بسمة غير عادية زينت وجه "هيثم"، كانت خطيبته جميلة الملامح؛ لكنها ازدادت جمالاً بعد ارتدائها لثوب العرس، أحس بالإثارة تجتاح جسده، كان لرؤيتها الأثر الحسي والإيجابي عليه، تذكر الأيام التي سبقت خطبته، حين فُرضت عليه بشكلٍ متعمد، وامتعاضه في البداية منها، ومع ذلك كانت لحظة التحول الجيدة في حياته العابثة.

أفاق من سرحانه السريع على تعبيراتها الناعمة، تأمل اهتزازة شفتيها اللاتين بدتا كقطعتين من الفراولة، كم تتوق لتذوقهما! ركز كامل عينيه عليها ليؤكد لنفسه أنها باتت أخيرًا خاصته، لم يبصر سواها حوله، خرجت أنفاسه حارة حين قال لها:
-مبروك.
لعقت "همسة" شفتيها، وقالت بخجلٍ متحاشية النظر إلى عينيه المسلطتين عليها:
-الله يبارك فيك.

حانت منها نظرة جانبية لتوأمتها تؤكد عليها بهمهمة خفيضة:
-هتركبي معايا يا "فيروزة"، أنا خايفة .. ماتسبنيش.
تفهمت حالة الارتباك الجلية، المصحوبة بالحياء الشديد، بسبب خصوصية تلك الليلة، تلمست جانب ذراعها، وردت وهي تومئ برأسها:
-أنا معاكي.

هتفت إحدى السيدات من الخلف تمدح عروس العائلة:
-صلي على النبي يا عريس، مش كل يوم هتلاقي حلاوة بالشكل ده.
رد، وعيناه تحدقان في وجه "همسة"، وبهما رغبة وشوق:
-عليه الصلاة والسلام.

لا يمكن أن يُسمى ما حدث الفترة الماضية سوى بأنها فترة الهدوء التي تسبق العاصفة، رضخ إلى ذي الشيبة الحكيم الذي يعرف مفاتيحه جيدًا، ليتبع توصياته الجادة كما أملاها عليه حتى يصل لمبتغاه؛ وإن كان في ذلك استنزاف صبره المستهلك مسبقًا، خاصة مع بعض الأمور الغامضة المليئة بالألم، والتي عايشها قبيل فترة مراهقته.

عــاد "تميم" بذاكرته لليوم الفارق في حياته مع زوجته غير الأمينة على سره، حيث انساق وراء جده، لينزوي معه بالغرفة قبل أن تصل "خلود" لمنزله. العائلة وما يرتبط بها من قيم نبيلة لا تتفق مع حبائل الشيطان الخبيثة، مثاليته الزائدة فيما يخص شئون أسرته ربما لن يرضى عنها الجميع، واحدٌ غيره لأقام الدنيا ولم يقعدها لإهانة رمز رجولته.

خرج من شروده المحير على إشارة جده له بعد أن جلس الأخير على طرف الفراش، ودعاه للجلوس في مقعده المفضل آمرًا إياه:
-اقعد يا "تميم"، واحكيلي حصل إيه.
رفض ذلك، وصاح به بكل ما يعتري صدره من غضب وغل:
-سيبني يا جدي أروح أخد حقي.
تقبل عصبيته قائلا:
-هاسيبك...

ثم منحه للحظة ليلتقط أنفاسه قبل أن يقول بهدوئه المكتسب عن خبرة طويلة بالحياة:
-بس لما أسمع الأول وأعرف كل حاجة حصلت، من طأطأ لسلامو عليكم.
رد "تميم" على مضضٍ عله يأخذ بمشورته:
-ماشي.

وبالفعل بدأ في ســرد ما تعرض له من مؤامرة دنيئة، عرف عنها بمحض الصدفة، نالت من رجولته، واستهانت بقدراته البدنية، وما تلاها من بعض الأحداث المدعاة للانتقام والثأر. لم يقاطعه "سلطان"، تركه يصول، ويجول، وينفعل، ويفرج عن مكنونات صدره، إلى أن خبتت الشحنة المتأججة بداخله. وبوجه بارد، لا يحتله سوى تجاعيد الزمن وآثاره أردف متسائلاً:
-عاوز الخلاصة بعد اللي قولته؟
رد "تميم" بنفاذ صبر:
-أيوه.

ظهر الاسترخاء على تعابيره وهو يستطرد:
-الكلام اللي اتقال ده كله ولا يسوى مليم واحد!!!!
تفاجأ من عدم مبالاته، وهتف بصدر مختنق:
-نعم؟
علل "سلطان" أسبابه موضحًا:
-ده هري حريم أعدين على الشلت، يومين وهيطلعوا يلكوا في حكاية تانية، الحتة ما بتبطلش حكايات ولت وعجن.
صاح في استنكارٍ مغتاظ:
-ده الناس كلها عرفت اللي حاصل بيني وبين مراتي.

صمت جده للحظة قبل أن يتابع مسهبًا بلا تردد أو ندم؛ وكأنه يكشف له عن حقيقة ونوعية البشر الذين يعاشرهم:
-أنا عارف إنك عملت ده عشان توريها إنها متجوزة راجل من ضهر راجل، مش عيل (...)، بس هي غلطانة، ومحقوقالك في ده، مكانش يصح تقول لأمها كتلة الشر دي على أي حاجة، لأنها على طول بؤها في ودن الناس، هتحور، وتجود من عندها، ويا داهية دُقي..
كان محقًا في وصفها ببساطة، لم يعقب عليه، بدا فقط متجهمًا، حانق النظرات. أضــاف جده بتروٍ:
-بس اسأل نفسك هو إنت عملت حاجة حرام؟ نمت مع واحدة وقفشوك؟

على الفور قال نافيًا:
-لأ يا جدي .. أعوذو بالله، دي مراتي!
لاح على ثغره بسمة هادئة وواثقة وهو يتابع نصائحه الثمينة:
-خلاص اللي يفتح بؤه الرد جاهز، مراتك غلطت، وخرجت عن طوعك، وعصيتك من غير ما تعلم حاجة، وإنت كنت بتأدبها، ومحدش ليه عندك حاجة!
صمت وصدره ينهج في قوة كتعبيرٍ عن غضبه المكبوت، بينما استأنف "سلطان" حديثه بأسلوبه المتروي؛ وكأنه يكشف له حلول الأحجية التائهة عنه:
-أما الحكاية التانية، فدماغ أبالسة اللي تفكر فيها، القادرة تحطلك برشام؟!!

زم شفتيه مغمغمًا بعد زفيرٍ منزعج:
-لأ ومش عاجبها يا جدي
ثم تنفس بعمق ليدمدم بسخطٍ:
-وده اللي عرفته.. الله أعلم مستخبي إيه تاني!
رد عليه جده بهدوءٍ:
-ولو إنك تزعل مني.. بس البت دي من زمان أنا مابتسريحلهاش!
انعقد حاجباه، وسأله بنظرات تتفرس تعابيره الهادئة:
-ليه يا جدي بتقول كده؟

أجابه مستفيضًا بتلقائيةٍ:
-كانت داخلة على أمك بالحنجل والمنجل، طول النهار زن في دماغها، ويا خالتي ويا عينيا، وكلام ملزق مايتبلعش، ملاوعة وكُهنها باين، مايدخلش عليا بتعريفة، والمثل بيقول اقلب القدرة على فمها.. تطلع البت لأمها، ودي تربية "بثينة"، مهما كانت قدامك عاملة فيها غلبانة، ومكسورة الجناح..
قاطعه حفيده متسائلاً دون تفكير:
-زي أخوها يعني؟

نفى مبررًا أسبابه:
-لأ.. دي بلوة، والفرق بينها وبين أخوها إن الواد "هيثم" دغوف، مابيفكرش، لما بتهب في دماغه حاجة بيعملها، إن شاءالله تكون هتوديه في داهية، متسربع .. بس مافيش منه قلق، يعني ورقه مكشوف، لو شايل منك هايقول، وساعة الحق بينطق مابيخافش..
بسمة ساخرة استحوذت على شفتي "تميم"، بينما واصل "سلطان" القول بنبرة تحولت للقتامة:
-الدور والباقي على الحرباية اللي في وشها ليل نهار، هتخططلها صح، وتقولها تعمل إيه.. كرشها واسع وماتشبعش.

همهم "تميم" بحنقٍ:
-خالتي "بثينة".
-بالظبط.
تساءل حفيده بندمٍ بدا ظاهرًا عليه:
-تفتكر كنت غلطان لما كملت الجوازة دي يا جدي؟
لم يجبه على الفور، وانتظر للحظات قبل أن ينطق بحكمةٍ أراحت صدره:
-إنت عملت الأصول يا "تميم"، لميت عرضك، وعاشرت مراتك بما يرضي الله .. يعني رديت المعروف.. بس في غير أهله!

وكأنه يقاتل في معركة خاسرة، لا أمل للفوز أبدًا فيها، انتفض "تميم" يثور من جديد:
-أنا معنتش طايقها، قرفان منها، ولولا اللي في بطنها كان هيبقالي تصرف تاني، أنا هاين عليا أولع فيها وأخد تأبيدة.. إن شاء الله يعلقوني على حبل المشنقة.
عقب عليه الجد مشددًا بنبرة ذات دلالة قوية:
-اللي في بطنها من دمنا، ومن صلبك.. واحنا مابنفرطش في عيالنا.
ظهر الإحباط على قسماته، وسأله بصوتٍ عبر عن حزنٍ عميق:
-وإيه العمل؟ هاعدي اللي حصل كده؟

غامت عيناه قبل أن يجاوبه بنبرة غامضة، لكنها متزنة:
-لأ.. احنا هنقطع راس التعبان وديله.
قطب "تميم" جبينه في حيرة، وسأله:
-مش فاهم يا جدي.
أشـــار له بيده ليجلس على المقعد الذي لم يلمسه إلى الآن، وقال بمكرٍ:
-هاقولك تعمل إيه..

كانت تحتفظ ببعض قطع الثياب في منزل خالتها، علها تحتاج إليها في يوم ما، إن قرر زوجها المبيت هناك، وبالتالي لم تجد أي صعوبة في تبديل ملابسها المليئة بالكورسين بأخرى نظيفة، مرتبة. انتظرت "خلود" زوجها بالجلوس في منتصف الفراش، تضم ركبتيها إلى صدرها، وتعقد ذراعيها حولهما. أخفت تلك البسمة اللئيمة التي تقاتل للظهور على محياها بعد تمثليتها الهزلية،

تنفست الصعداء لكونها انطلت عليهم، وإلا لاضطرت لحرق جزءٍ من جسدها وتشويهه، وحينها لن يرغب حبيبها في التطلع إليها. اعتقدت أنه سيكون غبيًا ليفرط في جنينه المنتظر مهما كان يمقتها، وأمام والديه، ليبدو مذنبًا في أنظار الجميع إن تركها تتصرف برعونة. جفلت بقوة حين فُتح الباب فجــأة، أرجأت أفكارها الشيطانية لوقت لاحق، وارتدت قناع الخوف. نظرت بترقب لزوجها الذي أطل منه، تشجعت تناديه بصوتٍ أقرب للهمس:
-"تميم"!

احتقرها بنظراته القاسية؛ وكأنها قمامة، لا ترتقي حتى للحديث معها، شعرت بازدرائه المهين لها دون أن ينبس بكلمة، أغلق الباب من خلفه، واستقام واقفًا يرمقها بتلك النظرات المليئة بالبغض والحقد .. ورغم هذا جاهدت لتستدعي دموع غير موجودة لتعتذر منه:
-أنا أسفة...

تجمد في مكانه ينظر لها مليًا بغموضٍ لم تسترح له، نظرات التوق والتلهف كانت أبعد ما يكون عنه، بل بدا النفور والاشمئزاز الأقرب للوصف. تحركت من على الفراش لتهبط عنه، وتمهلٍ حذر تقدمت نحوه. لم تتجرأ على لمسه، رغم حاجتها إلى الشعور بامتلاكها له، اكتفت بالنظر في عينيه، وتابعت بانكسارٍ:
-اللي حصل ده كله مش هايتكرر تاني..
ثم أخفضت يدها لتتلمس بطنها بحركة دائرية، وألحت عليه راجية:
-وحياة ابنك تسامحني، أنا مقدرش استغنى عنك...

كان صامتًا للحد الذي منحها المزيد من الثقة، لن يجرؤ على المساس بها في منزل أهله، ليس على تلك الدرجة من الحماقة. تشجعت لتقلص المسافات بينهما بعد أن رأت جموده، واعتقدت أنه سيرتضي بالأمر الواقع، ولن يتخذ موقفًا عدائيًا نحوها. أسبلت عينيها نحوه، ثم هتفت تعبر له عن حبها المتيم الذي يحرقها:
-إنت حبيبي وبس.. أنا ماحبتش في حياتي إلا إنت، وكنت مستعدية أستناك العمر كله.. ماتبعدش عني يا "تميم"، ارضى عني يا حبيبي.

سألها بوجه جامد غير مقروء التعبيرات:
-تفتكري بعد اللي عملتيه ده أنا أتصرف إزاي؟
تخلت كليًا عن رهبتها الزائفة أمام سلبيته الواضحة، ربما سلاح إغرائه كان ناجحًا ليجبره على نسيان ما اقترفته. مدت يدها لتمسك بذراعه، ولم يعترض أو ينبذها. ظلت عيناها ترتكز على عينيه الصارمتين، وردت بأنفاس شبه لاهثة:
-أعمل فيا أي حاجة إلا إنك تسيبني..

منحها بسكوته الضوء الأخضر لتتمادى معه، لذا شبت على قدميها، واشرأبت بعنقها نحو وجهه لتقترب من شفتيه، ثم همست له بحرارة تأكدت أن تلهبه، وتؤجج الرغبة به:
-ولو عاوزني أقاطع أمي أنا موافقة، المهم عندي إنت وبس.

نظر لها شزرًا، لم يبدو مقتنعًا بأي حرف تتفوه به؛ وإن كانت صادقة، فحتى أسرار الزوجين -والمتمثلة في نظرة كالمقدسات- انتهكتها بوقاحة، دون ندمٍ أو خوف، واليوم لا مانع لديها في قطع صلة الرحم مع الأقرب إليها، فقط لكسب ودّه، واستعادته إلى أحضانه بشكل لا تقبله أي زوجة تمتلك كرامة بعد ما ارتكب في حقها. تلك الطريقة الرخيصة المبتذلة التي تعرض بها نفسها عليه لم يستسغها. أزاح يدها بعيدًا عنه، ورفضها بشكلٍ مشمئز انعكس على تعبيرات وجهها المصدومة، ليقول بعدها بجمودٍ، وتلك النظرة الجليدية تعلو وجهه:
-أمك ماتخصنيش، العيب من الأول عليكي إنتي.

ورغم النظرات المهينة التي يرمقها بها إلا أنها قالت متسولة مشاعره من جديد:
-أنا غلطانة، وصدقني مش هايحصل تاني.
حاولت التودد إليه بشكلٍ حميمي، لعبت بجراءة على مشاعره الذكورية، وحاولت تحفيز الرغبات الغرائزية به بملاطفات خبيرة تشعل العاطفة بالجسد؛ لكنه لم يتأثر مطلقًا مما أقلقها، وقبل أن تواصل ما تفعله، نبذها بالابتعاد عنها .. تطلعت إليه بغرابةٍ، كانت دومًا تنجح في جره لشباك أنوثتها، ومع ذلك بدا كالصنم، لا يبالي بما تمنحه له. بلعت ريقها، وسألته بقلقٍ واضح عليها:
-"تميم" رد عليا، إنت ناوي على إيه؟ خلاص سامحتني؟ قولي، ماتفضلش ساكت كده.

اتجه نحو باب الغرفة ليقول لها بغموضٍ أربكها:
-كل وقت وليه أدان.
ضاقت عيناها متسائلة في توترٍ:
-قصدك إيه؟
تجاهلها مبتسمًا ابتسامة جابنية أثارت حفيظتها، تبعته متسائلة في جزعٍ:
-رد عليا يا "تميم".
بإشارة صارمة من سبابته أوقفها آمرًا بما يشبه التهديد:
-مكانك، ماتطلعيش برا الأوضة دي.. ده لو مش عايزة تخسريني!
هزت رأسها في انصياعٍ، ودون إعادة التفكير قالت، والقلق يعتريها:
-حاضر ...!!

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني الحلقة الثالثة عشر بقلم منال سالم


على الرغم من مغيب الشمس وحلول الظلام إلا أن هذا لم يمنعه من القيام بتلك الزيارة الاستثنائية لها، ليطرق على الحديد وهو ساخن. لم تتوقع "بثينة" رؤية ابن أختها واقفًا على أعتاب منزلها، بالطبع كان من البديهي أن تظن أنه قد جاء لتهديدها، وربما الانتقام منها لفضحه بوقاحة؛ لكنها كانت أقوى من الشعور بالضعف أو الندم، رمقته بنظرة مستخفة به، وسدت عليه المدخل متسائلة بفظاظةٍ:
-جاي ليه يا ابن "بدير"؟


 
رد عليها "تميم" بنوعٍ من العجرفة، وهو يجوب عليها من رأسها لأخمص قدميها بنظرة احتقارية صريحة:
-كويس إنك عارفة أنا ابن مين، وابن "بدير" لو ليه حق عند حرمة هياخده برضوه!
استشعرت التهديد من نبرته ونظراته، فاتخذت موقفًا هجوميًا، وقالت متعمدة التقليل من شأنه بأسلوب سافر:
-إنت جاي تهددني في بيتي؟ دي القوالب نامت والأنصاص قامت.


 
فــرد ذراعه ليستند على حافة الباب، وانتصب بكتفيه متطلعًا إليها بنظرة خالية من أي عطف، ثم استطرد يقول بصوتٍ أقرب للفحيح، تسلل إلى بدنها وأرعبها:
-التهديد دي للهفأ، أنا بأجيب حقي بإيدي، ومن كل واحد جاب في سيرتي بالغلط.


 
لن تنكر "بثينة" أنها شعرت بالخوف من طريقة تحديقه به، لم يظهر عليه المزاح، كان يقتلها بنظراتها، على الفور تبدلت تعبيراتها للحزن، وادعت النحيب، ثم قالت بصوتٍ متقطع:
-كل ده عشان بأحمي بنتي؟ بقى تهون عليك يا "تميم"؟ تضربها وعاوزني أسكت، حرام والله، طب واللي في بطنها؟ عاوزها تسقط؟ ده أنا أم، وبأحس بضنايا.
أطلق ضحكة عالية هازئة بها قبل أن يصمت فجأة ليقول ساخرًا منها:
-إيه الحنية دي كلها؟ بس تصدقي مش لايقة عليكي خالص!!


 
واصلت عويلها قائلة:
-الله يرحمك يا "غريب"، موت وسبتنا آ....
اخشوشنت نبرته على الأخير، واشتدت عروقه، حين قاطعها بغتةً:
-بلاش جو الصعبنيات ده لأحسن مابياكلش معايا، اللي مات مات خلاص، ولو عاوزة الحي يحصله فأنا جاهز!
عفويًا تلمست عنقها مرتعدة من فكرة إقدامه على زهق روحها، أوحت لها هيئته الغريبة أنه قادر على تنفيذ ذلك دون أن يجفل، سألته من تلقاء نفسها آملة ألا تكون هي المنشودة بتهديده الضمني:
-قصدك عليا؟ أهون عليك؟ عاوز تموتني يا "تميم"؟ ده أنا أمك التانية.


 
رد مصححًا بوقاحة:
-أنا ماليش إلا أم واحدة..
ثم صمت للحظة قبل أن يكمل وصلة إرهابها:
-اللي يمسيني أخرته كفن ونعش، فاللي يجي في دماغك يا خالتي، إنتي، بنتك، ابنك .. مش فارق معايا، لا دم ولا نسب، ولا صلة رحم! أصل في كتير عاوزين الدبح، والناس ماهتصدق تترحم عليهم.

شحب وجهها بشكلٍ مخيف، خاصة مع إشهاره لمدية صغيرة أمام عينيها فجأة، انتفضت لاطمة على صدرها، وقد كتمت شهقة مذعورة/ وحبستها في جوفها. سلَّك "تميم" بطرف المدية المدبب أسنانه الجانبية، خاتمًا حديثه بما يشبه النصيحة:
-أحسنلك تصلحي الليلة بدل ما تردم في الآخر عليكي.


 
هزت رأسها بإيماءات متعاقبة تعبر عن قبولها، وبإبهامه أعاد النصل الحاد إلى جرابه.. كان على وشك الانصراف؛ لكنه تذكر جملة جده التي أوصــاه بترديدها على مسامعها قبل أن يرحل. راقب ردة فعلها عن كثب، فعَمِد لتنفيذ ذلك حرفيًا، وقال وهو يتجه للدرج:
-أه صحيح.. لسه بتشيلي الفلوس تحت البلاطة جمب سريرك؟ ولا غيرتي النظام؟
تلبكت وردت بذعرٍ:
-إنت.. بتتكلم عن إيه؟

اكتسب وجهه طابعًا غامضًا أصابها بمزيد من الخوف، تحدث من زاوية فمه يودعها مشيرًا بإصبعيه على جبهته:
-سلام يا خـالتي!
لم ينظر نحوها مستشعرًا حالة الذعر البادية على تقاسيمها، وهبط الدرجات مدندنًا بصافرة بطيئة لاستفزازها،غمره شعورًا عظيمًا بالارتياح افتقده لوقت كبير، حان وقت الثأر، ورد الاعتبار!


 
عـــاد "تميم" إلى أرض الواقع متأملاً من حوله بنظرات عابرة، جالت عيناه على الأوجه المتزاحمة، والتي ملأت مدخل البناية تقريبًا. حرك رأسه للجانبين محاولاً الرؤية من بين تلك الرؤوس المتداخلة؛ كان يبحث عنها تحديدًا، ولمحها من على بعد فتأهب في وقفته نافضًا وراء ظهره غضبه الذي اندلع قبل قليل. رفعت "فيروزة" طرفي ثوبها حتى لا تتعثر في خطواتها خلال سيرها خلف توأمتها العروس، فالذيل الذي امتد لما بعد أطرافه شكل عائقًا مزعجًا لها، تابعتها بنظرات مسرورة لفرحتها الظاهرة عليها، لمسة جادة من يد "علا" على كتفها أجبرتها على الالتفاف والنظر نحوها، فاقترحت عليها رفيقتها؛ وكأنها تفرض الأمر عليها:
-تعالي عشان تركبي معانا.

سألتها "فيروزة" باندهاشٍ، غير متوقعة أن يبادر أي أمر آخر لذهنها:
-أركب فين؟
ردت ببساطة، وتلك الغبطة ظاهرة عليها:
-معايا أنا و"آسر".
على الفور تحولت أنظارها نحو السيارة المصطفة خلف سيارة العروس، لتجد ذلك السمج يقف عند مقدمتها، عاقدًا لذراعيه أمام صدره، أبعدت عينيها عنه، والتفتت تسألها باستغرابٍ مستنكر:
-هو مش رجله مكسورة؟ بيسوق إزاي أصلاً؟

ربما لم تنتبه لتعافيه، فأجابتها بمنطقية:
-ما هو فك الجبس من كام يوم، أنا كنت معاه، يالا بقى قبل ما يتحركوا.
ردت عليها معتذرة بوجه منقلب:
-مش هاينفع يا "لولو"، أنا وعدت "همسة" إني هاركب معاها.
وببديهية معروفة كما المعتاد سألتها "علا":
-ليه هي أخت العريس مش هتركب؟
نفت بزفيرٍ منزعج:
-لأ.. هي مش موجودة هنا أصلاً.

هزت رأسها معقبة عليها:
-تمام.. فهمت.. عمومًا احنا وراكو..
ثم احتضنتها دون مقدمات، وهنأتها بلطفٍ مرح:
-ومبروك يا قلبي
ربتت على ظهرها تجاملها:
-الله يبارك فيكي.
عضت "علا" على شفتها السفلى، وقد حانت منها نظرة سريعة نحو "آسر"، لتقول بعدها بتنهيدة هائمة:
-هابقى أقرصها في ركبتها .. مش بيقولوا كده برضوه؟

ابتسمت "فيروزة" وهي ترد:
-أيوه.. عشان تحصليها في جمعتها
خرج من جوفها تنهيدة أخرى راجية رددت خلالها بأمل كبير:
-يا ريت

استقرت في المقعد الخلفي بعد ترتيب ثوبها، ليكفي المساحة الشاغرة المخصصة لها، وتلميحات "فيروزة" باتخاذ حذرها حتى لا يتجعد ترن في أذنيها، بالرغم من عدم تحديقها بها. بدا كل شيء مشوشًا، مربكًا، ومتداخلاً في عقلها. حاولت "همسة" السيطرة على كم الأفكار الحائرة التي تسبح في فضاءات خيالها، لكنها فشلت، ربكتها أقوى من قدرتها على إيقاف الصخب الدائر في رأسها .. كانت الليلة في بدايتها؛ لكن أغلب قواها مستنزفة، مرهقة، ومتوترة. انتفاضة خفيفة اعترت جسدها حين التصق بها "هيثم"، بدا الأخير متحمسًا للغاية، على عكسها، وبخجلٍ زائد أخفضت نظراتها سريعًا عندما مدحها بنظراتٍ نهمة، مليئة بالرغبة:
-زي القمر يا "هموسة".

تخضب وجهها بمزيد من الحمرة الدافئة، فيكفيها ما ألقي على مسامعها من أمور مخجلة طوال الأيام الماضية من كل امرأة تمتلك خبرة لا مثيل لها، كنصائح جادة ومثالية للحصول على حياة زوجية مستقرة، تنعم فيها بالجانب الحسي والوجداني في العلاقات الحميمية مع زوجها، أحست بشرارات من الخجل الممتزج بالخوف وقد تبادر إلى ذهنها تلك التلميحات المتجاوزة –وربما البذيئة- عما يحدث في ليلة العرس تحديدًا بعد انصراف المدعوين. أتى صوتها مهتزًا وهي ترد عليه بعد برهة مدركة أنه لا يزال ينتظر ردها:
-شكرًا.

تجمدت في مكانها مترددة للحظاتٍ، لم تتوقع أن يقود "تميم" السيارة، خاصة بعد أنباء القطيعة التي أشيعت في الأيام الأخيرة بينه وبين ابن خالته؛ لكن على ما يبدو كانت الأمور عادية، ولا مجال للخلاف أو الخصومة، كلاهما يبدوان طبيعيان، وإلا لما كان الأول يقود السيارة له. تشجعت "فيروزة" ملقية وراء ظهرها كل ذلك اللغو، وجلست في مكانها الشاغر -مثلما وعدت توأمتها- عاقدة العزم على ألا تسمح له بالنقاش معها فيما يخص ذلك الحريق المشؤوم، ليبقى الماضي في مكانه دون نبشٍ. تحرجت حين وجدته يمد ذراعه فجأة نحو التابلوه..،

شعرت بتلك الخفقة الموترة تجتاحها، وكان كل ما فعله ضبط إحدى الألعاب المتحركة الموضوعة عليه حتى لا تسقط. سدد لها "تميم" نظرة غريبة نافذة من تلك المسافة القريبة، شعرت وكأنها تخترقها، وتعري أسرارها المخبأة.

عبست "فيروزة"، وانعقد حاجباها، ثم رمقته بنظرة منزعجة تنذره بعدم تكرار الأمر، ومع ذلك قابلها بابتسامة غامضة؛ وكأنه يظهر لها عدم انصياعه لأوامرها الصامتة. نفخت في سأم، وأشاحت بوجهها لتحدق في الطريق عبر نافذتها، وزع "تميم" نظراته بينها وبين العروسين قبل أن يتنحنح بخشونة لينطق بعدها موضحًا:
-احنا هنطلع على طريق الكورنيش، هنلف هناك شوية، ومنه هنرجع.

علقت "فيروزة" بنزقٍ؛ وكأنها تفرض عليه المسألة كأمر واقع لا نقاش فيه:
-"علا" و"آسر" ورانا، أنا هاعرفهم رايحين فين عشان منتوهش من بعض
تحولت تعابيره للتجهم، وغامت نظراته لنطقها باسم هذا الكائن المتطفل مجردًا من أي ألقاب، رافعة الكُلفة بينهما، مما استفزه بشكلٍ لا يطاق. تنفس بعمقٍ ليثبط أي مشاعر ناقمة تتسرب إليه، وقال باقتضابٍ:
-طيب.

لو لم يكن محترفًا في القيادة لظن من يركب إلى جواره أنه يتعمد ارتكاب حادث مروع مع السيارة التي تتبعه؛ وكأن هناك مطاردة بينهما، إلى أن تمكن من الإفلات منها ليفقدها وسط زحام السيارات بالطريق المختنق، التوى ثغر "تميم" بابتسامة منتشية لنجاحه في تضليل "آسر"، وواصل القيادة بتمهلٍ ممل لم تلاحظه سوى "فيروزة" المراقبة لحركة السيارة، سألته بعد أن أخفضت صوت المذياع الصاخب قليلاً:
-هو احنا رايحين فين كده؟ ده مش طريق البيت!

أجاب مبتسمًا ببرودٍ، وتلك النظرة المتسلية ظاهرة في عينيه:
-بناخد لفة يا أبلة.
ردت بلهجتها الجادة، لتتأكد من وضع حدود في العلاقة بينهما:
-مش عايزين نتأخر على المعازيم.
آمــال رأسه ناحيتها ليضمن التفافها نحوه، ثم قال بثقةٍ غامزًا لها بطرف عينه:
-طول ما إنتي معايا ماتقلقيش.

تجهمت تعبيراتها أكثر، وظهر الاستنكار على محياها لتعلن بذلك عن رفضها لأريحيته في الحديث معها. ربما ندم لتسرعه في إلقاء تلك الجملة العابرة، بتلك الطريقة الودية المتخلية عن أي تحفظٍ على مسامعها؛ وكأن القلب نطق عن العقل معبرًا عن اهتمامه الجاد بها. توقع أن توبخه، لكنها لم تعقب، كانت مشغولة بالتطلع لهاتفها المحمول، نظرة خاطفة مختلسة ألقاها عليها فلاحظ أنها تراسل أحدهم، وبشكٍ مبرر له أسبابه المنطقية ظن أنه الكائن اللزج المدعو بـ"آسر"، لذا بغيظٍ أدار المقود بحركة دائرية مباغتة..،

أجبرت السيارة على الانحراف عن الطريق، والالتفاف بشكلٍ قوي جعل الهاتف يرتد تلقائيًا من بين أناملها، وتميل بجسدها نحوه لترتطم بكتفه، وقبل أن تعنفه لرعونته، هتف "هيثم" من الخلف مبديًا حماسه:
-الله عليك، عاوزين خمسات وعشرات كده.

تراجعت "فيروزة" عن توبيخه متوهمة أنه ربما يكون اتفاقًا ضمنيًا بينهما، وهي لم تنتبه له. لقى "تميم" استحسانًا من ابن خالته، وكذلك تقبلاً من طاووسه القريب منه، مما جعله يكرر تلك الفعلة قائلاً بحماسٍ يفوقه:
-أي حاجة يا عريس!

في المقعد الخلفي، كان "هيثم" مستمتعًا بذراعه الملتف حول عروسه وتطويقها، وكأنه يمهد لها بقرب احتضانه الحميمي لجسدها، لكنها لم تكن واعية لذلك، حيث تلبكت من الحركات العنيفة للسيارة، وظنت أنها ستنقلب بهم إن لم يتخذ "تميم" حذره، شهقت صارخة لأكثر من مرة، لكن مال "هيثم" نحوها ليقول بمدحٍ:
-ما تخافيش يا عروسة، "تميم" أستاذ الحركات الخِطرة كلها.

ابتلعت "همسة" ريقها، وقالت برهبةٍ طفيفة، غير تلك المسيطرة عليها بسبب طبيعة اليوم:
-ربنا يستر.
هتفت " فيروزة" من الأمام بما يشبه التهكم، لتظهر مشاركتها في حوارهما:
-المهم نوصل حتة واحدة.
تعقد حاجبا "تميم" بشدة، ورمقها بنظرة لائمة لكونها شككت في قدراته القيادية، وقال بقليلٍ من العجرفة:
-احنا عفاريت الأسفلت يا .. أبلة!
رف على جانب شفتيها ابتسامة ساخرة وهي تغمغم باقتضاب:
-باين..
لم يكترث إن كانت تسخر منه أم تثني عليه، يكفيه أنها الآن تبتسم في حضوره، وعلى كلماته التلقائية.

كانت لتتقبل بإلقاء نفسها في الجحيم، لتحترق حية، وتأكلها ألسنة النيران، على أن ترى ما يحدث الآن نصب عينيها. برزت عينا "خلود" من محجريهما وقد رأت زوجها يترجل من السيارة ليدور حولها قاصدًا الجانب الآخر، وبتهذيبٍ يدل عن لباقةٍ لم تختبرها معه فتح الباب لعدوتها؛ "فيروزة". كانت الأخيرة جالسة في المقدمة إلى جواره، حيث من المفترض أن تكون "خلود" بديلتها، في رفقة زوجها. توهم خيالها الكثير من الأمور غير الحقيقة، معتقدة أنها كانت تحادثه بأريحية، تبتسم له بإغراءٍ بين الحين والآخر، وربما التصقت به عن عمدٍ لتؤثر به بأسلحتها الأنثوية الفتاكة؛ هكذا خُيل إليها!

تحفزت لتنقض عليها ناقضة كل العهود التي أبرمتها مع نفسها بالظهور أمام العامة بالزوجة المحبة لبيتها، الطيعة لزوجها، واللطيفة مع الغرباء، لتؤكد للجميع بأنها ضحية اضطهاده العنيف، حتى وعدها بعدم الاتصال مع والدتها خالفته؛ وكانت تفضي كالعادة بسرها لها، تستشيرها في كل صغيرة وكبيرة؛ تاركة إياها تتلصص على تفاصيل حياتها. لولا قبضة "بثينة" التي اشتدت على معصمها تستحثها على البقاء، لتحركت نحوهما متسببة في فضيحة كبيرة تُحطم به الهالة البريئة المرسومة حولها. همست لها أمها متسائلة من بين ابتساماتها المتكلفة، والتي توزعها على الحضور:
-رايحة فين يا بت؟

تخشب جسدها، وانتفضت دمائها المغلية في كامل عروقها لتعزز من رغبتها في الفتك بها، بصعوبة أدارت رأسها في اتجاه والدتها تسألها بصوتٍ محموم بغضبه:
-عاوزاني أقف اتفرج يامه على المسخرة دي؟
بهتت ابتسامتها، وحذرتها بلهجة شديدة، حين رأت في عينيها إصرارًا على التصرف برعونة:
-اثبتي، بلاش فضايح، الناس هتتفرج علينا، واحنا مصدقنا الليلة اللي فاتت اتلمت.

اختنق صوتها وهي ترد بنبرتها الساخطة:
-فضايح؟ ده إنتي لسه هتشوفي الفضايح اللي بجد؟ عاوزاني أحط الجزمة في بؤي وأرضى بواحدة زي دي ماتسواش نكلة تاخد مكاني؟ أنا مراته، مش هي! أنا المفروض اللي أبقى معاه مش هي!
ردت عليها "بثينة" بتبرمٍ، وتعبيراتها تحولت للعبوس:
-ما إنتي اللي صممتي تفضلي هنا.

قالت بأنفاس هادرة رغم خفوت نبرتها:
-مجاش في بالي إنه هيوصل "هيثم"، فكرت بعد اللي حصل بينهم مش هيروح معاه في حتة.
شردت نظرات أمها، وقالت بتوجسٍ حقيقي:
-محدش عارف جوزك بيفكر إزاي اليومين دول!!
واصلت "خلود" هجومها المتحفز على غريمتها، فلعنتها قائلة:
-وطبعًا بنت الـ(...) دي مصدقت تستفرض بيه، مالهاش كبير يلمها الـ (...)!

عللت أمها وجودها معه قائلة:
-أكيد جت صدفة.
استنكرت جملتها تلك، وانفجرت تزأر في وجهها، بالرغم من خفوت صوتها عمن حولها:
-مافيش حاجة صدفة يامه، البت دي سهونة ومش سهلة، دي خطافة رجالة.
نصحتها "بثينة" بهدوءٍ علها تصغي لها:
-سيبك منها دلوقتي، هنتعامل معها بعدين، إنتي روحي لجوزك، وإنتي بتضحكي في وشه، ماتحسسهوش إن في حاجة، ولا إنك غيرانة وآ...

قاطعتها محتجة بشدة على كلماتها الأخيرة، وتلك النظرة الاحتقارية تغلف عينيها:
-أنا أغير من السنكوحة دي؟ على إيه؟ دي ماتسواش جزمة في رجلي!
جارتها في ازدرائها المهين لها، وأضافت بنفس أسلوبها الناصح:
-كويس، اتعاملي معاها كده، واترمقعي على جوزك قصادها، خليها تفلفل وتطق منك.
نفخت قائلة بغلٍ، دون أن ترتد نظراتها عن "فيروزة":
-ماشي يامه.
أوصتها مكررة نصيحتها حتى لا تتصرف بهوجائية:
-بالراحة ومن غير عصبية.

على ما يبدو كان من العسير عليها أن تخرج من السيارة، دون مساعدة خارجية، حاولت مرارًا وتكرارًا فتح بابها؛ لكنه لم يستجب لها. كسا وجهها تعبيرًا مدهوشًا، -وأيضًا خجلاً- حين ترجل "تميم" من السيارة يستأذنها بتهذيب غريب عليه:
-بعد إذنك يا أبلة .. استني شوية.

توقفت عن تحريك المقبض المتعثر، وتابعته بنظراتها الحائرة وهو يدور حول مقدمة السيارة، توقف بجوار بابها ليفتحه لها، ازدادت حرجًا من قيامه بتلك الخطوة، نظرًا لتعطل القفل الالكتروني. لم تحبذ أن يظن بها أحدهم السوء، أو أن يفسر الموقف بصورة خاطئة، منحته نظرة ناعمة ممتنة مع ابتسامة مجاملة قبل أن تشيح بوجهها في اتجاه توأمتها، لتساعدها في فرد ثوبها، وإعادة تنسيق أطرافه التي تجعدت. أرهفت السمع للصوت الأنثوي الحاد الذي أتى من خلفها مادحًا:
-ماشاء الله يا حبيبي، بتفكرني بليلة دخلتنا..

نظرت "فيروزة" من طرف عينها نحو "خلود"؛ تلك الفظة بشحمها ولحمها ظهرت على الساحة، وأدركت أنها كعادتها أتت للاستعراض أمامها، وكذلك التنمر على شخصها. حدث ما خمنته عن طباعها الاستفزازية، وتابعت قائلة بميوعة ثقيلة:
-وعقبال يا رب ما تزف عيالنا، ربنا يخليك ليا يا حبيبي، ويبعد عنك عين الحسود.
لم تأبه بها "فيروزة"، التجاهل أفضل ما يمكن فعله مع أمثالها، سمعتها تردد عاليًا:
-هاشوف العرسان، استناني مش هتأخر عليك يا سيد المعلمين.

وكالعادة لم تلقِ لسماجتها بالاً، بقيت واقفة إلى جوار توأمتها تدعمها معنويًا بابتساماتها الودودة وهمهماتها العادية. رأت "فيروزة" نظرات "خلود" المغلولة مثبتة عليها، وبصورة سافرة، حتى وهي تخاطب أخيها:
-مبروك يا "هيثم"، ربنا يتمملك على خير، وتكون فعلاً تستاهلك.
رد "هيثم" بسعادة واضحة عليه يمدح خطيبته –التي باتت على وشك أن تقترن به دون زيفٍ أو نفاق:
-يا ريت أنا اللي استاهلها، هو أنا أطول القمر ده يبقى جمبي؟

رفرفت "همسة" برمشيها في حرجٍ كبير، وحدهما أو أمام الحضور لا يكف عن التغزل بها. أشار "هيثم" لها بيده يحثها على التحرك، فبدأت بالسير، ومن ورائها "فيروزة" تكُلمها:
-بالراحة يا "همسة".
تبعتها على مهلٍ، لكن استوقفتها "خلود" بشدّها بغيظٍ من ذراعها، متعمدة غرز أظافرها الحادة في لحمها، ألقت عليها نظرة حانقة، وسألتها ببرود:
-إيه مافيش مبروك؟

أزاحت "فيروزة" يدها عنها، وقد شعرت بشراستها على جلدها، حدجتها بنظرة غائمة متحفزة وهي تسألها متجاهلة إحساسها الحالي بالألم:
-لمين بالظبط؟
استغربت من جمودها، وقالت بتهكمٍ سافر:
-أه صح، نسيت إنك أخت العروسة، مخدتش بالي منك، ولولا إنك واقفة جمبها مكونتش شوفتك أصلاً، ماهو المثل بيقول لبس البوصة تبقى عروسة.
كركرت "فيروزة" ضاحكة قبل أن ترد ببرودٍ استفزها سريعًا:
-دي البوصة مش أنا..

ثم ربتت على جانب ذراعها مكملة نصيحتها النارية لها:
-وابقي اكشفي نظر عشان تشوفيني حلو.. أصل السواد اللي في قلبك من ناحيتي طفحت على عينك.
تبعت جُملها بضحكة مستخفة بها أشعلت من غيظها، وزادتها كمدًا. تسمرت "خلود" للحظات في مكانها محاولة وأد مشاعرها الحاقدة عليها، حتى لا تبدو منهزمة أمامها. رسمت بسمتها السخيفة، واتجهت إلى زوجها الذي بادر متسائلاً بتهكم رافضًا تزييف مشاعر غير موجودة بينهما:
-لازمتها إيه الحركات القرعة دي؟

تأبطت ذراعه بشكل مبالغ فيه؛ كأنها تخشى هروبه، وتعلقت به كالعلقة تشده من كتفه، لتبدو أكثر التصاقًا به، قبل أن تجيبه:
-هو أنا قولت حاجة غلطت؟ ده أنا بأوجب مع العروسة وأختها!
قال بتحفزٍ:
-ماهو باين.
جذبته ليتحرك معها وهي تهتف:
-يالا يا حبيبي ده الزفة بدأت.

استل ذراعها بقوة منها ليقول بنبرته الباردة، ونظراته نحوها خالية من الاهتمام:
-شوفيها لوحدك.. أنا رايح عند معلمين السوق.
جاهدت لتبدو مبتسمة أمام إحراجه العلني لها، وقالت بابتهاجٍ زائد حفظًا لماء وجهها:
-وماله يا حبيبي، ما إنت ابن الكبير ...!!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني الحلقة الرابعة عشر بقلم منال سالم


خرقت مبادئه السامية حول أهمية العائلة بالنسبة له، وخربت كل شيء اعتبره مثاليًا للتضحية من أجله، فقط لترضي نزعتها التملكية في الاستحواذ على شخصه؛ وإن كان في ذلك إيذائه. ترك ما تعهد تجنبه ليغدو شخصية أخرى غير المتعافية، ليصبح على ما كان عليه سابقًا، عل حينها تدرك الخطأ الجسيم الذي فعلته، ودفعه بكراهية للتحول للنقيض. شتت "خلود" تفكيرها عنه، وحافظت على بسمتها الزائفة لتسير في اتجاه بعض الشابات، حيث استوقفتها إحداهن تسألها:
-عاملة إيه دلوقتي؟


 
ردت بنفس البسمة المحافظة:
-الحمدلله
كانت تعلم في قرارة نفسها أن تلك الشابة تحاول أن تشبع فضولها بتحري المزيد من أخبارها الخاصة، جراء الفضيحة الأخيرة، وبكل جراءة سألتها أخرى:
-صحيح، جوزك عامل معاكي إيه بعد اللي حصل؟ احنا شايفينكم زي السمنة على العسل!
كركرت "خلود" ضاحكة قبل أن تقضم ضحكتها لترد بخجلٍ مفتعل:
-هو في زي المعلم "تميم"، ربنا يخليهولي.


 
ركزت الشابة أنظارها عليها، وتابعت أسئلتها الصريحة:
-يعني مش زي ما اتقال عنه؟ أصل في كلام داير في الحتة عن إنه آ.....
قاطعتها "خلود" مؤكدة بتعابير مرتخية وهي تتدلل بكتفها:
-دي كانت ساعة شيطان وراحت لحالها...

ثم أخفضت نبرتها، ووضعت يدها أمام فمها لتوحي بأن حديثها يحتوي على عباراتٍ مخجلة قبل أن تكمل:
-وبيني وبينكم أنا زودت العيار معاه، وادلعت عليه، وهو مايستغناش عني.. ما إنتو عارفين الرجالة
افتعلت الضحك، وشاركتها الشابات في ذلك، بعد أن تحول مجرى الحوار عن أمورٍ شبه جامحة بين الزوجين. بقيت معهن لبعض الوقت تتبادل معهن الحديث الودي العابر؛ وكأنها زوجة محبة، تُلقي بالنصائح الإرشادية اللازمة، لتستحثهن على استرضاء أزواجهن. اختطفت نظرة سريعة نحو زوجها على أمل أن يرمقها بعينيه، لكنه بدا مشغولاً بالحديث مع اثنين من معارفه، لم تدقق النظر فيهما، وصرفت –مؤقتًا- انتباهها عنه.


 
بابتسامةٍ مبتهجة، ونظرات فرحة حقًا، أقبل "تميم" على ضيوفه الأعزاء ليرحب بهم واحدًا تلو الآخر بحرارةٍ طغت على مشاعره المنزعجة من تصرفات زوجته، تبادل مع اثنين منهما الأحضان الرجولية عن الأخرين، ليتراجع خطوة عنهما وهو يتابع ترحبيه بهما هاتفًا:
-حمدلله على السلامة، نورتوا المكان.

رد "منذر" بصوته الأجش وهو يمسح بنظراته المكان برمته:
-يا عم المكان منور بأصحابه، فين العريس أومال عشان نباركله؟
أجاب عليه مستخدمًا يده في الإشارة:
-بيجهز للزفة.
علق "دياب" مازحًا وهو يلوح بذراعه:
-آه مين أده.


 
التفت "تميم" نحوه ليرد غامزًا له بطرف عينه:
-يا سيدي احنا فيها، انوي إنت بس، والتساهيل على الله.
لمعة خفية غطت عينا "دياب" قبل أن يدمدم بتنهيدة بطيئة:
-ربك كريم.

انشغل الاثنان في حوارهما المازح، بينما تباعدت نظرات "منذر" عنهما، على ما يبدو كان محدقًا بنظراتٍ مطولة بأحدهم، زادت نظراته تجهمًا، وقد انعكس الضيق على محياه، فبعض الوجوه كانت مألوفة له، تربطه بينهم معارك سابقة، ومشادات عنيفة، وحتى يقطع الشكوك التي تساوره استدار نحو رفيقه "تميم" ليربت على كتفه، ثم سأله بهدوء، وعيناه ترتكزان على وجهي كلاً من "فتحي" و"اسماعيل":
-بأقولك إيه إنت تعرف الناس دي؟

جال "تميم" بنظراته على معظم الأوجه المتجمعة في هيئة تكتلات بشرية متسائلاً بحيرة:
-أنهو ناس؟
أومأ بعينيه متابعًا توضيحه الغامض:
-اللي هناك، قاعدين نواحي الحاج "عوف".
ضاقت عينا "تميم" بشك وهو محدق بهما، سكت للحظاتٍ؛ وكأنه يعتصر ذهنه لتذكرهما، وللواقع كانت مرته الأولى التي يلاحظ فيه وجودهما، لذا رد نافيًا:
-لأ.


 
أطبق "منذر" على شفتيه، وتبادل نظرات غريبة –شبه صارمة- مع أخيه الذي بقي صامتًا هو الآخر، رغم تبدل تعابيره للتجهم أيضًا؛ وكأن بينهما إشارات غير منطوقة. تنحنح "تميم" قبل أن يتابع مجددًا من تلقاء نفسه:
-بس شكلهم من قرايب العروسة، خالها واقف معاهم.
رد "منذر" بوجهٍ مقلوب:
-طيب.

كان يملك من الفراسة ما يؤكد له حدسه بوجود خطب ما بهما، صمتهما المستريب، نظراتهما الحذرة، وحتى هدوئهما غير الاعتيادي الذي ساد فجأة. لاحظ "تميم" امتعاض وجهيهما، فتساءل باهتمامٍ:
-في حاجة قلقاك يا "منذر"؟ إنت تعرفهم؟
أجابه بتحفظٍ بعد زفيرٍ بطيء:
-بص من الآخر كده، الجماعة دول بتوع مشاكل وحوارات كانت معانا من قريب، فخد بالك منهم!


 
قال "دياب" دون احتراز:
-بس احنا علمنا عليهم.
استرعت كلماتهما الجادة كامل انتباه "تميم"، وتساءل مستوضحًا:
-مشاكل إيه بالظبط؟
لم يكن الظرف مناسبًا للتطرق لمثل تلك المسائل الشائكة، وبالتالي رد "منذر" متهربًا منه:
-بعدين .. هتقابل معاك ونتكلم على راحتنا.

التفت "تميم" برأسه نحو أحد الرجلين، وكان يحدق بـ "منذر" بكراهية واضحة، بدا ذلك جليًا على تقاسيم وجهه، ولم يكلف نفسه عناء إخفاء مشاعره، توقف عن التحديق به ليلتفت نحو "دياب" حين هلل مازحًا وهو يصفق بيديه:
-يا جدعان احنا في فرح، خلونا نفرفش، ونروق على العريس ،قبل يرجع يندم ويغني ظلموه.
ضحك "تميم" على طرفته، وأيده غامزًا له بطرف عينه:
-ده ليلته الكبيرة
هز "دياب" رأسه مضيفًا بعبوسٍ زائف:
-مظبوط، لأن الغم جاي بعدين، إنت ناسي إن النكد أسلوب حياة الحريم عندنا.

في القلب ضغائن ما زال يحملها في طياته، لا يقدر الزمن على محوها، لكونها ترتبط ارتباطا وثيقا بالمشاعر الحسية والوجدان. توقفت "حمدية" بالركن تدعي ابتسامها لمن اجتمع بالقرب من زفة العروسين، ومع هذا تشتت أنظارها عن الجميع، وشردت تتذكر ماضيها البعيد. كعادة معظم العائلات بالمناطق الريفية يتم تزويج الإناث في سن مبكرة بمجرد بلوغهن، وقد لا تصلن أعمارهن لسن الخامسة عشر في بعض الأحيان، وبالتالي يلقى على كاهلي تلك الفتاة الصغيرة مسئولية أفراد عائلة بأكملها، وتتحمل عبء تأسيس أسرتها بالإنجاب.

في تلك الفترة الزمنية البعيدة، كانت "حمدية" في الرابعة عشر من عمرها، تكبرها "سعاد" إحدى بنات البلدة بعامين، لم يكن الفارق المادي بينهما كبير، كلتا الفتاتين من عائلات بسيطة؛ لكن تمتاز الأولى بحرص عائلتها على ذهابها للمدرسة، وكلتاهما كانتا مرشحتين لنفس الشخص؛ "اسماعيل" الابن البكري لعائلة "أبو المكارم". وقعت "حمدية" في حبه منذ اللحظة الأولى، وتمنت بشغف أن تكون زوجته، لما يمتاز به من سمات جسمانية جيدة، بالإضافة لطباعٍ كيسة، وشخصيته القوية غير الاتكالية. جاءت الصدمة حينما رفض الارتباط بها، وفضل عنها "سعاد". نبعت الكراهية نحوها من أعماقها، خاصة مع إنجابها لأول أبنائها، والذي من المفترض أن تكون هي من تحمله بين أحشائها.

وقبل أن تتعاظم الكراهية بداخلها، وتأكلها الغيرة أكثر، سعت للموافقة على أول من يطرق بابها، حتى لا يطاردها لقب العانس. كان المرشح آنذاك فقيرًا، شبه معدم، وقبلت به. استمرت خطبتها له لبضعة سنوات ريثما يعود من الخارج نهائيًا بعد جمع ما يمكنه من أموال لبناء منزل الزوجية، وللأسف قُتل زوجها المستقبلي في حادث عرضي يخص الثأر قبل أسبوع من عرسها. عزفت عن الخطبة لبعض الوقت حدادًا على الفقيد، رغم عدم وجود أي مشاعر تربطها به، ومع هذا جددت سعيها للارتباط بغيره. وبسبب أطماعها وافقت على الزواج من رجل ثري –وإن كان يفوقها عمرًا- نكاية بغريمتها القديمة، لتظهر لها ثرائها، فقد ظلت "سعاد" تعاني من عثرات مادية مع زوجها لوقت لا بأس به.

أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، ومات الزوج قبل موعد الزفاف ببضعة أيام .. وقتها خشيت معظم العائلات من تكرار نفس المصير الأسود المشؤوم الذي اقترن بها، وعزف أغلبهم عن ترشيحها لأي شاب يسعى للزواج، إلى أن ابتسم لها الحظ بعد سنواتٍ عجاف، وتعرفت إلى "خليل"؛ صهر عائلة "أبو المكارم"، حيث تزوجت شقيقته "آمنة" من الشقيق الأصغر لـ "اسماعيل". بعد فترة وجيزة كانت تُزف إليه، لتصبح تتبع عائلة حبيبها القديم بشكلٍ غير مباشر.

تبدلت الأحوال، ورأت على أرض الواقع ما حظيت به "سعاد" من ترفٍ، ونعيم، وأربعة أبناء؛ ذكر، وثلاثة إناث، بالإضافة للمشاعر المحبة من زوجها نحوها، بينما كانت لا تزال قابعة في بؤسها وشقائها، مع انعدام مشاعر اللطف بينها وبين "خليل"؛ أصبحت حياتها جحيمًا يوميًا. لم تتغلب "حمدية" على مشاعرها الناقمة، وركزت أهدافها على تحقيق الثراء بأي وسيلة، لتناطح "سعاد" الرأس بالرأس، اعتقدت حين تتباهى في حضورها بأنها أنجبت من الأبناء الذكور ثلاثة، فقط لتظهر تفوقها عليها في تلك المسألة، أن مشاعر الغيرة ستظهر لديها، لكنها ببساطة لم تهتم، بل لم تكترث مطلقًا، وبدت هانئة في حياتها المرفهة. ورغم ابتعادها عنها لسنوات إلا أن مشاعرها الحاقدة لم تخبت يومًا؛ وإن كانت لا تظهر ذلك علنًا.

أفاقت من شرودها الحانق على صوت إحداهن تهنئها، ابتسمت بتكلفٍ، وردت عليها:
-الله يبارك فيكي.
لمحت "سعاد" من زاويتها، فغمغمت مع نفسها بحقدٍ:
-كان زماني مكانك، لولا الحظ!
رأت "سعاد" نظراتها نحوها، فتقدمت نحوها متسائلة بابتسامتها الودية:
-مالك يا "حمدية"؟ إيه اللي مضايقك؟
ردت بتجهمٍ:
-مافيش حاجة تقدر تضايقني.

ناكفتها بمزاحٍ:
-أصله باين على وشك، في حد قالك كلمة كده ولا كده؟
علقت عليها بسخطٍ، وهي تترفع في نظراتها نحوها:
-محدش يقدر! ده أنا أعكنن على بلد وما اتعكننش.
ابتسمت وهي ترد:
-في دي معاكي حق، ربنا يصلح حالك.
نظرت لها بعينين تتقدان غيظًا قبل أن تنطق بتبرمٍ:
-ما هو متصلح، خلي دعوتك لنفسك.

-الحكاية جت بسرعة.
تعلل "خليل" بتلك الجملة السخيفة حين لم يتوقف "اسماعيل" عن معاتبته بين الحين والآخر، لعدم التزامه بالقواعد المتبعة عند قيام أحدهم بالتقدم لخطبة إحدى بنات العائلة، بدا رده سمجًا، وغير مراعٍ لضيفه، فامتلأ وجهه بأمارات الضيق، واستمر يلومه:
-مكانش يصح بردك، ده أنا عمها الكبير، يعني عصبها على طول، في مقام أبوها، ولا إنت نسيت الأصول يا "خليل"؟

نفخ في سأمٍ من مناقشته العقيمة معه، وتكرار نفس الجمل السخيفة كلما رأه؛ وكأنه ارتكب جرمًا لا يُغتفر، وبتبرمٍ رد عليه:
-لا مانستش، وأنا خالها .. والخال والد يا حاج "اسماعيل"، وعملت الصح والمناسب معاها.
لم يشاركهما الحوار في البداية، كان مشغولاً بمراقبة خصمين استفزاه من قبل، وأحرجاه علنًا، أبعد نظراته عنهما ليدير رأسه في اتجاه "خليل"، بدا "فتحي" متعصبًا ومتحيزًا ضده، ثم لكز بعكازه على الأرضية معبرًا عن احتجاجه، وحاوره بصوتٍ غلفه التزمت:
-بس كان المفروض عريسها يخطبها من عندنا.

استدار نحوه مبتسمًا ابتسامة باهتة، ورد بدبلوماسية:
-تتعوض يا حاج "فتحي" في اللي جاي.
لم يستسغ الأخير رده، وأضاف بنبرة حاقدة متعمدًا تصعيد الغضب بين القريبين:
-ولا شكلنا مانشرفش نسايبكم؟

رمقه "خليل" بنظرة قوية حانقة، كان يعلم جيدًا أنه من النوع المثير للمتاعب بأسلوبه المستفز والمحفز للحمية الذكورية، وكل من تعامل معه يُدرك براعته في توغير النفوس، وملء الصدور بالغل، لذا ببرودٍ شديد رد عليه:
-لأ إزاي، ده إنتو فوق راسنا.

ولكون "اسماعيل" يعلم أنها وسيلته المعتادة لإثارة الشغب، خاصة فيما يتعلق بقريبته "أسيف"، وما حدث مؤخرًا من شجار دموي عنيف، ربما قد يتكرر إن صمت ولم يوقفه عند حده. تنحنح بخشونة، واستطرد يقول له بهدوءٍ:
-خلاص يا حاج "فتحي"، مالوش لازمة العتاب دلوقتي، اللي حصل حصل.
اضطر على مضض أن يبتلع "فتحي" حنقه الذي تعاظم بمجرد رؤية كلاً من "منذر" و"دياب"، وكيف تمت إهانته أمام العامة، فحاول صب جم غضبه المشحون وتوجيهه نحو "خليل"، لكن الأخير كان أذكى قليلاً ليتجنب الانسياق ورائه، تجاهله ليرد على صهره:
-تسلملنا يا حاج "اسماعيل".

بكل ما فيها من حماسٍ وشغف، اضطرت أن تدعم موقف من اعتبرته أقرب أصدقائها –رغم الفارق العمري- في اهتمامه الواضح برفيقتها، وبالرغم من كونها تكن له المشاعر النبيلة والغالية، إلا أنها لم ترغب أبدًا أن تكون سببًا في تعاسته. اعتبرت حبها العذري له سريًا، مقدسًا، نقيًا، مترفعًا عن أي أهواء، ذي نوعية متفردة، ولا يجب البوح به أبدًا. لهذا لم تتردد في إظهار تعاطفها معه، حين اعترف لها بانجذابه نحو "فيروزة". قاومت مشاعرها، وقررت مساعدته في التقريب بينهما، دون أن تخبو رغبتها أيضًا في أن يدرك ما تكنه له، وطالما أنها تحتفظ بمكانتها المميزة في حياته، لن تتوانى عن الوقوف بجواره.

كانت أجدر الناس على قراءته، حيث دومًا يفضل اختبار العلاقات الغريبة عليه، كما لو أنها تمنحه شعورًا بالقوة والسيطرة؛ لكنه لم يستمر في أي علاقة انخرط بها مطولاً، فقط نزوات عابرة تحت أي رباط رسمي لتنتهي مثلما بدأت في لمح البصر، ولكونها تعرفه جيدًا، كانت واثقة أن ارتباطه برفيقتها لن يدوم، سيشعر بجفائها، وجديتها، وسيضجر منها بعد بعض الوقت، حسنًا لتتركه يتذوق فقط نوعيتها المستعصية عليه قبل أن يلفظها كغيرها. جلست "علا" على مقربة من "آسر"، لم ترفع عينيها عنه، وراقبت وسامته بابتسامة رقيقة، التفت نحوها متسائلاً بتوترٍ:
-يعني أطلبها من خالها ولا أفاتحها الأول؟ شوري عليا؟

رمشت بعينيها، وقالت بصوتٍ رقيق، لكنه جاد:
-على حسب معرفتي بـ "فيروزة" مش هترضى بجو الفريند والحاجات دي، وعشان يبان إن كلامك جاد، ومش مجرد تسالي.
ضاقت نظراته نحوها متسائلاً:
-قصدك ماديهاش فرصة ترفضني؟
هزت رأسها مؤكدة:
-أيوه.
ضغطت على شفتيه ليرد باقتضابٍ موجز بعدها، والحيرة تملأ تعابيره:
-أوكي..

ســاد الصمت بينهما لبعض الوقت، نظرت إليه "علا" بين الحين والآخر في جلستها معه بنظرات تعكس رغبتها الشديدة في الانتباه لها، لكنه كان أبعد حاليًا من وضعها في تفكيره، ابتسمت لنفسها في سخافة، قبل أعوام كان ليكون أبعد شخص عن خيالها لتتمنى الارتباط به، ولكن لشيء لا تعلمه تسلل حبه إلى قلبها، وبات الوحيد الذي تهواه؛ وإن كان لا يعلم ذلك. قطعت بغتةً حاجز السكون لتقول بنزقٍ، عله ينتبه لأهمية وجودها في حياته:
-تعرف.. أخويا لو مكانش واثق فيا مكانش واقف على صداقتنا دي.

لاحت ابتسامة عذبة على محياه، ورد بعينين تحملقان في وجهها:
-"ماهر" أنا قدامه زي الكتاب المفتوح، وهو عارف غلاوتك عندي، وأنا استحالة أضرك، إنتي زي أختي.
غصة مريرة عصفت بحلقها، مكانتها لن تتبدل أبدًا، وترتقي للمستوى الأعلى، حافظت على ثبات بسمتها، وتابعت ببطءٍ حتى لا تظهر ارتباك صوتها:
-أكيد، ده غير إنه يهمني سعادتك.
امتدت يده لتمسك بكفها، داعبها بأصابعه بالربت على أناملها، أسبل عينيه نحوها، وقال بعذوبةٍ زادت من عذابها الداخلي:
-مش عارف أقولك إيه يا "لولو".

سحبت بتمهلٍ يدها من أسفله، وهتفت بصدرٍ مختنق متحاشية النظر إليه:
-لما خالها تلاقيه واقف لوحده اتكلم معاه.
هز رأسه موافقًا وهو يرد:
-تمام ..
التفت لتبتسم له بعينين تلمعان بعبراتٍ خفيفة، وأكملت قولها:
-و Good Luck
شكرها "آسر" في امتنانٍ:
-ميرسي يا "لولو"
منحته نظرة دافئة من عينيها قبل أن تحدق أمامها، لمحة خفية من الحزن طفت على صفحة وجهها الناعم رغم إنكارها ذلك، لكنها كانت واثقة أن الأمر لن يصل للنهاية تحت أي ظرف.

كان محنكًا في اختيار نوع الضحية التي سيرتبط بها، أرادها معدومة الخبرة فيما يخص الشأن الرجالي، غير اجتماعية تقريبًا، لا أصدقاء لها، محدودة العلاقات حتى في النطاق الأسري. باتت "فيروزة" الخيار الأنسب بمجرد أن جمع المعلومات التي احتاجها عنها، وتبقى له فقط القيام بالخطوات الجادة لإتمام الأمر. لم يكن "آسر" غبيًا كي لا يلاحظ مدى اهتمام شقيقة رفيقه به؛ "علا".

أدرك شغفها به منذ اليوم الأول من وقت تبدل طريقة تعاملها معه، وتحولها لنوعٍ من الحميمية الزائدة، حتى في توافه الأمور؛ ومع هذا عِمد إلى تجاهل كل ما يصدر عنها، وحصرها في منطقة الصداقة الأخوية؛ حفاظًا على الروابط الأسرية مع عائلتها، كما أنها تبعد كل البعد عن مخططاته بشــأن عروسه المستقبلية. وباستشارات ساذجة مُلحة مع "علا" -للحصول على مبتغاه من صديقتها- حقق نتائج باهرة في استقطابها لصالحه.

تهادى في خطواته وهو يتجه نحو "خليل"، كان الأخير مقروءًا بالنسبة له، حفنة من النقود ربما تُذهب عقله، الطمع أسمى أهدافه، ما عرفه من "علا" عن طريق الحديث العفوي بين الصديقتين كان كفيلاً ليرسم صورة تمهيدية عنه، ويستنتج الباقي بسهولة. وببسمة واثقة استطرد يقول له حين أصبح في مواجهته، وهو يمد يده ليصافحه:
-مساء النور.

صافحه "خليل" على عجالة، ثم رمقه بنظرة مستطيلة متفحصة قبل أن يرد متسائلاً:
-مساء الخير، أيوه؟ في حاجة؟
قال "آسر" بنفس الصوت الهادئ المليء بالثقة:
-هو حضرتك مش فاكرني يا أستاذ "خليل"؟
بوجومٍ رد عليه الأخير:
-لأ..
تابع موضحًا حتى يساعده على التذكر:
-احنا كنا اتقابلنا قبل كده في المطعم، أنا المحامي "آسر وهبة".

عقب عليه بسخافةٍ:
-طيب.. تشرفنا، وعاوز إيه؟
تنحنح قائلاً بربكة مصطنعة:
-احم .. أنا كنت عايز حضرتك في... موضوع شخصي يخص الآنسة "فيروزة".
اتسعت حدقتاه على الأخير، ورد مدهوشًا بقلقٍ:
-"فيروزة"! مالها؟
لاحظ تعابيره المنزعجة، وقال مطمئنًا إياه:
-متقلقش يا فندم، ده كل خير.

تقلصت عضلات وجهه في امتعاضٍ، بينما تابع "آسر" حديثه مسهبًا:
-أنا عارف إن الظرف مش مناسب، بس فكرت إنها فرصة إني أتشجع وأتقدم، وأطلب من حضرتك إيد الآنسة "فيروزة"؟
استنكر ما تفوه به، وزجره بحدةٍ:
-نعم .. بتقول إيه؟ على كده بتقابلها من ورانا وآ...

قاطعه على الفور بعد أن اتجه تفكيره بابنة أخته لشيء آخر قد يفسد ترتيباته، وهتف موضحًا:
-مش عايز حضرتك تسيء الظن، هي متعرفش أصلاً بطلبي ده، أنا جاي من نفسي أكلم حضرتك.
هتف في استهزاءٍ رافضًا تصديقه:
-يا سلام!

أكد عليه بثباتٍ وثقة:
-أيوه يا فندم، حضرتك اللي قصاد ده محامي كبير، ليا لي اسم وسمعة، مش حد عادي والسلام.
لانت ملامح "خليل" قليلاً، استشعر جديته في تلك المسألة، وانتابته حالة من الانتشاء، في حين استرسل "آسر" مادحا إياها:
-كمان الآنسة "فيروزة" مثال للأدب، والأخلاق العالية.. وكل الحكاية إنها صاحبة "علا" قريبتي، وكنت شوفتها معاها وسألتها عنها، وعرفت هي مين، وده شجعني أتقدم لها بشكل رسمي، لأن عارف إن مالهاش لا في اللف ولا الدوران.

عزز "خليل" من مكانته ليقف مستقيمًا بشموخٍ زائف، وكتفاه منتصبان نوعًا ما، ثم قال بقليلٍ من العنجهية:
-شوف يا أستاذ آ...
توقف عن إكمال جملته لتحرجه من عدم تذكره لاسم من يحاوره، كان في هذا نوعًا من عدم اللباقة، فساعده "آسر" على ذلك، معرفًا بنفسه مرة أخرى:
-"آسر وهبة" يا فندم..
رد بنبرة شبه هازئة:
-تشرفنا..
وتابع بعد توقف دام للحظة:
-بس عاوز تتقدم لبنت أختي، يبقى تمشي حسب الأصول، مش كلمتين على الواقف كده!!

رد عليه يؤيده:
-تمام، وده اللي بأعمله، جيت أتكلم مع حضرتك.
أردف موضحًا أكثر، ونظراته تحولت تلقائيًا نحو "اسماعيل":
-لأ معلش، أنا صحيح خالها، بس عمها موجود، وهو المسئول عنها.
لم يظهر "آسر" اعتراضه، وبدا متشجعًا وهو يقول:
-معنديش مشكلة، وأنا جاهز أتكلم معاه.

اكتسبت نبرته إيقاعًا مختلفًا يميل للترحيب حين رد عليه:
-حلو .. يبقى تسيبلي رقم تليفونك وأنا هاكلمك بمعرفتي.
تبادل كلاهما أرقام الهواتف قبل أن يعلق "آسر" في حبورٍ:
-تمام يا أستاذ "خليل"، وهستنى أسمع منك قريب.
لم تذبل ابتسامة الأخير وهو يرد متحمسًا:
-إن شاءالله طبعًا.
أومأ "آسر" برأسه خاتمًا حديثه معه:
-ومبروك للعرسان.
قال وهو يمد يده لمصافحته كنوعٍ من المجاملة:
-الله يبارك فيك.

تكتلات بشرية تجمعت في حيز السرادق المقام به حفل العرس، مع استمرار فقرات الحفل لساعات طويلة، بعد عقد القران. انسحب "منذر" و"دياب" مبكرًا لاضطرارها للسفر باكر لأجل بعض الأعمال؛ وإن كان يشك "تميم" في وجود ما يخفياه عنه، بينما امتدت تلك السهرة لمنتصف الليل تقريبًا، وتخللها عشاءً وفيرًا يكفي لمئات الأفراد. بقيت "فيروزة" خلف توأمتها معظم الوقت على الكوشة، راقبت المشهد من زاويتها، كانت نظرات "خلود" الحاقدة مسلطة عليها..،

لم تخفِ الأخيرة مقتها الشديد نحوها، ومع هذا لم تولِ لها أي اهتمام، وركزت انتباهها مع المتوترة الجالسة قبالتها، أما والدتها كانت من حين لآخر تعرج عليها لتشد من أزرها، وتشجعها على تبديد أي رهبة تنتابها بشـأن هذا اليوم، أما العريس فقلما جلس، سحبه رفاقه للرقص باستخدام العصي تارة، وبالأسلحة البيضاء تارة أخرى؛ وكأنها مبارزة رجولية بحتة.

اتجهت عينا "هيثم" نحو "تميم" وهما يرقصـان سويًا، أظهر الأول احترامه لابن خالته لصراحته الواضحة معه، فبعد مشاجرتهما الأخيرة، التقى به في نفس اليوم بالدكان –بحضور الجد "سلطان"- ليعتذر منه أولاً على تهوره، ثم ليعده بإصلاح ما أفسده؛ وإن كان في ذلك عدم رضائه. قدر مشاعره النبيلة تجاه شقيقته، وتجاوز كلاهما بوادر تلك الأزمة العائلية، دون الإفصاح علنًا عن تصالحهما.

أشهر "تميم" مديته، رفعها أمام وجه العريس يتحداه:
-جاهز يا عريس ولا هتكسفنا؟
تناول "هيثم" من "ناجي" الواقف على مقربة منه خاصته، وأشهرها معلنًا قبوله:
-الكسفة دي للحريم
هلل في انتشاءٍ ليستحثه على مبارزته:
-طب ورينا الجدعنة يا رجولة!

تشكلت حلقة دائرية حول كليهما ليبدأ الاثنان في الاستعراض بقدراتهما على استخدام المطواة باحترافية ومهارة عالية، خلال بعض الحركات الراقصة، وتعالت الصافرات والهمهمات الذكورية المتحمسة. سدد "تميم" بمديته ضربة قاتلة في اتجاه ابن خالته دون أن يمسه، لمجرد إرهابه، أبدى "هيثم" إعجابه بسرعته، وقال:
-معلم طول عمرك.

أخفضها "تميم" حتى لا يتسبب في إحراجه، بالرغم من تركه له في بعض الأوقات الأسبقية للتفوق عليه، لكنه لم يكن بارعًا مثله، ومع استمرار القتال الزائف بينهما سيبدو ضعيفًا، وغير قادر على مجابهته، تراجع للخلف تاركًا لبقية الشباب مهمة إحاطة العريس والاحتفال معه، وقف عند الجانب يلتقط أنفاسه، وفي نفس الآن يختلس النظرات نحوها، لم ينكر أنه في بعض الأوقات وجد صعوبة في التركيز لاحتلالها بطلتها الفاتنة مشهد الكوشة، لو لم يكن في مأزقٍ مع زوجته الحالية لاختلفت الأمور كثيرًا. أخرج علبة سجائره، والتقط منها واحدة ليشعلها، حرر دخانها الحارق من صدره دفعات متتالية.

لمحته "خلود" وهو محدق بـ "فيروزة" بنظراتٍ شبه مترددة، فاشتعلت نيران الغيرة بها، إنها زوجته، ومن حقها ألا يرى غيرها، وإلا لماذا انتظرت كل تلك السنوات لتحظى به في الأخير، وبكل وقاحةٍ اقتربت منه تسأله:
-إيه عجباك؟

تنفس بعمقٍ حتى لا يتصرف بردة فعلٍ غير محمودة أمام جملتها المستفزة. اعتبرت صمته نوعًا من التأكيد على مزاعمها، وهتفت مقترحة بمرارةٍ:
-طب ما أروح أطلبهالك من قرايبها؟ مش فكرة برضوه؟
قال ببرودٍ، وبعبارات موحية، وتلك الابتسامة المتسلية تعلو زاوية فمه؛ وكأنه يحرقها حية بكلماته:
-روحي.. أنا مش ممانع، وأقدر أفتح بيتين، طالما في الحلال.

احتقن وجهها على الأخير، لم تتوقع مثل ذلك الرد مطلقًا، ظنت أن الإنكار كالعادة سيكون وسيلته لتبرير نظراته العادية؛ لكنه باغتها بإبداء ترحيبه باقتراحها، تحولت للنقيض، واختلج تعبيراتها المزيد من الحنق لتنطق بحدةٍ:
-إنت هتجنني؟ عاوز تجوز عليا؟ لأ.. والبتاعة دي!
قال بتهجمٍ وهو يستدير نحوها ليرمقها بنظرة محذرة:
-صوتك ما يعلاش..
ثم لفظ دخان سيجارته في وجهها وهو يكمل بنبرة جادة:
-مش إنتي اللي قولتي؟ زعلانة ليه؟

تراجعت عن حدتها أمام جديته الظاهرة على قسماته، لعقت شفتيها، ولجأت لأسلوبها الساهم في الحديث لتستميله:
-أنا بأهزر معاك يا حبيبي، مقدرش استحمل واحدة تانية تبصلك، فما بالك لو لاقيت وحادة جت تاخدك مني، أو حتى تشاركني فيك؟ وبعدين احنا مش خلاص اتصالحنا، وبقينا سمنة على عسل؟
نظر لها مليًا بغموضٍ استرابت منه، ولم ينبس بكلمة. تعلقت في ذراعه وأسبلت عينيها نحوه قائلة:
-إنت بتاعي أنا لوحدي، من حقي أنا وبس.
استل ذراعها منها ليرد باقتضابٍ جعل الخوف يدب في قلبها:
-هنشوف.

تدربت عشرات المرات على ذلك المشهد الذي بات متكررًا على مسامعها في الآونة الأخيرة، لن تسمح له برؤيتها عارية حين يختلي بها، لن تتركه يلمسها؛ وإن كانت تحبه، لن تتمكن من النوم معه بسبب مفاجأة غير سارة نالت منها قبل مجيئه. أغلق "هيثم" باب المنزل بعد مشقة واضحة عليه لصرف المدعوين الذين انتقلوا لمنزله لتوديعه مع عروسه، نفخ في إرهاقٍ محدثًا نفسه بتبرمٍ:
-إيه ده الناس مابتخلصش؟ مش يراعوا إن لسه ورانا ليلة تانية هتبتدي.

راقبته "همسة" من مسافة بعيدة، وهي لا تزال ترتدي ثوبها، رفضت خلعه، وما إن رأته متجهًا إلى الردهة الطويلة حتى توارت عن أنظاره، وأغلقت الباب خلفها. لمحها زوجها، وارتسمت على شفتيه ابتسامة مبتهجة، فرك كفيه معًا مرددًا لنفسه:
-أيوه بقى..

نزع سترته، وحل رابطة عنقه التي خنقته، ثم حرر ياقتي قميصه، وحل أزراه حتى برز معظم صدره، تنحنح يناديها بعذوبة غريبة عليه:
-"هموسة"، يا عروسة!
وقف أمام باب غرفة النوم، ودق بظهر كفه عليه مستئذنًا في الدخول بصورة مازحة:
-اللي خالع راسه يغطيها.

تنحنح بصوتٍ شبه مرتفع وهو يدير المقبض، ثم أطل برأسه أولاً وهو يدير نظراته في الغرفة باحثًا عنها، كانت تجلس على طرف الفراش تحتضن كفيها في حجرها، استقام في وقفته، ومسح كامل جسدها بعينين يملأوهما الرغبة واللهفة، استطاعت أن تسمع هسيسه المنخفض رغم صمته، أبعدت نظراتها عنه، ولكنه استمر في التقدم نحوها، وتنهد مادحًا جمالها:
-مافيش بعد كده يا "هموس".
بلعت ريقها وردت:
-شكرًا.

جلس إلى جوارها على طرف الفراش يسألها، كنوعٍ من إذابة الجليد والتوتر السائد بينهما:
-إيه رأيك في اليوم؟
همست بلعثمة:
-حلو
امتدت يده ببطءٍ لتلامس كفيها، وبدأ في مداعبة جلد بشرتها الناعم بأصابعه، انتفضت هاربة من جواره كمن صعقه تيارًا كهربيًا، ثم رفعت سبابتها تحذره بصوتٍ متلجلج:
-بص أنا مش جاهزة لأي حاجة النهاردة
نهض واقفًا قبالتها ليحاصرها مرددًا بهدوءٍ:
-ده احنا هناخد وندي بشكل ودي يا "هموسة".

ورغم الرجفة المسيطرة عليها إلا أنها أصرت على وضع مسافة آمنة بينهما، وأضافت بلهجة جادة لم ترق له.
-ودي بس .. تاتش وحركات تانية مش هاينفع.
رفع حاجبه للأعلى في استنكارٍ قبل أن يعترض بملامح شبه عابسة:
-ليه؟ ده حتى قرب حبة تزيد محبة.
زادت ربكتها، وانعكست على بشرتها فتخضبت بحمرة حرجة، همهمت مع نفسها في خجلٍ كبير:
-مش عارفة أقولهاله إزاي..

دنا منها "هيثم" ولامس بكفيه جانبي ذراعيها، داعبهما صعودًا وهبوطًا بحركة بطيئة متأنية، ثم أحنى رأسه عليها، كما لو كان على وشك تقبيلها:
-إنتي مكسوفة مني ولا إيه؟
دفعته من صدره بقبضتيها رافضة اقترابه الحتمي منها بأي شكل، وصاحت محتجة:
-بص أنا .. Out of service (خارج نطاق الخدمة) النهاردة.
تعقدت ملامحه متسائلاً في حيرة:
-وده معناه إيه؟

قضمت شفتها السفلى، وأدركت أنه لم يفهم المغزى من جملتها المتوارية، ومع ذلك تشجعت لتقول له، ليكف عن ملاحقتها في تلك الليلة:
-هات ودنك، وأنا أقولك.
اتسعت عيناه في صدمةٍ حين همست له بزيارة استثنائية لضيفتها الشهرية بعد تأخرها لبضعة أيام بسبب توترها الزائد في الفترة الأخيرة، واليوم تحديدًا قد أتتها لتقضي على كامل فرصته في التودد لها، تهدل كتفاه، وحل العبوس على وجهه، نظر لها في غيظٍ لاعنًا بضيقٍ منزعج:
-يادي الحظ ..

ربتت على كتفه قائلة بربكةٍ لطيفة؛ وكأنها تواسيه:
-معلش، أنا أسفة.
فرك مؤخرة عنقه متسائلاً بوجهه المكفهر:
-ودي بتقعد كتير؟
هزت كتفيها قائلة ببساطة:
-يعني.. ممكن أسبوع
هنا انفجر صائحًا بغيظٍ غلف حتى نظراته:
-حسبي الله ونعم الوكيل.
وضعت "همسة" يدها أعلى منتصف خصرها ترمقه بنظرة لائمة، وعاتبته:
-بتقول إيه؟
زفر متبرمًا وهو يدعي كذبًا:
-خلينا ناكل أحسن، مش هايبقى جفاف عاطفي، وجوع كمان.

أخفت ابتسامة متسلية كانت تحاول الظهور على شفتيها بسبب تذمره الذي بدا طفوليًا عنه رجوليًا، راقبته وهو يخرج من الغرفة مجرجرًا أذيال الخيبة ورائه لتتنفس بعمقٍ، مستشعرة أنها ربما تكون فرصة جيدة للتفاهم أكثر، وللتقارب وجدانيًا عنه جسديًا.

أصر عليها أن ترتديه خصيصًا له هذه الليلة، وافقته دون نقاش، بدا الأمر يستهويها أيضًا، وبالتالي عاد كلاهما إلى منزله ليحصلا على المزيد من الخصوصية بعيدًا عن نظرات عائلته المراقبة لهما. وقفت "خلود" عند حافة الفراش، بثوب ليلة دخلتها الأبيض، مزدانة بمساحيق التجميل، وتتمايل في ميوعة مغرية بجسدها الذي انتفخ قليلاً، نثرت العطر النفاذ على جانبي عنقها، وتخيلت في عقلها بقضاء ليلة حميمة دافئة، في أحضان زوجها، تعيد ترميم الشروخ بينهما، خاصة أنه بدا رائق المزاج قبيل انتهاء العرس. التفتت نحو "تميم" الذي ولج للغرفة بعد أن نزع سترته، وبقي بقميصه الأبيض، سألته بأنفاسٍ مضطربة من انفعالها:
-إيه رأيك يا حبيبي؟

دار على تفاصيلها الأنثوية المشوقة -والبادية من خلف قماش ثوبها- بنظرات متمهلة، بطيئة للغاية، أصابتها بالحماس والإثارة، وتنهد يقول بخفوت:
-جميلة من برا زي تملي.

في البداية لم تستشعر الغرابة من جملته المركبة، وأصابتها لوسة مؤقتة بتغزله الغريب منها، لم يكن على عادته معها، لكن لمدى احتياجها الشديد إليه اعتقدت أنها سلبت عقله بمفاتنها المثيرة، وبالتالي لن يقاوم إغراء جسدها الفاتن، مهما ادعى تجاهله لها، ستدفعه الأشواق الراغبة إليها. منحها "تميم" تأكيدًا على رغبته فيها بإيماءة إعجاب أخرى من رأسه، وأضاف يسألها بجدية:
-لسه عاوزاني؟

ردت دون تفكير:
-أنا مقدرش أستغني عنك، إنت بتاعي وبس.
سألها معمقًا نظراته نحوها؛ وكأنه يختبرها:
-حتى بعد اللي حصل بينا؟
أجابت ببساطة رغم ملاحظتها للنفور الظاهر على تعبيراته:
-وإيه يعني؟ طالما بيعجبك، أنا تحت رجليك يا حبيبي.

ران الصمت في الغرفة للحظة، شرد يفكر في خطوته التالية؛ وكأنه يمنح نفسه الفرصة لحسم أمره قبل الإقدام عليه فعليًا. راقبته "خلود" بإمعانٍ حائر، حيث استغربت من انجرافه وراء شهوته بتلك السهولة، كان يقاوم توددها المُلح عليه في الأيام السابقة، محتجًا ببغض على محاولاتها المضنية لجره للفراش، أما في تلك الساعة فكان على النقيض؛ مختلفًا كليًا، نهمًا، طامعًا فيها، لم تترك ترددها يحيرها، وقالت بتنهيدة مفعمة بالرغبة:
-أيوه..

تبين من أنفاسها مدى حاجتها أيضًا إليه، وبذل ما في وسعه لتأجيج مشاعرها نحوه. خلع قميصه بروية، ونظراته الغامضة ما زالت عليها، ثم استل بنطاله، وتقدم نحوها ليبادر بتقبيلها من شفتيها بقبلة عميقة بث فيها مشاعرًا قوية، وأغرقها بعشراتٍ من القبلات الناعمة على كامل وجهها حتى تأوهت من الشوق والحماس. سحبها برفق نحو الفراش ليستلقيا سويًا، ومنحها نظرات والهة لعاشق أضناه عذاب الحب. ترك أصابعه تتجول على بشرتها، وأعطاها المزيد من المحفزات المثيرة التي أطلقت شرارات الحب في أنحاء جسدها، وأشعلته بحاجته الماسة إليه ليروي ظمأه.

خاضت معه تجربة حالمة ومختلفة أطلقت فيها العنان لكل مشاعرها المكبوتة، تناست ما حولها مستسلمة لتيار الحب الجارف، وتجاوب حواسها بطريقة لينة وطامعة في غرامه الذي يُذهب عقلها، ويدفعها لحافة الجنون .. وقبل أن يجرفه طوفان الشهوة لأبعد من ذلك، تباطأت لمساته، وتوقف عن ممارساته الزوجية لتشعر "خلود" بشيء مريب ينتابه. انطفأت الرغبة فيها فجــأة، وتحولت للوح من الجليد المتصدع حين نطق "تميم" في أذنها، بصوت أقرب للفحيح:
-إنتي.. طالق...!!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني الحلقة الخامسة عشر بقلم منال سالم


الميل للتملك؛ هو غريزة موجودة بالنفس البشرية، قد تتحول بفعل كلاً من الغيرة، والأنانية، والمشاعر المندفعة غير الناضجة إلى نزعة هوسية؛ إذا تم التمادي في الأمر بشكل مفرط؛ وبالتالي تتحول من مجرد حب طبيعي إلى رغبة مرضية وغير صحية، تؤدي في النهاية للهوس بفرض السيطرة على الآخرين، أو أحد بعينه. حينئذ ينتهي الأمر بانتهاك الخصوصية، والسعي بشتى الطرق للتحكم في تفاصيل حياة الأشخاص صغيرة كانت أم كبيرة، لضمان عدم فقدهم والاستحواذ عليهم.


 
حاربها بنفس سلاحها اللعين مستنزفًا عواطفها، جارحًا بلا هوادة كرامتها الأنثوية، داعسًا ما كان بينهما يومًا من مودة ورحمة، مُذيقًا إياها مرارة الإهانة الحقيقية، ومانحًا جسدها المتعطش لحبه المعنى الحقيقي للجفاء القاتل خلال علاقتها معه. مجرد زوجة للفراش! لم يكن ما سمعته وهمًا، ولم تكن خزعبلات آخر الليل عندما أبرأ ذمته من ارتباطه به. رفعت "خلود" جسدها المتصلب عنه، وحملقت فيه مليًا بعينين مصدومتين. تعابيره كانت باردة كالجليد، نظراته خالية من العطف أو الشفقة، بل بدا وكأنه أزاح ثقلاً أرهق روحه. ألقاها "تميم" جانبًا بتأفف؛ وكأنها خرقة بالية، لينهض عن الفراش، وهي ما زالت تحت تأثير الصدمة. رويدًا رويدًا بدأت تستفيق من جمودها الذاهل لتصرخ في هياجٍ:
-إنت عملت إيه؟


 
عدل من هندامه قائلاً بصوتٍ جليدي:
-الصح، واللي كان المفروض يتعمل من زمان.
هزت رأسها بشكلٍ هيستري نافية حدوث الانفصــال بينهما:
-لأ.. إنت استحالة تطلقني!
عبث بأصابعه في شعره، وكأنه يمشطه، قبل أن ينطق بنفس الصوت الجاف:
-بكرة الصبح ورقتك هتبقى عندك.

أشعل جذوة غضبها المتقدة مسبقًا، تركت قميصها المغري غير مرتب على جسدها، لا يهم مظهرها الآن، بدت فوضوية بشكلٍ غير مقبول. حملقت فيه بقلبٍ يخفق بقوة، ظلت تهز رأسها بالنفي وهي تدنو منه، التفت حوله لتغدو قبالته، امتدت يدها لتمسك بذراعه، شدته منه وهي تسأله بصراخها المتشنج:
-أومال الحب اللي بينا ده كان إيه؟


 
نفض ذراعه بعيدًا عن يدها، رمقها بنظرة فوقية نافرة، ليرد بعدها بصدق:
-احنا مكانش في بقينا حب من الأساس، على الأقل من ناحيتي.
تعلقت بذراعيه مجددًا تهزه منهما، وهي ما تزال تهدر فيه بعصبيةٍ:
-لأ إنت بتحبني! ماتنكرش ده.
صاح في حدةٍ مخلصًا نفسه من قبضتيها:
-فوقي يا "خلود"، أنا عمري ما حبيتك.


 
لم تستوعب حقيقة هجرانه لها بعد، وواصلت إلقاء اللوم عليه:
-كل ده عشان إيه يا "تميم"؟ بتبيع اللي مستعدية تضحي بنفسها عشانك من غير ما تفكر للحظة؟ وحبي ليك؟ مالوش قيمة عندك؟
رد بقساوة؛ علها تستفيق من أوهامها الأفلاطونية:
-كل ده قضى، اللي بينا خلص، وأنا نهيته.
احتجت بصراخٍ جرح حبالها الصوتية:
-لأ إنت غلطان.. مافيش حاجة هتخلص بينا، سامعني؟ إنت جوزي، وهتفضل ليا لوحدي.

لم يكن قادرًا على منحها أدنى شعورٍ بالإشفاق على حالها التعس، اكتفى مما عايشه معها، عاملها بقلب خالٍ من أي عاطفة وهو يملي عليها أوامره:
-جهزي نفسك، ده لو حابة تروحي عند أمك تقعدي عندها، شوفي لازمك إيه وخديه، وأنا الصبحية هوصلك، ما هو احنا مش هنروحلها في أنصاص الليالي.


 
أسرعت بالركض نحو الدولاب الذي يحوي ثيابهما، لتلقي بظهرها أمام ضلفه، معتقدة أنها ستمنعه من جمع متعلقاتها. فردت ذراعيها على الأسطح الخشبية، وهتفت معترضة برفضٍ قاطع:
-أنا مش هامشي من هنا، ده بيتي، وإنت جوزي.
صحح لها بوجهٍ قاسٍ اكتسب تعابيرًا صخرية:
-كنت ..

برزت عيناها وهي ترد بإصرارٍ جنوني:
-لأ إنت جوزي، وأنا مش هاسيبك يا "تميم".
تابع القول ببرودٍ أعجب موضحًا لها:
-مؤخرك، ونفقتك، وكافة شيء هيوصلك، واللي في بطنك ملزوم مني.
اختنق صدرها بالعبرات، وهتفت بنحيب مرير:
-إنت بتعمل فيا كده ليه؟
تجاهلها ليضيف:
-غلطة وبأصلحها.
استفزتها كلمته، فهدرت بصوتها المجروح:
-بقى أنا غلطة يا "تميم"؟


 
للحظة تخلى عن قساوته، ليقول بنوع من اللين معترفًا لها بصدق:
-لأ أنا غلطان أكتر منك، عارفة ليه؟
صمت للحظة يخنق بها غصة آلمت حلقه، ثم تابع:
-لأني ظلمتك معايا لما صممت نكمل حياتنا سوا.. كان قدامي فرصة أسيبك، بس صُعب عليا مقدرش انتظارك ليا، وفكرت إني هاقدر أكمل معاكي، بس للأسف ما بقاش ينفع.

أرخت ذراعيها، واقتربت منه لتحتضن جسده، شددت من ضمها عليه ليحتويها بالإجبار، مرغت وجهها المبلل بعبراته على صدره تتوسله:
-ماتسبنيش يا "تميم"، أنا عايزاك ليا.
عادت القسوة لتسيطر عليها، أبعدها عن أحضانه قاصدًا إيلامها بكلامه الجارح:
-وأنا مش عايزك.

استنفرت كافة حواسها على نبذه الصريح لها، وزادت نوبة هياجها لتتهمه علنًا:
-قول إن الهبابة دي احلوت في عينك، من بعد ما شوفتها تاني، وقعدت جمبك تلاغيك وترمي شباكها عليك؟ صح؟
لم يعرف إن كان ينقض عليها ليطبق على عنقها لنجاحها في استفزازه، أم يتركها تحترق بكمدها، آثر الاختيار الأخير، وأولاها ظهره ليبعد عينيه المليئتين بالحنق عنها، وقال بنوعٍ من التحقير من شأنها بصورة وقحة:
-لأ، هي ماينفعش تتحط معاكي في جملة واحدة، إنتي في حتة، وهي في حتة تانية خالص.

كان كمن سكب البنزين على النيران المستعرة، بدا ما تفوه به -دون احتراز-ٍ مدحًا في أنثى غيرها، شابة تعرفها جيدًا. انفجرت فيه بكل ما يعتريها حاليًا من مشاعر غاضبة:
-أه طبعًا، بنت الـ (...) فتحت نفسك على الجواز من تاني، ومش مهم بيتنا يتخرب!!
استدار كليًا نحوها ليحذرها بسبابته:
-ماتغلطيش فيها، هي مالهاش علاقة بينا أصلاً.

قال بتهكمٍ صارخ يحوي كلمات تهاجم باحتقارٍ شخصه الرجولي:
-أيوه دافع عنها زي تملي، ما هي العقربة دي كلت بعقلك حلاوة، وبلفتك تحت دراعها، عشان تنخ وتطاطي، بس فالح تعمل راجل عليا.
استشاطت نظراته على الأخير من لسانها السليط، وهدر بصوتٍ جهوري اهتزت الجدران على إثر قوته:
-"خــــلود".

على الفور عدلت من نبرتها الهجومية لتقول بصوت مهزوم:
-أهون عليك تسيبني؟ عملت إيه لكل ده؟ ده أنا حبيتك من كل قلبي، استنيتك سنين، وكنت مستعدية أستناك العمر كله عشان نكون سوا.
سأم من تكرار سماع نفس العبارات المستهلكة على أذنيه، وقال بصوته الذي ما زال محتدًا:
-كفاية زهقت بقى، أنا ندل يا ستي، ارتاحتي؟

انخلع قلبها قهرًا على فراقه المحتوم، وقالت بعينين تبكيانٍ بحرقة:
-طب قولي غلطت في إيه؟ عشان عاوزاك في حضني، تبقى ليا لوحدي، قلبك وجسمك معايا، خلاص الذنب كله عليا؟
رد بنبرة جافية:
-يا بنت الناس، كل واحد راح لحاله.

تحولت تعبيراتها للشراسة، واحتقنت بشرتها بمزيدٍ من الحمرة الغاضبة، حتى تكاد تشعر أنها ستنفجر من شدة انفعالها، رمقته بنظرةٍ مغلولة، واختفى الضعف من صوتها لتغدو نبرتها غليظة رغم البحة المسيطرة عليها:
-وإنت إيه؟ كنت غلبان؟ مسكين يا حرام! مش عارف تاخد حقك من واحدة زيي؟
ضحكت بسخرية وهي تشير إلى عنفه الذكوري معها:
-ده إنت جبروت ياخي! نسيت اللي عملته فيا وأنا حامل؟ ده إنت كنت هاتجيب أجل ابنك عشان مزاجك الزفت .. ورضيت بقسوتك، واستحملت اللي عملته فيا وبلعت الجزمة في بؤي، مع إن الكل استغلطك.

استشهادها بفضيحته العلنية دفعت دمائه للثورة بكل الغليان المتشعب فيها، نظراته لها حاليًا كانت كفيلة بقتلها، ومع ذلك ابتلع شراسته المهددة في الأفق، والتي تجبره على ردعها بنفس الطريقة الاحتقارية، ليرد ببرود، وابتسامة مستخفة تلوح على جانب شفتيه:
-ما هو ده تمامك معايا.

ردت تستفزه بتهديد صريح:
-ده أنا كان ممكن أرجعك السجن لو مشيت ورا كلام أمي، خسرتها وعاديتها عشانك.. كنت هاولع في نفسي قصاد عينك عشان بس تسامحني، إيه مش مكفيك كل ده؟
وصل النقاش بينهما لنقطة مسدودة، حتى ما كان بينهما يومًا بلغ الحضيض، حدجها "تميم" بنظرات نارية مميتة، تجاوزها ليخرج من الغرفة وهو ينهي حواره بصوته الأجوف:
-إنتي من دلوقتي بنت خالتي وبس!

لم يستدر نحوها حين صرخت به:
-"تميم"! استنى، ده آخر كلام عندك؟!
بدا جملته كنوعٍ من المزاح الثقيل وهو يضيف:
-وأم العيل اللي جاي.. أكتر من كده مافيش!
تبعته لتقف خلفه وهي تواصل تسلطها عليه:
-أوعى تفكر إن الحكاية خلصت لحد كده.. إنت غلطان..
رد غير مبالٍ:
-مات الكلام.

تبعته كالمجذوبة رافضة تركه، وحين تعثرت في سيرها وسقطت أرضًا، تعلقت بساقه، جرها معه إلى باب المنزل، نبشت أظافرها في بنطاله لتتشبث أكثر به، بصعوبة تخلص "تميم" من ملاحقتها، خرج من المنزل دون أن تتوقف عن الصراخ المليء بمزيدٍ من الوعود التي لن تنكثها حتمًا:
-وحياة حبي ليك، وكل لحظة استنيتك فيها لأخليك ترجع، مش "خلود" بنت خالتك اللي تفرط في اللي يخصها.

دعكت عينيها بقبضتيها وهي تسير على مهلٍ متجهة إلى باب المنزل بعد تكرار الدق العنيف عليه، لم تفق "بثينة" بعد من نومها المتأخر، وبالتالي إجبارها على النهوض مبكرًا شكل لها صداعًا قويًا، قطبت جبينها، وتجهمت تعبيراتها المجعدة بشكلٍ قلق حين رأت ابنتها على أعتابه تستجديها بصوتها الباكي:
-الحقيني يامه؟

ألقت نظرة فاحصة عليها، ولمحت تلك الحقيبة الموضوعة إلى جوارها، اتسعت عيناها بتوترٍ، هرب النعاس من ملامحها، وسألتها بقلبٍ يقفزُ بين ضلوعها خوفًا:
-خير في إيه؟ حصل للي في بطنك حاجة؟ وإيه الشنطة دي؟
انفجرت باكية بمزيد من العويل:
-"تميم" طلقني!
لعنته "بثينة" بغضبٍ جم:
-عملها ابن الـ...!

ارتمت "خلود" في أحضــان والدتها، انهمرت عبراتها بغزارة، وهتفت تشكو لها بأنين فؤادٍ منفطر:
-أنا قلبي موجوع أوي يامه، مش قادرة!
ربتت على ظهرها، وسحبتها معها للداخل وهي ترد:
-طب اهدي، وفهميني بالراحة حصل إيه.

-فقرية من يومك!
رددت "حمدية" تلك العبارة الناقمة بعد أن جاءت بصحبة شقيقة زوجها لزيارة العروس قبيل وقت الظهيرة لتفقد أحوالها، والاطمئنان من ناحية أخرى على عفتها. ما لم تتوقعه أن تمضي "همسة" ليلتها تعاني من آثار تعب ضيفتها الشهرية، لم تكف عن إظهار سخطها بالتواء ثغرها في حركة مستهزأة بها، اكتفت العروس من نظراتها الشامتة، وإيماءاتها الحاقدة، وقالت بنوعٍ من الضيق.

-خلاص يا مرات خالي، ده النصيب، وأنا كنت هاعرف منين؟
غمغمت "حمدية" بمزيدٍ من القنوط، لتزعجها أكثر:
-أتاري عريسك وشه مقلوب، ومقابلته لينا مش ولابد.
حذرتها "آمنة" بنظراتها وهي تخبرها:
-اللي حصل يا "حمدية"، هتعمل إيه يعني، تتعوض وقت تاني، لسه العمر قدامهم.

برقت نظرات زوجة خالها حين أضافت بصوتها الناقم:
-وطبعًا زمانت حماتك عرفتك، وجرست في الحتة؟
احتجت "همسة" على تناول ما يخص شأنها الزوجي على ألسن الغرباء، وقالت بلهجةٍ مغايرة لتلك الودودة التي دومًا تتحدث بها:
-وتعرف ليه أصلاً؟
ردت عليها ببساطة لتحرجها:
-مافيش حاجة بتستخبى، وخصوصًا في المسائل دي يا عين أمك.

تخضب وجهها بحمرة خجلة من وقاحتها، والتفتت تستغيث بوالدتها بنظراتها لتلزمها عند حدها، فضغطت على شفتيها متمتمة:
-ماما!
وضعت "آمنة" يدها على رسغ زوجة شقيقها، ونهرتها بلطفٍ:
-بطلي يا "حمدية"، البنت لسه بتكسف، مايصحش الكلام ده.
ردت باستمتاعٍ وقح:
-بكرة تقلع برقع الحياء وتيجي تحكيلنا.

اشتعلت بشرة "همسة" بلمحة أخرى من الحمرة الخجلة، وتضاعفت مع ظهور زوجها الذي بدا وسيمًا في ثيابه المنزلية الجديدة. بادر الأخير مرحبًا بضيفتيه:
-منورين يا جماعة.
افتعلت "حمدية" الابتسام، وزينت محياها بابتسامة زائفة، ادعت الضحك الماكر وهي ترد عليه:
-ده نورك يا عريس..

جلس "هيثم" إلى جوار زوجته يرمقها بنظرات مهتمة، فتحاشت النظر نحوه حرجًا من الأعين المسلطة عليها، وخاصة زوجة خالها الفوضولية، التي متلهفة لسماع التفاصيل عن ليلتها الأولى. مضت بضعة دقائق في صمت تخلله بعض العبارات العادية عن أجواء حفل الزفاف، إلى أن استطردت "حمدية" تقول بسخافة:
-بأقولك إيه يا "آمنة" ياختي، احنا ناخد الحاجة الحلوى والساقع معانا نشربه على راحتنا في بيتنا، ونخلي العرايس سوا يتهنوا ببعض.

ورغم وقاحة طلبها إلا أن "همسة" اعترضت بعبوسٍ:
-ما لسه بدري، احنا موراناش حاجة.
غمزت لها قائلة في تسلية:
-لأ عيب ما يصحش يا بت، شوفي طلبات جوزك..
ضحكة سخيفة أخرى أطلقتها قبل أن تضيف:
-ادلعوا سوا، ده إنتو عرسان.

رمقتها "همسة" بنظرة منزعجة، وهي بالكاد تنفجر حرجًا من تلميحاتها الجرئية، بينما أردف "هيثم" قائلاً وهو ينهض من مكانه:
-ابقوا تعالوا تاني.
هزت "آمنة" رأسها وهي ترد:
-إن شاءالله يا "هيثم" يا ابني، وربنا يفرحك مع عروستك.
حانت منه نظرة جانبية نحو زوجته وهو يرد مبتسمًا:
-يا رب

امتلأ صدرها بالمزيد من الحنق المغلول عليه، ودَّت لو استطاعت إحراقه حيَّا مثلما حدث مع زوجها. ابنتها مكلومة بالداخل، منزوية بغرفتها لليالٍ طوال، رافضة الحديث معها بعد حصولها على ورقة الطلاق، كانت تعاني ويلات فراقه، نحل جسدها، وخسرت المزيد من الوزن، وبالتالي خشيت عليها من فقدان الجنين الذي أصبح مهددًا بالضياع إن استمرت على تلك الحالة المزرية، لهذا لجأت للتصرف على طريقتها. استدعت "بثينة" شريكها السري، واستضافته في صالون منزلها، قدمت له القهوة في صينية صغيرة قبل أن تجلس إلى جواره ليبدو صوتها الخافت قريبًا منه:
-كويس إنك جيتلي على طول يا "محرز".

أمسك بفنجانه، وارتشف منه القليل بصوت مزعج متلذذًا بمذاق القهوة، ثم سألها:
-خير يا ست الكل
ردت بتجهمٍ:
-إنت معندكش خبر باللي حصل بقى؟
تطلع إليها في حيرة وهو يسألها بهدوءٍ، واضعً طرف فنجانه على شفتيه:
-خير؟

اكتسبت نبرتها لمحة حاقدة قبل أن تجيبه:
-البيه أخو مراتك طلقها.
بصق ما ابتلعه في صدمة، كفكف بظهر كفه العالق على زاوية فمه معتذرًا:
-لا مؤاخذة..
ثم ترك الفنجان في موضعه متسائلاً باهتمام:
-طلقها؟ ده إزاي؟ وامتى؟ وليه؟ مش كانوا رجعوا لبعض.
ادعت كذبًا عليه دون أن يرف جفناها:
-في واحدة تانية لايفة عليه، وخطفته منها، وحكمت عليه يرمي مراته المسكينة في الشارع.

نعتها بعدائية:
-الفاجرة، وسمع كلامها كده؟ فين مخه؟
واصلت كذبها الملفق، وأضافت"
-بعيد عنك وعن السامعين عملاله عمل، ده أنا لاقيته في وسط هدوم بنتي، ومكونتش هصدق لولا شيخ بتاع ربنا شاف اللي حصل وقالنا.
هتف في استنكارٍ:
-يا ساتر يا رب، لأ وعملنا فيها أبو الشهامة والجدعنة، وحتة حُرمة تمشيه وتجيبه.
مصمصت شفتيها في سخطٍ، لتكمل بعدها:
-شوفت يا "محرز"، وأنا فكرت خلاص إن ربنا هداه، ومشى عدل، بس نقول إيه، الحرام لحس مخه.

ردد في نزقٍ مستعيدًا في ذاكرته زيارتها السابقة لمقر عملهم:
-يبقى أكيد ده سبب الفضيحة إياها اللي عملتيها عند الدكان.
استلذت "بثينة" تذكيره بتلك الحادثة العرضية، وفكرت في استغلال تلك الفكرة، وتطويعها لأهوائها الخبيثة، لذا جارته في أقواله مؤكدة له:
-مظبوط يا "محرز"، مخلصوش إنها عرفت، وبتحاول تحابي على جوزها وبيتها، قام مبهدلها وضاربها، وعدمها العافية، ده لولا ستر ربنا كانت راحت فيها.. وعمك "بدير" حاول يلم الليلة، بس ولا همه! طايح في الكل.

سبه بنزقٍ:
-إخص .. طلع (...)!
توحشت نظراتها، وغلفها الإظلام حين نطقت بغتةً:
-أنا عاوزك تجيبه راكع لحد عندي، يرجع ندمان، ومايقدرش يرفع عينه فيا.
مط فمه قليلاً، ليبدو كما لو أنه يفكر مليًا في الأمر، صمت للحظات استغرق فيها في التفكير العميق، واستطرد بزفيرٍ متمهل:
-وماله .. نشوفله سكة...
توقف للحظة عن الكلام ليحوز على كامل انتباهها، ثم عاود المتابعة بعدها:
-بس أنا طريقتي مش هاتعجبكم.

ردت دون تفكيرٍ:
-اعمل اللي إنت شايفه صح.. اكسره! وجيبه مذلول!
تقوست شفتاه عن ابتسامة وضيعة، وعلق وهو يمسح على صدره:
-ماشي.. عز الطلب، بس الحكاية هتتكلف شوية فلوس!
سألته بنظراتها المترقبة:
-أد إيه يعني؟
راوغها في الرد، وقال:
-هاحسبها وأقولك.
على الفور أضافت لتشجعه:
-أقولك ابقى اخصمهم من الإيراد الجديد، مش خسارة في بنتي.

تهللت أساريره وبرقت عيناه بخبثٍ شيطاني، ثم أومأ برأسه محذرًا بلهجة شبه صارمة:
-اتفقنا .. بس مش هاتكون في ساعتها! آه، مش عايزين حد يشك فينا.
لم تجادله على الإطلاق، وردت بإذعانٍ تعجب منه:
-ماشي، طالما هتعمل المطلوب.
رفع كفيه للأعلى مرددًا في انتشاءٍ غريب:
-الاعتماد على الله، نقرى الفاتحة على روح "تميم"؟!
ابتسمت "بثينة" هي الأخرى، وقالت في استحسانٍ:
-نقراها .. ونطلع القرافة على روحه كمان!

مضت عدة أيــــام وقرر خالها اصطحاب العائلة والسفر –دون ترتيب مُسبق- لبلدتهم الريفية بحجة قضـــاء بضعة ليالٍ هناك كنوعٍ من تغيير الأجواء الخانقة في المدينة بأخرى أكثر هدوءًا؛ لكن الغرض الحقيقي بقى غير معلومٍ بالنسبة لـ "فيروزة" تحديدًا، حيث شددت "حمدية" على زوجها بعدم البوح لابنة أخته بمسألة الخطبة المزعومة تحت أي ظرف إلا في حضور عمها الكبير، ليتولى الأخير تكاليف تلك الخطبة بالكامل، وأيضًا لتقضي على أي احتمالية لرفضه، خاصة بعد التأكد من وضعه المادي المريح.

نفضت "فيروزة" الغبار العالق بالأغطية الموضوعة على الأثاث في الردهة الواسعة، وأعادت طيها تمهيدًا لغسلها لاحقًا، بينما تولت والدتها مهمة كنس الأرضية المليئة بالأتربة وبعض الأوساخ الصغيرة، في حين ادعت "حمدية" إرهاقها من مشقة السفر وهربت من التزاماتها، ولم تقدم يد العون لكلتيهما، بل على العكس زادت من إنهاكمها بترك أولادها في رعايتهما ريثما تغفو. تذمرت الأولى من عناء ما تبذله من مجهود منذ اللحظة التي وطأت بها منزلها بالبلدة، وقالت بحنقٍ مفهوم:
-بجد معندهاش دم، يعني هي تعبانة واحنا بصحتنا؟ ما الحال من بعضه، وكلنا مهدود حيلنا.

ردت عليها بتنهيدة مرهقة وهي تمسح حبات العرق من على جبينها بظهر كفها:
-اعتبريه بثوابه يا بنتي.
تنمرت على تساهلها معها، وهتفت بحديةٍ:
-مش كده يا ماما؟ طب تاخد بالها من عيالها، يعني حرام بجد كل حاجة فوق دماغنا، دي ولا اللي على رجليها نقش الحنة.
كانت تعلم أنها محقة في تذمرها، لكنها وعدتها بإنجاز الأعمال، وبالتالي سقط كامل العبء عليها، تنهدت على مهلٍ، ورددت:
-مش عارفة أقولك إيه!

أضافت "فيروزة" بضيقٍ تعاظم بداخلها، لعدم اتخاذ والدتها أي موقف حاسم، حتى في أبسط المسائل:
-وطبعًا هاتقوم من النوم جعانة، ولازم تلاقي المحمر والمشمر وآ...
قاطعتها "آمنة" بنبرة متحمسة؛ علها تخفف من وطأة انزعاجها:
-من الناحية دي متقلاكيش، مرات عمك محلفاني ما أطبخ حاجة، هي مجهزلنا وليمة كبيرة.. إنتي عارفة هي بتحبنا.

ورغم حنقها إلا أن التطرق لسيرة تلك السيدة الطيبة جعل ملامحها تلين قليلاً، فهتفت تثني على صفاتها الكيسة:
-والله ما في زيها، ربنا يباركلها، عمرها ما قصرت معانا أبدًا.
تحولت نبرة والدتها للأوامر وهي تتابع:
-يالا شهلي عشان نلم الصالة أوام، عشان لسه كومة الغسيل اللي أد كده.
صاحت في غيظٍ:
-دي أشغال شاقة، مش رحلة أبدًا!

نهرتها بابتسامة لطيفة:
-بلاش لكاعة يا "فيرو".
تحول وجهها لكتلة من الحمم الحمراء تذمرًا على ما قالته، وهتفت من بين أسنانها المضغوطة:
-كل ده وبأتلكع؟ إنت شايف يا رب بأعمل إيه!!!

ختمت فريضتها بخشوعٍ، وجلست على مصليتها لبعض الوقت، تدعو الله بصلاح الحال، ودرأ المفاسد عنها، وعن عائلتها. لم تنتبه "همسة" لزوجها الذي كان يقضم ثمرة التفاح، ليسد جوعه المؤقت، وما إن رأها الأخير على تلك الوضعية، حتى تدلى فكه السفلي في صدمة فرحة، وهتف يسألها عاليًا وهو يقترب منها:
-إنتي بتصلي؟

نزعت عنها إسدالها، وأجابته مبتسمة، وبعفوية تامة:
-الحمدلله، هاروح أشوف الأكل اللي على النار وآ....
سد عليها الطريق بجسده محتجًا، وقد ألقى بالثمرة خلف ظهره:
-مش وقت أكل خالص، ده أنا مصدقت إنك بقيتي تمام.
فهمت تلميحه المتواري، واتسعت عيناها قلقًا، شعرت باضطراب عظيم يغزو جسدها، بانتفاض حواسها. تراجعت تلقائيًا للخلف، ورفعت إصبعها أمام وجهه تحذره:
-بص يا "هيثم"، أنا مش جاهزة، اديني وقتي.

حُصرت عند الزاوية، لا مهرب لها، خاصة مع اندفاع زوجها نحوها، قبض الأخير على رسغها يسحبها منه ورائه وهو يقول:
-اشتري وخدي مني، مش هتخسري حاجة
قاومته قدر المستطاع متسائلة في حيرة:
-أشتري إيه؟
استدار برأسه نحوها يرمقها بنظراتٍ نهمة مليئة بالرغبة، وغمز لها قائلاً:
-ودي يا "هموس"، يالا يا عسل.
حاولت عرقلة خطواته، وإبطاء سرعته، محتجة عليه بارتباكٍ كبير:
-كده مش هاينفع خالص.

أصر عليها بلطافته الزائد:
-صدقيني هاينفع، جربي بس.
ألحت في اعتراضها:
-لا يا "هيثم"
عبس بتعابيره موضحًا لها، بما يشبه المزاح:
-"هموس" شوفي البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل.

انتشلت يدها من قبضته والغيظ متمكن منها، رمقته بنظرة حادة قبل أن توبخه:
-نعم؟ بضاعة ، لأ ماسمحلكش، إنت كده بتغلط فيا.
تشكل على ثغره ابتسامة عريضة أظهرت نواجذه، وقال وهو يحاوط خصرها الرشيق بذراعه :
-حاشا لله، ده إنتي فرز أول يا "هموس".

أراح ظهره للخلف وهو مازال محدق بمشبك الرأس الذي بين أصابعه، فمنذ انتقاله للإقامة بمنزل أبويه، وقد شعر "تميم" بأنه تخلص من العبء الكبير الذي أضنى قلبه. ابتسم لتصميم الطاووس اللامع في يده، انعكس بريقه المغري في حدقتيه، فبدا كبلورة سحرية. كان تسليته المؤقتة، مجرد التطلع إليه يأخذه لفضاءات خيالية، يُعايشها بعقله ضمن أحلام يقظته، في بعد آخر من الزمن، عنه مشبكًا تقليديًا للرأس.

انقضت عدة أيام على انتهاء كابوس زيجته بابنة خالته، وإن ظلت رواسب تلك الزيجة الفاشلة تنغص عليه أوقات خلوته، فوالدته لا تكف عن لومه، ولا عن تذكيره باندفاعه الأهوج لتخريب حياته دون أسباب مقنعة تكفي لإخراس صوت الضمير الحي بداخلها، فكل ما علمته منه أنه لم يعد قادرًا على إكمال القادم من حياته معها.

بدت "ونيسة" ناقمة على أنانيته، واتهمته بالإجحاف في حق تلك المظلومة البائسة، التي تحمل في أحشائها جنينًا لا يعرف مصيره بعد. لم يكترث لظنون والدته، تركها تحمله الذنب كاملاً، المهم ألا يعود بأي حال لتلك الشخصية المنفرة. شــرد بتفكيره في "فيروزة" مجددًا، ورغم ما يكنه الفؤاد من مشاعر تنبض نحوها بقوة، إلا أنه كان مؤمنًا بعدم وجود فرصة له معها؛ وإن بدت الظروف حاليًا مهيأة قليلاً.

فمثلها يستحق الأفضل، أن تكون حياتها الزوجية مع شخص جدير بها، لا مع واحد مثله يحمل ماضيًا سيحرجها حتمًا، بالإضافة لاحتمالية رغبتها في الارتباط بشخص لم يسبق له الزواج، وعلى شاكلتها. بدت لوهلةٍ بعيدة المنـال، صعبة التحقيق، حتى أحلامه رغم بساطتها غلفها الفشل.
شتت تفكيره عنها، وألقى نظرة أخيرة على المشبك قبل أن يضعه بمكانه بداخل الكومود. اعتدل في رقدته المسترخية على الفراش، حين سمع والدته تناديه من الخارج:
-الأكل جاهز على تربيذة السفر.

رد "تميم" وهو يخفض ساقيه:
-حاضر يامه.
دار حول فراشه، وهندم من ثياب العمل التي لم يبدلها بعد، ثم اتجه إلى باب الغرفة، أدار المقبض، وخرج مبتسمًا ليجد والدته ترمقه بنفس النظرات اللائمة المليئة بالعتاب، حافظ على ثبات بسمته، وسألها؛ وكأنه لم يفعل ما أزعجها قط:
-طابخة إيه يا ست الكل؟
تنهدت قائلة بقنوطٍ، ودون أن تخبو تكشيرتها العظيمة:
-هو حد ليه نفس للأكل ولا الطبيخ بعد اللي حصل؟ ده الناس في الحتة كلوا وشي!
سألها ببرود أقرب للمزاح:
-طيب احنا هناكل إيه؟

لوحت بيدها وهي تجيبه:
-جبنة وعيش.
هلل في حبورٍ استفزها:
-رضا
اشتدت قبضتها على ذراعه الذي أمسكت به، استطاع أن يرى ترقرق العبرات في مقلتيها وهي تلومه:
-مش حرام عليك يا ابني ترمي مراتك واللي في بطنها كده؟

بالطبع لم تتوقف خالته أو ابنتها عن إلقاء كامل اللوم عليه، وتبارعت الاثنتان في الظهور بمظهر الضحية المضطهدة، على عكسه هو؛ الظالم، الجاحد، المتبلد في مشاعره. برفقٍ استل "تميم" ذراعه من يدها، وقال بنبرة متجهمة، وقد انقلبت تعابيره للعبوس:
-أنا راجل مفتري.
انخرطت في نوبة بكاءٍ جديدة مواصلة عتابها:
-وأخرت الظلم والافتراء ده إيه؟ يا ابني خاف ربنا، وخاف من دعوة المظلوم.

كور "تميم" قبضته في غضبٍ بدأ في الاندلاع بداخله، شعر بصدره يحترق من كم تلفيق الحقائق لخداع والدته الساذجة، والتي على الفور اتخذت موقفًا معاديًا له. التفت نحوها ليرمقها بنظرة قوية صارمة قبل أن ينطق بجفاءٍ:
-يا ستي هي تستاهل الأحسن مني، ولما تخلص عدتها تبقى تتجوز، معنديش مانع.
اتسعت عيناها في صدمة، وضاعفت من لومها له قائلة:
-للدرجادي عاوز الغريب يربي ابنك ولا بنتك؟

هتف محتجًا، وقد انتفضت عروقه الغاضبة بقوة:
-ومين قال كده؟ اللي في بطنها هيتربى معايا، مش هاسيبها للـ....
تدارك لسانه قبل أن ينعتها بكلمات نابية، ونفخ في حنقٍ ليثبط ثورته، ثم صحح على عجالةٍ:
-مش هاسيبوه ليها يامه.
عادت لتلومه بشدةٍ ضاغطة على أعصابه المستثارة:
-وكمان عايز تحرم أم من ضناها؟ إيه الجبروت ده؟
-لا إله إلا الله!!!!

أدرك "تميم" أن والدته تدفعه للخروج عن شعوره بدفاعها المستميت عن تلك المرأة غير المؤتمنة، لوهلة لام نفسه لأنه أخفى الحقيقة عنها، لكنه قطع العهد على نفسه ألا يجعل من شخصه أضحوكة بالتطرق لما يخص أسرار الحياة الزوجية في غرف النوم المغلقة، وتصبح خصوصياته مُباحة لألسن العامة. أبعد عينيه اللاتين تقدحان بالشر، وقال بصوتٍ مختنق:
-بأقولك إيه يامه، أنا نازل ..

سألته على مضضٍ؛ وكأنها تؤدي واجبها الأمومي فقط:
-والأكل؟
رد بتبرمٍ ويده تستريح على المقبض:
-ماليش نفس.
لم تكترث له، وقالت:
-اللي يريحك.

انزعج من معاملتها الجافة معه، وانصرف كابتًا غضبه المشتعل ليهبط الدرجات عدوًا، فلا داعي للتشاجر مع والدته، وهي تجهل كافة الحقائق المؤسفة، وإلا لأحدثت القطيعة مع شقيقتها الحرباء الخبيثة. استوقفه رنين هاتفه عند مدخل البناية، أخرجه من جيبه، وحدق في اسم المتصل، دون ترددٍ أجاب متصنعًا الهدوء:
-أيوه يا "منذر"، لا أنا تمام، خير في حاجة؟

أتاه صوت الآخر قائلاً بلهجة شبه جادة:
-كل خير، أنا بأتصل أعزمك على كتب كتابي.
تعقدت تعابيره مرددًا في اندهاشٍ متعجب:
-كتب كتابك؟
ضحك "منذر" متابعًا:
-أيوه يا عم "تميم".
لاحقه الأخير بسؤاله:
-وده إزاي حصل؟ مش احنا كنا مع بعض في فرح الواد "هيثم"؟

زفـر "منذر" الهواء دفعة واحدة قبل أن يوضح:
-كل حاجة جت بسرعة.
رد في استحسانٍ:
-وماله.. خير البر عاجله.
دعاه رفيقه مشيرًا لمدى عمق صداقتهما:
-وبعدين إنت مش محتاج عزومة يا "تميم"، ده إنت صاحب بيت.
علق يمدحه في فخرٍ:
-طبعًا يا "أبو الرجولة"، ده إنت أخويا وعِشرة عمر، ومتأخرش عنك أبدًا.
شكره بابتهاجٍ:
-حبيبي يا "تيمو".

واصل "تميم" القول، وطيف "خلود" المزعج يلوح في مخيلته:
-وربنا يتمملك على خير، المهم تكون بنت ناس، وأصلها طيب، أوعى المظاهر تخدعك، مش عايزين حد يكدرك بقية حياتك، كفاية الخبطة الأولى.
ضحك عاليًا ليرد بعدها بصعوبة:
-من الناحية دي اطمن، أخوك ناصح.
ابتسامة باهتة احتلت شفتيه وهو يعقب:
-على خيرة الله.

أضــاف "منذر" بصوته الجاد ليؤكد عليه:
-أنا هابعتلك العنوان عشان احنا عاملينه عند قرايب الجماعة.
نظرة شاردة مهمومة ألقاها "تميم" على العُلية، ربما في دعوته وسيلة جيدة للهروب من الضغوطات التي تحاصره بها والدته، تنهد يقول حاسمًا أمره:
-إن شاءالله يكون في المريخ.. أنا جايلك ...!!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني الحلقة السادسة عشر بقلم منال سالم


أصرت على تبديل ثيابها المنزلية العادية بأخرى أكثر إغراءً، تصلح لليلتها المؤجلة، انتظر "هيثم" على جمرات متقدة، متلهفًا لرؤية زوجته الفاتنة، وتعمدت الأخيرة التباطؤ في الخروج من الحمام لإكساب نفسها المزيد من الثقة، والتغلب على الرهبة الغريزية الخاصة بتلك الأمور الحميمية. طــال غيابها، وضجر العريس المتلهف من كثرة الانتظــار، فتخلى عن رقدته المترقبة بالفراش ليذهب إليها عند الحمام، دق بابه متسائلاً بأنفاسٍ جاهد لتبدو أقل حماسًا:
-"هموسة"، إيه يا حبيبتي؟ إنتي هتباتي جوا؟


 
أتاه صوتها معتذرًا:
-سوري.. إديني وقتي وهطلعلك.
احتج على مماطلتها مرددًا بتبرمٍ مازح:
-وقتك إيه بس.. ما أنا قاعد على الدكة بقالي كذا يوم ..


 
رفع يده استعدادًا لطرق الباب مجددًا، لكن قبل أن تصل يده للكتلة الخشبية، فتح من تلقاء نفسه، وأطلت عروسه الجميل بثوبٍ حريريٍ من اللون الأبيض، غطى كامل جسدها، فيما عدا صدرها وكتفيها؛ فقد كان مكشوفًا بشكل يحفز المشاعر الكامنة على التحرك بإثارة ورغبة. توهجت عيناه بمزيد من الشوق والتهلف، بالكاد تجزم أن لعابه قد ســال لرؤيتها متضرجة بحمرتها الخجلة، ونظراتها المليئة بالحياء. التوت شفتاه عن ابتسامة عريضة، وهتف يتغزل بها:
-ماشاءالله على الجمال.. ده إيه ده؟!

توترت من تغزله الصريح، وحاولت إخفاء مفاتنها المغرية بعقد ساعديها أمام صدرها، لم تنظر نحوه وهي ترد باقتضابٍ خافت:
-شكرًا.
التف ذراعه حول خصرها، ليضمها إلى صدره، ويشعر بدفء بشرتها على جسده، ثم همس لها وهو يحني رأسه على وجنتها ليقبلها:
-ده أنا عندي كلام كتير هاقوله للصبح.


 
رجته بقلقٍ لم تستطع التغلب عليه:
-بالراحة ممكن.
قال دون أن تفتر ابتسامته:
-ده احنا على أقل من مهلنا.
نظرة أخرى استقرت على منحنياتها اللافتة، وقال بتشوقٍ أكبر، وأصابعه قد اتخذت دورها في مداعبة مشاعرها:
-هو أنا ورايا إلا إنتي يا "هموس".

أطلقت زغرودة مبتهجة بمجرد أن أطلعتها ابنتها على إتمام مراسم زيجتها، لم تتمكن "آمنة" من إخفاء مشاعرها الأمومية الفرحة لإثبات طهر وعفة ابنتها، خاصة لكون تلك المسألة مرتبطة بسمعة وشرف العائلة. استراح صدرها، وانعكست غبطتها على تعبيراتها، فازدادت إشراقًا. اقتربت من "سعاد"، وأخفضت رأسها عليها لتعلمها بالأمر، شاركتها الأخيرة أيضًا في فرحتها، وربتت على كتفها قائلة بابتسامة نضرة:
-عقبال نهار فرحتنا بـ "فيروزة".


 
رد بوجه ضاحك:
-يا رب يا "سعاد"، وتكوني إنتي واقفلها.
على الفور هتفت دون تفكير:
-طبعًا، دي الغالية عندي.

في تلك الأثناء، وكعادتها المتلصصة، رأتهما يتهامسان في خفوت، فاشرأبت بعنقها للأعلى لتلمح الاثنتين تثرثران بضحكٍ خجل. استثار الأمر حفيظتها، وبعجرفة لا تليق بها اقتحمت "حمدية" المطبخ لتتطفل عليهما؛ لكنها لم تفهم ما يتحدثان عنه بصوتهما الهامس، بدا حوارهما كالألغاز. لاكت آخر قطعة من ثمرة الموز لتنتهي كليًا من التهام ما في طبقها، ثم ألقت بالبقايا في سلة القمامة، وضعت الصحن في الحوض دون أن تكلف نفسها عناء تنظيفه، وتساءلت بفضولٍ واضح، ونظراتها تحوم حول كلتيهما:
-بتتودودا في إيه كده؟

التفتت "سعاد" نحوها، وأجابتها بفرحة لا تقل عن رفيقتها الطيبة:
-باركي لـ"آمنة"، بنتها خشت على عريسها، وكله تمام والحمدلله.
لم يظهر الرضا على ملامحها، وقالت باقتضابٍ:
-كويس..


 
تفرست "سعاد" في تعبيراتها المتجهمة، وسألتها مباشرةً:
-هو إنتي مش فرحنالها ولا إيه؟
ابتسمت على مضضٍ، وأنكرت على الفور:
-لأ إزاي..
ثم تأوهت من الإرهــاق، وتعللت كاذبة:
-بس تلاقيني مش مركزة كده اليومين دول، حيلي مهدود من السفر، و"خليل" والعيال ما بيريحوش نفسهم.

من لا يعرف طبيعة شخصها الكسول، لاعتقد بالفعل أنها تفني كل مجهودها لأجل أسرتها؛ لكنها كانت أبعد عن ذلك بكثير. تجاهلت "سعاد" لغوها التافه، وقالت بما يشبه إملاء الأوامر:
-طيب يالا عشان نحط الأكل للرجالة، وبعدها نجهز لليلتنا التانية، لأحسن النهاردة وارنا حاجات كتير، والوقت بيجري بسرعة.
لم يمنع فضول "حمدية" من سؤال "سعاد" بوقاحةٍ:
-صحيح، إنتو اتحشرتوا ليه في موضوع بنت "رياض"؟


 
أجابت عليها الأخيرة بتمهلٍ:
-إنتي عارفة الحاج "اسماعيل"، طول عمره حقاني، مخلصوش اللي حاصل معاها، وبعدين ما هي زي بناته، مايخيرهاش عنهم.
لوت ثغرها مغمغمة بضيقٍ تلون به وجهها:
-أيوه..
دنت منها "سعاد"، وبادلتها ابتسامة صافية خالية من أي ضغائن، قبل أن تنطق:
-وعقبال ما يقف لولادك.

ردت "حمدية" بتكلفٍ، وامتعاضة صريحة على وجهها:
-إن شاءالله يا حبيبتي.
ثم رمقتها بنظرة حاقدة، لتبعد وجهها عنها، وهمست لنفسها في غلٍ ينبع في صدرها:
-يا بختك بيه، كان زماني مرات الكبير، والكل بيخدم عليا!

كلتاهما جلستا تتحدثان على انفرادٍ لبعض الوقت في غرفة خالية من الزحام، وبعيدًا عن الحركة غير الاعتيادية لأصحاب المنزل، أو حتى الضيوف القادمين للمكوث به. حظيت الاثنتان ببعض الخصوصية، فدفعهما ذلك للبوح بمكنونات القلب المتعب؛ حيث ربطت بينهما صداقة بعيدة، واحتفظت -رغم مضي العمر، وانشغال الجميع- بنفس الود، والمحبة، والتفاهم. مشطت "فيروزة" شعر رفيقتها بتمهلٍ بطيء، لتعطيها ذلك الدلال الرقيق الذي افتقدته، وتأملت انعكاس تعبيراتها الذابلة في المرآة. رأت ذاك اللمعان الخفي في حدقتيها، وربما طغى بريقه الغريب على الحزن المرسوم على ملامحها المهمومة، تركت المشط على التسريحة، والتفتت نحوها تهنئها، وعيناها تتطلعان إليها:
-مبروك يا "أسيف"، وربنا يتمملك على خير.

ابتسمت برقةٍ وهي ترد:
-الله يبارك فيكي يا "فيروزة".
تنهيدة بطيئة تحررت من صدرها قبل أن تعلقٍ:
-أنا مش عارفة أقولك إيه على موضوع البيت، قلبي عندك.
لمحة حزن أخرى طفت على صفحة وجهها، وتضاعف معها ذلك اللمعان المؤلم في عينيها، لحظات استغرقتها في الصمت، لتقطعه بعدها قائلة:
-الحمدلله..

ردت عليها "فيروزة" بنوعٍ من المواساة اللطيفة:
-كله بيعدي، وإن شاءالله اللي جاي يبقى أحسن.
عقبت عليها "أسيف" بقلبٍ ملتاعٍ يئن من آلام الفقد:
-صدقيني مافيش بعد الأم والأب أي حاجة تتعوض.
نكست رأسها قليلاً وهي ترد بصوتٍ بدا متأثرًا:
-معاكي حق...

قاومت "فيروزة" تلك الغصة التي اجتاحت حلقها، وحاولت تبديد الأجواء الحزينة بأخرى فرحة ومناسبة لهذا الطرف السعيد، فاستطردت قائلة باهتمامٍ:
-بس شكل خطيبك ده ابن بلد وجدع..
نظرت "أسيف" نحوها، وقالت ببسمة باهتة:
-ايوه..
أضافت عليها رفيقتها بنوعٍ من الغموض المُحير:
-بس أنا حاسة إني شوفته قبل كده.. يعني ملامحه مش غريبة عليا.

بمنطقيةٍ أوضحت لها "أسيف":
-هو بيتنقل من مكان لمكان، بيجيب بضاعة، بيودي شغل، ويستلم من كذا حتة.
ردت في تفهمٍ:
-ربنا معاه ..
ثم تشجعت لتسألها دون مراوغة:
-وعلى كده إنتي بتحبيه يا "أسيف"؟

برقت عيناها بوميضٍ لم يكن قلقًا، ومع هذا خجلت من منحها الجواب. لم تحاول "فيروزة" الضغط عليها لاستخراج الرد من بين شفتيها، لكنها استنتجت من صمتها، وتورد بشرتها وجود بعض المشاعر الودودة والإيجابية نحوه .. ابتسمت بلطفٍ لها، وأضافت مغيرة مجرى الحوار:
-ربنا يسعدك معاه، وعمتك وبناتها كويسين معاكي؟

تنفست "أسيف" بعمقٍ أولاً، أمهلت نفسها الفرصة لتعطيها ردًا محايدًا:
-يعني الوضع كان صعب علينا كلنا، أنا مش عارفاهم، وهما نفس الكلام، وأدينا بنتعامل.
تفهمت "فيروزة" اقتضابها في الحديث معها، فتلك طبيعتها الكتومة، لم تعتد على الإفصــاح عما يجيش في صدرها بسهولة، كانت والدتها الراحلة "حنان" الأقرب إليها، ومن قبلها كان والدها "ريــاض"، كما أنها لم تكن من النوع الاجتماعي المختلط بالآخرين، تحبذ غالبًا قضاء وقتها بصحبة أهلها إلى أن تبدلت أحوالها بين عشية وضحاها.

ظلت رفيقتها هادئة في تعبيراتها، وأضافت تشجعها:
-تمام .. أهم حاجة عندي تكوني مبسوطة ومرتاحة يا "سوفي".
ابتسمت قائلة لها عن رضا:
-الحمدلله.
عقدت "فيروزة" ذراعيها أمام صدرها، وتابعت القول بنوعٍ من التهكم:
-كويس إنكو هتعملوا كتب الكتاب هنا، بصراحة، ومن غير زعل كده، عم "فتحي" يتفاتله بلاد.
عاد الحزن ليحتل نظرات "أسيف"، أغمضت عينيها، وردت بزفيرٍ منزعج:
-ربنا يهديه.

أرخت صديقتها ساعديها، ووضعت يدها على كتفها لتضغطت عليها، ثم قالت بنوعٍ من التفاؤل:
-ماتقلقيش طول ما عمي "اسماعيل" موجود، وإن شاءالله هتبقى ليلة جميلة.
قالت مجاملة بابتسامة مقتضبة:
-يا رب.. بس كان نفسي أشوف "همسة".

ضحكت "فيروزة" وهي توضح لها سبب غيابها:
-عروسة جديدة بقى، وإنتي كمان هتحصليها أهوو.
عمقت "أسيف" من نظراتها نحوها، وقالت بما يشبه التمني:
-عقبالك يا "فيروزة".
على عكس المعتاد من معظم الفتيات لم تنشغل بأمر البحث عن الزوج المناسب كثيرا، أو حتى تهتم بحدوثه من عدمه، كانت غير مبالية بذلك، تفكيرها يؤرقه أمورًا أهم من هذا، لذا هتفت تشكرها بشكلٍ روتيني:
-تسلمي يا حبيبتي.

بدا الهروب من حلقة الضغط النفسي هو الحل المتاح حاليًا، للحصول على قسطٍ من الراحة العقلية، قبل أن يعود لهمومه المتكالبة عليه. لم يأبه "تميم" بمشقة السفر المفاجئ، واستقل سيارته قاصدًا البلدة التي دُعي إليها. كانت الطرقات غير معبدة تقريبًا حين وصل إليها؛ أغلبها رملي تثير الأغبرة في الجو حين تتحرك العربات عليها، أو ضيقة نسبيًا، تكفي لمرور سيارة واحدة ذهابًا، وأخرى إيابًا؛ لكنها تمرق بين الزراعات المشبعة بالخضرة النضرة، والباعثة بالسرور على النفس.

توقف في فسحة متسعة، يبحث عن أحد المارة، ليستعلم منه عن وجهته. أطل برأسه من النافذة، وحركها في الجانبين بغير هدى. في نفس الأثناء، مرت "حمدية" على مسافة قريبة منه، لمحته دونًا عن غيرها وهي تتهادى في خطواتها. كانت سيارته مميزة، وفي نفس اتجاهها، اقتربت بتؤدة منه لتتأكد من هويته. لم تتفاجأ بوجوده، وهللت عاليًا لتفلت أنظاره إليها:
-الله! ده المعلم "تميم" بنفسه هنا!!

استدار الأخير في اتجاه مصدر الصوت الأنثوي، علامات الاستغراب ارتسمت على محياه حين رأها، وقال بدهشةٍ لم يكلف نفسه عناء إخفائها:
-إزيك يا حاجة؟ إنتي بتعملي إيه هنا؟
اعترضت على اللقب الذي منحه لها، وصاحت بتذمرٍ منزعج:
-أنا مش حاجة ياخويا، أنا لسه صغيرة .. في دور إخواتك يا معلم.
لاحت على زاوية فمه ابتسامة تهكمية، واعتذر على مضضٍ:
-لا مؤاخذة .. مقصدش.

باغتته بسؤاله مباشرة دون تمهيدٍ:
-قولي إنت جاي هنا ليه في بلدنا؟
ضاقت عيناه باستغرابٍ، وهو يردد:
-بلدكم؟!
أكدت عليه باقتضابٍ:
-أيوه..
لكن ما لبث أن أسهبت في الحديث موضحة:
-لأحسن يكون "خليل" عزمك على قراية فاتحة البت "فيروزة"، مالوش حق، ده معرفنيش إنك جاي!!

هبطت الكلمات على رأسه كالصاعقة، تصلب في مكانه للحظة فاقدًا قدرته على النطق أو الحركة، حملق فيها بعينين متسعتين في اندهاشٍ غير مسبوق، لكن ما علمه بمحض الصدفة وخز قلبه بشدة، وحز فيه بألم مهلك لم يختبر شدته مُسبقًا، انفرجت شفتاه متسائلاً بصوتٍ شبه مختنق:
-هي.. هتتخطب؟
أجابته بنوعٍ من السخرية:
-أيوه.. أومال كلنا ملمومين هنا ليه برابطة المعلم؟!

ثم أطلقت ضحكة هازئة متوقعة أن يشاركها التعليق، لكن خالف حدسها، وبقي صامتًا. لاحظت "حمدية" الوجوم المستريب الذي كسا تعابيره بشكلٍ غريب، رمقته بنظرة فضولية متفرسة، وهنا تداركت حقيقة الأمر، ليس لديه معرفة سابقة، ولذا عبرت عما يدور في عقلها مرددة:
-باين معندكش خبر..
حاول "تميم" ضبط حالة الإحباط التعسة والمؤلمة التي حلت عليه، وقال بوجهٍ حزين منطفئ:
-لأ.. وربنا يتمم على خير.
ولأنها سمة تختص بها عن غيرها، تساءلت "حمدية" بسخافة، وكامل نظراتها عليه:
-مقولتليش جاي ليه؟

لم يكن يملك من الطاقة الكلامية حاليًا ما يجاريها في قدرتها على جذبه للحوار، فَقَد رغبته في كل شيء، أظلمت عيناه، وغامت تعبيراته، حتى ما كان يتمتع به خلسة في خيالاته غير المرئية من أحلام أصبح من المحرمات عليه، ليتلاشى ما احتفظ به بينه وبين نفسه من مباهجٍ لا تخصه، لتتحول حياته للمزيد من البؤس والحرمان. تباعدت عيناه عن نظراتها التي تتفحصه، وأجابها بصوتٍ غلفه التوتر:
-دي زيارة على السريع بخلصها هنا مع جماعة حبايبي.

ألحت عليه بفضولها:
-مين يعني؟ أنا أعرف كل بيت هنا.
لم تكن لتتركه يبتعد دون أن تحظى على الرد الذي يشبع فضولها، كانت من ذلك النوع الذي لا يكل أو يمل، أو حتى يشعر بالحياء. نفخ في سأمٍ، ورد باقتضابٍ:
-بيت الحاج "اسماعيل".
هتفت بحماسٍ:
-ده نسيب "خليل" جوزي...

لم تمنحه الفرصة للاختيار، بل فرضت نفسها عليه وهي تتابع:
-خدني في سكتك يا معلم "تميم"، وأنا هوريك البيت، شكلك تبع فرح قريبة الحاج "فتحي"، ما هو كتب كتابها النهاردة على واحد مجدع كده.
وجودها المستفز زاد من حالة الاختناق المطبقة على صدره، ومع هذا لم يكن أمامه مهرب منها، لذا باستسلامٍ يائس قال:
-اتفضلي .. ما أنا معرفته.

استقرت في المقعد المجاور له بعد أن أغلقت باب السيارة خلفها، ابتهجت أساريرها مرددة في حماسٍ، لم يزده إلا آلمًا وقهرًا:
-مين يصدق جوازتين في ليلة واحدة.
تضاعفت وخزات قلبه المميتة، وانعكست آثارها على تقلص عضلات وجهه، اشتدت عروقه، واختنقت الدماء بها. بحركة غير ملحوظة من يده، رفع "تميم" ذراعه للأعلى قليلاً، وقربه من وجهه، ليمسح بإصبعه طرف عينه الذي حبس تلك العبرة الخائنة المتسللة إليه، حزنًا وكمدًا على خسارة ما لم يملكه يومًا...

عُرف عن الألم الجسدي بزوال آثاره مع مرور الوقت، أما ألم الروح؛ فقلما يتم التعافي منه! بصعوبة بالغة استهلكت بقايا ثباته الزائف، كافح "تميم" في حضور "حمدية" السقيم ليخفي ما عصف بصدره من حزنٍ أمات قلبه النابض، آه لو أطلع أحدهم على روحه المتآكلة، لأدرك مدى العذاب الذي يعانيه الآن! غلف ملامحه بقساوة خارجية، ونظراته بجمودٍ مصطنع، حتى لا يُرى ما بهم من قهر يفتك بجوارحه. ومع ثرثرتها الزائدة عن ترتيبات الخطبة المزعومة من قبل زوجها،

انفرطت آخر حبات عقد أمله الميؤوس منه، وتأكد عن ظهر قلب بأنها لم ولن تكون له يومًا. أوصلته "حمدية" عند منزل الحاج "اسماعيل"، ترجلت من السيارة قبل مسافة لا بأس بها، وتولى مهمة صفها عند بقعة خاوية، على مقربة من ذلك السرادق المقام على مرمى العين. استطاع أن يتبين رفيقه وسط الضيوف المتزاحمين، دنا من "منذر" الذي تزين في أبهى ثيابه، لتليق بهذه المناسبة السارة، وهنأه على عقد قرانه. سأله الأخير باهتمامٍ، ونظراته تتجول على ملامحه الواجمة:
-ها عرفت توصل بسرعة، ولا قابلت مشاكل في السكة؟

ابتسامة مرسومة بالإجبار على محياه، كانت وسيلته المؤقتة، لدفن أحزانه في الأعماق، حافظ عليها "تميم"، وأجابه بهدوءٍ:
-الطريق تمام يا "منذر"، بس فجأة كده قررت تتجوز؟
جاوبه "منذر" بصوتٍ انخفض قليلاً:
-شوية حاجات حصلت كده عجلت بالموضوع.
هتف مجاملاً، ودون أن تظهر رغبة واضحة عليه في معرفة التفاصيل:
-ربنا يتمم بخير..

تفرس أكثر في تعابيره المهمومة، وسأله:
-شكلك مش فرحان؟
تعلل كاذبًا:
-لأ إزاي .. ده بس إرهاق السفر.
-تمام.

قالها "منذر" وهو يصطحبه للداخل ليجلس وسط المدعوين من أهل البلدة، وأقرباء العريس ومعارفه. كان ممتنًا لبقائه في معزل عن البقية بالرغم من الصخب المحيط به؛ لكن لا شيء يُقارن بالصراخ المكتوم المتألم المنطلق بين جنبات نفسه. عــاد إليه "منذر" ليقف إلى جواره متسائلاً:
-الحاج "بدير"، والحاج "سلطان"، وباقي العيلة بخير؟

قال وهو يومئ برأسه:
-كلنا في نعمة .. تسلم على سؤالك.
جالت نظرات "تميم" على الوجوه المألوفة التي التقاها من قبل في حفل زفاف ابن خالته، دفعه ذلك للسؤال بجديةٍ:
-بأقولك يا "منذر"، هو إنت تعرف نسايب "هيثم" منين؟
أحنى الأخير جزعه عليه، وأشــار له بعينيه قائلاً:
-شايف اللي قاعد ناحية الشمال ده.

تساءل في حيرة وهو يركز نظره على كلٍ من "اسماعيل" و"فتحي":
-أنهو واحد، اللي قالب سحنته ولا التاني اللي بيتكلم مع آ....
قاطعه بصوت أجش رغم خفوته:
-لأ الأول، اللي اسمه "فتحي".
رفع "تميم" أنظاره نحوه، وسأله:
-ماله بقى؟

على مضض أجابه:
-ده قريب الجماعة، ابن خالة أمها، وبعيد عنك شخصية ما يعلم بيها إلا ربنا، سواد من برا وجوا، مايتوصاش في الغل والحقد.. عمل أفلام وحركات عشان ياكل حق الغلبانة قريبته.
كان وصفه دقيقًا عنه، حتى أن قسماته عكست بُغضه الظاهري بوضوح، فتساءل في غرابة:
-طب وعملت معاه إيه؟

غمز له رفيقه في ثقة قبل أن يرد:
-عيب عليك، ده أنا "منذر طه حرب"، وإنت عارفني في الحق زي السيف، معرفش أبويا.
ربت على كتفه قائلاً بزهوٍ لا يقل عنه:
-أبو الرجولة كلها يا عمنا.
خفف حضور "منذر"، ومرحه الذي مزج بين الجدية والهزل من وطــأة الأحزان الجاثمة على قلبه، هكذا خدع نفسه ليلتهي مؤقتًا عما أهلك روحه .. وظل بالقلب نبضة أخيرة، تتلهف بتوقٍ رهيب لرؤيتها –ولو للحظة- قبل أن تصبح مستحيلة للأبد.

تلفت حوله بتوترٍ، وهو يدقق النظر في الطريق الذي امتد على مرمى البصر، متفحصًا عن كثبٍ، كل مَركبة تعبر من جواره. أراد الالتقاء به أولاً قبل أن ينتقل لمنزل "اسماعيل"، لوضع النقاط على الحروف، والتأكد من اتباعه للنهج الذي رسمه للظفر بابنة أخته كعروس. حرك "خليل" الهاتف المحمول على أذنه، ليتلقى إشارة إرســال قوية، واستدار برأسه للجانب وهو يقول بتلهفٍ:
-أنا واقفلك على أول الطريق أهوو ..

أتاه صوت "آسر" معلقًا عليه:
-خلاص شوفتك يا أستاذ "خليل".
أنهى المكالمة الهاتفية معه ليجد إحدى السيارات تقترب منه، لمح يد "آسر" وهو يخرجها له من النافذة ليلوح له بها، تنحى للجانب مفسحًا المجال لإيقاف السيارة على جانب الطريق، صفها على مهلٍ، وترجل منها ليلتقي بمُضيفه الذي هتف مرحبًا به:
-حمدلله على السلامة يا أستاذ "آسر".
قال وهو يحتضنه في ودٍ:
-الله يسلمك، ومافيش داعي للألقاب، احنا خلاص قربنا نبقى نسايب
رد في استحسانٍ:
-فعلاً..

ثم سأله مبديًا اهتمامًا مبالغًا فيه:
-ها، قولي البلد مش بعيدة عليك، مظبوط؟
أجاب بدبلوماسيةٍ استساغها الأخير:
-الطريق حلو، مسألتش كتير، وعرفت أوصل على طول.
غمغم "خليل" في حبورٍ:
-كويس.. تعتبر ماخدتش وقت من آخر مرة كلمتني.
ضاقت نظرات "آسر" بشكٍ وهو يسأله:
-وإيه الأخبار يا أستاذ "خليل"؟ في مشكلة لو فاتحت عمها وخطبتها النهاردة؟ هو مش عارفني وآ...

قاطعه مؤكدًا بما لا يدع أي مجال لإثارة الريبة:
-لأ.. اطمن، أنا مظبطلك الدنيا كلها، كلمت الحاج "اسماعيل" عنك من يومين، وهو بعت ناس تسأل عليك زي ما قولتي أروح فين، وعند مين، وطبعًا جيتك عنده عشان تتكلم معاه شخصيًا دي حاجة كبيرة، وهايقدرها.
التوى ثغره بابتسامة ممتنة وهو يعقب:
-شكرًا يا أستاذ "خليل"، حضرتك سهلتلي حاجات كتير.
هتف الأخير في خبثٍ، وتلك النظرة الماكرة تتراقص في حدقتيه:
-ما أنا يهمني مصلحة بنت أختي.

تنحنح مرددًا بنبرة ذات دلالة غامضة:
-مفهوم، وبالنسبة لموضوع التأشيرة لقريبك ده اللي كلمتني عنه أنا خلاص تقريبًا خلصتها، كلها كام يوم وهتبقى عندك.
انفرجت أساريره عن ابتسامة غريبة وهو يهلل:
-أيوه بقى، بشرني بالأخبار الحلوة..
مسح على كتفه مؤكدًا من جديد:
-اطمن، أنا عند وعدي.
تساءل "خليل" بجدية:
-والحساب هيبقى أد إيه؟
بسمة منمقة تشكلت على جانبي شفتيه حين أجابه:
-الحساب وصل .. عيب نتكلم في الحاجات البسيطة دي، احنا بقينا تقريبًا نسايب.

تحدث "خليل" في صوتٍ متحمس، جعل "آسر" أكثر ثقة عن ذي قبل:
-طبعًا، هو في زيك يا ابني، وأنا مش عايزك تقلق، موضوع "فيروزة" هيخلص على خير بأمر الله، وأنا عند وعدي.

في كل غضب الدنيا استدارت بثوبها البراق لتواجه والدتها، بعد أن أخبرتها بمجيء "آسر" لخطبتها دون علم مسبق منها. رمقتها "فيروزة" بنظرة نارية محتقنة، عبرت عن قدر محدود من الثورة المندلعة بداخلها، احتجاجًا على تقرير مصيرها بهذا التجاهل المستفز. هدرت مستنكرة فرض الأمر عليها، وهي تلوح بيدها:
-وإزاي محدش يقولي؟ أنا آخر من يعلم يا ماما؟!

بررت "آمنة" موقفها بتوترٍ ملحوظ في صوتها:
-يا بنتي أنا زيي زيك.. خالك مقاليش حاجة غير على آخر وقت.
صاحت بصوتها المتشنج تلوم خذلانها، حتى في أهم القرارات الحياتية:
-ده جواز يا ماما، مش فستان ولا جزمة جديدة عاجبته فجبهالي..
صمتت والدتها، ونظرت لها بأسفٍ مما زاد من غيظها، تصلبت عروقها، وتابعت صياحها الغاضب:
-والمفروض أوافق على اختياره.

قالت محاولة تهوين المسألة عليها:
-دي أعدة رجالة، هيتكلموا ويشوفوه .. ومافيش حاجة رسمي.
احتد صوتها وهي ترد:
-أنا مش "همسة"، مافيش حد يقدر يجبرني على حاجة مش عايزاها.
وضعت "آمنة" يدها على ذراعها، وقالت بترددٍ:
-طيب خلاص، أنا هاكلم عمك وآ....
وقبل أن تكمل عبارتها اقتحمت "حمدية" الغرفة لتقاطعها قائلة ببرودها السمج:
-يعني عاوزة تحرجي خالك قصاد الخلايق دي كلها؟ وتقللي منه؟ ما تبطلي أمور الجنان دي!

استدارت "فيروزة" لتصبح في مواجهتها، كانت الأخيرة تقف عند باب الغرفة الذي أغلقته من خلفها، تستند بظهرها عليه، وعلى وجهها تلك الابتسامة الباردة المليئة بالحقد. قست نظراتها نحوها، واشتعلت بحمرتها الملتهبة، ثم تقدمت ناحيتها لتصبح على بعد خطوتين منها، وهتفت فيها بعصبيةٍ:
-وهو خالي كان عملي حساب؟ ده ما يرضيش ربنا إنه يجوزني غصب عني!
ردت "حمدية" ببرود، وهي تتغنج بجسدها:
-ده مجرد تعارف.. مش حاجة يعني.
صاحت توبخها في غيظٍ:
-يا سلام، بأمارة ما جايبينه لحد هنا؟ بلاش الكلام الأهبل ده!

اعتدلت زوجة خالها في وقفتها، وحدجتها بنظرة جافية غير مبالية، ثم نطقت بسخافةٍ قاصدة إخراجها عن شعورها:
-وإنتي إيه اللي مزعلك؟ هو أنا اللي جيباه؟ ما هو من طرف صاحبتك إياها..
كزت "فيروزة" على أسنانها في حنقٍ ووالدتها ترجوها:
-خلاص يا "حمدية"، هي مش عايزاه، بناقص منه.
توحشت نظراتها، وردت:
-احنا جايين نهزر يا "آمنة"؟ ده جواز، وكلام رجالة.

استغربت شقيقة زوجها من حميتها الزائدة، وتحفزها لأمر تلك الخطبة بتلك الحدية؛ وكأنها مسألة مصيرية .. ومع ذلك لم يظهر انفعالها، وقالت لها:
-أيوه، بس بالاتفاق، مش بالغصب.
تقوست شفتا "حمدية" عن بسمة خبيثة، وعمدت إلى تزييف تفسير الأمور لتربك والدتها، وبالتالي لا تتخذ صفها، فقالت تتهمها بنفس الأسلوب المستفز:
-ما جايز يا "آمنة" قايلين لبعض من قبلها، عاملة الشويتين دول علينا، أل يعني بنتك المصونة في الحركات دي..

ثم غمزت لـ "فيروزة" بعينها خاتمة حديثها:
-يا بت اطلعي من دول، أنا فهماكي كويس.
جاء النفي من أعماق "فيروزة" مصحوبًا بصراخٍ رافض، لتدافع به عن نفسها:
-أنا مش كده يا مرات خالي، طول عمري واضحة ودوغري، ماليش في اللف ولا حركات البنات إياها، و"علا" صاحبتي ليا لي كلام معاها بسبب ده.. أنا مش هاسكت.
مدت "حمدية" يدها لتضرب كتفها عدة مرات، وقالت بجمود:
-وماله، اتعاتبوا، اتحاسبوا، اصطفلوا مع بعض، بس ده اللي حصل يا حلوة ...

ثم تعمدت التباطؤ في نبرتها وهي تستكمل:
-ولعلمك الموضوع دلوقتي بقى في إيدين عمك، يعني خالك مالوش دعوة، عمك "اسماعيل" صاحب الكلمة الأخيرة فيه.
وكأنها منحتها الحل السحري لكافة مشكلاتها، تسلحت "فيروزة" بشجاعتها النابعة من قوة شخصيتها، وتحدتها قائلة:
-سهلة! أنا هاطلع أتكلم مع عمي، وأقوله إني مش موافقة على العريس ده.

همّت بالتحرك، لكن أمسكت بها "حمدية" قبل أن تخطو للأمام خطوة أخرى، شدت على معصمها، وجذبتها بقوة للوراء، لتقول لها بعينين يملأوهما الحقد:
-اخربيها زي تملي، ده اللي بيريحك، ما هو إنتي غيتك تولعي الدنيا، لا ليكي كبير، ولا بتعملي اعتبار لحد.
استلت بعنفٍ يدها من قبضتها، وردت عليها بنظرات غلفها الكره:
-أنا حرة في حياتي.

نظرت لها بازدراءٍ وهي تنعتها:
-بدل ما تبقي عانس يا عين أمك، بايرة، لا تنفعي في جواز، ولا تنولي خلفة، الحق علينا بنعمل اللي فيه مصلحتك؟
انفجرت صارخة بها:
-ملكيش دعوة بيا، أنا مش زيك!
هنا ولج "خليل" للغرفة متسائلاً بوجهٍ متجهم وهو يدور بنظراته على ثلاثتهن:
-صوتكم عالي ليه؟
على الفور قلبت "حمدية" الطاولة على رأس الجميع، واتهمت ابنة أخته علنًا لتوغر الصدور:
-البت دي عاوزة تفضحك يا "خليل"..
استشاطت نظراته غضبًا، وتساءل بملامح نافرة:
-نعم تفضحني؟

ردت "فيروزة" نافية على الفور:
-لأ يا خالي الحكاية مش كده، ماتصدقش كدبها ده!
هتفت "حمدية" تعنفها بحدةٍ:
-أنا كدابة؟ سامع يا "خليل"؟ دي جزاتي عشان بأنصحك؟ وبأقولك بلاش تتبتري على النعمة اللي جيالك لحد عندك؟
تجاهلتها "فيروزة"، ووقفت قبالة "خليل"، لتقول له بأنفاسٍ هادرة:
-اسمعني يا خالي.. أنا مش هاتجوز أي حد بالطريقة دي، حتى لو كان العريس ملاك نازل من السما، صحيح اتضايقت إنك عملت كده من ورايا واتكلمت مع اللي اسمه "آسر" ده، بس أنا بأقولك أنا مش عايزاه، وهاروح لعمي أعرفه ده، وهو يتصرف معاه.

مجرد تلميحها الصريح بنيتها للجوئها لعمها لدعمها ونصرتها عليه، أصابه بالمزيد من الغضب نحوها، ليس لتجاوز سطوته التي أكد عليها لـ "آسر"، بل لإفسادها للمصالح السرية بينه وبين زوج المستقبل، أطبق على عنقها يخنقها منه، انحشرت أنفاسها في حلقها، وبرزت عينيها في ذهول صادم.. ضغط "خليل" بأصابعه أكثر على عروقها ليقطع الهواء أكثر عنها، وهو يهتف بغلٍ:
-إنتي إيه؟ جبروت! عاوزة تجبيلنا الفضايح حتى هنا كمان؟

تدخلت "آمنة" لنجدة ابنتها من بين براثنه، وبكت في حرقةٍ ترجوه، محاولة إبعاد قبضته عنها:
-سيبها يا "خليل"، هتموت في إيدك.
زاد من ضغطه الخانق على عنقها، وهو يتابع بتهديد عدائي:
-أنا مش هاعجز إني أموتك.. هادفنك حية ولا إنك تفضحيني قصاد أهل البلد.

قاومت "فيروزة" انقطاع أنفاسها بتشنجٍ، نجحت في تحرير نفسها، لكن بقيت آثار أصابعه القاسية على جلدها، لم تضعف أو تهتز، غالبت ألمها، ووقفت تواجهه باستبسالٍ جريء، رافضة خشونته وعنفه المفرط:
-فضيحة إيه بالظبط؟ هو أنا عملت حاجة حرام؟ خلي عمي يعرف، ويحكم بنفسه، وبأقولهالك يا خالي، أنا مش موافقة على البني آدم ده، هتدفني بالحيا عشان قولتلك لأ؟!

أطلقت جراءتها غير المرتاعة نوبة غضبه عليها، تلقت صفعة موجعة على صدغها، لم تكن قد استفاقت منها بعد، لتحصل على أخرى عنيفة جعلتها ترتد بترنحٍ نحو والدتها التي احتضنتها لتحميها من بطش شقيقها الغاضب، بالكاد نجت من عنفه الأعمى، نظرت له بكراهيةٍ، وهي تحاول الوقوف ثابتة أمام قسوته، وقبل أن تنطق مدافعة عن حقها، ونابذة كل محاولاته لردعها، وضعت "آمنة" يدها على شفتيها تكتم صوتها، توسلتها بانكسارٍ:
-خلاص يا "فيروزة"، عشان خاطري يا بنتي، ماتكلميش وهو في الحالة دي.

آلمها ضعف والدتها ورضوخها الدائم، استعطفتها الأخيرة بنظراتها الذليلة، فصمتت لأجلها مرغمة، ومع هذا رفعت عينيها نحو خالها تتحداه بصمودها. نظرات الشماتة الظاهرة في عيني "حمدية" كانت مستفزة لأبعد الحدود، وبكل برودٍ هتفت -من تلقاء نفسها- تستثير أعصاب زوجها عن قصدٍ:
-يا ساتر على نشوفية دماغها، عمالة اتحايل عليها من صباحية ربنا، وهي ولا عايزة تسمع لحد، أعوذو بالله من كُهن البنات، إيش حال ما كان العريس من طرفها؟
أشــار "خليل" بسبابته آمرًا:
-البت دي تفضل هنا ماشوفش خلقتها برا، تحبسوها في الأوضة دي لحد ما الليلة دي تعدي على خير.

ردت زوجته على الفور تؤيده:
-وماله يا خويا، اللي تشوفه، احنا مش ناقصين فضايح.
تابع ملقيًا أوامره على زوجته وشقيقته بصوته الأجش:
-متخرجش منها إلا في وجودي، سامعيني إنتو الجوز.. الخطوبة هتم قصاد الكل، بيكي من غيرك، هتحصل يا بنت "آمنة"!
ضربت "حمدية" على صدره مدعية خوفها عليه:
-اهدى بس يا "خليل"، كل اللي إنت عايزه هايحصل.

لم تكلف نفسها عناء إخفاء تشفيها فيها، ونظرت لها باستمتاعٍ حاقد قبل أن تتبع خطوات زوجها لتغلق الباب بالمفتاح. نفرت الدمعات المختنقة من عيني "فيروزة" التي دمدمت شاكية لأمها بصوتها المجروح:
-والله العظيم اللي بيحصل فيا ده حرام، ومايرضيش ربنا، هو بالعافية؟!

ذوى قلبه بألم لا يطاق في ضلوعه، وكأن أحدهم يقتلعه بشراسة غير آدمية، حين أبصر تعانق الأيدي بحرارةٍ، لمباركة الخطبة الجديدة، عقب قراءة الفاتحة، خلال مراسم عقد القران الخاص برفيقه "منذر". كان حاضرًا بجسده، مغيبًا عمن حوله، لم يظهر حتى طيفها بين الحضور ولو لمرة واحدة. رأى "تميم" والدتها بابتسامتها المنقوصة، زوجة خالها بنظراتها النهمة الطامعة؛ لكن طاووسه الأبيض أبى أن يمنحه نظرة أخيرة، غابت عن خطبتها، وتركته وحيدًا يعايش الآن حزنًا محتومًا، ومن نوع مختلف؛

ينهش في بقايا الروح، ويحيل القلوب الحية لحجارة صماء. دمعة أخرى غادرة فرت من عينه، أزاحها على الفور قبل أن تلحقها أخرى. انسحب من السرادق باحثًا عن بقعة خاوية من البشر، اختلى بنفسه لبعض الوقت، لم يحتسب كم مضى؛ لكنه كان مفصولاً عمن حوله، بكى في صمتٍ يدمي القلوب، بعد أن فشلت كل محاولاته لكبح ذلك الضعف المخزي.

شعر باحتراقٍ يلتهم أحشائه، ازدادت قسوته مع اختناق أنفاسه، وقد أدرك الحقيقة المفطرة لقلبه، بأنه تذوق عذاب الحب الحقيقي قبل حلاوته. الآن بعد فوات الأوان، اعترف بينه وبين نفسه بأن ما ضمره في وجدانه من مشاعر مرهفة، شغلت عقله كثيرًا، وألهبت عواطفه بالرغبة، كان فقط لأجلها، نعم لقد امتلأ قلبه شغفًا بها، ودبيب الحب الموجع الذي اشتعل في صدره لم يكن إلا لها وحدها؛ وإن كانت لا تعلم هذا .. وحدها من حركت الماء الراكد من أسفله، لتطلق العنان لأحاسيسه الكامنة، ووحدها من اغتالت أحلامه، وأعادته للحضيض.

أخرج من جيبه علبة سجائره، التقط واحدة منها، ودسها بين شفتيه، ثم حاول إشعال ولاعته؛ لكنها عاندته، لم تنبعث الشرارة منها، فكف عن المحاولة. انتصب في وقفته بتأهبٍ حذر، عندما رأى تلك الذراع الممتدة نحوه، بشرارة لهبٍ صغيرة تريد إشعال عقب سيجارته. استدار للجانب ليجد "آسر" بتعبيراته الباردة، تنعكس في عينيه المحتقنتين بوضوح، رغم العتمة المتواجد بها. استهل الأخير حديثه ناطقًا بصوتٍ رتيب؛ لكنه ساخر:
-صحيح الدنيا صغيرة، مكونتش أتوقع أشوفك هنا.

لفظ "تميم" السيجارة من فمه ليرمقه بنظرة احتقارية بائنة، ثم هدر به بخشونة:
-هات آخرك معايا.
استقام "آسر" في وقفته، ليرد بغموضٍ أصابه بالحيرة والارتباك:
-أنا أخري معروف، الدور والباقي عليك إنت!
اخشوشنت نبرته مرددًا بما يشبه الزئير:
-ماتحورش، وهات اللي في بطنك.

غامت عينا "آسر" بشكلٍ غير أليف، بات شخصًا آخرًا وهو يوضح له:
-يا عم ما تتحمأش أوي، بس أنا فاهمك، ما احنا رجالة زي بعض!
اعترض عليه بغلظةٍ، وبوجه مشدودٍ على الأخير:
-لأ مش زي بعض!

اختفت الابتسامات المنمقة من على تعابيره، تحول "آسر" لما يشبه المسخ وقد سقط القناع المهذب الذي دومًا يغلف به تقاسيمه، من المؤكد أن نظرة "تميم" له كانت في محلها، خاصة حين سأله بفحيح بعث على نفسه الرهبة؛ ليس خوفًا منه، وإنما خوفًا عليها:
-بيني وبينك كده .. المُزة عجباك؟ صح...؟!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني الحلقة السابعة عشر بقلم منال سالم


طفرت الدموع من عينيها بغزارة وهي تنوح نادبة حظ ابنتها التعس، وكأن الحياة تأبى منحها السعادة التي تستحقها، لم تعلق "همسة" بشيء على زيارة حماتها المفاجأة، فقد فرضت الأخيرة حضورها عليها بأسلوب متطفل، غير عابئة برغبة العروسين في التمتع بقدر من الخصوصية، ومع هذا استقبلتها بودٍ وترحيب. رفعت "بثينة" أنظارها نحوها، وأمرتها بنوع من الازدراء:
-قومي هاتلي مياه، هاتفضلي أعدة كده بوزك في بوزي؟


 
صدمت "همسة" من وقاحتها الفجة، وردت بغصةٍ شعرت بها في حلقها:
-حضرتك قدامك المياه، تقدري تشربي براحتك.
وأشــارت بيدها نحو زجاجة المياه الموضوعة على الطاولة الدائرية الصغيرة التي تنتصف غرفة الصالون، ورغم ذلك علقت "بثينة" بسخطٍ:
-طعمها ماسخ، مش عاجبني، هاتي غيرها، ولا مستخسرة فيا شوية مياه عدلين..


 
ثم التفتت نحو ابنها تشكو له:
-شايف مراتك، بتعامل أمك إزاي؟ ده بدل ما تاخد بخاطري وتطبطب عليا.
كان "هيثم" يعلم جيدًا –وفي أعماق نفسه- أنها ستسعى لإفساد صفو حياته الهانئة مع عروسه قبل أن ينعم بها، كعادتها اللئيمة. استرخى في مقعده، وببرود قال لها جعلها تستثار غيظًا:
-وهي "هموس" عملت إيه؟ ما المياه قدامك يامه.

انفجرت صارخة فيه بأسلوب وقح، شبه مهين:
-إنت هتاخد صفها من دلوقتي؟ طرأها يا واد، عاوزة أقولك كلمتين على انفراد، ياباي!
لم تتحمل "همسة" تجريحها بهذا الشكل، وردت بكبرياءٍ محاولة لملمة كرامتها المبعثرة، وهي تنهض من أريكتها:
-على فكرة حضرتك ممكن تطلبي ده ببساطة، مش لازم تغلطي فيا؟
نهض "هيثم" هو الآخر ليعاتب والدته بضيقٍ لم يخفه:
-عيب كده يامه، دي مراتي، ومحبش حد يجي عليها ولا يضايقها..


 
لوت "بثينة" شفتيها في استهجانٍ صريح، ورمقت كلاهما بنظرات احتقارية، خاصة حينما أحنى ابنها رأسه على جبين زوجته ليعتذر منها بابتسامة صغيرة:
-حق عليا يا "هموسة"، متزعليش.. تمشي بس وأنا هصالحك.
غمغمت "بثينة" معلقة بتهكمٍ صارخ:
-رجالة شُرابة خُرج بصحيح!
التفت برأسه مانحًا والدته نظرة محتجة، لكنه أبعد نظراته عنها ليتطلع إلى زوجته التي قالت بخفوت:
-خليك مع مامتك، وأنا جوا، ناديني لو عوزت حاجة
هز رأسه هامسًا:
-ماشي يا حبيبتي..


 
تتبعها بعينين ملهوفتين وهي تختفي بالداخل، وتلك التنهيدة البطيئة تتسرب من جوفه، ليعاود بعدها التحديق في وجه والدته الغائم، اختفت ابتسامته البلهاء، وسألها بعبوسٍ:
-عاوزاني في إيه يامه؟
أجابته متسائلة بملامحها المتجهمة، ونظراتها اللئيمة:
-هاتسكت عن اللي حصل لأختك؟
رد ببساطة:
-مش إنتي كنتي عاوزاها تطلق؟ وأهو "تميم" عمل ده، زعلانين ليه بقى؟

وكزته في ذراعه بغيظٍ وهي تخبره:
-إنت جايب البرود ده منين؟ ياخي حس على دمك، أختك مقهورة، وإنت نايم في العسل جوا مع اللي تتشك في قلبها مراتك.
فرك ذراعه المتألم، وعلق بامتعاضٍ:
-يامه ماتغلطيش فيها، ده بيزعلني!
وبخته بحدةٍ:
-اِتلهي، أل يعني غلطت في البخاري
-لا حول ولا قوة إلا بالله..


 
نظرت له بعينين حانقتين، فنفخ قائلاً في حيرة:
-والله إنتو غلبتوني معاكو، يرجعلها مش عاجب، ويطلقها برضوه مش عاجب، حددوا عاوزين إيه بالظبط؟
ردت بعصبية:
-إنت أخوها، وراجل البيت، اتصرف..
نظر لها مليًا بضيقٍ، ثم استنشق الهواء المكتوم بعمقٍ، ولفظه على مهلٍ، ليهمهم بعدها لنفسه بخفوت، والتعاسة تزحف على وجهه:
-شكلي مش هخلص من ليلة "تميم" و"خلود".

استرابت من غيابها العجيب، والذي لا يتوافق مع تلك المناسبة السارة التي تخصها تحديدًا، فمن المعهود أن تنضم العروس لعائلتها؛ وإن كانت تجلس مع النساء، خلال تقدم أحدهم لخطبتها، لسماع رأيها في حضور رجــال الأسرة من أعمامها وأخوالها، ومن له صلة بها .. انسحبت "سعاد" بهدوءٍ من الأجواء الصاخبة لتبحث عنها في أرجــاء المنزل، توقعت وجودها في الغرفة الخاصة بـ "أسيف"؛ حيث تم استضافة الأخيرة فيها، أرهفت السمع لصوت النحيب القادم من الداخل، تضاعفت ريبتها، ووضعت يدها على المقبض لتديره؛ ولكن الغريب في الأمر أنها وجدته موصودًا، دقت عليه منادية:
-يا "فيروزة"! إنتي جوا يا بنتي..


 
أتاها صوتها الباكي مستغيثًا بها:
-أنا محبوسة يا مرات عمي هنا.
رددت متسائلة في دهشة عظيمة:
-محبوسة؟ ومين عمل كده؟ وعشان إيه؟
صاحت متجاوزة عن إجابة تساؤلاتها:
-طلعيني يا مرات عمي لو سمحتي.
على الفور نطقت موضحة لها:
-حاضر يا بنتي، المفاتيح الأوض زي بعض، بتفتح بنفس المفتاح، هاروح أجيب واحد وأرجعلك.

استمعت لها وهي تعقب عليها:
-بسرعة الله يخليكي.
طمأنتها قائلة بنبرتها المتلهفة:
-متخافيش يا بنتي، أنا جيالك تاني ..
ثم ابتعدت عن الباب، لتتجه إلى غرفة نومها الرئيسية، وهي تغمغم مع نفسها بتبرمٍ منزعج:
-على آخر الزمن بناتنا يتحبسوا في بيوتنا!!

يُقال أن لكل شخص نقطة ضعف، إن ولجت له منها لتستغله لخدمة مصالحك الشخصية، فهناك خياران متاحان لك؛ إما أن يلين ويرضخ، وإما أن يحدث العكس، ومعه تحول من الطبيعة المستكينة للوحش الهوجائي الكامن بداخله، هاجت دمائه المشبعة بحنقه وغزت كل شرايينه لتجبره على الانتفاض ثائرًا فيه. جحظت عينا "تميم" الملتهبتان بشكلٍ موتر، وهدر بذاك الوضيع يسأله؛ وكأنه يمنحه الفرصة الأخيرة للتراجع عن حماقته، قبل أن ينفذ فيه حكم الموت:
-مين دي اللي بتقول عليها كده؟
نظر له "آسر" باستخفافٍ وهو يجاوبه:
-اهدى عليا يا معلم...

ثم بتر عبارته ليراقب حمئته الثائرة بنظرات مليئة بالحقد والغيرة؛ فإن كان يملك مقومات الذكورة مثله، لما فكر مطلقًا في اصطياد ضحاياه من الفتيات السذج، معدومات الخبرة، للارتباط بهن، بعد أن أدرك عجزه الجسدي؛ لن يستطيع مطلقًا أن يمنح أي امرأة الشعور بالكمال والرضــا، خلال ممارسته الحميمية معها.

اكتشف ذلك مبكرًا، ومن وقتها أصبح ناقمًا على الجميع، ولهذا حول شعوره بالنقص إلى نوع من الاستفادة المادية، ليخرج رابحًا في النهاية، ولهذا لجأ لوسائل أخرى غير شرعية للإتجار بما لا يملكه، وقد وقع الاختيار على "فيروزة"؛ الضحية المناسبة، ليتمتع معها لبعض الوقت قبل أن يقايضها على حريتها، أو يمنحها لمن يدفع الثمن، ومن خبرته المحنكة في قراءة لغة الجسد، استطاع أن يلاحظ الاهتمام الكبير من قبل "تميم" نحوها؛ وإن كان الأخير ينكر ذلك .. عاد من شروده المؤقت ليتابع حديثه قائلاً بوقاحة:
-إنت فاهمني كويس، العروسة .. "فيروزة"..

تلفظ اسمها مجردًا؛ وكأنه مشاعٌ للعامة، ناهيك عن إيحائه المهين لكينونتها المقدسة بالنسبة له، جعل غضبه المتدافع بداخله ينفجر على الفور، انقض عليه "تميم" قابضًا عليه من عنقه، وهزه بعنف ناهرًا إياه بصوته المتشنج:
-إنت إزاي يجي في مخك تكلم عليها معايا؟

أصاب هدفه، وتيقن من دقة اختياره، وهو يرى كيف شقلب كيانه ببضعة عبارات موحية ليستثير تلك النزعة الرجولية فيه. تحول جسد "آسر" المتراخي لكتلة من العضلات المشدودة، وقاومه مرددًا بنفس النبرة المستفزة:
-يا سيدي، اعتبرني باخد رأيك في بضاعة حلوة.

أشهر "تميم" مديته بعد أن أخرجها من جيبه، رفعها للأعلى، وغرز نصلها المدبب في جلد عنقه، حدجه بنظرة خالية من الحياة، وهو يهدده بلهجة تحولت للقتامة، ويخيم عليها الموت المحتوم:
-كلمة زيادة عنها ومحدش هيبص في خلقتك نهائي، هاشرَّحك! ومش فارق معايا أخش فيك اللومان تاني!
شعر "آسر" بوخز جارح يخترقه، وقال متراجعًا بحذرٍ، دون أن تخلو نبرته من السخرية:
-بالراحة على عضلاتك يا "تايسون"، احنا بناخد وندي مع بعض!
زجره "تميم" بزمجرة هادرة:
-إلا في عرض الحريم! ده مافيش فيه تفاهم معايا!

في تلك الأثناء، وفي مكانٍ ليس ببعيد .. شهقت مصدومة من اندفاعها المباغت نحوه، واستندت بكفيها على صدره، محدقة فيه بنظرات مشدوهة ممزوجة بالخجل، تحول لون بشرة "بسمة" إلى حمرة صريحة، بادلها "دياب" نظرة شغوفة متلهفة لاقترابها الساحر. نجحت خطته، وباتت معه، قريبة منه حد الهلاك، وإن كان الأمر مفتعلاً، لكنه حاز على مراده في الأخير. عمق نظراته المتقدة حبًا نحوها.

استشعرت بأصابعها المسترخية على صدره دقات قلبه العنيفة، أحست بتأثيره عليها، وبارتباكٍ موتر يسيطر عليها لتغلغل ذلك الشعور اللطيف فيها. لم يتحرك من مكانه، وبقي كالصنم يتمعن فيها، ومسلطًا فقط كل عينيه عليها. بحذرٍ ملبك لها، انسلت متراجعة للخلف، ومتحررة من قيده الاختياري، لتبدي انزعاجها من تصرفات الصغيرين الطفولية التي وضعتها في موقف محرج كهذا.. أرخى الطفلان أذرعيهما عنها بإشارة صريحة من "دياب" لتحرر "بسمة" كليًا، تنحنحت معتذرة له بتلعثم:
-أنا.. أسفة، مقصدش!

ثم أخفضت عينيها بحرج أكبر، لتتجنب نظراته، شاعرة بتلك السخونة المربكة المنبعثة من وجهها، لم ترغب في حدوث ذلك؛ ولكنه القدر. رد عليها "دياب" بهدوء، واضعًا يده على مؤخرة رأسه ليفركها:
-ولا يهمك، حصل خير!

انسحبت من أمامه دون إضافة المزيد، وقد سارعت في خطواتها، رغم عرجها الملحوظ .. ظلت أنظاره تتبعها ومتعلقة بها حتى اختفت من أمامه، فأخرج تنهيدة ملتهبة من صدره الملتاع بحبها الكبير، استدار للخلف ليحدق في الصغيرين بنظرات ممتنة، ثم فتح ذراعيه لهما ليندفعا في أحضانه، ضمهما قائلاً بثناءٍ عظيم:
-حبايب قلبي!
سأله "يحيى" ببراءة:
-أنا شاطر يا بابي؟

أجابه "دياب"، وهو ينحني نحوه ليقبله من وجنته:
-إنت أستاذ زي أبوك!
ثم ربت على كتفه ليأمره شقيقته الصغرى:
-خدي "يحيى" يا "أروى"، واسبقوني على جوا.. أنا هحصلكم كمان شوية.
ردت بانصياعٍ تام:
-حاضر يا أبيه ..

تسلطت نظرات "دياب" عليهما وهما يتسابقان في الركض للداخل، ليشرع بعدها في التجول في المكان لبعض الوقت، غير راغب في لفت الأنظار لتواجده بصحبتها قبل قليل. كان وجهه ما زال محتفظًا بابتسامته المتحمسة؛ ما لبث أن تلاشت حين رأى التلاحم البدني بين "تميم" وأحدهم، دقق النظر في اتجاههما ليتبين بالضبط ما يحدث، كان رفيقه ممسكًا بتلابيب الآخر، ويضع طرف مديته على عنقه، يريد نحره..

دون أن يفكر، اندفع بهوجاء نحو ذلك الغريب ليضربه بخشونةٍ في جانب ظهره، ثم استخدم ذراعه في طرحه من صدره أرضًا، وسط أنينه المتألم من عنف الضربات الموجعة عليه. تدحرج "آسر" على جانبيه ليتفاداه، لكن أصر الأول على تقييد حركته، وإذلاله. تفاجأت "تميم" من حضور صديقه المباغت، وقبل أن ينطق كان "دياب" يجثو فوقه ينكزه في صدغه متسائلاً بنبرة جافة:
-الواد ده قل أدبه عليك يا "تميم"؟ قولي بس، وأنا وربنا ما هيطلع عليه صبح!

حاول "آسر" إزاحة ثقل جسده عنه، وهو يسأله في اندهاشٍ قلق:
-في إيه يا كابتن؟ هو حد داسلك على طرف؟
لكمه "دياب" في فكه بلكمة خشنة نوعًا ما، لكنها ليست قوية، وهو يحذره:
-اخشع ياض!
وقف "تميم" خلف رفيقه محاولاً جذبه من على ذلك الدنيء، قائلاً له بنبرة غير هادئة:
-سيبه دلوقتي يا "دياب"!

رد عليه صديقه بجراءة متهورة:
-متخافش يا صاحبي، هي ديته علقة محترمة، ونرميه في الترعة، ويدور على اللي مايته تسخن.
تفاجأ "آسر" من وحشية الأخير، ونيته المبيتة للتخلص منه، دون إبداء ذرة ندم واحدة، فهتف محتجًا، ومدافعًا عن حياته المهددة:
-أنا تتكلم معايا كده؟ إنت مين أصلاً؟
تشدق "دياب" مرددًا على مسامعه بنزقٍ:
-وأشقك ياله! في إيه!

ثم منحه وكزة مؤلمة أسفل ذقنه قبل أن يرغمه "تميم" على النهوض، ويزيحه بعيدًا عنه. اعتدل "آسر" في رقدته، وبدأ في النهوض نافضًا الأغبرة والأوسـاخ التي علقت بثيابه، ثم توعد كليهما هاتفًا بعصبيةٍ، لحفظ ماء وجهه فقط:
-أنا هوريكم يا غوغاء!

ضحك "دياب" على لفظه الأخير، وتنمر عليه بمزيدٍ من الاستهزاء:
-غوغاء! إيه الكلام ده؟ يبقى إنت كده غلطت فيا، يعني الليلة بقت عندي رسمي فهمي نظمي.
تشبث "تميم" بذراعه، وشده منه ليستوقفه قائلاً له من بين أسنانه المضغوطة:
-اركز يا صاحبي.

-الحقيني يا مرات عمي!
قالتها "فيروزة" وهي ترتمي في أحضــان "سعاد" التي فتحت باب الغرفة لها، لتنصدم الأخيرة برؤيتها على تلك الحالة الفوضوية، تطلعت إليها في خوفٍ حقيقي معكوس في نظراتها نحوها، ثم حاوطت وجهها الباكي بكفيها، وسألتها في جزعٍ:
-في إيه بنتي؟ إيه اللي حصل؟ ومين حبسك هنا؟
أجابتها بأنفاسٍ متقطعة:
-خالي عايزني أتخطب بالعافية، وأنا مش عاوزة ده!
انعقد حاجباها متسائلة في دهشة مستنكرة:
-"خليل"! طب ويعمل كده ليه؟!

احتشد في ذهنها كل المشاهد العنيفة التي جمعتها بخالها؛ حيث يقوم دومًا بإجبارها على ما لا تريد مستخدمًا القسوة، والإيذاء البدني، بغض النظر عن رأيها، لم يتناقش معها يومًا، ولم يحاورها ليعرف رغباتها، ربما لو حدث الأمر بشكلٍ آخر لتقبلته؛ لكنه يلجأ لاستخدام نفس الأسلوب الشرس لتذعن له، ووالدتها تقف على الحياد، لا تقوى على معارضته، تاركة له زمام الأمور ليتحكم في مصير ابنتيها، رفضت أن تستسلم كتوأمتها، وتخضع لجبروته، لهذا تمسكت برفضها؛ وإن بدا غير منطقي للبعض. تنفست "فيروزة" بعمقٍ لتضبط انفلات أعصابها، وتستعيد هدوئها المفقود، في حين تابعت زوجة عمها موضحة:
-ده بالعكس قالنا إنه شاب كويس، ومحترم، وعمك بعت يسأل عليه، وكلامه طلع مظبوط.

ردت مبررة لها سبب عزوفها:
-أنا مقولتش حاجة وحشة عنه، بس مش عايزة أتخطب بالشكل ده لحد ما أعرفوش.
سألتها لتتأكد منها:
-يعني إنتي مش موافقة عليه؟
أجابت بما لا يدع مجالاً للشك:
-أيوه، ولازم عمي يعرف بده.
هزت رأسها في تفهم وهي تعقب عليها:
-كله إلا كده، حاضر يا بنتي .. أنا هابعت حد يناديه، وقوليله على كل اللي إنتي عاوزاه، مافيش حد هيجبرك على حاجة مش حباها.

احتضنتها مجددًا، وهي تهتف في امتنانٍ:
-ربنا يخليكي ليا
استخدمت "سعاد" كم عباءتها لتزيح دمعاتها المرطبة لوجهها، ثم أوصتها بلهفة أمومية غير مصطنعة، أو حتى مكتسبة:
-اهدي كده، وأنا هاعملك كوباية ليمون تروقي بيها دمك لحد ما عمك يجي.
رفضت طلبها مرددة:
-مش عايزة حاجة.
حينما رفعت عنقها قليلاً ظهرت آثار الالتهابات على جلد عنقها، اتسعت حدقتا "سعاد" في صدمةٍ، وسألتها وهي تتفحصها بنظراتها، ولمسة حنون حذرة من أناملها:
-إيه ده كمان؟

ضغطت على شفتيها لترد بأسفٍ حزين:
-من خالي يا مرات عمي.
تبدلت نظراتها للقتامة، وعلقت بلومٍ:
-إخص عليه، حد يعمل كده في بنات أخته؟ أومال لو مكانش في مقام أبوكي الله يرحمه.
لفظت "فيروزة" الهواء الخانق من صدرها دفعة واحدة، ودمدمت باستياءٍ مُحبط:
-مافيش زي بابا، عمره ما هيتعوض.
تأثرت "سعاد" بجملتها الموجعة تلك، وعفويًا ضمتها إلى صدرها، ثم ربتت على ظهرها، وهي تقول لها بلطفٍ، على أمل أن تهون عليها الأمر:
-متزعليش يا بنتي، أنا جمبك، وعمك مش هايقبل أبدًا بإن حد يتعرضلك طول ما هو على وش الدنيا.

خرج يتفقده بالخارج بعد أن طـــال غيابه عنه، كان مشغول البال به، فعلى الأغلب قد يتوه في تلك الأرجاء غير المألوفة عليه، وخاصة مع حلول الظلام. انتبه "خليل" للأصوات الرجولية الصاعدة من مسافة تبعد عن المنزل نسبيًا، اتجه إلى هناك، ورأى تهديدات ضيف الحاج "اسماعيل" العلنية لـ "آسر"، انقبض قلبه في فزعٍ، وتشكلت أمارات الخوف على ملامحه، ســار بخطواتٍ أقرب للركض متسائلاً بصوتٍ شبه لاهث:
-في إيه اللي بيحصل هنا؟

وكأن نجدة من السماء قد هبطت إليه لإنقاذه، على الفور تحول "آسر" للشخصية الوديعة المسالمة، واستدار بجسده ليواجهه مرددًا بانكسارٍ حرج:
-الحقني يا أستاذ "خليل"، معارفك مبهدلني هنا، وأنا مش عارف أتعامل معاهم.
اعتذر منه بشدةٍ، دون أن يسأله حتى عن الأسباب التي دفعتهما للتشاجر معه:
-أستاذ "آسر"، أنا أسف جدًا عن اللي حصل.. حق عليا.

ثم التفت ناحية "تميم" الذي ظهرت تعابيره الواجمة بوضوحٍ، وسأله:
-هو فيه بالظبط يا معلم "تميم"؟ ومين ده كمان؟
كانت جملته الأخيرة موجهة نحو "دياب"، وبادر الأخير معرفًا بنفسه بنوعٍ من الغرور، وتلك الابتسامة الواثقة تلوح على زاوية فمه:
-أنا "دياب حرب"، أخو العريس اللي جوا يا حضرت ... إنت مين بقى؟

كانت لدى "خليل" بعض المعلومات المتناثرة على الألسن عن مدى قوة ونفوذ تلك العائلة، عرفه أغلبها من الحاج "اسماعيل"، وبالتالي كان من غير المحمود أن يتطرق معه لمعركة جانبية غير متكافئة مطلقًا، ومع هذا تمالك نفسه، وأظهر انزعاجه، حين سأله بصوته الغاضب:
-تشرفنا.. بس بتتخانق مع نسيبي ليه؟
أجابه "تميم" بنظراتٍ نارية مسلطة على "آسر":
-اسأله..

تلقائيًا تحركت رأس "خليل" نحو "آسر" الذي ادعى انشغاله بتنظيف بدلته المتسخة، متعمدًا تجاهل الرد عليه؛ وكأن الحديث غير موجه له على الإطلاق، بينما أردف "دياب" مهاجمًا، ونظراته لا تنتوي أي خير:
-إنت شكلك مش مريحني...
ردد "خليل" مذهولاً، وقد برزت حدقتاه في غيظٍ، معتقدًا أنه قد أساء إليه:
-أنا؟ عيب كده! إنت بتغلط فيا؟
نفى "دياب" بنبرة صارمة:
-لأ يا حاج..

صمت لهنيهة ليضيف بعدها بما يشبه الاستحقار:
-أنا كلامي مع البأف ده!
تركزت عيناه بالكامل على "آسر"، والذي تحولت تعابير وجهه للاحتقان من إهانته بهذا الشكل السافر. التوى ثغر "دياب" بابتسامة باردة مستفزة، وقال مواصــلاً استهزائه به:
-الهلومة اللي إنت فيها دي أونطة.

غضبًا عظيمًا زائفًا استبد بـ "آسر" وهو يرد:
-أنا كلامي مش معاك يا كابتن..
استشاطت نظرات "دياب"، واتخذ وضعية الانقضاض عليه، لهذا عدل عن مناطحته، فلا جدوى من إثارة المتاعب معه، والتفت يخبر "خليل" بقليلٍ من الشهامة المقنعة، متخيلاً بذلك أنه يستدعي رجولة حقيقية لا يمتلك منها أدنى ذرة،
-ولولا إني عامل خاطر ليك يا أستاذ "خليل" كنت رديت جامد، وقلبت الدنيا، بس أنا بأفهم في الأصول.

شعر مُحدثه بوجود خطب ما، حتى احترامه لم يكن مقنعًا، هناك شيء مريب يلوح في الأفق؛ تحيُز "تميم" -ومن معه- ضد نسيبه الجديد لم يأتِ من فراغ، هناك حلقة مفقودة في الأمر، لذا تساءل "خليل" بجديةٍ؛ عله يحصل على رد منطقي:
-أنا مش فاهم حاجة.. هو إنتو اشتبكتوا مع بعض ليه أصلاً؟

لم يمتلك "دياب" الرد المبرر، فقد تصــرف بناءً على ما رأه من التحام جسدي، وليس بناءً على حكمة وروية، في حين أجابه "آسر" متهربًا بزفيرٍ منزعج، ونظراته مثبتة على وجه "تميم" المخضب بحمرته الغاضبة:
-خلاص يا أستاذ "خليل"، بعدين نبقى نتكلم...
ثم سحبه بعيدًا عن كليهما، وأكمل حديثه بغموضٍ:
-أنا مضطر أمشي دلوقتي.

سأله "خليل" باستغرابٍ شديد:
-طب والجماعة اللي مستنين جوا.. هاقولهم إيه؟
بلباقة معهودة فيه -والتي يجيد إظهارها بالرغم من إذلاله قبل قليل- أجابه:
-اعتذرلهم بالنيابة عني، أصلاً في ظرف طارئ خاص بالشغل عندي، ومحتاجين وجودي ضروري.. ومش هاينفع اتأخر.
سأله "خليل" بتوترٍ:
-مشاكل يعني؟

مال على جانب رأسه ليهمس له في أذنه:
-حاجة ليها علاقة بالتأشيرات .. ولازم أكون متواجد بنفسي عشان تتحل.
شحب وجه "خليل" قليلاً، ولعق شفتيه مهمهمًا:
-ربنا يستر .. أنا مش عارف أقولك إيه؟
هز رأسه في تفهم، وقد انطلت عليه خدعته، ليعقب بعدها:
-أكيد إنت فاهم الوضع.

زم شفتيه متابعًا قوله:
-أنا عارف ومقدر، بس المفروض كنت هتقابل باقي عيلتنا وآ...
قاطعه "آسر" بهدوءٍ مظهرًا حزنًا غير صادق في نظراته:
-حظي وحش للأسف..
لكن ما لبث أن تحولت ملامحه لابتسامة مبتورة وهو يكمل:
-وعمومًا اللي حصل النهاردة ربط كلام، تعارف مبدأي زي ما بتقولوا، ولسه قدامنا وقت عشان نتمم الخطوبة، ومن بعدها كتب الكتاب.
حرك "خليل" رأسه في استحسان ليرد بعدها عليه:
-أكيد إن شاء الله..

مــد "آسر" يده لمصافحته، وقال بتهذيبٍ لطيف:
-هستأذنك .. وفرصة سعيدة يا أستاذ "خليل".
بادله المصافحة، بحرارة شديدة، وبابتسامة متسعة ودعه:
-مع السلامة يا ابني، هنتقابل على خير إن شاء الله
-أكيد..

اصطحبه إلى سيارته التي لم تكن بعيدة عن ذلك المكان المعتم، وظل باقيًا إلى جواره حتى أدار المحرك، وانصــرف متجهًا إلى مخرج البلدة. استدار "خليل" بعدها بجسده ليتفاجأ بوجود "تميم" خلفه، كان الأخير بحاجة إلى أجوبة حاسمة لما يدور في رأسه، خاصة بعد النوايا الخبيثة التي طفت على السطح تجاه الوضيع "آسر". تحفز في وقفته، ورمقه بنظرة عميقة، غريبة، تبعث على الخوف...

حاول "تميم" أن يكبت نفسه؛ لكنه لم يستطع، تأهبت حواسه، واستنفرت بطريقة مريبة؛ وكأنه يريد قتله للتفريط فيها بتلك السذاجة المهلكة، تنفس بعمقٍ، مانحًا جوارحه لحظاتٍ من ضبط النفس قبل أن يسأله مباشرة، ودون مقدمات تمهيدية:
-إنت هتجوز قريبتك للبني آدم ده؟

ورغم غرابة السؤال على مسامع "خليل"، بالإضافة إلى علامات الاندهاش المرسومة على قسماته، إلا أنه أجاب بوضوحٍ:
-أيوه يا معلم .. في اعتراض ولا حاجة؟
دنا منه خطوة أخرى حتى باتت نظراته القاتمة تستحوذ كليًا عليه، أرهبته تقريبًا من التهابها البائن، ثم لاحقه مستفسرًا، وأسوأ الأفكار عن شخص "آسر" المقيت تهاجمه الآن:
-سألت عليه كويس؟

بلع ريقه، وأجاب:
-طبعًا.. إنت مفكرني هارمي بنت أختي في الشارع يا معلم؟!
لا يعرف كيف لم يحكم السيطرة على لسانه الذي لم يطاوعه وسأله بنزقٍ؛ وكأنه يفتش عن أمل أخير في أطلال حبه البائس:
-وهي موافقة عليه؟
لحظة استغرقها "خليل" في التفكير لينطق بعدها بما آلم الفؤاد ومزقه:
-أيوه، أومال عاملين الأعدة دي النهاردة ليه؟

وخزة قاتلة أخيرة اخترقت قلبه المتألم، لتقضي نهائيًا على حلم لم يتجاوز طيات الخيال، لذا لم يكن أمامه إلا أن يحذره بوجومٍ، أخفى خلفه ما يسري في بدنه من قهر عظيم:
-طب خد بالك منه!
سأله في حيرةٍ:
-ليه؟
لم يمنحه ما يشبع توق فضوله، وكرر عليه بلهجة الصارمة:
-من غير ما تسأل .. اسمع الكلام!

تدخل "دياب" في الحوار معلقًا:
-طالما المعلم "تميم" قالك كده يا حاج، يبقى ما تناقش!
وزع "خليل" نظراته بين الاثنين، فرأى استعدادًا جليًا لإشعال فتيل معركة شرسة، حتمًا لن تنتهي على خير، تنحنح في توترٍ أكبر، واستطرد مُلطفًا:
-واضح كده إن في سوء تفاهم مع نسيبي الجديد، ده محامي محترم وآ...

اشمئز "تميم" من الإصغاء لما يخص سيرته، وهتف مقاطعًا بلهجة مماثلة لتلك الخشنة التي يتعامل بها مع الأوغاد:
-مش هارغي كتير.. حافظ على أهل بيتك! سامعني؟
ما كان منه إلا أن رد بخنوعٍ:
-تمام يا معلم.
في تلك اللحظة يمكن أن تتبين مدى الألم الذي يطل من عيني "تميم" كمدا على خسارته المحتومة، فلم يعد الأمر مجرد زيجة جيدة تليق بها؛ لكن بات مصيرًا مؤسفًا يحيق بحياتها، ووحده من يدرك ذلك...!!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني الحلقة الثامنة عشر بقلم منال سالم


ما زالت تحتفظ بتلك الخصــال المخادعة، في اكتساب تعاطف الآخرين معها، خاصة من لا يعرف حقيقتها المؤسفة، ذرفت العبرات الحارقة وهي تحاول تكوين جملة واضحة من خلال لعثمتها المصطنعة، لتبدو أكثر إقناعًا لها..


 
أفرغت ما يزيد عن نصف علبة المناديل الورقية الموضوعة بحقيبتها، لتمسح دموعها الغزيرة التي أغرقت وجهها، وذلك المخاط المتسرب من فتحتي أنفها. نظرت لها خالتها بإشفاقٍ، وأعدت لها مشروب الليمون البارد لترطب به صدرها المحترق؛ لكن ما الذي يشفي جراح القلوب؟ تناولته منها "خلود"، وارتشفت القليل منه، قبل أن تستنده على الطاولة أمامها، تطلعت إلى "ونيسة" مجددًا بعينيها المنتفختين، وأردفت قائلة بنهنهة متقطعة:
-يرضي مين أفضل كده؟ أنا صبرت.. وماتكلمتش، بس اللي بيعمله فيا حرام.


 
أطرقت خالتها رأسها في حرجٍ، وقالت بنبرة آسفة:
-أنا مش عارفة أقولك إيه يا بنتي.. وشي منك في الأرض.
اختفى التلعثم من صوتها، وجفت العبرات تقريبًا من مقلتيها حين مالت عليها لتهمس لها بإلحاحٍ:
-يا خالتي كلميه تاني وتالت وعاشر، قولي لعمي "بدير"، ما هو في مقام أبويا.
رفعت "ونيسة" أنظارها نحوها تطالعها بحيرة، بماذا تخبرها وقد بذلت ما في وسعها لإثناء ابنها عن رأيه، والأخير مُصر على رأيه؟ رفت عيناها، وعلقت وهي تلعق شفتيها:
-أنا عملت ده كله، وتقريبًا مقاطعة "تميم"، بس هو راكب دماغه، ربنا يهديه.


 
امتدت ذراع "خلود" نحو كف خالتها، احتضنت أصابعها، أو بالأحرى أن يُقال اعتصرتهم نسبيًا وهي ترجوها، بنظراتٍ كادت تبرز من عينيها المحتدتين:
-طب قولي لجدي "سلطان"، أنا عارفة إن ليه تأثير عليه.
بصعوبة استعادت يدها من قبضتها، وردت بتوجسٍ خفيف:
-ولو إنه مابيحبش كده، بس أنا هاتكلم معاه.


 
عاد الحزن ليغلف صوت "خلود" عندما تابعت ببؤسٍ، أرادت أن ينعكس في ملامحها أيضًا:
-يا خالتي أنا لسه قدامي كتير في العدة، وده من رحمة ربنا بيا، يعني لو كلنا اتعاونا مع بعض، وكمان شوية زن عليه، هيعرف إنه غلطان، وساعتها هنرجع لبعض...
كانت محاصرة بين توسلاتها المُلحة، وعاطفتها المشفقة على حالها. تنهدت "ونيسة" قائلة بإيماءة من رأسها:
-لله الأمر من قبل ومن بعد.. هاشوف يا بنتي.

ادعت اختناق صوتها وهي تشكو لها التعاسة الأبدية التي فرضت عليها:
-وبعدين أنا مش عايزة اللي في بطني يطلع ما يلاقيش أبوه جمبه، هو أنا غلطت في إيه يعني؟ جوزي وبحابي عليه، بس الظاهر أنا مش مكفية طلباته.. وده مش عيب لما أقول كده..
انتابتها نوبة أخرى من البكاء، اختلطت بصوتها، عندما أكملت:
-وهو لو عاوز يتجوز تاني وتالت، أنا مش ممانعة، هاحط لساني في بؤي وأخرس، طالما ده هيريحه، وأديني ببص لمصلحة العيل اللي جاي، المهم أكون جمبه.


 
كان الشقاء والحزن ظاهران عليها بشكلٍ يجبرك على التعاطف معها، ولهذا انخدعت مشاعرها مع ما تبثه لها من هموم. وضع "ونيسة" يدها على كتف ابنة أختها، وقالت بنوعٍ من الدعم لها:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، اهدي يا بنتي، هو في لسه بنات أصول كده زيك؟ وربنا أنا زعلانة على اللي حصلك، هي عين وحشة صابتكم.
مسحت "خلود" بمنديل ورقي آخر دموعها، وعقبت عليها بحسرةٍ:
-منهم لله اللي كانوا السبب.


 
اتجهت أنظار كلتاهما فجأة نحو الصوت المنادي بزمجرة مزعوجة:
-"ونيسة"!
كان الجد "سلطان" يقف عند الردهة المتسعة، ممسكًا بعكازه، ونظراته غير المريحة مرتكزة على وجه "خلود"، لم يضف المزيد، ولم يرحب بها؛ وكأنه يتجاهل وجودها. كانت أمارات الاستنكار والتأفف تنطق على محياه، لم تتحرك رأسه حين سألته "ونيسة":
-أيوه يا حاج.. أؤمرني؟

أبعد عينيه القاسيتين عن نظراتها المراوغة ليتطلع إلى زوجة ابنه، وطلب منها بلهجته الآمرة:
-اعمليلي قهوة مظبوط.
هزت رأسها في امتثالٍ وهي ترد:
-حاضر.
ادعت "خلود" الإرهــاق وهي تنهض من مكانها لتتجه إليه، أقبلت عليه منحنية قليلاً لتمسك بكفه، وتقبله، مُلقية التحية عليه بتهذيبٍ عجيب:
-إزيك يا جدي؟ أخبار صحتك إيه؟

سحب يده قبل أن تطالها للخلف، ورد بما يشبه الازدراء:
-أهلاً بخلفة "بثينة"..
اتسعت عيناها من إيحائه الساخط، ومع هذا تجاوزت عنه، لتشكو إليه، باستجدائها المتسول لمشاعره، مستخدمة منديلها الورقي، في مسح دموعٍ أوشكت على الجفاف:
-أنا ماليش غيرك يا جدي من بعد ربنا، يرضيك خراب البيوت و..؟
قاطعها بصوت جاف خالٍ من أي نوعٍ من التعاطف:
-شوفي يا بنت "بثينة"، بلاش الشويتين دول معايا...

غامت نظراتها نحوه، حتى عبراتها التي تطيعها وقتما تشاء لتبكي بتأثر لم تقو على استدعائها أمام خشونته البحتة. رمقها "سلطان" بنظرة قاتمة نفذت إليها على الفور؛ وكأنها تجردها من أقنعتها الزائفة، وأضاف بصوته المليء بالجفاء:
-المحن وشغل التلات ورقات ده عفا عليه الزمن، أنا مش خالتك "ونيسة" هتضحكي عليا بدمعتين، وابن ابني راجل.. عمل الصح..
تخلت عن ضعفها المستكين لتسأله بوجهها الحقيقي:
-يعني إنت موافق إنه يطلقني؟

ببساطة أجابها، ودون أن يستغرق وقتًا في التفكير:
-ده اختياره، ماليش إني أدخل.
نظرت له بعينين تتقاذف فيهما شرارات الغضب، وردت بصوتٍ أقرب للصياح:
-بس إنت جده، وكلامك سيف على رقبته، خليه يرجعني، احنا لسه في العِدة.
سألها بنوعٍ من التهكم:
-وهو أنا اللي هاعيش معاكي؟ طالما مش عايزك، خلاص...
ثم عِمد إلى مواجهتها بقساوةٍ، ودون أن يأبه بمشاعرها:
-إنتي بالنسباله باب اتقفل في حياته.

تصاعد الدم في وجهها غيظًا من صراحته الفجة، وسألته بوقاحة:
-ده كده كويس يا جدي؟ يطلقني وأنا حامل؟ وإنت عارف كلام ربنا كويس!
علق بهدوءٍ، ليفسد عليها محاولتها الشنيعة لاستفزازه:
-ربنا بيقول فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ .. و"تميم" عمل اللي ربنا أمر بيه، لما الحياة تبقى مستحيلة بإن اتنين.
كزت على أسنانها في غيظٍ أكبر، وأضافت متسائلة:
-يعني يرمي لحمه في الشارع؟

أجابها ساخرًا بابتسامة باهتة:
-شارع إيه؟ ما هو سايبلك بيت أد كده ترمحي فيه إنتي وأمك، وكافة طلباتك بتوصلك أول بأول، عايزة إيه تاني؟
لم تتردد حين جاوبت على المقطع الأخير من جملته، وعيناها تتسعان بتملكٍ وسطوة:
-أنا عايزاه هو..

بدا جليا من نظراتها نحوه، وتلك العلامات التي تحيط بوجهها من إصرار معاند، أنها لن تتخلى عن فكرة ملاحقته، لذا أراد أن يكون صريحا وواضحا معها وهو ينطق بكلماته اللاذعة مشددا على كل عبارة يتفوه بها:
-ولو إنك هتضايقي من اللي هاقوله، بس أنا مش بتاع نفاق، والصراحة كده "تميم" مش عايزك، من الآخر معدتش طايقك، إن جيتي للحق، ده مصدق خلص من الجوازة دي كلها.

انخلع قلبها وتمزق من حدة جمله، وهتفت مرددة في عدم تصديق:
-إيه؟ يعني إيه الكلام ده؟ هو .. قالك كده؟
أشــاح بوجهه عن قسماتها المحتقنة بدمائها الغاضبة، وقال بنبرة باردة:
-روحي جمب خالتك خليها تعملك ينسون ولا نعناع، وشك أصفر، وده مش حلو للي في بطنك.

زاد احمرار وجهها من أسلوبه المليء بالقسوة، وتابع بصياحٍ وهو يسير في اتجاه غرفته:
-يا "ونيسة"، سكي على القهوة، أنا داخل أنام.
ظلت عينا "خلود" الناريتين مثبتتين على أثره طيفه، حين اختفى من أمامها، اعتصرت قبضة يدها هامسة لنفسها بعزمٍ أشد:
-"تميم" هيرجعلي!

عــاد إلى داخل المنزل بعد توديع الزوج المستقبلي لابنة أخته، وهو يدعو الله في نفسه ألا تفسد محاولاته المضنية للحصول على تلك التأشيرة؛ حيث ستعود عليه بالنفع المادي، ناهيك عن أمور أخرى يسعى لتأسيسها بعيدًا عن أعين زوجته المتطفلة. رفع "خليل" رأسه للأعلى، في اتجاه "اسماعيل"، الذي على ما يبدو كان ينتظره، وهو يسأله بوجهٍ متجهم:
-أومال فين العريس؟

أجابه الأول مستخدمًا يده في الإشارة:
-مشى، وراه شغل مستعجل، فاستأذني يرجع تاني، هو في حاجة يعني؟
أومأ برأسه بهزة خفيفة، وضرب بعكازه الأرضية من تحته، ليقول بغموض مثير للاهتمام:
-كويس .. لأني عايزك في كلمتين مهمين.
دارت عيناه بشكٍ، وسأله:
-خير يا حاج؟

لم ينطق الحاج "اسماعيل" بكلمة، وانطلق موليًا إياه ظهره نحو إحدى الغرف الداخلية البعيدة عن الضيوف أو الخدم؛ حيث تعتاد العائلة على الجلوس بأريحية. ضاقت حدقتا "خليل" بانزعاجٍ ملموس، واِربد وجهه بالغضب، وقد سأله الأول مباشرةً، دون أدنى استهلال لحديثه:
-قولي، هو احنا من امتى بنجوز بنات عليتنا غصب؟!

رد متسائلاً بنظرةٍ حيرى:
-مش فاهمك يا حاج؟
أعاد صياغة السؤال على مسامعه –بشكل أوضح- قائلاً:
-يعني بنت أخويا موافقة على الجوازة دي؟
أكد له على الفور:
-أيوه .. كله برضاها
هنا نطقت "فيروزة" من خلفه، مبدية رفضها الشديد:
-لأ يا خالي.

استدار برأسه للخلف ليواجهها، وقد بدا مصدومًا لرؤيتها غير محتجزة، استشاطت نظراته، وهمَّ بالاتجاه نحوها ليعنفها بقساوةٍ:
-مين خرجك من الأوضة التانية؟!
ظهرت من ورائها "سعاد"، وتقدمت للأمام لتعترض طريقه بجسدها المكتنز، حجبت عنه "فيروزة"، ورمقته بنظرة استنكارٍ قبل أن تجيبه:
-أنا!

ثم سحبتها نحو عمها لتجلسها على الأريكة العريضة إلى جواره، لتظهر له عن عمدٍ حمايته لها، وعدم قدرته على إيذائها في حضوره. قست نظرات "اسماعيل"، وتقلصت عضلات وجهه، وهو يسأله بصوته الغاضب:
-بتحبس بنت أخويا ليه؟ لأ وكمان بتمد إيدك عليها؟!!
لوح بذراعه مهددًا عندما أجابه:
-بأدبها طالما غلطت.

ظهرت "حمدية" عند أعتاب الباب، وإلى جوارها الغائبة الحاضرة؛ "آمنة"، وتدخلت في الحوار قائلة بسخطٍ، لتدعم زوجها في شراسته نحوها:
-مش بدل ما تطلع تفضحنا قصاد الغريب والقريب.
حدجها "اسماعيل" بنظرة محذرة قبل أن يحرجها بوقاحةٍ جمة:
-أنا بأتكلم مع الرجالة، مش مع الحريم.

تلون وجه "حمدية" بحمرة مزعوجة لإحراجه لها بهذا الشكل السافر؛ وكأن رأيها نكرة لا يُعتد به، تصاعدت الدماء إلى رأسها لتزيد من حقدها نحوه؛ ولكن جاء رد "خليل" مؤيدًا لموقفها:
-لا مؤاخذة يا حاج "اسماعيل"! بس مراتي مقالتش حاجة غلط .. ده اللي كانت "فيروزة" ناوية تعمله.

أشعرها ذلك بنوع من الفخر لرد اعتبارها سريعًا، وقررت ألا تدع الليلة تمر دون أن تقلب الطاولة على رأس "فيروزة"، وتفسد ما بينها وبين عائلتها؛ ربما للأبد. تجاهل "اسماعيل" تحيز "خليل" لزوجته، وسأله من جديد بصوته المنفعل، ونظراته لا تبشر بخير:
-حبست بنت "علي" ليه جوا بيتي؟ مش عايزها تقول رأيها ليه؟

أجابه الأخير بعصبيةٍ، ونظراته تحمل الاتهام نحو "فيروزة":
-ما هو مش بعد ما اتفق مع الراجل، تيجي هي تغير كلامها، لأ وكمان تكسفني قصاد رجالة البلد، عايز شكلي يكون عامل إزاي؟
أضافت "سعاد" موضحة بنبرة شبه عالية:
-معلش! كل شيء بالخناق، إلا الجواز بالاتفاق.. وبنتنا مش عايزاه
أحرجتها "حمدية" بوقاحةٍ:
-مش الحاج قال الرجالة هما بس اللي يتكلموا؟ ولا كلمتي بس اللي بتقف في الزور؟

التفتت نظرات "سعاد" نحوها لتجدها تبتسم لها بازدراءٍ، ورغم هذا لم تناطحها احترامًا لهيبة زوجها، وقالت بهدوءٍ، وتلك الابتسامة الباردة تتدلى من على جانب شفتيها:
-معاكي حق .. نسكت ونخلي الرجالة يصلحوا غلط الحريم.
اعترضت "فيروزة " على كلمة زوجة عمها الأخيرة، وقالت بتحفظٍ:
-أنا مغلطتش يا مرات عمي، خالي اللي عمل كل حاجة من دماغه، وحتى مخدش رأيي..

توحشت عينا "خليل" من جراءتها، وهتف يلومها بتشنجٍ، وعروقه تنتفض من شدة انفعاله:
-أيوه مخدتش رأيك لأنك جايباه لحد عندي في فرح أختك، تفتكري واحد بيقولي عاوز بنت أختك، واتقدملك، وجاي من طرفك، هأقوله إيه؟ خليته يتصرف بالأصول، ده على اعتبار إنك موافقة من الأساس، وإلا مكانش جه كلمني عليكي.

ثم توجهت نظراته نحو "اسماعيل" وهو يتابع:
-يعني أنا عملت الصح، وقولتله تيجي يا ابني البلد تطلبها من أهلها، واحنا هنسأل عليك، وعملت اللي عليا، وبعت ناس تتطأس عنه، والشاب طلع محترم وكويس، وقادر يفتح بيت كامل من مجاميعه، وأظن كده عداني العيب.. فين بقى غلطي؟

بدا حديثه منطقيًا، لا يشوبه شيء، واعتراض "فيروزة" مريبًا لحدٍ ما، وعند تلك الجزئية أتى دور "حمدية" لتظهر براعتها في قدرتها على حياكة المؤامرات الدنيئة؛ ولكن بشكلٍ مثير، غرضها في الأخير كسر الهامات، قسم الظهور، وإحناء الرؤوس في مذلة وعار، لذا استأنفت قائلة بخسةٍ، وبكلمات موحية بانتهاكاتٍ غير أخلاقية:
-إلا إذا كان الموضوع فيه إن.. وعشان كده خايفة الجوازة تكمل، ده لأنه دخل في الجد.

سألتها "آمنة" بقلبٍ واجف:
-معناه إيه الكلام ده يا "حمدية"؟ قصدك إيه؟ فسريه؟
التفتت برأسها نحوها لتجيبها بتهمٍ مُلفقة، وبنظراتٍ احتقارية:
-إنها عاملة حاجة غلط، وبتداري على فضيحتها، يعني شرفها اتمرغ في الوحل.
شهقت مصعوقة انطلقت من جوف "آمنة" قبل أن تسده بكلتا يديها، ونظراتها تحولت على الفور نحو ابنتها، بينما هدرت بها "سعاد" مستنكرة بشاعة التلميح:
-عيب عليكي الكلام ده!

كما انتفض "اسماعيل" واقفًا لينهرها بغلظةٍ شديدة:
-لِم مراتك يا "خليل"! اللي بتقوله ده فيه قطع رقاب!!
على الرغم من صدمته مما تلفظت به زوجته، إلا أن ذلك أشعره بمدى دهائها المقلق في التعامل مع الأزمات؛ وإن كانت الأمور قد اتخذت منحنًا خطيرًا، لم يعنفها، ولم ينطق بشيء، فقط نظراته المدهوشة ارتكزت عليها؛ وكأن تفكيره مع كامل حواسه قد أصابهم العطب. وعلى عكسهم صرخت "فيروزة" في إنكارٍ متعاظم:
-أنا ماسمحلكيش، كله إلا سمعتي!

لوحت "حمدية" بذراعها بحركات مهينة أمام وجهها، وهتفت تهاجمها بعدائية وغل:
-مين إنتي أصلاً عشان تسمحيلي؟ حتة بت لا راحت ولا جت عايزة تمشي رجالة بشنبات على مزاجها!
ثم دنت منها أكثر، وواصلت قذفها بتهمها، بصدرٍ يملأوه الحقد:
-قولي خايفة توافقي عليه ليه؟ راجل مافيهوش غلطة، وإنتي خاوتة دماغنا مش عايزاه، واللي في سنك جابوا بدل العيل تلاتة وأربعة.

كانت "فيروزة" على وشك الهجوم عليها، وربما ضربها، غير مبالية بمكانتها؛ لكن فرد "اسماعيل" عكازه أمامها ليمنعها من الاقتراب منها، وهتف آمرًا بوجهٍ مقلوب، ونظراته تبدلت للإظلام:
-خدي بنتك يا "آمنة" السعادي من هنا.
شعرت "فيروزة" بالشكوك تحوم فوق رأسه، فصاحت مدافعة عن نفسها، وقد باتت في نظرات الموجودين –إلى حد كبير- مذنبة، العار يُدينها:
-يا عمي متصدقش كلامها، أنا أشرف من الشرف، اقسم بالله ما عملت حاجة غلط ولا حرام، أنا زي ما أنا..

تجاهل ما سمعه منها ليقول بقساوةٍ غلفت نبرته:
-اسمعي الكلام يا "آمنة"، خدي بنتك من هنا...
احتضنت "آمنة" ابنتها بذراعها، وألقت الأخيرة نظرة آسفة على عمها، والذي على ما يبدو اتخذ موقفًا مغايرًا لذاك الذي كان عليه قبل قليل، وقبل أن تخرج كلتاهما من الغرفة أتى صوته من الخلف يأمرهما:
-وماتخرجوش برا بيتي!

تجمدت قدما "فيروزة" في مكانها، التفتت برأسها نحو عمها، لم يكن ناظرًا ناحيتها، كان واجمًا بشكلٍ مستريب، اتجهت بنظراتها نحو "حمدية" التي بادلتها ابتسامة انتصارٍ خبيثة، وبصعوبة أجبرتها والدتها على التحرك من مكانها لتنأى بها –مؤقتًا- عن شرٍ جديد بات يحيق بها.

تمكن منها الإعياء، فتسللت إلى غرفته بعد استئذان خالتها، حيث لاقت من الأخيرة ترحيبًا بفعل ذلك، ولما لا؟ فربما تتيح لهما الفرصة للتقارب مجددًا، وإنهاء ما اعتبرته خلافًا زوجيًا. تأملت "خلود" بعينين مشتاقتين متعلقاته الشخصية، جابت على كل ما ضمته غرفته بنظراتٍ متأنية؛ وكأنها تسترجع ملكيتها لما كان لها في الماضي. اقتربت من ثيابه المعلقة على المشجب، أمسكت بأطرافها، وقربتها من أنفها لتشتم عطره العالق بها، تضاعفت اللوعة بقلبها، ورغبت بشدة في استعادة ما فقدته معه، همست لنفسها بتنيدة بطيئة تنم عن حاجتها الملحة إليه:
-وحشتني أوي..

سحبت قطعة من ثيابه، واحتضنتها وهي مغمضة العينين، متخيلة أنه يحويها بين ذراعيه القويتين، وشفتاه تنهلان من على شفتيها مذاق الحب الجارف. انتبهت لصوته القادم من الخارج، فتأهبت حواسها، وقفز قلبها في تلهفٍ راغبٍ إليه. وبخطواتٍ شبه سريعة اتجهت إلى الفراش لتستلقي عليه، ووضعت ثيابه إلى جوارها، وأراحت ذراعها عليهم، لتدعي استغراقها في النوم، خلال تأملها الوله لما يخصه.

فتح "تميم" باب غرفته ليتفاجأ بوجود طليقته بها، ألقى عليها نظرة ناقمة منزعجة، خاصة حينما لمح ثيابه بجوارها، كان ذلك حقًا ما ينقص يومه البائس لتكتمل تعاسته وبؤسه، تنفس بعمقٍ، ثم طرد الهواء خارج صدره بصوتٍ مسموع، والتفت متحركًا في اتجاه الباب مناديًا والدته بصوتٍ شبه حاد:
-يامـــه!

جاءته الأخيرة مهرولة، وتساءلت بنبرة أقرب للهاث، ونظراتها المتوترة تفضح تواطئها:
-خير يا ابني في إيه؟
وقف في الردهة الضيقة خارج غرفته، وأجابها بعبوسٍ غطى كل قسماته:
-بنت خالتي بتعمل إيه جوا في أوضتي يامه؟
ردت عليه بكذبٍ شبه مكشوف:
-كانت تعبانة، وأنا قولتلها تنام جوا، مافيهاش حاجة يعني
علق بتنمرٍ وقح، وبصوتٍ أراد أن يصلها:
-يا سلام؟ طب ما عندها أوضة "هاجر".. فاضية ونضيفة، ما تقعد فيها، ولا هو رمي جتت والسلام؟

تقلبت "خلود" على الفراش من الداخل، ونظراتها قد التهبت من جفائه الموحش، اضطرمت نيران غضبها في قلبها مع هجرانه القاسي؛ وكأن ما منحته يومًا له لم يشفع لها، اعتدلت في رقدتها، وأرهفت السمع لما يقال بالخارج. تدلى فك "ونيسة" في بلاهةٍ، فأدرك "تميم" أنها كانت تساعد ابنة أختها في مسعاها للولوج إلى حياته مجددًا، بإقحامها باستمرارٍ في طريقه، حتى لا يجد المهرب منها، لهذا قال لها بوضوحٍ قاطعًا أي أمل معقود على عودته إليها:
-شوفي يامه احنا بقينا أغراب عن بعض، تنام في أوضتي، تنام في الحمام، إن شاءالله تنام تحت الأرض، أنا مش راجعلها.

هتفت فيه والدته تلومه ببكاءٍ زائف:
-حرام عليك اللي بتعمله فيها ده! اتقي ربنا، وارجع لعقلك، مهما كان في بينكم عيل جاي وآ....
رمقها بنظرةٍ قصد أن تكون خالية من أي مشاعر حين قاطعها حاسمًا المسألة عليها:
-قولتلك أنا ظالم ومفتري .. والعيل اللي ماشافش النور ده مش هيجبرني أرجعلها، حتى لو كانت آخر واحدة على الأرض...!!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني الحلقة التاسعة عشر بقلم منال سالم


أمعنت في كبح ما يعتريها من غضبٍ مهتاجٍ حاليًا لتُكسب وجهها هدوئًا يُغاير الطبيعي، والذي من المفترض أن تكون عليه، لتدعي أنها لم تسمعه ينبذها، أو الأحرى يقصيها من حياته للأبد، لتبدو كمن غفلت لبعض الوقت بسبب إرهاق الحمل، ولم تصلها لعناته أو طرده لها. نهضت "خلود" عن الفراش، وتأرجحت في خطواتها وهي تتجه نحو الباب، لتظهر وكأنها تعاني من عدم اتزانٍ بسبب تأثير الحمل عليها، هتفت من الداخل مُعلنة كذبًا أنها لم تنتبه لوجود طليقها بالخارج:
-أما يا خالتي شوفت حتة حلم جميل، ربنا يجعله يتحقق، شوفت "تميم" شايل ابننا، ومصمم أنا اللي أسميه، وكان في إيده دبلة جوازنا...


 
عند تلك الكلمة الأخيرة توقفت أمام باب الغرفة، راسمة على وجهها علامات الدهشة، لتبدو أمام الاثنين متفاجئة من تواجده، ردت بأنفاسٍ مرتبكة:
-"تميم"!
منحها الأخير نظرة غير مريحة، على أدق تعبير ساخطة، قبل أن يشيح بنظراته بعيدًا عنها، تجاهلها عن عمدٍ، وقال لوالدته بصوتٍ تحول للبرود:
-أنا جيت أطمن عليكي، وعلى جدي، احتمال أبات في الدكان النهاردة، ورانا توريد كبير من بدري
رمقته والدته بنظرة معاتبة، ثم حثته على محادثة "خلود"، فقالت:
-مش هاتسلم على بنت خالتك، وتطمن على ابنك؟
لم يلتفت نحوها، ورد قاصدًا إحراجها:
-لأ.


 
زجرته "ونيسة" في عصبية:
-عيب كده يا "تميم"، راعي اللي كان بينكم، الدم عمره ما كان مياه
تدخلت "خلود" في جدالها الحاد معه، لتستعطفها بما يشبه الرجاء:
-خلاص يا خالتي، سبيه على راحته..
ثم تنهدت هنيهة لتضيف بعدها:
-مهما عمل فأنا لسه بأحبه.
استدار "تميم" برأسه في اتجاهها، وحدجها بنظرة جافة، خالية من أي تعاطفٍ، ثم التفت نحو والدته من جديد ليقول:
-لو عوزتي حاجة كلميني.


 
همَّ بالتحرك، لكن استوقفته "خلود" بالتعلق في ذراعه، وكأن صاعقة من السماء لامسته، انتفض مُخلصًا ذراعه على الفور من قبضتها، ومنحها نظرة صارمة محذرة، ومع هذا النفور الواضح على محياه إلا أنها ابتسمت مقترحة عليه في نبرة ناعمة متدللة:
-أنا هاروح للدكتور بكرة، ما تيجي معايا عشان نطمن على ابننا، وتشوفه في السونار، إيه رأيك؟
أجابها ببرودٍ، وكأن الأمر لا يعنيه حقًا:
-مش فاضي ..

ثم أشـــار بيده بإشارة خاطفة نحو والدته متابعًا حديثه:
-خالتك موجودة، هاتبقى تروح معاكي وتحكيلي.
عاتبته والدته بشدة، وقد انقلبت تعبيرات وجهها للعبوس:
-وما تروحش إنت ليه؟
لم يكلف نفسه عناء الرد عليها، غير مبالٍ بضيقها، فصاحت به بحدةٍ:
-رد يا "تميم".


 
تحرك صوب الباب، ملقيًا خلف ظهره كل ما لا يرغب في سماعه، وعلق بسماجة مهينة:
-ماتنسيش تقفلي الباب بالترباس لما الضيفة تمشي، سلام يامه.
ضربة موجعة تلقتها "خلود" في قلبها بعد جملته تلك، هو يعدها غريبة عنه، ويتعامل معها في أضيق الحدود، حتى جنينه الذي ينمو في أحشائه لم يهتم لأمره، ولهذا أدركت جديًا أن مسألة استعادته ليست بالهينة أبدًا، لم تستطع التحكم أكثر من ذلك في ضبط غيظها، فانفجرت في "ونيسة" تشهدها:
-شوفتي بعينك يا خالتي، وأنا مكالمتش أهوو، بأتهان وساكتة، ويا ريت بعد ده كله عاجب!!

ربتت الأخيرة على ظهرها في أسفٍ، واعتذرت منها بوجهها الممتقع:
-معلش يا بنتي، أنا مش عارفة أقولك إيه بس؟
نكست رأسها في حزنٍ، وهمهمت بتنهيدة بطيئة منكسرة:
-الحمدلله على كل حال.
لمعت عينا "ونيسة" بدمعاتها المتحسرة، وقالت بشفاهٍ مقلوبة:
-ربنا يسامحك يا "تميم"، ولا كنت أتخيل إنك تعمل كده في اللي من دمك، منه لله اللي شقلب كيانك.


 
تركت "خلود" تلك العبرة الزائفة تنساب من طرفها، وفركت عينيها بقوةٍ لتزيد من التهابهما، ثم توسلتها بصوتٍ بدا يائسًا للغاية:
-اللي حصل، محدش كان عارف النصيب هيودي لفين...
ما لبث أن أخفضت نبرتها قليلاً لتتابع بمكرٍ:
-بس طول ما إنتي في صفي.. جايز الحال يتعدل، ويرجعني، برضوه إنتي أمه وكلامك هيمشي عليه في النهاية.
قست نظرات "ونيسة"، وهتفت تؤيدها دون تفكيرٍ:
-هيحصل يا بنتي، أنا مايرضنيش الظلم ولا الافتراء.

أنهت مكالمة سريعة مع ابنتها لتعرف منها تفاصيل لقائها المدبر مع طليقها السابق، عل أواصر الود تعود بينهما؛ لكنها كالعادة باءت بالفشل، ولم تتوقع "بثينة" غير ذلك، انعكس حقدها الداخلي على ملامح وجهها، وهمست لها بصوتٍ خفيض، كمن يملي عليها البديل لخطتها غير الناجحة:
-اسمعي اللي هاقولك عليه، ونفذيه بالحرف الواحد.
جاءها صوتها المختنق تستحثها على النطق بنبرة مليئة بالإحباط:
-قولي يامه.


 
وضعت يدها أمام فمها، لتخفي حركة شفتيها وهي تقول:
-هاتروحي لخالتك، وتقوليلها الواد "هيثم" ماسك في أمي، ومش عايزها تروح بالليل، وإنتي هتاخدي تاكسي وترجعي البيت.
تساءلت "خلود" في ترددٍ حائر:
-وأنا هاعمل كده؟
نهرتها أمها بغيظٍ؛ ولكن بصوتٍ خافت، ومن بين أسنانها المضغوطة:
-لأ يا غبية، دي كلمة تقوليها لخالتك، تضحكي بها عليها، المهم بقى، قبل البؤين دول أعملي نفسك مش قادرة.

أعادت صياغة السؤال عليها لتتأكد من فهمها لما أملته عليها من تعليماتٍ:
-دايخة يعني ومش قادرة؟
ردت بزفيرٍ بطيء:
-أيوه، وطبعًا لأن الوقت اتأخر هتباتي عند خالتك..
-ماشي.
ضاقت عينا "بثينة"، وتبدلت نبرتها للمكر حين أوصتها:
-المهم بقى تلازميها طول الليل، وزني على ودنها، أختي طيبة، وعلى نيتها، هتصدقك على طول، والمثل بيقولك الزن على الودان أمر من السحر.
عقبت عليها ابنتها دون نقاشٍ:
-حاضر.

غمغمت بعدها والدتها في نقمٍ:
-إياكش يفلح ده كله في النهاية.
ردت عليها ابنتها بيأس لم تكابر في إخفائه:
-يا رب.
رفعت "بثينة" أنظارها للأعلى لتلمح ابنها قادمًا في اتجاهها، على الفور أنهت معها حديثها قائلة:
-سلام بقى عشان أخوكي جاي.

ودون أن تنتظر ردها من الجهة الأخرى، أغلقت زر الاتصــال، وأعادت وضع الهاتف في حجرها. دنا "هيثم" منها متسائلاً، وهو يمشط شعره الرطب بيده:
-ها يامه، هنزل أوصلك البيت؟
استراحت باسترخاء في الأريكة، وأجابته بابتسامة ملتوية في خبث:
-لأ يا عين أمك، أنا بايتة معاك النهاردة.
وجوم مندهش حط على تعابيره، وهتف مصدومًا:
-نعم؟ بايتة عندي؟

هزت رأسها بإيماءة مؤكدة، وبين شفتيها تتراقص ابتسامتها اللئيمة:
-أه ياخويا، ولا المحروسة عندها مانع؟
تجاهل جملتها تلك، ليسألها مستوضحًا:
-ليه؟ مش هتروحي مع "خلود"؟
تغنجت بجسدها الممتلئ بحركة ساخرة وهي ترد:
-خالتك ماسكة فيها، وحلفانة ما تسيبها، إيه عايزني أكسر بخاطر أختي؟
لوى ثغره مدمدمًا بخفوت، وبتذمرٍ منزعج:
-طب ليه العكننة دي؟!

ركزت "بثينة" عينيها الحادتين عليه، وسألته في استمتاعٍ مستفز:
-بتبرطم بإيه سمعني؟
لوح بيده نافيًا بوجهٍ مكفهر:
-مافيش..
ثم لعق شفتيه متابعًا:
-هاقول لـ "همسة" إنك قاعدة معانا.
أشــارت له بسبابتها تحذره:
-اعمل حسابك أنا مش ببات في سراير المساخيط دول.
لم يفهم ما الذي ترمي إليه، فسألها بتلقائية:
-يعني إيه؟ مش فاهمك؟ إيه المساخيط دول؟
أجابت بهزة ساخرة من جسدها:
-يعني أوضة العيال اللي مالهاش لازمة دي...

ثم قست نظراتها وهي تكمل بطريقتها المسيطرة الباعثة على الضيق:
-الدلعدي مراتك تنام فيها، أنا يا حبيبي هنام في أوضتك، وعلى السرير الكبير كمان، ماشي يا خويا؟
هتف محتجًا بغيظ:
-ليه يامه بس؟ ده السراير مريحة والأوضة كويسة.
ردت باعتراضٍ ساخط:
-مريحة؟ دي أد كده، ماتكفنيش.

اقترب منها، ومال نحوها هامسًا برجاءٍ:
-ماينفعش يامه، أنا و"همسة" لسه عرسان جداد، ومايصحش يعني في أول جوازنا حد يقعد معانا
رفعت يدها أمام جبينها لتصيح به بنظراتها المتنمرة:
-وأنا مش أي حد يا عين أمك.
صحح لها بمزيدٍ من الرجاء:
-مقصدش، بس عشان نبقى على راحتنا كده.
أخفضت "بثينة" يدها، ووضعت إصبعيها أسفل ذقنها، ثم علقت بأسلوبها الساخط:
-أدي دقني إن شوفتوا خلفة، دي واحدة مقطوع أملها، مالهاش لازمة تنام جمبها أصلاً.

كانت كلماتها كالسهام القاتلة، جعلت ملامحه تزداد تقلصًا، لم يستلذ أبدًا تطرقها لهذه المسألة الحرجة تحديدًا، ووبخها بقليلٍ من الحدة
-لا إله إلا الله، لازمته إيه الكلام ده يامه؟ هنعيده تاني؟ وإنتي دخلتي في علم الغيب؟
ردت ببرودٍ، وتعابير قاسية:
-ده كلام الدكاترة يا روح الروح.
همهم بسبة خافتة لم تسمعها بوضوحٍ، وبنفس لهجتها الباردة أمرته مشيرة بعينيها:
-نادي عليها خليني أشوف حاجة من عندها جديدة ألبسها.
هلل في تشنجٍ:
-كمان؟

ردت مستفزة إياه بطريقتها الفجة:
-أه، أومال عايزني أنام بهدومي دي؟ ولا مستخسرين فيا حتة بيجامة أقضي بيها الليلة؟ دي تلاقيها جيباها من سوق البالة!
ضرب "هيثم" كفه بالآخر، وقد تدلى كتفاه في انهزامٍ، ليغمغم بعدها بزفيرٍ ممتعض بائس:
-كده إنتي ناوية على خراب بيتي أنا كمان.
هدرت به بسماجةٍ:
-يالا اتنحرر شوية، الهدوم طابقة على مراوحي.
أولاها ظهره؛ لكنه رفع عينيه للسماء، وظل يردد بين جنبات نفسه في ضيقٍ مبرر:
-يا رب، إنت شايف وعارف.

بكلماتٍ مُلطفة، وعبارات استهلالية لبقة، حاول "هيثم" أن يخبر زوجته ببقاء والدته في منزلهما الليلة للمبيت فيه معهما، بالإضافة لطلبه استعارة إحدى ثياب نومها الجديدة لارتدائها بدلاً من عباءتها، ورغم الانزعاج الظاهر على تعابير "همسة" بسبب معاملتها الجافة، والمتحفظة معها، إلا أنها وافقت على رجاواته. مسح الأول على جانب ذراعها صعودًا وهبوطًا، وبرفقٍ لطيف معتذرًا منها
-أنا أسف يا "هموس"، المفروض مايحصلش كده، بس أنا والله محروج منك.

ابتسمت قائلة في تفهمٍ مهذب:
-مافيش مشكلة يا حبيبي..
ثم أضافت بعد صمتٍ لحظي:
-طالما على أد الليلادي وخلاص.
تقوست شفتاه معقبًا في غموضٍ:
-يا ريت تكون كده!
اتسعت عيناها متسائلة في توترٍ:
-هي ممكن تقعد أكتر من كده؟
جاوبها بهدوءٍ حذر:
-الله أعلم، محدش عارف أمي بتخطط لإيه..

تطلعت له بغرابةٍ، خاصة حين أكمل مفصحًا عما يدور في خلده:
-بس وجودها مش مريحني.
كان محقًا في توجسه منها، وشاركته زوجته الرأي؛ فوالدته ليست بالشخصية السمحة، لينة المعشر؛ لكنها أبعد ما يكون عن الحماة الوديعة أو الودودة. لفظت "همسة" الهواء على مهلٍ، لتضيف بعدها بانزعاجٍ كسا قسماتها:
-ربنا يستر.

لا يمكن أن يعترف أبدًا أن ما قذفت به ابنة أخيه مجالاً للنقاش، أو التهاون فيه، لقد أساءت إليه شخصيًا، بقولها أنها فرطت في عفتها، وتخشى اكتشاف أمرها. اختفت ملامح الطيبة من على وجه "اسماعيل"، وغلف نظراته وحشية شرسة، رفض رحيل "خليل" أو انصراف زوجته بعد صرف "فيروزة"، ليبقى كلاهما لسماع كلمته الأخيرة فيما يخص شأنها. ضرب بعكازه أرضية الغرفة، فانتفضت "سعاد" على إثر خشونته، بلعت ريقها في حلقها الذي اكتسب مرارة لاذعة، وركزت نظرها معه عندما استطرد ناطقًا:
-إنتي اتجننتي يا "حمدية"؟ سامعة نفسك؟

تجمدت في مكانها من هيئته المرعبة، وتلك الجراءة التي تملكتها من قبل فرت أمام قوته، لطالما كان له الأثر في نفسها، أرادته لها، أو على أسوأ تقدير أن يماثله زوجها؛ لكن لحسرتها، كان أبعد ما يكون عنه. انتزعها من شرودها السريع، واهتزت مع قوة كلماته المدافعة عن "فيروزة":
-بنت أخويا أشرف من الشرف!
ثم تحولت نظراته القاتمة نحو "خليل" ليعنفه بحدته الشديدة:
-إزاي تسمح لمراتك تكلم عن لحمنا كده؟ مين دي أصلاً في الحريم عشان تتجرأ وتقول الكلام ده قصادي؟ لأ وعن مين، بنت المرحوم أخويا.

طعنة مهينة قصفت بـ "حمدية"، وأحرجتها علنًا، خاصة في حضور زوجته، أشعرتها كم هي ضئيلة، نكرة، لا قيمة لها، خجلت من رفع أنظارها، والأفظع من تلك الإهانة هو صمت زوجها، فبدلاً من الدفاع عنها، أطبق على شفتيه بقوةٍ، اشتعل الغضب بقلبها، وحركت ثغرها لترد؛ لكن "اسماعيل" أخرسها بإشارة من يده:
-ماسمعش حسك، ده كلام رجالة.
رددت "سعاد" في نفسها بفخرٍ واعتزاز، وكامل نظراتها مسلطة على زوجها:
-الله ينصرك يا حاج، أيوه كده علمهم الأدب.

انفلتت أعصاب "حمدية"، وردت بوقاحة، حين تخلى زوجها عنها:
-يا حاج أنا غلطت، بس إيه اللي يضمن إن كلامي مايطلعش صح؟
-بردك هتعيدي نفس الكلام، إنتي عاوزاني أتهور وأموتك، لَم مراتك يا "خليل"!
تحرك الأخير بوجهٍ صاغر نحوها، وهمس لها:
-خلاص يا "حمدية".

استشاطت نظراتها من خنوعه، وما زاد الطين بلة أنه يزيد من إحراجها، وبعثرة كرامتها أمام عدوتها القديمة، لهذا لن تصمت أبدًا عن إحراق الأرض ومن عليها، ثأرًا لنفسها، لذا تنحت بعيدًا عن زوجها، وتقدمت نحو "اسماعيل" لتواجهه، وقالت بصوتٍ ثابت، ينم عن كره دفين"
-ما هي لو كانت دي بنتي كنت هتلاقيني أول واحدة أحط صوباعي عيني في التخين، وأقوله اتأكد من ده بنفسك، بنتي سمعتها زي البرلَنت، بس إنتو خايفين يطلع العكس، وساعتها العار هيطول العيلة، وخصوصًا بناتك.

مستفزة لأبعد الحدود؛ هذا أقل ما يُوصف عنها، كادت يد "اسماعيل" تمتد لصفعها لولا أن تدخلت "سعاد" وتعلقت بذراعه، تتوسله بهلعٍ:
-لا يا حاج، اهدى.
أجبره ثقلها على إخفاض ساعده للأسفل، ومع هذا أصرت "حمدية" على استثارة أعصابه، وقالت:
-هتضربني يا حاج "اسماعيل" في بيتك؟ ده كرم الضيافة عندك؟ ده أنا جوزي معملهاش!

انتفضت ذكورة "خليل" الغائبة، وعادت لتطفو على السطح، ليرد بعصبيةٍ وحِدة، وقد أبعد زوجته للخلف ليتصدر المشهد بجسده:
-محصلتش يا حاج "اسماعيل" تمد إيدك على مراتي وأنا موجود...
تصاعد التوتر فجــأة بينهما، وتركزت الأنظار الغاضبة على وجهي كليهما، تابع "خليل" بصوته المحتقن، معاودًا اتهام "فيروزة":
-واللي بتحاميلها دي ليا لي فيها زيي زيك، وكلمتي تمشي على رقبتها، وأي حاجة هتعملها صح أو غلط هتُحسب عليا.

لوهلةٍ عادت الابتسامة الماكرة، تتدلى على جانب شفتي "حمدية"، بعد استثارة حمية زوجها الذكورية، وانتفاضه المتعصب لأجلها؛ لكنها أخفت استمتاعها برؤية تناحرهما، لتنوح بزيفٍ، وهي تخفض رأسها، متعمدة إخفاء عينيها؛ وكأنها تبكي:
-هو أنا غرضي إيه غير مصلحتها، نفسي أشوفها متجوزة ومتهنية، ده أنا أقربلها من أمها، وحتى اسألوا "آمنة"!
بارعة في تلفيق الأكاذيب، والدوران عن حقائق الأمور لخدمة أمورها، هكذا يمكن وصفها، هزت كتفيها لتبدو متأثرة، وهي تستأنف قولها:
-تقدروا تسألوا أي حد غريب، هيقول إني معملتش حاجة برا العُرف بتاعنا.

اقترح "خليل" بغتةً، وبكلماتٍ صدمت الجميع:
-ونروح للغريب ليه؟ ما نسأل الحاج "فتحي"، أهوو عارفنا كلنا، واللي يحكم بيه أنا راضي.
تطلع إليه "اسماعيل" في ترددٍ، بينما اعترضت عليه "سعاد" بتخوفٍ؛ لكونها تعلم بتشدده، وعصبيته الزائدة، وحتمًا لن يكون رأيه محمودًا:
-كله إلا الحاج "فتحي"! ده ما هيصدق، هو حد ناسي اللي عمله في "أسيف" وأمها الله يرحمها.
التفت نحوها "خليل" قائلاً بوجهه القاسي:
-بس راجل دوغري، وهيقول الحق.

رمقته بنظرة معترضة، ما لبث أن توجهت نحو "حمدية" التي أخبرتها بخبثٍ:
-وبعدين يا حاجة "سعاد"، ده إنتي أكتر واحدة المفروض يهمك مصلحة بناتك.
حسم "اسماعيل" أمره قائلاً بصوتٍ خشن:
-لا "فتحي" ولا غيره، احنا هنعمل شوشرة على الفاضين، عشان كلام الحريم
شيطان رأسه سول له بارتضائه، وتراجعه، لن تكون النتيجة مرضية له، بالطبع سيؤدي هذا لانهيار علاقته التي بدأت مؤخرًا مع خطيب المستقبل السخي، ولن يمنحه المزيد من التسهيلات لإنجاز عمله، لهذا رفع "خليل" ذراعيه في الهواء مرددًا بإصرار:
-تمام، اللي إنت عايزه يا حاج، بس أنا عاوز أطمن على شرف بنت أختي، إيه قولك في ده؟

لولا اقتحام إحدى الخادمات للغرفة لتطور الصدام بينهما، حيث هللت الأخيرة بابتهاجٍ عظيم:
-يا حاج "اسماعيل"، سي "فضل" رجع بالسلامة.
خبت التوتر المتصاعد لحظيًا مع تلك العبارات المبتهجة، رددت "سعاد" في لوعةٍ واشتياق:
-ابني الغالي رجع..
وقبل أن تحرك قدماها، توسلت زوجها بنظراتها، ونبرتها الحنون:
-بالله عليك يا حاج "اسماعيل"، ماتضيعش فرحتنا برجوع "فضل".

وحتى لا يمنحه الأفضلية، تراجع "خليل" عن تزمته قائلاً:
-روح شوف ابنك يا حاج، ولينا كلام تاني.
ربتت "حمدية" على كتف زوجها لتوأزره هاتفة:
-أيوه ده عين العقل يا "خليل"..
ورسمت تلك البسمة الناعمة المحملة بالخبث وهي تضيف مادحة:
-ربنا يخليك ليا يا راجلي.

رمقتها "سعاد" بنظرة مزعوجة، وأشاحت ببصرها بعيدًا عنها ترجو زوجها:
-يالا يا حاج، ده احنا محرومين من شوفت "فضل" أديلنا زمن.
استسلم "اسماعيل" أمام الإلحاح والضغط المتزايدين عليه، ليرد بعبوسٍ، وهو يلكز عكازه بالأرضية:
-ماشي .. بس الموضوع مخلصش على كده.

كسجينة في حبس انفرادي، مكثت "فيروزة" في غرفتها الحالية، تضم ركبتيها إلى صدرها، تسند أعلاهما رأسها، وتحاوطهما بذراعين معقودين. شردت تتأمل الفراغ بنظرات حزينة مهمومة،؛ كانت تعلم أن ما قيل في حقها، لن يمضي على خير؛ النظرات الاتهامية، والألسن النارية ستحيك رواياتٍ كاذبة عنها، وكل ما في الأمر أنها لا ترغب في زواج مفروضٍ عليها؛ يجعلها تقضي القادم من حياتها في تعاسة ومعاناة.

أرادت أن تكون زيجتها مبنية على انسجام وودٍ متبادل بين الطرفين، ولا مانع من أن يطوقه الحب العذري. انتشلها من صخب رأسها صوت والدتها المتسائل، بما يحمل الاتهام واللوم:
-إنتي السبب في أي حاجة هتحصل بعد كده.
خنقت عبراتها المتسللة في حدقتيها، ورددت بصعوبة:
-أنا؟
أجابت "آمنة" بمرارةٍ:
-أيوه.. عمك وخالك مش هيعدوا لبعض الكلام اللي اتقال، محدش هيقبل بكده، أنا عارفة كويس هيعملوا إيه عشان يتأكدوا، وأنا غصب عني مش هاقدر أقف قصادهم.

حلت "فيروزة" تشابك ذراعيها، وانتفضت ناهضة عن الفراش، لتتجه إلى والدتها المتوسدة المقعد، جثت على ركبتيها قبالتها، ورفعت أنظارها نحوها، رأتها تبكي في عجز، ووخز ذلك قلبها، وضعت يدها على كفها المستريح في حجرها، وقالت لها:
-أنا مقولتش إني مش عايزة أتجوز، بس مش بالشكل ده، أدوني حقي في الاختيار، أقول أيوه موافقة على الشخص ده ولا لأ.

سحبت والدتها يدها من راحتها، ورمقتها بنظرة قاسية قبل أن تنطق بألمٍ:
-أومال عايزاه يكون إزاي؟ إنتي كده خليتهم يفتكروا إنك خاطية؟ عارفة يعني إيه يبصولك إنك كده؟ ده أقل حاجة ممكن يعملوها هنا إنهم يطردونا، يحرموا علينا نرجع بلدنا أو ندفن فيها.
ورغم تحفزها بسبب ما تمليه عليها إلا أن نبرتها لانت نحوها وهي تسألها:
-وإنتي مصدقة ده يا ماما؟ مصدقة إن بنتك وحشة؟ خاطية في نظرك؟

مع تلك الكلمات بكت "فيروزة" آسفًا على حالها، ولم تخبئ دمعاتها الحارقة، على الفور احتضنت "آمنة" وجه ابنتها بيديها، وقالت، والندم يبدو ظاهرًا في عينيها:
-لأ يا ضنايا، إنتي مش كده، أنا واثقة فيكي، ربنا يسامحهم على اللي عملوه فيا وفيكي.
اتكأت "فيروزة" برأسها على حجر والدتها تستعيد قوتها المهتزة بلمساتها الحنون على بشرتها، ورأسها، مسحت بظهر يدها ما بلل وجهها من عبرات، وأخبرتها، بما توسمت أن يكون حقيقيًا:
-عمي هيقف جمبي.. أنا واثقة فيه.

-غصب عنها هنطمن، مش بخطرها يابا
كان أول ما نطق به "فضل" بصوتٍ صارم، غاضب، مليء بالتشدد بعد أن أطلعه "خليل" على ما دار من جدال أخير بينه وبين والده بشــأن ما تم تداوله عن سمعة ابنة عمه الراحل، لم يكن من النوع المتساهل، ملامحه القاسية، ونظراته الغائمة دللت على هذا بوضوح، ووجد رأيه المتعصب تأييدًا واسعًا من "حمدية" وزوجها، واعتراضًا ظاهرًا من والدته الحنون، ومع هذا أصر على تمسكه بقراره مرددًا من جديد على أبويه؛ وكأنه الآمر الناهي في ذلك المنزل العريض:
-ما عاش ولا كان اللي يكسر عينا على آخر الزمن، مش عايزة تتجوز الأستاذ ده براحتها، بس نطمن احنا كمان على شرفنا، وده من حقنا.

ردت عليه "سعاد" بوجهٍ مصدوم:
-يا ابني بنت عمك متربية على إيدي، تعرف الصح من الغلط، والعيبة ما تطلعش منها.
تصلب في جلسته، وقال في تهكمٍ، مستخدمًا يده في الإشارة:
-الكلام ده كان زمان، وقت ما كانت عيلة بضافير قاعدة في حجرك، دلوقتي عايشة بعيد عننا، والزمن اتغير، يعني الله أعلم بتعمل إيه من ورانا.
لامته بقلبٍ مفطورٍ على تصديقه تلك الشائعات المغرضة:
-حرام عليك، كله إلا كده!

تجاهل لين والدته، واستدار برأسه نحو أبيه يسأله في حزمٍ:
-إنت رأيك إيه يابا؟
صمت مليًا قبل أن يرد بنبرة أوضحت معارضته:
-أنا واثق في بنت أخويا يا "فضل".

كان الأخير يعلم معزة تلك الفتاة عند أبويه، ورغبتهما قديمًا في تزويجها له حين تنضج، وينطق جسدها بمعالم الأنوثة؛ لكنه لم يكترث يومًا لأمرها، وساعده الفارق العمري بينهما على اختيار عروسٍ أخرى تناسبه، تكون طوع بنانه، و"فيروزة" بالنسبة له لا تتخطى في مكانتها منزلة ابنة عمه اليتيمة، لهذا قال بقلبٍ متحجر، ووجه قاسٍ كالصخر:
-شوف يا حاج "اسماعيل"، الموضوع مش هايطلع برا، حد ثقة هنجيبه يطمنا عليها.

لطمت "سعاد" على صدرها، مرددة في تخوفٍ:
-يا لهوي، إنتو عايزين تفضحوا البت؟
نظرت "حمدية" نحوها لترد:
-الفضيحة لو كانت غلطت بصحيح، غير كده مافيهوش حاجة.
أيدها "فضل" في رأيه، وأضاف بنبرة مهددة أرعبت الجالسين:
-مظبوط، وبعدين أي كلام هيطلع براتنا ويتقال بعد اللي هايحصل فيها سواء حلو ولا وحش نهايته الدبح، للي قال واللي نقل.

بهتت تعابير والدته، ولامته بقلبٍ واجف:
-لطفك يا رب، بقى إنت جاي يا ابني عشان تشعللها؟
علق بقساوة منقطعة النظير، لم تتخيل أن يكتسبها ابنها:
-لو واحدة من إخواتي اتقال عليها كده مش هاسكت، هاثبت إنها نضيفة، ده عرض ولايا يامه، يعني شرفنا وسمعتنا! وكله إلا إننا نحط راسنا في الوحل عشان دلع البنات.

دعمته "حمدية" قائلة بابتسامة متسعة:
-عين العقل يا "فضل"، صح يا "خليل"؟
رد باقتضابٍ، وباله مشغول بمصالحه المهددة حاليًا:
-أيوه.. شرفنا لازم نطمن عليه.
أصرت "سعاد" على احتجاجها، وقالت بصوتها المرتجف:
-ده مايرضيش ربنا وآ.....

قاطعها "اسماعيل" بحزمٍ:
-خلاص يا "أم فضل"، ابنك قال وحكم!
برزت عيناها في اتساعٍ مستنكر، لبشاعة ما يريدون فعله بتلك الشابة، لكون الأمر لا يتعلق فقط بإثبات براءتها؛ ولكنه يعني إذلال نفسها العفيفة، وكسر روحها النقية قبل كبريائها كأنثى حرة.

صرخات مقاومة صدرت من تلك الغرفة منذ مطلع الصباح، وبعد رحيل الأغراب، تنفيذًا لقرار ابن عمها، بفحص دليل نقائها. وقفت "آمنة" بالخارج، تبكي ابنتها بحرقةٍ، وهي بالكاد مكتفة من قبل "سعاد" حتى لا تشق جلبابها احتجاجًا على ظلمهم البيّن، بينما تواجدت "حمدية" بالداخل مع زوجة "فضل"، والتي تدعى "سها"، وإحدى القابلات المخلصات، والمحنكات في المسائل النسائية، ممن عُرف عنهن حفظ السر أيًا كانت ماهيته إلى القبر، كانت ذات جسدٍ ضخم، ووجه لفحته أشعة الشمس الحارقة، ترتدي السواد دومًا، حدادًا على رحيل زوجها.

تلوت "فيروزة" بجسدها بشراسةٍ وقوة، محاولة إفلات ذراعيها من القبضات المثبتة لها، لم تصدق عينيها حين اقتحم عليها ابن عمها الغرفة ليطلعها بقساوة مجحفة بما وصل إليه النقاش المحتدم، وبدلاً من الترحاب بها، عاملها باضطهادٍ كمذنبة مُدانة، أصدر حكمه عليها بلا رحمة؛ دون أن يمنحها الحق، وهي التي كانت تكن له كامل الاحترام والمعزة. انهار ما اعتبرته السند، بإقحام تلك المرأة ليديها، في أشد المناطق خصوصية، لتنتهك حصونها؛ وكأنها متاحة للجميع، أزاحت ثيابها الداخلية، تاركة ثوبها الطويل يستر باقي جسدها، وشرعت في مهمتها المكلفة بها. صرخت فيهن "فيروزة" مستغيثة بوالدتها، بصوتٍ بح من كثرة ندائه غير المجدي:
-يا مامـــا! ابعديهم عني، أنا معملتش حاجة! حرام عليكم!

حاولت "سها" تثبيط مقاومتها، وطمأنتها عن عمل القابلة قائلة لها:
-متخافيش، هي مش هتعملك حاجة تقلقك، إنتي اهدي بس.
وكأن التطلع إلى عفتها بمثل تلك البساطة، رفضت بشدة تسهيل الأمر عليهن، وازدادت شراسة مع إبعاد القابلة لما بين ساقيها، ركلتها، وأصابتها بكدمةٍ مؤلمة في وجهها، حتمًا ستترك أثرها لبضعة أيامٍ عليها،

بينما تلذذت "حمدية" برؤيتها تُذل، وتُهان، شعرت بأنها أحنت هامتها، وقضت على شموخها للأبد، لم تتنازل عن حضورها، لتشهد على لحظة إخضاعها، وقد كان. ابتسمت لها بشراسة، ومالت نحو أذنها تهمس لها بشماتةٍ عظيمة:
-شوفتي عملت فيكي، عشان تصدقيني لما أقولك هايجي يوم، وأكسر فيه مناخيرك.
وشددت من قبضتيها عليها، متعمدة غرز أظافرها في لحم ذراعها، لتذكرها بأنها كانت متواجدة في تلك اللحظة المهينة، التي اعتبرتها لا تقدر بثمن، ومن بين آلامها صرخت بها "فيروزة"، ونظراتها الملتهبة المليئة بدموعها الغزيرة:
-عمرك ما هتقدري، واللي عملتيه فيا هتعيشي زيه!

شحذت كامل قواها الغاضبة لتطلقها دفعة واحدة، ونجحت في تحرير نفسها منها، ثم وكزتها بعنفٍ في صدرها، لتتأوه "حمدية" من الألم الشديد والمباغت، والتفتت دافعة "سها" عنها بعدائية بحتة، أجبرتها على الابتعاد عنها، ثم نهضت كالملسوعة عن الفراش، لتعجز المرأة الغريبة عن إكمال عملها. ركضت "حمدية" نحو باب الغرفة طالبة للمساعدة:
-مش قادرين عليها، هتموتنا بنت "آمنة".

دق الباب من الخــارج، ليأتي صوت "فضل" عاليًا بعده:
-إيه اللي بيحصل عندكم؟
استنجدت به صارخة بلهاثٍ:
-تعالى يا "فضل" إلحقنا.
كان الأخير يملك مفتاح باب الغرفة، أداره في قفله، وولج للداخل، وعيناه تقدحان بالشر، مسح أركان الغرفة بنظرة سريعة باحثًا عن ابنة عمه بها، كانت منزوية عند الدولاب، تمسك بمزهرية في يدها، على ما يبدو تحاول الدفاع بها عن نفسها، هددته بصوتها المجروح:
-محدش يقرب مني، محدش هيلمسني!

لم يكترث "فضل" بتهديدها، وتقدم نحوها قاصدًا إيذائها؛ وإن تعرض للضرب والمقاومة منها، لوحت بالمزهرية أمام وجهه، وضربته بمقدمتها على جبينه، لم يأبه بالدماء النازفة من مقدمة رأسه، انتشلها من يدها، وألقها خلف ظهره، عجز من حولهما عن التدخل لفض الاشتباك بينهما، حتى زوجته "سها" ابتعدت عن مرمى غضبه. انقض "فضل" على ابنة عمه، جاذبًا كومة من شعرها، ليرفع وجهها إليه، وحينها تلقت عددًا لا بأس به من الصفعات العنيفة، التي أفقدتها قدرتها على المقاومة، وزلزلتها، وسط صراختها الأخيرة. جرجرها نحو الفراش، وألقاها عليه، ثم سدد لها لكمتين عظيمتين، جعلتها تدخل في حالة من الهذيان، نظر لها شزرًا، وبكراهية مشمئزة من تصرفاتها، ثم التفت نحو القابلة يأمرها:
-كملي شغلك يا ولية!

أومأت برأسها في انصياعٍ، فهددها مشيرًا بإصبعه:
-ولو كلمة اتقالت عن اللي دار هنا مش هيحصلك طيب
لم يكرر جملته مرتين، واتجه نحو الخــارج، لتقفز عليه "آمنة" تلومه بنواحه الباكي، ووالدته بعتابها القاسي، لم تتبدل ملامحه، ولم تلين قسماته، أغلق الباب من خلفه، وعادت المرأة لتكمل عملها في هدوءٍ، بعد ذلك المجهود الشاق، كفكفت عرقها بطرف حجابها الأسود، وبددت الشكوك السائدة، بقولها الحاسم:
-الحمدلله .. البنت زي الفل، وبختم ربها...!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني الحلقة العشرون بقلم منال سالم


وخزات مؤلمة انطلقت ضاربة أنحاء متفرقة من جسده تشعره بومضة من شيء لطالما افتقده، في البداية ظن أنها بضعة أوهام عابرة، لكن تلك الرغبة المتأججة جعلته يئن نوعًا لإشباع ما يتقد بجسده، ترك "آسر" حاسوبه المحمول على مكتبه، وانتفض متجهًا إلى الحمام، غاب بالداخل لدقيقة أو أكثر، ثم عــاد ورأسه محني في خزيٍ، وضيق، لاح الأمل وتبدد سريعًا، هذا ما ردده في عقله! سحب مقعده للخلف، وجلس عليه بإحباطٍ نطقت به ملامحه قبل أن يعبر عنه لسانه:
-حاجة تقرف!


 
تطلع بنظرات غاضبةٍ، إلى شريط الدواء، الموضوع في درج مكتبه المفتوح جزئيًا، دفعه في عصبيةٍ ليغلقه متابعًا حديثه اليائس:
-برضوه مافيش فايدة، ده إنت أحسن نوع جبته عشان أجربه، وخدت منك حبيتن، وزي ما أنا كده!!!

رفع بصره للشاشة الحاسوب المضيئة بصورة لوجه "فيروزة"، تلك التي حصل عليها بمراوغة بسيطة مع "علا"، وضعها على أحد برامج تعديل الصور الاحترافية، وواصل العبث بها، ليتم إضافتها على الصور غير الأخلاقية التي يستخدمها للترويج والدعاية لموقعه الإباحي، والذي يدر عليه ربحًا طائلاً لا حصر له، بسبب المتلهفين لتلك النوعية من المواقع المتجاوزة. ابتسم لنفسه في سخرية، وهو يعيد تشغيل ذاك الفيديو البدائي الذي أعده؛ حيث قام بتركيب صورة وجهها على إحدى الفتيات المنحرفات، لتبدو كما لو كانت تمارس الرذيلة مع أحدهم، باستمتاعٍ شديد، غمغم في تنهيدة بائسة بطيئة:
-شكلي هاقضيها فُرجة بس!


 
وليبدو أيضًا كمن يشاركها المتعة الحسية، أضاف صورته على الرجل الظاهر في الفيديو، ليدعي أنه هو، وبدا متأثرًا لوهلة مما يحفز خلايا عقله، وظن مع التركيبة الدوائية الجديدة، أنه سيحصل على النتيجة المرجوة؛ حينما تنبت الإثارة من منابعها، ولكن قبل أن يمضي قدمًا في عبثه الماجن، سكن ما ظن أنه قادرًا على العطاء. لعن بغيظٍ، وأغلق الفيديو، ليقوم بنقله من موقعه الحالي، وحفظه في ملفٍ منفصل، وبدأ في تحميل مقاطع أخرى جديدة، وصلت إليه للتو. قطع انهماكه رنين الهاتف المسنود على سطح المكتب، نظرة خاطفة ألقاها على شاشته، دون أن يلمسه، انتظر بضعة ثوانٍ ليضغط بعدها على زر الإيجاب، وقال بجدية بحتة:
-أيوه يا سيدي، إيه جديدك؟

صمت لبرهة مصغيًا للطرف الآخر الذي قال بتوترٍ:
-الحاوية دخلت المينا، وخدت دور في التفتيش، أنا قلقان، وإنت مقولتليش حاطط الأمانة فين.
رد عليه بثقةٍ مريبة:
-اطمن أنا عامل حسابي كويس.
سأله المتصل بنبرته الحائرة:
-يعني كان لازم نستورد تفاح؟ ما كنا جبنا شحنة هدوم ولا حاجة تانية، كانت هتصعب الدنيا عليهم شوية.
قال في استرخاءٍ:
-ده عز الطلب.


 
بدت جملته غامضة، فسأله مستفهمًا:
-إزاي يعني؟
أجاب ببساطة شديدة:
-ريحة التفاح هتضلل الكلاب، وده يخدمنا.
ردد برجاءٍ:
-يا رب تفلح.
أكد عليه دون تشكيك:
-لأ دي طريقة متجربة.
أضاف المتصل على عجالةٍ:
-ماشي، وأنا هاكلمك لما نطلع من الجمرك، عشان ننسق مع رجالتنا يعدولنا الحاجة.
رد عليه منهيًا المكالمة:
-حلو أوي، مستنيك.
ثم حملق في شاشة حاسوبه متابعًا تدفق الأرقام المتزايدة لرؤية الفيديو الجديد في انتشاء، لف ذراعيه خلف رأسه، وتوسد بها عليهما قائلاً بوهج خبيث تراقص في عينيه:
-وأنا أشوف شغلي هنا كمان.


 
عملٌ متواصلٌ بلا توقفٍ لجني أكبر قدر من المال في وقت قصير، جعله يشعر كأنه آلة غير بشرية، تدور دون كللٍ أو ملل، لإشباع تلك الرغبة الطامعة، فلم يهتم سوى بهذا، إلى أن نضبت طاقاته المحفزة، وزاد الحنين للعودة للوطن، أعد العدة وارتحل عائدًا إلى بلدته، ساحبًا خلفه زوجة مطيعة، غير قادرة على عصيانه، وأطفالاً صغارًا بطونهم الجائعة تحتاج للملء.

مجيئه غير المتوقع تحول من فرحة وسرور، لكارثة وشرور، خاصة مع تعاظم الغضب، وحجب العقل عن التفكير بروية وبمنطقية، تصاعدت الشكوك، وأوغرت الصدور؛ لكن في الأخير وقع المراد، واُخترقت الأسرار. لم يحمل "فضل" نفسه اللوم، وبدا متفاخرًا بما أقدم عليه مع ابنة عمه، كان يحظو بمكانته المقدسة على رأس عائلته؛ وكأنه حاكم فريد من نوعه؛ هكذا يُعامل أغلب ذكور عائلات تلك البلدة، يمنحوا كافة السلطات، والحريات، ويُعتد بقوةٍ برأيهم؛ وإن كان على غير علم.

رفع رأسه للأعلى في إباءٍ، بدت تعابيره مسترخية، لا يشوبها ذرة ندمٍ واحدة، حتى على ظلمه غير المنصف لها، ارتشف ما تبقى في فنجانِ قهوته، ثم سحب نفسًا طويلاً من سيجارته، ليلفظ الهواء عاليًا، قبل أن يتجشأ بعدها بصوتٍ مكتوم، أسند فنجانه على حافة أريكته الخشبية، والتفت نحو أبيه، ليقول له ببرودٍ متناهٍ، وهو يستند بمرفقه على ساقه المرفوعة للأعلى:
-أنا عملت الصح يا حاج، واطمنت على شرفنا.


 
علق عليه "اسماعيل" بوجهه العابس:
-"فيروزة" مش زي أي حد يا ابني، دي أمانة أبوها عندي.
أخفض ساقه في عصبية، وتوحشت نظراته نحوه، معترضًا على ما اعتبره لين قلبه:

-وعمي –الله يرحمه- لو كان عايش، كان بنفسه صمم يتأكد من شرف بنته، بلاش قلبك الطيب ده يابا مع الحريم، هيركبونا.
نظر له والده في أسفٍ، لكن "فضل" واصل القول بقساوة يتفاخر بها:
-اكسر للبت ضلع يطلعلها أربعة وعشرين، ولو خايف على زعلها يابا، هما يومين وهتنسى، وكأن مافيش حاجة حصلت، دي حاجة زي شكة الدبوس.
بامتعاضٍ منزعج ردد "خليل" عاليًا:
-ما كفاية كلام في السيرة دي، خلونا نشوف هنعمل إيه في التقاوي اللي الأرض عايزاها.


 
استدار نحوه "فضل" ليرد:
-أنا عندي واحد هيجيبلنا اللي عايزينه بسعر معقول.
رد "خليل" في استحسانٍ:
-كويس أوي.
أضاف عليه "اسماعيل" مشددًا:
-اعمل حساب عمك "فتحي" معانا، هو موصيني يا "فضل".
هز رأسه معقبًا:
-اللي إنت عاوزه يابا
تساءل "خليل" في فضولٍ:
-وإنت مش مسافر تاني؟

أجابه نافيًا:
-لأ يا عم "خليل"، أنا نزلت نهائي، ومش راجع تاني.
نظر له باستغرابٍ وهو يسأله:
-ليه بس؟ ده بيقولوا قرش برا حلو!
زفر مليًا ليرد بعدها:
-بس الغربة بتاخد من الواحد، وأنا عايز أفضل جمب أهلي، وخصوصًا بعد ما عملت قرشين حلو.
تشكلت بسمة طامعة على محياه، وهو يبدي رضائه:
-هو ده الكلام الموزون، ولو عوزت أي حاجة أنا موجود
هز رأسه بإيماءة ممتنة، قبل أن يشكره:
-تسلم يا عم "خليل".

فرغت الغرفة إلا من والدتها الباكية، حاولت تهوين الأمر على ابنتها، مواساتها إن صح التعبير، لكن ظلت الأخيرة صامتة، مفصولة عمن حولها، تخوض حربًا خفية بينها وبين نفسها، لا تدري كم انقضى عليها من الوقت، وهي في تلك الحالة الساكنة! تضم ركبتيها إلى صدرها، تتكور على نفسها؛ وكأنها تبحث عن حماية مفقودة، لن تحصل عليها أبدًا، شردت من جديد تعايش ما مرت به، حيث أرادوا كسر كبريائها، إحناء هامتها، اغتيال روحها المتمردة، وتدمير نفسيتها، بتطفلهم غير الجائز على مواطن أنوثتها، للتأكد من شائعات مغرضة نشروها، ادعوا فيها أنها فتاة لعوب؛ فرطت في شرفها، وهي أبعد ما يكون عن هذا الاتهام الباطل. دمعة أخرى انضمت لشقيقاتها في صمتٍ، لتنساب على وجنتها، مسحت بظهر كفها مظاهر ضعفها البائنة على وجهها الحزين..،

أرادت فقط أن تجد من يصدقها بلا دليل، يمنحها ثقته غير المرهونة بشروط؛ ولكن ما رغبت فيه كان بالعسير عليهم. توقفت عن نحيبها الساكت ململمة شتات نفسها، لم تكن لتسمح لزوجة خالها الشامتة الحاقدة بإظهار انتصارها عليها، تذكرت بقوة تلك النظرات المغلولة، المليئة بشرور النفس، وهي تبرز من عينيها؛ وكأنها تتشفى بها، لو كانت النظرات تقتل حقًا لقتلها!
اهتز جسدها بقوةٍ، حين لامستها والدتها تسألها بخذلانٍ لازم شخصها الضعيف:
-إنتي كويسة يا بنتي؟

تطلعت لها بنظرات فارغة؛ وكأن وهج الحياة قد انطفأ بها، حتى أمها لم تكن لتسمح لها برؤيتها ذليلة، قست عينا "فيروزة" نحوها، وردت متسائلة:
-تفتكري إيه؟
نكست رأسها في أسفٍ وهي تعتذر منها:
-حقك عليا، أنا قلبي بيتقطع عشانك، بس غصب عني، مكونتش هاقدر أقف قصاد جبروتهم، وخصوصًا في الحكاية دي.
وضعت "فيروزة" يدها على ذقن والدتها، رفعتها برفقٍ إليها، وحدقت في عينيها الكسيرتين بقوة غريبة، لا تعرف من أين استدعتها، أو استجمعتها، ثم قالت بصوتٍ خبت منه لمحة الوهن:
-ارفعي راسك لفوق يا ماما، بنتك شريفة، وطاهرة، ليه زعلانة؟

هتفت بقلبٍ متألم، وعينان تبكيان:
-أنا زعلانة عليكي، من كسرة نفسك قصادهم، من آ....
انخفضت يدها عن لمس ذقنها، وقاطعتها بصرامةٍ، وقد احتدت نظراتها:
-لا عاش ولا كان اللي يكسرني أو يذلني...
ثم ابتعدت عنها، ودفعت جسدها لتهبط عن الفراش، لتتابع بصيغة آمرة:
-يالا بينا..

قتلت "فيروزة" اختناقة موجعة، حاولت الظهور في صوتها، حين أكملت:
-مافيش حاجة يتبكى عليها هنا.
لم تفكر "آمنة" حتى في مجادلتها، وردت في خنوعٍ:
-حاضر يا بنتي.

قطع محدودة من الثياب قامت بجمعهم في وقت ضئيل، بعد إعادة ترتيب الغرفة، لتبدو نظيفة، منسقة؛ وكأن أحدًا لم يطأها من قبل، تقدمت "آمنة" نحو الخارج أولاً، تاركة ابنتها خلفها، لتستعد نفسيًا للمغادرة، متوقعة إحساسها بالخجل، وربما الانكسار، مثلما تشعر هي؛ لكنها فاجأتها "فيروزة" حين تبعتها رافعة أنفها للأعلى، في شموخ عجيب؛ كمن لم يتعرض للإساءة أبدًا، مع فارق عظيم؛ نظراتها تبدلت من المحبة والدفء، للقسوة والعدائية، والسبب كان معلومًا. تفاجأت "سعاد" باتجاه الاثنتين نحو باب المنزل، فقطعت عليهما الطريق بجسدها، وتساءلت في جزعٍ:
-على فين العزم؟

بادرت "آمنة" مُجيبة نيابة عن ابنتها:
-مالناش قعاد هنا.
تعلقت بذراعها ترجوها:
-استني يا "آمنة"..
نظرت لها الأخيرة بعتابٍ، قبل أن ينطق لسانها:
-كتر خيركم على اللي عملتوه.
ردت "سعاد" مدافعة عن نفسها بحزنٍ يعتصر قلبها:
-أنا ماليش ذنب يا "آمنة"...

ثم اتجهت أنظارها نحو تلك المسكينة، ذات الملامح الواجمة، نظرت لها بإشفاقٍ، وهتفت ترجوها بصوتٍ غلفه العطف، وهي تمد يدها لتلمس كتفها:
-"فيروزة" يا بنتي!
انتفضت الأخيرة من لمستها، وتراجعت قبل أن تكرر ذلك، كارهة بشدة، وبسخطٍ متعاظم للغاية، أن يضع أحدهم يدها على جسدها، أو أن يدنو منها، أيًا كانت معزته عندها. اعتذرت منها زوجة عمها بقهرٍ واضح عليها، وقد بدت الأكثر تأثرًا بما حدث:
-حقك عليا يا بنتي، أنا عمري ما هسامح "فضل" على اللي عمله فيكي.

سدت "فيروزة" أذنيها بيديها، حتى لا تسمع ما يذكرها بما خاضته من تجربة مهينة لذاتها، واستدارت تقول لوالدتها بصوتٍ متشنج:
-يالا من هنا.
هناك شرخ جسيم -غير مرئي- نال من كل ما ظنت أنه ثابت لديها، ومن تلقاء نفسها تساءلت "سعاد" ببديهية:
-مش هتستنوا "خليل"؟
ردت "آمنة" بوجه عابس؛ كمن لا تدين لها بشرحٍ:
-هو حر مع مراته، يرجع وقت ما يحب.

لم تكلف "فيروزة" نفسها عناء الرد عليها، حتى محبتها الصافية لم تشفع لها عندها، وضعت حاجزًا وهميًا بين كل من تورط في أذيتها، بينما ألقت عليها "سعاد" نظرة أخيرة مطولة؛ وكأنها تودعها للأبد، وقلبها يبكي حزنًا على رحيلها المفروغ منه.

رؤيتها بثوبها الفضفاض، بعد كل سنواته العُجاف، أوقظ به تلك المشاعر الحسية المنسية مع كد الحياة الذي لا ينتهي، جعل رغباته المفترسة تثور وتزأر بقوة، تدعوه للتمتع بما حباه المولى من مواهب ذكورية مفرطة، طالما أنها تحدث في نطاقها الشرعي؛ خاصة أنه يعشق ترويض أمثالها، وامرأته لم تمنحه ذلك الشعور بالسطوة المطلقة؛ لكن هناك ما اعتبره عقبة شائكة، تمنعه حاليًا من إتمام ذلك..،

لا يوجد ما يُعيب زوجته مطلقًا، فهي تحمل السمات المثالية للزوجة المنشودة؛ الوفاء، الطاعة العمياء، لا تعانده، تكفي يومها بالقليل، ولا تطمع أبدًا فيما لا يرضيه، يُقال عنها باختصارٍ بأنها طوع بنانه؛ لذا إن تهور وباح برغبته بالزواج مجددًا، حتمًا سيلومه الجميع على هذا. إذًا ليتريث لبعض الوقت، على أمل أن تصر تلك العنيدة على رفضها، ويستغل ذلك لصالحه.

لمح "فضل" طريدته المثيرة وهي تندفع خارجة من المنزل، فتلفت حوله بنظرات خاطفة سريعة، ليتأكد من عدم رؤية أحدهم لهما معًا، وبلمح البصر، تقدم نحوها معترضًا طريقها، ألقى عليها نظرة بطيئة جالت على تفاصيلها، ليستهل حديثه بخشونة نفرت منها:
-ماشية كده وواخدة في وشك؟ مش معبرة حد فينا ليه يعني؟

رمقته "فيروزة" بنظرة نارية مغلولة، وأشاحت بوجهها بعيدًا عنه، استوقفها بشدها من ذراعها صائحًا بها بغلظةٍ:
-مش بأكلمك تردي عليا؟
انتزعت ذراعها من قبضته القوية، وحدجته بنفس النظرات الكارهة قبل أن تصرخ به، رغم جرح أحبالها الصوتية، رافعة سبابتها أمام وجهه:
-إنت آخر حد تفكر تكلم معايا بعد اللي عملته!

لم ينكر أنها لفتت أنظاره بعد تلك الفترة الطويلة من الغربة، حيث أنهكته دوامة الحياة، والسعي وراء جني المال في أقل وقت ممكن، لم يكترث لتواجد زوجته معه ودعمه في تلك المشقة. دقق "فضل" النظر في تفاصيلها الأنثوية، وتخيلها بدون ما يحجب الرؤية عنه، تغيرت كثيرًا عن آخر مرة رأها فيها، وكان ذلك قبل بضعة سنوات، بدت مختلفة في الوقت الحالي، برزت معالمها وتكورت، كانت مفعمة بالنشاط، والقوة، على عكس شريكته التي أهملت في نفسها، وكرست حياتها لخدمته ورعاية الصغار، فتناست أنوثتها، وباتت روتينًا مزعجًا خلال متابعته لسير حياته الرتيبة، عاد من شروده السريع ليبرر تصرفه البغيض قائلاً ببرود استفزها:
-وأنا عملت إيه، ده أنا كنت بأطمن على شرفي.

صرخت توبخه بقوةٍ، غير عابئة باحتمالية تكرار بطشه الأهوج عليها:
-أنا شريفة غصب عن عين أي حد!
التوت شفتاه ببسمة خبيثة، عابثة، وأضاف بغمزة من طرف عينه:
-ما احنا اتأكدنا يا بنت عمي.. زي الفل!
رمقته بنظرة استحقارٍ نافرة، وهي تهمهم بخفوتٍ، مولية إياه ظهرها لتشرع بعدها في السير:
-قذر.

لم يستمع بوضوح لما نعتته به، ولم يهتم، سار إلى جوارها بخطواتٍ متسعة ليلحق بها، هاتفًا من خلفها:
-إيه مش هتقعدي معانا؟ وترحبي بابنك عمك؟ ده أنا غايب بقالي زمن.
توقفت عن الحركة، واستدارت نحوه تحدجه بمزيد من النظرات الحانقة، خاصة تلك النظرة الاحتقارية التي اشتملته من رأسه لأخمص قدميه، قبل أن تهزأ منه:
-ابن عمي؟! ده بجد؟ ولا نكتة بايخة..

قست نظراته من ازدرائها الواضح، بينما تابعت "فيروزة" بنفس القوة؛ وكأن أياديهم لم تمسسها بسوء:
-عارف إنت كنت زمان حاجة كبيرة أوي في نظري.. دلوقتي بقيت ولا حاجة.
إهانتها المتطاولة أغضبته، فأشار لها بسبابته يحذرها:
-احفظي أدبك معايا.

وكأنه لم ينطق بشيء ذو قيمة، فأضافت بنفس الثبات والقوة:
-أنا مغلطتش فيك، بس دي الحقيقة.. وأوعى تفكر إن اللي حصل معايا ده هيكسرني، بالعكس، ده عرفني نوعية الناس اللي من دمي، وحقيقتهم.
رد بشدةٍ، وبوجه مُربد بحنقه الغاضب:
-أنا مافيش حرمة تعصى عليا، عندك "سها" مراتي لو بس فكرت تعارضني مش هتلاقي غير حزامي.
نظرة أخرى نارية نالها منها قبل أن تهتف منهية الحديث معه:
-ربنا يرحمها ويرحمنا... من اللي زيك.

توقف في مكانه ولم يتبعها، وقد أبصر زوجته تطل برأسها من النافذة، أراد إخفاء تأثره الواضح بها، فاستقام في وقفته، ونفخ صدره بالهواء، ليصيح بعدها بسخافةٍ:
-على مهلك وإنتي ماشية يا بنت عمي.. لأحسن الطريق وحش على اللي زيك.
ثم وضع يده على بطنه الجائع، ومسح عليه بحركة دائرية متكررة، لتنخفض بعدها نبرته هاتفًا لنفسه، بما يشبه الوعد، وتلك النظرة المفترسة تحتل حدقتاه:
-ما احنا مسيرنا هنتقابل ..

بتعسفٍ وقسوة رفضت السماح لها بالتواجد معها طوال فترة إعدادها للطعام؛ وكأنها تعلن لها بشكلٍ ملتوٍ أنها لا تجيد الطهي من الأساس، رغم براعتها في تجهيز المأكولات، والتي يشهد الجميع عليها بذلك. ظلت "همسة" باقية في الخارج على مسافة معقولة، تمكنها من رؤية حماتها، وهي تعبث بأدوات الطهي، مخرجة كافة ما رتبته في الأدراج، لتزيد من الفوضى الحادثة به، كتمت ضيقها مرغمة، حتى لا تمنحها الفرصة لإفســاد ما بينها وبين زوجها، فالأخير قد حذرها من لجوء والدته لتلك الأساليب المستفزة لينشب الشجار بينهما. لمسة حنون منه على جانب ذراعها أجبرتها على إبعاد نظراتها المزعوجة عنها، التفتت ناحية "هيثم" الذي سألها:
-هي لسه مخلصتش؟

نفخت وهي تجيبه بضيقٍ:
-معرفش، بس قالبة المطبخ كله، ومافيش حاجة مطلعتهاش، كأنها قاصدة ده.
غمغم بتبرمٍ، وهو يفرك مؤخرة عنقه:
-أنا عارف أمي، هتنكد علينا النهاردة.
التفتت في اتجاهه تشير له بسبابته منذرة إياه:
-يكون في معلومك أنا مش هانضف ده كله لوحدي، بجد حرام أوي، دي ما سبتس حاجة مطلعتهاش من دواليب المطبخ.
أمسك بيدها ليخفضها، وقال مبتسمًا:
-هابقى أغسل الأطباق والحلل معاكي، مرضية؟
أومأت برأسها في استحسانٍ قبل أن ترد باقتضابٍ:
-ماشي.

سألها "هيثم" مغيرًا حوارهما:
-أمك رجعت من البلد ولا لسه؟
أجابت عليه بعد تنهيدة شبه مهمومة:
-أيوه .. كلمتها قالتلي هي في البيت، بس صوتها مش عاجبني، شكل في حاجة كده حصلت.
علق عليها بنبرة عادية:
-تلاقيها تعبانة من مشوار السفر
هزت كتفيها قائلة:
-جايز.

سألها في فضولٍ:
-وأختك اتقرت فاتحتها؟
أجابته بقليلٍ من التردد:
-باين كده.. الصراحة معنديش تفاصيل.
رد غير مبالٍ بمعرفة الأمر:
-متستعجليش، هنعرف كل حاجة، يا خبر بفلوس..
ابتسمت وهي تتم القول الشعبي الدارج:
-بكرة يبقى ببلاش.
وضع يده على ظهرها ليدفعها برفقٍ للأمام، وهو يتابع:
-تعالي أما نشوف أمي بتعمل إيه جوا.
سارت معه متمتمة:
-أوكي.

ولج كلاهما لداخل المطبخ، حيث أحدثت "بثينة" فوضى عارمة، عن قصد، وسوء نية، انعكست علامات النفور والضيق على ملامح وجه "همسة"، ولم يستطع "هيثم" التعليق، فالمكان ينطق عن نفسه، تقدم نحو والدته الواقفة أمام الموقد، سألها في اهتمامٍ:
-إيه يامه؟
استدارت نحوه مرحبة به:
-تعالى يا حبيبي، أنا خلاص هحمر البط، وأقفل الفرن على صينية البطاطس، زمان وشها اتحمر..
مط فمه في إعجابٍ قبل أن يقول:
-بط مرة واحدة..

وكزته برفقٍ في جانب ذراعه، وهي تستكمل موضحة ما أعدته:
-لأ وحشيتهولك مَرتة من اللي بتحبها.
استنشق "هيثم" بعمقٍ رائحة الطعام الشهية التي عبقت المكان، وهز رأسه معقبًا عليها:
-ما هو باين من الريحة.
تساءلت "همسة" من خلفها، وهي تكبح غيظها المتنامي بداخلها:
-مش عايزة مساعدة يا طنط؟ أنا شاطرة في الطبيخ.
نظرت لها شزرًا، ثم أبعدت عينيها عنها، لترد بتهكمٍ:
-بأمارة إيه يا ادلعدي؟

أجابت عليها "همسة" بثقة، مستعيدة في مخيلتها العبارات المشيدة ببراعتها خلال فترة عملها بعربة الطعام:
-الناس كلها عارفة ده، وتقدري تسألي ماما.
علقت بنقمٍ سافر:
-من يشهد للعروسة غير أمها.
ورغم نبرة السخرية المحسوسة في صوتها، إلا أنها ردت بجأشٍ تُحسد عليه:
-تقدري تدوقي أكلي بنفسك وتحكمي.
على الفور احتجت باشمئزاز:
-لأ مش عايزة، وبصراحة كده أنا مضمنش تحطي لابني حاجة في الأكل.
بدت جملتها مليئة بالاتهامات الغامضة، ضاقت نظرات "همسة" نحوها، وسألتها بقلبٍ ينبض في توتر:
-حاجة؟

حيلة ماكرة رغبت في نشرها بين الزوجين للتفريق بينهما، لهذا ادعت عليها "بثينة" بأكاذيبٍ ملفقة، وهي تضع قناع البراءة على ملامحها:
-بص يا "هيثم"، أنا مردتش أقولك يا حبيبي، وأنا بأدور على التوابل، لاقيت علبة البرشام دي مستخبية وراهم..
ثم أظهرت من جيب صدرها علبة دوائية غريبة الشكل، دقق "هيثم" النظر فيها هاتفًا بدهشةٍ:
-برشام؟!!

تابعت كذبها المرتب قائلة:
-أيوه، شكله مريحنيش، وصفته للصيدلي اللي بأتعامل معاه في التليفون، وقولتله على اسمه، فقالي إنه منشطات من إياها.
شهقت فاضحة خرجت من جوف "همسة" على كذبها البيَّن، بينما ردد "هيثم" مصدومًا:
-نعم منشطات؟!!
حدجت "بثينة" زوجته بنظرات مقيتة، وأضافت بأسلوبها الحاقد:
-شوفت مراتك بتعمل إيه من وراك؟

نفت "همسة" كامل اتهاماتها بصوتٍ بدا مختنقًا بوضوح:
-والله ما حصل، دي أول مرة أشوف العلبة اللي في إيدك.
على الفور استغلت والدته كلماتها الأخيرة، وأعادت صياغتها بشكلٍ ملاوع لتتهمها من جديد:
-يعني أنا كدابة؟ بقى دي أخرتها، سامع مراتك بتشتمني إزاي؟
انفجرت "همسة" باكية من الظلم المجحف الواقع عليها، بينما استنكر زوجها ما تحاول والدته فعله قائلاً بتجهمٍ شديد:
-هي نطقت أصلاً؟

من بين بكائها الحارق، هتفت "همسة" بصوتها المتقطع:
-أنا عمري ما أعمل كده، صدقني يا "هيثم".
لم يكذبها للحظة، ودلل على ذلك بدعمها الصريح:
-مصدقك.
ثم استدار نحو والدته، ليختطف من يدها الدواء، وهو يقول بحدةٍ:
-هاتي العلبة دي يامه.

لم تتحمل "همسة" المزيد، وانصرفت راكضة من المطبخ لتنزوي بغرفة الأطفال مواصلة بكائها المرير، بينما صوت "بثينة" يرن في جنبات المكان عاليًا:
-بنات آخر زمن، والله أعلم بتهبب إيه تاني من ورانا.
تركزت أنظارها بعد ذلك على ابنها الذي انتزع قرصًا من شريط الدواء، ابتلعه بقليلٍ من الماء، وسط دهشة عارمة من والدته، برزت عيناها في صدمةٍ، وسألته:
-إنت بتعمل إيه يا واد؟

ابتسم بعبثية ليستفزها حين جاوبها:
-هاخد قرص أجرب مفعوله مع مراتي حبيبتي.
تبدلت تعابير الانتصار لغيظٍ كبير، وصرخت فيه وهو يبتعد:
-يا واد خد هنا، ماتبقاش دلدول!
تجاهل ألاعيبها المكشوفة لإفساد استقراره الأسري مع حبيبته، واتجه إلى زوجته الباكية، جلس إلى جوارها على طرف الفراش الصغير نسبيًا –بالمقارنة مع فراشهما المزدوج بالغرفة الأخرى- يربت على ظهرها، ويمسح عليه بنعومة، هون عليها حزنها قائلاً بلطفٍ:
-متزعليش نفسك يا "هموسة".

ردت عليه بنحيبٍ، وهي تنظر نحوه:
-مامتك بتفتري جامد أوي عليا، وأنا مقدرش أستحمل الظلم ده.
أحنى رأسه على جبينها ليقبله، ثم قال معتذرًا:
-حقك عليا، مسيرها تمشي، هي مش هتفضل هنا على طول.. وأنا هتكلم معاها عشان ترجع بيتها.
غمغمت دون تفكير:
-يا ريت.

شعر "هيثم" بتدفق الحرارة إلى جسده، مع تقاربهما الجسدي المشوق، فتنحنح متسائلاً بتسلية:
-هو الجو ماله بقى حر كده ليه؟
كفكفت زوجته عبراتها متسائلة في استغرابٍ طفيف:
-حر؟
أوضح لها بنزقٍ:
-مش معقول البرشام اشتغل بالسرعة دي! أنا مش "طرزان"!
تدلى فكها السفلي للحظة في صدمة استوعبتها بعد لحظاتٍ، برقت عيناها وهي تسأله بوجهٍ تخضب بمزيد من الحمرة الدافئة:
-إنت عملت إيه؟

مرر ذراعه حول خصرها ليحاوطها، وضغط بأصابعه على منحنياتها المثيرة، ثم غمز لها قائلاً بنبرة لعوب:
-شوفي إحنا نخلي أمي ملبوخة في البط، وخليني أنا هنا في العسل.

أهملت في متابعة تلك الفترة الأولية في حملها، وعرضت نفسها للكثير من المخاطر، والمجهودات البدنية والعصبية غير المحمودة، وكأنها لا تهتم، إلى أن قررت الذهاب لطبيبها، بمفردها، تاركة والدتها تمكث عند شقيقها، لتفسد هنائه، ومتوقعة أن يكون جنينها على ما يرام، خاصة في عدم وجود عوارض مقلقة؛ ولكن جاءت المفاجأة كالصاعقة المميتة، حين تفقدها الطبيب، وفحصها بدقة...،

أضاءت شاشة أجهزته الحديثة بمعطيات غير طيبة، مع انخفاضٍ كبير لمعدل نبض الجنين، والذي يناقض ما يفترض أن يكون عليه في تلك الفترة الزمنية. لم يعرف كيف يستهل حديثه معها، ومع هذا عليه أن يكون أمينًا مع مرضـاه، طلب من الممرضة مساعدتها على النهوض وارتداء ثيابها، انتظرها خلف مكتبه، مدونًا بعض الأشياء في ملفها، وتطلع إلى نتائج التحاليل المخيبة للآمال أيضًا، والتي تؤكد على صعوبة حالتها. جلست "خلود" قبالته، واضعة حقيبة يدها على حجرها، وسألته:
-معناه إيه إن نبض الجنين ضعيف؟ ده وحش يعني؟

رفع عينيه نحوها، وأجاب بهدوءٍ تام:
-للأسف أه.. واحتمال كبير الحمل ينزل.
انفرجت شفتاها عن صدمة مرعبة، أحست بتلك الخفقة القابضة تعتصر قلبها مع صراحته المطلقة، رفض عقلها التصديق، وهتفت مستنكرة:
-إنت بتقول إيه؟ فال الله ولا فالك يا شيخ .. أنا ابني زي الفل، قول كلام غير ده!!!
تفهم طبيعتها الغاضبة، وحافظ على ثبات نبرته الرزينة متابعًا توضيحه:
-يا مدام المشيمة عندك فيها مشاكل، أشعة الـ (4D) مبينة ده قصادي.. استحالة يكمل.
صرخت به بعدائية، ووجهها التهب على الأخير:
-الله أكبر عليك، إنت هتحسدني؟

ضاقت عيناه في اندهاشٍ، وردد مذهولاً:
-أحسدك؟
-أيوه، ابني مافيش فيه حاجة.
رفضت بشكل قطعي تصديق ما قاله، بل تعذر عليها تفسير مصطلحاته الطبية التي حاول بها توضيح طبيعة حالتها المرضية المهددة بإجهاضٍ وشيك. منحته تلك النظرة النارية، فأضاف على مهلٍ، متجاوزًا عن عصبيتها:
-الجنين عشان يتكون بيتغذى من الحبل السري، وبيكون ده متصل بالمشيمة، اللي بتمده بالدم، وبكل العناصر اللي محتاجها والأكسجين، و.....
قاطعته بلوعةٍ:
-طيب شوف لي دوا أخده، وتتصلح البتاعة دي.

عقد حاجباه مكررًا في استغرابٍ:
-تتصلح!!
قالت ببساطة شديدة:
-أيوه .. زي أي حاجة، مش إنت دكتور، ولا دي شهادة مضروبة؟
للمرة الثانية تهينه بشكلٍ فج، وحاول قدر المستطاع ألا تنفلت أعصابه، لذا تنفس ببطءٍ، وقال لها:
-حضرتك برضوه مش فهماني يا مدام، معدل نبض الجنين في الفترة دي أقل بكتير جدًا من اللي المفروض يكون عليه
سألته ببلاهة:
-يعني أخد إيه ويزوده؟

أدرك أنها حالة ميؤوس منها لتستوعب حقيقة إجهاضها، فلجأ لطريقة أخرى لإقناعها، واستطرد قائلاً:
-طب أنا هسألك شوية أسئلة، ممكن؟
تقوست شفتا "خلود" عن امتعاضٍ واضح، وردت على مضضٍ:
-اتفضل.
أخفض نظراته ليسجل إجاباتها دون تأخير، وهو يسألها:
-حضرتك وزوجك أقارب؟
أجاب دون تفكيرٍ مطول:
-أيوه ولاد خالة، من دم بعض.
زم شفتيه قليلاً، ثم تسأل بحذرٍ:
-تمام.. طيب في الفترة الأخيرة حصل بينكم تواصل جسدي، علاقة يعني؟ غير المرة اللي جيتلي فيها وعندك نزيف!
قطبت جبينها نافية:
-لأ.

تابع تساؤلاته المحققة في حالتها:
-لما الممرضة قاست ضغطك، القراءة كانت عالية في الجهاز، زي كل مرة، حضرتك بتعاني من الضغط؟
هتفت باستنكارٍ:
-هو إنت عاوز ضغطي مايعلاش من الهم والقرف اللي بأسمعه
-حصلك نزيف تاني؟ بقع دم؟
شردت للحظة متذكرة تلك القطرات التي لطخت ثيابها الداخلية، وتكررت بشكلٍ دوري على مدار الأيام الماضية، تجاهلتها معتقدة أنه شيء طبيعي، أن يلفظ جسدها بقعًا من الدم الداكن. استراب الطبيب من صمتها الطويل، وأعاد سؤالها:
-يا مدام حصلك نزيف تاني؟

ادعت كذبًا لتضلله:
-هو مش نزيف أوي، دي كانت مرة ولا اتنين، كنت مجهدة وكده.
بات كذبها مفضوحًا، مع محاصرتها بالمزيد من الأسئلة الطبية الدقيقة التي تكشف عن عوارض الإجهاض، وما إن فرغ من أسئلته المستفيضة معها حتى قال بصراحةٍ، وبناءً على الاستنتاجات المؤكدة التي جمعها عن حالتها:
-طيب يا مدام، حضرتك لازم تكوني مستعدة لأي طارئ الأيام الجاية، لأن في احتمالية كبيرة إن الجنين يموت في بطنك.
صرخت بوجهه وهي تضرب بيدها على سطح مكتبه:
-إنت الظاهر عليك ما بتفهمش، عايز تموت ابني، وهو لسه عايش.

ابتلع إهانتها بأعصابٍ مشدودة، ثم تنفس ببطءٍ، ليتابع بعدها:
-حضرتك تقدري تروحي لأي دكتور تاني أحسن مني، وأنا متأكد إنه هايقولك نفس الكلام.
هبت واقفة ترمقه بتلك النظرة الناقمة، ثم دفعت بيدها محتويات سطح مكتبه في عصبيةٍ، لتتناثر على الأرضية، وتسبب الفوضى، صرخت داعيه عليه بسخطٍ كبير:
-منكم لله يا ظلمة، ربنا يهدكم.. إنت ولا تفهم حاجة في الطب.
تدخلت الممرضة لتساعد في إبعادها عن مكتبه، نجحت في إخراجها منه، ولم تتوقف "خلود" عن نعته بألفاظٍ شبه نابية تعبر عن سخطٍ عظيم وسط ذهول الجالسين بالخارج.

لم يجد مكانًا يصلح لركن سيارته، سوى تلك البقعة القريبة من إشارة المرور، والمحاذية في نفس التوقيت للشارع المؤدي لطريق الكورنيش. أوقفها "تميم" تاركًا إشارة الانتظار مضيئة، وألقى نظرة عابرة على السائرون من حوله قبل أن يلتقط هاتفه المحمول، وضعه على أذنه، بعد عبثه برقم أحدهم، مترقبًا رده، وما إن سمع صوته حتى بادر بسؤاله:
-إنت فين يا عم "ناجي"؟
جاءت نبرته لاهثة وهو يرد:
-دقيقة وهاكون عندك، إنت فين بالظبط
جاوبه بزفيرٍ متعب:
-قبل الإشارة بشوية..
عقب بلهاثٍ:
-تمام، أنا جايلك.

غــاص "تميم" في مقعد سيارته، وأراح رأسه للخلف، مغمضًا عينيه للحظاتٍ، لم ينكر أن التهائه المتعمد بالعمل الزائد لم يفلح في إيقاف عقله عن التفكير فيها، ما زالت تستحوذ حتى على أصغر فراغات عقله، وتجبره بشتى الطرق على الاستغراق في التفكير مجددًا فيها، ورغمًا عنه –بعد كلام خالها الأخير معه- تخيلها ترتدي خاتم الخطبة، وابتسامة ساحرة سعيدة تظهر على شفتيها، أحس بكآبة تثقل صدره..،

فنفض المشهد الوهمي عن مخيلته، لكن ما لبث أن لاح على زاوية فمه ما يشبه البسمة الساخرة، كانت "فيروزة" نادرًا ما تبتسم له، معه دومًا متجهمة، عاقدة لحاجبيها، مقتضبة الجبين، ومع هذا كان تأثيرها جليًا عليه! بيأس انتزع نفسه من شروده الحزين، لا جدوى من التفكير فيها الآن، أصبحت رسميًا لغيره، ولمن لا يستحقها أبدًا، وهذا ما وخز قلبه بشدة، من ينالها عليه أن يكون الأفضل في كافة النواحي، يميل للكمــال.

فتح "تميم" عينيه ليتفاجأ بطيفها متجسدًا عبر زجاج سيارته الأمامي، للحظة توهم أن ذلك من وحي عقله المرهق؛ لكنها كانت بشحمها ولحمها، تقف تقريبًا على بضعة خطواتٍ من سيارته، تركز كامل انتباهها على الطريق لتعبره، انقطعت أنفاسه؛ وكأنها سرقتها منه. قفزات متحمسة أصابت قلبه، فأحس به ينتفض بقوةٍ بين ضلوعه، تصلب في جلسته، وحملق فيها بفمٍ مفتوح، لم يدرك أنه يبتسم لمجرد رؤيتها..،

تأملها محاولاً التطلع لتفاصيل وجهها من زاويته، تعذر عليه هذا، المثير في الأمر أن حواسه تحفزت بشكلٍ رائع، قضى على ما يشعر به من إحباطٍ ويأس، ومع هذا تبددت سعادته المؤقتة مع استعدادها للانتقال للجانب الآخر معتقدًا أنها ستلتقي بزوج المستقبل. حل الوجوم التعيس على خلجاته، وتهدل كتفاه باستياءٍ ناقم، قضى على رجفة مزعجة تسربت إليه حين اقتحم "ناجي" سيارته ليسأله:
-اتأخرت عليك يا ريس؟

أجاب بتعابير مكفهرة للغاية:
-لأ.
نظر إليه في استغرابٍ، وسأله:
-مالك يا "تميم"؟ في حاجة حصلت؟
سحب الأخير نفسًا عميق يخمد به ما انتفض في صدره من طقطقات الغيرة ليرد:
-مافيش
أشــار له بيده لينطلق:
-هنطلع على الوكالة ولا رايحين فين؟

تعلقت نظرات غير طائعة، من عينيه القاتمتين، نحو بقايا أثرها المتسرب في زحام الطريق، قبل أن يدير المقود، ويندفع مبتعدًا عما يؤلم قلبه، ليقضي ببطءٍ، وبلا رحمة، على مشاعره النابضة لأجلها...!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني الحلقة الحادية والعشرون بقلم منال سالم


ومضــات خاطفة غزت لحظتها الشاردة، حين توقفت لبرهة على قارعة الطريق، منتظرة هدوء حركة السيارات، لتعبر للجهة الأخرى، استعادت لقطات من حديثها المحتدم مع والدتها، موجة الغضب الحارقة التي اجتاحتها منذ تلك اللحظة المشؤومة لا يمكن أن تُمحى آثارها القاسية بسهولة..،


 
هي فقط حاولت الخروج من ذاك المكان الملعون بأقل الخسائر الممكنة، خاصة مع لقائها المنفر بابن عمها، فلا يعرقل ذهابها بتسلطه المقيت، وما إن عادت إلى منزلها –القابع بنفس البلدة- بصحبة والدتها فقط حتى ثارت ثائرتها، وتقاذفت حمم غضبها في كل مكان، التفتت ناظرة إلى أمها تلومها:
-إنتي اللي عملتي فيا كده مش أنا!


 
ردت "آمنة" متسائلة بوجهها العابس:
-أنا يا "فيروزة"؟
أكدت عليها ابنتها، بكل ما يعتريها من حنق:
-أيوه، لو كنتي خدتي موقف من الكلام اللي اتقال في حقي، مكانش حد اتجرأ ولمسني..
جاهدت لتخنق تلك الغصة التي احتل نبرتها، وقالت بمرارةٍ، وانكسار تكاد تراه في عينيها:
-عارفة يعني إيه يكشفوا سترك؟ يجردوكي من كل حاجة عشان بس نفوسهم المريضة صدقت كدبة مالهاش أساس..


 
أطرقت والدتها رأسها، ولم تعقب، فأكملت "فيروزة" حوارها أحادي الجانب، مفرغة تلك الشحنة الجاثمة على أنفاسها فيها:
-جايز معملتيش حاجة معاهم، بس سكوتك واستسلامك خلاني في نظرهم كده، مذنبة من غير دليل، خاطية وأنا معملتش حاجة خالص.
انتحبت والدتها وهي تعقب عليها:
-خلاص بقى ذنبي دلوقتي؟

نظرت ابنتها في عيني والدتها بنظراتها الجريحة، ثم تابعت بألمٍ شديد:
-أنا اتكسرت من جوايا يا ماما، مع إني مظلومة، في حاجة اتهزت فيا، مابقتش زي الأول، حتى لو اللي اتعمل ده فيا إنتو شايفينه عادي!
ربتت "آمنة" على كتفها بحنوٍ، وهونت عليها عذابها قائلة لها:
-متقوليش كده، اللي حصلك مش سهل عليا برضوه.


 
رغم بكائها الصادق، إلا أنها لم تشعر بتعاطفها الحقيقي معها، أفسدت سلبيتها المميتة رباط الثقة بينهما. بلعت "فيروزة" ذاك العلقم المرير في حلقها، وتنهدت متابعة بأنفاسها المنفعلة:
-شوفتي نظرات "حمدية" ليا، مع إنها عارفاني كويس، بس كانت أول واحدة لفت حبل المشنقة حوالين رقبتي.
علقت عليها بنواحٍ:
-والله أنا حاولت أتكلم مع عمك، جايز مايسمحش ده يحصلك وآ....
قاطعتها "فيروزة" بحزنٍ جلي، وحسرة مقروءة في نظراتها:
-عمي.. يا خسارة عليه!
زاد اختناق صوتها مع قولها:
-النهاردة اتأكدت إن السند راح من زمان!


 
حاولت أن تكبح عبراتها لتبدو متماسكة، لكنها فشلت، فالأمر يفوق قدرة أي إنسان طبيعي على الاحتمال، كفكفت دموعها الحارقة، واستأنفت معبرة عن قسوة أقاربها:
-وعمي وقت الجد خد صف ابنه، ونسى إني متربية تربية أصيلة، ما عملش العيبة ولا فيها موتي!!
احتضنتها والدتها، ومسحت على ظهرها معتذرة منها:
-حقك عليا يا بنتي.

انسلت من أحضانها متسائلة في قهرٍ:
-هترجع الكلمة دي إيه ولا إيه؟!
تنفست "فيروزة" بعمقٍ لبضعة مرات حتى تقتل ضعفها الذي طغى على السطح، وقالت بحزم، وبقساوة كست نظراتها:
-بالنسبالي كل حاجة ربطتني في يوم بالبلد دي انتهت!
تساءلت أمها في حيرة:
-يعني إيه؟


 
قالت حاسمة أمرها نهائيًا، كمن يقرر، لا من يُخير:
-أنا مش هارجع هنا تاني يا ماما .. حتى لو مت!
عند تلك الكلمات الختامية استفاقت "فيروزة" من سرحانها المفطر للقلوب على صوت البوق المزعج لإحدى السيارات، انطلقت عابرة للجهة الأخرى، مانعة نفسها من ذرف أي عبرات، كانت كراهيتها لما مرت به خلال الفترة الأخيرة قد وصلت لمنتهاها، ليبقى ضعفها مخبئًا بداخلها، غير مسموح لأحدٍ، برؤية الهزيمة التي نالت من روحها وسحقتها.

كان لسيرها المرهق الأثر المحمود في تخفيف وطــأة معاناتها، دارت لوقت طويل في الشوارع، آملة أن تفرغ شحنتها المكبوتة في صدرها، تمكن التعب من قدميها، فاتجهت أخيرًا إلى محل رفيقتها؛ وكانت آخر من تحبذ اللقاء بها في تلك الظروف، استقبلتها "علا" بتلهفٍ متحمس، ما إن رأتها حتى قفزت عن مكتبها، واتجهت إليها لتحتضنها مستهلة حديثها المرح معها بتهنئة حــارة:
-نقول مبروك بقى؟!

ضاقت نظراتها الملتهبتين نحوها باستهجانٍ بائن، وسألتها بما يشبه الاتهام:
-يعني كنتي عارفة؟
بتلقائيةٍ أجابتها رفيقتها:
-أكيد.. "آسر" ليه مكانة مميزة عندي وآ...
قاطعتها "فيروزة" متسائلة بنوعٍ من الهجوم:
-ومحذرتنيش؟ أو حتى عرفتيني باللي ناوي يعمله؟

تطلعت إليها في استغرابٍ، لم تبدُ سعيدة بتاتًا، مظاهر الفرحة الطبيعة كانت معدومة من على ملامحها الواجمة، لم تبعد عينيها المتفرستان في وجهها، وقالت مبررة تصرفها، بدهشةٍ غلفت نبرتها:
-هو معملش حاجة غريبة، طلبك للجواز من أهلك، كأي حد عايز يرتبط ببنت بشكل رسمي.
احتقنت عينا صديقتها، وبدت وكأنها تقاتل شيء ما بداخلها، بينما أكملت "علا" ببساطة شديدة؛ وكأنها لم تفعل ذلك حقًا:
-ولو إنتي مش راضية أرفضيه عادي.

هنا صرخت بها "فيروزة" بصوتٍ متهدج:
-"علا" بسببه أنا اتأذيت!
وضعت رفيقتها يدها على فمها، كبتت شهقة تنازع للخروج من بين شفتيها، وقد كانت في حالة صدمة، أخفضت يدها لتسألها في قلقٍ:
-إزاي؟ هو عملك حاجة؟
ندمت الأخيرة لاندفاع لسانها الأخرق، في البوح بما لا يفترض قوله، فصححت بحزنٍ ملموس بقوة في تعبيراتها الذابلة:
-لأ مش هو.
ألحت عليها متسائلة في فضولٍ شديد:
-أومال؟

تجنبت منحها الإجابة الحقيقية بنوعٍ من المراوغة:
-حاجة مش مهمة، بس كان لازم على الأقل تعرفيني يا "علا"، إنتي صاحبتي.
شعرت رفيقتها بغرابة تصرفاتها، بوجود ما تخفيه عنها، وردت في توجسٍ:
-"فيروزة" أنا متوقعتش إنك تزعلي كده خالص، افتكرت هتفرحي بجو الخطوبة والحب والرومانسية، الحاجات اللي أي بنت بتحلم بيها.

نظرت لها بعينين فارغتين، خالية من المشاعر تقريبًا، يغطيهما الحزن والهم، حاولت "علا" الابتسام، وأضافت بنعومةٍ، عل رفيقتها ترى الجانب الدافئ في شخصيته، مثلما تراه هي:
-وعلى فكرة "آسر" بيحبك أوي، تقريبًا مش شايف غيرك، عايزة إيه تاني غير كده؟
اعترفت دون ندمٍ:
-وأنا مش بأحبه!

ورغم كون ردها الصريح قد أراح "علا"، إلا أنها احتفظت بسعادتها في الخفاء، استمعت إلى رفيقتها وهي تواصل قولها:
-ومش عايزة جواز صالونات، ولا حد يجبرني على حاجة مش عايزاها.
تصنعت البراءة، وسألتها لتتأكد من فتور مشاعرها نحو "آسر":
-أنا بجد مش فهماكي، حد يجيله عريس لُقطة زي ده، ويرفضه.
أجابت بلا شكٍ:
-لُقطة بالنسبة لغيري؛ لكن مش أنا.
انفلتت تنهيدة حالمة من بين شفتي "علا"، تبعها نظرات ساهمة، وهي تردد في جنبات نفسها برجاءٍ عظيم:
-يا ريتني كنت مكانك!

امتزجت حرارة الجو، مع الرطوبة العالية، والتي غطت معظم رصيف الميناء، بشكلٍ غريب، لتمنح المتواجدين إحساسًا كبيرًا بارتفاع درجات الحرارة عن المعتاد، أصبح الطقس خانقًا بشكل غير اعتيادي، خاصة والمكان يعج بزحامٍ شديد، بسبب تكثيف الإجراءات الأمنية لتفتيش كافة البضائع الواردة والصادرة. أظهر "تميم" تصريحه المروري ليلج للداخل بسيارته، بينما تساءل "ناجي" في تذمرٍ:
-مش شغل الميناء والفواتير بتاع "هيثم"؟ مالنا احنا ومال القرف ده كله؟

قال ببسمة باهتة مرتكزة على زاوية فمه:
-عريس يا سيدي.. والفواتير دي لازم ناخدها قبل ما نسلم التوريد الجديد.
علق ساخرًا من مكوثه الطويل بالمنزل:
-هو هياخد الشهر كله وإلا إيه؟ ده كل الرجالة بتطفش من تاني يوم!
رد عليه "تميم" ممازحًا:
-سيبه كام يوم، بكرة النكد يلبس فيه.
تجرأ صديقه ليسأله بوقاحة طفيفة، وذلك الفضول يبرز في نظراته نحوه:
-صحيح الناس بتقول إن الجماعة بتوعك أعدين معاك في بيت العيلة، هو إنتو رجعتوا لبعض ولا إيه؟

انعطف "تميم" بسيارته نحو الموقف المخصص لركن السيارات بداخل الميناء، رمقه بنظرة محذرة قبل أن يوبخه بخشونةٍ:
-ومن امتى أنا بأتكلم يا "ناجي" في حاجات تخص أهل بيتي مع حد؟
برر له على الفور:
-أنا يا سيدي عاوز أباركلك لو رجعتوا لبعض، وبعدين ده الناس اللي بتقول، إكمن شايفين الجماعة عندكم ليل نهار.
زجره بحدةٍ، وتلك الشراسة المقلقة تغزو حدقتاه:
-خلينا في شغلنا اللي جايين عشانه أحسن.
لعق شفتيه، ورد دون تفكير:
-اللي يريحك.

في تلك الأثناء، وعلى مسافة غير بعيدة منهما، كان "محرز" يجري مكالمة هاتفية مع أحدهم، لإطلاعه بآخر مستجدات إنهاء إجراءات تخليص الحاوية التي تحوي ثمار التفاح المستوردة، أنهاها واستدار ببطءٍ ليتفاجأ بتواجد الاثنين في الميناء؛ وكأن مسألة حضوره إلى هنا مستبعدة عن ذهنه، بهتت ملامحه، وأصابته لوسة موترة، كان كمن تعرض للصعق كهربيًا، فهتف بصوتٍ خفيض:
-يادي المصيبة، إيه اللي جابه هنا؟!

بحث سريعًا بعينيه عن حاجز ما ليتوارى خلفه، قبل أن يلمحه شقيق زوجته، مرددًا لنفسه:
-ده كده الحكاية كلها تتكشف لو عرف إني هنا!
وجد ضالته المنشودة، سيارة نقل كبيرة، اختبئ عند مقدمتها، مانحًا عينيه زاوية رؤية جيدة، وضع الهاتف على أذنه ليهاتف نفس الشخص الذي حادثه قبل قليل، وردد بصوتٍ مضطرب:
-بأقولك إيه يا أستاذنا، أخو مراتي هنا، كده مش هاعرف أتحرك براحتي..

جاء صوت "آسر" من الطرف الآخر ناطقًا بذهول:
-"تميم"؟ وده إيه اللي جابه؟ إنت مش قايلي إنه مالوش في شغل المينا؟
رد في حيرةٍ:
-معرفش، أنا زيي زيك اتفاجئت بيه هنا.. ها أأجل الحكاية ولا أعمل إيه؟
أجابه معترضًا:
-لأ استنى
هتف متسائلاً:
-لحد امتى؟
جاوبه بهدوءٍ عاد ليسيطر على نبرته:
-شوية، جايز يكون جاي في حاجة في السريع وماشي.

على مضض عقب عليه:
-طيب.
سأله "آسر" في اهتمامٍ:
-والأمانة فين؟
بابتسامة واثقة، لا تنم عن كونها المرة الأولى أبدًا، أجاب:
-في الحفظ والصون، مستني راجلي يعدي عليا ياخدها.
حذره بلهجةٍ شديدة:
-حاول ماتظهرش قصاد "تميم"، مش عايزين حد يشك فيك..

خطر لـ "محرز" خاطر سريع، ذكره بليلة عرس "هيثم"، حين تفاجأ برؤية "آسر" في حفل الزفــاف، كان أمرًا صادمًا تواجده في المكان، ومع هذا عمد إلى التعامل معه كشخص غريب، لم يسبق له رؤيته أبدًا، والأخير تصرف بنفس الأسلوب؛ وكأن تعاملاتهما لا تمتد لسنواتٍ سابقة.. نفض ما يشوش صفاء تفكيره حاليًا، ليرد بزفيرٍ ممتعض:
-حاضر يا سي الأستاذ.

لم يمضِ الكثير من الوقت على تواجده بالميناء، فمجرد حصول "تميم" على الأوراق المطلوبة انصرف من هناك، ليستعيد "محرز" ضبط نفسه، ويخرج للعلن بعد أن كان يختبئ كالجرذان .. اتجه نحو المخرج، حيث ينتظره أحد أتباعه المخلصين، ممن يقومون بالتهريب مقابل ربح مادي سريع، لوح له الأخير بيده مرحبًا بهتافٍ مادح:
-عمي وعم الناس كلها..

لوى "محرز" ثغره مرددًا بسخطٍ طفيف:
-فين أراضيك يا "حاتم"؟ أنا افتكرتك بطلت الشغالة، ومابقتش محتاج!
هتف نافيًا:
-حد يرفس النعمة بردك يا ريسنا؟ بس كان عندي شوية مشاكل كده ولبخ
سأله بنظرات قاسية:
-حاجة ليها علاقة بشغلنا؟
نفى "حاتم" على الفور:
-لأ خالص، احنا في السليم.
تأبط "محرز" ذراعه، وجذبه بعيدًا نحو زاوية خالية من البشر، ثم أخفض صوته ليقول له:
-طيب عاوزك في تهريبة خفيفة، بس يا تطلعك لفوق، يا تجيبك أرض.

ابتسم وهو يقول دون تفكيرٍ:
-معاك يا ريس.
شدد عليه بلهجةٍ لا تمزح:
-خد بالك، دي حاجة مهمة أوي، ولو نفع تجيب المدام معاك يبقى زي الفل، منها تزغلل عين بتوع الجمارك، ومنها لو اتقفشت ماتروحش في تُوكر، إنت بتاعنا وراجلنا.
صمت للحظة في ترددٍ، قبل أن يستجمع جأشه ليعترف له:
-مش هاينفع أجيب الجماعة معايا!

ضغطت أصابع "محرز" على ذراعه، وقست نظراته متسائلاً
-ليه؟ هي كانت أول مرة؟ ده إنت في جيتها بدل الطاق طاقين، يعني مافيش حاجة بتروح عليك
قال موضحًا بنزقٍ:
-أنا طلقت "نيرمين" من فترة، وبصراحة كده كانت وش بومة، جايبة لأمي الفقر!
بدت علامات الحيرة والانزعاج ظاهرة على وجه "محرز"، والذي أردف قائلاً في استنكارٍ:
-يا شيخ، دي كانت نفعانا في حاجات كتير.
لم يكن مكترثًا بضيقه، وأضاف مقتضبًا:
-اللي حصل بقى.

فرك "محرز" طرف ذقنه، وقد بدا كمن يفكر في عمقٍ:
-الليلة دي محتاجة حريم عشان نعرف نعديها.
رد عليه مقترحًا:
-أنا هاتصرف، هأجر واحدة من غير ما نديها تفاصيل.
سأله بنبرة مهتمة:
-عندك اللي يعمل كده؟
أجاب مؤكدًا:
-أيوه، الواد "ناصر" صاحبي عارف نسوان بعدد شعر راسه.

شدد "محرز" من قبضته عليه، ليحذره مجددًا، من مغبة التصرف برعونة، في هذا الوضع الحرج:
-احنا مش هنوسع الدايرة يا "حاتم"، الحكاية مش ناقصة شوشرة، ده احنا عمالين نقول يا حيطة دارينا، كده هتفتح العين علينا، وباليزيد.
أوضح له معللاً:
-أنا مش هاقوله حاجة، هافهمه إنها عملية تهريب هدوم عادية، زي ما بيحصل كل مرة، ويشوف واحدة كده من إياهم تساعدني، إكمن الشغل كتير، هلاوعه!

استغرق "محرز" لدقيقة في تفكيره، يدير الأمر في رأسه، قبل أن يمنحه رده النهائي:
-استنى ماتعملش حاجة غير لما أشور على كبيرنا
تساءل "حاتم" بقلقٍ، وقد بدا في حاجة ماسة للمال:
-هو ممكن يعترض؟
رد عليه بوجه يكسوه الجدية:
-أه طبعًا، ده كل خطوة بنعملها في شغلتنا دي محسوبة بالورقة والقلم.

دقــات ثابتة على باب المنزل، حثت الصغيرة –ذات الجديلتين، والأعوام الخمسة- على التحرك نحوه لفتحه، ارتسم على شفتيها ابتسامة طفولية فرحة لرؤية والدها الغائب، فردت ذراعيها تدعوه للإقبال عليها واحتضانها. ترك "خليل" ما في يده من أكياس ممتلئة بالطعام والفواكه على الأرضية، لينحني حاملاً إياها، بعد غلقه للباب، ضمها إليها هاتفًا بحنوٍ، رغم اللهاث المصاحب لصوته:
-حبيبة بابا.

سألته الصغيرة بعتابٍ:
-اتأخرت ليه؟
أجاب "خليل" مبتسمًا:
-كان عندي شغل أد كده.
عبست الطفلة، وقالت ببراءتها غير الملوثة:
-أنا بأزعل لما بتسافر.
رد عليها بحنوٍ كبير، وهو يمسح على صدغها بكفه:
-معلش يا حبيبتي، ده عشان أجيبلك لعب حلوة.

ظهر أمامه امرأة عشرينية، حسنة الوجه، قمحية البشرة، تلتصق ثيابها المنزلية ببدنها بشكلٍ مغر، انفرجت شفتا "خليل" عن رغبة جائعة، خاصة مع دلالها الأنثوي وهي ترحب به:
-حمدلله على السلامة يا "خليل".
تقدم نحوها، والتف ذراعه الآخر حول كتفيها ليضمها إليه، وليشعر بمنحنياتها الجذابة على جسده، تنهد قائلاً لها بلوعة الاشتياق:
-وحشتيني يا "سماح".

لكزت كتفه برفقٍ، وتغنجت بجسدها معاتبة إياه في عبوسٍ رقيق:
-كده بردك ماتتصلش بينا الفترة اللي فاتت يا سي "خليل"؟
رد معللاً سبب غيابه:
-ما إنتي عارفة "حمدية"، كانت فوق دماغي.. مش مخلياني أشم نفسي حتى.
تأففت كمن تذوق شيئًا لاذع المذاق، لتقول بعدها بنفورٍ، وهي تضع يدها على صدرها:
-أعوذو بالله منها، لما تيجي سيرتها قلبي بيتقبض.

قال مؤيدًا بسخطٍ كبير:
-بومة طول عمرها، ربنا ياخدها ويريحني، وبعدين أنا جاي أقعد معاكي إنتي كام يوم.
تمايلت "سماح" بجسدها بدلالٍ أكبر، وهي تحمل الطفلة عنه، لتسأله بعدها:
-صحيح، إنت سيبتها في البلد لوحدها؟
أجاب نافيًا بصوتٍ مرهق:
-لأ، مع العيال، وبعدين هيجرالها إيه يعني؟

ردت بتوجسٍ:
-لأحسن تشك فيك، سفرك بقى كتير وكده.
انتزع ساعة يده، وأزاح سترته المتعرقة عنه، ليرد بغير مبالاة، وهو يلقي بثقل جسده على الأريكة العريضة:
-أنا قولتلها مأمورية طارئة، زي كل مرة.. تصدق ما تصدقش تتفلق، أنا هربان من مشاكل الدنيا كلها عشان أجيلك يومين أروق دماغي.
هتفت بتدللٍ:
-أحلى دلع هتشوفه معايا، ده أنا مراتك حبيبتك..

ثم تحولت نبرتها لقليلٍ من الجدية، حين سألته:
-إنت كنت قايلي قبل ما تسافر إن في خطوبة بنت أختك، عملتوا الخطوبة؟
أخبرها بعد زفيرٍ بطيء، صرف معه إنهاكه:
-لأ .. لسه.
جلست الطفلة في حجره، وأحاطت بجسد والدها، بينما تساءلت "سماح" بفضولٍ:
-ليه؟

راوغها "خليل" في الرد، وقال:
-بعدين بقى، أنا دماغي أد كده من الطريق.
اعتذرت منه بابتسامةٍ، كانت لعوب إلى حد ما:
-دلوقتي أنسيك التعب وهدة الحيل.
اتسعت ابتسامته العابثة، وقال لها مستخدمًا يده في الإشارة:
-هتلاقي في الشنط اللي هناك دي كباب وكفتة، أنا جايبهم عشان ناكل ونروق على نفسنا.

سال لعابها مع إحضاره لذاك الطعام الشهي، وارتفع زئير بطنها الجائع، لتصيح في حبورٍ:
-الله .. وأنا هاجهز السفرة على طول.
أمرها بما يشبه الرجاء:
-أوام يا "مووحة"، لأحسن أنا واقع من الجوع.
ردت عليه بلؤم ممتزج بالخجل:
-ما أنا زيك، محطتش الزاد في بؤي من ساعة ما اتصلت عليا وقولتلي أنا جاي، هو أنا يجيلي نفسك أكل ولا أشرب من غيرك؟

هتف في انتشاءٍ:
-أصيلة يا ست البنات.
أحنت "سماح" جسدها للأمام لتجمع الأكياس التي أحضرها، بطريقة شبه مغرية، متعمدة أن تبدو مقوماتها في مرمى بصره، ليظهر تأثيرها عليه، وسألته، دون أن تعتدل في وقفتها:
-صحيح عملت إيه في تأشيرة أخويا؟
أجابها على الفور، ونظراته لم تفارق منحنيات جسدها:
-كلمت الراجل معرفتي وهيخلصهالي قريب، متقلقيش.

اعتدلت ببطءٍ في وقفتها، وردت تشكره في امتنانٍ
-ماتحرمش منك يا غالي.. مسافة ما تغسل إيدك هتلاقي الأكل محطوط على التربيذة.
هز رأسه مرددًا بابتسامة متحمسة، ويداه تلاطفان طفلته الصغيرة الجالسة في أحضانه:
-ماشي يا عسل.

صعدت إلى سطح المنزل، في ذلك الوقت المتأخر من الليل، وقفت عند حافته، عاقدة لساعديها معًا أمام صدرها، تتأمل بعينين متعبتين الأمواج المتلاطمة وهي تتكسر على الشاطئ، كانت روحها مثلها، تتكسر مع القساوة التي تختبرها من آن لآخر، وكلما حاولت لملمة شتاتها المبعثر، يظهر ما يحطمها من جديد، لم تختر أن تكون الضلع المنوط بتحمل عبء المسئولية كاملة؛ لكن فرض عليها رعاية أسرتها، في ظل طبيعة شخصية والدتها المسالمة، ومع رهافة مشاعر توأمتها، ووجود خالها الطامع وزوجته الحقود، وعائلة تسكن بعيدًا عنها، لا تلتقي بهم إلا في المناسبات السارة.

أطالت "فيروزة" النظر في السواد الحالك على مرمى البصر، وهي تسمح لحزنها بالطفو بعيدًا عن الشامتين، بكت في صمت، نحيبها الخافت اختلطت مع أصوات المياه العالية، لم ترغب في مشاركة أحدهم ضعفها، لم تفعل ذلك من قبل، ولن تفعله الآن. انتفضت بقوةٍ مع رنين هاتفها الموضوع في قبضة يدها، لم تعتد على اهتزازه في مثل تلك الساعة، حدقت في الشاشة بالرقم الغريب الذي احتلها، تجاهلت الرد عليه؛ لكنه أصر على المواصلة، فاض بها الكيل، وأجابت بحدةٍ:
-ألو.. أيوه..

صوتًا رجوليًا عميقًا رحب بها بلطفٍ:
-مساء الورد يا "فيروزة".
تحفزت في وقفتها، وتقلصت تعبيراتها متسائلة:
-إنت مين؟ وعرفت اسمي إزاي؟
في خضم ما عايشته قبل لحظات لم تتبين من الوهلة الأولى صوته الناعم المألوف؛ ولكنه أجاب بهدوء، حتى لا يُطيل حيرتها:
-أنا "آسر".

ذكر اسمه كان كفيلاً باتقاد النيران فيها، لم تبادله الترحيب أبدًا، بل تسابق في عقلها الذكريات المؤلمة التي ارتبطت به، وهتفت تهاجمه بضراوة، دون أن تعطيه الفرصة لقول نصف كلمة على الأقل:
-إنت جبت رقمي منين؟ ومين سمحلك تكلمني أصلاً؟ أنا مافيش بيني وبينك حاجة، ومش موافقة أتجوزك، يا ريت تكون فهمت.
لحظة من الصمت حلت عليه، حاول أن يستوعب فيه ما اعترفت به توًا، قبل أن يرجوها:
-طب ممكن تسمعيني؟

صاحت بعصبية لافظة أي محاولة للتودد لها بمعسول الكلام:
-ده اللي عندي، ويا ريت ماتتصلش تاني، لأني هاعمل بلوك لرقمك، ولأي رقم تفكر تتطلبني منه.
ثم قطعت الاتصــال فجــأة، وصدرها ينهج بقوة، كافة الانفعالات الثائرة التي لطالما قاومتها، اندفعت ككتلة حارقة في تلك اللحظة تحديدًا، لم تهدأ ثروتها إلا بطرده من حياتها، وإن لم يرتكب شيئًا سيئًا في حقها؛ لكن وجوده اقترن بشرور لم تتعافَ منها بعد.

بضعة أيامٍ أخرى انقضت عليها، في منزل خالتها، وهي تعافر آلام رحمها الصارخة، بدأت علامات الإجهاض تظهر عليها، من تقلصات موجعة تضرب أسفل بطنها؛ وكأنه يلفظ بشراسةٍ ما احتواه في الأسابيع الماضية، مع نزيف متزايد جراء اتساع عنق الرحم، ورغم هذا رفضت تصديق حدوثه، وأنكرت ما أخبرها به الطبيب عن تدهور حملها، واحتمالية خسارتها لجنينها، قاومت التقلصات الموجعة، واستعانت بالدواء المسكن لتكتم أنين جسدها المستنجد، تشبثت بقوةٍ، بالأمل الأخير الباقي لها، لاستعادة طليقها.

اتجهت "خلود" للشرفة لتستنشق الهواء، أو الأحرى أن يُقال أنها تحاول عدم لفت الأنظار إليها، فقد ظهر عليها الإعياء، مع التعرق الغزير، وارتفاع درجة حرارة جسدها، استندت براحتيها على حافة الشرفة، لم تركز في أوجه المارة، كانت تعتصر عقلها محاولة البحث عن حل بديل لمأساتها، الأكيد ستدعمها والدتها وخالتها، موقف شقيقها على الحياد؛ لكن ماذا عن الجد وابنه؟ كلاهما عقبتان بارزتان في طريق إكمال سعيها، زفرت في سأم، وقالت لنفسها:
-لازم يبقى ليها حل.

تجمدت عيناها على وجه لم تحبه يومًا، حيث رأت "فيروزة" تسير متأبطة ذراع والدتها عند ناصية الشارع، تجمعت كراهية العالم بأسره في مقلتيها، نعتتها بصوتٍ خفيض بكلمات نابية عدائية:
-بنت الـ (...) !!!

تتبعت سيرها بغيظٍ طفح على ملامحها، توحشت عيناها، ولم تطرف بجفنيها، ومضة خاطفة شيطانية دارت في رأسها، عندما وجدت كلتيهما تتجهان نحو المدخل، حتمًا ستزوران "همسة"، فالأخيرة تسكن بالطابق العلوي، تحفزت أكثر وقد برزت معالم خطتها الجهنمية، لما لا تستغل مأزقها، وتورط تلك البائسة بشكلٍ أو بآخر معها، وتجبرها على الاشتباك البدني، لتكون السبب الرئيسي في إلحاق الأذى بالجنين، فتثأر لنفسها، وتنتقم منها.

لم تتردد للحظة، أو تفكر مرتين، استدارت خارجة من الشرفة، لتقول بصوتٍ عالٍ بالكذب:
-أنا هاطلع الزبالة يا خالتي، بدل ما تعمل ريحة في المطبخ
أتاها صوت "ونيسة" معترضًا:
-ماتتعبيش نفسك، "تميم" هيجي كمان شوية، يبقى ياخدهم مرة واحدة يرميهم في المقلب.
أصرت على طلبها، وإلا لفسدت خطتها:
-ولا تعب ولا حاجة، دي شنطة صغيرة.

التقطت الكيس –شبه الفارغ- من الصندوق الملاصق لحوض المطبخ، واتجهت بخطواتٍ متعجلة نحو باب المنزل، تركت الكيس في مكانه بالخارج، وتلكأت وهي تدنو من الدرابزين لتتلصص على الأصوات الأنثوية الأتية من الأسفل، سمعت "آمنة" وهي تقول:
-احنا مش هنطول عند "همسة"، هنطمن عليها، ونمشي.
ردت "فيروزة" باقتضابٍ:
-طيب.

تراجعت "خلود" للخلف قبل أن تلمحها إحداهما، وهي تتجسس عليهما، استعدت لمواجهتهما، تفاجأت "آمنة" بوقوفها على حافة الدرج، ونظرت لها بغرابةٍ مرددة عليها التحية:
-سلامو عليكم.. إزيك يا بنتي؟
ردت عليها "خلود" بوقاحة:
-أنا مش بنتك.

حمرة حرجة تشعبت بها بشرة الأخيرة، بينما تقاذف الغضب في حدقتي "فيروزة"، وبادلتها نظرة قاسية محذرة، ومع هذا تعمدت "خلود" إحراج الضيفتين، واستفزازهما لأقصى الحدود، ليتم تنفيذ خطتها الوضيعة بحذافيرها، فأردفت بوقاحة:
-طالعة أرمي الزبالة، لاقيتها في وشي، صحيح العمارة لازم تنضف كل شوية.
أمسكت "آمنة" بذراع ابنتها التي بدأت في التشنج، وضغطت عليه تستحثها على التحرك، هامسة لها:
-سيبك منها يا "فيروزة"، وخلينا نطلع.

تابعت "خلود" قائلة بسخرية، وهي تضع يدها على أنفها:
-ريحة زفارة وحشة، يا ساتر يا رب، هاجيب اللي في بطني.
لم تصمت "فيروزة" عن إهانتها، وردت بقوةٍ، وبنظراتٍ احتقارية:
-ماتبقيش تقفي جمب الزبالة كتير.. لأحسن ريحتها لازقت فيكي.
التقطت الشرارة من هنا، ورفعت نبرة صوتها لتصرخ بها، وهي تلوح بذراعها في الهواء:
-زبالة مين يا (...)، تعالوا وشوفوا مين بتكلم.

حالت "آمنة" بينها وبين ابنتها، فقد عمدت الأخيرة للتطاول اليدوي لاستفزاز "فيروزة" بصورة فجة، وقالت برجاءٍ:
-خلاص يا بنتي، عيب كده!
استدارت "خلود" بجسدها، وتحركت بخطوات محسوبة لتغدو بالقرب من حافة الدرج، لتصبح مسألة انزلاق قدميها أكيدة، وتابعت صياحها المهلل بصوتٍ أعلى، وهي تصفق بيديها:
-عيب؟ هو إنتو لسه شوفتوا العيب؟ ده أنا هاخلي اللي ما يشتري يتفرج عليكم!

ردت عليها "فيروزة" وهي تمنع يدها من الإمساك بها، أو جذب ثيابها:
-إنتي قليلة الأدب، ومش محترمة، وفعلاً تستاهلي الواحد يقل أدبه عليكي.
ارتمت "خلود" بجسدها على "آمنة" قاصدة الاعتداء على "فيروزة" موجهة لها وابلاً من السباب الحقير، مستغيثة بخالتها:
-تعالي يا خالتي شوفي اللي بيحصل برا.

وفي لحظة معينة، عند لمحها لخالتها "ونيسة"، دفعت نفسها بارتدادٍ عنيف للخلف، سامحة لقدمها، بالتخلي عن قمة الدرج الواقفة عليه، لتبدو وكأنها مدفوعة عن عمدٍ، من قبل "فيروزة"، وصوت صراخها المفزع يزلزل جدران البناية:
-الحقووووني...!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني الحلقة الثانية والعشرون بقلم منال سالم


قبيل الكارثة التي وقعت بلحظاتٍ، تأكدت من إعادة تنظيف الصــالة، ونفض الأسطح الزجاجية، وإزاحة أي عالق من الأتربة، ليبدو المكان مرتبًا، نظيفًا، وطيب الرائحة. انتقلت بعد ذلك لغرف النوم لتبدل الأغطية، وإعادة وضع الوسائد على الأَسرة بشكل جمالي رقيق، تأكدت "همسة" من اللمسات الأخيرة لمنزلها، وانتظرت بترقبٍ مجيء والدتها. مشط "هيثم" شعره، وعدَّل من ياقة الزي الرياضي الذي ارتداه، تركزت نظراته على زوجته حين أردفت قائلة بتنهيدةٍ متوترة:
-ماما على وصول، وبصراحة كده أنا خايفة يحصل خناقة مع مامتك...


 
ضاقت نظراته بقليلٍ من القلقٍ أيضًا، بينما أكملت "همسة" بنفس الصوت المتوتر:
-هي أسلوبها صعب أوي، وآ...
قضمت شفتها السفلى؛ وكأنها تستعد نفسيًا للبوح بالبقية، زفرت الهواء على مهلٍ، وعلقت:
-و"فيروزة" مش هاتسكت لو سمعت حاجة معجبتهاش.
فرك "هيثم" مؤخرة عنقه، كانت محقة في ذلك، لم يبعد نظراته عنها، وهتف مرددًا في حيرة وقلق:
-مشكلة الصراحة.


 
سألته بترقبٍ:
-هنعمل إيه؟ هنفصل القوات إزاي؟!
أجابها بأسلوبه المازح:
-أقولك على حاجة حلوة..
هزت رأسها في اهتمامٍ، فأضاف مبتسمًا:
-احنا نسيبهم يخبطوا في بعض، ونقعد نتفرج، جايز أمي تطفش في النهاية، ونرتاح.
أطلقت ضحكة ساخرة من طرافته التي تهون عليها صِعاب الأمور، لكن ما لبث أن تلاشت بسماعها لصياح والدته المتذمر:
-الحق يا "هيثم"، شوف المصيبة اللي حصلت؟


 
حيث قامت الأخيرة بإيقاف دورة الغسيل، غير عابئة بالمياه التي أغرقت الأرضية، وحَشرت زي الصلاة الخاص بها -والذي يمتاز بلونه الأحمر القاني- ضمن الثياب البيضاء، وأعادت تشغيل البرنامج، ليتم غسلهم جميعًا، على تلك الحرارة العالية، فجاءت النتيجة البديهية لمزج اللونين معًا؛ اكتساب غالبية الملابس للون الوردي، واختفاء اللون الأبيض تقريبًا عن قطع بأسرها. أمسكت بإحدى القطع في يديها، وعلى الفور ألقت بلومها على "همسة"، وهي ترفعها للأعلى لتريه إياها:
-بص شوف مراتك، وعمايلها!!

نظر لها "هيثم" متسائلاً في اندهاشٍ:
-هي عملت إيه؟
حدجتها "بثينة" بتلك النظرة الحقود، وأجابت وهي تلوح بالثياب الوردية:
-الغسيل كله باظ.
انفرجت شفتا "همسة" عن ذهولٍ، وعيناها تتابعان الثياب التي فسدت، في حين واصلت حماتها إلقاء التهم عليها:
-يعني عامية مش شايفة الغسيل الأبيض من الألوان؟ ارتاحتي كده لما باظوا؟


 
نفت تلك التهمة الباطلة عنها، وردت بصوتٍ شبه مختنق:
-والله أبدًا، أنا بصة كويس قبل ما أحطهم في الغسالة..
لمحت تلك البسمة الصغيرة المتشفية فيها على ثغر "بثينة"، فقست تعبيراتها نحوها، فطنت للخدعة الدنيئة التي لفقتها، وتساءلت ببساطة؛ وكأنها تتحقق من صدق قولها الباطل:
-وبعدين أنا مشغلة البرنامج، ومتأكدة إن كل حاجة تمام، يبقى إزاي ده حصل؟ إلا إن كان حد بقى وقف البرنامج وعدل عليه، عشان ينكد علينا.

صاحت بها "بثينة":
-قصدك إيه؟ إني عملت كده؟
ردت بجراءة:
-الله أعلم! لكن مش أنا.
تدخل "هيثم" في الحوار، ليفض بينهما، وقال:
-خلاص يامه هلبسهم بامبي، أنا مش زعلان..


 
ثم استدار نحو زوجته، وأضاف بابتسامة عريضة؛ كمن يتغزل بها:
-وأهوو الحياة تبقى بامبي بيني أنا ومراتي.
زجرته والدته في تهكمٍ مستفز، كعادتها:
-ياخويا أنا عارفة بتحبها على إيه، دي نحس، مافيش منها رجا!
حذرتها "همسة" مشيرة بسبابتها أمام وجهها:
-لو سمحتي بلاش الكلام ده، أنا مبغلطش في حد، فيا ريت متغلطيش فيا!
دعم "هيثم" حديثها قائلاً:
-يامه كده عيب، وآ...

صرخت به في حدةٍ:
-اخرس إنت، هتاخد في صفها كده على طول
وقبل أن توبخ زوجته بعدائية بغيضة، انتبه ثلاثتهم لصوت الصراخ الصادر من الخارج، تعرفت "بثينة" على الفور على صوت ابنتها الغاضب، واندفعت لاكزة "همسة" في جانبها بغيظٍ، لتتجه نحو باب المنزل، لترى ما يحدث مع "خلود"، تبعها "هيثم" متوقعًا حدوث مصيبة ما، ولم تتأخر زوجته في اللحاق بهما.


 
أمسكت "بثينة" بحافة الدرابزين بكلتا يديها، وأحنت رأسها للأسفل لتتطلع إلى "خلود" المتلاحمة بشراسة شديدة مع "فيروزة"؛ وكأنها تود الفتك بها، ووقفت إلى جوارها "همسة" المذهولة مما يحدث، فليست من طبيعة توأمتها افتعال المشاجرات مع تلك المستفزة، في حين هبط "هيثم" الدرجات سريعًا، ليتدخل فورًا، قبل تفاقم الشجار الذي لا يعلم سبب نشوبه. أرخت "بثينة" إحدى قبضتيها عن الحافة، ولوحت بذراعها تحذر ابنتها بصوتها الصادح:
-خدي بالك يا بت!

وكأن الأخيرة فاقدة لحاسة السمع، لم تتجاوب مع أي أصوات تناديها بالتوقف، بدت أكثر عزمًا على إتمام مخططها للنهاية، التفتت برأسها للوراء، لتلقي نظرة أخيرة على الثماني درجات من خلفها، لن تكون الإصابة جسيمة؛ إن تدحرجت عليه، خاصة مع بَسّطة السلم المربعة، ستفترشه بأريحية. رأها "هيثم" بوضوحٍ، من زاويته، وهي تتراجع ببطءٍ دافعة نفسها للخلف، دون أن تمسها أي يد، لتزلّ قدمها –بعمدٍ- عن حافة الدرج، وتسقط سقوطًا مروعًا عليه، أصاب المتواجدين بالصدمة والارتعاب الشديدين.

غامت الصور في عينيها قبل أن تتحول لإظلام كامل، والأصوات الصارخة تجتاح عقلها الذي يتخلى عن وعيه تدريجيًا، بعد تلك السقطة العنيفة، التي حتمًا لن تتعافى منها بسهولةٍ، كان آخر ما أبصرته وجه شقيقها المرتاع، والذي قفز الدرجات قفزًا ليكون إلى جوارها، لامها بصوتٍ حزين:
-عملتي كده ليه يا "خلود"؟

لم تجبه، ومنحته تلك النظرة الأخيرة، لتطبق على جفنيها، مستسلمة للخدر الإجباري، الذي تفشى في جسدها، ورغم الرجفة المرعبة التي نالت منها لرؤيتها تسقط على الدرج بهذا الشكل الشنيع إلا أنها لحقت بها لتتفقدها، جلست "فيروزة" على ركبتيها أمامها، وصاحت تأمره في خوفٍ:
-متحركهاش، أنا هاطلب الإسعاف.

أومأ "هيثم" برأسه، وهو ينظر إلى شقيقته الفاقدة للوعي، جذبة عنيفة من كتف "فيروزة" طرحتها أرضًا بعيدًا عنها، وأسقطت الهاتف من يدها، تبعها سباب مهين، التفتت للمتسببة في ذلك، فرأت "بثينة" وهي تعنفها بنواحها المزعج:
-أوعي يا بوز النحس عنها، عاوزة إيه تاني من بنتي؟ خلاص ارتاحتي لما جبتي أجلها؟

هتفت "فيروزة" نافية التهمة عنها:
-محدش جه جمبها، بنتك اللي عملت كده في نفسها، وكلكم واقفين وشاهدين.
ردت "آمنة" مدافعة عن ابنتها بغرابةٍ لم تتوقعها الأخيرة:
-أنا كنت ماسكة بنتي، وبعداها عنها، هي من الأول اللي قاصدة تشتبك معها!

اندهشت "فيروزة" من موقف والدتها، وجالت بنظراتها على الحشد المتجمع من حولهم، فبالرغم من الشجار الحاد بينها وبين "خلود"، إلا أنها لم تغفل عن بعض التفاصيل الهامة، فحين رفعت رأسها للأعلى على إثر الصوت الحاد، القادم من فوقها، رأت "بثينة" وهي تتدلى بنصف جسدها للأسفل، لتحذر ابنتها بشكلٍ صريح، من الاقتراب من حواف الدرج، ووالدتها كانت شبه مقيدة لذراعيها، وحين أدارت رأسها للجانب، ظهرت "ونيسة" وهي تندفع خارجة من باب منزلها مع نبرتها المتسائلة عن سبب الجدال، فكيف لها أن تدفعها وهي منشغلة عنها –ذهنيًا وبدنيًا- في تلك اللحظة المصيرية؟

انضمت "ونيسة" لأختها، وجلست على الدرجة الأخيرة تبكي وهي تقول:
-استرها يا رب، دي في بطنها عيل، احميها يا رب.
ردت عليها "بثينة" بصراخها:
-مافيش غيرها إلا عايزة تجيب أجل بنتي واللي في بطنها.

تحولت نظراتها المغلولة نحو "فيروزة"، بادلتها الأخيرة نظراتٍ غريبة مستنكرة ما تقذفه من اتهامات مجحفة، وضعت "همسة" قبضتها على ذراع توأمتها، لتنتشلها من تحديقها الناري بها، شدتها بعيدًا عن حماتها الغاضبة، والتي من المتوقع أن تتطاول باليد عليها، لتفرغ حنقها الأسود بها، وهتفت ترجوها:
-تعالي معايا يا "فيرو".

ردت عليها توأمتها بإصرار:
-مش هامشي .. هو أنا جيت جمبها أصلاً؟
همست لها بصوتٍ مضطرب:
-أنا عارفة، بس بلاش تبقي في وشها السعادي.

كانت تقصد بحديثها تلك المرأة، وبهدوءٍ انسحبت "فيروزة" لتفسح المجال للجد "سلطان" الذي هبط عن قمة الدرج، ملقيًا نظراتٍ مستريبة على "خلود" قبل أن ينطق بلهجته الصارمة:
-كلم الإسعاف بسرعة يا "هيثم"، مش هانستنى لما روحها تطلع عشان نتحرك.
هز رأسه قائلاً بحزنٍ:
-حاضر يا جدي.

-كلمت عمك "بدير"؟
تساءل "سلطان" بتلك العبارة الجادة، وهو يجلس على المقعد المعدني –غير المريح- في بهو الاستقبال، بعد أن تم نقل "خلود"، بواسطة عربة الإسعاف، إلى أقرب مشفى، ووضعها بقسم الطوارئ للتعامل مع حالتها الحرجة، حرك "هيثم" رأسه بالإيجاب، وأضاف:
-أيوه يا جدي، وهو جاي على طول على هنا، وقالي إنه هيعرف "تميم" باللي حصلها، وهيجيبه في سكته.
زم شفتيه قليلاً، ليعقب بعدها مرددًا في هدوءٍ، وهو يستند بكفيه على رأس عكازه:
-ماشي يا ابني..

صمت للحظة، وأمر حفيده، وعيناه ترتكزان على "بثينة":
-روح اطمن على أمك، وقولها بلاش تقلبها مندبة.
وجه "هيثم" نظراته نحو والدته التي كانت تلطم على صدرها، وفخذيها، في حسرةٍ، للفاجعة التي آلمت بشقيقته، وصوتها اللائم لم يتوقف عن العويل:
-كان مستخبيلك ده كله فين يا بنت بطني؟ رديتي بالهم والهم مرضاش بيكي ياحبة عين أمك!
ربتت "ونيسة" على حجر أختها، وواستها قائلة:
-استهدي بالله ياختي، إن شاءالله تعدي منها على خير.

هتفت في استنكارٍ ناقم:
-خير منين يا "ونيسة"؟ هنضحك على بعض؟ ده البت كانت متكومة لا حس ولا خبر، ولا اللي في بطنها؟
تنهدت ترد في رجاءٍ متضرع:
-استرها عليه يا رب، ارمي حمولك على ربنا، وهو هينجيها.
قالت في عدم رضا:
-إنتي مش حاسة باللي أنا فيه ياختي.
أنكرت عدم تقديرها، معاتبة إياها برفقٍ:
-متقوليش كده، ده معزة "خلود" عندي زي معزة "هاجر" بنتي وزيادة.

واصلت ندبها المتحسر مضيفة:
-آه يا حرقة قلبي عليكي، يا ريتني كنتي أنا، ولا إني أشوفك كده بين الحياة والموت.
رددت "ونيسة" في أسفٍ:
-لا حول ولا قوة إلا بالله.
قست نظرات شقيقتها، وكزت على أسنانها مغمغمة بغلٍ:
-لأ وشوفي القادرة، جاية تقعد هنا عشان تشمت في بنتي.

التفتت "ونيسة" ناظرة نحو "آمنة" التي اتخذت مقعدًا معزولاً عن المحيط المزدحم، شتت نظراتها عنها، وقالت مدافعة عنها:
-بالعكس دي جاية تطمن عليها.
عنفتها "بثينة" بحدةٍ، وقد تلونت عيناها بحمرتها الغاضبة:
-إنتي بيخيل عليكي كُهن النسوان ده؟ أشوف قلبها محروق على بناتها قريب.
وضعت يدها على فمها تهتف في ارتعابٍ:
-حرام كده.. بلاش الدعوة دي!

ارتفعت نبرتها الساخطة إلى حد ما وهي تقول:
-لأ مش حرام مع الأشكال دي، هو أنا عندي أغلى من عيالي الاتنين؟ دخلتها كانت شوم علينا هي وبناتها الفقر!
التقطت أذنا "هيثم" سبابها الأخير، فقال راجيًا والدته، كي تكف عن ازدرائها العلني:
-خلاص يامه، المستشفى بيتفرجوا علينا.
زجرته "بثينة" بغيظٍ:
-غور من قدامي يا واد إنت، مش طايقاك.. عيلة مراتك جابوا أجل بنتي.

كان يعلم كراهيتها لـ "فيروزة"، لكنه رأى الحقيقة كاملة، فرد ببرودٍ:
-بلاش افتراء، أنا كنت واقف وشايف اللي حصل بعيني دول، "خلود" اللي حدفت نفسها وآ....
قاطعته بوقاحةٍ، رافضة الإصغاء له:
-هو إنت بقيت بتشوف أصلاً؟ من ساعة ما اتبلينا بالجوازة الشوم دي!

طابق تلك الفواتير التي تحصّل عليها، بالأخرى المدونة في الدفتر الخاص بتسجيل المعاملات التجارية، لاحظ "تميم" اختلاف بعض الأرقام، لفواتير سابقة، وإن كانت النسب طفيفة، حك مؤخرة رأسه في حيرة، وواصل المراجعة الدقيقة، ليعرف سبب ذلك الخلاف؛ لكن قطع تركيزه نداء والده الصـارم:
-يا "تميم"! سيب اللي في إيدك وتعالى معايا.
رفع رأسه عن المكتب، وتطلع إليه بنظراتٍ حائرة، قبل أن يسأله مهتمًا:
-في إيه يا حاج؟

بدا صوته أكثر حدية وهو يرد:
-من غير ليه، هتيجي معايا حالاً في المشوار ده.
أغلق "تميم" الدفتر، وأعاد وضع الفواتير بعد طيها في الدرج السفلي، ثم أغلقه بالمفتاح، وعلق عليه معترضًا:
-ده أنا لسه هاطلع على سوق الجملة، في بضاعة هناك وآ....
قاطعه "بدير" بتجهمٍ، لم يخفه:
-خلي حد من الرجالة يروح مكانك، الموضوع ده مايستناش.
تطلع إليه باسترابةٍ، وسأله مباشرة:
-وغوشتني يابا، حصل إيه؟

أجاب على مضضٍ، ونظراته تتفرس في وجه ابنه، ليعرف ردة فعله:
-بنت خالتك وقعت من على سلم البيت، واتنقلت على المستشفى.
لم تتأثر ملامحه بما سمعه، بدت غير مقروءة، ومع هذا تساءل في اهتمامٍ:
-يا ساتر، وده حصل إزاي؟
أجابه بعد زفيرٍ:
-مش عارف لسه، خلينا نروح نطمن عليها، و...

تباطأت نبرته حين أكمل:
-وعلى ابنك اللي في بطنها.
أدرك من تبدل نبرته وجود خطب ما خطير، وليس الأمر مجرد حادثة عابرة، تبعه متجهًا إلى سيارته، بعد أن أملى على أحد رجاله أوامره لينفذها، جلس والده في المقعد الأمامي، واحتل "تميم" مقعده خلف الموقد، ليتجه بعدها إلى عنوان المشفى المعروف، وهو يغمغم بتضرعٍ:
-عديها على خير يا رب

تناقلت الأخبار سريعًا في تلك المنطقة الشعبية، وعَلم الجميع بالحادث المأساوي الذي تعرضت له "خلود"؛ لكن التفاصيل الحقيقية للحادثة، شابها الكثير من الأغلاط والأقاويل غير الصحيحة، لإضفاء التشويق على تلك النوعية من الأخبار. وصــل "محرز" إلى المشفى، واتجه إلى الاستقبال ليستعلم عن حالة المريضة، دلته إحدى الممرضات على عائلتها الجالسة في ردهة الانتظار المتسعة، وهناك اقترب من الجد "سلطان" ليسأله بلهاثٍ زائف؛ وكأنه جاء ركضًا:
-ها يا جماعة، إيه الأخبار؟

رمقه الجد بنظرة غريبة، قبل أن يشيح بوجهه بعيدًا عنه، فأجاب "هيثم" عن جده، وهو يدعك بيده وجهه المتعب:
-لسه مافيش جديد.
رد عليه بقليلٍ من التفاؤل:
-دلوقتي الدكتور يطلع ويطمنكم عليها.
هز رأسه معقبًا عليه:
-يا رب يا "محرز".

تسلطت كافة الأعين على الطبيب الذي خرج لتوه من الداخل، مرتديًا زيه الأخضر، وذلك القناع الطبي يتدلى عن فكه، قاصدًا الاتجاه ناحيتهم، سألهم بنبرته الروتينية، وعيناه تتحركان على وجوههم القلقة:
-حضراتكم أهل المريضة؟
هبت "بثينة" واقفة بمجرد سماعها لصوته، وهرولت نحوه صارخة به:
-أيوه .. أنا أمها يا ضاكتور.
وقام "هيثم" بالتعريف أيضًا بنفسه:
-وأنا أخوها.

أشــار الطبيب بيده نحو موظفي الاستقبال؛ وكأنه يوجههم للذهاب إلى هناك، وهو يتابع قوله:
-طيب عايزين توقيع حضراتكم على إجراء العملية.
تساءلت "بثينة" بصدرٍ ملتاع، وملامح واجلة:
-عملية إيه ياخويا؟ هي حالتها خطيرة للدرجاي؟
أطرق رأسه قليلاً، وأجاب بحذرٍ:
-للأسف، حصل إجهاض للجنين اللي في بطنها!

لطمت بعنفٍ على صدغيها، لتصيح بعدها في عويلٍ صارخ:
-يالهوي! يا لهوي! يا لهوي!
أوقف "هيثم" والدته عن التصرف بتلك الطريقة المؤلمة، وهتف بحزنٍ صادق على شقيقته:
-اهدي يامه.. ماينفعش كده.
انضمت إليها "ونيسة"، ورجتها بصوتها الباكي:
-حرام عليكي ياختي، ده أمر الله!

التفتت "بثينة" نحو "سلطان" لتشاركه مصابها وصوتها لم يتوقف عن الصراخ المزعج:
-سمعت بنفسك يا حاج، حفيدك مات قبل ما يشوف الدنيا!
هز الجد رأسه للجانبين في أسفٍ واضح، وردد بصوتٍ خفيض:
-لله الأمر من قبل ومن بعد.
بينما أردفت "آمنة" معلقة على ما تراه، ودون أن تتدخل بشكلٍ مباشر لمؤازرة "بثينة":
-جيب العواقب سليمة يا رب.

-جوزك قالك حاجة؟
وجهت "فيروزة" سؤالها المهتم لتوأمتها، والتي فرغت لتوها من مكالمة عاجلة مع "هيثم"، لتستعلم منه عن آخر المستجدات الخاصة بحالة شقيقته، رمت بجسدها المتعب على الأريكة إلى جوارها، ورفعت ساقيها عن الأرضية لتضمها إلى صدرها، وشبكت ساعديها حول ركبتيها، وأجابتها بحزنٍ بائن في نبرتها:
-أيوه، "هيثم" قالي الحمل مكملش.
ضغطت "فيروزة" على شفتيها في أسفٍ، توقعت حدوث ذلك، بعد سقطتها القوية، ثم حركت شفتيها لتنطق بهدوءٍ:
-ربنا يصبرها.

ردت عليها "همسة" بصوتٍ بدا مختنقًا نسبيًا؛ وتلك اللمحات الخاطفة عن معاناتها السابقة تدور في عقلها:
-يا رب، صعب بصراحة على أي واحدة تخسر ابنها، وخصوصًا لو كانت مستنياه...
ثم انخفضت نبرتها إلى حد ما، لتكمل بخفوتٍ؛ وكأنها تُحادث نفسها:
-ما بالك بقى اللي نفسها في عيل، واحتمال ده ما يحصلش.

أرهفت "فيروزة" السمع لكلامها الأخير، وبدت غير راضية عن حزنها الواهي، لذا علقت عليها بنبرةٍ موحية:
-اللهم لا شماتة، شوفي هي عملت فيكي زمان إيه، وربنا أراد تجرب نفس الحكاية، سبحانه! ليه حكمة في اللي حصل!
تنفست "همسة" بعمقٍ، لتخنق تلك الغصة العالقة في حلقها، وتساءلت في حيرةٍ:
-الواحد بس مستغرب، هي عملت كده ليه في نفسها؟

أجابت وهي تفرد ذراعها على حافة الأريكة، لتغوص أكثر بها:
-معرفش، بس من الأول يا "همسة" كانت قاصدة تتخانق معانا، كأنها بتقول شكل للبيع، أنا وماما كنا طالعين عادي عندك، وهي زي ما يكون واقفة مستنيانا، وقلت أدبها جامد علينا، بصراحة كده أنا حاسة إنها كانت مستقصداني بالحكاية دي.
عقدت "همسة" حاجبيها في اندهاشٍ، واستنكرت تفكير "خلود" اللئيم، لتقول معترضة:
-مش للدرجادي، ربنا يهديها لنفسها.

أضافت عليها "فيروزة" بتنهيدةٍ:
-ويبعدها عننا..
ســاد الصمت للحظاتٍ بين الاثنتين، قبل أن تقطعه "همسة"، وهي تحل وثاق ساعديها، لتسترخي في جلستها:
-قوليلي إنتي مالك؟ من ساعة ما رجعتي وأنا حساكي في حاجة، بس مش عارفة إيه هي!
ادعت الابتســام لتخفي ما يعتريها من ضيق وانكســار، لتقول بفتورٍ:
-أنا بخير.. متقلقيش عليا.
غمزت لها متسائلة في إلحاحٍ:
-وأخبار قراية الفاتحة إيه؟ أنا عايزة أعرف كل التفاصيل، وبعدين العريس جابلك دبلة ولا لأ وآ....

قاطعتها بعبوسٍ غريب:
-مافيش نصيب يا "همسة".
بهتت ملامحها تقريبًا من ردها الصادم، وسألتها وقد اعتدلت على الأريكة، لتبدو أكثر قربًا منها:
-ليه؟
غطت على ما تريد البوح به بمراوغتها:
-بعدين نبقى نتكلم عني .. المهم حماتك عاملة إيه معاكي؟ أنا اتفاجئت إنها لسه موجودة هنا.

نفخت "همسة" مرددة باستياءٍ شديد:
-أعوذو بالله منها، دي ماسبتناش للحظة من يوم السبوع، زي ما يكون قاصدة تخرب عليا أنا و"هيثم".. ولسه قبل ما تيجوا دابة خناقة معايا، بوظت الغسيل، ومتهماني فيه.
علقت عليها "فيروزة" بتهكمٍ صريح:
-وطبعًا بنتها نسخة عنها، وجوزك بيعمل إيه بقى؟
أجابت دون تشكيك في موقفه الداعم لها:
-الصراحة "هيثم" واقف على طول في صفي، تقريبًا مامته هتتنقط منه.

ردت عليها توأمتها بإيماءة خفيفة من رأسها:
-ربنا يبعد شرها عنكم.
-يا رب، أنا هاكلم ماما أطمن برضوه منها على الوضع.
قالت "همسة" جملتها تلك، وهي تنحني للأمام، لتمسك بهاتفها المحمول، وتعبث بأزراره، في حين هتفت شقيقتها ترد باقتضابٍ:
-ماشي.

بنظراتٍ حذرة جالت على الرواق المزدحم، انتظر هدوء الحركة من حولها، ليتقدم ناحيتها؛ وكأنه يتفقد أحوالها، بشكلٍ طبيعي، لا يدعو لإثارة الريبة حول تصرفه، مال "محرز" نحو "بثينة"، ليبدو صوته قريبًا من أذنها، وهو يهمس لها:
-عاوزك على جمب في كلمتين يا خالتي.
حملقت فيه بغرابةٍ، ولم تجادله، تبعته إلى حيث توقف، بالقرب من مدخل المشفى، واستطردت تنوح له بشكواها:
-شوفت اللي حصلنا يا "محرز"؟

رد مواسيًا:
-أيوه، وقلبي عندك يا خالتي.
حركت كامل جسدها في اهتزازة ثابتة للجانبين، متابعة ندبها الشاكي:
-خسرنا كل حاجة .. كله في ثانية راح!
هز رأسه مؤكدًا:
-ربنا هيعوضها قريب، البطن اللي شالت مرة هتشيل عشرة
هتفت باستنكارٍ جلي:
-إزاي؟ والمعدول ابن خالتها رافض يرجعلها، والعيل خلاص نزل، إيه اللي هيجبروه يرجعلها تاني؟

برقت عيناه بوهجٍ عجيب، وقال عن ثقة واضحة:
-أنا عندي الحل..
وكأنه امتلك زمامها في غمضة عين، هتفت مستنجدة به:
-قولي بسرعة عليه يا "محرز"، إلهي يسترك.
رد مبتسمًا بغرورٍ:
-متقلقيش..
ثم قست عيناها وهي تتابع بغلٍ، ونظراتها مثبتة على "آمنة":
-نفسي أشوف الولية اللي هناك دي متحسرة على بناتها قريب.

لاحت بسمة ماكرة على زاوية فمه، حين رد بنفس النبرة الواثقة:
-هيحصل يا خالتي، وبكرة أفكرك...
تحولت نبرته للغموض الجاد، وهو يكمل:
-بس ده لو سمعتي اللي هاقولهولك، ونفذتيه بالحرف!!
لم تجادله، وهتفت مبدية استعدادها التام للانصياع له:
-قول!

للحظة تلفت "محرز" حوله، ليتأكد من عدم مراقبة أحدهم له، قبل أن يرد قائلاً:
-مش هاينفع نتكلم هنا، الحيطان ليها ودان، لازم نمشي الأول من المكان ده.
تقلصت تعابير وجهها بشدة، وعلقت في استهجانٍ؛ وكأن طلبه لم يروقها:
-وأسيب بنتي لوحدها؟! ده كلام بردك؟!

أصــر عليها بجديةٍ أشد غلفت نبرته، وغطت ملامحه:
-مش هنتأخر كتير، إنتي أصلاً محتاجة تجيبلها غيار عشان لازمًا هتبات في المستشفى، مش هيرضوا يطلعوها على طول.
لانت تعابيرها قليلاً، وردت بزفيرٍ مهموم:
-أيوه، في دي معاك حق، منهم لله البُعدة.
وضع يده على جانب كتفها، ليحثها على التحرك، وتابع:
-تعالي هوصلك، ونتكلم في الطريق.
ســارت معه إلى حيث قادها، ولسانها يسأله:
-ماشي.. بس عايز مني إيه؟

جاء رده عاديًا، وهو ينظر في اتجاهها:
-دي حاجة عادية، أمانة تبع الناس اللي ممشيالنا شغلنا في الدكان التاني، هاشيلها عندك كام يوم.
رفعت حاجبها للأعلى في تعجبٍ، وسألته بوقاحةٍ:
-وماتسيبهاش ليه في بيتك؟ ما إنت عندك خزنة أد كده!
استنشق الهواء بعمقٍ، ولفظه مليًا، ليثبط مشاعر السخط بداخله. برع في رسم تلك الابتسامة السمجة على محياه، وهو يحاول إقناعها بالقبول مبررًا:
-يا "أم هيثم"! ده كلام بردك؟ وأنا اللي بأقول عليكي مخك نِور، أسيبها عندي، و"هاجر" تخشلي في سين وجيم؟

تلمست طرف حجابها الذي استرخى عن كتفها، وألقته عليه مجددًا، وهي ترد:
-معاك حق.
قضى "محرز" على ابتسامة انتشاءٍ تداعب ثغره، وردد صوته الرخيم:
-تعالي عشان ما نتأخرش، وأقولك هنعمل إيه في سكتنا.
برزت تلك النظرة البغيضة في عينيها، وهي تدمدم بإيجازٍ:
-طيب.. أما نشوف أخرتها.

ربتة خفيفة من جده، تلقاها على كتفه، كنوعٍ من المواساة، بعد أن أخبره بفاجعة إجهاض طفله الذي لم تكتب له النجاة، من تلك الحادثة العرضية المؤسفة، وقاصدًا عدم التطرق –مؤقتًا- لتفاصيل سقوطها عن الدرج، إلى أن تهدأ مهاجه الحزينة. لم يجد "تميم" ما ينطق به معبرًا عما يشعر به حاليًا، فواحدٌ غيره، لانفطر قلبه لمُصابه العظيم، وهاج وماج لخسارته أعز ما ينتظره؛ ولكن رغم مشاكله الأخيرة مع طليقته، بكل ما فيها من سخط وبغض، طغت أحاسيسه المتأثرة عليه، وكان تقبل خسارته المؤلمة، هو الخيار الوحيد المتاح له، استدار برأسه نحو والده الذي عزاه قائلاً:
-ربنا يعوض عليك يا ابني، ده حكمته وقضائه.

لعق شفتيه، وهتف بنبرة تعسة، وتلك اللمعة الرطبة تتسلل إلى طرفيه:
-ما يعزش على اللي خلقه.
علق الجد "سلطان" بجدية:
-مسيرك تتجوز تاني وتجيب العيال اللي نفسك فيهم.
نظر إليه بعينين مليئتين بالحزن، وقال بلمحة متأثرة:
-خلينا نطمن الأول على بنت خالتي، أيًا كان اللي حصل بينا، هي بردك كانت مراتي في يوم من الأيام، واللي في بطنها كان ابني.

رد والده في امتنانٍ:
-طول عمرك بتفهم في الأصول يا ابني.
من المعروف في الشريعة الإسلامية، وحين يتم إجهاض أحد الأجنة، أن يقوم فرد من الأسرة، بدفن البقايا، ولهذا كان من البديهي أن يتصرف "تميم" وفقًا لذلك. ابتلع غصة مريرة كالعلقم في جوفه، وأضاف بصعوبة، محاولاً إظهار صلابته وتماسكه:
-هاروح أسأل استلمه منين عشان أدفنه.
-أنا جاي معاك.

هتف "هيثم" بتلك العبارة وهو يقترب منهم، ثم تبادل بعض الجمل المقتضبة مع ابن خالته، كنوعٍ من المواساة، وعرف منه بعض التفاصيل المتكررة، حيث اختلت قدم "خلود" عن حافة الدرج، خلال تواجدها عليه، وغفل الأول عن ذكر المشاحنة المفتعلة التي وقعت، ظن أنه لا طائل من تناول الحديث عنها الآن؛ لكن الجد أردف قائلاً فجأة، ليضع النقاط على الحروف، وليكمل المشهد المنقوص:
-بس غريبة حكاية خناقة أختك مع جماعة مراتك يا "هيثم"، إيه اللي خلاها تطلع من البيت عندنا، وتقفلهم على السلم؟

برزت عينا "تميم" على اتساعهما في صدمة، وحملق في جده باندهاشٍ ذاهل، بينما رد عليه "هيثم" بعفوية"
-ولا أعرف يا جدي، هي كانت ماسكة في أخت "همسة"، وحلفانة ما تسيبها
تضاعفت دهشة "تميم"، وانتفضت كامل حواسه الكامنة، لتعمل بكل طاقتها، وجد نفسه يهمس بتلقائية، بصوتٍ بالكاد خرج من بين شفتيه؛ مستشعرًا تورطها –رغمًا عنها- في الأمر:
-"فيروزة"!

تابع "هيثم" موضحًا بنبرة حائرة، ومستخدمًا يده في الإشارة والتوضيح:
-احنا سمعنا صوت الخناقة على السلم، طلعنا كلنا نشوف في إيه، بس كان حصل اللي حصل بقى، و"خلود" ملحقتش نفسها.
المزيد من التفاصيل الغائبة عادت لتحتل المشهد، وتملأ رأسه بالشكوك، كان لديه عشرات الأسئلة يريد الاستفهام عنها؛ لكن تعذر عليه فعل ذلك بسبب مجيء الطبيب، توقفوا عن الثرثرة ليبادر "هيثم" متسائلاً:
-إيه الأخبار يا دكتور؟

أجاب مُبينًا طبيعة وضعها الصحي:
-الحمدلله الحالة دلوقتي مستقرة، لكن العمود الفقري عندها اتعرض لحاجة بنسميها "الكسور الانضغاطية"، وده حصلها نتيجة وقعتها العنيفة.
تبادلوا نظرات حائرة فيما بينهم؛ لكن كان "تميم" الأسبق في الاستفسار:
-يعني إيه؟
التفت الطبيب برأسه نحوه، وأوضح له:
-يعني مش هاتقدر تمشي بشكل طبيعي في الأول!

وقبل أن يسيئوا فهمه، بادر مستفيضًا:
-لكن ده مش معناه إنها عاجزة لا سمح الله، هي بس هتضطر في البداية تستخدم حزام طبي، مع الأدوية المسكنة، وأدوية مرخية للعضلات، بحيث تقدر الفقرات تقوم بعملها من تاني، ولازم الراحة التامة، ويكون في متابعة مع دكتور متخصص في العلاج الطبيعي، وده عشان يساعدها في تخفيف الآلام اللي عندها، وكمان يقوي العضلات بحيث ترجع تمشي وتتحرك عادي جدًا.

رد "تميم" دون تفكير:
-هنعمل كده يا دكتور.
تصنع الطبيب الابتسام، وقال وهو يمسح بيده على ذراعه:
-وربنا يطمنكم عليها.
رد "هيثم" مجاملاً:
-متشكرين.

كان من السخيف أن يلح "تميم" بأسئلته في الوقت الحالي على "هيثم"، نحى فضوله جانبًا، فهناك أوقات حرجة لا تصلح سوى للصمت، تناول الوصفة الطبية من الطبيب ليأتي بالأدوية المطلوبة، ليعود بعدها، ويجلس بجوار والدته، والتي لم تتوقف عن الشكوى، وإلقاء اللوم عليه لتقصيره في حق رعاية من كانت في يومٍ ما زوجته.

نظرة أخيرة ألقتها على هاتفها المحمول، وقد أصبح الوقت متأخرًا لتعود بمفردها إلى المنزل، ومع هذا لم تحبذ "آمنة" الرحيل مبكرًا، آملة بتواجدها أن تخفف من وطأة الأمر على أصحابه، بدأ جسدها في الأنين من جلوسها غير المريح، فاضطرت أن تنهض من مقعدها، وتتجه إلى أفراد العائلة لتستأذنهم في الذهاب، تنحنحت لتزيح تلك الحشرجة عن أوتارها، ووجهت حديثها للحاج "بدير"، ووالده، مرددة بتلعثمٍ:
-حمدلله على سلامتها.

رد بإيماءة بسيطة من رأسه:
-الله يسلمك يا حاجة.
بينما عقب عليها "سلطان" بصوته الأجش:
-كتر خيرك، تاعبة نفسك طول اليوم معانا.
دون أن تبحث عن الإجابة، ردت بعفوية:
-دي زي بنتي، وربنا يتمم شفاها على خير.
شكرها "بدير" بلطفٍ:
-يا رب، وتسلمي يا حاجة مرة تانية.

ثم نادى عاليًا:
-روح يا "تميم" مع الحاجة وصلها البيت.
نظرت في اتجاه ابنه الذي نهض من جوار والدته على مهل، فاستدارت تنظر إلى "بدير"، واعترضت عليه بحرجٍ ظاهرٍ عليها:
-مالوش لزوم، أنا هاخد تاكسي من هنا وآ....
قاطعها بإصرارٍ:
-لا مايصحش، ده العربيات كتير عندنا.

تقدم "تميم" نحوها، وأشار لها بالتحرك بيده، وهو يدعوها:
-اتفضلي.
حاولت أن تبتسم وسط حرجها، وقالت وهي تهم بالسير:
-كتر خيرك يا ابني.. أنا مش عارفة أقولك إيه؟!
هز رأسه قائلاً بصوتٍ عبر عن حزنه:
-الحمدلله، ده قضاء ربنا.

لم تكن بالمسافة الكبيرة التي تحتاج لسيارة أجرة لتقلها إلى منزلها، قطعت "فيروزة" الطريق عائدة إلى هناك سيرًا على الأقدام، دهشة عجيبة نالت من تعبيراتها الواجمة حين رأت إحدى عربات الشرطة تسد المدخل، أسرعت في خطاها، وتساءلت بصوتٍ شبه لاهث، وعيناها تدوران على أفراد الشرطة المتواجدين من حولها:
-إنتو مين؟ بتسألوا على حد معين هنا؟

اتجهت نظراتها نحو صاحب الصوت الخشن الذي سألها برسمية بحتة:
-أيوه .. ده بيت "فيروزة أبو المكارم"؟
لم تفكر وهي تجاوبه مُعرفة بنفسها:
-أيوه.. دي أنا.
قبضته القاسية، انقضت دون إنذارٍ، على ذراعها تجذبها بعدائية غريبة، وتجرها نحو السيارة، وصوته يأمرها:
-اتفضلي معانا، الظابط عايزك في القسم.
قاومته متسائلة في جزعٍ:
-ليه في إيه؟ أنا معملتش حاجة أصلاً.

ولحسن حظها –ربما- كان قد وصل بوالدتها إلى منزلها، لمح الأضواء المميزة لسيارتهم، فتوقف قلبه عن الخفقان في هلعٍ، سد "تميم" بسيارته الطريق على عربة الشرطة، وترجل منها دون أن يوقف محركها، ليهجم بلا تفكيرٍ على الضابط، منتشلاً ذراعها من قبضته، ومُكونًا بجسده حائلاً بينها وبينه، قبل أن يهتف بنبرةٍ كانت أقرب للزئير:
-إيه اللي بيحصل هنا؟ وواخدينها على فين.

رمقه الضابط بنظرة نارية، وهو يعنفه:
-إنت إزاي تتجرأ تعمل كده؟ ليلتك سودة
سيطرت عليه رغبة عارمة في حمايتها من الخطر؛ وإن كان يعني هذا وقوعه في المشاكل مع الجهات الأمنية المسئولة، بجهدٍ كبير حافظ على جمود تعابيره، وقال بتحفظٍ، ومدافعًا عنها بشكل غريب:
-يا باشا مقصدش، بس في أكيد سوء تفاهم هنا، الأبلة طول عمرها ماشية في السليم.

تفاجأت "فيروزة" من دفاعها عنها، رغم عدم معرفته مثلها بملابسات إلقاء القبض عليها، في حين احتضنت "آمنة" ابنتها، وحاوطتها بذراعيها، وتساءلت في رعبٍ جلي:
-حصل إيه؟ وواخدين بنتي ليه؟
أجاب الضابط ببسمة ساخطة، وبعد نظرة بطيئة فاحصة، تجولت على أوجه ثلاثتهم:
-ده استدعاء رسمي للقسم، في بلاغ متقدم ضدها، بمحاولة قتل "خلود غريب".

بمجرد أن تلفظ باسم طليقته، انفرجت شفتا "تميم" عن صدمة كبيرة، تخطت ما قد يخطر في باله مُطلقًا، وهتف مستنكرًا قوله، بقلبٍ توقف لحظيًا عن النبض، ونظراته تلتفت نحو طاووسه:
-بتقول مين...؟!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني الحلقة الثالثة والعشرون بقلم منال سالم


قبضة الغريب على ذراعها، بدت بالنسبة له، كجمرات متقدة، تحرق جلده بقساوةٍ، وأشد ألمًا من طعنه بغتةً في صدره، لم يتردد للحظة للدفع بنفسه أمام المخاطر المهلكة، في سبيل عدم إلحاق الضرر بها. تشوش تفكيره في صدمةٍ؛ وكأنه أصيب بعطبٍ ما، حتى استوعب عقله ما صاغه الضابط من اتهامٍ صريح من قِبل زوجته السابقة لها، التفت "تميم" تلقائيًا برأسه نحوها، ليحدق في وجهها المغطى بعلامات الذهول، ثم عاود التحديق في الضابط، ونفى التهمة عنها دون الحاجة لسماع أدنى مبرر منها، مصدقًا إياها بكامل جوارحه:
-استحالة الأبلة تعمل كده! أكيد في غلط في الحكاية!


 
نظر له الضابط شزرًا، قبل أن يوبخه بخشونةٍ:
-هو أنا جاي أهزر معاكو هنا؟ ده استدعاء رسمي يا حضرت.
لم تخفت الحدة من نبرة "تميم"، وهو يجادله:
-يا باشا، أنا عارفها كويس، الأبلة دايمًا في حالها، وعمرها ما أذيت حد...
استمعت له "فيروزة" بصدمة، أأنكر حقًا النزاعات السابقة بينهما، وكأنهما على وفاق منذ اللقاء الأول؟ تدلى فكها السفلي في مزيدٍ من الدهشة، في حين تلعثم "تميم" نوعًا ما، وهو يتابع إعطائه تلك المعلومة المزعجة:
-دي غير اللي بتتهمها تبقى .. بنت خالتي و..... طليقتي.


 
رمقه الضابط بنظرة طويلة مهتمة، ليضيف بعدها، وهو يفرك راحتيه معًا:
-حلو أوي .. هنشوف الكلام ده في القسم، لكن دلوقتي لازم الأستاذة تتفضل معايا.
لم يكن حديث الضابط بالمازح مطلقًا، نظراته وحركته أكدت على احتمالية جره لها بإهانةٍ، ما لم تتجاوب معه، أدار "تميم" رأسه نحو "فيروزة" التي نظرت إليه بملء عينيها، وقالت بصوتٍ لاهث مضطرب نافية التهمة مجددًا عنها:
-أنا معملتش حاجة اقسم بالله.

عمق نظراته في عينيها المرتاعتين؛ وكأنه لا يرى سواها حوله، ورد بقلبه قبل أن ينطق لسانه:
-من غير ما تحلفي، أنا مصدقك.
لم تشعر "فيروزة" مطلقًا بأنه يخدعها، أو يكرر تلك العبارات الروتينية المستهلكة التي توحي بالدعم الزائف، بل منحتها نظراته المتلهفة، والمليئة بشيء لم تفهمه بالضبط، إحساسًا مريحًا بالطمأنينة والصدق، هذا الشعور الذي نزع منها مؤخرًا، بينما هتفت "آمنة" مدافعة عنها:
-بنتي بريئة، مظلومة يا حضرت الظابط، مراته هي اللي وقفت قصادنا على السلم وآ...


 
قاطعها الضابط بلهجته الرسمية، ونظرته الحادة مسلطة عليها:
-هناخد أقوالكم كلكم كده هناك...
ثم أشــار بكفه موجهًا حديثه الصارم لـ "فيروزة":
-بس الأستاذة لازم هتيجي معانا الأول، يالا، مش هنقضي الليل واقفين هنا!
على الفور صــاح "تميم" وهو يفرد ذراعيه في الهواء، محافظًا على بقاء جسده، كحائل بشري، يمنع أي فرد من الاقتراب بها:
-هي هتركب من غير ما حد يتعرضلها.


 
بدا الضابط على وشك فقدان صبره من تلك المماطلات السخيفة، ومع هذا تقبل بصعوبةٍ محاولة "تميم" إقنــاع "فيروزة" بالامتثال للأوامر، والصعود لعربة الشرطة، ســار إلى جوارها، وكامل عيناه عليها، حتى أنها لم تبعد نظراتها عنه، بل بدت أكثر إصرارًا على التحديق به وهي تكرر على مسامعه:
-أنا مجتش جمبها، والكل كان موجود وشاهد.
رد بكلمة واحدة عنت لها الكثير:
-عارف..

ثم أشــار لها لتصعد بالسيارة، وتابع بصوته القلق:
-اطمني، أنا وراكي بالعربية، مش هاسيبك لوحدك.
هتفت بنبرته التي مالت للاختناق:
-ماعملتلهاش حاجة.
هز رأسه بإيماءات متعاقبة وهو يخبرها بتوترٍ خائف عليها، حاول أن يخفيه عنها:
-أنا متأكد من غير ما أسمع.


 
حاولت "آمنة" اختراق أفراد الأمن لتصعد إلى السيارة مع ابنتها، لكن أبعدها أحدهم، فواصلت صراخها الملتاع، وهي ترجوهم بشدة:
-سيبو بنتي، هي مظلومة، والله ما عملت حاجة.
وضع "تميم" يده على كتفها ليلفت انتباهها إليه، وقال على عجلٍ مشيرًا بعينيه نحو سيارته:
-تعالي معايا يا حاجة، احنا رايحين وراها بالعربية.
ردت بامتنانٍ عظيم، وعيناها تبكيان بشدة:
-الله يكرمك يا ابني ماتسيبناش لوحدنا، ده احنا غلابة وآ...
قاطعها مرددًا بنبرة عازمة:
-أنا معاها للآخر.

ثم هــرول ركضًا نحو سيارته التي تسد الطريق على عربة الشرطة، استقلها، وانتظر للحظة حتى ركبت "آمنة" إلى جوارها، تتبع سيارة الشرطة، والهاتف على أذنه، بعد أن هاتف محامي العائلة، انتظر أن يأتيه رده على أحر من الجمر، ليهتف بمجرد سماعه لنبرته:
-ألوو.. أيوه يا أستاذ، عايزك تيجلي على قسم (...) حالاً، هافهمك لما أشوفك هناك.


 
وفي تلك الأثناء، أخرجت "فيروزة" هاتفها المحمول من جيبها، بمجرد أن استقرت في العربة، لتطلب بأنامل مرتعشة، رقمًا احتفظت به، ولا تحبذ حتى استخدامه عند الطوارئ؛ لكنها باتت مرغمة على اللجوء لصاحبه، لتعرف أبعاد الكارثة الجديدة التي تخوضها، ارتجف صوتها بوضوح، وهي تنطق بنبرتها التي ظهرت للطرف الآخر متوسلة:
-أيوه يا "ماهر" بيه، أنا أسفة إني بأطلب حضرتك، بس في مشكلة كبيرة حصلتلي، ومافيش غير سعادتك يقدر يقف جمبي.

لم تكن عيناه على الطريق أبدًا، طوال سيره الملازم لعربة الشرطة، وهو يقود من خلفها، ارتكزت نظراته القلقة على مراقبة ما يحدث معها، آملاً ألا تتعرض لأي نوعٍ من المضايقات السخيفة من قبل أحدهم، أبعد حدقتيه عنهت مضطرًا، حين توقفت السيارة أمام القسم الشرطي، ففتش، بصبرٍ مفقود، عن بقعة خالية، ليصف سيارته عندها، وهذا ما أدى لتعطيله لدقائق تُعد على أصابع اليد الواحدة، مضت عليه كأنها سنوات، أما قلبه فكان في جزع يفتك به.

ركض "تميم" في اتجاه المدخل الرئيسي، سابقًا بخطواته والدتها، انحرف نحو الرواق الضيق، حيث يتواجد مكتب الضابط النبطشي، كان أحد العساكر قد وضع في يدها الأصفاد المعدنية، وكأنها محكوم عليها، استشاطت نظراته لرؤيتها في وضع المدانة، وهي أبعد ما يكون عن ذلك، تصلب جسده، وبصعوبة بدت على ملامحه قاتل ما يعتريه من مشاعر غاضبة، ودنا من الضابط الذي ألقى القبض عليها وهو يعطي أوامره لآخر:
-هنحطها في الحجز لحد ما يجي الباشا "محمود".

مجرد تخيلها وسط تلك الحفنة من النساء الغليظات، والتي لن تسلم من تعليقاتهن المتهكمة، وربما بعد المناوشات المسيئة معها، أصابه بالغضب المحموم، اكتسبت نبرة "تميم" حدة أكبر وهو يعترض بشدة على قراره:
-ماينفعش تنزل هناك.
تحفز الضابط ضده، وهتف فيه بوجه عابس للغاية:
-إنت هتعرفني شغلي ولا إيه؟!
رد "تميم" معترضًا بأنفاسٍ حارقة، ونظراته الملتاعة تتجه نحو "فيروزة":
-لأ يا باشا، بس دي بنت ناس، ومش وش بهدلة.

علق عليه الضابط ساخرًا منه:
-آها .. قولتلي بقى، وإنت المحامي بتاعها كمان وأنا معرفش؟!
بذل أضعاف ما يستطيع من جهدٍ ليكبت غضبه الذي يأكله، ليظهر على السطح، وقال بصوتٍ خرج هادرًا رغم هذا، والشرر يتطاير من عينيه:
-يا باشا آ...

قاطعه الضابط بغلظةٍ، وتلك النظرة الساخطة موجهة إليه:
-دي جريمة قتل، مش لا مؤاخذة خبطت عربية حد!
نفى عنها التهمة بإصرارٍ تعجبت "فيروزة" منه:
-وهي بريئة معملتش حاجة.
لكزة الضابط بخشونة قاسية في صدره وهو يرد بأسلوبه الساخر:
-الكلام ده مش إنت اللي تقوله يا فتوة.

ثم التفت أمرًا أحد رجاله:
-خدها يا ابني على التخشيبة، لحد ما يجي الباشا "محمود".
فشل "تميم" في منعهم من اصطحابها للحجز النسائي، ومع هذا ردد متعهدًا لها بصوته العالي ليضمن وصوله إليها:
-مش هاسيبك هناك، هاطلعك!
تفاجأ حين ردت عليه، وهي تحاول النظر إليه، خلال سحبها لنهاية الردهة الطويلة:
-معملتش حاجة، هي السبب والله، هي اللي قاصدة تعمل كده في نفسها.

ضرب "تميم" الحائط بقبضته بقوةٍ، حتى أن صوت الضربة العنيف لفت الأنظار إليه، لم يعبأ بأي أحد، ووضع الهاتف على أذنه صارخًا في محاميه؛ منذرًا إياه بتهديد شرس:
-ألوو.. إنت فين يا أستاذ؟ جاي من المريخ ولا إيه؟ تعالى أوام، وإلا الدنيا هتخرب هنا!!!
أتاه صوت الأخير لاهثًا:
-حاضر يا معلم "تميم"، دقايق وهاكون عندك في القسم.

-رد يا "خليل"، مافيش مرة أطلبك وألاقيك ترد عليا!
قالت كلماتها في غمغمة خافتة بلوعةٍ حزت بشدة في قلبها، ودموعها المتحسرة تهبط بغزارة، سعت للاتصــال بشقيقها؛ لكن تعذر عليها الوصول إليه، لم يكن هاتفه بالمتاح، شعرت باختناق أنفاسها، بعجزها، وبقلة حيلتها. انزوت "آمنة" عند الحائط الرمادي كئيب اللون، تستند بجسدها المهتز عليه، شعرت بارتخاء ساقيها، لو لم تكن تلك الكتلة الأسمنتية موجودة، لربما تكورت على الأرضية الباردة، ندبت حظها التعس ووحدتها قائلة لنفسها:
-لا إله إلا الله، طب أعمل إيه يا ربي؟ بنتي هاتروح مني؟ وأنا هافضل كده ساكتة..

لم يكن أمامها سوى الاتصــال به، هكذا قالت لنفسها بصوتٍ مسموع، مبررة نكثها بوعدها لابنتها:
-مقدميش إلا هو... مهما كان الدم عمره ما يبقى مياه.
وجدت رقم هاتفه، وضغطت على زر الاتصــال به، انتظرت إجابته على مكالمتها لتهتف مستنجدة دون استهلالٍ:
-أيوه يا حاج "اسماعيل".. أنا واقعة في عرضك.. الحقنا قبل ما بنتي تضيع مني.
سألها بصوته الرخيم:
-خير؟ حصل إيه؟

أجابت بصوتٍ بالكاد بدا مفهومًا له، من بين دموعها الغريزة:
-"فيروزة" خدوها على القسم، واقعة في مصيبة كبيرة، وأنا مش عارفة أعمل إيه.
أمرها بلهجته الشديدة:
-قوليلي فين العنوان، ومتتحركيش من عندك، وأنا مسافة الطريق هاكون عندك، ومعايا "فضل".
هزت رأسها، كأنه واقفٌ أمامها، وردت بصدرٍ ينهج:
-ماشي يا حاج، متتأخرش عليا الله يكرمك.

دفعة قاسية من كتفها نحو ذلك المكان المعتم نسبيًا، إلا من مصباحٍ يتيم يتدلى بسلكٍ قصير، من سقفية الغرفة المطلية بلون رماديٍ داكن، تفسده بعض الخربشات والكتابات الخجلة. حاولت "فيروزة" أن توازن خطواتها فلا تنكفئ على وجهها، زكم أنفها تلك الرائحة العطنة المنفرة، وأصابت على الفور معدتها بالغثيان، فالجو خانق بصورةٍ لا تحتمل، لذا وضعت يدها عليه لتسد الرائحة، وحاولت التقدم للأمام. نظرة بطيئة، لن تنكر أنها خائفة أيضًا، منحتها للسجينات المحتشدات من حولها...،

دارت ببطءٍ على أوجههن المختلفات في تعبيراتهن نحوها؛ رأت من تدخن السجائر، ومن تعبث بخصلات شعرها المصبوغ باللون الأصفر الفاقع، ومن تعلك في ثغرها علكة بصوت مزعج، ومن تضع أحمر الشفاه على فمها، بشكل سافر.

توقفت عيناها عن الدوران، والتفتت لجانبها، حينما سألتها إحداهن بنبرة تهكمية:
-الحلوة جاية في إيه؟ آداب ولا تعاطي؟!!
بينما علقت أخرى بسخرية، وتلك الضحكة الرقيعة تسبق إجابتها:
-شكلها آداب يا أوخة.
مصمصت شفتيها مضيفة، ونظرتها نحوها تؤكد أنها كذلك:
-باين كده.

ثم دنت منها لتفحصها عن قربٍ، انكمشت "فيروزة" على نفسها، وتقززت من لمستها الوقحة التي أرادت بها اكتشاف مفاتنها، وصرخت بها:
-ماتلمسنيش.
دارت المرأة حولها، وحذرتها بنبرة ذات مغزى:
-لأ بالراحة علينا يا مُزة، ده احنا لو اتكاترنا عليكي هنفرمك.
تلك التحرشات اليدوية بجسدها، نشطت ذاكرتها بقوةٍ، بمشهد لم يكن بالبعيد عنها، انتفضت بقوةٍ، ودفعت تلك المرأة بعيدة عنها، بقوةٍ لا تعرف من أين انطلقت، صارخة بحدةٍ، حتى جرحت بها أحبالها من ارتفاعها الشديد:
-سيبوني في حالي.

لوحت لها إحدى السجينات بيدها، قبل أن تعقب:
-نظام خدوهم بالصوت مايكلش هنا ...
ثم أمرت النساء من حولها:
-صوتي يا بت منك ليها
ارتفع الصخب النسائي الساخر من حول "فيروزة"، وشكلوا دوائر تضيق عليها، فباتت تقريبًا محاصرة من قبلهن؛ لكن الصوت الرجولي الصـــارم، أوقفهن قبل أن يسيئن إليها:
-ارجعي يا حُرمة ورا.

امتثلن لأمره، وابتعد عن محيط "فيروزة" ليرمقن إياه بنظرات جمعت بين العدائية والبغض، خاصة أنه يحمل عصا مهددة بيده، مرر الضابط نظراته عن كل واحدة على حدا، وكأنه يدرس ملامحها، قبل أن ينادي:
-"فيروزة أبو المكارم"!
وكأن نجدة هبطت من السماء إليها، أجابته بلسان يلهج:
-أيوه أنا.

أمرها وقد اتجهت أنظاره نحوها:
-تعالي معايا، البيه الظابط عايزك.
ابتسمت لخروجها من ذلك المكان الحقير، والذي بدا أشبه بمعجزةٍ تقرأ عنها؛ ولكن صوتًا أنثويًا متهكمًا جاء من ورائها يحقد عليها:
-إنت لحقتي؟ حتى في البُورش بقى فيها كوسة!

تم الاستعانة بعلاقاته الوثيقة بالمسئولين رفيعي المستوى، لتحسين أسلوب التعامل معها، ريثما يتم البت في قضيتها المعلقة، اصطحبها أحد أفراد الأمن، إلى غرفة أشبه بمكتبٍ لعقد الاجتماعات المحدودة، ولجت "فيروزة" للداخل، وألقت نظرة سريعة خاطفة عليه، كان المكان مفروشًا بالأرائك الجلدية العريضة، فيما عدا اثنتين متجاورتين، ومنضدة صغيرة خشبية تتوسطهم، وطلائه فاتح، غير ذلك القابض على الأنفس، استدارت كليًا للخلف حين سمعت صوته المألوف يسألها في اهتمام بائن في نظراته إليها:
-هنا أحسن مظبوط؟

تحرجت "فيروزة" من وجود "تميم" خلفها، ومع هذا شعرت بالارتياح لتواجده معها، الحق يُقال أنه بات مصدر أمنها المؤقت، باندفاعه غير المشروط لزود أي مخاطر عنها، تراجعت للخلف لتفسح له المجال، تاركة مسافة بينهما، كتفت ساعديها أمام صدرها، وباعدت نظراتها عنه، محاولة التحديق في أي شيء، إلا وجهه، أجبرت شفتاها على الابتسام، فظهرت ابتسامتها منقوصة وهي تشكره:
-أيوه.. كتر خيرك.

ولكونه يعلم طبيعة النساء المحتجزات بالقسم الشرطي، فانتابه هاجس مزعج، من احتمالية تعرضها لبعض المضايقات، أو التحرشات المنفرة من هؤلاء النسوة، لم يترك نفسه لحيرته، وسألها مباشرة، وعيناها تدرسان تفاصيلها الواجمة:
-قوليلي حد عملك حاجة من الواغش اللي في الحجز؟
قالت بنوعٍ من السخرية، وتلك الابتسامة المزدرية تتدلى على زاوية شفتيها:
-لأ ملحقوش.

منع سبة مزعوجة من الإفلات من فمه، وسحب الهواء بعمقٍ ليثبط به تلك الحمم التي تحرقه من الداخل، ثم لفظ الهواء المحمل بغضبه، وقال بوجه مقلوب:
-بصي إنتي هاتفضلي هنا، محدش هيضايقك نهائي!
كانت ممتنة لكل ما يفعله لأجلها دون أن يضطر حقًا لهذا، وذاك ما أصابها بالتخبط، فالماضي بينهما لم يكن بالجيد، ليدين لها بشيء، انتشلها من دوامة شرودها السريع موضحًا لها طبيعة ما يتم من إجراءات رسمية:
-دلوقتي المحامي بيطلع على تفاصيل المحضر، وهنفهم بالظبط في ايه.

نفت على الفور تلك التهمة المجحفة عنها، فلا يسيء الظن بها:
-أنا مقربتش منها.
ودون أن يضيع لحظة في التفكير، أخبرها بإحساس لا يعرف الزيف، وعيناه تبحران في تأمل حدقتيها التعيستين:
-والله مصدقك.
سألته بلمسة قهر محسوسة في نبرتها؛ وكأنها تستكثر على نفسها قيامه بذلك:
-بالبساطة دي؟

تراءى له بوضوحٍ معاناتها في اكتساب ثقة الآخرين، وقال دون تشكيك:
-أيوه، أنا مصدقك.
فقط حدقت في عينيه المتطلعتين إليها بثبات، وكأنها تتبين مدى صدقه، فاسترسل متسائلاً بأريحية طفيفة:
-ليه مش مقتنعة بكلامي؟
أجابته مبررة ترددها:
-أصلها غريبة إنك تكون معايا بدل ما تكون في صف مراتك! وخصوصًا بعد ما...
صمتت للحظة لتضيف بأسفٍ لم تخفه:
-خسرت طفلك اللي في بطنها.

ودّ "تميم" لو تحسست قلبه النابض في تلك اللحظة، لتشعر بما يضمره لها من مشاعر لم تكذب يومًا، مع اكتشافه المثير لرهافة مشاعرها الرقيقة، والمخبأة خلف قناع القوة الذي على ما يبدو لم تخلعه كثيرًا، لم يحد بنظراته عنها، وأجابها بهدوء:
-ده نصيب.. ومقدر ومكتوب...

ثم عمق من نظراته نحوها، مشددًا بابتسامة راضية، رغب أن يبدد بها التعبير الحزين المحتل لصفحة وجهها:
-بس لازم تعرفي إنها معدتش مراتي، هي بنت خالتي وبس.
حملقت فيه بحيرة، بدا ما قاله تصريح عنه توضيح، لكن تشتت نظراتها عنه وصوت الفردي الأمني يقتحم حديثهما:
-تعالى يا حضرت بدل ما تعملنا مشكلة.

أشــار له "تميم" بيديه قائلاً على مضضٍ:
-طيب يا دُفعة.
عــاد ليتطلع إلى وجه "فيروزة" ممعنًا النظر فيها، مستغلاً فرصة لن تعوض في التواجد بقربها، قبل أن يخبرها، بنبرة أقرب لقطع وعدٍ نافذ، لا يمكن المناص منه أبدًا:
-أنا راجعلك تاني.

انتشر الدواء المخدر في خلايا جسدها، ليُسكن تلك الأوجــاع التي تصرخ في عظامها من آن لآخر، لتذكرها بما اقترفته، من أجل التخلص ممن اعتبرتها عدوتها، ورغم شراسة ما فعلته، لم تندم "خلود" للحظةٍ، على إقدامها على تنفيذ تلك الخطة الشنيعة، ففي كل الأحوال، خسارة جنينها كانت أكيدة؛ لكن تحويلها لملحمة درامي،ة تظهر فيها الضحية المضطهدة، والمجني عليها، أفضل بكثيرٍ، على أن تكون المُطلقة التعسة، ناهيك عن خلق تلك الفرصة الذهبية للمساومة مع حبيبها، واستعادته بالتأكيد، بعد لقاء والدتها المثمر بـ "محرز".

أسند "هيثم" كيسًا بلاستيكيًا مليئًا بالعصائر الطبيعية، على المنضدة الملاصقة لنافذة المشفى، وتحدث إلى والدته متسائلاً في اهتمامٍ:
-"خلود" عاملة إيه دلوقتي يامه؟
ردت بتهكمٍ صدمه:
-هاتقول تتحزم وترقص دلوقتي.
انفرجت شفتاه في ذهول، بينما تابعت قولها بأسلوبها الناقم:
-إنت مش شايفها مدشدشة قصاد عينك.

علق "هيثم" بامتعاضٍ:
-خلاص يامه، أنا غلطان إني سألت.
رمقته بتلك النظرة الحقود قبل أن تأمره:
-بأقولك إيه، استنى ماتمشيش، عاوزاك.
لوى ثغره متسائلاً، وهو يضم كفيه معًا:
-خير يامه
أشارت له بعينيها ليجلس إلى جوارها، وهي تتابع بنبرة لانت تقريبًا معه:
-كل خير يا حبيبي.

رمقها بتلك النظرة المتشككة وهو يقول:
-مش مستريحلك يامه، حاسس إن في حوار.
تصنعت العبوس، وهي تنظر له بانكسارٍ مفتعل، قبل أن تغمغم بنوعٍ من المراوغة:
-حوار إيه بس؟ ده كل اللي بنعمله عشان مصلحة أختك الراقدة دي.

اعترض عليها مصححًا:
-هي اللي عملت كده في نفسها، محدش قالها احدفي نفسك من على السلم، وموتي اللي في بطنك
قالت في حزنٍ:
-كانت ساعة طيش من الشيطان.
سألها بنظرة ثاقبة:
-والمطلوب مني إيه؟
ابتسامة ماكرة ممزوجة باللؤم تكونت على شفتيها، وهي تجيبه:
-كل خير يا ضنايا.
ما زال متشككًا من أسلوبها المتلوي غير المريح، نفخ في ضيقٍ، وسألها:
-قصدك إيه؟ قوليلي على اللي في دماغك يامه على طول.

مالت عليه لتخبره بصوتٍ هامس بتحرير محضرٍ، ضد شقيقة زوجته، تتهمها فيه، بمحاولة قتل الأخيرة، خلال الشجار الذي نشب بينهما على الدرج، وطلبت منه -دون حياءٍ- إنكار الحقيقة كليًا، والشهادة في صالح أخته لمساعدتها في تقوية موقفها. حدق فيها بعينين متسعتين في عدم تصديق، وسألها بصوتٍ بدا غاضبًا:
-عاوزاني أشهد زور يامه؟

أجابته مبتسمة؛ وكأنها تجمل الأمر له:
-مش زور يا واد، دي كلمتين كده لا راحوا ولا جوم...
ثم لجأت إلى أسلوب الاستجداء، وتسولت عواطفه بنحيبٍ مكشوف:
-وبعدين أختك غلبانة، وحالها يصعب على الكافر، يرضيك اللي هي فيه؟
استنكر ما تطلبه منه، وأصر على رفضه بعنادٍ:
-لأ مش هاعمل كده، وده اختيارها، وأنا مش هاقول غير الحق..

اختفت ملامح اللين من وجهها، واِربد بالغضب وهي تعنفه:
-إنت جاي تتوب دلوقتي يا عين أمك؟ ده إنت مكونتش بتعمل إلا الحرام طول حياتك!
ورغم لسانها السليط إلا أنه قال مبتسمًا ليستفزها، وهو يقبل ظهر كفه وباطنه بفمه:
-والحمدلله يامه ربنا هداني، جاية تبوظي ده تاني، بدل ما تدعيلي بالثبات؟

قالت بوقاحةٍ، ونظراتها الحانقة مسلطة عليه:
-لأ، أنا هادعي عليك طالما بتعصاني، ومش عايز تسمع كلامي.
ردد مذهولاً:
-إيه اللي أنا باسمعه ده، في أم كده؟
عقبت عليه "بثينة" ببرودٍ مستفز:
-أه ياخويا، وبعدين يرضي مين ما تدافعش عن أختك؟
أجابها بصدقٍ:
-عشان خايف من ربنا.

ردت باستهجانٍ وقح:
-وهو أنا قولتلك اكفر لا سمح الله؟ دي كدبة بسيطة، لا راحت ولا جت.
هز رأسه في استياء شديد، وتعابيره تنطق بلسان حاله:
-حقيقي يامه مش عارف أقولك إيه.
وضعت يدها على كتفه تستحثه على الرضوخ لها:
-وافق يا "هيثم" عشان أرضى عنك، ويتفتحلك أبواب الخير.

قال في سخرية:
-ده كده هتتقفل في وشي بالضبة والمفتاح.
لكزته بغلظةٍ، وصاحت فيه بتشنجٍ، وقد فاض بها الكيل من رفضه العنيد:
-قوم ياض غور من هنا، قلبي مش راضي عنك، واعرف إن كل مصيبة هتجرالك، بسبب إني مش مسمحاك.
نهض من جوارها، وأضــاف وهو يضرب كفه بالآخر:
-لا إله إلا الله! هو في كده؟

بصقت في وجهه، كتعبيرٍ عن ازدرائها المستحقر له؛ لكنه رد بنوعٍ من الممازحة:
-ده لو الشيطان كان واقف مكاني هنا، وسامعك وإنتي بتوسوسيله، كان اعتزل الشغلانة من زمان، وسبهالك.
مدت "بثينة" يدها لتمسك بالكوب البلاستيكي المليء بالماء، قذفته به في وجهه، فأغرقه، وتناثر على كامل ثيابه، قبل أن تطرده من الغرفة بغضبٍ أكبر استبد بها:
-امشي من هنا!

غمغم في تهكمٍ، وهو يمسح الماء عن وجهه:
-يعني بأطرد من الجنة؟ أنا طالع من غير قلة قيمة.
نعتته بسبابٍ من خلفه؛ لكنه لم يستدر أو يهتم بغيظها المتزايد فيها، ومع هذا لم يعلم أن المسألة قد اتخذت بالفعل مسارها الخطير.

عاد إليها بعد برهة، محملاً بأكياس الطعام الشهي، رغم فقدانها للشهية؛ لكنه أصر –وبشدة- على حثها على تناوله، وإن كان قدرًا بسيطًا، ليمكنها من استعادة طاقتها المفقودة، اعترضتٍ بلطفٍ، واكتفت بالغوص في الأريكة الجلدية، متنهدة بتنهيدات طويلة، راقبها "تميم" باهتمامٍ، وقال بلهجة حازمة:
-مش هاينفع يا أبلة، لازم تاكلي..
ثم قرب الأطباق الشهية منها، بعد أن أفرغ ما تحتويه الأكياس، على الطاولة المنخفضة الفاصلة بينهما، وأضاف بنوعٍ من المداعبة:
-ده حتى يعتبر عيش وملح بينا.
قالت في سخريةٍ:
-المفروض عيش وحلاوة.

أكد لها بعينين لم تطرفا:
-إنتي مش هتطولي هنا.
لم تخفت ابتسامة "تميم" معها، كان يبتسم بتلقائية، رغم عدم إدراكه لهذا، تطلعت إليه في استغرابٍ، وسألته:
-للدرجادي إنت مصدقني؟ وواثق إني مش هاتسجن؟
كان أول حوار هادئ بينهما، رغم تأزم الموقف، وبمزيد من الجدية جاوبها:
-أيوه .. مع إنك كدبتي عليا في حاجة.

ضاقت عينيها في استرابةٍ، فأوضح لها سريعًا، حتى لا تدور في رأسها الهواجس:
-الحريقة.
أرجعت "فيروزة" ظهرها للخلف، وقالت وهي ترفع رأسها للأعلى بتعبٍ:
-إنت لسه فاكر، ده موضوع واتقفل.
بقيت عيناه مثبتة عليها، وقال بوجهٍ شبه متقلصٍ:
-عمومًا مش وقته، مدي إيدك وكلي..

نظرت إليه مليًا، دون خجلٍ، وكأنها تحلل طبيعة شخصيته، كان لطيفًا للحد الذي أشعرها بالغرابة والخوف معًا؛ الغرابة من عدم اعتيادها على تصديقه لما قالته هكذا دون تعقيد، وبلا دليلٍ قاطع على عدم زيف ادعائها، والخوف من انسياقها -غير المتردد- وراء مشاعرها الغامضة التي تستحثها –وبقوة- على الوثوق به.

وعلى الرغم من المواقف الخشنة، والمليئة بالمشاحنات التي جمعت بينهما فيما مضى؛ من صفعةٍ حرجة أمام العامة، من إهانة وقحة في منزلها خلال خطبة توأمتها، من صدام بالكلمات في المطعم، إلا أنه كان وديعًا معها، على نحوٍ غير مألوف، وكأنهما على وفــاق دائم، ولم يحدث بينهما أي صدام في يوم من الأيام؛ وهذا ما وترها نسبيًا!
"تميم"؛ الوحيد الذي لم يشكك في قولها أبدًا، صدقها منذ الوهلة الأولى لاتهامها، ودون الحاجة لبرهان بيّن، مقارنة واقعية سريعة انعقدت في رأسها، بين أقاربها، وبينه؛ وكانت النتيجة في صالحه، الغريب عنها بدا أحن بكثيرٍ عمن تربطهم بها صلة الدم..

انتعش عقلها بذكريات غير سارة؛ خذلان والدتها، عنف خالها، إهانات زوجته الحقودة، قساوة عمها، ووحشية ابن عمها، فاستنزفت روحها بالتدريج، وظل الوحيد الذي طعنته علنًا، وانتقصت من رجولته أمام العامة، هو الدرع الواقي لها بعد فراق والدها المؤلم، برحيله شعرت بخواء الحياة، وتناقص متعتها، حتى بدا الشقاء ملازمًا لها.

ورغما عنها تسلل إلى عقلها المتكدر ذكرى أخرى تخشاها، سرحت فيها بكامل حواسها؛ جسد "غريب" المشتعل، تجسد المشهد من جديد أمامها؛ وكأنه يُعرض في شاشة سينمائية ضخمة، تحتل الفراغ بأكمله أمامها، حملقت بعينين غائرتين، تدوران في دوائر من التيه والتخبط، ومتسائلة بقلبٍ متألم، ينزف في صمت،
لماذا لم تفنَ روحها في الحريق؟

لو حدث حقًا هذا، لكانت أراحت الجميع من همها، واستراحت من الأعباء القاسية التي مزقتها، في معترك الحياة، تزايد إحساسها باليأس، وامتزج مع إحباطها الشديد، وبدأ ينعكس ذلك ظاهريًا عليها، حيث أحست بالهواء ينسحب من رئتيها، يصعب استعادته، بأن صدرها قد بات ثقيلاً، وقلبها يصرخ في ألم، أدركت "فيروزة" في تلك اللحظة، أنها أصبحت على وشك الدخول في إحدى نوباتها المهلكة، وتلك المرة أرادت بشدة أن يكون الموت رحيمًا بها، وتتمكن من التخلص من حياتها خلال معاناتها...!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني الحلقة الرابعة والعشرون بقلم منال سالم


حول مائدة مستديرة، اجتمعت القيادات الأمنية، برتبها المختلفة، لمناقشة تطورات قضايا التهريب، وما يحدث خلالها من تجاوزات تضر المجتمع والمواطنين. رن هاتف "وجدي"، فأوصده على الفور معتذرًا عن ضجيجه الذي أزعج الحاضرين، وضعه على وضعية الصامت، وحرص على تدوين الملحوظات الهامة، من قبل رؤسائه المخضرمين، للاستعانة بها في تحرياته الدقيقة، خاصة بعد انتقاله لمكتب مكافحة المخدرات، وما يتطلبه ذلك من يقظة وفطنة شديدة، لاكتشاف أساليب المهربين الملتوية، لإدخال تلك المواد المخدرة، عبر حدود البلاد، أو الموانئ المختلفة.


 
انفض الاجتماع، وخرج منه ليجد عدة مكالمات فائتة من صديقه "ماهر"، أيقن وجود خطب ما، فهاتفه على الفور، ليأتيه صوته الجاد متسائلاً:
-إنت فين يا باشا؟
أوضح له بتريثٍ، ونبرته يشوبها زفير مرهق:
-كان عندي اجتماع مهم مع سيادة اللواء والقيادات في مديرية الأمن.
علق في تفهمٍ:
-عشان كده مردتش عليا.


 
قال مقتضبًا:
-أيوه ..
سأله "ماهر" كتمهيدٍ في الحديث:
-والدنيا تمام معاك؟!
منحه ردًا حياديًا حين أجاب:
-يعني أهوو.. بس إنت عارف شغل المكافحة، لازم تحريات دقيقة عن أي بلاغ يجيلنا، واحنا اليومين دول شغالين على حاجات من دي.
تنحنح وهو يكمل بنبرة شبه حرجة:
-الله يعينك، معلش يا باشا هاطلب منك خدمة على السريع، إنت عارف أنا في أجازة، ومش هاينفع أنزل دلوقتي وآ...
قاطعه معترضًا على خجله منه:
-أؤمر يا "ماهر" .. ومن غير ما تبرر يا باشا.


 
شكره مجاملاً:
-تسلملي يا غالي،..
ثم دخل في صلب الموضوع متسائلاً:
-فاكر البنت اللي جيت أتوسطلها قبل كده في القسم عندك، وقت ما كنت شغال هناك؟
فرك جبينه؛ وكأنه ينشط بذلك ذاكرته، قبل أن يرد:
-مش واخد بالي أوي.
أعطاه إضافة أخرى ليتذكرها بقوله:
-صاحبة "علا"، كان اسمها "فيروزة".


 
على الفور تذكر مشاجرتها المميزة، خلال خدمته في ذلك القسم، وقال ببسمة جانبية صغيرة:
-افتكرتها، مش دي بتاعة خناقة عربية الأكل؟ اللي كانت على الكورنيش؟
أكد عليه صحة جوابه قائلاً:
-أيوه هي دي.
سأله "وجدي" في سخرية:
-مالها؟ اتخانقت مع مين تاني؟
أجابه بحيرةٍ لم يخفها عنه:
-هي مش خناقة، حاجة تانية أهم، بس معنديش تفاصيل أوي عنها.

أومـأ رفيقه برأسه، وقال:
-خلاص، أنا هاطلع على القسم دلوقتي، أنا عارف "محمود" بيه، هتواصل معاه، وأعرفلك الليلة فيها إيه، وأكلمك بعدها.
هتف في امتنانٍ أكبر:
-حبيبي، مش هنسالك الخدمة دي.
ابتسم معقبًا عليه:
-احنا في الخدمة معاليك، النهاردة عندي، بكرة عندك، وكده
ضحك "ماهر" معلقًا على كلماته الأخير:
-بالظبط يا باشا، يالا مش هاعطلك بقى، وهستنى مكالمتك
-بإذن الله .. سلام.
قالها "وجدي" وهو يختم اتصاله معه، قبل أن يبحث في هاتفه عن رقم الضابط "محمود"، ليطلبه وهو يتابع سيره خارج المبني الأمني، حيث تتواجد سيارته.


 
الجلوس معها –بمفردهما- كان يُعد حلمًا مستبعدًا، غير قابل للتحقيق، على أرض الواقع مُطلقًا، خاصة بعد معرفته بمسألة خطبتها بذاك البغيض، الذي فهمه بمجرد التطلع إليه؛ ولكن لقائه بها حدث، وإن كانت الظروف غير مناسبة، فماذا عن مشاركتها لقيمات معدودة من الطعام؟ شعور لا يوصف بالسعادة العارمة تخلل تحت جلده، تسبب له في تأثيرات حسية ظاهرية عليه، جعلته في حالة من الانتشاء والطرب...،

حتى دقات قلبه خفقت بقوةٍ، من حماسه المتلهف، كقرعٍ عنيف على طبول أفريقية في احتفال قبائلي عظيم، وياله من إحساسٍ رهيب يخوضه الآن! لم يعشه من قبل أبدًا، ورغب بشدة ألا ينتهي شعوره به. اختلس "تميم" النظرات الحذرة نحوها، كان مفتونًا بابتسامتها الهادئة، وإن كان يشوبها الحزن، ورغم هذا كانت تمنحها جمالاً ناعمًا غير متكلف، وحين لجأت "فيروزة" للصمت، تولى زمام الحوار عنها، وأخبرها بهدوءٍ، ليواصل سلاسة حديثهما:
-متقلقيش على الحاجة والدتك، أنا وصلتها البيت...

تنحنح بخفوتٍ، وتابع بحرجٍ طفيف:
-يعني ما يصحش ست محترمة زيها تفضل هنا، وتتبهدل من الأعدة في المكان ده، فاطمني عليها..
كان حذرًا في اختيار كلماته، حتى لا يتسبب في إزعاجها، بدا مترددًا بعض الشيء وهو يكمل:
-وأنا وعدتها هفضل معاكي..
رفع عينيه نحوها ليراقب ردة فعلها، كانت محدقة به بغرابةٍ، فأبعد نظراته معتقدًا أنها أساءت فهمه، وبادر بالتوضيح بلجلجة خفيفة:
-قصدي يعني إني موجود لحد ما تطلعي من هنا، كل حاجة هتتحل .. مش عايزك تشيلي هم يا أبلة.


 
لم يجرؤ على النظر إليها، خشية أن يرى علامات الضيق في عينيها، بعد أن كانت مليئة بشيء مختلف، ظل مطرقًا لرأسه وهو يختم حديثه معها في ذلك الموضوع الشائك:
-هو الغلط من عندنا احنا .. وبنت خالتي مكانش ينفع تعمل كده..
بلع ريقه، واعتذر موجزًا:
-فحقك عليا.
انتظر أن يأتيه الرد منها، ولو كان على سبيل المجاملة؛ لكنها بقيت صامتة، رفع رأسه نحوها، وتطلع إليها بنظراتٍ حذرة، لم تكن تنظر ناحيته، بل كانت محدقة أمامها في الفراغ، وذلك الوجوم المريب يغطي وجهها، ناداها باهتمامٍ قلق:
-يا أبلة!

لم تعقب عليه، وبقيت جامدة في مكانها، لم تهتز لها عضلة، أو يتحرك لديها طرف من أطرافها، تحفز في جلسته، وضاقت عيناه بشكٍ، ثم سألها بتوجسٍ ظاهر في صوته:
-مالك؟ إنتي كويسة؟ في حاجة تعباكي؟

نهض من مكانه ليتأملها عن كثب، وكانت المفاجأة التي انخلع فيها قلبه؛ رؤيتها على نفس الحالة االمرضية التي عايشتها من قبل، مع فارق تأثيرها الأقوى، أزاح بيديه الطاولة التي تعوقه عن الوصول إليها، ثم وضع ركبته على الأريكة بجوارها، ليلقي بثقل جسده عليها، انحنى نحوها يربت على وجنتها برفقٍ، وهو يناديها بلهفةٍ ملتاعة:
-"فيروزة"، ردي عليا.

لم تتجاوب مع ضرباته الخفيفة، بل تراخى جسدها كليًا، وباتت في حالة من اللا وعي، تضاعف خوفه، وتراجع عنها مخفضًا ركبته، ليساعدها على التمدد على الأريكة، كان قريبًا من وجهها، ناداها بأنفاس مضطربة:
-"فيروزة"، سمعاني؟

خفق قلبه بقوة، حين استجابت لحظيا لندائه، والتفتت ناظرة إليه. منحته نظرة حزينة سريعة، عكست مدى الألم الذي تعانيه، وتخفيه عمن حولها، قبل أن تطبق على جفنيها، وابتسامة باهتة ظهرت على شفتيها، لتختفي مع هروب عقلها المؤقت عما يؤذيه. تركها في مكانه، واستدار مهرولاً نحو باب الغرفة طالبًا للنجدة، صاح بنبرة أقرب للصراخ المفزوع:
-يا جدعــان حد يلحقنا.

ولج إلى الغرفة على إثر صوته بعض أفراد الأمن، وكان على رأسهم أحد الضباط، فتساءل في جديةٍ، وهو يدنو منها ليتفقدها:
-حصلها إيه؟
أجابه بقلقٍ، وقد تضرج وجهه بحمرته المنفعلة:
-دي نوبة بتجيلها كل شوية
سأله الضابط بسذاجةٍ:
-صرع يعني؟
نفى ذلك كليًا، موضحًا له، بناءً على تصريح توأمتها السابق:
-لأ، حاجة نفسية.
هز رأسه في عدم اقتناعٍ، وهو يرد:
-طيب .. هاشوف.

رمقها الضابط بنظرة أخرى مدققة، وقد بدا مستخفًا بحديثه عن مرضها، انتظر "تميم" أن يتخذ ذلك الضابط الخطوة الملائمة للتعامل مع حالتها، لكنه لم يكن مهتمًا بالقدر الكافي، لذا هتف قائلاً بحدة ملموسة:
شكلها مايطمنش، أنا هطلبلها الإسعاف وآ...
قاطعه الضابط بلهجة رسمية:
-هي مش سايبة عشان تعمل كده من نفسك، ما جايز تمثيلية منها وآ....

رد عليه مقاطعًا بصوتٍ شبه قاتم، ونظراته الحانقة مسلطة عليه:
-خلاص هاتلها دكتور يا باشا يشوفها، بدل ما ناخد وندي، وهي قصادنا كده مفرفرة.
علق بسماجة باردة، تناقض طبيعة الموقف:
-لازم الظابط يشوفها الأول، ويقرر.
احتج بعصبية بائنة في نبرته، ونظراته، وأيضًا حركة جسده:
-وأنا قولت إيه غير كده؟ هات حتى المأمور، بس نتصرف!

علق الضابط ساخرًا منه:
-إنت واخد بالك أوي منها، تكونش متجوزها؟
رد بحنقٍ، وعروقه تنتفض بغضبه المكبوت:
-لأ..
بدا صوته كالهسيس وهو يحادث نفسه:
-بس يا ريتني كنت متجوزها، على الأقل مكونتش سمحت لحد يتعرضلها ولا حتى دخلتها مكان زي ده!
سأله الضابط السخيف بفضولٍ:
-إنت بتكلم نفسك؟
رد بوقاحةٍ:
-ليه شايفني مجنون؟

زجره بخشونةٍ:
-اتكلم عِدل، ماتنساش نفسك، إنت هنا في قسم!
تدخل "وجدي" مقاطعًا الاثنين بجديةٍ بحتة، ويتبعه شخص آخر، تبدو هيئته رسمية:
-في إيه بيحصل هنا؟
أجاب "تميم" موضحًا على الفور:
-يا حضرت الظابط الأبلة تعبانة جدًا.
مد الضابط الأول المتواجد بالغرفة مصافحًا زميله، وقاصدًا تجاهل ما أفصح عنه "تميم"، ليشعره بعدم أهميته:
-"محمود" بيه، نورت معاليك.
ثم انتقل للترحيب بزميله السابق، بمصافحة حارة أيضًا:
-أهلاً "وجدي" بيه..

تساءل "محمود" في اهتمامٍ، وهو يتجول بنظراته على جسد "فيروزة" المسجي أمام الجميع على الأريكة:
-هي دي قريبة "ماهر" بيه اللي مكلمك عشانها؟
تلك النظرات العادية، أو حتى غير المهتمة، من بعضهم على جسدها، كانت بمثابة السهام القاتلة التي تخترق صدره، وتفتك بأعصابه، لم يكن راضيًا أبدًا عما يحدث، احترقت أحشائه وتقطعت وهم يمررون عليها أنظارهم الفضولية، وعلى قدر المستطاع حاول حجبها عنهم بجسده، يتحرك مع اتجاه أي وجه ينظر إليها ليمنعه من النظر إليها، وليحافظ على خصوصيتها، انتبه إلى صوت "وجدي" المتسائل:
-حصلها إيه؟

أجابه محذرًا بأعصابٍ شبه تالفة من حنقه الشديد:
-مش عارف، بس لو فضلت كده هيجرالها حاجة.
التفت "وجدي" للضابط الأقل رتبة، وقال بلهجةٍ آمرة:
-بعد إذنك يا "محمود" بيه، هتخلي حد من رجالتك يطلب الإسعاف.
رد عليه بإيماءة من رأسه:
-تمام يا "وجدي" بيه، وفي قوة أمنية هتروح معاها المستشفى...

ضاقت عينا "تميم" بحدةٍ، لكن الضابط تابع كلامه موضحًا:
-بحيث لما تفوق ناخد أقوالها هناك..
ثم تركزت نظراته على "تميم" وهو يكمل باقي حديثه:
-وبالمرة نتكلم مع الضحية، ونعرف بالظبط تفاصيل الواقعة.
نظرات الاتهام كانت ظاهرة في عيني الضابط "محمود"، وقوبلت بزفيرٍ ثقيل من "تميم" الذي كان يكز على أسنانه، مانعًا نفسه من التصرف برعونة، فقط من أجل الوصول إلى الحقيقة، وإثبات براءتها.

أصر على نقلها لأكثر المستشفيات حرصًا على تقديم الرعاية الطبية القصوى لمرضاها، ولا يدري إن كان ذلك لحسن حظه أم لسوءه، فقد تواجدت في نفس المشفى مع طليقته السابقة؛ ولكن كان الفارق في مكوث "فيروزة" بالطابق الخاص بالشخصيات الهامة، على عكس "خلود" التي مكثت بغرفة أقل تكلفة، وانتظر بترقبٍ خروج الطبيب المكلف بفحص حالتها لطمأنته عليها، جالت نظراته على القوة الأمنية المتواجدة أمام باب غرفتها، وبدا هذا مزعجًا له بحدٍ كبير، فلم يثبت بعد إدانتها، لتعامل بتلك الطريقة؛ لكن نصيحه محاميه الخاص، بعدم الاحتكاك بهم، حتى لا يتعقد الموقف، والانتظار ريثما تنتهي التحريات والإجراءات القانونية المتبعة في مثل تلك الظروف.

مضى ما يزيد عن النصف ساعة، وهو ما زال واقفًا بالخارج، تحركت عيناه مع الطبيب الذي خرج لتوه من الداخل، أقبل عليه دون تأخير، وعيناه تحاولان التطلع إلى "فيروزة" من تلك الفرجة الصغيرة في موضع الباب، ليتمكن من رؤية ما يحدث لها، ثم سأله في اهتمامٍ واضح:
-عاملة إيه دلوقتي؟
أجابه بهدوء، ونظراتٍ ثابتة:
-حالتها مستقرة حاليًا.

سأله بترددٍ، وهو يشرأب بعنقه للأعلى ليلمحها بعد أن حجبت الممرضة -المتواجدة أمام فراشها- الرؤية عنه:
-طب يعني أقدر أشوفها؟
جاوبه بالنفي القاطع:
-لأ..
انخفضت عينا "تميم" على وجه الطبيب، فاستأنف موضحًا أسبابه:
-هي هتفضل نايمة بسبب المهدئات اللي واخدها، وده أحسن لها الفترة دي.
هز رأسه قائلاً بضيقٍ انتشر على تعابيره الواجمة:
-طيب يا دكتور، طالما فيه الفايدة لديها.

التفت الطبيب برأسه نحو المحقق الشرطي الذي سأله:
-ها يا دكتور، ينفع نتكلم مع الأستاذة ولا ..؟
تنحنح موضحًا من جديد:
-لا يا فندم، هتضطر تنتظر شوية، المريضة مش في وعيها، ونايمة تحت تأثير المهدئ.
حك الضابط "محمود" ذقنه؛ وكأنه يفكر في حديثه، لم يكن راضيًا عن رد الطبيب، ونظراته لم تفارق وجه "تميم" أيضًا، بينما طالعه الأخير بنظراتٍ متشفية؛ لكن الأول عاد ليقول بسماجةٍ رسمية:
-عمومًا هنروح نشوف المجني عليها، وناخد أقوالها، بيتهيألي هاتكون فاقت.

وارتسمت على قسماته ابتسامة باردة مستفزة، متوقعًا أن يعارضه زوجها الأسبق؛ لكنه خالف توقعاته، وقال مرحبًا:
-يا ريت، وكمان تاخد أقوال الشهود كلهم اللي كانوا موجودين.
انزعج الضابط من مناطحته الرأس بالرأس، وعنفه بلهجة قوية:
-إنت مش هتعرفني أمشي شغلي إزاي؟
بهدوءٍ تام علق عليه "تميم"، وهو يشير بيده:
-وأنا أقدر يا باشا، تعالى أما أوديك بنفسي.

حدجه الضابط "محمود" بنظرة قاسية، تعكس حنقه منه، وقبل أن يتكلم مجددًا ليعنفه، توقف أمامه أحد أفراد القوة الأمنية، انتبه إليه، عندما نطق برسميةٍ بحتة:
-سعادت الباشا، مكالمة لحضرتك من الباشا المأمور.
تناول الهاتف المحمول منه، وهو يرد على مضضٍ:
-طيب.
تحرك الضابط مبتعدًا عن محيط "تميم"، شيعه الأخير بنظراته القاتمة وهو ينصرف، ليردد في نفسه بقنوطٍ:
-اتبسطتي كده لما خربتيها يا "خلود"؟

-يعني إيه مكونتش عايزيني أعرف؟
تساءلت "همسة" بتلك العبارة، وبصوتها الحاد، وهي تسحب والدتها بخطواتٍ متعصبة في اتجاه المصعد، فزوجها هاتفها ليطلعها على آخر المستجدات، والتي لم تكن على علمٍ بها، لتهرع بعدها إلى أمها، وتأتي بها إلى المشفى، في حالة انفعالية مفهومة. حاول "هيثم" إيقافها، وتهدئة ثروتها قائلاً:
-ما هو ده اللي كنت خايف منه، تجي وتجيبي أمك على ملى وشها.

رمقته بنظرة نارية وهي ترد عليه:
-مش أختي يا "هيثم"؟ ولا عايزني أعرف اللي هي فيه وأنام على المخدة، ولا كأن في حاجة حصلت؟
رد بوجه مقلوب، وتكشيرة جانبية:
-ماشي، بس الأمور تتاخد بالعقل، مش قفش كده!
صاحت بنفاذ صبر، وقد فُتح بابي المصعد:
-معدتش في عقل..

ولجت كلتاهما للداخل، وظلت "همسة" تردد بصوتها المنفعل:
-ده احنا كلنا كنا واقفين وشايفين أختك عملت إيه.
صاحت فيهما "آمنة" ليكفا عن الجدال:
-خلاص يا ولاد، مش وقت خناق، لا ده مكانه، ولا حتى وقته، وخلوني أطمن على بنتي.
رد "هيثم" وهو ينضم إليهما بداخل المصعد:
-اتفضلي يا حماتي.

منحت "همسة" زوجها نظرة لا تبشر بخيرٍ، وقد خبت نبرتها حين قالت له مهددة:
-الكلام بينا لسه مخلصش يا "هيثم"!
نظر لها بقلةٍ حيرة، وهو يردد في نفسه:
-ده اللي أنا كنت خايف منه، هاتقلب الليلة عليا في الآخر، ويتقال أختي وأختك!

اصطحب كلتاهما إلى غرفتها بالطابق المميز، ورغم المحاولات المضنية لمنعهما من رؤيتها، إلا أن والدتها وتوأمتها نجحتا في الأخير في الدخول لها، والبقاء بجوارها، بعد اللجوء لوساطات لا طائل لها من مسئولين ذوي مناصب هامة، كلمتهم مسموعة، ونافذة. انتظر "تميم" بالخارج مع ابن خالته، لم يحاول اقتحام خصوصية العائلة، وطلب من "هيثم" التواجد معه؛ لكن تلك النظرة المختلسة على وجه "فيروزة" النائمة، وهي تدير رأسها للناحية الأخرى، أشعرته بالارتياح. انغلق الباب، فاستدار "تميم" في اتجاه شقيق طليقته، ليمسك به من ياقته، جذبه بعيدًا عن أعين أفراد القوة الأمنية المراقبة لهما، ليشرع في توبيخه بغلظةٍ، وهو يكز على أسنانه:
-إنت غبي يا ابني؟ كلمتهم ليه؟ لازمتها إيه الشوشرة دي؟

حاول "هيثم" انتزاع ياقته من قبضته المحكمة عليه، وقال مبررًا تصرفه:
-ما كده كده كانوا هيعرفوا، دي أمها ودي أختها، يعني مش حد غريب...
ثم بلع ريقه، وأضاف بتمهلٍ؛ وكأنه يفصح عن عيبٍ خطير:
-وبصراحة كده أنا مابعرفش أمسك لساني مع مراتي!
أرخى "تميم" أصابعه عنه، ومنحه تلك النظرة الحادة، قبل أن ينطق بغيظٍ:
-ما هو باين!

سأله "هيثم" وهو يضبط هيئته:
-ها قالك إيه الدكتور؟
أجاب على مضضٍ، وبزفيرٍ سريع:
-واخدة مهدئ، نفسيتها مش حلوة.
أكمل "هيثم" مسترسلاً في الحديث بتوترٍ مختلط بالمزاح:
-آه لو أمي عرفت إنها هنا، يا لهوي، هتولع الدنيا.. وهي أصلاً والعة لواحدها.
نظر له "تميم" بطرف عينه، وقال:
-ومين هيقولها غيرك؟!
رفع ابن خالته كفيه معترضًا:
-لأ مش للدرجادي، أنا برضوه بأفهم.

ساد الصمت للحظات لم تدم كثيرًا ليبوح بعدها "هيثم" بمناقشته المحتدمة مع والدته:
-ده أنا مرضتش أشهد زور
التفت "تميم" كليًا نحوه، وسأله بوجه حائر:
-تشهد زور في إيه؟
رد بكتفين متهدلين:
-ما هي عايزاني أخد صف "خلود"، وأقول إن أخت مراتي وقعتها من على السلم.
تحفز ابن خالته في وقفته بعد سماعه لذلك، وسأله بقلبٍ يدق بقوةٍ:
-والأبلة معملتش كده، صح؟

أتاه دليل براءتها واضحًا حين جاوبه:
-أنا شايف أختي وهي قاصدة تحدف نفسها من عليه، محدش لمسها، ده غير إن كان في مسافة كبيرة بينهم، ومراتي شافت ده كمان، بس أمي الله يسامحها ضميرها ميت.
سكت "تميم" لبرهة ليستعرض في عقله ما يدور ويحلله، قبل أن يخبره:
-وطبعًا هتجبرك تشهد معاها.
حرك "هيثم" رأسه موضحًا موقفه النهائي:
-ما أنا قولتلها لأ.. وقلبت بخنافة معها...

ثم لفظ الهواء المحبوس في صدره ليطلب منه، بما يشبه النصيحة:
-حاول إنت تحل الليلة دي كلها يا معلم، لأنها لو فضلت على الشكل ده مش هنخلص أبدًا، والحكاية هتوسع وهتبقى محاكم، وجايز يبقى فيها سجن.
غامت عيناه بشكلٍ غريب، حاليًا لم يلم بعد بالأبعاد القانونية لتلك المسألة العويصة؛ لكن لا يضمن عواقب تركها معلقة، فخالته ليست بالشخص الهين الوديع، وابنة خالته لا تقل خطورة عنها، تنفس بعمقٍ، وتحدث بعدها بغموضٍ:
-فعلاً لازملها حل، ويجيب من الآخر كمان.

وجودهما بغرفتها، وإلى جوار فراشها، كان بدون طائل، ما زالت في سباتها الإجباري، ومع صرامة الضابط "محمود" الواضحة، اضطرت والدتها وتوأمتها للذهاب، وتركها بمفردها، وسط الحراسة المفروضة عليها، بدون أسباب معلومة؛ وكأن الضابط يشك في احتمالية هروبها، وإدعائها لتلك التمثيلة السخيفة، بعد ما وَرد إليه من معلومات، أو بمعنى أدق أوامر مشددة، بتضييق الخناق عليها، وزيادة القوة التأمينية، إلى أن ترد أوامر جديدة بشأنها.

ألقى الضابط "محمود" نظرة متأملة عليها، بعد أن قرأ ما كتبه الطبيب في اللوح المعدني المعلق على فراشها، أمعن النظر فيها مرة أخرى وهو يسألها، رغم يقينه بعدم استطاعتها الرد عليه:
-إنتي مزعلة مين من الكبارات؟
الغريب في الأمر أن التوصيات التي جاءت لصالحها، تفوق تلك التي تشدد على إبقائها محتجرة، بدا الوضع متناقضًا، محيرًا، ومُريبًا بالنسبة له، يُظهر صراعًا خفيًا، محوره تلك الشابة غير الواعية، خرج من غرفتها، وأعطى أوامره للأفراد قائلاً بلهجةٍ صارمة:
-محدش لا يدخل ولا يخرج من هنا بدون إذني، مفهوم؟

أدى الفرد الأمني التحية العسكرية له، وقال:
-تمام يا باشا.
انصــرف بعدها الضابط "محمود" من المشفى، وقد تعذر عليه أيضًا الالتقاء بالطرف الآخر في قضيته المنوط بها؛ "خلود"، بسبب ظروف حالتها الصحية، ليعود إلى منزله، ويأخذ قسطًا من الراحة، قبل أن يأتي مجددًا لهذا المكان، ويبدأ في تحقيقه الدقيق، ويملأ تلك الفراغات المحيرة فيه.

بوجه مكفهر، ونظرات متنمرة، وأنفاس مدمغة برائحة التبغ، من السيجارة المتدلية من بين شفتيه، التقط "فضل" بعينيه مساحة خالية، في المنطقة المخصصة لركن السيارات بالقرب من مدخل المشفى، تصلح لإيقاف السيارة العتيقة التي استأجرها، دفع جسده دفعًا للخروج من المقعد الجلدي المشقق، وهو يلعن بكلماتٍ قانطة، التفت نحو والده الذي ترجل من السيارة أيضًا، وإجهاد السفر يبدو واضحًا على تعابيره، وحركته الثقيلة، صــاح الأول فجــأة بما يعتريه من حنقٍ:
-خلينا كده نلف ورا الهانم من الأقسام للمستشفيات!

رد عليه "اسماعيل" بصوته الأجش:
-دلوقتي نقابل مرات عمك، ونفهم في إيه بالظبط.
لامه بنوعٍ من الهجوم، مستخدمًا يده في التلويح:
-إنت اللي غلطان يابا، كان لازم تفضل معانا في البلد، مش مطلوقة كده لا ليها كبير ولا عاملة اعتبار لحد.
نظر له بنظراتٍ متشددة، وقال على مضضٍ:
-مش وقته الكلام ده.
رد بعنادٍ، ونظراته لا تنم عن لمحة خير:
-لأ وقته يا حاج، عايزني أسكت زي الحريم؟

تطلع إليه والده في انزعاج، فتابع ابنه كلامه الناقم:
-هانستنى إيه بعد كده؟ ده تلاقي أهل البلد واخدين سيرتها لبانة في بؤهم.
علق باستهجانٍ، وهو يهم بالتحرك بعيدًا عن الموقف:
-وحد يعرف في إيه لسه؟!
تبعه بخطواتٍ شبه متعجلة، وبرر له سبب حمئته المتعصبة:
-الناس بتألف على مزاجها، ومش هتقدر تمنع حد مايتكلمش، وحتى لو مش في وشك، هيتكلم من وراك، والكلام يمس سمعتنا.

توقف "اسماعيل" عن السير، واستدار نحوه، ليزجره بنفاذ صبرٍ:
-"فضل"! متخلنيش أندم إني جبتك معايا!!
لوى ثغره معقبًا باستنكارٍ متهكم:
-يعني كنت هاسيبك تروح لوحدك تدور وراها؟
ثم نفخ عاليًا، لافظًا بقايا سيجارته المحترقة، وأكمل:
-تعالى يا حاج نشوف راقدة في أنهو أوضة.
تنهد أباه مرددًا بصوته المغلف بالتعب:
-بينا.
واتجه كلاهما إلى مدخل المشفى، الذي كان على بُعد بضعة خطوات، ليبادر "فضل" بالسؤال عن مكان حجرة "فيروزة"؛ حيث ترقد بها، أو الأحرى تحتجز بها مؤقتًا.

بلغا الطابق المنشود، ولم يجدا صعوبة في معرفة غرفتها، فالحراسة الأمنية كانت كفيلة بالإشارة إلى تواجدها بالداخل، انعكست علامات السخط على وجه "فضل"، وظل يُسمع والده بالمزيد من العبارات الناقمة، عن سوء تصرفاتها، وتركها دون رقابة، لتسيء لنفسها ولسمعة العائلة في النهاية، أراد شحن عمها ضدها، فلا ينحاز لصفها، حين يتخذ القرار الحاسم، ويقيد حريتها. حاول ابن عمها تجاوز رجال الشرطة، والمرور عنوة للداخل، لكن تم منعه، ولم يسمح له أو لغيره برؤيتها دون موافقة الضابط المسئول عن التحقيق في قضيتها، بعد التعليمات الجديدة التي تلقاها، فأدى ذلك لانفلات أعصــاب "فضل"، فصرخ باهتياجٍ:
-أنا ابن عمها، مش حد غريب.

رد الفرد الأمني ببرود:
-إن شاءالله تكون أبوها حتى، ممنوع.
صاح به بغيظٍ، وقد انتفخ وجهه:
-يعني إيه؟ هي محبوسة هنا؟
قال بسماجة سخيفة؛ مظهرًا عدم اكتراثه به:
-دي أوامر، ولو خالفتها هتتحبس يا أستاذ.
غمغم في سخطٍ:
-استغفر الله العظيم، يعني يبقى بيني وبينها باب، ومعرفش اطمن عليها؟
لم تهتز شعرة للفرد الأمني، وعلق بجمودٍ:
-حتى لو خطوة، ممنوع!

اغتاظ "فضل" من أسلوبه السمج في طرده، فهدر به بانفعالٍ شديد:
-إنت مخك قفل يا دُفعة؟
اشتعلت نظرات الأخير، وسأله بتعابيرٍ محتدة:
-بتغلط في الحكومة؟
تدخل "اسماعيل" على الفور معتذرًا:
-لأ يا دُفعة، مايقصدش، دي بردك بنتنا، وكنا عايزين نطمن عليها.
نظر الفرد الأمني في اتجاه الرجل الكبير، ورد عليه يأمره بلهجته الجافة:
-خد ابنك وامشي يا حاج.
وضع "اسماعيل" قبضته على ذراع ابنه، وجذبه منه بمجهودٍ واضح، ليبعده عن الباب، وهو يرجوه بتوسلٍ:
-تعالى يا "فضل"، الحكاية مش ناقصة شوشرة.

استل ذراعه منه بخشونةٍ، وصاح محتجًا:
-يابا مش شايف اللي بيحصل؟
رد عليه بعقلانيةٍ، ونظراته مسلطة عليه:
-خلينا نكلم محامي ونشوف هنعمل إيه، ده باين الحكاية فيها عوأ كبير، واحنا مش أده.
بصعوبةٍ استجاب لوالده، وتحرك في اتجاه المصعد، ثم توقف أمامه يسأله بأنفاسه الهادرة، بعد أن ضغط على زر استدعائه:
-ومرات عمي فين؟ المفروض تكون هنا، ولا هي بس فالحة تجيبنا من آخر الدنيا عشان المصايب دي..

تنهد قائلاً بتعب:
-جايز قالولها تمشي زينا.
أضاف بنبرته المتنمرة:
-وأنا بأطلبها وتليفونها مابيجمعش، حاجة قرف.
أشــار له والده وهو يلج لداخل المصعد
-بينا على بيتها، وهناك هنتكلم.

تسمرت قدماه في مكانه، ورأسه تدور باحثة عن أحدٍ بالجوار، فسيارته محتجزة تقريبًا بسيارة شخصٍ آخر، لم يراعِ وضع مسافة بين السيارتين، لتمكنهما من الحركة بحرية، وبات عليه انتظاره، ليزيحها. أطل "اسماعيل" برأسه من نافذة السيارة، بعد أن طال وقوف ابنه بالخارج، نظر إلى وجهه الحانق، وقال له بهدوءٍ مغاير لما عليه الأول:
-تعالى يا ابني اقعد بدل الوقفة دي.

صاح بغضبٍ أكبر:
-لأ يابا، أنا مستني أشوف الحمار اللي عمل كده عشان أربيه، ما قدامه حتت كتير فاضية.
تلفت والده حوله ليجد انشغال غالبية الموقف بالسيارات، فتلك الفترة تقريبًا هي الموعد المخصص لزيارات أهالي المرضى بالمشفى، استراح في جلسته، وقال معللاً ما حدث:
-جايز حد كان مستعجل، وملقاش ركنة.

نعت "فضل" ذاك المزعج بسبة نابية، وتوعده بالرد العنيف حين يظهر أمامه.
في تلك الأثناء، كان "تميم" قد انتهى لتوه من إيصــال "آمنة" وابنتها إلى منزل الأولى، وبصحبتهم "هيثم"، ثم توجه لاحقًا لأقرب مطعم لشراء وجبات جاهزة لـ "بثينة" ووالدته المرافقتين لـ "خلود"، لم يجد في البداية مكانًا متاحًا لركن السيارة، وبالتالي أوقفها بشكلٍ عشوائي، لبضعة دقائق، أمام إحدى السيارات، وبعيدًا عن طريق عربات الإسعاف، ليسلم الطعام للاثنتين قبل أن يعود ويصفها بالخارج، فما زال لديه حديث معلق مع طليقته.

لمح "تميم" أحدهم، يرتدي جلبابًا من اللون البني، تظهر عليه بقع متفرقة مبللة من العرق، ويبدو في حالة غليانٍ، ووجهه يختلجه أمارات الغضب، فاعتذر من بعيد رافعًا ذراعه:
-لا مؤاخذة يا عمنا.. أنا جاي أشيل العربية
التفت إليه "فضل"، ولعنه:
-الله يحرقك، إنت البغل اللي سيبنا ملطوعين كده، مش عارفين نتحرك
تباطأ "تميم" في خطواته، وسأله بوجهٍ تلون بحمرة مشبعة بغضبٍ مهدد:
-طب وليه الغلط يا بلدينا؟

رد بوقاحةٍ أكبر:
-شايفني واقف بعِمة قصادك يا طُربش، يا (...)؟
حذره "تميم" بغموضٍ، وقد شمر عن ساعديه:
-طب إدي بالك جيالك!!
سأله "فضل" باستخفافٍ:
-معناه إيه ده؟
وقبل أن يتطور الوضع للأسوأ، ترجل "اسماعيل" من السيارة، ليحول دون استمرار ابنه في التشاجر مع الغريب، ورجاه:
-بالراحة يا ابني.. ماينفعش اللي بتعمله ده.
لم ينظر "فضل" في اتجاه والده، وقال بشراسةٍ:
-خليك على جمب يا حاج، وسيبني أربي الأشكال بنت الـ...!

عند تلك الإساءة المهينة، فقد "تميم" السيطرة على غضبه، وسدد لكمة عنيفة مباغتة إلى فك "فضل" جعلته يرتد للخلف، وتبعها بأخرى أشد قوة طرحته أرضًا، لم يتركه بعد، بل جثا فوقه يخنق عنقه بركبته، مانعًا الهواء من الوصول إلى رئتيه، ثم أشهر مديته المخبأة في جيبه الخلفي، وألصقها بجلد وجهه المتعرق، وهدده بوحشيةٍ جمعها مما مر به طوال اليوم من ضغوطات قاسية مكبوتة:
-الـ (...) اللي مش عاجبك ده، هيرقدك الليلادي في الإنعاش...!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني الحلقة الخامسة والعشرون بقلم منال سالم


بركبته الثقيلة، زاد من ضغطه القاسي، على جلد عنقه، قاصدًا منع رئتيه من الحصول على الهواء اللازم لإعاشته، تضاعفت معاناة "فضل"، وتخبط بذراعيه وهو يجاهد لإبعاده عنه، ورغم هذا إلا أن "تميم" كان محكمًا قبضته على كتلة اللحم المسجاة من أسفله، توحشت عيناه، ورمقه بتلك النظرة الميتة، والتي تعني بكل وضوح هلاك غريمه، قبض الأخير بيده على فك الأول يعتصره بشراسة، ثم غرز نصل مديته الحاد في جلده، متعمدًا اختراقه، كز على أسنانه يخبره بعدائية بحتة:
-مش أنا قولتلك من الأول، إدي بالك جيالك؟

صرخ "فضل" متأوهًا من وخز النصل المؤلم، والذي شق طريقه في وجهه، فتابع "تميم" موضحًا:
-يعني هتاخد في وشك لحد ما أمك متعرفكش!!
وتبع ذلك لكمة عنيفة جعلت الدماء تنزف من بين أسنانه، حاول "اسماعيل" إزاحة "تميم" عن ابنه؛ لكنه فشل أمام عنفه الشديد، اعتذر منه بتوسل:
-خلاص يا ابني، سيبه، حقك عليا أنا، ابني "فضل" مايقصدش.
لم يكلف "تميم" نفسه عناء النظر إليه، ليعرف من يخاطب، وقــال بصوته الأجوف، المحمل بغضبه:
-ابنك ناقص رباية، وأنا هاظبطهولك!


 
كان الشجار غير متكافئ من وجهة نظر "اسماعيل"، فابنه يتصارع مع شخصية عنيفة، ملمة بأساليب القتال المهلكة، وهو رغم بنيته الضخمة لا يجيد الحركة مثله، وبالتالي إن لم يتدخل فورًا، لربما خسر ابنه حياته، لذا هرول باحثًا عن مساعدة خارجية، يأتي بها لتعاونه في إبعاد هذا المعتدي الشرس عنه، بينما منح "تميم" من أرقده أرضًا لكمة أخرى، جعلته يشعر بتهشم فكه السفلي، بالكاد قاوم "فضل" للإبقاء على حياته، أرخى الجاثم فوقه ركبته عنه قليلاً، ليستنشق الهواء بصعوبة، فسعل وبكى وهو يستغيث:
-يا جدعان، حد يحوشه عني!


 
علق عليه "تميم" بنبرته الهازئة:
-دلوقتي قلبت حُرمة؟ أومال كنت نافخ نفسك معايا ليه يا بغل؟!!!!
عاد "اسماعيل" وبصحبته أفراد من أمن المشفى، استعان بهم في دفع "تميم" عن ابنه، ورغم كثرتهم، إلا أنهم وجدوا صعوبة في إزاحته، حتى نجحوا أخيرًا في تحرير "فضل" الذي تدحرج على بطنه، واستلقى عليها لبرهةٍ، قبل أن يزحف بإعياء بعيدًا عنه، وسعاله المتحشرج يجرح في أحبال صوته المتألمة، تحسس وجهه بتوجسٍ، ليرى الدماء تنزف من جرح المدية، والذي حتمًا سيترك أثره لبضعة أيام على وجنته. نفض "تميم" الأذراع القابضة عليه، وأعاد نصل مديته لمكانه بإبهامه قبل أن يوجه حديثه إلى الكهل المصدوم:
-ربي ابنك يا حاج!


 
لم تكن ملامح وجهه بالغريبة عن "تميم"، تذكره بمجرد التطلع إليه، وإن لم يتعرف إليه الأخير بعد، انخفضت عيناه نحو "فضل" الذي نهض على قدميه، ومسح بظهر كفه خيوط الدماء التي اصطبغت بها بشرته، بمنديل قماشي، كان محتفظًا به في جيب جلبابه، ابتعد أفراد الأمن بعد تحذير شفوي لثلاثتهم، بعدم افتعال الشجار مجددًا، ولم يكترث بهم "تميم"، أو بتهديدهم، كان مستعدًا لتصعيد الأمور لأقصاها؛ لكن الغليان الواضح على وجه "فضل" الذي أهين على يده، كان يأكله بشدة، وقبل أن يشرع في لعنه –حفظًا لماء الوجه- بعد بعثرة كرامته، وسحق رجولته أمام الغرباء، رفع "اسماعيل" ذراعه محذرًا ابنه:
-خلاص يا "فضل"، مش جايين من آخر الدنيا عشان نتعارك مع خلق الله!

رد بغيظٍ، وبنظراتٍ مغلولة موجهة نحو "تميم"، ويده لا تزال موضوعة على خده:
-ماشي يابا، اللي تؤمر بيه.
اتجهت أنظار "اسماعيل" إلى "تميم"، ودقق النظر فيه جيدًا، أدرك حينها أنه رأه سابقًا، وقبل أن تتحرك شفتاه ليسأله، بادر الأخير بالقول:
-إنتو قرايب جماعة "هيثم"؟ نسايبه يعني؟
دون تفكيرٍ أجابه "اسماعيل":
-أيوه.. أنا شوفتك قبل كده.


 
استقام "تميم" في وقفته، ولم تبتعد نظراته العدائية عن وجه ابن ذاك الرجل، وهو يرد عليه موضحًا:
-مرتين يا حاج، هنا وعندكم...
توقف هنيهة عن الكلام ليضيف بعدها:
-بس مشوفتش البغل ده معاك!
استشاط "فضل" على الأخير من إهانته له مجددًا، وصاح بصوته المبحوح في أبيه:
-سامع يا حاج؟!

تحداه "تميم" ببرود، وتحفز في وقفته، بدا كمن يستفزه عن عمدٍ، لجره لشجار آخر:
-ما يسمع، هتعمل إيه يعني؟ الغلط بدأ من عندك، فاستحمل للآخر.
صــاح "اسماعيل" بضيقٍ، ووجهه متضرج بحمرةٍ منزعجة:
-خلاص بقى، مش عايزين مشاكل مع حد! كفاية اللي احنا فيه، وبينا من هنا!
تجهم "فضل" معقبًا عليه، وملامحه يغطيها تكشيرة عظيمة:
-عشان خاطرك يابا.


 
ثم دنا من "تميم" ليقول له، بما يشبه الوعيد:
-لينا كلام تاني، الحوار بينا مخلصش!!
ابتسم مرحبًا بوعده، وقال باستهزاءٍ
-وأنا جاهز، ومستنيه، بس ساعتها، مش هتدخل باب المستشفى ده
وأشـــار بيده نحو المدخل المخصص لدخول المرضى، قبل أن يحركها نحو بقعة أخرى ليشير إليها وهو يتابع:
-هتطلع من هنا..

وغمز له مضيفًا بهسيس:
-باب المشرحة!
ازدرد "فضل" ريقه، وكظم غضبه مرغبًا ليتبع والده، وبضعة شتائم محتجزة في جوفه، شيعه "تميم" بنظراته النارية إلى أن انصـرف بسيارته، ليلقي بعدها نظرة على مبنى المشفى، وعقله قد انشغل مجددًا بـ"فيروزة".


 
وقف في شرفته، المطلة على الحدائق الواسعة، في الحي الراقي الذي يسكن به، واضعا هاتفه المحمول على أذنه، وكوب النسكافيه الساخن بيده الأخرى، أسنده "آسر" على حافة السور، ليبرد قليلاً، وهتف مجاملاً بتملقٍ مبالغ فيه:
-كل الشكر لمعاليك يا فندم على اهتمامك، عيلة قريبتي مش عارفين يودوا جمايل سيادتك فين!

هز رأسه بإيماءة خفيفة وهو يصغي للطرف الآخر، ليعلق بعدها بلهجةٍ متشددة:
-أكيد طبعًا، لازم القانون يحاسب البنت المجرمة دي.
أطلق ضحكة مفتعلة قصيرة، كنوعٍ من إظهار اهتمامه بحديثه الساخر، وقال منهيًا مكالمته بتهذيبٍ:
-شكرًا مرة تانية، وباعتذر عن إزعاجك.

صافرة مليئة بالغبطة والانتشاء دندن بها لبعض الوقت، كتعبيرٍ عن سعادته لنجاح خطته التي رسمها على عجالة، حيث اتفق مع "محرز" سرًا، بعد أن أخبره بالمشكلة التي وقعت، على تحفيز "بثينة" وتوجيهها للإبلاغ عن حادثة ابنتها، وبما يخدم مصالحه وأهوائه الشخصية، ليتم اتهام "فيروزة" بشكلٍ صريح بالتسبب في إيذائها، ليتدخل لاحقًا أيضًا ويساعد في تقوية موقف "خلود"، باللجوء للوساطات الرسمية من ذوي الكلمة النافذة..

فيضيق الخناق على "فيروزة"، وتشعر بجدية الموقف وخطورته، وتدرك أنها لن تجد المناص أبدًا من مشكلتها المهلكة، سوى بطلب مساعدته؛ باعتباره المحامي البارع، وإن لم تفعل هذا، لن يمانع أبدًا في فرض حضوره عليها، ليظهر كالبطل المغوار الذي أنقذها من مغبة عظيمة .. عاد ليمسك بكوبه، وحدث نفسه بتفاخرٍ:
-نستنى بقى لحد ما "علا" تكلمني، وتعرفني باللي حصل .. وساعتها يجي دوري.

وحدث ما توقعه، دقائق، وصدح رنين هاتفه، ألقى نظرة مستمتعة على شاشته التي امتلأت باسم "علا"، نشوة غريبة انتشرت في جسده، مستشعرًا مدى قوته وقدرته على التحكم في مجريات الأمور، اكتسبت نبرته هدوئًا مصطنعًا حين أجابها:
-أيوه يا "علا".
ردت عليه بتعجلٍ:
-"آسر" .. الحق في مصيبة كبيرة حصلت لـ "فيروزة".
تصنع القلق المتلهف وهو يرد:
-بتقولي إيه؟

وضع ولاعته التي تحمل شعار سيارة الجاغوار الشهيرة على علبة سجائره، بعد أن أخرج واحدةً، وأشعلها، ليحرر دخانها في الهواء الطلق، التفت "محمود" إلى "وجدي" الجالس إلى جواره في المطعم الحديث يسأله مستفسرًا، والفضول الحائر مسيطر عليه:
-بصراحة أول مرة أقابل حاجة بالشكل ده، يعني ساعات نلاقي حد موصي على حد تاني، ونروق عليه، وحد عايزنا ناخد بالنا من حد عزيز عليه، لكن البنت دي ألاقي منها الاتنين، غريبة أوي؟ مش كده؟!!

سحب نفسًا آخرًا عميقًا من سيجارته، وتطلع إلى "وجدي" الذي شاركه حيرته قائلاً:
-والله ما عارف أقولك إيه، يعني على حسب ما أعرفه عنها، مالهاش في أي حاجة، وخناقتها كانت عادية مقارنة باللي بنشوفه عندنا في القسم...
ثم التقط فنجانه بيده الأخرى، وأوضح له:
-ملفها نضيف، مالهاش سوابق..

سأله "محمود" بنظرته الذكية المتشككة:
-تفتكر مين ورا إصراره على حبسها ...؟!
سكت للحظة وتابع موضحًا:
-مع العلم إن المحضر لسه قيد التحقيق والتحري.
رد وهو يرتشف قهوته التي أوشكت على الانتهاء:
-مش عارف، بس شكله حد تقيل.

أراح "محمود" ظهره للخلف، ورد بتنهيدة متمهلة:
-عمومًا .. كل حاجة هتبان في وقتها.
وافقه الرأي معقبًا عليه:
-بالظبط..
ثم أضــاف "وجدي" بهدوءٍ:
-الغريبة يا سيدي إن خناقتها مع الواد البلطجي ده خلصت بمحضر صلح، يعني المفروض مافيش مشاكل بينهم.

علق عليه "محمود" بابتسامة ساخرة:
-استنى أما أقولك، الواد البلطجي ده بقى حكايته حكاية.
انتبه له الأخير، وسأله في اهتمامٍ:
-ماله؟
رد بمزيدٍ من التشويق:
-عارف يطلع مين بقى؟ طليق الست اللي أمها مقدمة في البت دي البلاغ، واللي هي برضوه خالته.

أخرج "وجدي" سيجارة أخرى من علبة سجائره، وأشعلها بولاعته معقبًا في ذهولٍ:
-أوبا.. دي جديدة.
رد عليه بنفس الأسلوب المتهكم:
-يعني ملخص الليلة دي خناقة جوز حريم في بعض.
ضحك "وجدي" وهو يختم الحديث عن ذلك الموضوع:
-أيوه، والرجالة اللي بتحاسب على المشاريب في الآخر.

عاد "محمود" ليسأله:
-وإنت أخبار شغلك إيه؟
أجابه، وهو يطلق الدخان من رئتيه في الهواء:
-في حاجة جديدة شغالين عليها، بلاغ غريب من واحدة ضد طليقها، من المهربين.
ضحك مجددًا قبل أن يرد بطرفةٍ:
-دايمًا كده تلاقي الستات ورا مصايب الرجالة..
-مظبوط، بيجيبوا أجلهم بدري بدري.

اقترب من السطح الرخامي الجالس خلفه عدة ممرضـات، كان مترددًا في الإقدام على ذلك، لكن قلبه المتلهف حثه على سماع ما يطمئنه عنها، ولهذا تشجع للتقدم منهن، أشار لإحداهن بعينيه لتنهض من مكانها، وتتبعه. وقف "تميم" معها بعيدًا عن الأعين المراقبة لهما، ثم أخرج من محفظته ورقة نقدية كبيرة، طواها في راحته، ومد بها يده إليها يطلب منها:
-عاوزك في خدمة.

تناولت الممرضة النقود منه، ودستها في جيب زيها الوردي، وسألته بحذرٍ، وعيناها تتلفتان حولها:
-خير يا أستاذ؟
أجابها "تميم" بصوته الخفيض:
-تخشي تطمني على الأبلة اللي في الأوضة دي.
اتجهت نظراتها نحو باب الغرفة، المرابط أمامه القوة الأمنية، عادت لتنظر إليه باسترابة، وعلقت:
-بس هي نايمة، وآ...

قاطعها قائلاً بجدية غير مازحة:
-ما أنا عارف، بس بصي شوفيها عاملة إيه، وتطلعي تطمنيني، ومن غير ما تقفلي الباب.
رغم غرابة طلبه، إلا أنها هزت كتفيها قائلة بإذعانٍ تام له:
-حاضر يا أستاذ.

راقبها بعينيه وهي تتحرك في اتجاه غرفتها، تبعها بخطواتٍ بطيئة، حتى توقف عند زاوية جيدة الرؤية، فإن فتحت الباب، سرق من الفرجة المواربة لحظاتٍ يتأمل فيها ملامحها الساكنة، ويروي ظمأه إليها، لمعت عيناه مع رؤيتها، وأحس بارتفاع دبيب قلبه، لم يهدأ لرؤيتها، بل ازداد شوقًا للتواجد بقربها، وفي محيطها، كان من الصعب عليه التحكم في انفعالاته المتأثرة به، بلع ريقه، وسحب الهواء دفعًا متعاقبة ليضبط مشاعره، واستدار للناحية الأخرى بمجرد خروج الممرضة من الداخل، تعمد السير بخطى متمهلة إلى أن اقتربت منه، ابتسمت وقالت بلطفٍ:
-هي بخير يا أستاذ.

شكرها بنصف ابتسامة:
-متشكر ..
سحب نفسًا آخرًا يخنق به تلك الغصة التي آلمت صدره؛ فقُربه منها مؤلم، وبُعده عنها مُهلك!
استعاد "تميم" إيقاع تنفسه غير المنتظم، واتجه للمصعد بثباتٍ، ليهبط للطابق المتواجد به غرفة طليقته؛ حيث المواجهة التي تنتظره مع والدتها هناك؛ وربما أمه أيضًا، لم يستبعد حدوث ذلك.

-إنت مين؟
بوجهه المتورم، وتلك الضمادة التي تنتصف خده الجريح، تساءل "فضل" بتلك العبارة المتجهمة، بعد أن وجد شخصًا غريبًا يفتح له باب منزل زوجة عمه، لم يتعرف إليه، ولم يره مسبقًا، في حين رمقه "هيثم" بنظرة سريعة شاملة، جابت عليه من رأسه لأخمص قدميه؛ كأنه يتفحص هويته، ويدرس معالمه. ظل واقفًا في مكانه يسد عليه المدخل، ودون أن يتحرك، سأله ببرود ممتزج بالتهكم:
-المفروض أنا اللي أسألك السؤال ده، إنت اللي جاي بتخبط عليا السعادي!

اشرأب "فضل" بعنقه، محاولاً اختلاس النظرات من وراء ظهره، فشعر بوخزة موجعة تضرب فقراته التي عانت من قساوة "تميم"، فركها برفقٍ بيده، وسأله وهو ينفخ في ضيق:
-مش ده بيت عمي "علي أبو المكارم"، ومراته، وبناتها؟
لم تكن الحالة المزاجية لـ "هيثم" رائقة، ليتحمل على المزيد من الثرثرة السمجة، ورد عليه بسؤال:
-أيوه.. إنت مين بقى؟

لكزه "فضل" في صدره بخشونة، ليحركه من مكانه، قائلاً بعصبية مهينة:
-إنت اللي مين يا بأف؟ وبتعمل إيه في بيته؟ وسع كده خليني أدخل.
اعترض "هيثم" طريقه، وأمسك به من ياقته هاتفًا به بحدةٍ:
--نعم يا خويا؟ بأف؟ استناني بقى!

لم يكن من المقبول في عُرفه أن يصمت عن إهانته، وإن كانت غير مقصودة، أو زلة لسان من غريب وقح، لذا دفعه "هيثم" من صدره للخلف بيده الأخرى، مصرًا على منعه من اقتحام المنزل هكذا بوقاحةٍ، ودون استئذان، بالكاد طرده منه، وهو يواصل قوله الغليظ:
-هي وكالة من غير بواب؟ أنا مش واقف قصادك شوال بطاطس! ولولا إني عامل احترام لأهل البيت ده كنت رميتك من فوق
وقبل أن يتطاول باليد على ذلك اللزج، لمح "اسماعيل" يصعد الدرجات من خلفه، صائحًا به:
-سيبه يا "هيثم"! ده ابني.

ركز عينيه عليه، وصاح مدهوشًا:
-حاج "اسماعيل"! بتعمل إيه هنا؟
ردد "فضل" بغيظٍ كبير، وهو يبعد يده المحكمة عليه:
-تعالى يابا، شوف مين ده كمان، ما هو أنا الكل واخدني ملطشة النهاردة!
علق "اسماعيل" معرفًا به:
-ده جوز بنت عمك؛ "هيثم".

مد الأخير يده لمصافحته، فرفض "فضل" وضع يده براحته لإحراجه عن عمدٍ، ومع هذا قام "هيثم" بدفعه للجانب، ليتمكن من رؤية ضيفه الآخر، ورحب به معتذرًا بابتسامة سخيفة متكلفة:
-لا مؤاخذة، يا أهلاً وسهلاً يا حاج، اتفضل.
استشاط "فضل" غضبًا من معاملته الوقحة، ووبخه بتشنجٍ:
-لولا أبويا كان ليا لي كلام تاني..

منحه نظرة استحقارٍ قبل أن يرد في سخرية:
-خلي الكلام بعدين، لما اللي على وشك يروح.
تلقائيًا تحسس "فضل" الكدمات البارزة في وجهه، وكتم أنينه، وتلك النظرة النارية مسلطة على وجه "هيثم"، الذي أولاه ظهره ليقول:
-اتفضلوا في الصالون لحد ما أنادي حماتي ومراتي.

همسات خافتة دارت بين الشقيقتين، وهما جالستان على الأريكة الثنائية الجلدية، الموجودة في حجرة "خلود"، فالأخيرة استعادت وعيها، وتحدثت مع والدتها قليلاً بخفوت، لتعرف منها تفاصيل ما جرى لها عقب سقطتها المروعة، وأطلعتها أمها على ما نفذته بهسيس، حين ولجت شقيقتها للحمام، وأكدت عليها التمسك بقولها، إن أرادت الانتقام حقًا ممن دفعتها لارتكاب تلك الجريمة، استراحت ابنتها لأفكارها الجهنمية، ثم استسلمت لغفوتها المؤقتة.

جمعت "بثينة" بقايا الطعام في الكيس البلاستيكي، وألقته في السلة الموضوعة على يمينها، وتركت "ونيسة" معظم طعامها كما هو، لم تمسه، كانت فاقدة لشهيتها، طغى حزنها على ما آلم بابنة شقيقتها عليها، خاصة خسارة حفيدها المنتظر، ما تعجبت منه هو حالة "بثينة"، لم تكن بالمقهورة مثلها، وإن كانت لا تزال ناقمة على ما حدث .. وبمجرد أن وقف "تميم" على أعتاب الباب، ران السكون في المكان، تحولت نظرات اللوم والاتهام نحوه من كلتيهما، ســارت خالته ناحيته لتمنعه من الدخول وهي تصيح به:
-عايز إيه من بنتي يا "تميم"؟

نظر لها بوجومٍ، فتابعت هجومها المتحفز ضده:
-اللي بينكم انتهى خلاص، لا في عدة ولا في عيال!
قالت "ونيسة" من خلفها لتهدئها:
-اهدي يا "بثينة"، هو جاي يطمن عليها.. مش كده يا ابني؟
ونظرت إلى ابنها، بنظرة ذات مغزى، ليفهم رجائها الخفي في تأكيد قولها، بينما استدارت شقيقتها برأسها نحوها لتقول بأسلوبها الفظ:
-وأنا مش عايزاه هنا.

تنحنح قائلاً بوجهه العابس؛ وكأنه يلمح لها بمعرفته المسبقة عن ملابسات الحادث:
-هي اللي عملت كده في نفسها.
اتهمته "بثينة" بوقاحةٍ:
-بسبب معاملتك ليها، إنت مراعتيش ربنا فيها، خليتها توصل للحالة دي، وماتبقاش واخدة بالها من نفسها ولا اللي في بطنها...
ثم تعلقت في عنقه لتمسك به من ياقته، هزته بعنفٍ وهي تواصل صراخها به:
-دي الأمانة اللي موصياك عليها؟

نظر لها بعينين محتقنتين مستنكرًا كذبها البين، ورد بهديرٍ مشحون بغضبه:
-وأنا مخونتش الأمانة...
ثم أزاح قبضتيها عنه، وأكمل:
-الدور والباقي عليكم إنتم، ولا إنتو بتكدبوا الكدبة وتصدقوها؟
وبخته بلسانها اللاذع:
-صحيح، تقتل القتيل وتمشي في جنازته!

رمقها بنظرة نارية قبل أن يكشف كذبها الملفق:
-أنا برضوه؟ إيش حال ما كل اللي في البيت شافها وهي بتحدف نفسها، وأولهم ابنك "هيثم"..
ثم أشار بيده لها متابعًا صراحته الوقحة معها:
-وإنتي بقي عاوزاه يشهد زور بحاجة محصلتش أصلاً؟! مين الظالم والمفتري هنا؟
ردت ببرود:
-وهو أنا عملت حاجة لسه؟ كل حد زعل بنتي هاجيب أجله.

اشتعل غضبًا من قصدها المتواري، وتوعدها بنظراته قبل أن ينطق بلهجة قاسية:
-وأنا مش هاسمحلك تأذي حد بريء
ردت باستخفافٍ:
-مين إنت عشان تسمحلي؟
ثم غلف عيناها شر يليق بشخصها المتوحش، وتابعت مهددة إياه:
-ومش بعيد أرجعك مطرح ما خرجت يا معلم.

خرجت شهقة مصدومة من شفتي "ونيسة"، وعلقت عليها تلومها:
-مش للدرجادي يا "بثينة"؟ ابني مغلطش، وفوق ده كله احنا إخوات، وعمر الدم ما يبقى مياه!!
حدجتها بنظرتها الشرسة وهي ترد:
-واللي ابنك عمله في بنتي عادي؟ دي كان ممكن تروح فيها لولا ستر ربنا.

أطرقت رأسها في أسفٍ، بينما صاح بها "تميم" بحدةٍ، وقد فاض به الكيل من كذبها الملاوع:
-هاقولك من تاني هي اللي اختارت تعمل كده، وتموت نفسها بإيدها، بلاش تعيشوا دور مش راكب عليكم!
قاطعته والدته لتسكته جبرًا:
-"تميم"! متكلمش مع خالتك بالشكل ده!

رمقها بنظرة قاتمة تعبر عن غضبه المحتدم، لم يرغب في إحراجها، أو تحويل مجرى الجدال معها، وقال بزفيرٍ ثقيل:
-صح.. معاكي حق يامه، الكلام مش هيرجع اللي حصل!
أبعد نظراته عن خالته التي تكاد تقتله بنظراتها، وأردف بوجهه المتقلص:
-لو خلصتي أعدتك، فأنا جاهز أوصلك للبيت، أعدتك هنا لا هتقدم ولا هتأخر.
همس ضعيف، بصوتٍ متقطع، ظهر وسط الأجواء المشحونة بالاتهامات يناديه:
-"تـ.. تميم"!

استدار برأسه في اتجاه فراشها، وجد ابنة خالتها تفتح عينيها بثقلٍ، وتجاهد لرفع ذراعها والإشارة إليه، لم يشعر بالشفقة نحوها، حتى إحساسه بالتعاطف معها تناقص كليًا مع لسان والدتها السليط، تلك التي انتفضت متحركة نحوها قائلة بابتسامة متلهفة، وهي تحني رأسها على جبينها لتقبلها منه:
-"خلود"! بنتي حبيبتي.. الحمدلله يا رب إنك بخير.

همَّ "تميم" بالتحرك، وترك الغرفة، فجاءه توسلها بصوتها الضعيف، وعيناها ترتكزان عليه:
-"تميم".. ماتمشيش.
أبعد نظراته عنها، وقال بنبرة جافة:
-حمدلله على سلامتك يا بنت خالتي.
راوغته برجاءٍ، وبكلمات موحية، استشف المقصود منها على الفور:
-خليك.. لو يهمك مصلحتها.

حملق فيها مجددًا بنظرة نافذة، وبادلته نظراتٍ لها معنى محدد، ثم لعقت شفتيها الجافتين، قبل أن تأمر والدتها:
-معلش يامه سيبنا لوحدنا شوية.
وحاولت النظر في اتجاه خالتها لتطلب منها:
-روحي معاها يا خالتي.
اعترضت عليها "بثينة" بشدة:
-لأ يا "خلود"، أسيبك معاه يحرقلك دمك وإنتي في الحالة دي؟
قالت وهي تحاول الابتسام:
-اطمني عليا.

وضعت "ونيسة" يدها على كتف شقيقتها تشجعها على الذهاب معها:
-تعالي معايا يا "بثينة"، وربنا يهدي الحال بينهم.
لحظات وخلت الحجرة إلا من الاثنين، تبادلا بينهما نظراتٍ مطولة، مليئة بالكثير من المشاعر المعبأة بالكراهية والسخط، استطردت "خلود" قائلة بتعابيرٍ مرهقة، وهي تريح جسدها على الوسادة التي سحبت خلف ظهرها:
-إيه؟ مافيش كلمة تعزية ليا؟ اللي راح مني ده ابني اللي كنت مستنياه منك.

رد بجفاءٍ، وعيناه تتطلعان إليها بكرهٍ:
-ربنا يعوض عليكي.
ضمت شفتيها بغيظٍ من رده الخالي من التعاطف، وسألته بعدها مباشرة، دون تمهيد:
-خايف عليها؟
منحها رده الصريح:
-أيوه.

احترق قلبها كمدًا وقهرًا، من اعترافه القاسي، وغير المزين بكلماتٍ حتى مشفقة عليها، نظراته الثابتة عليها أكدت له صدق قوله، مما أغضبها بشدة، اهتمامه بها أشعل جذوة حنقها، فبدلاً من أن يكون حبه، ورعايته، وكامل جوارحه معها، غيرها يحظى بذلك، من لا تربطه بها أي صلة. ابتلعت غصة كالعلقم في جوفها المشبع بمرارته، وعلقت بابتسامة باردة؛ كأنها تقطع وعدًا على نفسها:
-وأنا هضيعهالك.

حدق فيها بنظرات قاسية، فأكملت بنفس الابتسامة:
-مش هسيبها تتهنى بلحظة معاك، هاخرب حياتها، وأسود عيشتها.
هدر بها متسائلاً بأنفاس منفعلة، وهو يشير بيده لها:
-إنتي بتعملي كده ليها فيها؟ إيه الشر والغل اللي جواكي ده؟
ردت على الفور:
-عشان بأحبك.

احتج على تبريرها هاتفًا بصوته المحتد:
-إنتي ما بتحبيش إلا نفسك! اللي بيحب عمره ما يأذي حد بالشكل ده..
دنا من فراشها، ووقف قبالتها يرمقها بتلك النظرة النافرة، قبل أن يسألها بوضوحٍ:
-بتكرهي "فيروزة" للدرجادي ليه؟
تلفظه باسمها، بكل ذلك الاهتمام، زاد من احتراق أحشائها، فصرخت به باهتياجٍ:
-ماتنطقش اسمها قصادي
منحها نظرة أخرى مشمئزة وهو يضيف:
-فعلاً، اسمها ماينفعش يتقال قصاد واحدة فيها كل الشر ده.

ضحكت بهيسترية رغم الألم الشديد الذي ضرب بجسدها، امتزجت عبرات وجعها مع صوتها المتقطع وهي تقول بصعوبةٍ، وكأنها تحاول السيطرة على نوبة ضحكها الغريبة:
-هي مشافتش لسه حاجة مني...
وضعت يدها على بطنها، واستأنفت بضحكٍ مجلجل:
-عارف يا حبيبي، أنا هعلق رقبتها على حبل المشنقة.

تقدم خطوة أخرى من فراشها حتى التصق به، رفعه ذراعه على الحائط فوقها، وأسنده، ليميل عليها بجسده، أصبح صوته قريبًا، مهددًا، وأنفاسه تلفح بشرتها حين تعهد لها:
-مش هايحصل طول ما أنا موجود يا بنت خالتي!
مدت يدها لتداعب ذراعه العضلي بأناملها، رغم الوهن المسيطر عليها، وقالت في تحدٍ:
-يبقى إنت متعرفنيش كويس.
كالملسوع أبعد ذراعه عن لمساتها غير المقبولة، وقال بهجومٍ:
-إنتي مش طبيعية.

صاحت بحشرجة الألم:
-أيوه، أنا مجنونة، وبأحبك، وبنت الـ (...) دي وقفت في طريق حبي ليك، وخطفتك مني.
رد عليها بنفس النبرة الهجومية، ومدافعًا عن "فيروزة" باستماتةِ:
-إنتي سامعة نفسك؟ احنا الاتنين مش في حساباتها أصلاً، أفعالك وقراراتك الغلط هي اللي خربت عليكي حياتك، مش هي...
ثم اشتد صوته قساوة وهو ينهي حديثه العقيم معها:
-وأنا هاطلعها من المصيبة دي بطريقتي.

وضعت "خلود" قبضتها على ذراعه تشده منه ناحيتها، تفاجأ من حركتها المباغتة، التي لا تتناسب مع وضعها الصحي، غالبت آلام جسدها، واعتدلت في رقدتها لتصير أقرب منه، غرزت أظافرها في لحم ساعده، بكل ما فيها من غلٍ وحقد، ثم هدرت بأنفاسها في وجهه:
-شوف يا "تميم" اللي تقتل ابنها بمزاجها، اعرف إنها مستعدية تقتل أي حد يبعد عنها حبيبها...

اقشعر بدنه لاعترافها المثير، فأكملت بصوتٍ لا يبدو مازحًا على الإطلاق، ودون أن يرف لها جفن:
-يعني حتى لو طلعت منها براءة، فأنا هاقتلها، اقسم بالله هدبحها قصادك...!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني الحلقة السادسة والعشرون بقلم منال سالم


بنظراتٍ حاقدة، نطقت عما تجيش به نفسها من بغضٍ شديد، معتبرة نفسها في مركز قوة، شحذت قواها، واستجمعتها معًا، بالرغم من الألم الذي يئن في أنحاء جسدها، أظهرت "خلود" الجانب المظلم في شخصها المريض، دون حاجتها لارتداء أقنعة الاضطهاد والخنوع، لاسترقاق قلب طليقها، وتسول مشاعره .. ركزت عينيها على ملامحه المصدومة، وأضافت بتلك النبرة المميتة، التي جعلت شعيرات ساعديه تنتفض فزعًا على حبيبة لا تعرف عن حبه الصادق شيئًا:
-ومش هندم للحظة.. هي مش أغلى عندي من اللي كان في بطني!


 
أكدت عليه جدية نيتها الوحشية وهي تكمل:
-طول ما واقفة بينا يا "تميم"، ومنعاك ترجعلي، فأنا هاموتها.
استفاق من غيبوبة عقله المؤقتة على الكارثة التي تخطط لها علنًا، وصرخ فيها باستنكارٍ:
-إنتي بتقولي إيه؟ استحالة تكوني طبيعية!
تجاهلت عصبيته، وأراحت ظهرها على الوســادة لتساومه بما يشبه الاختيار:
-حياتها قصاد إننا نكون سوا، اختار يا معلم!!


 
رأى "تميم" في وجهها استمتاعًا مريضًا بهوسها غير العقلاني بتملكه؛ وكأنها تسلبه حريته بتهديدها الشرس، وما أكد ذلك قولها المشدد:
-اثبتلي إنك ليا وبس، بتاعي لوحدي، وإنك مش في بالها زي ما بتقول .. واتجوزني.
رفض الخضوع لها، وهدر بها محتجًا، بعروقه التي انتفضت ثائرة في وجهها؛ معترضًا على تجبرها غير الطبيعي:
-سامعة نفسك يا "خلود"؟

ردت بابتسامة غريبة:
-أيوه.. وعارفة أنا بأعمل إيه كويس...
لم تبعد أنظارها عنه، وتابعت مشيرة بيدها:
-إنت من حقي أنا لوحدي، أنا اللي أخلصت ليك في حبي، مفرقش معايا عمري يضيع واستنيتك تخرج، وتكون ليا ..


 
سأم بنفورٍ انعكس على ملامحه المتجهمة، من تكرار نفس الأسطوانة المستهلكة على مسامعه، في أي وقت تسنح لها الظروف بهذا، وكأنها وحدها صاحبة الفضل في التكرم على شخصه، والموافقة على الزواج منه، وليس باتفاقٍ من الطرفين، قاطعها - قبل أن تستأنف نفس السيل من الكلمات العقيمة- متسائلاً بأنفاسه المنفعلة:
-عايزاني أعيش معاكي إزاي بعد كل اللي حصل بينا؟

ردت بهدوءٍ استفزه؛ وكأنها قد استحضرت الإجابة مسبقًا في عقلها:
-سهلة أوي، انساه، ونبدأ من جديد، على مياه بيضاء.
رمقها بتلك النظرة الحانقة، قبل أن يسألها بصوته المتشنج:
-بالبساطة دي؟
غاصت برأسها في الوسادة، وأرخت ذراعها إلى جانب جسدها، ثم ابتسمت قائلة له ببرودٍ تام، مناقض للغضب المستبد به:
-إنت اللي عاوز تعقدها يا حبيبي، والحكاية مش عايزة ده كله، خد اللي بتحبك، وشارياك، ومستعدة تعمل أي حاجة عشان تكون جمبك...


 
ثم اتسعت ابتسامتها، وأخبرته بتنهيدة:
-احنا طول عمرنا لبعض، مش من النهاردة، لأ من زمان يا حبيبي.
وصل النقاش معها لطريق مسدود، لن تقتنع مطلقًا بحقيقة انتهاء ما كان بينهما في يومٍ، ولم يكن ليقبل أبدًا بفرض ذلك الاختيار عليه؛ العودة إليها. تحكم بأعجوبة في أعصابه المنفلتة، ضبطها ليرد برسمية شديدة، ضاغطًا على كلماته؛ كأنه ينعتها:
-عارفة يا بنت الـ.... أصول.

تطلعت إليه بابتسامتها السمجة، فأضــاف مهددًا:
-لولا إنك بنت خالتي، وعامل حساب للي كان بينا في يوم، كنت عملت اللي ما يخطرش على بالك.
رفعت ذراعها أعلى رأسها، وأراحتها فوقها، ثم بادلته تلك النظرة غير المبالية، قبل أن تجلي صوتها المتحشرج، لترد بعدها باستخفافٍ، متعمدة ازدراء تهديده:
-طب عارف يا "تميم"، إنت بتاع كلام وبس...


 
استشاطت نظراته من تعقيبها الفج، وأكملت مؤكدة على ما نطقت به:
-أيوه، دي الحقيقة اللي الكل عارفها عنك، عمرك ما هتعمل حاجة تأذيني بيها، أقولك ليه؟
انتظرت للحظة لتضمن استحواذها على كامل تركيزه، لتستكمل بعدها بأسلوبها المغتر الواثق، الذي يغيظه:
-لأنك بتخاف على العيلة دي، وأنا يا حبيبي من العيلة، وكنت مراتك، وهارجعلك تاني، وبمزاجك.

علق بتهكمٍ، وهو يحدجها بنظراته الحادة:
-الظاهر البرشام عملك دماغ متكلفة..
ضحكت ساخرة منه، وهزت رأسها بالنفي؛ لكنه أعلن صراحةً لها، بنبرة مختلفة كليًا عما اعتاد التحدث به:
-شوفي يا بنت خالتي، يا اللي معتبرة سكوتي ده ضعف، وعشانك من العيلة، لو انطبقت السماء على الأرض مش هارجعلك!!


 
ابتسم لها لثوانٍ معدودة ليبدو غير مبالٍ بما هددته به، ثم اختفت تلك الابتسامة كما ظهرت، وغطى وجهه تعبيرًا محذرًا، ليتوعدها بعدها مشيرًا بعينيه اللاتين غلفهما القسوة:
-وفكري تقربي من الأبلة، ساعتها بس هاتشوفي وشي التاني، اللي عمرك ما تعرفي عنه حاجة.
ببرودٍ سمج تحدته قائلة، وقد ارتخت نظراتها:
-هترجعلي يا "تميم"، وبكرة أفكرك يا معلم.
تحرك في اتجاه الباب، وأخبرها دون أن ينظر إليها، قبل أن يصفقه في وجهها بعنفٍ:
-ابقي اتغطي كويس..

انجرحت أحبالها بألمٍ، حين صاحت بأعلى صوتها، ليصله:
-احنا لبعض يا "تميم"، إنت جوزي، وأنا مراتك، هنفضل مع بعض لحد ما نموت سوا.
بدت غير طبيعية بالمرة، وصراخها يخترق الكتل الخشبية ليصله، اندفع متجهًا إلى المصعد رافضًا البقاء في مكانٍ واحد يجمعه بها، لا يمكن أن يعود أبدًا لما كان عليه من قبل معها، لن يستطيع إجبار نفسه على العيش معها؛ لكنه بقي أمام عقبة خطيرة، تهديدها غير المازح لطاووسه، فكيف سيحميها من شرها الخفي؟

انزوى كلاهما بغرفتها المعزولة عن الخــارج، ليتحدثا سويًا، بعد أن تأزم الوضع، واتخذت المشاجرة العابرة، منحنًا قانونيًا، يستلزم حلاً فوريًا حاسمًا لإنهائه، قبل أن يتم تصعيده، أو يزداد تعقيدًا. سحبت "خلود" زوجها من ذراعه، ووقفت إلى جواره عند الشرفة، رمقته بتلك النظرة غير المتسامحة، وأخبرته بصوتٍ خافت؛ لكنه صارم:
-زي ما أمك وقعتنا في الخيّة دي، تطلعنا منها.

رد "هيثم" وهو يهز كتفيه، كتعبيرٍ ظاهري عن قلة حيلته:
-وأنا بإيدي إيه ومعملتوش؟
صاحت به بنبرة ارتفعت نسبيًا:
-اتصرف.. وبعدين إنت أخوها، يعني المفروض ليك كلمة عليها.
علق في تهكمٍ:
-لأ مش مع دي، إنتي متعرفيش "خلود" كويس يا "هموسة"..

ارتسمت بسمة هازئة على شفتيه وهو يختم جملته:
-ده تلاقيها دلوقتي بتتعاون مع أمي على الإثم والعدوان.
احتفظ وجهها بتكشيرته العظيمة، وهتفت به:
-إنت هتهزر يا "هيثم"؟ أختي هتتسجن ظلم، وإنت فايق للتنكيت.
ازدرد ريقه، وخفف من ابتسامته، ليرد بحذرٍ؛ وكأنه ينصحها:
-إن شاءالله مش هتوصل لكده، وهيبقى ليها حل.

ارتخت عضلات وجهها المتصلبة، حين قالت بحدية أقل:
-يا ريت والله، لأن بجد حرام أوي اللي بيحصل في "فيروزة" ده كله، هي ماتستهلش كده.
امتدت يد "هيثم" لتمسح على جانب ذراعها؛ وكأنه يداعبها، قبل أن يطلب منها بلطفٍ:
-اهدي بس إنتي، أعصابك يا "هموس".
نظرت لحركة يده، صعودًا وهبوطًا على طول ذراعها، ومنحته تلك النظرة الصارمة، لتوبخه بعدها بتحفظٍ شديد:
-وده وقته، شيل إيدك!
رفع كفيه في الهواء متراجعًا عن الاقتراب منها، فلم تكن في مزاجٍ جيد لتقبل مزاحه؛ لكن ابتسامته لم تفتر نحوها.

على الجانب الآخر، جلجل صوت "فضل" المتزمت بين جدران غرفة الصالون، ليعلن عن سخطه الصريح تجاه ما حدث مع "فيروزة"، بل وأكثر من ذلك حملها المسئولية كاملة عن وقوعها في تلك المصيبة؛ وكأنها كانت تتصرف برعونة –ودون تفكير- لتزج بنفسها في المتاعب، بإرادتها الحرة. تحفز في جلسته، ولوح بذراعه في وجه أبيه متابعًا تذمره:
-قولتلك يابا من الأول، أعدة الحريم لوحدهم بتجيب نصايب.

رد عليه والده بزفيرٍ منزعج:
-خلاص يا "فضل".
تحولت نبرته لشيء آخر، يحمل الشدة، وأيضًا الإلزام، عندما أكمل حديثه، وعيناه موجهتان نحو زوجة عمه:
-لازمًا ولابد يكون في راجل معاهم، والكلام ده نهائي.
عاتبته "آمنة" قائلة بنظراتها الحزينة، ووجهها التعس:
-مالوش لازمة تقول كده يا "فضل"، احنا طول عمرنا في حالنا، وماشيين جمب الحيط، لا حد سمع عنا حاجة، ولا بنعمل مشاكل مع خلق الله.

سألها "فضل" بصوته المتعصب، وعرقه الغزير يتجمع عند جبينه، بسبب انفعاله المغتاظ:
-أومال اللي حصل ده تسميه إيه؟
ضغطت شفتيها قليلاً، قبل أن تجيبه:
-النصيب..
علق بأسلوبٍ متنمر، وشفتاه مقلوبتان:
-كلام خايب!
رد عليه "اسماعيل" بنفاذ صبر:
-مش وقته يا ابني، عايزين نشوف هنعمل إيه..

توقف ثلاثتهم عن الحديث، حين ولجت "همسة" إلى الغرفة، حاملة بين ذراعيها صينية بها عدة فناجين للقهوة، أسندتها على الطاولة التي تنتصف الأرائك، وتراجعت لتجلس في واحدة شاغرة، وعلى مقربة منها جلس "هيثم"، بعد أن انضم إليهم. ارتكزت أنظار "فضل" على وجه زوج ابنة عمه، رمقه بنظرة مغلولة، وصوت هدير أنفاسه شبه مسموع، ثم تشدق هاتفًا بنزقٍ، مستخدمًا يده في الإشارة نحوه:
-ولما إنتو عيلة في قلب بعض، ومافيش مشاكل، ليه أخت الأفندي اللي متجوزاه "همسة" اتبلت على البت أختها؟

شعرت "همسة" بإهانة واضحة تسيء لتوأمتها في كلامه عن شخصها، ناهيك عن تقليله من شأنها هي شخصيًا؛ وكأنها نكرة، فصاحت فيه تحذره:
-أختي مش بت، ليها اسم تناديه بيه.
تصلب في جلسته، وقست ملامحه إلى حد كبير، وهو يرد بنوعٍ من الهجوم:
-إنتي هتعلي صوتك عليا؟

قبض "هيثم" على كتف زوجته يمنعها من النطق، وانتفض واقفًا ليرد منذرًا إياه، بنفس أسلوبه العدائي:
-إلزم حدودك! دي مراتي اللي بتفكر تغلط فيها، هي مش سايبة، ولا شغل فَتونة، هتقل أدبك عليها، هتلاقيني معَلم عليك في الناحية التانية من وشك.
هتفت "آمنة" بحرقةٍ، وقد فاض بها الكيل من تلك المشاحنات الجانبية:
-يا ناس كفاية خناق ومشاكل اللي يكرمكم، احنا كلنا هنا عشان نشوف حل للمصيبة اللي فيها بنتي.
رفعت "همسة" ذراعها لتمسك بمعصم زوجها، جذبته منه ليجلس، وهي تقول له:
-تعالى يا "هيثم".

غمغم بتبرمٍ خافت، ونظراته الحانقة مسلطة على وجه "فضل":
-قريبكم ده أعوذو بالله.
ردت عليه بصوتها الهامس:
-مكانش كده زمان، كانت أعدته حلوة، ودمه خفيف، والكل بيحبه، معرفش قلب كده ليه!
التفت ناحيتها ليحدجها بنظرة مغتاظة غاضبة، وهو يرد من بين أسنانه المضغوطة:
-نعم .. في إيه؟
سألته بعدم فهم، بنفس النبرة الخفيضة:
-إيه اللي في إيه؟

احتدت نظراته نحوها، وأجابها متسائلاً بصوتٍ بدا محمومًا:
-إنتي هتتغزلي فيه قصادي؟
نفت على الفور سوء فهمه، لتصحح له:
-لأ يا "هيثم" مقصدش، بس حساه بقى واحد تاني.
جاء رده صارمًا بشأن تلك المسألة، وهو ينهرها:
-لا تحسي ولا غيره، الكائن ده مايتحطش في أي جملة مفيدة ولا ضارة.
هزت رأسها بقبولٍ، لترد بعدها:
-حاضر.

ثم تابع مخاطبًا إياها بصوته الهامس، وعيناه تتطلعان إليه:
-ده تنح، ودمه واقف.
تلقائيًا نظرت في اتجاه "فضل"، والذي تجشأ بصوتٍ خافت، بعد أن انتهى من تجرع زجاجة المياه الغازية، ليمسك بفنجان القهوة، وردت بنفورٍ انتشر على محياها:
-معاك حق.

انتهى عامل القهوة من رص أكواب الشاي الساخنة الجديدة، على الطاولة المربعة الموضوعة بين ثلاثتهم، ليجمع بعدها الأكواب الفارغة من أمامهم، وينسحب تاركًا إياهم يتناقشون في اهتمامٍ حول الموضوع الشائك، المطروح على الساحة، وعلى غير العادة، كان الجد "سلطان" متواجدًا في الدكان لوقتٍ متأخر؛ لكن الخطب جلل، وحتمًا سيحتاج حفيده لمشورته. لم يمد "تميم" يده ليمسك بكوبه، وتطلع إلى والده الذي سأله بتعابيرٍ جادة:
-يعني مالهاش حل؟

أجابه بوجومٍ شديد، وظهره محني قليلاً:
-مش عارف، بس أنا استحالة أرجعلها.
علق "بدير" في يأسٍ:
-لا حول ولا قوة إلا بالله.
أراح ابنه ظهره للخلف؛ لكن بقي كتفاه متهدلان، حين أضاف بحنقٍ:
-الواحد إزاي كان مخدوع فيها كده، ده أنا بأفهمها وهي طايرة، أبقى غبي للدرجادي؟!!

عقب عليه جده "سلطان" بنبرة عقلانية:
-صوابعك مش زي بعضها، وزي ما في العيلة الكويس، فيها برضوه الوحش.
التفت برأسه ناحيته ليرد بندمٍ لم يجاهد لإخفائه:
-وكانت قدامي الفرصة أسيبها، ولا تظلمني ولا أظلمها.
وفجــأة خاطبهما "بدير"؛ وكأنه تذكر ما غفل عنه:
-احنا ناسيين حاجة مهمة يابا.
تركزت الأعين عليه؛ لكن بادر "سلطان" بسؤاله:
-إيه هي يا "بدير"؟

أجاب مشيرًا بعينيه:
-الكاميرات اللي ركبت.
نظر له "تميم" بغرابةٍ، ولم يتفقه ذهنه إلى مقصده، بينما علق الجد مشاركًا في حواره:
-صحيح، إنت كنت قولت هتجيب واد يركبهم.
هز رأسه مؤكدًا، وقد لانت ملامحه:
-أه وعملت ده فعلاً وقتها.
ليقتل الفضول الذي يساوره، تساءل "تميم" على الفور:
-كاميرات إيه اللي بتحكوا عنها دي؟

بأريحيةٍ أجابه والده، دون أن ينتبه لكونه لم يأتِ على ذكر تلك الحادثة من قبل:
-بعد السرقة إياها، كان اللواء معرفتي قالي أركب كاميرات للأمان في العمارة، وده عملته واحدة ناحية المنور، وواحدة عند المدخل، ما نشوف كده جايز تكون بينت حاجة.
استنفر في جلسته، وتطلع إليه بنظراتٍ حادة، قوية، متسائلاً في ضيقٍ بائن على تقاسيم وجهه:
-سرقة؟! إيه ده كمان؟ وإزاي أنا معرفش أي خبر بيها؟

تدارك والده خطأه غير المقصود، لعق شفتيه، وقال متهربًا من إجابته:
-مش وقته يا ابني.
أصر عليه بعنادٍ، وكل الضيق يتجمع في عينيه الملتهبتين:
-لأ يابا وقته، هو أنا قاعد كده معاكو زي الأطرش في الزفة ولا إيه؟
رد عليه جده بهدوءٍ:
-موضوع وعدى بقاله فترة، وخلصنا منه.

استدار برأسه في اتجاه جده، وقال له بإلحاحٍ، رافضًا تمرير الأمر:
-لازمًا يكون عندي عِلم بيه، مين اللي اتجرأ وفكر يخش البيت؟ وبعدين افرضوا كان الحرامي ده عمل حاجة فيكو ولا آ....
قاطعه "بدير" موضحًا له:
-ما هو مكانش حد غريب.. طيش عيال وراح لحاله.
احتقنت عيناه بشدةٍ، وهتف في استنكارٍ:
-كمان؟ يعني حد نعرفه؟

لم يكن والده موفقًا في التطرق لذلك الموضوع تحديدًا، وبات مرغمًا بالحديث عن تفاصيله، فأردف طالبًا منه بملامح جادة:
-أيوه، بس قبل ما أقولك مين هو اوعدني الأول ما تتهورش عليه، الموضوع ده كان اتحل وخلص من زمان.
توزعت نظراته بين وجهي أبيه وجده، وقال في صدمةٍ غاضبة:
-شكل الحكاية كانت كبيرة.
رد عليه جده ملطفًا من حدة غضبه:
-لأ مش أوي.

بجملٍ مرتبة مختصرة، قصَّ عليه تفاصيل حادث السرقة، والذي وقع خلال ليلة عرسه، حيث قام "هيثم" بالتسلل خلسة للمنزل، عبر منور العمارة، وتسلق الشرفات غير المستخدمة، المطلة عليه، ليقتحم المكان من المطبخ، ومنه إلى الدرهة الطويلة، وصولاً إلى غرفة النوم، وسرقة الدرج العلوي الذي كان يحوي بعض النقود، ثم هروبه، واكتشاف السرقة، ومعرفة هويته بمساعدة غير رسمية من أحد رجال الشرطة. اِربد وجه "تميم" بالغضب الشديد، وهدر من بين شفتيه بانفعالٍ مغتاظٍ:
-ابن الـ...، ويوم فرحي كمان!

عقب عليه الجد محاولاً تهدئة انفعالاته الثائرة:
-خلاص يا "تميم"، الواد تاب ومكررهاش تاني، وأبوك عمل معاه الصح.
توعده بهسيسٍ:
-وقعته سودة، بس أفوق من اللي أنا فيه ده.
رد عليه "بدير" بضجرٍ ظاهر عليه:
-هتخليني أندم إني قولتلك.
قال له معاتبًا:
-كان لازم أعرف بنصيبته دي من بدري يا حاج.

سأله والده بتبرمٍ:
-يا ابني الواد ماشي زي الألف، هنرجع نحاسبه تاني على القديم؟
ضم شفتيه في غيظٍ، كان في موقفٍ مُحير، واستدار برأسه ليحدق في وجه "سلطان" الذي استطرد يقول لهما:
-سيبكم من الهري ده، وخلونا نشوف الكاميرات، جايز نلاقي فيها اللي عايزينه.
غمغم حفيده على مضضٍ:
-ماشي.
في حين أضــاف والده قائلاً:
-هاجيب الواد اللي ركبهالي، ونشوف.
زفر وهو يهز رأسه بإيماءات متتالية:
-طيب.

لم يكن مُحنكًا فيما يخص استخدام التكنولوجيا الحديثة، فقط معلومات عامة أولية، تمكنه من التعامل مع أجهزة المحمول المتطورة؛ لكن فيما يتعلق بالمستجد والمستحدث من الأدوات الالكترونية وتعقيداتها، لم يكن ملمًا بها، ولهذا –وبشكلٍ بديهي- لم ينتبه "تميم" للجهاز العجيب الموضوع على (الدرسوار) في صالة منزله، والذي يشبه تلفازًا صغيرًا، معتقدًا أنه أحد قطع الديكور، المُهداة ربما من زوجته أو شقيقته، خاصة مع تغطية والدته له بقماشٍ مطرز، لحمايته من الاتساخ، كعادة معظم الأمهات.

كان المنزل خاليًا من والدته، وبالتالي كانت المهمة بسيطة، لا أسئلة، ولا استفسارات فضولية تحتاج لتبرير. جلس الشاب المختص بتركيب الكاميرات وتفريغها على مائدة الطعام، موصلاً حاسوبه الشخصي، بالجهاز الآخر، تطلع "تميم" إلى شاشة الحاسوب المحمول، وحملق فيها مراقبًا ما يفعله بحيرةٍ، ما استطاع أن يفهمه من ثرثرته المملة، طوال عمله المتلكع، أن الذاكرة المستخدمة في تسجيل ما يدور، تمحو تلقائيًا ما يُوجد عليها، بعد وصولها لعدد معين من الساعات، وامتلائها، لتبدأ عملها من جديد، وسعة تلك الذاكرة يجعلها تستغرق ما يقرب من الأسبوع.

تنفس الصعداء، فهناك احتمالية كبرى لتسجيل الشجار، ارتكزت كامل حواسه على تفريغ الأشرطة، وكانت المفاجأة، من الزاوية العالية الموضوعة بها الكاميرا، حين رأى "خلود" تبعد مسافة خطوتين عن "فيروزة"، ولا تمكن الأخيرة بأي حالٍ من الوصول إليها، ودفعها، كما أظهرت انزلاق قدم الأخيرة بميلها الزائد للخلف، دون أن تلمسها يد. رفع أنظاره نحو والده وجده اللذين كانا يراقبان الشاشة مثله، نطق والده أولاً؛ وكأنه يحاول الكشف عن نواياه:
-هتعمل إيه يا ابني؟

أجابه "تميم" مبتسمًا بثقةٍ وبكلمة موجزة:
-الصح..
ثم وجه حديثه للشاب بما يشبه الأمر:
-حطلي الفيديوهات دي على فلاشة.
هز الشاب رأسه طواعية وهو يرد:
-ماشي يا معلم.
رفع "تميم" رأسه في اتجاه والده، حين طلب منه والده بهدوءٍ جاد:
-تعالى يا ابني، عايزك في كلمة.
انصرف معه بعيدًا عن الشاب، لكون الموضوع حرجًا، وخاصًا، استطرد "بدير" يحذره بلهجة جادة:
-خالتك مش هتعدي ده على خير.

وقبل أن يعلق عليه، رد "سلطان" الذي تبعهما بحسمٍ:
-بنتها السبب، تستحمل بقى غلطها.
قال له "بدير" بتوجسٍ:
-الموضوع كده هياخد سكة تانية خالص يا حاج، بوليس ونيابة، وجايز محكمة، و"بثينة" دماغها شيطان.
تنحنح مرددًا بتريثٍ:
-هنحاول نلمه.. وبالعقل.
هتف "تميم" بنبرة عازمة، وعيناه تلمعان بوميضٍ غريب؛ لكنه مشرق، وممتلئ بالحماس:
-هنشوف حكايتها بعدين، المهم دلوقتي الغلبانة اللي اتظلمت بسببها، وكانت هتضيع من غير ذنب.

ساعاتٍ مكثها أمام القسم الشرطي، منتظرًا قدوم الضابط المسئول عن التحقيق في البلاغ المقدم ضد "فيروزة"، وبصحبة محاميه، من أجل تقديم دليل براءتها؛ وإن كان يعني ذلك نشوب مشكلات عائلية لاحقة، لتوريطه طليقته السابقة في مسائل قانونية، تخص تقديم البلاغ الكاذب وتبعاته، وربما لجوء الأولى لرفع قضايا ثأر شخصية، لرد الاعتبار. لم يكترث لكل ذلك، المهم حاليًا أن يوفي بوعده الذي قطعه لها، وما إن التقاه الضابط "محمود" حتى أعطاه (الفلاشة) على عجالةٍ، ليقول له موضحًا:
-دي نسخة يا باشا، وتقدر تشوف الأصل من الكاميرات عندنا.

تفحصها الضابط بأصابعه، قبل أن يضعها في المكان المخصص لها، ليوصلها بجهازه، ثم قام بتشغيل محتوياتها، وتابع ما تعرضه التسجيلات باهتمامٍ، ليهز بعدها رأسه في استحسان، أوقف تشغيل ما يُعرض، والتفت إلى "تميم" ليسأله بنوعٍ من الفضول:
-بس مش غريبة إنك بنفسك جاي تعمل كده؟ والموضوع كله يخص مراتك؟
صحح له بنظرات نافذة، وتلك البسمة الخفيفة تتشكل على زاوية فمه:
-طليقتي يا باشا، وماينفعش أسكت عن الحق.

مط ثغره في إعجابٍ للحظةٍ، ثم قال:
-تمام.
تساءل "تميم" في تلهفٍ متحمس، ونظراته تتجول على وجه الضابط، ومحاميه:
-إيه اللي هيتعمل بعد كده؟
هنا أخبره المحامي بهدوءٍ:
-متقلقش يا معلم "تميم"، ولا تشغل بالك، الإجراءات معروفة، وأنا هتابع بنفسي كل حاجة، وهتأكد إن الأستاذة "فيروزة" معدتش طرف في أي حاجة.

تحولت أنظار "تميم" نحو الضابط "محمود" الذي أضاف عليه بابتسامة متكلفة، وهو يسحب فاتحة الأظرف من غمدها ليعبث بها، كلازمةٍ معتادة منه:
-زي ما المحامي قالك.. اطمن.
نهض واقفًا، ومد يده لمصافحته، وهو يشكره بامتنانٍ:
-متشكرين يا باشا.

تراجع "محمود" في مقعده، وأراح ظهره معلقًا بقليلٍ من السخرية:
-أنا معملتش حاجة، بالعكس إنت اشتغلت شغل الداخلية!
منحه "تميم" ابتسامة صغيرة صامتة؛ لكن صوته الداخلي انطلق في جنباته، وعقله يجسد ملامح وجهها في مخيلته:
-طالما ليها، أنا مستعد أشتغل أي حاجة.

انتصفت الشمس في كبد السماء، ولم تمنع الستائر الخفيفة أشعتها من اختراق الزجاج لتملأ الأرضية بها، وطيف وجهه المتلهف خوفًا عليها، يحتل المساحة الخالية على البلاط اللامع. باعدت "فيروزة" نظراتها الشاردة عن وهم صورته، لتحدق في وجه الضابط "محمود" الذي جاء إليها خصيصًا، ليخبرها بالتطور الجديد في البلاغ المقدم ضدها، وكيف انتهى بأعجوبة لصالحها. لم ترمش بعينيها رغم صدمتها من تصرف "تميم"، فلم يخطر على بالها مطلقًا، أن يبذل قصارى جهده -وأزيد- لأجلها، بدا الأمر محيرًا وموترًا، ملبكًا إن دق التعبير، توقفت عن شرودها، محافظة على جمود ملامحها، لتسأله بلهجة هادئة:
-يعني أقدر أمشي من هنا؟

أجابها ببساطة:
-أيوه طبعًا، إنتي حرة تتحركي، وكمان الأمن اللي واقف برا خلاص مالوش لازمة.
هزة خفيفة من رأسها صاحبها ردها المختصر:
-كويس.
وقبل أن ينصرف "محمود" من الغرفة، أشار لها بسببته مرددًا:
-حاجة أخيرة بس محيراني.
نظرت له بحاجبين معقودين، وهي ترد:
-إيه هي؟
أمسك بقبضته حافة فراشها المعدني، وأجاب:
-إنتي مزعلة مين عشان يوصي عليكي بالشكل الغريب ده، رغم إنه محضر عادي، لسه قيد التحري؟!

زادت تعبيراتها تعقيدًا، وهتفت:
-مش فاهمة!!
بسّط لها سؤاله المحير قائلاً:
-يعني في حد حاطك في دماغه، وحد مش سهل كمان!
سكتت للحظاتٍ تدير الأمر، وتفكر فيه مليًا في عقلها، بلعت ريقها في حلقها الجاف، وسألته بحيرة ملموسة في صوتها:
-وأنا المفروض أقلق ولا أعمل إيه؟
رد بدبلوماسية:
-خدي بالك وخلاص ..

ثم ابتسم منهيًا حديثه معها بقوله:
-وحمدلله على سلامتك مرة تانية.
قوست شفتيها قليلاً لتظهر ابتسامة باهتة عليهما وهي ترد:
-الله يسلمك.
شيعته بنظراتها إلى أن خرج من الغرفة، لتستغرق في أفكارها الحائرة مجددًا، وبشكلٍ أعمق، سؤالاً واحدًا ظل يلح عليها:
-مين ده اللي عايز يأذيني؟!
لكن أفعــال "تميم" وشهامته الزائدة معها، عادت لتطفو على السطح، وتلهيها عن التفكير مؤقتًا في أي شيء .. سواه!

لم يمر الكثير بعد على زيارة الضابط "محمود"، لتأتي إليها "علا"، حاملة بطول ذراعها لباقة من الورد الطبيعي الأبيض، أسندته على طرف الفراش، وجلست إلى جوارها ماسحة بيدها على كفها، نظرت نحوها، وابتسمت قائلة في لطفٍ:
-حبيبتي.. قلبي عندك.

وقبل أن تخبرها "فيروزة" بشيء، تجمدت الكلمات على طرف لسانها، بسبب رؤيتها لـ "آسر" الذي انضم إليهما، وفي يده علبة شيكولاته فاخرة، وضعها على الطاولة، واستقر في المقعد متسائلاً في اهتمامٍ مبالغ فيه:
-عاملة إيه دلوقتي؟
أجابت على مضضٍ، وبضيقٍ لم تسعَ لتغطيته:
-الحمدلله.

أشــار بعينيه نحو باب الغرفة المفتوح، وعلق متسائلاً:
-بس مش غريبة إننا ملقناش حد من الأمن برا؟ يعني على حسب ما عرفت كانوا مانعين الزيارة وآ...
قاطعته بجدية بحتة، وعيناها تحدجاه بنظرة غامضة:
-ما هو الأخبار الحلوة مابتوصلش زي الوحشة.
سألتها "علا" مستفهمة، ووجهها يعلوه ذلك التعبير الحائر:
-يعني إيه؟

التفتت برأسها نحوها، وأجابت على مهلٍ، بدون التطرق لأي تفاصيل:
-المشكلة اتحلت، كان في سوء تفاهم..
ثم استدارت في اتجاه "آسر"، وأكملت:
-ومكانش في داعي تتعبوا نفسكم.
ردت عليها "علا" بعتابٍ رقيق:
-إزاي تقولي كده؟ أنا والله اتجننت لما عرفت من "ماهر" باللي حصل، وبعدين تتصلي بأخويا وماتكلمنيش أنا؟

تنحنحت بخفوتٍ، وابتسمت وهي تجاوبها:
-محبتش أقلقك، على أساس إن ساعتها مكونتش عارفة أتصرف إزاي، وهو بيفهم في الحاجات دي، بس الحمدلله، كله بقى تمام.
تحركت أنظارهما في اتجاه الباب، عندما بادر "آسر" مرحبًا بأحدهم بودٍ شديد:
-جاي بنفسك يا "وجدي"؟ إيه الصدف الحلوة دي؟

تحرجت "فيروزة" من كثرة الزيارات الذكورية، والتي لا طائل منها سوى إرهاقها، وتقييد حريتها، بالطبع رسمت تلك الابتسامة السخيفة على محياها، وهي تشكره على قدومه، ولم تسلم من بعض النصائح الوجوبية منه، بضرورة تجنب كافة أنواع الشجارات والمشاكل، والتي تنتهي بتواجدها في قسم الشرطة. قبل أن ينصرف، تساءل "وجدي" مُخاطبًا "علا":
-لو خلصتي أخدك في سكتي، أنا رايح ناحية بيتكم.

التفتت تلقائيًا ناظرة إلى "آسر"، كان التردد واضحًا عليها؛ لكن تلك النظرة الغامضة من الأخير، منحتها الجواب الحاسم، بالذهاب معه، وتركه بمفرده مع "فيروزة"، عبثت بحقيبتها، وردت بابتسامتها المشرقة:
-أوكي.. أنا مش عايزة أتعب "فيرو"، هي أكيد محتاجة ترتاح.
ثم نهضت لتحتضنها، وودعت "آسر" قائلة له؛ وكأنها توصيه:
-خد بالك منها
رد بابتسامة عريضة:
-في عينيا، متخافيش عليها.

كانت حيلة مكشوفة، ومفهومة لها، ظلت محافظة على هدوئها، ورفيقتها تلوح لها بيدها لتنسحب مع "وجدي"، حاولت "فيروزة" ألا تحدق في اتجاه زائرها الأخير، ضغطت على أصابعها في توترٍ، حيث أن تواجده معها في الغرفة، بمفردهما، لم يكن من الصواب، اختفت ابتسامتها الباهتة، وطلبت منه، بتحفظٍ:
-تقدر تمشي يا أستاذ "آسر"، أنا بقيت كويسة، وكمان عشان معطلكش.

ارتبكت، وكسا وجهها الشاحب القليل من الحمرة، حين وجدته ينهض من مكانه ليقرب مقعده من فراشه، تقريبًا ألصقه به، ورد في عتابٍ محب، ورأسه ينحني في اتجاهها:
-أستاذ وتعطليني؟ ينفع كده يا "فيروزة"؟
رمقته بنظرة صارمة وهي تطلب منه:
-لو سمحت ممكن تبعد شوية؟ كده أي حد ممكن يفكر إن بينا حاجة، وأنا مش عايزة شوشرة..

بامتعاضٍ منزعج قال لها:
-حاضر.. طالما ده اللي عايزاه.
تراجع بمقعده خطوتين للخلف؛ لكنه أبقى انحناءة ظهره نحوها، واستأنف حديثه معها قائلاً بأسلوبه الناعم:
-أنا مش فاهم إزاي يعملوا كده مع واحدة محترمة زيك؟

كانت غير رائقة المزاج لتبادله الحديث، يكفيها ما مرت به، ليعيد تذكيرها بالتفاصيل البغيضة إلى نفسها، اشتدت تعبيراتها، وحملقت ناحيته باستغرابٍ، وقد هتف عاليًا:
-أنا استحالة أسكت عن المهزلة دي؟ هو كل حد يقول كلمتين خلاص يصدقوه ويجرجروه على الأقسام؟ البلد دي فيها قانون، وإجراءات رسمية لازم تتعمل قبل ما حتى يفكروا يقبضوا عليكي.

علقت في هدوء:
-الموضوع اتحل، فمالوش لازمة نتكلم فيه.
أسبل عينيه نحوها يُخبرها بكلماتٍ بطيئة:
-لأ ليه لازمة، إنتي غالية عندي أوي، حتى لو مافيش نصيب بينا ..
أحنت رأسها على صدرها حرجًا منه، لم تحبذ تطرقه لتلك الجزئية، المصحوبة بذكريات مذلة، تزيد من إحساسها بالخذلان، ابتسم "آسر" وهو يعاتبها:
-وبعدين ينفع أعرف من برا، ومش منك؟ ده لولا "علا" كلمتني تستنجد بيا، مكونتش هعرف باللي حصلك!

ضغطت على شفتيها قبل أن تحررها لتعلق عليه:
-أستاذ "آسر"، أنا آ....
امتدت يده لتمسك بكفها، انتفضت في ارتباكٍ حرج، ورمقته بنظرة حادة، كانت على وشك جذب يدها من أصابعه القابضة عليها؛ لكنه رفض تركها تتملص منه، واعترف لها، وعيناه تسبحان في نظرات عينيها:
-أنا بأحبك يا "فيروزة"!

لم تتوقع بوحه بمشاعره، رغم صدها له بكل الطرق الممكنة؛ ولكن هز الغرفة صوتًا رجوليًا غاضبًا، يتهمها بوقاحةٍ، عرفت صاحبه الفظ على الفور، دون الحاجة للنظر في وجهه المقيت:
-إيه جو الغراميات ده؟ إنتي عاملة فيها عيانة ولا مقضيها مسخرة وقلة أدب هنا؟!!!
استعادت "فيروزة" يدها، وهتفت محتجة على اتهام "فضل" المسيء لها:
-ماسمحلكش..

في حين انتفض "آسر" من مكانه ليحدجه بنظرات معادية، وحذره بشدةٍ:
-إنت مين يا كابتن؟ وإزاي تدخل علينا الأوضة كده؟
قست ملامح "فضل"، وزجره بسبابٍ حاد، قاصدًا التشاجر معه، وبكراهيةٍ واضحة اندفعت من عينيه:
-أنا ابن عمها يا (...)!

استشاط "آسر" على الأخير من إهانته الوقحة له، وأمام من؟ من يعدها خطيبته؛ كان شيئًا يمس هيبته، وإن كانت رجولته منقوصة؛ لكنه لن يقبل أبدًا بالتحقير من شأنه، بينما رمقته "فيروزة" بتلك النظرة الساخطة الاحتقارية، فمجيئه كما عهدت منه –مؤخرًا- كان مصحوبًا بنوايا غير بريئة نحوها، لن تسلم منها، ولن تقوى على مجابهتها، نظراته الاتهامية نحوها أكدت لها ذلك، سيحطم ما تبقى منها بمزاعمه المهلكة لروحها التي ما زالت تتعافى .. وقبل أن يزيد الطين بلة، صرخت فيه لتوقفه، بما لم تتخيل أنها سترتضي به:
-ملكش دعوة بخطيبي!

تصريح مفاجئ وصادم، خرج من داخل الغرفة، ليرن صداه بقوة في الردهة، فهز بقساوته الجارحة، بدن ذاك القادم من على بعد، ليشعر "تميم" فجأة بخفقة قابضة اعتصرت بشراسة لا ترحم صدره، فجعلت مباهج الدنيا تختفي كليًا، وحلت تعاسة أبدية في عينيه، انسحب هاربًا، وعبراته تختنق في حدقتيه، كانت حالته أشبه بمن فقد عزيز لديه، هبط الدرجات سريعًا، وقد أدرك الحقيقة المريرة، أن ما ظنه حبًا ينمو بين ضلوعه، اُغتيل بغتةً في مهده، ولا عزاء إلا لنفسه...!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني الحلقة السابعة والعشرون بقلم منال سالم


لحظة فارقة، لم تظن أنها ستحدث هكذا، حيث اختارت فيها الهروب مما يطاردها، ولإسكات لسانه الشرير الذي ينهش في سمعتها، بتهمه المجحفة، والتي لا تتوقف أبدًا عن النيل منها، لجأت لآخر الحلول المستبعدة عنها، إلى ذاك الذي زج بها منذ البداية في مستنقع الآلام، ليكون الخلاص لها منه؛ وإن كان يعني هذا إلقاء نفسها، في مجهول محفوف بالمفاجآت الصادمة لها؛ لكنها لن تُعايش مثل تلك التجربة المذلة مجددًا بسبب أكاذيبه المُضلة. رمقته "فيروزة" بتلك النظرة النارية الناقمة عليه، وأكدت له بصراخها:


 
-إنت ملكش دعوة بأي حاجة تخصني من هنا ورايح.
وبكل وقاحةٍ علق عليها "فضل"، والشرر يتطاير من حدقتيه:
-ولما هو كان عاجبك من الأول، رفضتيه ليه؟!
هدرت به بانفعالٍ:
-وإنت مالك؟


 
تابع "آسر" بنظرات فضولية، واهتمامٍ لا بأس به، حدة الأجواء بينهما، وفَطن لوجود رواسب خلاف سابق، ما تزال عالقة، وقد راقه الأمر كثيرًا، ففي الأخير هو يصب في مصلحته، لهذا استغل الفرصة، وهتف بنوعٍ من الجراءة التي تُغاير طبيعته الهروبية:
-اهدي يا حبيبتي، لو البني آدم ده مضايقك فأنا جاهز أربيه
زجره "فضل" قائلاً بنوعٍ من الازدراء، وهو يرمقه بتلك النظرة الدونية بعد أن تحولت عيناه إليه:
-اركن على جمبك ..

تقدم "آسر" نحوه، ورد بتحدٍ، وهو يلوح له بذراعه:
-إنت بتكلم إزاي بالأسلوب ده معايا؟ إنت عارف أنا ممكن أعمل فيك إيه؟
بادله "فضل" سبة مهينة لإحراجه، وتحرك صوبه ليهمّ بضربه، مما دفع "فيروزة للتدخل فورًا، وإيقاف تلك المهازل المخجلة بصراخها العنيف:
-بس بقى، كفاية فضايح.
على إثر صوتها جاءت "همسة" ركضًا من الخارج، متسائلة في جزعٍ:
-في إيه اللي بيحصل هنا؟
ردت عليها "فيروزة" بصوتها الصارخ، وتعبيراتها المهتاجة:
-تعبت بقى، سيبوني في حالي.


 
تبع "هيثم" زوجته، ومن خلفه ظهرت "آمنة"، ارتكزت نظرات الأول على وجه "فضل"، متعجبًا من وجوده، فقد تحجج الأخير بحاجته لشراء بعض الأشياء قبيل ذهابهم، وسيلحق بهم في المشفى فيما بعد، وها هو الآن متواجد بغرفة "فيروزة"، لم يسترح لحضوره، استراب من تصرفاته غير المفهومة، اتجهت أنظاره نحو "آسر"، واستنكر وجوده أيضًا، ثم تساءل بوجه متجهم:
-دول بيعملوا إيه هنا؟

حرك "هيثم" رأسه في اتجاه "فيروزة" التي واصلت صراخها:
-كله يطلع برا، مشوهم من هنا، مش عايزة أتكلم مع حد.
ردت عليها "همسة"، وهي تمسك بها من ذراعها لتهدئها:
-حاضر يا "فيرو"، هنعمل كل اللي إنتي عايزاه.
وانضمت إليها والدتها لتحتوي غضبها الغريب، بينما أشــار "هيثم" بذراعه للاثنين ليطردهما:
-يالا يا كابتن، سمعتوها، بالسلامة من هنا.


 
بسماجةٍ سخيفة، تنحنح "آسر" قائلاً، وعيناه تتطلعان إلى "فيروزة":
-خلاص يا حبيبتي، هنتكلم تاني، نظبط فيه كل حاجة.
وصــل إليه "هيثم" ودفعه نحو الخارج، بعد أن طرد "فضل" الذي كان يحترق غيظًا بالخارج، ثم صفق الباب في وجهيهما، وانزوى عند الركن يتابع بصمت، حالة تلك البائسة التي كانت تقريبًا في وضع انهيار.

أين المفر من حبٍ حُكم عليه بالنهاية قبل أن يبدأ حتى؟ لذا كان كل ما سرقه، وفي غفلة منها، نظرة أخيرة لملامح وجهها المتشنج، وهي تنطق باعترافها المُهلك، لينسحب سريعًا بعدها، وصوت "آسر" يلازمه في عقله، ليؤكد له موافقتها الواضحة على خطبته، وأنها تنتمي إليه. "فيروزة"! اسم حُرم من تداوله بين شفتيه، وإن كان قد مُنح فرصًا لينطق به أمامها وبعيدًا عنها؛ لكنه بات محرمًا عليه كليًا من الآن فصاعدًا. وفي جانب هادئ تمامًا، في نهاية طريق الكورنيش الموازي للشاطئ، أوقف "تميم" سيارته، ليستند بظهره على مقدمتها، ويحدق بعينين تحتجزان العبرات الحزينة الرقراقة، وقلب محطم في زرقة المياه القاتمة.


 
كانت المرة الأخيرة التي يسمح فيها لنفسه بالظهور بهذا الضعف، فكما أجاد إدعاء جهله بسرقة "هيثم" أمام أبيه وجده، متقنًا دوره ببراعة، بينما كانت والدته قد أطلعته سابقًا على تفاصيل السرقة، سيفعل ذلك مجددًا، سيدرب نفسه، ويطوعها أكثر، ليجيد إخفاء مشاعره المهزومة؛ وكأنه جماد، بلا قلب نبض مرة لأجل الحب. مسح عبراته التي تسللت خارجة من طرفيه، بظهر كفه، وتحدث إلى نفسه قائلاً؛ وكأنه يحفزها:
-أيوه، إنت هاتقدر تنساها يا "تميم"، زيها زي أي حاجة كان نفسك فيها وراحت، مش نهاية الدنيا.

غلف نبرته حزنًا غير مستتر، وهو يكمل إفراجه عن مكنونات نفسه لنفسه:
-بس هي مش زي أي حد..
أطبق على جفنيه بقوة، وهمس بحرقةٍ:
-هي "فيروزة" واحدة وبس!
عند نطقه باسمها رغمًا عنه، أجهش بالبكاء، وقد فقد قدرته على ضبط انفعالاته، ببساطة خرجت مشاعره عن السيطرة، واستسلم لمرةٍ أكد لنفسه مرارًا وتكرارًا أنها ستكون الأخيرة، بإظهار جرحه المعنوي، باكيًا حبًا يجهل عنه العالم بأسره .. فيما عدا قلبه!


 
غيابه كان مريبا حد الشك، وهي بمفردها مع أبنائه في البلدة، بعيدة كل البعد عن أجواء الصراع المحتدمة في المدينة، أكلها فضولها وحثها على الذهاب؛ لكنها لم تكن لتتحمل أعباء ومشاق السفر بمفردها، ما نما إلى مسامعها من تطورات مثيرة حفزها على العودة، تبقى لها فقط إعلام زوجها، وسحب القطيع خلفها .. كعادته في تجاهل الرد على اتصالاتها المتعاقبة التي تلاحقه، خاصة حين يكون في ذروة عمله، يئست "حمدية" من الوصول إليه، لولا سماعها لأنفاس لاهثة، قبل أن تضغط على زر إنهاء الاتصــال، تبعها سؤال طفولي لصغيرة ما:
-ألو، مين معايا؟

اعتدلت في جلستها بشرفة منزلها المطلة على الأرض الزراعية، وتساءلت بوجهٍ تبدلت ملامحه للجدية التامة:
-مش ده تليفون "خليل"؟
أجابت الصغيرة بتلقائيةٍ:
-أيوه..
سألتها بشكلٍ آلي، وعقلها مشحونٍ تقريبًا، بالتفكير الاستنباطي، في ماهية تلك الطفلة التي أجابت عليها:
-هو فين؟
ردت باقتضابٍ:
-هناديه ..
أرهفت "حمدية" السمع جيدًا للطرف الآخر، وبدا لها أنها تسمع أنفاسٍ لاهثة لتلك الصغيرة التي تركض تقريبًا، ثم جاء صوتها مناديًا بعفوية واضحة:
-بابا! يا بابا!

انقبض قلبها بقوةٍ، وشعرت بضيقٍ يجثم على صدرها، تمالكت أعصابها، وكتمت أنفاسها الشاهقة بيدها لتبدو هادئة كليًا، أتاها صوت زوجها واضحًا وهو يتساءل:
-في إيه يا "كوكي"؟
جاوبته بتمهلٍ:
-حد بيتصل بيك.
تصلب جسد "حمدية"، وبدت تعبيراتها غائمة، وزوجها يجيب على الهاتف:
-ألو، مين؟
ردت عليه بوجومٍ شديد:
-إنت فين يا "خليل"؟ ومين دي اللي ردت عليا؟
استطاعت أن تتبين الارتباك في صوته المهتز، حين ادعى كذبًا:
-ده أنا.. على القهوة، مع صاحبي و.. آ..دي بنته كانت بتلعب في الموبايل وآ...

قاطعته متسائلة بقتامةٍ:
-جاي امتى؟
هتف دون تفكيرٍ:
-على طول يا حبيبتي، ده أنا خلصت الشغل كله، وكنت هفاجئك وأرجع النهاردة..
ولسوء حظه هللت "سماح" تناديه:
-يا "خليل"! السفرة جاهزة، تعالى قبل ما الأكل يبرد.

لم تكذب "حمدية" أذنيها، كان النداء واضحًا، ويخص زوجها، وما تبعه من كلام يشير لوجود ما يخفيه عنها، غلت الدماء في شرايينها، وتصاعدت إلى رأسها لتزيد من حنقها، بالكاد كظمت غضبها وهو يهتف موضحًا بكذب:
-مرات صاحبي عازمنا على الأكل، وأنا مش عارف أخلع منهم.
ردت تسأله مباشرة لتكشف كذبه الواهي:
-هو إنت على القهوة؟ ولا عند مرات صاحبك؟

تلجلج وهو يقول:
-ده احنا كنا في القهوة تحت بيت صاحبي، ومراته بتنادي علينا نطلع.
علقت عليه باستنكارٍ، ونظراتها تقدح بالشر:
-وواخدة عليك أوي؟ بتقولك يا "خليل" كده حاف؟
تنحنح وهو يبرر لها:
-دي أد أمي .. وأنا ما بأردش..
ثم أخفض صوته ليتغزل بها:
-ولا إنتي بتغيري يا "أم العيال"؟ ده إنتي اللي في القلب.

أنهت معه المكالمة قائلة بغموضٍ، تأكدت أنه سيربك كافة حساباته:
-تعالالي على البلد على طول يا "خليل"، هنتكلم لما تيجي.
لم تمهله الفرصــة للرد، وأغلقت الاتصــال، وشكوكها الأنثوية تتزايد بداخلها، قبضت على أصابعها المحتوية للهاتف، وضغطت عليهم بشدة، حتى ابيضت مفاصلها، لتغمغم لنفسها بتوعدٍ بعدها:
-أه لو طلعت متجوز عليا، ولا بتلعب بديلك من ورايا يا "خليل"، ساعتها بس هتعرف مين هي "حمدية"!!!!!!

في الناحية الأخرى، انسابت ساقي "خليل"، وشعر بانخفاض ضغط دمه، تهاوى جالسًا على الأريكة الموضوعة بجوار النافذة، اختفى التورد من وجهه، وتحول للشحوب والارتعاب، كان حرفيًا يرتجف، يداه تهتزان بتوترٍ رهيب. تطلعت إليه "سماح" باندهاشٍ، وسألته:
-مالك يا راجل في إيه؟ مش على بعضك كده ليه؟
أجابها بغموضٍ، وبصوتٍ متذبذب:
-نصيبة يا "سماح"، وحلت على دماغي!

قطبت جبينها متسائلة:
-نصيبة إيه دي؟
لعق شفتيه، وأجابها بأنفاسٍ مضطربة:
-"حــ.. حمدية" اتصلت.
ردت ببرود:
-ما تتصل، فيها إيه؟
انخفضت نظراته نحو هاتفه، الذي سقط من يده إلى جواره، وقال بتوجسٍ:
-هي اللي كانت على الخط، وسمعتك إنتي والبت!

لطمت على صدرها في صدمةٍ، ورمشت بعينيها متسائلة:
-يا لهوي، طب والعمل؟ تفتكر إنها شكت فيك؟
رد بتشتتٍ:
-مش عارف ...
استجمع نفسه، ونهض من مكانه بقدمين مرتعشتين، ثم أكمل عازمًا، بتوتره البادي عليه، وبؤبؤاه يتحركان بقلقٍ كبير:
-بس أنا لازمًا امشي دلوقتي من هنا، وأرجع البلد..

سألته "سماح" بعبوسٍ:
-طب والأكل؟
أجابها وهو يهرع متجهًا نحو غرفة النوم:
-كليه إنتي!
زمت "سماح" شفتيها في سخطٍ، وحركتهما للجانبين، قبل أن تدمدم بتذمرٍ، وهي رافعة ليديها في السماء:
-منك لله يا "حمدية"، دايمًا معكننة كده عليا!

مكثت في غرفتها وحيدة، منعزلة عن البقية، بعد أن خرجت من المشفى، وعادت إلى منزلها، رافضة النقاش مع أي أحد في قرارها الأخير، كانت بحاجة لمساحة خاصة، تجعلها تفكر برويةٍ، وبعمقٍ، فما حاربت لعدم حدوثه، أعلنت عن رغبتها في تنفيذه! دقت "همسة" الباب على توأمتها قبل أن تفتحه، وتلج للداخل، وهي حاملة لصحن صغير بيدها، ابتسمت تشجعها على تناول ما به:
-شوية شوربة بمكرونة لسان عصفور حكاية.

استلقت "فيروزة" على جانبها، ورفضت قائلة:
-ماليش نفس
أسندت الصحن على الكومود، وتمددت إلى جوارها، لتمسح برفقٍ على جانب كتفها، وسألتها بنبرة مهتمة:
-مالك يا "فيرو"؟ من ساعة ما رجعنا البيت، وإنتي واخدة جمب...
لم تجبها شقيقتها، وظلت ممددة على جانبها، استمرت "همسة" في تمسيد شعرها، وكتفها، وهي تسألها بإلحاحٍ طفيف:
-حصل إيه في المستشفى خلاكي تتعصبي؟

لم تمتلك من الشجاعة ما يدفعها للالتفاف، والنظر في وجه توأمتها، وأجابت بفتورٍ:
-مافيش.
سألتها مجددًا معللة أسباب سؤالها المستفسر:
-"فضل" ضايقك؟ بيني وبينك كلامه بايخ معايا، وكان هيشتبك مع "هيثم"، فأكيد عمل دقة نقص معاكي، صح ولا أنا غلطانة؟
حافظت على جمود تعبيراتها، وتنهدت ترجوها بهدوءٍ:
-عشان خاطري بلاش نتكلم عنه، كفاية أوي إنه غار من هنا.
ابتسمت تؤيدها:
-على رأيك..

أراحت "همسة" ظهرها للخلف، ووسدت يديها وراء رأسها، وأضافت:
-تعرفي يا "فيرو"، أنا فرحانة إنك هتتخطبي، مع إن الظرف مش مناسب، يعني عشان اللي مريتي بيه، بس دي فرصة تدلعي، وتشوفي نفسك مع واحد بيحبك.. حاجة حلوة أوي إن الواحدة تحب وتتجوز حد كويس...
تحولت عباراتها للفضول عندما سألتها:
-صحيح إنتي واقفتي عليه ليه؟ مش كنتي رفضتيه في البلد وآ...

قاطعتها منهية النقاش في ذلك الموضوع قبل أن يبدأ:
-"همسة" لو سمحتي، أنا دماغي تقيلة، وعايزة أنام، ممكن نتكلم في ده بعدين.
هزت رأسها في تفهمٍ، لتقول بعدها:
-ماشي يا حبيبتي، خدي راحتك ..

ثم اعتدلت في رقدتها، ومالت نحو توأمتها تقبلها من أعلى رأسها، شعرت بتخبطها، بحالة العزوف المسيطرة عليها، ولم ترغب في الضغط عليها، لتحصل على ما تريد من معلومات، تركتها تختلي بنفسها، وختمت حديثها الودي معها بقولها:
-أنا هاقعد شوية مع ماما برا وهمشي، وهكلمك أطمن تاني عليكي.
استدارت لتنظر إليها في امتنانٍ، لترد بكلمةٍ مقتضبة:
-أوكي.

أشــارت "همسة" بعينيها نحو الكومود، قبل أن توضح لها:
-الشوربة هغطيهالك، بس كليها، دي عمايل إيديا، وإنتي عارفة أنا طباخة بريمو.
حانت من "فيروزة" ابتسامة لطيفة تشكلت على ثغرها، وودعتها بنظراتها إلى أن خرجت من الغرفة، لتختفي تلك البسمة الزائفة، وتعود لحالة الجمود الحزينة التي تمكنت منها.

منذ لحظة وصوله، وتبدد الهدوء الذي عم المنزل لصخب وشجار، لم يتوقف "فضل" عن إثارة المتاعب مع من يلقاه في طريقه؛ وكأنهم وسيلته لإفراغ الكبت المحبوس بداخله، بعد أن تمت إهانته لأكثر من مرة، أراد التغطية على شعور النقص المستبد به، باستعراضِ قوةٍ زائفة على من هم أضعف منه؛ شخصيةً، وبنيانًا. وبخطواتٍ متمهلة اقتربت منه "سها"، وهو جالس بمفرده في المضيفة لتسأله، دون أن يطرأ ببالها أنه سيثور هكذا في وجهها:
-مرات عمك و"فيروزة" بنتها عاملين إيه؟ عدت المشكلة اللي كانوا فيها على خير ولا إيه الأخبار؟ طمني كده عليهم.

التفت ناظرًا إليها بعينين حادتين، قبل أن يوبخها:
-مالك إنتي ومالهم يا ولية يا حشرية؟ عايزة تعرفي أخبارهم ليه؟ كنتي من بقية أهلهم وأنا معرفش؟ ولما أحب أتكلم في حاجة تخصهم هاجيبك إنتي يا أم مخ فاضي أحكي معاكي، وأخد برأيك؟!!

تلون وجهها بحمرة خجلة من إهانته الشديدة، وتقليله لشأنها، كانت أدرى بطبيعته المتقلبة، ولم تقابل أسلوبه المتعنت معها إلا بالهدوء، فمن الخير أن تتجاهل فظاظته البشعة حتى لا تثير غضبته البائنة عليه، جلست على المصطبة الخشبية إلى جواره، وقالت متصنعة الابتسام، كأنها لم تسمع ما يهينها قبل ثوانٍ:
-وماله ياخويا لما نتكلم سوا، ما أنا مراتك بردك، وإنت لما تفضفض معايا هتشيل عن قلبك وترتاح.

دفعها بقساوة من كتفها، ليزيحها من جواره، وقال بعينين شرستين:
-قومي فِزي يا ولية، اتكشحي من هنا، مش ناقصك!
ابتلعت مرارة الإهانة، خاصة حين رأت "سعاد" مُقبلة عليها، وفي عينيها نظرات إشفاقٍ ولوم، أطرقت رأسها، وانسحبت من المكان سامعة صوت الأخيرة يعنف ابنها:
-حرام عليك يا "فضل"، عملتلك إيه المسكينة دي عشان تبهدلها كده؟

لوى ثغره معلقًا عليها بنبرة جافية:
-مالكيش دعوة يامه، دي مراتي، وأنا حر فيها، إن شاءالله أقطم رقبتها...
ثم اكتسب صوته إيقاعًا غريبًا وهو يتابع:
-مش زي بنت "آمنة" اللي ملاقتش اللي يربيها ولا يلمها..
حملق في الفراغ أمامه، وكز على أسنانه متوعدًا -في نفسه- بنوعٍ من التمني:
-آه لو كانت مراتي، كنت عرفتها مقامها، دي مكانش ينفعها إلا واحد زيي، يمشيها على العجين متلخبطوش!

استغربت "سعاد" من تحامله عليها، وسألته مباشرة بعد أن استقرت على المصطبة:
-مالك ومال "فيروزة" يا "فضل"؟
انتبه لها، وأجاب وقد برقت عيناه:
-مافيش يامه، بس إنتي عارفة، أنا مابيعجبنيش الحال المايل.
تهدل كتفاها، وأضافت في لهجة هادئة، متعمدة الدفاع عنها:
-بنت عمك طول عمرها في حالها، ماشية زي الألف، مالهاش في أي حاجة، فبلاش تيجي عليها تاني.

لا إراديًا، تحسس "فضل" بيده الجرح المتروك أثره على وجهه، بعد أن أزاح الضمادة من عليه، متذكرًا عدائية "تميم"، وتهديداته التي لم تكن من فراغ، تقوس فمه في امتعاضٍ ظاهر عليه، وهسهس بسبة نابية انحصرت بين شفتيه، بينما لانت تعبيرات والدته حين تكلمت بحماسٍ:
-وبعدين المفروض نفرحلها، أبوك قالي إنها وافقت على العريس، وكلها أيام وهتتخطبله ويتكتب كتابها، يعني احنا يدوب نجهز نفسنا عشان نروحلها.

رد بوجهٍ عابس:
-أنا مش رايح في حتة.
سألته باستغرابٍ، والدهشة تغزو محياها:
-ليه كده؟ ده إنت ابن عمها الكبير، ومش عايزين النفوس تفضل شايلة من بعض، ده الضفر مايطلعش من اللحم.
أجلى أحبال صوته المحتشرجة بنحنحة عالية، قبل أن يعلق عليها بسخطٍ، مستخدمًا يديه في التلويح:
-المثل بيقول إيه يامه، أردب ماهولك (مش ليك) ما تحضرش كيله، تتعفر دقنك، وتتعب في شيله .. وأنا الليلة دي كلها ماليش فيها خلاص، أنا شيلت إيدي.

نطق بلسانه ما يناقض رغبته الحقيقية، فلو اتيحت له الفرصة، وكان في مركز قوة، وهي تحت يده، وحاضرة هنا في بلدته، لحشد أعيانها، وأجبرها على الزواج منه قسرًا، ومارس عليها طغيانه، كما اعتاد أن يفعل مع زوجته المقهورة، أشاح بنظراته عن والدته التي ما تزال محدقة فيها بتعجبٍ، تنهدت الأخيرة ببطءٍ، لم تعرف ما الذي يدور في رأس ابنها؛ لكنه لم يكن هكذا يحاوطه الغموض، نهضت من جلستها، وهي تردد في يأسٍ:
-هاقولك إيه يا ابني، غير ربنا يهديك لحالك.

بأعجوبةٍ، وألاعيب المخضرمين من المحامين، خاصة الداهية "آسر"، نجت "بثينة" ببدنها من كارثة كادت تزج بها بالسجن، وتعرضها لمشاكل في غنى عنها حاليًا، بعد كشف الحقيقة كاملة، وإظهار براءة "فيروزة" من التهمة الملفقة التي اتهمتها بها، انتهى المحضر على خير، وحُفظ في الأدراج، كغيره ممن ينتهون دون تصعيد قانوني. تجرعت "بثينة" رشفة كبيرة من كوب الماء، وأسندته في مكانه بالصينية، ثم بدأت تهت جسدها بحركة عصبية، بعد أن جلست في الصالون، بصحبة ضيفيها "محرز"، وزوجته، تنوح مُصابها لهما:
-بقى دي أخرتها يا "هاجر"؟ شوفتي أخوكي وعمايله؟ كان ناقص يحبس خالته، ولولا ستر ربنا وولاد الحال!

نظرت "هاجر" لخالتها في حرجٍ، وظلت تهدهد رضيعها بين ذراعيها باهتزازة خفيفة ثابتة، بينما واصلت الأولى ندبها الناقم:
-هي دي صلة الرحم اللي ربنا أمره بيها؟ مش كفاية مراته خسرت اللي في بطنها، لأ يزود الهم علينا ويجرجرنا في الأقسام.
رفرفت بعينيها وهي تتطلع إلى زوجها في ترددٍ، ثم استدارت ناظرة إليها مرة أخرى، وردت تواسيها :
-متزعليش يا خالتي، ده أنا جاية أخد بخاطرك النهاردة، وأراضيكي.

هتفت معترضة في سخطٍ:
-لا يا "هاجر"، اللي عمل أخوكي ده مش هايروح بالطبطبة.
أردف "محرز" قائلاً بهدوءٍ، وعيناه تلمعان في خبثٍ:
-يا حاجة ده إنتي طول عمرك قلبك طيب.
انخرطت في بكاءٍ مصطنع وهي ترد عليه، لتستجدي مشاعرهما
-هو أنا مضيعني غير قلبي وحنيته؟

وضع "محرز" يده على كتف زوجته يحثها على النهوض، عندما أمرها بلطفٍ:
-قومي يا "هاجر" شوفي بنت خالتك، أكيد الموضوع مش سهل عليها، طيبي خاطرها بكلمتين، وخديلها الواد تشيله شوية.
ردت بإيماءة موافقة من رأسها:
-طيب يا "محرز".
بدا كحمامةٍ للسلام ولسانه ينطق بمعسول الكلام، ليزيل الوحشة المعششة في القلوب، ما إن تأكد من اختفاء زوجته بالداخل، حتى انتقل من مكانه، ليجلس قريبًا من "بثينة"، أحنى رأسه عليها، وهمس لها؛ وكأنه يلومها:
-كنتي هتودينا في داهية، مش تاخدي بالك إن في كاميرات راكبة؟ لولا البيه بتاعي كان زمانك لبستي فيها.

مسحت دموع التماسيح التي لم تترك مقلتيها، وردت بخفوتٍ بلهجة جافة:
-وأنا كنت أعرف منين؟ بأشم على ضهري إيدي ولا بأضرب الودع؟
قست نظراتها، وانزلقت مضيفة من تلقاء نفسها:
-وأختي "ونيسة" مجابتليش سيرة عن الحكاية دي.
سألها "محرز" بجديةٍ، رغم انخفاض نبرته:
-سيبك من ده، وقوليلي هنعمل إيه دلوقتي؟ زي ما احنا ولا غيرتي رأيك؟

تصلب كتفاها، وردت بحقدٍ مغلول:
-أغيره؟ ده أنا عايزة أنتقم منه، أولع في جتته، ده أنا خسرت كل حاجة.
ابتسامة لئيمة خطت على شفتيه وهو يرد بتلذذٍ انعكس كذلك في نظراته:
-حلو الكلام، قريب هتسمعي البشارة.
تنهدت في رجاءٍ:
-يا ريت يا "محرز".
أضاف طالبًا منها:
-عايزك تجيبلي الأمانة اللي شايلها عندك.
سألته في استغرابٍ، والفضول يكسو أنظارها:
-ليه؟

أجاب بتهكمٍ، وبتعابير جادة:
-صاحبها عايزها، هاقوله لأ؟ هاتيها بسرعة قبل ما تخرج "هاجر" من جوا.
همهمت وهي تحرك جسدها بثقلٍ لتنهض من جلستها:
-ماشي ياخويا.
شيعها بنظراتٍ كالصقر وهي تمرق عبر الردهة الطويلة متجهة إلى غرفتها، فقد أزف الوقت للقيام بعملية التهريب المُرتب لها، بعد أن صدرت الأوامر العليا بالشروع فورًا في تنفيذها...!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني الحلقة الثامنة والعشرون بقلم منال سالم


برويةٍ انحنت بجسدها للأمام لتفتش بين أغراضها في دولابها الخشبي، خاصة الرف الأوسط، والذي تحتفظ به بأغطية الفراش المطوية النظيفة، وجدت "بثينة" ضالتها، فاعتدلت في وقفتها، وأخرجتها من الداخل لتنظر لها مجددًا؛ لفةٌ بلاستيكية مغلقة بإحكام، بلونٍ داكن، لا يظهر ما تحويه بداخلها، تبدو بيضاوية بعض الشيء، أدارتها بين يديها، متسائلة في نفسها بفضولٍ كبير:
-يا ترى فيها إيه دي؟


 
لم تكن أيضًا بثقيلة الوزن؛ لكنها أصابتها بالحيرة، رغبت في معرفة ما بهل، ومع ذلك تحركت بها نحو ضيفها المنتظر بغرفة الصالون، ناولته إياها وهي تسأله:
-دي عبارة عن إيه يا "محرز"؟
كان متحفظًا، ومراوغًا، في رده عندما أجابها:
-سيبك منها، وخلينا في المهم...
ثم أسندها إلى جواره؛ وكأنه غير مبالٍ بها، ليقول بهدوءٍ:
-عندي طلبية جديدة تبعنا، توريدة من العيار التقيل، يومين وهخلصها، وأجيبلك المعلوم.
هزت رأسها في استحسان، وعلقت:
-كويس.. أهي حاجة تعوض الخسارة اللي حلت عليا.


 
استأذنها "محرز" بتهذيب:
-هاتعبك معايا يا ست الكل، عايز فنجان قهوة مظبوط يعدل دماغي
-إنت تؤمر يا "محرز".
تابعها بنظراتٍ مراقبة إلى أن اختفت بداخل مطبخها، فأخرج هاتفه المحمول، وطلب على عجالةٍ أحدهم، أخفض نبرته، ليبدو صوته غير مسموعٍ حين قال:
-الأمانة معايا، جاهزة على التسليم.
أصغى للطرف الآخر بانتباهٍ تام، وعقب:
-حاضر هبلغ "حاتم"، وأظبط معاه.
بتعجلٍ أنهى المكالمة محافظًا على ثبات تعابيره، وفحص اللفة بدقةٍ، ليتأكد من عدم فتح "بثينة" لها؛ كانت كما هي، ابتسم في رضا، فقد كانت كل الأمور تسير على ما يرام، وجلس مسترخيًا منتظرًا عودتها إليه.


 
-أيوه يا "هاجر" أخوكي ظلمني!
رددت تلك العبارة المصحوبة بنبرة حارقة، وصدرها قد غص بالبكاء الخانق، حين سألتها شقيقة طليقها عن أحوالها، لم تمسح "خلود" دموعها عن خديها، تركتهم كدليلٍ حي وملموس عن قهرها، ومدى الظلم الذي تعايشه الآن، نظرت في عينيها بنظراتٍ ملتهبة، وتابعت نحيبها بمشاعرها الناقمة:
-وإنتي أكتر واحدة عارفة أنا بأحبه إزاي.

اقتربت منها بعد أن مددت رضيعها على الفراش، وضعت يدها على كتفها، وربتت عليه بحنوٍ، قبل أن ترد بتعاطفٍ:
-من غير ما تقولي، أنا متأكدة يا حبيبتي.
تحركت خطوة بعيدًا عنها، لتزيح يدها من على كتفها، والتفتت نحوها لتواجهها، واستطردت مُلقية بسيلٍ من التهم الحانقة عليه:
-وبدل ما يقف جمبي، يهون عليا اللي حصلي، رميني خالص، وشاغل عقله باللي خربت بيتي ...


 
سكتت للحظة لتثبط من اضطراب أنفاسها المختنقة، ثم كزت على أسنانها معاودة لومها له بعينين ناريتين:
-تلاقيه دلوقتي بيفكر يتجوز من تاني، ويعيش حياته، وإياكش أنا أولع
اعترضت عليها "هاجر" بحذرٍ، حتى لا تثور ثائرتها مجددًا:
-أنا مش معاكي يا "خلود"، "تميم" مش كده!!
نظرت لها ابنة خالتها بعدائية، في حين أكملت موضحة لها:
-ولا عمره بتاع بنات، ممكن أصدق أي حاجة عليه إلا كده، لا دي كانت أخلاقه، ولا تربيته.

علقت عليها بنظرات جامدة، وقد توقفت عن ذرف الدموع:
-إنتي مش عارفة حاجة.. طيبة زي تملي يا "هاجر"، أنا بأموت كل ثانية وهو مش جمبي فيها، حسي بيا يا "هاجر"، ده احنا بنات زي بعض.
هزت رأسها في تفهم، ثم انخفضت نظراتها نحو يد "خلود" التي قبضت على رسغها، ضغطت عليها الأخيرة بقبضتها، ورجتها بما يشبه التوسل:
-أنا عاوزاكي تساعديني أرجعه.
حملقت فيها باندهاشٍ مليء بالغرابة، وسألتها بترددٍ:
-إزاي؟


 
تعمدت "خلود" التهاوي بساقيها لتركع قبالتها على ركبتيها، رفعت أنظارها المغلفة بدموعٍ تنجح دومًا في استدعائها، حين حاجتها إليها، لتتسول عواطف الآخرين، انتحبت بصوت مرتفع، واستعطفتها بصوتٍ ذليل:
-عشان خاطري يا "هاجر"، اقفي جمبي، ماترفضيش بالله عليكي.

حاولت الأخيرة سحب يدها من بين أصابعها التي تشدها، وفي محاولة يائسة منها لإجبارها على النهوض، تمكنت "هاجر" من إيقافها، ثم ردت عليها بقلة حيلة:
-وهو أنا في إيدي حاجة؟ يعلم ربنا مقطعاه تقريبًا، وعمالة ألومه في الرايحة والجاية.
لهج لسانها وامتزج عبراتها بمخاط أنفها، وهي تزيد من ضغطها عليها برجائها المُلح:
-خليه يرجعلي، أنا بأموت من غيره، وحياة ابنك "سلطان"، اتكلمي معاه، قوليله مراتك بتحبك، مراتك مستعدة تسامحك، بس يردني ليه، إن شاءالله أكون خدامة تحت رجليه.


 
تفاجأت "هاجر" من حالتها التعيسة، بدت لوهلة مصدومة من وضعها، اعتبر ما تمر به يقطع نياط القلوب، ويدفعك للتعاطف مع ظروفها غير العادلة، بسبب إخلاصها الشديد وتفانيها في حبها، هزت رأسها بالموافقة، قبل أن تؤكد لها علنًا، ودون إعادة تفكير:
-من غير ما تحلفيني بيه، أنا هاعمل اللي عليا، وربنا يقدم اللي فيه الخير.
برزت ابتسامة امتنانٍ باهتة على محياها، واكتفت بعدم إضافة المزيد، عل إلحاح من حول "تميم"، والإشارة لبؤسها الموجع، وقهرها المفطر للقلوب، يعيده إليها.

أصغت لأكاذيبه والترهات التي لم يتوقف عن الثرثرة بها، منذ لحظة عودته إلى المنزل، مدعية تصديقها له؛ لكن حدسها يؤكد لها النقيض، لم تبتسم، وبدا وجهها خاليًا من أي تعبير غريب، بل على العكس قالت له بنبرة عادية؛ وكأنها تهتم لأمره:
-الله يكون في عونك يا خويا، غير هدومك كده وروق على نفسك.


 
مسح "خليل" عرقه الزائد المتصبب على جبينه، بمنديل قماشي مصنوع من القطن، لعق شفتيه، وتابع كذبه:
-والله يا "حمدية" الواحد بيتعب جامد في شغله، نفسي أسيب الهم ده كله وأركز في الدكان الجديد.
ببرودٍ مريب قالت له:
-وماله يا "خليل"، شوف المصلحة فين وأعملها.
ابتسم مضيفًا:
-تسلمي يا "أم العيال"..

ثم تنهد في تعبٍ، وأكمل؛ وكأنه يوضح لها باقي روتينه:
-هاخش الحمام أخد دش، لأحسن جسمي معفر من الطريق، وبعد كده هاقعد معاكي إنتي والعيال، وآخر النهار هنزل عند "آمنة" اعرف منها الجديد.
علقت بكلماتٍ موحية، أظهرت التوتر على ملامحه:
-الجديد كله عندي.
ابتلع ريقه، وسألها:
-قصدك إيه؟
أجابته بنفس الهدوء المربك له:
-متخدش في بالك يا "خليل"..

وأشارت له بيدها، حين تكلمت مضيفة:
-ابقى شوف السخان حرارته عالية ولا لأ.
حرك رأسه بإيماءة صغيرة، وخطا في اتجاه الحمام مكملاً حديثه له، بما يشبه الوعد:
-لما ربنا يفرجها معانا، هنبقى نجيب سخان غاز نركبه بدل التعبان ده.
قالت بوجهٍ جامد التعبيرات:
-إن شاء الله ..

رافقته "حمدية" بنظراتٍ غريبة، توحي بنوايا غير بريئة مطلقًا، وما إن اختفى في الداخل حتى توعدته:
-قالوا للبومة كام مهرك، قالت 10 بيوت خراب، وأنا هاخربها عليك يا "خليل"، لو طلعت متجوز عليا!!

سكونها كان ظاهريًا؛ لكن بداخلها كان كل التخبط الذي لا يمكن تخيله، ما رفضته، وأصرت على عدم القبول به، لكونه يجبرها على اختيارات لا تروق لها، اليوم ترتضي به، وبخنوعٍ يناقض شخصيتها المتمردة على ما هو عقيم. أشاحت برأسها للجانب، بعد أن اكتفت من التطلع لزرقة المياه المغرية، وعادت لتطلع إليه، بابتسامته المنمقة، وهيئته اللبقة، لم تمس "فيروزة" كأس مشروبها البارد، والذي تحول للسخونة بفعل حرارة الجو، واحتفظت بصمتها المغلف بابتسامة مرسومة بعناية، خلال محادثة "آسر" لها، في نفس المطعم الذي اجتمعت به توأمتها مع زوجها وأقربائه.. يا للسخرية!

الزمن يعيد نفسه، مع فارق أنها تجلس كعروسٍ مستقبلية، لشخص لا تكن له أي مشاعر، ولا تشعر نحوه حتى بقدرٍ من الانجذاب .. انتفاضة منزعجة سرت ببدنها، وقد تجرأ مُضيفها على لمس كفها المستريح على الطاولة، سحبته سريعًا للخلف في صرامةٍ وتحفظ، أسندته في حجرها، لتمنعه من تكرار الأمر، وعلى عكس ما توقعه، بدا "آسر" هادئًا، لم يظهر على تعابيره المسترخية أدنى تغيير احتجاجًا على جمودها المتشدد معه، تركزت نظراتها المحملة بالكثير على وجهه عندما سألها:
-تحبي ننزل امتى ننقي الشبكة؟

ردت بهدوءٍ، وتاركة لها حرية الاختيار؛ وكأن الأمر لا أهمية له لديها:
-الوقت اللي يناسبك.
استند بمرفقيه على الطاولة، بعد أن أبعد فنجان قهوته، بادلها النظرات المهتمة، وقال:
-أنا معاكي في اللي تختاريه يا "فيروزة".
تنهيدة بطيئة لفظها من جوفه، ليكمل بعدها:
-بس أتمنى نخلص كل حاجة بسرعة، إنتي عارفة بعد كتب الكتاب لازم أسافر، عشان أرتب للإقامة بتاعتك، وبعد كده أبعت أجيبك، وآ..

أعطته جوابًا صريحًا:
-هسأل ماما، وأرد عليك.
أومأ برأسه معقبًا عليه، وابتسامته ما تزال تحتل شفتيه:
-تمام ..

ســاد الصمت من جديد، وعادت "فيروزة" لتدير رأسها بعيدًا عنه، وتحدق في أمواج البحر المتقلبة، في فترة وجيزة تبدلت الأمور عليها؛ ما بين سعيها لإقامة مشروع شبابي يدر عليها المال، وبين معاناتها لحرق حلمها، وبيعه بسعر زهيد، ليتبع ذلك إذلالها بين الأقرب إليها، وأخيرًا تجربة الحبس المهينة، لمحات غير مضيئة مرت بحياتها أضفت المزيد من السواد عليها، انتشلها "آسر" من استغراقها في تفكيرها المرهق لروحها، نظرت إليه مرة أخرى، وقد استطرد متجاذبًا معها أطراف الحديث:
-أنا عاوز أسألك في حاجة، بس متردد شوية.

سمحت له قائلة:
-اتفضل.
سألها بصراحةٍ، ونظراته الحذرة تدور على ملامحها، لتلاحظ ردة فعلها:
-هو إنتي زعلانة عشان مش هنعمل حفلة للخطوبة أو حتى للفرح؟ أكيد إنتي بتحلمي بليلة مميزة زي أي عروسة، وده طبيعي.
بمنطقية بحتة أجابته، ودون أن تتأثر تعبيراتها:
-إنت هاتكون مش موجود، أعتقد مافيش داعي ليه، الفرح مش هايكون ليه لازمة من غير وجود العريس.

كانت محقة في رأيها، وأيدها مدعيًا حزنه:
-فعلاً.. اللحظة دي مهمة عندي زي ما هي عندك، بس أنا أوعدك هاعوضك.
حركت شفتيها لتظهر ابتسامة مجاملة، بينما أخبرها "آسر" وهو مسبل عينيه نحوها:
-"فيروزة"، أنا عايزك تتأكدي إنك هاتكوني أكتر واحدة سعيدة معايا.
ظلت ابتسامتها المصطنعة كما هي على ثغرها، وهي ترد:
-إن شاءالله.

أرجع ظهره للخلف، واعترف لها بحماسٍ:
-الصراحة متوقعتش إني أقع في الحب بسرعة كده، ومن أول لحظة شوفتك فيها مع "علا".
تنحنحت بخفوتٍ، ورمشت بعينيها قبل أن تتشجع لتبوح له:
-أنا حابة أكون صريحة معاك، أنا لسه مش حاسة ناحيتك بحاجة دلوقتي، يعني بأقدرك، وأحترمك، جايز مع الوقت آ...
قاطعها بشكلٍ مفاجئ:
-أنا مش مستعجل، المهم نكون سوا يا حبيبتي.

قطبت جبينها، وضاقت نظراتها في استنكارٍ، فاستأذن منها، وهو يبتسم:
-اسمحيلي أقولك يا حبيبتي..
اعتذرت منه بجديةٍ بائنة في قسماتها، وكذلك نظراتها:
-ممكن ماتقولهاش غير لما تبقى العلاقة بينا رسمية، ده أفضل.
اعترض بلطفٍ:
-أنا عارف كلها كام يوم وهنكون سوا، بس مش قادر أستنى، أنا مجنون بيكي.

تحرجت من اعترافاته الهائمة بها، لم تعتد على مثل ذلك، فتجنبت الخوض معه في جدال، ربما سيسير في اتجاه حميمي أكثر إن استمرت في الاعتراض عليه، وللمرة الأولى امتدت يدها، وتناولت الكأس، بللت جوفها بالمشروب الطبيعي المنعش، وسألته بعدها:
-إيه اللي عجبك فيا؟ أنا عادية جدًا، معنديش حاجة مميزة، في مليون بنت غيري تقدر تتقدملها، وأكيد ظروفهم أحسن مني.
صمت لبرهةٍ، وعيناه مثبتتان على وجهها؛ وكأنها تدرسانه، ليقطع سكوته اللحظي معترفًا لها بصدقٍ؛ وإن كانت نواياه خبيثة:
-لأنك يا "فيروزة" مختلفة عن أي حد عرفته.

على الجانب الآخر، جلست "همسة" مع والدتها على طاولة ثنائية، وإلى يسارهما جلست "حمدية" بصحبة زوجها، على طاولة منفصلة، ركزت الأولى كامل انتباهها مع توأمتها، وخطيبها، بدت سعيدة للتجاذب اللطيف بينهما، وإن كان خاليًا من أي حماس؛ لكنه مُرضي للطرفين، مالت نحو والدتها، ليبدو صوتها مسموعًا إليها، وهي تقول لها:
-حلوين أوي يا ماما، شكلهم يفرح القلب، تحسيهم لايقين على بعض.

التفتت "آمنة" لتنظر نحوهما، وردت بإيجازٍ:
-ربنا يهنيهم.
أراحت "همسة" جانب وجهها على باطن كفها، وتطلعت إليهما بمحبةٍ، قبل أن تواصل حديثها:
-يا رب.. بجد "فيروزة" تستاهل كل خير.
لم تكن ملامح والدتها بالسعيدة مُطلقًا، فقد رأت جريرة رفض ابنتها الأولي له كخطيب، وشعرت بأنها مرغمة على القبول به، لتنأى بنفسها من شر ابن عمها، وإن كان يعني ذلك تعاستها، دمدمت بأنفاسٍ مهمومةٍ، والضيق يكسوها:
-طول عمرها حظها قليل.

استغربت ابنتها من التشاؤم البادي عليها، واعترضت بصوتٍ خفيض:
-ماتقوليش كده يا ماما، كل واحد بياخد نصيبه، وأنا واثقة إن "فيرو" هتلاقي مع "آسر" كل اللي كانت بتتمناه.
همهمت بفتورٍ:
-يا ريت.

استدارت "همسة" برأسها للجانب الآخر، وألقت نظرة على "خليل" وزوجته، كانا مشغولان بتناول الطعام الشهي، احتلت الأطباق المليئة بالأصناف المختلفة مساحة الطاولة بالكامل، وهذا غير اعتيادي على خالها، حيث كان الأخير حريصًا كل الحرص على عدم إنفاق ماله إلا في الضرورة القصوى، وبمعايير معينة، واليوم ينفق بسخاء شديد، مطت فمها في دهشةٍ، ثم أبعدت نظراتها لتهمس لوالدتها، بنوعٍ من التهكم:
-أومال خالي واخد جمب مع مراته ليه؟ مش بعوايده يدلعها كده، جايبلها أكل غالي، وحلويات وعصاير، ده يتحسد.

بدت غير مبالية وهي تجيبها:
-جايز بيعوضها عن غيابه.
لم يكن بالرد المقنع، فكتفت ساعديها، وتساءلت باهتمامٍ فضولي:
-تفتكري؟!!
نهرتها والدتها عن التدخل فيما لا يعنيها مشددة عليها بنظراتها، وأيضًا بنبرتها:
-مالناش دعوة بيهم، هما أحرار.
ثم طردت الهواء الثقيل من صدرها، ونطقت بتعب:
-خلينا نشوف هنعمل إيه بعد كده، لسه ورانا حاجات كتير تخص جوازة أختك.

بطيئة كأدهر، انقضت الليالي عليه كل واحدة تشبه الأخرى، بما فيها من كآبة، وأحزان، لم يترك نفسه لعقله، أرهقه بإغراقه في المزيد من الأعمال المستنزفة لقواه، ليعود مساءً إلى فراشه، غير قادرٍ على الحركة أو التفكير، فينام مانعًا الأحلام من زيارته .. عكف "تميم" على مراجعة دفتر آخر، بعد أن اكتشف عدم تطابق البيانات والأرقام في الدفتر الأول، قارنه بالفواتير المجمعة في ظرف قديم من اللون الأصفر الداكن.

والتي من المفترض أنها تخصه، لاحظ وجود نفس الفروق على فترات متزامنة، ليست متعاقبة؛ لكنها متكررة بطريقة تدعو للاسترابة، ناهيك عن ضياع بعض الفواتير ذات القيم الشرائية العالية. لف يده خلف رأسه، ليضعها على عنقه، ويفرك بها فقراته المتيبسة، مرددًا لنفسه:
-الحكاية دي مش طبيعية، مش مرة والسلام!

قلب في الفواتير مجددًا، وفتش في الدرج السفلي الذي تتواجد به الأظرف، باحثًا عن فاتورة ضائعة، أو أخرى تائهة بين مقتنياته؛ لكن لا شيء، مما ضاعف من حيرته، توقف عن البحث، وأرجع ظهره للخلف ليريحه، متابعًا حديث نفسه؛ وكأنه توصل لاستنتاج ما:
-إما إن في حد بيسرقنا، يا حد بيعمل شغل من ورانا.

أنهكه البحث عن التفسير المنطقي للتلاعب البائن في الأوراق التي فحصها، وبالتالي لم ينتبه لمن يراقبه في الخلف، غامت تعابير "محرز"، وتوحشت نظراته، بخطواتٍ حثيثة، انسحب قبل أن يلحظه وهو يتوعده:
-هو لو فضل على الحال ده، كل حاجة هتتكشف، يبقى لازم أتغدى بيك قبل ما تتعشى بيا.
كالمذعور قفز في مكانه حين باغته "هيثم" متسائلاً من خلفه:
-بتعمل إيه يا "محرز"؟

استدار نحوه بوجهٍ مفزوعٍ، وادعى بالكذب، وهو يحاول لملمة شتاته:
-بأراجع الطلبات اللي ورانا في دماغي، الشغل اليومين دول كتير والحمدلله.
حك "هيثم" طرف ذقنه معلقًا عليه بطرافة:
-إيه يا عم هتحسدنا ولا إيه؟!
رمقه بتلك النظرة الحادة قبل أن يوبخه:
-أنا عيني شبعانة طول عمرها، الدور والباقي عليك، يوم هنا، ويوم في أجازة، تقولش موظف شغال في الحكومة.
رد عليه بتعصبٍ:
-هو بمزاجي يا "محرز"؟ ما إنت عارف المشاكل اللي واقعة اليومين دول، ده غير أخت الجماعة هتتجوز.

كان في البداية غير منتبه لجدالهما الصاخب؛ لكن إفصاحه عن قرب زواج "فيروزة"، وتطرقه إلى سيرتها، دفعت حواس "تميم" للتيقظ كليًا، واشتعلت بروحه المعذبة، تلك النيران التي تلتهم صموده الزائف، وتزيد من تحطيم فؤاده، جاهد بكل ما امتلك من بقايا قوى وعزيمة على تجاهل ما يخصها؛ لكنه فشل، دومًا تسحبه إلى دوامتها المهلكة؛ وكأنها تعرف من أين تُجيد تعذيبه. عض على شفته السفلى، كاتمًا مشاعر الحنين لحبٍ لا أمل فيه، وخنق بقساوةٍ دمعة غادرة فرت إلى طرفه، ليهب بعدها واقفًا، ودافعًا مقعده الخشبي للخلف، قبل أن يلتفت نحوهما ليصيح بهما بخشونة:
-ما كفاية رغي بقى، وكل واحد على شغله، البضاعة لسه في سوق الجملة، عايزة تتشحن على التلاجات.

نظر "محرز" في اتجاهه، وقال بوجومٍ:
-أنا واخد الرجالة وطالع على هناك..
ثم التفت ناحية "هيثم" ليسأله:
-جاي معايا؟
هز رأسه بالنفي وهو يرد:
-لأ، رايح مع الجماعة مشوار عند الجواهرجي، ولو خلصت معاهم بدري هحصلك.
انفلتت أعصاب "تميم" بعد جملته العفوية تلك، بدا في تصرفه المنفعل عليه، وكأنه قنبلة نُزع فتيلها للتو، فامتلأت الأجواء بالبارود الحارق، حيث صرخ به:
-نسيبنا من شغلنا، ونركز مع موال جماعتك يا "هيثم"، ده مال ناس، ومصالح، ولا عايزنا نجيب ضرفها بدري؟!

رد عليه بأسلوبٍ شبه هازئ:
-لأ يا معلم، مش هتوصل للدرجادي، أنا بردك خايف على المصلحة .. وبعدين هانت .. كلها يومين وتتفض الليلة دي كلها.
طعنه بكلماته الأخيرة دون أن يدري، فاحترق أكثر، وانكوى بنيران هجرٍ لن يتذوق مرارته سواه، بلغ تلك الغصة التي تشكلت في حلقه، وقال بجمودٍ منهيًا الحوار، ومستديرًا بظهره ليبتعد عنهما:
-يكون أحسن.

ركل "تميم" المقعد بقدمه في عصبيةٍ، فأسقطه أرضًا، مما سبب صخبًا مزعجًا، وجمع الدفاتر معًا، ليعيدها في مكانها بالخزينة، قبل أن يغلقها وينصرف. تابعه كلاً من "محرز" و"هيثم" بنظراتٍ متعجبة، فتساءل الأول في استغرابٍ:
-هو ماله ده؟
أجاب الأخير بنفس الحيرة:
-مش عارف!
ربت "محرز" بيده على ذراعه، وأضاف، وقد همَّ بالتحرك:
-طيب خليك إنت هنا، وأنا ماشي.
اكتفى بهز رأسه، وظل ماكثًا في الدكان يدير حركة العمال، بعد ذهاب الجميع.

-لسه زي ما إنت؟
تساءل "محرز" بتلك الجملة الساخرة وهو يدفع الباب ليلج للسطح، ليجد "نوح" ما زال يدخن تلك النارجيلة المشبعة بالمواد المخدرة، وهو يجلس مستلقيًا على الوسائد الأرضية، انضم إليه، وجذب منه خرطومها ليسحب نفسًا عميقًا يختبر به مدى جودة المنتج، أطلق الدخان في الهواء، وقال في مدحٍ:
-حتة أصلي يا صاحبي.
قال بتفاخرٍ، وهو يستعيد خاصته ليستنشق دخانها:
-إنت عارفني، في المزاج أستاذ.
أثنى عليه "محرز" بهدوءٍ:
-طبعًا.

ثم مد يده ليتناول إحدى زجاجات البيرة، نزع غطائها، وألقاه على الأرضية، ثم تجرع ما بها في جوعه، لتتقلص عضلاته مع مذاقها اللاذع، أدار رأسه في اتجاه رفيق السوء، عندما تساءل بفتورٍ، وهو يضبط حجر الفحم المتقد ليزيد من وهجه:
-ها .. السبوبة إيه المرادي؟ نقلة جديدة؟
نفى موضحًا بغموضٍ مثير:
-لأ، حريقة كبيرة.

بدا من حديثهما المتبادل في اقتضابٍ، أنها لم تكن المرة الأولى التي يتشاركان فيها في أعمالٍ غير مشروعة، تساءل "نوح" بفضولٍ، وقد أظهر استعداده للمشاركة:
-حلو .. فاضي ولا مليان؟
رد غامزًا له بابتسامة منتشية:
-مليان يا بونط.
حرر "نوح" أنفاس الدخان من صدره، وقال بتلميحٍ متوارٍ:
-كده الفيزيتا (التكلفة) هتعلى!
أكد له بثقةٍ ملموسة في صوته، وتعابيره المستريحة:
-متقلقش.. هنتراضى كويس.

تساءل، وخرطوم نارجيلته بين شفتيه:
-زي الفل، الكلام على مين بقى؟
جاوبه بغموضٍ، ونظراته تحولت للقتامة:
-واحد حبيبك..
سأله مستفسرًا، قبل أن يسحب نفسًا آخرًا عميقًا، حبسه للحظات في صدره المحترق:
-مين يعني؟
ثوانٍ لم تتجاوز أصابع اليد الواحدة صمت خلالها، لينطق بعدها مفصحًا عن هوية الضحية الجديدة:
-"تميم"، ودكانه.

بمجرد الإعلان عنه، هبطت الصدمة غير المتوقعة على رأسه، لتصيبه بالارتباك والذهول، اختنق بدخان نارجيلته، وسعل بقوةٍ جارحًا أحباله الصوتية، بصوتٍ مبوحٍ مختلط ببقايا الدخان والسعال، سأله في توجسٍ مندهش:
-نعم .. "تميم" بتاعنا؟ ابن الحاج "بدير"؟
حرك "محرز" رأسه بإيماءة بسيطة، دون أن يبدو عليه التعاطف معه، وقال مؤكدًا –وبحسمٍ- وتلك اللمعة الشيطانية تتراقص في نظراته:
-أيوه .. هو المغضوب عليه...!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني الحلقة التاسعة والعشرون بقلم منال سالم


كان من العسير عليه، أن يستوعب فكرة التخلص من أحد أهم رجــال منطقتهم الشعبية، ممن يملكون الصيت القوي، والسلطة غير المحدودة، ناهيك عن سيرة واسعة النطاق، بين أوساط رجال السوق، والتجار الثقال. ظل "نوح" باقيًا على حالته المندهشة، محدقًا في وجه "محرز" بنظراته المصدومة، لعق شفتيه، وسأله مجددًا، ليتأكد من كونه لا يهزئ، وأن مفعول المخدر لم يعبث برأسه حقًا:
-إنت بتكلم عن المعلم "تميم" بتاعنا؟ مش حد تاني؟ ولا ده المدعوق اللي بأشربه؟


 
أجابه ببرود، وهو يحرر دفعة أخرى من الدخان من صدره:
-أيوه هو!
دعك وجهه بيده المتعرقة، وصاح متسائلاً في توترٍ:
-طب ليه؟ وعشان إيه؟
استوى على المقعد الهابط، واسترخى أكثر عليه، قبل أن يجيبه بغموضٍ، وبلهجةٍ شبه آمرة:
-من غير ما تسأل، وتوجع دماغنا، نفذ على طول
ثبت عينيه عليه، وأظهر تردده بوضوحٍ عندما أكمل:
-بس الحكاية كده ماتطمنش، طول عمر المعلم جدع معانا، وآ...


 
قاطعه بجمودٍ، وتعابيره القاسية بائنة للعيان:
-ساعته أزفت، كفاية عليه كده!
اعترض بنفس الخوف البائن في نبرته:
-بس آ...
تلك المرة قاطعه بحزمٍ، ليقطع عليه السبل للتراجع:
-بأقولك إيه، ماتلوكش كتير، واعتبره زي أي مصلحة بنخلصها، الفرق هناخد سبوبة زيادة.
ورغم هذا رد "نوح" بتوجسٍ مفزوع:
-ده احنا هنهيج علينا الدنيا كلها، المعلم "تميم" مش واحد عوأ والسلام، ده آ...


 
توقف عن الكلام ليبتلع ريقه؛ لكن "محرز" مد ذراعه ناحيته، ووكزه برفقٍ فيه، ثم غمز بطرف عينه يستحثه:
-ماتخافش، وخلي قلبك جامد، دي زي طلعات زمان.
لم يخبت خوفه، بل زاد عليه موضحًا هواجسه:
-ده أنا لازم أخاف، وأعمل حسابي مليون مرة، ده المعلم "تميم"، هو إنت بتكلمني عن واحد صايع، ولا موظف كحيان، ده ليه شنة ورنة!
سأم من خذلانه الواضح، وهدر به يوبخه:
-يخربيت المعلم زفت بتاعك ده، فلقت دماغي بيه...

ثم لانت نبرته قليلاً، حين استخف به:
-ده ولا يقدر يعمل أي حاجة، صدقني، اللي زي "تميم" ده من بتوع الصيت ولا الغنى.
تساءل "نوح" ببساطة، وقد رأى مدى بغضه له في حدقتيه:
-للدرجادي إنت بتكرهه؟!!
رمقه "محرز" بتلك النظرة النافرة، قبل أن يبعد نظراته عنه، وعلق بفتورٍ:
-لا كره ولا محبة، أنا مع المصلحة مطرح ما تكون!
لم يسترح لرده، ولا للمسألة برمتها، شعر أنها ستكون بداية النهاية لمسيرتهما غير المشروعة، لفظ زفيره ببطءٍ من صدره، وهمهم بارتعابٍ معلوم أسبابه:
-استرها علينا يا رب!


 
تصدع غير مرئي شعرت به في علاقتها معه، رغم تلك الابتسامات المنمقة التي تغطي محياها، لتشعر من حولها أنها حقًا تهتم لأمره، أغدق عليها بكل ما تحتاج إليه الفتاة؛ من المحبة، الاهتمام، والتفاهم، ليستحوذ عليها قلبًا وقالبًا؛ لكن علاقتهما افتقرت إلى الانسجام، والتناغم. لم تجد روح "فيروزة" الضائعة نصفها المكمل في شخصه الهادئ...،

بدا بأسلوبه المنظم والدقيق غريبًا عنها، وإن كان يسعى بشتى الطرق ليشعرها بقربه، وتواجده في محيط حياتها، بذلت جهدًا مضاعفًا لتجبر عقلها، وقلبها –معًا- على فكرة تقبله، وكان ذلك من الأمور المستعصية عليها، مذكرة نفسها أنه لم يفعل ما يسئ لها مطلقًا، دومًا يعاملها بلباقةٍ وتهذيب، يمنحها معطيات السرور الأولية، لهذا بعقلانية رجحت كفة الميزان المنطقية، واستمرت في مسعاها لإتمام زيجتهما.

زيارة شبه يومية كان يقوم بها، ليحرص على إنجاز ما تم الاتفاق عليه أولاً بأول، وفي مرته تلك، جلس منفردًا بها في غرفة الصالون بمنزلها، إحساسًا من الرهبة اتخذ طريقه إليها، وتسلل أسفل جلدها، بعد أن منحها مظروفًا مغلفًا يحوي الأوراق التي تخص سفرها، رفعت أنظارها لتتطلع إليه، وهو يوضح لها بابتسامته الثابتة:
-كل حاجة مترتبة يا "فيروزة"، مش ناقص بس غير إنك تنوريني في بيتنا المتواضع في "دبي".
بادلته نظراتٍ تائهة، لم يكن بالمازح حين أخبرها أنها ستنتقل للإقامة معه بعد عقد قرانهما، ببضعة أسابيع، قطعت صمتها اللحظي لتسأله:
-هو لازم أسافر؟


 
رد "آسر" متسائلاً، بنوع من العتاب الممتزج باللؤم:
-يعني ينفع كل واحد فينا يفضل في بلد؟
بدت تعبيراتها غير مسترخية وهي تعقب عليه:
-أنا كنت مفكرة هنكتب الكتاب، ونقعد فترة، عقبال ما نوضب بيتنا هنا، ونتجوز فيه، وبعد كده نسافر سوا.
أكد لها بابتسامة أكثر اتساعًا، تناقصت مع استمراره في حديثه:
-ده هيحصل، وبيتي موجود زي ما قولتلك...

تنهد سريعًا، وعلل لها ساردًا أسبابه:
-بس هياخد وقت في التوضيب، لأنه قديم، فمالوش لازمة التأخير عشان أظبط مع شوية عمال، ومقاولين، وبتوع نجارة، ومش عايز أقولك إن كل يوم يدوني ميعاد شكل، ومافيش حد بيلتزم، ولا حاجة بتخلص في وقتها ...
ثم تجرأ ليمسك بيدها الموضوعة في حجرها، احتضنها بين كفيه، وأسبل عينيه نحوها قائلاً لها بتنهيدة بطيئة:
-وبعدين يا حبيبتي، أنا بعد الثواني عشان نكون سوا.


 
شعرت بقشعريرة مزعجة تجتاحها لمجرد تلمسه لها دون استئذانٍ، سحبت يدها سريعًا للخلف لتتحرر منه، وقالت بوجهٍ شبه عابس؛ كأنه تهذبه:
-لو سمحت، مش بحب كده.
هز رأسه بإيماءة متفهمة، وقال دون أن تخبو بسمته، وهو يعيد ظهره للوراء:
-براحتك .. وأنا مش حابب إني أضايقك.
وعلى حين غرة ولج "خليل" للداخل لينضم إليهما مرحبًا بضيفه:
-منور يا عريس.

استدار "آسر" برأسه نحوه، ورد مجاملاً:
-البيت منور بأصحابه دايمًا يا أستاذ "خليل".
سأله الأخير مستوضحًا:
-على ميعادنا الخميس الجاي إن شاء الله؟
هز رأسه بالإيجاب وهو يقول:
-أيوه، اتفقت مع المأذون يجي هنا على بعد صلاة العشا، وسلمته الورق المطلوب.

تصنع العبوس، وزفر الهواء بتمهلٍ، ليضيف بعدها؛ وكأنه حقًا يشعر بالتعاسة لأجلها:
-كان نفسنا نعمل حفلة وهيصة، دي بنتنا وفرحتها تهمنا.
تحولت أنظار "آسر" نحو "فيروزة" ليتأمل تعابيرها الواجمة، بدت غير راضية عن تذمر خالها، ومع ذلك استغل الفرصة ليكرر اقتراحه بهدوءٍ واثق:
-معنديش مشكلة .. لو "فيروزة" حابة، فأنا جاهز نحجز في أكبر فندق و آ.....
قاطعته حاسمة أمرها، بما لا يدع أي مجال للمناقشة:
-لأ مش عايزة، زي ما اتفقنا من الأول، أعدة عائلية على الضيق.

على أعتاب الغرفة، وقفت "حمدية" في سكونٍ حذر تتابع بتلصص ما يدور بالداخل، وعلامات الامتعاض تكسو وجهها، حدجتها بنظرة ساخطة مزدرية، وتمتمت من بين شفتيها بصوتٍ خفيض:
-وش فقر!

تنحنحت عاليًا بعدها وهي تكمل سيرها نحو الداخل، وصينية موضوع بها حلوى الجلي بالموز تحملها بين يديها، وضعتها أمام الضيف، وقالت مفتعلة الضحك:
-بص بقى يا سي الأستاذ دي عمايل إيدي، ولا أجدعها شيف فيكي يا جمهورية.
هتف مجاملاً، ونظرته المشرقة تضيء قسماته:
-ما هو باين من شكلها اللي يفتح النفس.

ضحكت مجددًا، وجلست إلى جوار "فيروزة"، ثم استطردت مضيفة بسماجة سخيفة:
-بس أنا زعلانة منك، إزاي تهاود عروستنا كده، وتعملها فرح سُكيتي؟ ده إنت مقامك عالي، وهي ..
تعمدت التباطؤ في كلماتها الأخيرة، وعيناها مرتكزتان على وجه "فيروزة"، لتراقب ردة فعلها بانتشاءٍ مستفز؛ وكأنها تريد تذكيرها بمذلتها الأخيرة، في بيت عمها، على يدها، ويد غيرها، من أجل كسر هامتها:
-بنت بنوت، وزي الفل.
ببساطة علق عليها "آسر":
-والله أنا مش ممانع.

نظراتها الوقحة، وتعابيرها الشامتة كانتا كفيلتان بإشعال جذوة غضبها، تلون وجهه "فيروزة" بحمرة نارية، وصاحت بها بعصبيةٍ، قاصدة إحراجها، وربما التشاجر معها:
-ممكن ماتدخليش، دي حاجة تخصني.
اغتاظت "حمدية" من هجومها عليها، خاصة أنها بدت متحفزة للتشابك اليدوي معها، وهيئتها أكدت استعدادها الفعلي للمضي قدمًا في ذلك، لذا التفتت نحو زوجها تشكوها له:
-شايف يا "خليل" بتكلمني إزاي؟ أل وأنا اللي عايزاها تفرح وتتبسط!

على ما يبدو لم يكن زوجها منتبهًا لها، فهاتفه المحمول كان في يده، وتركيزه بالكامل تقريبًا مع ما تم إرسـاله إليه عبر رسائل خطه، في حين ردت "فيروزة" بتشنجٍ، ونظراتها قد تحولت للقتامة:
-وإنتي مالك؟ دي حياتي أنا، خليكي في اللي يخصك وبس.
أشــار لها "آسر" بيده، راجيًا:
-اهدي يا "فيروزة"، الموضوع مش مستاهل ده كله.
للمرة الثانية أحرجتها أمام الضيف، فشعرت "حمدية" بمزيدٍ من الاستياء، وهتفت في زوجها:
-ما تقول حاجة يا "خليل"؟!!!

رفع الأخير نظراته المشغولة عن شاشة هاتفه، وأدرك أن كافة الأعين متجهة إليه، خاصة نظرات "حمدية" الحانقة، أومأت له برأسها في اتجاه ابنة أخته، ليقول بصوتٍ رخيم، وبجملة اعتراضية محايدة، محاولاً مجاراة المحادثة التي لا يدرك ماهية تفاصيلها بالضبط:
-جرى إيه يا "فيروزة"؟ ماتزعليش حد منك!
ردت عليه "حمدية" بتهكمٍ:
-ده اللي ربنا قدرك عليه؟

هنا تدخلت "آمنة"، وزجرتها بصرامةٍ:
-خلاص يا "حمدية"، زي ما بنتي تعوز هنعمل.
استغربت الأخيرة من تضامنها مع ابنتها، على عكس المعتاد منها، وقالت لاوية ثغرها بتأففٍ:
-هو أنا قولت حاجة غلط؟ على رأي المثل، العروسة للعريس والجري للمتاعيس.
نهض "خليل" واقفًا ليستأذن، بقليل من الربكة البادية عليه:
-معلش يا ابني، المدير طالبني في الشغل، هارد عليه في البلكونة، وراجعلك تاني.
أشــار له "آسر" قائلاً بتفهمٍ:
-اتفضل خد راحتك يا أستاذ "خليل".
لعق شفتيه، وقال مؤكدًا:
-دقيقة وجاي.

لم تسترح "حمدية" للتوتر الملبك الظاهر على تصرفات زوجها؛ كان مرتبكًا، متلجلجًا، يبدو وكأن به خطب ما، استراب حدسها الأنثوي بشدة، وانتظرت خروجه لبضعة لحظات، حتى تتبعه، وتفتش ورائه .. ســارت بخطواتٍ حثيثة، استندت بظهرها على الحائط الملاصق لنافذة الشرفة، وأرهفت السمع لهسيس صوته وهو يقول:
-حاضر يا "سماح"، إديني كام يوم بس، وهاقولها أي حِجة، وأجيلك.

غمامة مظلمة حلت على ملامح "حمدية"، والتي كانت تكتم أنفاس حنقها بصعوبة، مجهود يفوقها بذلته لتبدو ساكنة، وهي تكتشف حقيقة خيانته لها مع امرأة غيرها، وإن كانت زوجته، لا يحق لأخرى مشاركتها فيه، تصلبت في مكانها، ولازمت الهدوء، فلا ينتبه لوجودها، سمعته يقول لها بلهجة منزعجة رغم خفوتها:
-هعمل إيه يعني؟ خدي البت للدكتور يشوفها.

زفيره الطويل وصل إلى مسامعها، ليكمل بعدها منهيًا مكالمته:
-طيب هبعتلك فلوس بكرة في البريد، سلام بقى.
على عجالةٍ أخفت تعابير الغضب، وتراجعت بضعة خطوات للخلف، لتبدو وكأنها قد جاءت لتوها، ادعت اهتمامها الزائف بأمره، وسألته:
-في حاجة يا "خليل"؟
تفاجأ من وجودها، فردد بلعثمة متوترة، والعرق يغزو جسده:
-"حــ...حمدية"!
ببرودٍ متقن سألته، وكأنها لا تعرف الحقيقة المخبأة:
-وشك قلب كده ليه؟
لعق شفتيه الجافتين، وقال نافيًا:
-مـ.. مافيش.

رفعت حاجبها للأعلى، وتساءلت بابتسامة ساخطة، أخفت ورائها نيران حقدها:
-ها، المدير كان عايزك في إيه السعادي؟
تنفس الصعداء لاعتقاده أنها صدقت بسذاجة كذبته السخيفة، وأجابها بعبوسٍ:
-ده .. بيقولي إن بنته تعبانة، ونقلها المستشفى، واتحجزت هناك.
زمت شفتيها في أسفٍ، وتساءلت:
-يا حرام.. شوف إزاي؟ وده من إيه يا خويا؟

تنهد على مهلٍ، ثم جاوبها مسترسلاً في تجميل كذبته بوقائعٍ منطقية، علها تنطلي عليها:
-مش عارف.. بس باين من كلامه حالتها صعبة، واحتمال يغيب كام يوم، وبيرتب معانا الشغل هيمشي إزاي.
قطبت جبينها، وعلقت باقتناعٍ مفتعل:
-ده شكل الموضوع كبير.
أكد عليها بثباتٍ، بعد أن استعاد كامل هدوئه:
-الظاهر كده، المرض مالوش كبير.
ضاقت عيناها، وقالت:
-أيوه.

نظر إليها مضيفًا بشيء من الرجاء المختلط بالسخرية:
-عندك حق. ادعيلها يا "حمدية"، ده إنتي دعوتك مستجابة.
على ثغرها ارتسمت ابتسامة باهتة وهي ترد:
-أه طبعًا.
وقبل أن يختتم كلامه معها، أخبرها بحذرٍ، مترقبًا لردة فعلها:
-مش عارف بقى إن كان هيكلفني أقوم بالشغل مكانه ولا لأ.

أتاه تعليقها حياديًا:
-هنشوف يا "خليل"..
ثم ربتت على كتفه تستحثه:
-بلاش نشغل بالنا بحاجة لسه مجاش وقتها، وتعالى نشوف العريس اللي مستني جوا.
وافقها الرأي، وقال في استحسانٍ:
-معاكي حق.
تباطأت "حمدية" في خطواتها وهي تتبعه؛ لكن نظراتها نحوه أكدت أنها ستذيقه من الويلات ما لن يطيق مطلقًا.

أزاح المنشفة عن رأسه المبلل بعد تجفيف خصلاته تقريبًا، وألقى بها بإهمالٍ على فراشه، ليقف أمام المرآة، ويبدأ في تمشيطه، وترتيب المتنافر منه، وما إن انتهى "تميم" من إكمال ارتداء ثيابه، حتى خرج من غرفته، واتجه إلى غرفة الطعام؛ حيث شرعت شقيقته في رص الأطباق، استعدادًا لتناول الغذاء، ألقى عليها التحية متسائلاً:
-عاملة إيه يا "هاجر"؟ وحبيب خالو أخباره إيه؟
بوجهٍ شبه متجهم أجابته:
-الحمدلله.

كان متفهمًا لجفاء معاملتها معه، فتلك وسيلتها المكشوفة للضغط عليه، من أجل العودة إلى زوجته السابقة؛ لكنه لم يشتكِ من جمود تصرفاتها، وتقبل ما تفعله برحابة صدر، بينما تساءلت "ونيسة" بصوتٍ شبه عالٍ، وهي تضع صينية البطاطس بالفرن الساخنة في المنتصف:
-مش ناوي تتغدى معانا؟
هز رأسه بالنفي وهو يجاوبها:
-لأ يامه، كلوا إنتو بالهنا والشفا، أنا عندي شغل متلتل ورايا.

عقبت في تذمرٍ ساخط:
-أهوو كل يوم واجع قلبي كده، لا بترضى تاكل، ولا بقينا نشوفك، ولا كأنك تعرفنا، زي ما تكون قاعد في لوكاندة، تيجي تبات فيها آخر النهار، مش بيت أهلك ولا ...
ثم تطرقت للموضوع الآخر، والذي لا يحبذ سماعه مُطلقًا:
-حتى مش عايز ترد "خلود" الغلبانة تاني لعصمتك، ده البت بعد كل اللي حصل فيها لسه شرياك، هتموت نفسها عليك، وبتحبك، والله ما يرضي حد إنك تظلم مراتك كده!
حاول إجبار شفتيه على التقوس، والابتسام قليلاً، ثم صحح لها –ككل مرة- بأسلوب ساخر:
-ما بقتش مراتي يامه، دي بنت خالتي وبس، إنتي على طول كده ناسية؟!

حدجته بنظرة قوية مستنكرة، قبل أن تتنمر عليه:
-ده اللي فالح فيه، تتنأرز عليا بالكلمتين الخايبين دول.
أصر على قوله مشددًا عليها، علها تتخلى عن تلك الفكرة الميؤوس من حدوثها:
-ماهي دي الحقيقة اللي لحد دلوقتي إنتي مش قادرة تستوعبيها.
اِربد وجهها بالضيق من تعنته، والتفتت إلى ابنتها تُشركها في الحوار:
-قوليله حاجة يا "هاجر"، اتكلمي معاه إنتي، أنا جبت أخري، ومابقاش عندي حاجة أقولها.

وقبل أن تشرع شقيقته في لومه، بادر الجد "سلطان" متدخلاً، وهو يجلس على رأس المائدة:
-ما تسيبوا "تميم" في حاله، بلاش شغل الحريم ده عليه.
ردت عليه "هاجر" مبررة تصرفها:
-يا جدي احنا كلنا عايزين مصلحته، نفسنا نشوفه متهني في بيته وآ...
قاطعها معلقًا بنبرة هازئة:
-ومافيش إلا بنت "بثينة" عشان تعمل كده؟!

أطبقت على شفتيها في حرج، فتابع ملوحًا بذراعه:
-ما أكم (يوجد) في مليون بنت غيرها.
ردت عليه "ونيسة":
-احنا أولى بيها من الغريب.
أشاح بنظراته الباردة عنها، وقال:
-خليها للغريب، معدتش تنفعه.
كان "تميم" يراقب جدالهم دون أدنى تدخل منه، كان فاقدًا للرغبة في النقاش في أمر يستبعد كليًا تكراره، ابتسم بتلقائيةٍ، وارتخت ملامحه، حين أخبره جده:
-اتوكل على الله يا ابني، وسيبك من كلامهم، دي صفحة واتقفلت من حياتك.

هز رأسه في استحسانٍ، واستطرد بكلماتٍ مقتضبة:
-تسلم يا جدي.
ثم ودع والدته، التي لم تنبس بكلمةٍ، واتجه إلى خارج المنزل، ليتساءل بعدها "سلطان" موجهًا حديثه إلى حفيدته:
-وجوزك عامل معاكي إيه؟ معدناش بنشوفه خالص.
أجابته بتنهيدة متمهلة:
-الحمدلله، مشغول على طول يا جدي في الدكان.

رفع حاجبه للأعلى، وقال بابتسامةٍ ذات مغزى:
-يعني زي أخوكي، طفحان الدم، مش فايق لرغي الحريم، ولا مين طلق مين.
تلون وجهها بحمرةٍ حرجة من تلميحه الصريح، وتلعثمت وهي تبرر:
-أنا عاوزة الخير لأخويا.
أشار لها بعينيه قائلاً بصرامةٍ:
-أخوكي عارف مصلحة فين، وركزي إنتي في حياتك، وابعدي عن الوسواس الخناس خالتك!
على مضضٍ ردت:
-طيب.

زيلت بيدها توقيعها بجوار اسمها في قسيمة الزواج الموضوعة أمامها، قبل أن تلطخ إبهامها بالحبر الأزرق لتختم به الأوراق، وأصوات الزغاريد تصدح حولها، ليتم الإعلان بهذا عن إتمام عقد قرانها. تلقت "فيروزة" التهنئات الغبطة من "همسة" أولاً، مصحوبة بقبلات حارة على جانب وجنتها، ثم تبعتها والدتها، وزوجة عمها، وصديقتها "علا"، بينما وقفت "حمدية" على الجانب ترمقها بنظراتها الحاقدة. كان التجمع عائليًا، ومحدودًا؛ المقربون فقط هم من حضروا، لم يتجاوز عددهم عن العشرين، تواجدوا في مطعمٍ شهير تم حجزه مسبقًا للاحتفال بالزواج.

التفتت "فيروزة" برأسها للجانب، عندما تحدث إليها عمها:
-مبروك يا بنت الغالي، بارك الله لكما، وبارك عليكما، وجمع بينكما في خير.
وبوجه خالٍ من التعبيرات، ردت تجامله:
-أمين، شكرًا يا عمي.
وضع يده على كتفها، واعتذر منها:
-أنا مش عايزك تزعلي مني يا بنتي بسبب اللي حصل، أنا عارف إنك بنت أصول، ومتربية، بس الشيطان بقى وآ...

أفسد عليها –دون قصد منه- مزجها المتوتر مسبقًا، بكلماته المُحفزة، لذكريات ترفض وبشدة نبشها من جديد، لذا قاطعته مدعية كذبًا:
-خلاص يا عمي، أنا نسيت الموضوع ده.
ربت على كتفها بضربات خفيفة، وابتسم يمتدحها:
-ربنا يكملك بعقلك..
ثم صمت للحظة ليضيف بعدها:
-"فضل" كان عايز يجي، بس مراته تعبانة، عقبالك يا رب حامل.
بابتسامة متحفظة ردت:
-ربنا معاها.

انتهى من حديثه معها، لتتخذ "سعاد" دورها في إسماعها بعض التوصيات التقليدية من أجل حياة أسرية سعيدة، مستقرة، وهانئة، دقائق أخرى انقضت عليها وهي تجيد تمثيل اهتمامها بالإصغاء للجميع، حتى لمحت زوجها مقبلاً عليها.

تقدم "آسر" نحوها وهو يتأملها بنظراتٍ بطيئة، متمهلة، مليئة بالإعجاب، تجول بعينيه على ثوبها الكريمي الرقيق الخالي من البهرجة، أو الزينة المبالغة فيها، كان قماشه مدعمًا بطبقاتٍ من التل المتراصة فوق بعضها البعض، ليمنح الثوب كثافة مقبولة، فتزيده حجمًا من الخصر، وصولاً للأسفل، أما كتفيه فكانا يغطيان ذراعيها بالكامل، وفتحه صدره لا تكشف إلا عن عنقها فقط، لاق الثوب بها كثيرًا.

ارتفعت أنظاره نحو تفاصيل وجهها، مسحة ناعمة من مساحيق التجميل ازدانت بها بشرتها، فمنحتها المزيد من الجمال الباعث على السرور في النفس، كما أنها لم تحرر خصلاتها، وعقدتها في كعكة تدلت لأسفل رأسها، مزينة بطوقٍ من الإكسسوارات الذهبية، ووضعت مشبكًا رقيقًا، على جانب شعرها، تصميمه كان كما تحب؛ لطاووسٍ صغير.

ابتسم بعذوبةٍ وهو يمد يده ليمسك بكفها، رفعه "آسر" إلى فمه ليقبله في لباقةٍ تحرجت منها للغاية، لكونه يفعل ذلك علنًا، ثم مال نحو صدغها برأسه، ليبدو صوته قريبًا من أذنها، وهمس لها:
-زي القمر يا "فيروزة".
ردت بابتسامةٍ صغيرة:
-شكرًا.

رفع ذراعه للأعلى تقريبًا، وبخفةٍ مسد على شعرها، وكأنه يسويه، شعرت "فيروزة" بيده تنتزع مشبك رأسها من الجانب، اختفت ابتسامتها، وتطلعت إليه باندهاشٍ مستنكر، وقبل أن تعترض على تصرفه، كان مشبكها في راحته، يخبئه بداخلها، حاوطها بذراعه من خصرها، وظلت أنظاره مثبتة على وجهها المتقلص عضلاته، ابتسم موضحًا لها بصوتٍ خفيض:
-شكله رخيص، وبلدي أوي عليكي.

ردت بتحفظٍ محتجة على رأيه:
-بس عاجبني.
أومأ برأسه بحركة خفيفة، وقال ملطفًا:
-هاجيبلك الأحسن منه، ده مافيش حاجة تغلى عليكي يا حبيبتي.
اتسعت ابتسامته أكثر، وغمز لها بطرف عينه، قبل أن يقول بعبثيةٍ:
-دلوقتي من حقي أقولك يا حبيبتي.

من المفترض –وفي تلك الليلة- أن تسعد "فيروزة" كثيرًا لمشاعر الحب الودودة المحاصرة لها، وكذلك لتلهف زوجها على التودد إليها؛ لكنها لم تشعر بمظاهر السعادة تجتاحها مطلقًا، فقط أحاسيس الانقباض، والخوف من المجهول، وبدا ذلك مُربكًا لها.
ارتفع صوت الموسيقى، فأرخى "آسر" قبضته عن المشبك، ليلقيه بغير مبالاة على الأرضية، تحرك بخفةٍ في اتجاهه، ودعسه بقدمه ليحطمه بكعب حذائه، وفي غفلة منها، وكأنه تخلص من قمامة، لا قيمة لها.

بقلبٍ مكسورٍ، وروحٍ محطمة، وعينين تحبسان الدمع فيهما، اختبأ "تميم" كاللصوص، في تلك البقعة المعتمة نسبيًا، في سيارته، وعلى مسافة جيدة من هذا المطعم تحديدًا، حيث تكشف حوائطه الزجاجية عما يدور بالداخل للمارة في الطريق، رأها توقع صك ملكيتها لغيره، ولم يجرؤ على إبعاد نظراته عنها، ومع سماعه لانطلاق أصوات الزغاريد، ذرف الدموع قهرًا، فالحقيقة أصبحت نافذة، لم ولن تكون له أبدًا، تبخرت الأحلام البسيطة، وتلاشت في معترك الحياة الأليمة، أما الوحشة فعادت لتحتل قلبه وتغلفه، اشتدت أصابعه على عجلة المقود، وقال لنفسه بحزنٍ؛ وكأنه يواسيها:
-هي خلاص اختارت طريقها، وحتى ماتعرفش أصلاً إني...

بتر اعترافه بعشقه المنفرد، قبل أن تتجرأ شفتاه على النطق به، تنفس بعمقٍ، ومسح بظهر كفه وجهه المبتل، ثم قال في أسفٍ، كما لو كان يناجي المولى، وبنبرته الحزينة:
-يا رب أنا ما عمريش طلبت حاجة لنفسي مخصوص، طول عمري بأفكر في غيري، وضحيت بسنين من عمري عشان غيري...
نشج صوته أكثر، وغلفه المزيد من الشجن، وهو يتابع:
-هي الحاجة الوحيدة اللي اتمنيتها من كل قلبي.. بس راحت خلاص مني..

انسابت دموعه الحرقة مرة أخرى تأثرًا بابتعاده المحتوم عنها، والذي بدا وكأنه دوامة ساحقة للروح من العذاب الأبدي، نكس رأسه منتحبًا في أنينٍ خافت، وأنهى سلوان نفسه مرددًا بعينين ارتفعتا ببطءٍ نحو السماء:
-أكيد يا رب ليك حكمة في كل اللي بيحصلي، أنا راضي بقضاءك، فصبرني عليه.
أخفض حدقتيه المشبعتان بعبراته ليراها تحملق أمامها بشرودٍ، التقت عيناه -وسط العتمة التي يختبئ بداخلها- بنظراتها الضائعة لمرة كانت فعليًا الأخيرة له.

بغير ترتيب مسبق، اتصل هاتفيًا بها، في تلك الساعة المبكرة، لتستفيق من نومها العميق على خبر صدمها بشدة، وجعل حواسها تتيقظ بالكامل، خاصة أنه كان بعد بضعة ساعات من عقد قرانها عليه، ليربك كافة حساباتها، ويفسد جميع مخططاتها بشأن إعادة تغيير تصاميم الديكور للمنزل المملوك لزوجها، والذي لم تره بعد! سألته "فيروزة" في ذهولٍ، وهي تدعك عينيها بقبضة يدها، لتطرد بقايا آثار النعاس منهما:
-يعني إيه إنت في المطار؟

رد عليها "آسر" بنبرة هادئة معتذرًا منها:
-أنا أسف يا حبيبتي، بس في مشكلة حصلت في الشغل، ولازم أسافر حالاً.
تعقدت ملامحها وهي تسأله مستفهمة:
-فجأة كده؟
أخبرها باقتضابٍ:
-أيوه.
سألته بنفس النبرة المصدومة:
-طب وأنا؟ وترتيباتنا سوا، احنا متفقين على إننا هنروح نختار ألوان الدهان، وآ...

منعها من إكمال جملتها بتكرار اعتذاره:
-حقك عليا، هعوضك لما تجي عندي، هتقضي أحلى أيام.
سألته كمحاولة أخيرة فاشلة، كانت متأكدة أنها لن تجدي نفعًا:
-مكانش ينفع تأجلها كام يوم؟ الموضوع شكله بايخ أوي لما تسافر تاني يوم كتب كتابنا.
بهدوءٍ علق على ذلك، وقال:
-حبيبتي محدش ليه عندنا حاجة، وبعدين كان صعب أأجل السفر.
زلة لســان انفلتت منه دون وعيٍ، التقطتها "فيروزة"، وسألته مباشرة على الفور:
-يعني إنت كنت حاجز قبلها؟!!

تلجلج وهو يبرر لها:
-لأ.. مش بالظبط... ده أنا آ...
وقبل أن يبدو ضعيف الحُجة أمامها، أضاف بلهجة رسمية للغاية:
-بصي أنا هاكلمك أول ما أوصل، لأحسن الطيارة ميعادها جه، خلي بالك من نفسك.
طردت زفيرها المهموم من رئتيها، قبل أن تنطق:
-حاضر.
غازلها بمعسول كلامه الناعم، فقال:
-هتوحشيني يا قلبي، الدنيا من غير مالهاش طعم، غصب عني أسافر.
لم تجد ما تقوله له سوى:
-حصل خير.
أنهت معه المكالمة وهي ما تزال في حالة اندهاش من سفره المباغت، خابت آمالها، وانهار سقف توقعاتها في تشييد مسكنها؛ لكن ما باليد حيلة، عليها أن تتعامل مع الواقع ومفاجآته الصادمة.

بمحض الصدفة عَلِم من "وجدي"، خلال حفل عقد قرانه، عن انشغاله مؤخرًا، بكشف الخيوط المؤدية لإحدى عصابات التهريب الخطيرة، بعد انتقاله لمكتب المكافحة، واستشف من جمله المقتضبة، أنه بصدد الإمساك بأول أطراف الخيط معًا، فاتخذ "آسر" حذره، وحجز تذكرة ذهابٍ (فقط) لدولة الإمارات، على أول طائرة متجهة إلى هناك، استقر في مقعده بدرجة رجال الأعمال، وأمسك بهاتفه المحمول ليهاتف "محرز" ليأمره بلهجة من يقرر:
-ماتخليش أي حاجة ليها صلة بينا، سامعني.

سأله مستوضحًا:
-ليه يا ريس؟
رد بكلماتٍ ذات دلالة مفهومة لهما:
-النسر بيشمشم.
جاءه صوته متوترًا وهو يلاحقه بأسئلته:
-أوبا، وبعدين؟ إيه العمل؟ وحاجات الناس؟
أمره بنفس اللهجة الصارمة:
-نضف كل حاجة وراك، مافيش قشاية.
لم يكن "محرز" راضيًا عما يخبره به، ومع هذا قال له بإذعانٍ مرغم:
-ماشي الكلام، مع إن فيها خسارة كبيرة.

شدد عليه بنبرة لا تمزح:
-الخسارة تتعوض، لكن حياتنا لأ.
رد عليه مستسلمًا:
-معاك حق.
عــاد "آسر" ليأمره، بعباراتٍ متوارية:
-واطلع شم هوا، الجو حلو اليومين دول، قبل الزحمة.
علق بنوعٍ من السخرية:
-حاضر.. نقضيها مصايف.

أنهى "آسر" المكالمة معه، وأغلق هاتفه المحمول، ليغوص بعدها في مقعده المريح، وقد قامت المضيفة بالتأكد من ربطه لحزامه، التفت للنافذة البيضاوية إلى جواره، واستمع بابتسامةٍ تعلو زاوية فمه، إلى صوت المذياع الداخلي بالطائرة، حيث تطلع المضيفة جميع الركاب، على إرشادات السلامة خلال الرحلة الجوية، وشعوره بالارتياح اِزداد تدريجيًا مع بدء تحرك الطائرة على مدرج الطيران...!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني الحلقة الثلاثون بقلم منال سالم


باقي حلقات الرواية متوفره بشكل حصري على مدونة يوتوبيا
يجب كتابة تعليق كي تظهر لك الآن
اكتب رأيك في الفصول المنشورة من الرواية في تعليق كي تظهر لك باقي الفصول

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-