رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول كامل بقلم منال سالم

 رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول كامل بقلم منال سالم

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول كامل

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول كامل بقلم منال سالم - مدونة يوتوبيا


مقدمة رواية الطاووس الأبيض
رواية اجتماعية تحاكي الواقع المعاش حيث أجواء المناطق الشعبية وما بها من أحداث مشوقة... والرواية مأخوذة من مواقف أغلبها حدث بالفعل، لكن تختلف البيئات، والأزمان، وحتى الشخصيات.

كقارئ ربما لن تشعر بالغرابة إن صادفك موقف شعرت فيه أنك عايشت تجربة مماثلة، فكل شيء جائز خلال متابعتك لفصول العمل، ما عليك إلا أن تطلق العنان لخيالك، وتستمتع بالتجربة وتتفاعل مع الأبطال.. هنا أنت لست بقارئ فقط، وإنما جزء من الأحداث.

كلمة شكر واجبة
شكرا جزيلا لكل من أمدني بالمعلومات والمواقف والقصص الحقيقية من المحيطين بي ليخرج العمل بصورة لائقة تحاكي الأجواء الواقعية..
وأخص بالذكر والدي الحبيب، أخي الغالي، وزوجي العزيز..

اقتباس من الرواية
بلغت ألسنة اللهب عنان السماء في أقل من لحظاتٍ بعد اندلاع النيران في محل بيع الطلاء الكائن بالمنطقة المأهولة بالسكان المحليين من ذوي الطبقة المتوسطة والفقيرة، تعالت الصرخات المفزوعة واختلطت مع الأصوات التحفيزية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن يتفاقم الوضع أكثر من ذلك وتطال النيران المستعرة المباني المجاورة ويحدث ما لا يُحمد عقباه. حملقت الصغيرة ذات الجديلتين السوداوتين بعينين متسعتين في رعب في اللافتة المتآكلة والتي أوشكت على السقوط، حاولت تحذير ذلك الصبي الذي جاهد لإطفاء النيران من جهته مستخدمًا دلوًا معدنيًا مملوءًا بالماء، لكن صوتها الضعيف لم يصل إليه وسط الجلبة الصاخبة التي تصم الآذان.

انقبض قلبها في هلع أشد حينما وقع جزء خشبي منها على كتفه فطُرح أرضًا، هرولت بشجاعة متهورة تناقض سنوات عمرها الصغيرة نحوه لتهب لنجدته بعد أن سكن جسده كليًا، جثت على ركبتيها تهزه بعنفٍ.. لا استجابة على الإطلاق!


 
تلفتت حولها باحثة عمن يساعدها، الكل مشغولٌ بإخماد الحريق الهائل، نهضت مستندة على كفيها لتقف عند قدميه، انحنت عليه بجسدها الهزيل لتمسك به من عقبيه، حاولت جره بعيدًا عن النيران لكنها لم تستطع، فقد كان وزنه ثقيلاً بالنسبة لها.

لهثت وتعرقت وتسارعت أنفاسها، ومع ذلك لم تيأس، استمرت في المحاولة مستنزفة كل قواها، بدأت في السعال المتألم بعد أن ازدادت كثافة سحب الدخان الذي عبأ المكان وملأه. توقفت عن سحبه لتضع يدها على أنفها مانعة نفسها من استنشاق المزيد من الأدخنة الخانقة، جابت بنظراتها المرتاعة المكان الذي تحول لكتلة من الضباب وهي معتقدة أنها النهاية، لا مخرج.. لا نجاة، تهاوت جاثية على ركبتيها وقلبها يكاد ينخلع من عنف دقاته، وضعت يديها المرتعشتين حول عنقها المتيبس تتحسسه في عجزٍ، وكأنها تستجدي بذلك آخر نفسٍ لها في الحياة.

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة الأولى بقلم منال سالم



رفع ثقل جسده عن الأرضية الباردة للمرة الثلاثين مستخدمًا مرفقيه دون أدنى شكوى، وكأنه لا يزن إلا مثقال ريشة، صفق السجناء في انبهارٍ وهم يحمسوه على فعل المزيد، وبالرغم من العرق الغزيز الذي ينهمر من خلايا جسده إلا أن أصواتهم التحفيزية حثته على الاستجابة لمطلبهم وزاد العدد حتى بلغ الخمسين رفعة، ثم نهض واقفًا على قدميه يمسح العرق العالق بأصابعه وخاصة حول خاتم خطبته، تلفت حوله والتصفيقات المصحوبة بالصافرات والتهليلات تشجعه، تعلقت الأعين المتباهية بإنجازه بوجهه ذي البشرة القمحية والمخبئ خلف ذقنه التي استطالت، بدا غير متأثرٍ بتفاخرهم به، مرر يده على رأسه الحليق يمسحها، كانت نظراته التي تنبعث من حدقتيه البنيتين تعبر عن قوة واستبسال لا حدود لهما، حتى بنيته الجسمانية ذات لياقةٍ عالية. لكزه أحدهم في جانب ذراعه يمدحه:
-عاش يا وَحَش!


 
ارتسم على جانب شفتي "تميم" بسمة متهكمة، مسح بظهر كفه عرقه المتصبب على جبينه وعينيه، ثم أردف قائلاً بصوته الأجش:
-خلي الكلاب اللي هنا تعرف من ريس المخروبة دي.
قال وهو يزيد في مدحه:
-هو في حد يقدر يقول غير كده يا كبيرنا؟


 
ثم ناوله منشفة نظيفة ليمسح بها عرقه قبل أن يتجه لأحد الأسرة التي تنتصف عنبر الحبس، جلس "تميم" على الفراش القديم منكسًا رأسه المشحون قليلاً، ما زال شأن عائلته يشغل باله، ها قد تبقى القليل ليعود إليهم بعد سنواته الخمس التي قضاها هنا في ذلك المكان الكئيب المستنزف للأعمار. ضاقت نظراته بحدة وزميله في محبسه يسأله:
-بتفكر في إيه يا معلم؟

رفع عينيه المحتدتين نحوه ليسأله بخشونةٍ مانعًا إياه من اقتحام خصوصيته:
-هنطفح إيه النهاردة؟
تنحنح قائلاً بصوتٍ مهتز:
-أوامرك يا كبير، أنا هاروح أشوف جاه إيه من الزيارة وأوضبه لجنابك.


 
تحرك مبتعدًا عنه ليتركه جالسًا بمفرده، فلم يجرؤ أي أحد سواه من السجناء على محادثته دون السماح له أولاً بذلك، كانت له هيبة طاغية ومرعبة وسط عتاة الإجرام، كما اكتسب منذ الليلة الأولى التي قضاها هنا شعبية عظيمة، وذلك لنجاحه في التغلب على واحد من أشد السجناء شراسة ممن حاولوا التحرش به وإذلاله وكسر كبريائه، قضى عليه وأهانه بشكلٍ مذل ليحتل بعدها مكانته وينال ذلك الشرف العظيم.

لم تكن لتضيع سنوات عمره هباءً لولا ما فعله للعائلة، تلك التي تأتي على رأس أولوياته وإن كلفته حياته، لن يتغاضى للحظة عن الدفاع عن أفرادها حتى لو كان مصيره التهلكة. أغلق "تميم" دفتر الماضي بما فيه من أحداث رافضًا الخوض في المزيد من تفاصيله التي تزيده ضيقًا وألمًا، استلقى على الفراش يثني ركبته أمام صدره، ثم فرقع فقرات عنقه بتحريكه للجانبين، انخفضت عيناه نحو خاتم الخطبة الذي يزين إصبعه، أداره بحركة ثابتة لعدة مرات وهو يفكر في أمرها، تلك التي انتظرته لما يقرب من سبعة أعوام متسائلاً في نفسه إن كان لا يزال يكن لها نفس المشاعر أم باتت واجبًا عليه أدائه إكرامًا لإخلاصها معه. تنهيدة ثقيلة خرجت من فمه ليرفع رأسه بعدها للأعلى محدقًا في سقفية العنبر الكئيبة بغير هدفٍ محدد.


 
دارت عيناه الخبيرتان بطول الشارع المعتم نسبيًا فاحصًا بدقة كل زاوية فيه ليتأكد من عدم مراقبة أحدهم له، كان قد درس المنطقة جيدًا وحدد هدفه التالي بعد مراقبة متأنية لوقت معقول في ذلك الحي السكني المعروف عنه بثراء قاطنيه، انتقى البقعة المناسبة للوقوف بها والاختباء إن لزم الأمر دون أن يثير الريبة بين قاطنيها ليظن من يتطلع إليه أنه عامل النظافة المجد في عمله. انتهى "حمص" من تدخين الجزء المتبقي من سيجارته رديئة الصنع ليلقي ببقايا عُقبها أسفل قدمه.

دعسها بحذائه القديم مومئًا برأسه لأحدهم يستقل دراجة بخارية على الجهة المقابلة، ثم استدار للخلف متجهًا نحو السور الحجري حيث النقطة التي اختارها ليتسلقه منها، وبخفة واحترافية تتماشى مع جسده النحيف استطاع أن يصعد عليه، حبس أنفاسه ثم وثب للداخل جاثيًا على إحدى ركبتيه وكفيه على الأرضية العشبية للحديقة الخلفية لتلك الفيلا الخالية من سكانها. تلفت حوله في توترٍ وقلق، كان المكان هادئًا إلا من نباح الكلب المزعج، هنا اعتلى ثغره ابتسامة ماكرة، فقد جاء خصيصًا إليه، وسرقته تلك المرة تعتبر من النوع الباهظ، حتمًا من سيشتريه سيدفع لأجله مبلغًا محترمًا من المال، فنوعه معروف للجميع. اقترب منه "حمص" غير مكترثٍ بالمرة بالأنياب الحادة الظاهرة بين فكيه ولا باللعاب المقزز الذي يتناثر من جوفه هامسًا له بلهجة ساخرة:
-تعلالي يا غالي.


 
ما منع الكلب من الهجوم عليه وربما افتراسه كونه موثوقًا بسلسلة حديدية قوية، تشجع "حمص" للتعامل معه كما اعتاد أن يفعل مع ذوي الأنياب، رفع ذراعه أمام وجهه وكأنه يحتمي به من تهديده الصريح بالعض، ثم دنا بخطواتٍ حذرة حتى أصبحت المسافة خطيرة للغاية، عند تلك اللحظة وثب الكلب قاصدًا قضم ذراعه، منحه صائده فرصته لينهش في لحم ذراعه المحمي نسبيًا بقطع القماش، وما إن تعلق به حتى لف ذراعه الآخر حوله ليحكم قبضته عليه، رفعه للأعلى بعد أن حل وثاق سلسلته ليصبح أسير قبضته، ومثلما جاء خلسة فر هاربًا بنفس الطريقة وأيضًا في سرعة وخفة مستعينًا برفيقه "شيكاغو" الذي ولج للحديقة ليمسك بالكلب معه، وضع القناع الواقعي على فمه ليمنعه من النباح، ثم قام بتقييده وقبل أن يلحظهما أحد. وضعه الاثنان على الدراجة البخارية ثم انطلقا بها في شارع جانبي غير ذاك الذي جاءا منه، وكلاهما يمني نفسه بمبلغ لا بأس به.

بدت كمن ينازع بألم في نومه فانحشرت أنفاسها، وكأن الهواء قد بات ثقيلاً على صدرها فضاعف من إحساسها بالاختناق، أنين خافت خرج من جوفها ليوقظ النائمة إلى جوارها، تأملتها بنظراتٍ قلقة خائفة بعد أن أزاحت الغطاء عنها، فتلك الحالة دومًا تتكرر معها دون تفسيرٍ مفهوم، وبرفقٍ حذر وضعت يدها على كتفها لتهزها منه لتنتشلها من ذلك الكابوس المطبق على الروح، مالت عليها تهمس باسمها:
-"فيروزة"، اصحي! إنتي بتحلمي، مافيش حاجة.


 
انتفضت مذعورة من نومها وصدرها ينهج بقوة، لهثت محاولة التقاط أنفاسها لتعيد انتظامها بعد أن تمكن ذلك الحلم المزعج منها مجددًا، كانت تعيشه بكل جوارحها، حتى بات مؤلمًا لأقصى الحدود، التفتت إلى جانبها لتتأمل وجه أختها القلق، لم تجرؤ على التفوه بكلمة، حملقت فيها بعينين غائمتين وكأنها تحاول التأكد من عودتها لأرض الواقع. ضغطت "همسة" على شفتيها تسألها:
-نفس الحلم إياه؟

أومأت شقيقتها بالإيجاب، مسحت توأمتها على وجنتها براحة يدها محاولة تطمئنتها وهي تقول:
-معلش يا حبيبتي، الحمدلله إنه عدى على خير.
استدارت "فيروزة" للجانب الآخر لتمد يدها نحو الكومود حيث كوب الماء المسنود عليه، تناولته وارتشفت ما فيه دفعة واحدة حتى تروي ظمأها، التفتت ناظرة إليها لتقول معتذرة بسعالٍ طفيف:
-أنا أسفة، قلقتك.

ربتت على ظهرها قبل أن تميل عليها لتحتضنها في محبة أخوية صافية لتضيف بعدها:
-متقوليش كده، ده إنتي روحي.
ابتسمت لها "فيروزة" في امتنانٍ وعادت لتستلقي بظهرها على الفراش محاولة نسيان تفاصيل ذلك الكابوس المؤرق لمضجعها. تساءلت بعينين تحدقان في السقفية:
-هي الساعة كام دلوقت؟
أجابتها "همسة" بتثاؤب وهي تتقلب على جانبها:
-لسه النهار مطلعش.
ردت متصنعة الابتسام:
-كويس، فرصة ننام شوية.

كانت تخدع نفسها بتصديق ذلك، فالنوم أبعد ما يكون عن جفنيها وقد ظلت تفاصيل حلمها المزعج حاضرة في ذهنها، أجبرت عقلها على عدم التفكير فيه حتى تستعيد من جديد حالة الاسترخاء التي كانت عليها، مالت برأسها على الوسادة ناحية أختها لتجدها قد غفت بالفعل، ظهرت بوادر ابتسامة متهكمة على جانب شفتيها قبل أن تلفظ تنهيدة طويلة مليئة بالهموم مستسلمة للأرق الذي أصابها كالعادة.

لا تعرف كيف غفت تحديدًا لكنها استيقظت على صوت أمها المرتفع الذي نبه كل حواسها، نظرت لها بنصف عين ووجهها متقلص بدرجةٍ كبيرة، شعرت ببرودة تضرب أطرافها حينما أزاحت عنها الغطاء فجأة ليتلاشى ذلك الدفء المغري، حاول التقاط طرف الغطاء قائلة بتذمر:
-ليه كده بس يا ماما؟ أنا ملحقتش أنام!!

ردت "آمنة" بلهجة الأم الجادة غير المتفاوضة:
-ده احنا داخلين على الضهر وورانا حاجات كتير لازم تتعمل قبل ما خالكم "خليل" يرجع من السفر.
عبست ملامح "فيروزة" وعلقت عليها باستياءٍ:
-هو لازم يعني كل مرة نعمل التشريفة دي؟
رمقتها بنظرة حادة وهي ترد عليها:
-عيب كده يا "فيروزة"! هو أنا ربيتك على كده؟
قالت بنبرة متنمرة:
-يعني يصح يا ماما يطلع عينك من صباحية ربنا عشان تطبخي لمراته وفي الآخر بدل ما تقولك شكرًا نسمع منها كلمتين بايخين مالهومش أي 30 لازمة؟!!

وبالرغم من كونها محقة في طريقة استغلال أخيها وزوجته لها بشكلٍ سافر إلا أنها ردت بحسمٍ:
-أنا بأعمل لوجه الله.
انزعجت "فيروزة" من ردها المحبط فاعترضت بنبرة شبه محتدة:
-بس مش كده!
حاولت والدتها أن تغلق باب المناقشة غير المجدية في ذلك الموضوع فصاحت بها:
-بصي أنا ماليش في الكلام بتاعك ده، قومي يالا امسحي السلم وروقي المدخل وانشري الغسيل، وأختك هتوضب الأوض وتكمل معايا بقية الأكل، مافيش وقت نضيعه.

ضربت الأرض بقدمها بعصبيةٍ كتعبيرٍ عن سخطها وهي تمتم بتهكمٍ:
-دي أخرتها، أشتغل مساحة سلالم!
حذرتها أمها بلهجةٍ أقرب للشدة وهي تشير بعينيها:
-عدي نهارك يا "فيروزة".
نفخت متسائلة في نفاذ صبرٍ:
-ماشي يا ماما، ممكن أغسل وشي الأول ولا هاطلع كده بلبس البيت وبعُماصي؟!
قالت لها بصوتٍ أقرب للين وقد ارتخت نظراتها قليلاً:
-روحي غيري هدومك وافطري وبعد كده اعملي اللي قولتلك عليه
همست ساخرة في امتعاضٍ:
-الحمدلله، ألحق أعمل حاجة لنفسي!

تابعتها والدتها بنظراتٍ مهتمة وهي تتجه إلى خارج الغرفة لتقول بعدها محدثة نفسها:
-ربنا يهديكي يا "فيروزة"، أخدة كل طباع أبوكي العصبية.
ردت عليها "همسة":
-الله يرحمه، بس أنا شبهك صح؟
عادت الابتسامة لتتشكل على وجهه المرهق قبل أن تعلق عليها بحنوٍ ملموسٍ في صوتها ونظراتها:
-إنتي نسخة مني يا حبيبتي.
عفويًا احتضنت "همسة" والدتها لتنعم بحضنها الدافئ، أسندت رأسها على كتفها وأغمضت عينيها تقول لها:
-ربنا يخليكي لينا يا ماما.
ربتت والدتها برفقٍ على ظهرها بعد أن ضمتها إليها، ثم أبعدتها عنها لتبدأ الاثنتان بحماسٍ يناقض "فيروزة" في إعادة ترتيب أغطية الفراش سويًا قبل أن يتشاركا أداء مهام المنزل التي تنتظرهما.

وقفت مستندة بمرفقيها على حافة سور المنزل المكون من طابقين، تأملت أمواج البحر الغاضبة بنظراتٍ ضجرة، ففصل الشتاء على الأبواب، موجة أشد قوة تحطمت على الصخور لتتناثر مياهها المالحة بطول الكورنيش، ارتجف بدنها وشعرت بقشعريرة باردة تسري في أوصالها، هي دومًا تخشى الاقتراب منه، ومع ذلك تجبر نفسها على التطلع إليه لتحذر نفسها من قسوته إن فكرت يومًا أن تطأه، ذكرياتها معه تحمل الألم والحزن، ورؤيته في تلك الحالة الهائجة يؤجج من إحساسها بالضيق الممتزج بالخوف، امتد البحر على مرمى بصرها؛ وكأن لا نهاية له، فمنزلها يعتبر معتزل نسبيًا عن باقي المنازل والبنايات بالمنطقة، أو كما تصفه منبوذ عن البقية، لكنه ما ورثته هي وشقيقتها ووالدتها عن أبيها الراحل، تمسكت أمها به ورفضت بيعه رغم المغريات المادية نظرًا لموقعه القريب من الشاطئ، ومساحته المتسعة التي تمنح من به خصوصية لا مثيل لها إن حاوطه بسورٍ مرتفع.

لمسة حنون شعرت بها على جانب كتفها الأيسر فأخرجتها من تحديقها فيه، التفتت للجانب لتجد "همسة" تبتسم لها في رقة، وعلى الرغم من كون الاثنتان تتشاركان في كل شيءٍ تقريبًا إلا أن صفاتهما مختلفة؛ ف "فيروزة" حادة الطباع، متقلبة المزاج أحيانًا، مثابرة، عنيدة، لا تقبل الهزيمة مُطلقًا. أما "همسة" فتمتاز بالرقة، بالطباع اللينة، بالقناعة، والرضا، بالإضافة لنقطة ضعفها أو ما يمكن تسميته مجازًا بعيبها الخطير؛ الخوف من المواجهة مع الآخرين. تساءلت الأخيرة في اهتمامٍ وهي تضم ياقتي بلوزتها معًا:
-مش بردانة يا "فيرو"؟

تطلعت "فيروزة" أمامها قائلة بعدم اكتراثٍ:
-لأ، مش أوي.
اقشعر بدن "همسة" من النسمات الباردة التي ضربت بوجنتيها، ثم قالت وهي تحاول تضم الشال الذي ترتديه حول كتفيها لتستعيد إحساسها بالدفء:
-الجو ساقعة، الشتا شكله السنادي هيبتدي بدري.
قالت "فيروزة" في فتورٍ:
-وإيه الجديد؟ ما احنا متعودين على كده.
ردت بصوتٍ شبه مرتعش تأثرًا بإحساسها بالبرودة:
-أنا بأحبه أوي.
نظرت لها من طرف عينها قبل أن تعلق:
-أنا لأ!
رددت باستغرابٍ:
-إنتي غير الكل، الناس بتحب الشتا والجو ده.

أغمضت عينيها للحظة لتتجنب الذكريات المؤلمة التي تحاول اقتحام عقلها فتنغص عليها نهارها، ثم زفرت بقوة لتتساءل بعدها:
-مقولتليش رأيك في موضوع عربية الأكل
أجابت بترددٍ محسوس في صوتها:
-هي فكرة مش بطالة، بس ماما هانقولها إيه؟
صمتت "فيروزة" للحظة قبل أن تعقب عليها:
-سبيها عليا، أنا هاعرف أقنعها.
حذرتها "همسة" بجدية واهتزازة بؤبؤاها واضحة لشقيقتها:
-أنا مش عاوزة أكدب عليها!

حاولت الأخيرة الابتسام لتمنحها شعور الثقة وهي تقول مؤكدة:
-أنا هاتصرف معاها، اطمني.
عادت "همسة" لتتساءل بتوترٍ لم تخفه:
-بس تفتكري خالك هيوافق؟
احتقن وجه أختها نسبيًا حينما رددت على مسامعها تلك الجملة التي تشير إلى التدخل السافر لخالهما الوحيد في شئون حياتهما، قالت باحتجاجٍ ناقم:
-وخالنا ماله أصلاً؟ دي حاجة تخصنا احنا.
عللت لها:
-ما إنتي عارفاه مش هايعدي الموضوع كده بالساهل.
رفعت "فيروزة" حاجبها تشير لها:
-ما احنا مش هانقوله.

شحب وجهها نسبيًا من جراءتها المتهورة وردت متسائلة:
-طب افرضي عرف؟ أكيد مش هايسكت وهايعملها حكاية ومشكلة كمان.
نفخت هاتفة في ضيق انعكس على قسماتها وكذلك نظراتها:
-أنا مش عارفة هو غاوي يتدخل ليه في حياتنا؟ ده حتى ما بيساعدش بمليم!
بالرغم من موافقتها إياها في الرأي إلا أنها دافعت عنه قليلاً فقالت:
-بس هو خالنا حتى لو مش عاجبنا تصرفاته!

اغتاظت "فيروزة" من اتخاذها لصفه فاسترسلت موضحة لها بحدةٍ طفيفة علها تفيق للواقع المحيط بهما وتدرك حقيقة الأمور:
-"همسة" إنتي شايفة مصاريفنا بقت عاملة إزاي؟ تفتكري مع الحياة الغالية اللي احنا عايشين فيها الكام ملطوش اللي بيديهم لأمك من نصيبها في الأرض هيكفوا؟ ده يدوبك بالعافية احنا مقضينها، طب افرضي حد فكر يتقدم ويخطب واحدة فينا، ساعتها ماما هاتجهزنا منين؟ ولا تكونيش مفكرة إنه هيطلع من جيبه ويدينا، ده "حمدية" ترفعله حواجبها وتقلبها عليه وعلينا.
رمشت أختها بعينيها في قلقٍ حائر، لذا سألتها:
-والعمل؟

أجابتها عن ثقة تامة غير مبالية بتبعات قرارها:
-همشي في المشروع بتاعنا، إنتي عليكي الطبيخ وأنا عليا التسويق والبيع، واحنا لا أول ولا آخر ناس عملوا كده.
شعرت "همسة" بالخوف يضرب عقلها، كانت تخشى من ردة فعل الجميع إن عرفوا بما تنتوي أختها فعله بحثًا عن لقمة العيش بعد أن تعذر على إحداهما العثور على وظسفة مناسبة براتبٍ معقول، لعقت شفتيها بطرف لسانها قبل أن تغمغم بأنفاس عبرت عن ارتعادها:
-ربنا يستر!

تنهيدة بطيئة مليئة بالهموم خرجت من صدرها وهي تمسح بأصابعها على زجاج الصورة الفوتغرافية التي تضم أغلى ما في حياتها المليئة بالوحدة والشقاء؛ ابنتيها. هي تذكر تلك اللقطة جيدًا، حينما احتفلت الاثنتان بتخرجهما؛ ف"فيروزة" خريجة كلية التجارة، و"همسة" الاقتصاد المنزلي. تطايرت خصلات شعرهما الأسود بفعل الهواء وشكلت خلفية مثالية لألوان ثيابهما المبهجة، لامست وجهيهما الضاحكين بإبهامها رامقة الاثنتين بنظراتٍ حزينة ومتحسرة، فابنتاها اقتربتا من منتصف العشرينات ولم يتقدم أحدهم لخطبة أيًا منهما بالرغم من اللمحة الجمالية البسيطة التي تمتلكاها لتزداد قساوة الحياة معهما وتحرمهما من حق التمتع بالزواج والخطبة، ألا يكفي حرمانهما من الأب الحنون الذي يغدق عليهما بمحبته وأمانه؟

ألا يكفي اعتزالها للزواج من بعد وفاته غدرًا في رحلة الصيد المشؤومة لتعكف على تربية الصغيرتين بمفردها دون معيل حقيقي؟ دمعات متسللة ملأت طرفيها ألمًا على حالهما البائس. كفكفتهم "آمنة" سريعًا قبل أن تلمحها إحداهما مصادفة، حاولت إلهاء عقلها عن التفكير في شأنهما بأداء ما تبقى لها من أعمال المنزل، هتفت صائحة بصوت مضطرب حينما سمعت النقر على زجاج الشرَّاع:
-أيوه يا اللي بتخبط، جاية أهوو.

ضبطت عقدة منديل رأسها وهي تسرع الخطا نحو باب المنزل، فتحته راسمة على شفتيها ابتسامة بسيطة وهي ترحب بشقيقها الذي عاد لتوه قائلة له:
-حمدلله على السلامة يا أخويا، نورت بيتك
قال لها بوجه جاد ونبرة رسمية:
-إزيك يا "آمنة"؟ أنا قولت أعدي عليكي أنولك الأمانة بتاعتك وشوية الحاجات دي قبل ما أطلع شقتي
تأملت ما أحضره لها من شنط بلاستيكية تحوي بعض الخضر والفاكهة، تناولته من يديه مرددة في امتنانٍ:
-تعيش ياخويا، دايمًا فاكرني.

دس "خليل" يده في جيب قميصه، ثم أخرج منه مغلفًا صغيرًا مطويًا، مد يده به نحوها قائلاً بنفس اللهجة الروتينية المملة:
-فلوسك أهي معاكي، كده مش ناقصك حاجة؟
أخذت المغلف منه وأطبقت عليه بأناملها تشكره:
-الحمد لله، دايمًا عامر يا رب
نفخ قائلاً في تعب بعد أن أنهى مهمته المعتادة:
-أنا هاطلع أريح من المشوار الطويل ده
أيدته الرأي:
-وماله يا "خليل"، حقك ترتاح، وأنا شوية وهابعتلك بالبنات بالأكل، ما أكيد "حمدية" تعبانة ومش هاتقدر تطبخ.

قال لها بامتعاضٍ:
-العيال قرفوها طول الطريق وطلعوا عينها
حاولت التهوين عليه فقالت:
-الله يقويها عليهم، اطلعلها بدل ما تقلق عليك
هز رأسه بإيماءة صغيرة ليودعها بعدها ويصعد على الدرج متجهًا للطابق العلوي حيث يوجد مسكنه، تابعته "آمنة" بنظراتٍ مهتمة حتى اختفى عن عينيها فأغلقت الباب وانحنت تحمل ما أحضره لتضعه في مكانه بالمطبخ قبل أن يفسد.

بشموخٍ وهامة منتصبة وقف ذاك الرجل الذي قارب عمره على منتصف الخمسينات وسط عماله أمام دكانه الشهير الخاص ببيع الخضروات والفاكهة يدير الأعمال بخبرته العريضة في ذلك المجال، تركزت أنظار "بدير" مع الشاحنة الكبيرة المرابطة عند ناصية الزقاق الضيق والتي تعبئ بصناديق الفاكهة والخضار المنتقاة بعناية فائقة والمعدة خصيصًا لطهاة السفن السياحية حيث رحلاتهم التي تمتد للأشهر وتستلزم وجود كميات كبيرة من الطعام، كان يراقب أداء رجاله ويتفحص الصناديق واحدًا تلو الآخر ليضمن تقديم جودة عالية لزبائنه، استدار برأسه للجانب حينما سمع محامي العائلة يناديه، ترك ما في يده واتجه إليه، التقط المحامي أنفاسه قائلاً في حماسٍ وتفاؤل:
-البشارة جت يا حاج "بدير".

برقت عيناه بلمعانٍ غريب وقد فطن إلى ما يرمي إليه، خفق قلبه واعتلى وجهه المجعد ابتسامة مليئة بالأمل قبل أن يعده:
-لو طلع كلامك صحيح يا سي الأستاذ لأحلي بؤك على الآخر.
رد مؤكدًا وهو يضبط رابطة عنقه غير المهندمة بيده:
-وأنا مش بأجيب غير الأخبار الجد يا حاج.
عبث "بدير" بلحيته البيضاء قائلاً في حبورٍ وبهجة:
-ياه، أخيرًا "تميم" هيطلع من السجن، ده أنا كنت خايف أموت قبل ما أشوفه.
قال له محاميه:
-العمر الطويل ليك يا حاج، مافيش حاجة بعيدة عن ربنا.

رد عليه بتنهيدة طويلة:
-الحمد لله
ثم ما لبث صوته تحول للحماس من جديد وهو يكمل:
-أما ألحق أبشر أبويا الحاج "سلطان" بالأخبار دي.
تساءل المحامي في اهتمامٍ:
-صحته عاملة إيه دلوقت؟
رد مستخدمًا يده في الإشارة:
-أهوو.. يوم كده، ويوم كده!
أومأ برأسه معقبًا:
-ربنا يباركلنا في عمره، سلميلي عليه يا حاج
قال مجاملاً:
-يوصل، عن إذنك يا أستاذ.
تحرك بعدها "بدير" في اتجاه عماله يأمرهم بمتابعة إكمال تعبئة باقي الشاحنة بالصناديق ريثما يصعد إلى منزله ليطمئن على والده ويبشره بما عرفه من أخبار رائعة.

سعالٌ مؤذي لحنجرته أصابه لأكثر من دقيقة وهو يحاول استعادة انضباط أنفاسه بعد أن اختنق صدره بالدخان الكثيف لنارجيلته المتقدة، ربت "نوح" الجالس على ميمنته على ظهره بقوة حتى يهدئ، ثم سأله بصوتٍ ثقيل وهو يسحب نفسًا من خاصته:
-إنت كويس؟ مكانش كام نفس خدته ورا بعض!
تطلع إليه "هيثم" بعينيه الحمراوتين من تأثير الدخان عليه ليجيبه بحنقٍ:
-أنا تمام يا عمنا، دي حاجة بس وقفت في زوري.

ورغم عدم اقتناع الأخير برده إلا أنه ادعى تصديقه ليتجنب بوادر مشادة كلامية معه ربما تنتهي بعراكٍ حامٍ تتحطم فيه المقاعد الخشبية ويتكبد صاحب المقهى خسائر فادحة لكون الأول معروفًا برعونته وأفعاله الطائشة. تجرع "هيثم" ما تبقى في كوب الشاي الخاص به ليدس يده في جيب بنطاله باحثًا عن النقود، لم يجد ما يكفيه، فالتفت لصديقه الملازم له يطلب منه بسماجةٍ:
-بأقولك إيه، الحساب عندك المرادي.

اعترض بتذمرٍ:
-هو كل مرة كده؟
رد بنبرة متنمرة:
-معييش فلوس، بكرة أردلك اللي دفعته الطاق عشرة!
حك "نوح" طرف ذقنه معلقًا في تهكمٍ:
-أهوو كلام بنسمعه منك، ومافيش حاجة بتحصل.
استثارت حميته فاحتج بصوتٍ شبه غاضب:
-هو أنا من امتى بأكل فلوس على حد؟
أشاح بوجهه بعيدًا عنه بعد أن رمقه بنظرة مزدرية ليرد بنبرة مزجت بين التهكم والإدانة:
-بقى جوز خالتك يبقى الحاج "بدير سلطان" على سن ورمح وحالك يبقى كده!
قطب جبينه متسائلاً:
-قصدك إيه؟

نفس بطيء مليء بالدخان ارتفع عاليًا من جوفه ليقول موضحًا في مكرٍ:
-تشوفلك مصلحة معاه يطلعلك منها قرشين.
لم يكن حديثه الغامض مفهومًا، ولم تكن حالته المزاجية تسمح له بالمكوث وسؤاله باستفاضة أكبر ليعي غرضه، هب "هيثم" واقفًا ورمقه بنظرة جافة قائلاً له بسخافة منهيًا معه جلسته المضيعة للوقت:
-بأقولك إيه، أنا دماغي مش رايقة السعادي، نتكلم بعدين
لوح له بخرطوم نارجيلته وهو يرد:
-أه وماله .. وأهوو الحساب يجمع.

كز "هيثم" على أسنانه في غيظٍ من طريقته التي تستفزه، بصعوبة واضحة على تعابيره حاول كبح جموحه الذي يهدد بالانفجار ليشتبك مع رفيقه، نظرة أخرى مليئة بالحقد تسلطت على "نوح" الذي بدا وكأنه يتجاهله ليستدير متجهًا إلى سيارة النصف نقل المملوكة إليه، استقر خلف عجلة القيادة وأدار المحرك، ثم قام بتشغيل إحدى تلك الأغنيات الشعبية الصاخبة التي ينوح فيها المطرب على ماضيه وحاضره وبدأ في الدندنة معها، تحرك مبتعدًا عن المقهى ليتسكع بلا هدفٍ في الشوارع كنوعٍ من تفريغ شحنته المكبوتة حتى تحط دمائه المحتقنة ويستعيد ثباته الانفعالي... !!!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة الثانية بقلم منال سالم



أمسكت بالصينية الدائرية المغطاة جيدًا بعد أن قامت برص الأطباق المليئة بالطعام فيها بشكلٍ مرتب لتقدمها لخالها وزوجته وأبنائه، وبحذرٍ بالغ رفعت يدها للأعلى بعد أن ألصقت حافتها بصدرها لتتمكن من قرع الجرس، تراجعت "همسة" خطوة للخلف راسمة على وجهها البشوش ابتسامة لطيفة وهي تتمنى في نفسها ألا تتشاجر مع تلك المتغطرسة الفظة، رمشت بعينيها حينما فتحت لها "حمدية" الباب، حاولت عدم التحديق في قميصها المنزلي الأحمر ذي فتحة الصدر العريضة والتي تبرز مفاتنها المتهدلة بشكلٍ فجٍ ومقزز، غضت بصرها وبادرت مرحبة بتهذيبٍ وتواضع:
-حمدلله على السلامة يا مرات خالي، نورتوا بيتكم، المكان مكانش ليه حس من غيركم الأيام اللي فاتت...


 
استطاعت تلك المرأة ذات الملامح الخبيثة والنظرات غير المريحة أن تلاحظ إبعادها لعينيها عنها، ظنت أن في ذلك إساءة لها، لذا تغنجت بجسدها المليء بكتل الشحم ورفعت ذراعها لتستند به على حافة الباب، منحتها نظرة دونية تعبر عن تأففها منها وهي تكمل ببسمتها الرقيقة:
-ماما جهزت الأكل من بدري عشان آ....


 
عبثت "حمدية" بذيل شعرها الذي يلتف حوله أنشوطة عريضة من اللون الأحمر بشكلٍ صبياني لا يتماشى مع عمرها المتجاوز لمنتصف الأربعينات، ثم رفعت حاجبها الرفيع للأعلى في حركة تعبر عن سخطها، لم تمنحها الفرصة للثرثرة أكثر من ذلك فقاطعتها بسماجة:
-ابلعي لسانك شوية!

تحرجت من ردها غير المقبول واكتست تعبيراتها بالخجل، تحركت زوجة خالها نحوها لتمنعها من الولوج للداخل مشيرة لها بعينيها القاسيتين لتتراجع خطوتين للخلف كتعبير عن رفضها لوجودها، تسمرت قدما "همسة" في مكانها وبقيت متصلبة الجسد محاولة التغلب على الدمعات الخجلة التي تتسلل إلى مقلتيها، فتلك تعد إهانة كبيرة من قبلها وهي لم تفعل ما يسيء، بل على العكس كانت أكثر ذوقًا عنها. أزاحت "حمدية" الغطاء لتنظر إلى ما أحضرته، عبرت تعبيراتها الواجمة، وحركة شفتيها الممتعضة، بالإضافة إلى نظراتها المستاءة عن عدم رضائها، ثم زادت الطين بلة بسؤالها الوقح:
-ده بس اللي أمك طبخته؟


 
ارتبكت "همسة" وهي تجيبها:
-أيوه..
علقت عليها بأسلوب فظ يبعث على النفس الضيق وهي تلقي بالغطاء على الأرضية:
-يا ريتها ما عملت، إيه القرف ده؟ هو احنا بنشحت منكم؟ ده "خليل" طفحان الدم عشان يجيبلكم حاجتكم!
تغللها شعور متعاظم بالإحباط فور أن سمعت ما تفوهت به، خاصة أنها كانت شاهدة على المجهود المبذول من قبل والدتها لتعد ألذ أنواع الطعام وأكثرها شهية، لذا دافعت عنها بغريزية صادقة:
-يا مرات خالي ماما عملتلك كل اللي بتحبيه، وواقفة على رجلها من صباحية ربنا عشان متتأخرش عليكم، تبقى دي أخرتها؟
مطت شفتيها في ازدراء محتقر غير مبالية بدفاعها البائس، رمقتها بنظرة جافية ثم تناولت الصينية وقالت لها بتهكمٍ فج:
-ياما جاب الغراب لأمه!


 
شهقة خافتة مستنكرة انطلقت من بين شفتي "همسة"، احتقنت عيناها بدرجة كبيرة وامتلأتا بالعبرات، شعرت وكأنهما ينفثان نيرانًا حامية، كزت على أسنانها مانعة نفسها من التفوه بأي حماقة حتى لا تتسبب في إحداث مشكلة بين خالها ووالدتها، فالمقيتة زوجة خالتها ربما ستدعي الأكاذيب لتفسد ما بين الأم وابنتها وتوغر صدرها نحوها بأسلوبها الملتوي في قلب الحقائق، أفاقت من التفكير في عواقب ردها على انتفاضة جسدها المباغتة حينما سمعت صوت الصفقة العنيفة لباب المنزل لتشير إلى وقاحتها اللا متناهية وانعدام الذوق لديها، انحنت لتلتقط الغطاء الصغير ثم استقامت واقفة واستدارت للخلف لتمسك بالداربزين حتى تهبط للطابق الأول، تجمدت مصدومة حينما تفاجأت بوجود أختها التي حتمًا تابعت ما دار بينهما من حوار، رأت على تعابيرها حمم الغضب متأججة، اعتلت "فيروزة" درجات السلم لتقف في واجهتها تسألها بنبرة مغتاظة:
-عجبك اللي عملته معاكي وإهانتها لينا؟


 
وضعت "همسة" يدها على ذراعها واستخدمت قوتها لتجذبها للأسفل وهي ترجوها:
-عشان خاطري يا "فيرو"، خلينا نتكلم تحت.
لوحت الأخيرة بيدها صائحة بغضبٍ وعروقها تنتفض من شدة حنقها:
-فكرك أنا خايفة منها العقربة أم أربعة وأربعين دي؟ خليها تطلع وأنا أعرفها مقامها!
توسلتها أختها برجاءٍ أشد وهي تسعى لسحبها معها نحو الأسفل:
-بلاش مشاكل الله يكرمك، بتقلب في الآخر بغم عندنا.


 
استشاطت "فيروزة" غيظًا من أسلوبها الهروبي والسلبي الذي تتخذه مع واحدة بغيضة كتلك، كزت على أسنانها تلومها بحدةٍ:
-ما هي طول ما شيفاكي كده هتطيح فينا زي ما هي عايزة، ومحدش هيقدر يوقفها.
نكست رأسها خزيًا لكونها متخاذلة بالفعل في تلك النوعية من المواقف وعاجزة عن الإتيان بحقها، بينما أكملت "فيروزة" هجومها قائلة:
-لأ وبتقولولي بلاش إنتي تطلعي، طبعًا ما هو لو كانت بتقول الكلام ده ليا كنت سمعتها ما تكره وعرفتها مقامها
لم تستطع "همسة" منع دمعاتها من الانسياب، فبكت أمام أختها التي تضاعف شعورها بالسوء، مالت عليها تسألها بصوتها المحموم:
-إنتي خايفة منها ليه؟

أجابتها بصوتها الباكي مبررة موقفها:
-مش خايفة، بس أنا مش بأحب المشاكل، غصب عني، دي طبيعتي، وأنا مش هاتغير.
حذرتها أختها بلهجة شديدة وقد قست عيناها:
-جُبنك ده هيوقعك في مشاكل يا "همسة"، خليكي فاكرة ده كويس!
كفكفت عبراتها بظهر كفها لترد عليها بصوتها الحزين:
-أنا راضية بحالي كده، يالا بينا
اضطرت "فيروزة" أن تكتم غضبها المندلع بداخلها حتى لا تزيد من إحساسها بالضيق بحديثها الحاد، هبطت الدرجات بخطواتٍ شبه متعجلة لتقف عند أعتاب منزلهما، التفتت تقول لأختها:
-بلاش تعيطي قصاد ماما عشان متسألكيش وهتضطري ساعتها تجاوبي.

هزت رأسها استجابة لنصيحتها الثمينة ومسحت ما علق في أهدابها بأناملها، سألتها في اهتمامٍ:
-كده كويس
ابتسمت لها "فيروزة" وهي تجيبها:
-أيوه..
سحبت "همسة" نفسًا عميقًا أخرجته ببطءٍ من صدرها، ثم نجحت في وضع تلك الابتسامة الزائفة على ثغرها قبل أن تقول كذبًا بنبرة عالية:
-طنط "حمدية" بتشكرك يا ماما على تعبك
تنهدت "آمنة" قائلة بارتياحٍ:
-الحمدلله إن الأكل عجبهم..

ثم أخذت نفسًا ولفظته لتضيف بتعبٍ ملموس عليها:
-هاخش أوضتي أنام شوية، لأحسن مش قادرة من عضمي، الأكل عندكم يا بنات.
قالت "همسة" في امتنانٍ:
-تسلمي يا ماما، ارتاحي إنتي
كتفت "فيروزة" ساعديها وهي تتأمل المشهد المحبط بكافة المقاييس، الكل يدعي رضائه بالوضع وهي وحدها من تقاوم استغلال الآخرين واستغفالهم، لم تتقبل تلك التمثيلية السخيفة وانسحبت لتنزوي في غرفتها وقد فقدت شهيتها لتناول أي شيء.

بكل حيوية ونشاط وخفقات قلب غير هادئة لفت تلك الشابة التي تجاوز عمرها منتصف العشرينات بقليل حجابها المزركش حول رأسها، أخفت خصلة متمردة تأبى الانصياع مع مثيلاتها. قامت "خلود" بقرص خديها بإصبعيها لتلهب بشرتها قليلاً فيظن من يتطلع إليها أن وجنتيها يكسوها حمرة طبيعية مغرية، لم تبالغ في وضع مساحيق التجميل أو حتى أحمر الشفاه، اكتفت بمسحة خفيفة من (زبدة الكاكاو) ذات اللون الكريمي لترطب شفتيها. لم تنتبه تلك الشابة ذات العينين العسليتين إلى والدتها "بثينة" التي استندت بكفها على باب الغرفة تتأملها في صمت وضيق، فمن هم في مثل عمرها حظين بزوجٍ وعدة أبناء، أما خاصتها فرفضت الارتباط بغيره رغم سنواته الضائعة في الحبس، بقيت وافية على عهدها معه.

تذكرت "بثينة" تلك اللحظة المميزة التي نضج فيها جسد ابنتها وأعلن عن بزوغ فجر أنوثته، حينها اقترن اسمها بزوج المستقبل وابن أختها "تميم"، توقفت عن إكمال تعليمها بحصولها على شهادة التعليم الثانوي بعد رسوبها لعامين متعاقبين، وهيأت نفسها للزواج منه بعد خطوبة استمرت لبضعة أشهر، لكن تلك المشاجرة الدامية في سوق الجملة أفسدت كل شيء وأطاحت بمخططاتها الوردية، حيث زج به في السجن وحكم عليه بالحبس لمدة عشر سنوات، وقضى منهم سبعًا.

آنذاك رفضت "خلود" التخلي عنه لتقترب من العنوسة بإصرارها عليه. لم ينتقص حبها له ولو بمقدارٍ ضئيل، بل على العكس حاولت إسعاده بشتى الطرق حينما تذهب لزيارته مع العائلة بالرغم من تذمره وانزعاجه من قدومها لذلك المكان غير الملائم، واليوم فرحتها لا توصف لذهابها معهم لاستقباله بعد السماح بخروجه ضمن المجموعة المُفرج عنهم بعفوٍ مشروط قبل انتهاء مدتهم كاملة، التفتت لتجد أمها مسلطة لبصرها عليها، سألتها في لهفةٍ:
-ها كده شكلي حلو؟

أجابتها بتنهيدة شبه مطولة مبدية اعتراضها:
-أيوه يا "خلود"، بس مكانش ليه لازمة إنك تروحي معاهم، جايز أبوه يضايق ولا......
قاطعتها بعبوسٍ منزعج:
-أنا خطيبة ابنه يا ماما، وكلها كام يوم بعد ما "تميم" يشم نفسه وأبقى مراته، يعني لا أنا غريبة ولا مش من العيلة
أشارت لها والدتها بعينيها تؤكد عليها:
-عمومًا لو حد ضايقك ماتسكتيش، إنتي بنت "بثينة"، وألف مين يتمناكي، ولولا بس أنا شيفاكي متعلقة بيه كنت فركشت الجوازة دي من يوم ما اتحبس
ردت عليها باحتجاجٍ منفعل:
-يا ماما أنا بأحبه، روحي فيه، ماتخيلتش نفسي مع حد تاني غيره.

قالت من بين شفتيها في لمحةٍ تهكمية:
-يا ريت يكون زيك، والسجن مغيروش.
علقت عن ثقةٍ كبيرة:
-أنا عارفة "تميم" كويس، قلبه ميال ناحيتي وبيحبني!
وقبل أن تنغص عليها نهارها بالمزيد من الاعتراضات عادت "خلود" لتبتسم وهي تقول لوالدتها:
-أنا هالحق أروح لجوز خالتي عشان متأخرش عليهم، سلام يا قمر.
رمقتها "بثينة" بنظرة غير راضية من عينيها، لم تسعَ لإخفاء ضيقها عنها، ف "تميم" بالنسبة لها قد أفسد على ابنتها الكثير من الفرص الرائعة بتمسكها غير المستساغ به.

اشرأبت بعنقها وشبت على قدميها لتنظر بتركيز إلى السيارات القادمة من أول الطريق علها تلمح خاصتها، فعلى حسب الميعاد المتفق عليه فإن اليوم هو تاريخ تسلمها لعربة الطعام القابلة للجر، تلك التي ستكون نقطة البداية لانطلاق مشروعها لجني الأموال عن طريق بيع المأكولات البسيطة الجاهزة كالسندوتشات وسلطة الفواكه بأسعارٍ شبه رمزية.

استطاعت بعد عناءٍ أن تتدبر النقود اللازمة لشرائها بعد اشتراكها مع شقيقتها في جمعية شهرية مع بعض رفقاء الكلية ممن ما زالوا على صلة بهما. استغلت "فيروزة" فرصة ذهاب والدتها لشراء الخضراوات من السوق القريب -كعادتها في ذلك اليوم من كل أسبوع- ليكون يوم استلامها، وما ساعد على زيادة شعورها بالاطمئنان والارتياح سفر خالها مع زوجته وأبنائه في مأمورية عمل تخص الأول، انتظرت على أحر من الجمر وصول سيارة النقل. تطلعت كل بضعة ثوانٍ لشاشة هاتفها في لزمة متوترة منها لربما يردها الاتصال من مسئول الشحن. كانت أختها تقف إلى جوارها تثرثر بلا توقفٍ، ومع هذا لم تنتبه لها، كان كامل اهتمامها منصبًا على الطريق. صاحت "همسة" عاليًا بعد أن ضجرت من تجاهلها غير المكترث بها:
-يا "فيروزة" إنتي مش سمعاني؟

التفتت نحوها وهي تنفخ في ضيقٍ، ثم ردت بإيجاز:
-أيوه سمعاكي، خير؟
سألتها في قلقٍ وهي تعيد إزاحة خصلات شعرها المتناثرة بفعل الهواء خلف أذنيها:
-دلوقتي ماما هتقول إيه لما تشوف العربية هنا؟ وخالك أكيد هيقلب الدنيا!
ردت بلهجة جافة:
-أنا هاقنعها متقلقيش، وخالك فكك منه، طالما ماما راضية يبقى خلاص.

اقشعر بدنها من البرودة المنتشرة في الأجواء، فشبكت ذراعيها وضمتهما إلى صدرها علها تدفء نفسها، ارتجفت نبرتها قليلاً حينما أضافت بنفس التوجس السائد عليها:
-مش مطمنة يا "فيرو"، حاسة إننا هنفتح على نفسنا فاتوحة إحنا مش أدها.
رمقتها "فيروزة" بنظرة جامدة من طرف عينها دون أن ترد، لم يؤثر بها خوفها ولا نصائحها المبالغ فيها بالتراجع عن ذلك المشروع الذي فكرت فيه عشرات المرات واضعة الخطط اللازمة لدراسته قبل تنفيذه على أرض الواقع، لن تتراجع عنه الآن بعد أن أوشكت على تحقيقه. لمحت إحدى سيارات النقل الصغيرة وهي تنعطف نحو منزلهما فهتفت بحماسٍ لاكزة شقيقتها في جانبها:
-شكل العربية جت.

التفتت "همسة" تنظر في اتجاه السيارة وعيناها متسعتان على الأخير، فعربة الطعام التي تحملها كانت نوعًا ما كبيرة الحجم ولافتة للأنظار بالرغم من لون الطلاء الأسود الطاغي عليها، لوحت "فيروزة" بيدها لسائق السيارة ليتوقف أمام الرصيف المقابل لمدخل المنزل، وترجل منها رجلان ليحلا وثاق العربة المربوطة بالأحبال الغليظة، أنزلاها بحذرٍ على الرصيف، شكرتهما "فيروزة" على تعبهما ومنحتهما المبلغ المتفق عليه لنقلها وتحميلها، انتظرت حتى انصرفا لتدور حول العربة تتفحصها بتلهفٍ واهتمامٍ مضاعفين، رفعت عينيها لتنظر إلى "همسة" متسائلة:
-ها إيه رأيك فيها؟

أجابتها بإعجابٍ بادٍ على تعبيراتها وعينيها:
-شكلها تحفة.
تلمست "فيروزة" كل جزءٍ في العربة وقلبها يخفق في سعادة، ها هي تخطو بثباتٍ نحو تحقيق حلمها بإثبات الذات، شردت لوهلةٍ تتخيل إقبال الناس عليها لشراء الطعام الشهي ومدحهم لمذاقه ونجاحهم في جني الأرباح الكثيرة لتنتقل بعدها لخطوة أخرى هامة وهي امتلاك محل خاص بها كنوعٍ من التوسع في الأعمال، وجدت نفسها تبتسم تلقائيًا مع تعمق أحلامها المثمرة، انتشلتها "همسة" من تحليقها الوردي في سماء الأحلام بسؤالها:
-هنحطها فين؟

حكت طرف ذقنها بيدها قبل أن تجيبها مقترحة:
-إيه رأيك لو سيبناها مؤقتًا ورا البيت.
-ماشي.
بدت فكرة جيدة لوضعها به حتى ترتب كلتاهما أوضاعهما، لذا قامت الاثنتان بدفع العربة ذات العجلات الأربع للأمام وقاما بإدخالها لباحة المنزل الخلفية، حيث تحتفظ العائلة بمعظم الكراكيب القديمة والأدوات غير المستخدمة. نفضت "فيروزة" يديها والتفتت قائلة لأختها بلهجة شبه آمرة:
-مش عاوزين نضيع وقت، هاتي حتة قديمة نلمعها بيها، وأنا هاروح أجهز الحلل والأطباق اللي هنحطها جواها.

هزت "همسة" رأسها بالإيجاب وأسرعت ركضًا للمنزل لتنفذ ما أمرتها به، وقفت الأولى تتأمل حلمها الذي بات وشيكًا من التحقيق بحماسٍ واستعدادٍ كبير، هي ستبدأ بإمكانات ضئيلة، لكنها واثقة أن أعمالها ستتسع بمرور الوقت، وأثناء سعيها الدوؤب ستخوض معاركًا جمة مع الأقربين أولاً قبل الغرباء لتثبت كفاءتها في إدارة مشروعها الصغير.

-يا لهوي! إيه اللي أنا شيفاه ده؟!
رددت "آمنة" تلك الكلمات المصدومة وهي تلطم على صدرها في قوةٍ حينما أطلعتها "فيروزة" على ما تنتوي فعله وأبصرت بعينيها تلك العربة لتؤكد لها على عدم عدم تراجعها عن إتمامه، انتابتها حالة من الخوف والانزعاج لجرأتها، وبالرغم من المبررات المنطقية التي حاولت إقناعها بها ومن التسهيلات التي ستقوم بها لتضمن تحقيق النجاح إلا أنها أبت الإصغاء إليها وأصرت على رفضها دون نقاش، انسحبت من باحة المنزل الخلفية مستديرة بجسدها، لحقت بها ابنتها لتعترض طريقها فأجبرتها على التوقف، التقطت أنفاسها وهي ترجوها:
-طب هي مش عجباكي ليه؟

ردت مستنكرة بلهجةٍ يشوبها الانفعال:
-هو في حد عاقل يوافق على الجنان اللي بتقوليه ده؟ بقى على آخر الزمن عاوزة تقفي تبيعي في الشارع يا "فيروزة"، لأ وبتجري أختك معاكي، أل هي ناقصة فضايح وقلة قيمة!
زوت ما بين حاجبيها مرددة في تساؤلٍ متعجبٍ:
-وإيه المانع يا ماما؟
احتدت نظراتها نحوها تلومها:
-المانع؟؟ إنتي مش شايفة نفسك غلطانة؟

ردت ببرودٍ مدافعة عما تريد:
-غلطانة في إيه طيب؟ أنا عاملة مشروع زي أي حد ما بيعمل، فكرته بسيطة، هانطبخ ونبيع الأكل للناس ونكسب منه، وبعدين هنقف هنا على الكورنيش جمب البيت بكام متر، يعني حضرتك يا ماما تقدري تشوفينا من الشباك أو حتى تقفي معانا.
هزت رأسها محتجة وهي تعقب عليها:
-برضوه مش موافقة، وخالك لما هيعرف هيبهدلنا، وأنا مش ناقصاه!!

هنا خرجت "فيروزة" عن حالة الهدوء الزائفة لتقول بتشنجٍ:
-إنتو ليه محسسني إني بأتاجر في المخدرات؟ زمايلي كلهم بيعملوا مشاريع زي كده، ونجحوا وأثبتوا نفسهم ومحدش قالهم لأ، اشمعنى أنا؟
أجابتها ببساطة:
-لأنك بنت.

تشنج جسدها أكثر من ردها الذي بدا من وجهة نظرها مستفزًا، وقبل أن تختنق شرايينها بدمائها الفائرة لطفت والدتها من الأمر علها تتخلى عن فكرتها المتهورة فاستعطفتها:
-يا ماما، عشان خاطري، افهميني، أنا زهقت من أعدة البيت وعاوزة أعمل حاجة مفيدة، وأنا درست الموضوع كويس، وبعدين هنقدر نحوش فلوس عشان لما نتجوز.
ردت عليها أمها تحذرها في عصبيةٍ:
-أنا مقصرتش معاكو في حاجة! بلاش تجروا رجلينا للمشاكل.

قالت بإصرارٍ:
-مافيش مشاكل إن شاء الله
-برضوه راكبة دماغك؟
لجأت لإقناعها أكثر بهدوءٍ ومنطقية موضحة لها:
-احنا عارفين ده كويس، بس الحياة غالية، والمصاريف كل مدى بتزيد، ومعاش بابا الله يرحمه مش مكفي مع الريع اللي بيطلعلك من أرضك، افرضي حصل حاجة وحشة لا قدر الله، هانجيب فلوس منين؟ وخالنا يدوب مكفي بيته وعياله، ولا نسيتي يا ماما اللي حصل أيام موضوع البيت؟!

ضغطت "آمنة" على شفتيها في ضيقٍ ممتعض، فما تتفوه به حقيقة مفروغ منها وإن أنكرتها، هي لا تملك من الأموال ما قد يغطي أي ضائقة مالية طارئة قد تحدث، وأخيها ليس بالخيار الأفضل لتقديم المساعدة، سرحت تفكر في لجوئها له قبل بضعة سنوات، تذكرت مساومته لها في شراء حصة بالمنزل الذي تركه لها زوجها بعد أن تعذر عليها سداد الأقساط الأخيرة لوفاته المفاجئة مقابل تسديده لهم، وبالرغم من التعويض المادي الذي تلقته إلا أنه لم يكن كافيًا لدفع باقي المستحقات. أدركت "فيروزة" من سكوت والدتها أنها ربما تعيد التفكير في الأمر، ظنت أن الفرصة مناسبة للضغط عليها وتليين رأسها المتيبس حتى تحظى بموافقتها، تلمس ذراعها بيدها تتوسلها:
-صدقيني يا ماما، مافيش منها أي ضرر، ولو حصل منها مشكلة أنا بنفسي هالغيها.

زمت أمها شفتيها متسائلة في قلقٍ بائن على تعبيرات وجهها المرهقة:
-طب وخالك؟
تشكلت ابتسامة لطيفة على محياها وهي تقول بنبرة ذات مغزى:
-البركة فيكي إنتي يا حبيبتي.

رددت الأخيرة في استسلامٍ وقد رضخت تقريبًا للأمر الواقع أمام عناد ابنتها:
-أنا مش عارفة إنتي ناوية تعملي فيا إيه؟!
احتضنتها "فيروزة" في عاطفةٍ ومحبة بعد أن فطنت لموافقتها الضمنية، شدت من ضمها لها لتغرق في أحضانها الآمنة قائلة لها:
-كل خير يا ماما.
أغمضت عينيها لتستمتع بانتصارها الذي ظفرت به بعد صعوبة، تبقى لها أن تثبت لوالدتها أنها كانت جديرة بثقتها.

تجمدت الأعين المشتاقة على البوابة الحديدية السميكة، خاصة عيناها اللاتين تتوهجان في حبٍ، سيطرت بصعوبة على مشاعرها المتحمسة لرؤيته، فلو كانت بمفردها لأخذته في أحضانها وارتوت من حبه الذي حرمت منه، كم حلمت بتلك اللحظة التي سينال فيها حريته لتكتمل بوجوده سعادتها! همهمات خافتة متداخلة صدرت من أفواههم وقد فتح الباب الصغير الجانبي ليخرج منه الغائب المنتظر، فرحة عامرة سيطرت عليهم وتحركوا مقبلين عليه. رفع "تميم" عينيه للأعلى ليجد والده، وجده، وزوج أخته، بالإضافة إلى "خلود" ينتظرونه بالخارج أمام سيارتين تخص العائلة، على الفور تحرك أباه نحوه فاتحًا ذراعيه له، ارتمى ابنه في أحضانه يضمه بشوقٍ وحب، ردد "بدير" مرحبًا بفلذة كبده الغالي:
-حمدلله على السلامة يا ابني.

رد عليه "تميم" بصوته الأجش وهو يتراجع للخلف دون أن تترك قبضتاه ذراعيه:
-الله يسلمك يا حاج.
حرره ليذهب إلى جده الذي اتكأ على عكازه ليكون حاضرًا في تلك اللحظة الهامة حينما يلتقيه، انحنى عليه يقبل كفه المجعد يشكره في امتنانٍ واضح:
-جاي بنفسك يا جدي؟
ربت "سلطان" على كتفه قائلاً له:
-معندناش أغلى منك يا "تميم".
استقام في وقفته مقبلاً أعلى رأسه في تهذيبٍ، ثم أضاف ببسمة صغيرة:
-الله يديمك فوق راسنا يا كبير العيلة.

ربتة أخرى تلقاها كتفه منه، ثم استدار ليصافح "محرز" الذي صاح يحييه:
-كفارة يا ابن ولاد الأصول، غيبتك طولت عليا والله.
رد مجاملاً:
-تُشكر يا "محرز"، كله بيعدي، وأديني رجعتلكم.
علق مبتسمًا بتكلفٍ:
-تنور مكانك يا "تميم"، والله لا يعودها الأيام الغابرة دي تاني، أكيد إنت عقلت وعرفت إن مافيش حاجة تستاهل.

بدا وجهه جادًا للغاية بعد كلماته الحمقاء، رمقه "تميم" بنظرة نارية وهو يرد عن قصدٍ وبخشونةٍ بائنة:
-لأ تستاهل يا "محرز" وخصوصًا مع الأشكال الضالة وولاد الحرام، أنا فدا الحاج وجدي وأي حد يمس شعرة من عيلتي!
شعر زوج أخته بجفافٍ عنيف يصيب حلقه، اهتزت ابتسامته واضطربت حركة عيناه وهو يرد في حرجٍ كمحاولة بائسة في إصلاح ما أفسده لسانه:
-أكيد طبعًا، كله إلا عيلة الحاج "سلطان".

تحولت عينا "تميم" عنه لتتجه إلى تلك الجميلة التي احتضنت باقة ورد صغيرة بين ذراعيها، رأى في ملامحها بهجة وإشراقة يحسده عليها الرجال، مدت "خلود" يدها بها نحوه وهي تقول باشتياقٍ محسوس في صوتها وظاهر في تعبيراتها ولهفة نظراتها:
-حمدلله على سلامتك، أنا مش مصدقة إن الأيام عدت، الحمدلله إنك رجعتلنا وبقيت في وسطنا.
لم يبادلها نفس النظرات المتلهفة، بل نظر إلى باقة الورد بازدراءٍ، ولم تتحرك يده لأخذه مما أحرجها بشدة، سحبت "خلود" يدها للخلف وقد تسلل إليها إحساسًا مزعجًا بالارتباك الممزوج بالضيق من أسلوب معاملته غير الحميمي معها، شعرت بالإحباط والصدمة حينما سألها بجفاءٍ وجمود:
-جيتي ليه؟

وخزة مؤلمة عصفت بصدرها من قسوة كلماته المثبطة لأي فرحة تبزغ في قلبها، كادت أن تبكي وبدأت العبرات في التجمع في مقلتيها تأثرًا بما انتابها من حزنٍ مباغت، خرج صوتها إلى حد ما مهتزًا وهي تجيبه:
-ده أنا مستنية اليوم ده من زمان.
رد بنفس النبرة الجافية:
-كنتي أعدتي في بيتك أحسن، مش كتر مشاوير والسلام.

باتت قاب قوسين أو أدنى من البكاء علنًا لقسوته غير المفهومة معها، زاد انقباض قلبها كما لو كان قد غرز به سكينًا تلمًا، اغرورقت عيناها بالعبرات الكثيفة، واشتعل وجهها بحمرةٍ حرجة. استياءٌ محبط تغلغل في كيانها مع إشاحته لوجهه بعيدًا عنها وكأنها نكرة مشاعرها لا تعنيه في شيء، تابعته بعينين منكسرتين وهو يلتهي بالحديث مع عائلته لتشعر بكونها ضيفًا غير مرحب به بينهم، تهدل ذراعاها وارتخت أصابعها عن باقة الورد لتسقط على الرصيف، تركتها وسارت بخطواتٍ بطيئة نسبيًا تتبع زوج خالتها حتى وصلت للسيارة، لم تتفوه بكلمة واحدة مبتلعة مرارة الحزن في حلقها، حتى عينيها بقيتا بعيدتين عن وجهه الذي كانت تحترق شوقًا لتأمله، جلست بالمقعد الخلفي مركزة أنظارها على الطريق والشكوك تساورها بشأن استمرار حبه لها ...!!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة الثالثة بقلم منال سالم



استندت بوجهها على كفها وهي تتطلع بشرودٍ حزين إلى حركة الجيران بمنطقتها الشعبية من خلال نافذتها، وعلى الرغم من الصخب المزعج المنتشر في وقت الظهيرة إلا أنها كانت معزولة عنه بانخراطها في همومها، تركت لدمعاتها المختنقة العنان لتنساب على وجنتيها، كان صدرها مختنقًا على الأخير، ما زال طيف لقائها معه بعد تلك الغيبة يؤلمها، قدم لها الخيال هاجسًا مخيفًا بأنها باتت مفروضة عليه، وحبها له من طرف واحد، بالرغم من كونها لا تعرف سواه، ولم تعشق غيره، لكنه كان منذ الوهلة الأولى بعد ذلك البُعد القاسي غامضًا معها .. نادت عليها والدتها عدة مرات فلم تنتبه لها مما حث الأخيرة على الاقتراب منها وهزها بضيقٍ، اعتدلت "خلود" في وقفتها المنحنية قليلاً لتنظر إلى والدتها باستغرابٍ، مسحت ما علق في أهدابها من عبراتٍ لتسألها:
-في إيه يا ماما؟


 
أجابتها بوجهٍ مكفهر وصوت يعكس ضيقها:
-بنادي عليكي وإنتي ولا سمعاني!
ردت بزفيرٍ بطيء:
-معلش.. مخدتش بالي.
دققت "بثينة" النظر في وجه ابنتها الذابل، لم تكن بالساذجة لتفهم وجود خطب ما، سألتها بجديةٍ تنم عن قوة وحاجباها معقودان:
-"خلود"، بقالك يومين مش زي تملي، في حد ضايقك؟ قوليلي وأنا أتصرف.
ظهر ترددها وهي تجيبها باقتضابٍ:
-لأ .. مافيش.


 
سألتها مباشرة وكامل نظراتها مثبتة عليها:
-"تميم" عملك حاجة؟
للحظة توترت من سؤالها الملبك لحواسها، أجابت دون أن تنظر في عينيها حتى لا تلاحظ كذبها:
-لأ.
كانت غير مقتنعة بردها، ومع ذلك قالت لها:
-طب جهزي نفسك عشان تروحي من بدري لخالتك تساعديها في عزومة العشا بتاعة النهاردة.


 
عبثت "خلود" بأصابع يدها في ارتباكٍ، فكيف ستخبرها أنها غير راغبة في الذهاب إلى هناك وجرح كبريائها أكثر من ذلك بتلقي المزيد من قساوة "تميم"، ما زالت مستاءة منه، ولم يخف حزنها، ضغطت على شفتيها تعتذر بصوتٍ مهتز وعيناها تتحركان في توترٍ:
-أنا أصلي.. مش.. رايحة
علقت مصدومة مما نطقت به:
-نعم؟ بتقولي إيه؟

تعللت مدعية كذبًا:
-جسمي واجعني و.. مش هاقدر أقف كتير، خايفة أدوخ وأتعب.. خليني أروح مرة تانية.
زمت والدتها شفتيها في عدم اقتناعٍ وهي تعقب عليها:
-غريبة! مع إنك كنتي بتزني عليا عشان تروحي.
غامت عيناها وهي ترد:
-مكونتش أعرف إني هاتعب
استدارت "بثينة" برأسها للخلف حينما سمعت صوت الجرس، عادت لتنظر إلى ابنتها وهي تهم بالتحرك:
-أنا هاروح أشوف مين بيخبط.


 
أومأت برأسها بهزة بسيطة والتفتت تتطلع من نافذتها للزحام المتواجد بالأسفل، سحبت "خلود" أنفاسًا عميقة تخفف بها تلك الغصة المؤلمة الموجودة بصدرها، أتاها صوت والدتها من خلفها وهي تقول لها بابتسامة ماكرة وعيناها تبرقان بوميضٍ غريب:
-في ضيف جايلك برا يا حلوة.
أدارت رأسها ببطءٍ نحوها لتسألها:
-ضيف؟ مين ده؟

هزت "بثينة" كتفيها في دلال مصطنع قبل أن تجيبها بابتسامتها اللئيمة:
-"تميم" يا عين أمك!
خفق قلب "خلود" بقوة لمجرد سماعها اسمه، في لحظة واحدة تلاشت جميع أحزانها ومُحيت كل همومها، أشرقت ملامحها وتوهجت نظراتها بوهج الحب. اضطربت أنفاسها حينما رددت:
-"ت..تميم"!
قالت في خبث:
-أه ياختي "تميم".


 
تملكتها حالة من الارتباك والحيرة، دارت حول نفسها غير مصدقة أنه قد جاء إليها، وقفت أمام المرآة لتضبط هيئتها سريعًا وتمسح ما تبقى من دمعاتها، قرصت خديها بأناملها وهي تتساءل في تلهفٍ مضاعف:
-شكلي مظبوط يا ماما؟
علقت عليها ساخرة:
-عجايب! اللي يشوفك من شوية مايشوفكيش دلوقتي!

نثرت "خلود" عطرها على بلوزتها الخضراء، وهندمت ياقتها ثم أرخت طرفي حجابها الأبيض وراء ظهرها، سحبت شهيقًا عميقًا تهدئ به دقات قلبها المتسارعة، وقفت قبالة والدتها ترجوها:
-ادعيلي ياماما.
قالت لها بوجهٍ عابس غير راضٍ عن تصرفاتها:
-بأدعيلك، بس إنتي اركزي كده.


 
وكأنها لم تصغِ لها حيث خرجت من غرفتها مهرولة نحو الصالة، لمحته جالسًا عند الزاوية يحرق صدره بسجائره، رمشت بعينيها غير مصدقة أنه جاء لرؤيتها، أحست بالسعادة تغمرها من جديد فتذيب الأوجاع التي أثقلت قلبها، لكنها أرادت معاتبته على خشونته معها، لذا تباطأت عن عمدٍ في خطواتها وهي تقترب منه. أطفأ "تميم" سيجارته وقد لمحها مقبلة نحوه، نهض لمصافحتها فرفضت مد يدها نحوه وكتفت ساعديها أمام صدرها لترد له ما فعله معها حينما قدمت له باقة الورد، رمقها بنظرة حادة أربكتها، ثم سألها لها:
-دي حمدلله على السلامة بتاعتك؟

على الفور تخلت عن قناع الجمود الزائف الذي ارتدته لتعتذر منه في ندمٍ وقد تهدل كتفاها وارتخى ذراعاها:
-حقك عليا يا "تميم"، أنا مقصدش.
ثم لعقت شفتيها بطرف لسانها قبل أن تضيف بمرارة:
-بس إنت وجعتني باللي عملته معايا قصاد أهلك!
رد عليها دون مراوغةٍ:
-عشان الورد؟


 
أدمعت عيناها وقد تجسد المشهد في مخيلتها، رأى "تميم" عبراتها تتجمع فشعر بوخزة تؤلم حلقه، لم يحبذ أبدًا تلك النوعية من الرومانسيات العلنية، هو غيرها لا يستطيع التعبير عن مشاعره أمام الآخرين، يحتاج لنوعٍ من الخصوصية ليبوح بمكنونات قلبه، أخرج زفيرًا عميقًا من جوفه ثم جلس على الأريكة ليقول لها:
-بصي يا بنت الناس، خليني أكون واضح معاكي..

قضم باقي حديثه ريثما تجلس، ثم استأنف قائلاً بنفس اللهجة الجادة:
-الأيام السودة اللي أنا عيشتها في السجن غيرتني كتير، طول اليوم مع مجرمين وأشكال بنت...، فمش بالساهل تلاقيني "تميم" بتاع زمان، أنا محتاج وقت عشان أعرف أتعامل مع الناس عادي، وخصوصًا خطيبتي، تصرفاتي شوية ممكن متعجبكيش، بس اديني وقتي!

امتدت يداها نحوه لتمسك بكفيه، مسحت عليهما برفقٍ وقد حدقت في عينيه بنظرات هائمة، خرج صوتها محملا بتنهيدات العشق وهي تقول:
-حبيبي، خد كل الوقت اللي إنت عاوزه، أنا مش مستعجلة، بس ماتقساش عليا، أنا بأحبك، وبأموت في التراب اللي بتمشي عليه.
تنحنح بصوتٍ خافت قبل أن يسحب كفيه من بين أناملها الناعمة، استقام في جلسته مرددًا:
-أنا جاي بنفسي أخدك للعزومة.

هللت غير مصدقة وهالة سحرية من الحب تحاوط وجهها:
-بجد يا "تميم"؟
رد بغلظةٍ طفيفة:
-أكيد مش بأهزر يعني! قومي جهزي نفسك، مش عاوز أتأخر.
نهضت واقفة وهي ترد في انصياع كامل:
-على طول يا حبيبي..
همَّت بالتحرك لكنها التفتت برأسها نحوه لتضيف في رقةٍ وقد ضج وجهها بتوردٍ دافئ:
-تعرف أنا كنت لسه بأقول لماما إني لازم أروح لخالتي من بدري عشان أساعدها، وهي و"هيثم" يروحوا براحتهم، برضوه هي محتاجة حد يقف معاها.

تقوست شفتاه عن ابتسامة صغيرة ممتنة وهو يدس بينهما سيجارة أخرى يوشك على إشعالها، رمقته "خلود" بنظرات أكثر عشقًا قبل أن توليه ظهرها لتسرع في خطواتها عائدة إلى غرفتها حتى تكمل ارتداء ثيابها. استوقفتها والدتها متسائلة بتهكمٍ:
-التعب راح خلاص؟
انفرج ثغرها عن بسمة متسعة مليئة بالفرحة، مالت نحو والدتها تحتضنها وتقبلها من وجنتيها وهي تهتف في ابتهاج:
-أنا بأحبك أوي يا ماما.
علقت عليها بنبرة ساخرة:
-خلي الحب لناسه ياختي!

لا تعرف كيف وافقت ببساطة على جنونها المُسبب للفت الأنظار وجلست على مقعد بلاستيكي إلى جوار عربة الطعام الجاهز لتراقب بقلقٍ غريزي ما تفعله ابنتاها مع الزبائن. في البداية كان الوضع هادئًا بالرغم من اختيار الأختين ليوم الخميس لافتتاح مشروعهما حيث بداية العطلة الأسبوعية وخروج المواطنين للاستمتاع بالأجواء الشتوية، انزعجت قليلاً من شرائط الأنوار الجاذبة للأنظار التي حاوطت مقدمة العربة لتجذب الأعين نحوها، أشاحت ببصرها عن إضاءتها لتضم شالها الصوفي على عنقها حتى تستعيد إحساس الدفء المفقود في ذلك المكان الفسيح..

أعدت "همسة" السندوتشات الخفيفة وأضافت لها نكهات مميزة لتعطيها مذاقًا مختلفًا وأيضًا حريفًا إن طلب أحدهم طعمًا لاذعًا وحارًا، في حين تولت "فيروزة" تلقي الطلبات وتغليف الطعام فور الانتهاء منه. نهضت "آمنة" من مكانها لتذهب إلى ابنتيها بعد أن ضجرت من المكوث مطولاً بمفردها دون أن تقوم بشيءٍ مفيد، ناهيك عن تيار الهواء البارد الذي أرهق جسدها.

وقفت تتطلع إلى الاثنتين الواقفتين خلف نافذة موجودة في العربة، كلتاهما ترتدي كنزة سوداء ثقيلة مطبوعٌ عليها نقوشات شتوية، ويرفعان شعرهما للأعلى ويلفان حوله منديلاً للرأس من اللون الأسود يزينه ورودًا ملونة حتى لا تتساقط أيًا من خصلاته في الطعام أثناء إعداده، تأملتهما بابتسامةٍ لطيفة سرعان ما تلاشت لتسألهما بنفاذ صبرٍ:
-هو احنا هنفضل أعدين كده لحد امتى؟

ردت عليها "فيروزة" بملامح جادة:
-لسه بدري يا ماما، الناس بتسهر للصبح.
قالت والدتها بتذمرٍ وهي تسحب شالها على كتفيها المرتعشين:
-بس أنا البرد نخر في عضمي وتعبني.
اقترحت عليها "همسة" بلطفٍ وهي تبتسم لها:
-تقدري يا ماما تطلعي تريحي، كتر خيرك واقفة معانا من بدري، واحنا كمان شوية هنقفل ونرجع البيت.
اعترضت عليها بشدة:
-وأسيبكم لوحدكم في الطل؟

صححت لها "فيروزة" عبارتها مستخدمة يدها وعينيها في الإشارة:
-طل إيه بس، ده الدنيا زحمة أهي.
انكمشت "آمنة" على نفسها من التيارات الهوائية الباردة التي تضرب وجهها، وقالت في ضيقٍ:
-أنا مش مرتاحة.
استندت "فيروزة" بكفيها على حافة النافذة لتتمكن من الانحناء نحوها، ثم ردت عليها بهدوءٍ علها تخفف من وطأة خوفها الزائد:
-يا ماما متخافيش، أديكي موجودة معانا من بدري ومافيش حاجة حصلت، الناس رايحة جاية وكل حاجة تمام التمام.

حركت رأسها للجانب قبل أن ترد عليها:
-قلبي متوغوش، وبعدين كل فين وفين لما حد يجي ناحيتكم
بررت لها عزوف الزبائن عن القدوم قائلة بمنطقية:
-ما هما لسه ميعرفوناش، بكرة لما الكل يدوق أكلنا هنبقى مش ملاحقين على الطلبات ولا الزباين.
-أما نشوف
قالتها وهي تجرجر ساقيها نحو مقعدها الموضوع بجوار العربة، في حين تساءلت "همسة" في اهتمامٍ وهي تحاول أن تطل برأسها من النافذة لتنظر إليها أكثر:
-هاتعملي إيه يا ماما؟

ألقت بثقل جسدها المنهك على المقعد لتجيبها بعدها:
-هاقعد في مكاني، ما أنا مش هاسيبكم لوحدكم.
سألتها مبتسمة:
-طيب أعملك سندوتش؟
ردت بوجهٍ متقلص ونظراتٍ متنمرة:
-لأ مش عاوزة.. ربنا يسهل وتفضوا المولد ده خلينا نرجع بيتنا.

كظمت "فيروزة" غيظها من أسلوبها المنفر والمثبط للعزائم لتقول بصوتٍ خفيض وهي تكز على أسنانها:
-شايفة الإحباط؟
همست لها أختها وهي تسحب السكين من موضعه:
-احمدي ربنا إنها وافقت أصلاً، مش أحسن ما كانت حطتلنا العقدة في المنشار ولا عرفنا نعمل حاجة.
قالت بتكشيرة جانبية على شفتيها:
-على رأيك، الحكاية مش ناقصة عكوسات!

أمرتها "همسة" بجديةٍ وهي ترص قطع اللحم في المقلاة المليئة بالزيت المتأجج على النيران:
-قطعي يالا الطماطم والخس، عشان لو حد جه طلب أوردر ما يقفش كتير.
رفعت "فيروزة" يديها للأعلى مرددة بنبرة عالية:
-ارزقنا من عندك يا رب!

شمر عن ساعديه وقام بثني كمي جلبابه ليتحرر ذراعاه ويستطيع مدهما بأريحية أثناء تناوله للطعام خلال المأدبة التي دعا إليها أفراد عائلته احتفاءً بخروج حفيده الغالي من محبسه. شطر "سلطان" الدجاجة المطهية أمامه إلى نصفين؛ وضع إحداهما في صحنه واستطال ذراعه ليصل إلى حفيده الجالس على ميمنته بجوار ابنه، أسندها في طبقه قائلاً له بصيغة آمرة:
-عاوزك تخلص الأكل ده كله.

رد عليه "تميم" مازحًا:
-أوامرك يا جدي، هنسفهالك
بادله جده ابتسامة راضية قبل أن تتحول أنظاره نحو "ونيسة" التي أمسكت بالمعلقة الكبيرة لتسكب بها الحساء الذي تُجيد إعداده بوصفة خاصة بها في طبقه وهي تقول:
-دوق يابا الحاج وقولي رأيك.
مد معلقته به وسحب القليل منه ليرتشفه ثم أردف في استحسانٍ:
-تسلم إيدك.

انتفخت عروقها تباهيًا برأيه الذي يضاعف من فخرها بمهاراتها في الطهي، وشرعت توزع على باقي الجالسين مستعينة بابنة أختها لتساعدها في تقديم الطعام لضيوفها، خاصة وأن ابنتها "هاجر" تعاني من آلام الحمل المعتادة في تلك الأشهر المتقدمة منه. استهلت "بثينة" حديثها مادحة عن عمدٍ لتوجه الأنظار نحو ابنتها:
-طول عمرك ست بيت شاطرة يا "ونيسة"، و"خلود" طالعة زيك، مخدتش حاجة مني.

ردت شقيقتها مجاملة:
-تسلمي ياختي، بس بنتك أشطر مني.
قالت لها بابتسامة متسعة بعد ضحكة مفتعلة:
-والله دي أخدة أصول الصنعة كلها منك.
وقفت "خلود" بجوار خطيبها تقدم له الطعام، شكرها بنظراته دون أن ينبس بكلمةٍ، وفهمت هي إشاراته غير المنطوقة واحمرت وجنتاها خجلاً. هتفت "بثينة" فجأة عاليًا وصوت المعالق يضرب في الصحون:
-ما تاكل يا "تميم"، ده إنت هفتان يا حبيبي، هما مكانوش بيأكلوك في السجن؟

بدت جملتها فظة إلى حد ما وأثارت حفيظة ابنتها التي اتسعت عيناها في لومٍ من أسلوبها غير المقبول لطرح مثل تلك الكلمات الصادمة، خشيت من توتر الأجواء لكن فاجأها "تميم" بالرد بسخافةٍ قاصدًا إحراجها وربما مضايقتها:
-كنت بأكل يا خالتي بدل الطقة عشرة، بس أكل أمي لا يُعلى عليه!
اكتسى وجهها بعبوسٍ ملحوظٍ، بينما ضحكت "ونيسة" بنبرة فرحة وهي تقول:
-حبيبي يا ابني، دايمًا كده ناصف أمك.

ثم غمزت له بمكرٍ لتتحول الأنظار من جديد نحو خطيبته المرتبكة:
-بس النهاردة "خلود" اللي عاملة كل حاجة بإيدها، صح يا "هاجر"؟
أيدتها ابنتها "هاجر" في الرأي فقالت بلؤمٍ:
-طبعًا، وكله على يدي.
ردت عليها "بثينة" متسائلة بابتسامتها العريضة:
-إنتي صحتك عاملة إيه دلوقت؟
أشارت "هاجر" إلى بطنها المنتفخ وأجابت بتنهيدة متعبة:
-الحمدلله، مطلع عيني، بس كله يهون عشانه.

قالت لها مجاملة:
-طبعًا، ده الحفيد المنتظر، ربنا يتمملك على خير، ها الضاكتور قالك النوع إيه؟
همَّت تجيبها:
-هو قالنا ...
لم يرغب "محرز" -زوج "هاجر" وأحد أهم معاوني "بدير"- في اقتحام تلك المرأة الفضولية لشئونه الخاصة، لذا بحزمٍ قاطع حديث النساء ليردد بطريقته اللزجة وبقايا الطعام الممضوغ يتناثر من فمه:
-كل اللي يجيبه ربنا خير، خلونا نشوف الشغل والتوريدات اللي ورانا، جايلنا كام طلبية و....

ظنت "بثينة" أن الفرصة مواتية لتقحم ما تريده مستغلة جملة "محرز" الأخيرة فهتفت متدخلة في الحديث بفظاظة ونظراتها بالكامل تركزت على وجه "بدير" لكونه المسئول عن إدارة الأعمال:
-بمناسبة الشغل يا حاج "بدير"، ما تاخد "هيثم" معاك، أهوو يقف معاكو ويقضيلكم مصالحكم.
رد عليها "بدير" بطريقة سمجة تليق بأسلوبها:
-جربته قبل كده ومانفعش!

احتج "هيثم" على اتهامه بالتقصير فدافع عن نفسه قائلاً وقد توقف عن بلع لقيمات الطعام:
-لا يا جوز خالتي، أنا بأفهم في الشغل.
نظر له بنظرة نفاذة تشير إلى خبرته وسطوته قبل أن يكتسي صوته بطابع رسمي وهو يرد:
-شغلنا مش عاوز فهلوة ولا لوي دراع، دي مصالح ناس بألوفات، وسمعتنا قبل كل ده فوق أي اعتبار.
علق الطعام في حلق "هيثم" فسعل بشدةٍ، ناولت "بثينة" كوب الماء لابنها وربتت على ظهره حتى يلفظ ما سد مجرى الهواء، التفتت لتعاتب زوج أختها:
-وأنا ابني قصر في حاجة؟

أجابها ببساطةٍ وهو يلوك الطعام:
-ابنك معندوش مخ.
اشتعل وجهها بحمرة غاضبة من إهانته غير المقبولة لابنها فصاحت تدافع عنه باستماتةٍ:
-نعم، أنا ابني مخه يوزن بلد باللي فيها، إنتو بس اللي مش مقدرين قيمته ولا مدينه حقه هنا.
تدخل "سلطان" قائلاً بلهجة الآمر الناهي:
-خلاص يا "بثينة"، قفلوا على السيرة دي، مش وقته الكلام ده، نبقى نشوف موضوع ابنك بعدين
ردت على مضضٍ وعيناها تشعان شررًا مغتاظًا:
-ماشي يا حاج "سلطان".

رن هاتف "تميم" فأخرجه من جيب بنطاله الجينز الخلفي لينظر إلى شاشته، فمنذ أن علم رفاقه بعودته وهاتفه لم يتوقف، نهض دافعًا مقعده للخلف وهو يستأذن بلباقةٍ احترامًا لضيوفه:
-لا مؤاخذة، هرد على التليفون وأرجعلكم
قالت له "ونيسة" بابتسامة عريضة وبكلمات موحية:
-بسرعة يا ابني، لأحسن الشوربة اللي عملاها بنت خالتك تبرد.. طعمها مابيبقاش حلو إلا وهي سخنة موهوجة.
تلقائيًا تحركت حدقتاه نحو وجه "خلود" المتشرب بحمرته الخجلة، بدت أكثر توترًا من نظرات المحدقين بها، رمقها "تميم" بنظرة غير مفهومة التقطتها خلسة، ثم عاد ليحدق في والدته قائلاً باقتضاب:
-إن شاءالله..

انسحب من مائدة الطعام ليتحدث مع المتصل وصوته المرح كان نوعًا ما مسموعًا وهو يقول:
-حبيبي يا "ناجي"، أهوو بنتعلم منك الأدب والأخلاق!
لم يدرك أن عينا "خلود" ما زالت تتبعه أينما ذهب وقلبها يدق بسرعة فائقة، وبالرغم من تحرجها من الأسلوب غير المستساغ في التحدث عنها بسبب أو بدونه إلا أنها كانت سعيدة بكونها محط اهتمامه. لاحقًا عاد "تميم" إلى الطاولة ووقف مستندًا بذراعه على مقعده ليعتذر بجدية:
-معلش يا جماعة، أنا مضطر استأذن وأنزل أشوف أصحابي، كلهم متجمعين ومستنيني على القهوة.

سقطت كلماته على رأس "خلود" كالصدمة، وهي التي كانت تمني نفسها بسهرة لطيفة تتمتع فيها بالتطلع إلى وجهه وتغرق في نظراته الساهمة، وربما يتجرأ ويداعب مشاعرها بتغزله فيها، تبخرت أحلامها كليًا وامتعضت ملامحها كتعبيرٍ عن ضيقها، في حين رد عليه "بدير" بصوتٍ هادئ:
-وماله اخرج يا "تميم"، بس بلاش مشاكل.
قال ممازحًا بابتسامةٍ ساخرة:
-اطمن يا حاج، أنا مبطل شقاوة بقالي يومين.
ودَّع الجالسين ملوحًا بيده.. حانت منه التفاتة سريعة نحو "خلود" رمقها بنظرةٍ ذات مغزى ابتسمت لها وأسبلت عينيها نحوه قبل أن تثبت نظراتها على صحن طعامها محاولة تهدئة قلبها الراقص طربًا لاهتمامه بها وإن كان صغيرًا ومتواريًا.

أوشك زيت القلية المستخدم في طهي قطع (الهامبورجر) على النفاذ بعد أن تكاثرت الطلبات الخاصة بتجهيز السندوتشات، حاولت "همسة" التعامل مع ما هو متاح حتى يتسنى لها توفير بعض الوقت للذهاب إلى المنزل لإحضار واحدة جديدة والعودة إلى عربة الطعام. أوكلت مهمة مراقبة تحمير وجهه ل "فيروزة"، لكن خشيت الأخيرة من إفساد مجهود أختها المبذول لقلة خبرتها فقالت حاسمة رأيها:
-أنا اللي هاروح أجيب الزيت، وخليكي إنتي تابعي الأكل
ردت عليها رافضة:
-يا "فيرو" أنا مش هتأخر، والموضوع بسيط مش مستاهل، إنتي بس ...

قاطعتها بعنادٍ:
-خلاص يا "همسة"، أنا عارفة مكان الحاجة، وبالمرة هاجيب لماما شال تقيل بدل اللي لبساه عشان البرد.
ابتسمت تشكرها:
-تسلميلي، خدي بالك من نفسك.
ردت ساخرة:
-هو أنا ههاجر، ده البيت آخر الشارع!
ثم انتزعت مريلتها عن خصرها لتتركها على الجانب وتهبط عن العربة، سألتها "آمنة" مستفهمة:
-رايحة فين يا "فيروزة"؟
أجابتها على الفور:
-هاجيب زيت من البيت وراجعة على طول.
أمرتها بنبرتها الجادة:
-متتأخريش.
-حاضر.

قالتها وهي تسير على عجالة بخطواتٍ أقرب للركض لتعبر النصف الأول من الطريق، وقفت عند المنتصف على الرصيف الفاصل بين الجهتين تنتظر تباطؤ حركة السيارات حتى تتمكن من العبور. كان الهواء عاصف نسبيًا فضرب وجنتيها وتسبب في بعثرة خصلات شعرها بشكلٍ شبه فوضوي على وجهها مما اضطرها لإعادة ما تناثر منه أسفل منديل رأسها دون أن تكترث أنها حررت مشبك الشعر الفضي المصمم على هيئة زهرة الأوركيد والذي كان ممسكًا به. فركت "فيروزة" كفي يدها معًا عل الدفء يتسرب إلى أطرافها التي ارتعشت كليًا، لم تتخيل أن يكون الطقس باردًا بسبب حرارة الموقد بداخل العربة فبدا الجو بها على النقيض من الحقيقي.

في تلك الأثناء، كان "تميم" في خضم اتصالٍ هاتفي مع رفيقه، كامل حواسه مركزة مع حواره الشيق فيما عدا بصره المنتبه للحركة المرورية، قال لرفيقه "ناجي" عاليًا بصوته الأجش:
-هاشوف فين القهوة دي وأجيلك عندها.
مر بجوار "فيروزة" ولم ينتبه لها لكونها شخص عابر بالنسبة له متابعًا حديثه ببسمة جانبية شبه متهكمة وعيناه تجوبان بفضولٍ على عربة الطعام الوحيدة المرابطة بجوار الكورنيش:
-ده الدنيا اتغيرت خالص، وشايف حاجات غريبة هنا.

لفتت أنظاره فتوقف عن السير ليتأملها بنظرات أكثر تدقيقًا وتفحصًا. هدأت سرعة السيارات نوعًا ما فهرولت "فيروزة" عدوًا للناحية الأخرى مقاومة قدر استطاعتها تيار الهواء الشديد، لم تشعر بمنديلها الذي حرره الهواء وطار في اتجاه الريح ليصطدم بذاك الشخص الغريب عنها، أحس "تميم" بألم طفيف يضرب مؤخرة عنقه وكأن أحدهم قذفه بطوبة صغيرة، تحسسه بيده وهو يلتفت برأسه للخلف باحثًا عمن ارتكب تلك الفعلة الحمقاء التي حتمًا لن يمررها مرور الكرام، لم يجد أحدهم في الجوار، لكن أصابعه التقطت المنديل والمشبك. حملق فيهما باستغرابٍ حائر متسائلاً مع نفسه:
-بتوع مين دول...؟!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة الرابعة بقلم منال سالم



مسحة رقيقة بأناملها على تلك الصورة الصغيرة الوحيدة التي تمتلكها له قبل أن ترفعها إلى شفتيها لتطبع قبلة مطولة عليها، كانت تشتاق إليه حد الجنون بالرغم من وجوده معها، جفائه وخشونته غير المنقوصين معها كان أكثر ما يرعبها منه، تنهيدة أخرى خافتة انبعثت من بين شفتيها ونظراتها الساهمة حملقت في وجهه الجاد..


 
تذكرت "خلود" حينما ألحت على "تميم" ليعطيها صورته، كان ذلك قبيل إعلان خطبتهما، وافق بصعوبة على طلبها، وأهداها واحدة له وهو في عمر صغير، فرحت آنذاك بهديته الغالية واعتبرتها أثمن من أغلى مجوهرات العالم، خبأتها سريعًا في محفظة يدها قبل أن يراها أحدهم ويستغل الفرصة في إحراجها بالسخرية من حبها المتيم به. لمسة حذرة على جانب ذراعها كانت كفيلة بجعل جسدها ينتفض، التفتت كالملسوعة لجانبها لتجد خالتها تحدق بها بنظراتٍ ذكية، مالت عليها لتهمس لها بنبرة ذات مغزى:
-ربنا يكملكم على خير يا حبيبتي، إنتي صبرتي كتير، وعن قريب هانسمع الأخبار الحلوة.


 
قفز قلبها بين ضلوعها فرحًا، أشرقت ملامحها وهي تسألها بتلهفٍ مفضوحٍ:
-بجد يا خالتي؟
ردت عليها "ونيسة" مؤكدة بثباتٍ:
-أيوه، أنا هفاتح جوز خالتك عشان نتمم الجوازة، كفاية كده عليكم.
عفويًا احتضنتها "خلود" وهي تكاد تبكي من فرط سعادتها، شكرتها بأنفاسٍ مبهورة:
-ربنا ما يحرمني منك يا خالتي، دايمًا واقفة في صفي.


 
ربتت الأخيرة على ظهرها لتأمرها بلطافةٍ:
-طب يالا يا عين خالتك عشان نجهز القهوة والشاي لجدك وباقي العيلة.
هزت رأسها في إذعانٍ راضٍ واستدارت متجهة نحو أحد أدراج المطبخ العلوية لتفتحها وتخرج الفناجين وترصها بشكلٍ منمق في الصينية ريثما تكمل خالتها إعداد القهوة وغلي الماء.

نظرة حائرة متشككة ارتكزت على منديل الرأس والمشبك المعلق به، للحظة شرد عن مكالمة رفيقه وتركزت كامل حواسه مع ما في يده، ارتفعت عيناه لتحدقان في الطريق من جديد، لا شيء يدعو للاسترابة، أنفار متباعدون يسيرون على عجل في العتمة المسيطرة على المكان بسبب خفوت الإضاءة وقلة أعمدة الإنارة، نظر أمامه ليجد البعض ما بين جالس على الكورنيش وواقف على مطلع الرصيف ينتظر سيارة أجرة شاغرة ليستقلها..


 
الحياة تسير بشكلٍ طبيعي ومتلائم مع طبيعة الأجواء الباردة. أطبق "تميم" كفه عليهما وهو يفكر في إلقائهما في أقرب سلة للقمامة للتخلص منهما، وبالفعل دنا من واحدة بلاستيكية معلقة على عمود الإنارة المظلم، رفع يده للأعلى ليصل إلى فتحتها العلوية، لكن أعاقه صوت "ناجي" المتسائل باستغراب:
-إنت روحت فين يا باشا؟
أجابه باقتضابٍ بعد نحنحة خفيفة وقد تهدل ذراعه:
-معاك...

عفويًا دسهما في جيب بنطاله الخلفي ريثما يفكر بهدوء فيما سيفعله بهما بعد أن أُثيرت حفيظته، همَّ باجتياز الطريق وعيناه تبصران عربة الطعام المضيئة بالأنوار البراقة، توقف على مقربة منها يفحصها بعيني المحقق المشكك والباحث عن أجوبة تفصيلية لأسئلته الدائرة في عقله، اقتضب جبينه وانزوى ما بين حاجبيه بقوة وقد لمح فتاة تخدم على الزبائن المرابطين أمام العربة وابتسامتها المجاملة ظاهرة على محياها، أردف "تميم" متسائلاً باهتمامٍ فضولي ينم على كونه لن يدع الأمر هكذا يمر ببساطة:
-هو مين في الحتة بتاعتنا شغال على عربية؟


 
سأله "ناجي" مستفهمًا، فقد بدا حديثه غامضًا مبهمًا:
-عربية إيه؟
أجابه دون أن يرمش:
-عربية أكل..
عاد ليسأله حتى تتضح الصورة له:
-تقصد عربية فول؟
رد نافيًا:
-لأ، سندوتشات وحاجات تانية.

-طب مكانها فين؟
أجاب بجديةٍ:
-على الكورنيش قرب البحر.
تنحنح "ناجي" بخفوت قبل أن يعقب عليه:
-مش عارف بصراحة، بقالي كام يوم مامشتش من الناحية دي.. بس بيتهيألي مافيش حاجة هناك.
رد مؤكدًا بما لا يدع مجالاً للشك:
-بأقولك أنا واقف قصادها وفيها باين بنت شغالة عليها.
ردد "ناجي" متعجبًا:
-بنت؟ غريبة أوي!


 
حك الأخير جبهته مضيفًا بنبرة تميل للانضباط:
-نكمل كلامنا في الحكاية دي لما أشوفك الأول، قولي إنت فين بالظبط؟
حاول رفيقه أن يوصف له الطريق المختصر المؤدي للمقهى حديث الطراز الذي يجلس به بعد أن تغيرت معالم المنطقة كثيرًا واختلفت عما اعتاد عليها قبل أن يُسجن. ظل باله مشغولاً بما رأه على طريق الكورنيش وتغاضى مؤقتًا عنه حتى يستعلم عن الأمر برمته.. لكن الأكيد أن السكوت عليه أمرٌ مستبعدٌ.

سار "تميم" بضعة خطوات نحو وجهته، لكن لشيء داخلي لا يعلم سببه قرر فجأة الالتفاف والعودة إلى العربة، تخلى عن حذره واقترب من النافذة التي تطل منها تلك الشابة الجميلة، رمقها بنظرة مطولة محاولاً تفحصها بها.. توقف عن التحديق بها حينما باغتته متسائلة بشكلٍ روتينيٍ بحت:
-إيه طلبات حضرتك؟

بدا وكأنه قد أتى من كوكب أخرى وهو يرمقها بتلك النظرات الغريبة، تقلصت تعابير وجهه واشتد اقتضاب جبينه، حرك رأسه للجانبين في حيرة باحثًا عن قائمة الطعام أو المشروبات، فهو لا يعرف ماهية ما يقدم بالعربة، سكونٌ حائر ساد في الأجواء قاطعته "همسة" بلطافةٍ لبقة وكأنها أدركت سبب تردده:
-في عندنا سندوتشات برجر حلوة، وكمان آ...


 
رفع يده ليسكتها بقوله الفظ:
-مش عاوز.. شكرًا
تراجعت "همسة" برأسها للخلف في اندهاشٍ مصدوم من رده المستفز، اربد وجهها من الضيق والغضب. لم تكن تجيد التصرف في تلك المواقف المحرجة، خُيل إليها أنه لو كانت "فيروزة" حاضرة لما كانت مررت الأمر على خير وللقنت أمثاله من الوقحين درسًا يليق به، تجاوزت مضطرة عن وقاحته لتلتفت إلى عملها الذي يحتاج كامل تركيزها الآن.

بسرعةٍ وهمة أنجزت ما هو مطلوب منها في أقل وقت ممكن؛ حيث أحضرت زجاجتي زيت حتى لا تضطر للعودة إن نفذت الأولى، كما عبثت بدولاب والدتها لتأتي لها بالشال الصوفي الثقيل لتضعه على جسدها فلا تشكو من برودة الطقس، وقبل أن تغلق "فيروزة" باب المنزل خلفها، ألقت نظرة خاطفة على هيئتها، دهشة عجيبة اكتست ملامحها وقد أدركت فقدانها لمنديل رأسها، عفويًا تحسست بيدها الأخرى التي لا تحمل شيئًا خصلاتها النافرة، انزعجت قائلة لنفسها:
-أكيد طار وأنا مخدتش بالي.

رتبت بيدها ما تبعثر من شعرها عله يثبت في مكانه، كانت "فيروزة" مدركة لضيق الوقت، وبالتالي تجاوزت عن ضيقها لتخرج من المنزل لتلحق بالزبائن المنتظرين عند العربة. اتجهت للسلم وأمسكت بالدرابزين لتهبط درجاته.. توقفت قدماها عند منتصفه وقد أبصرت خالها وزوجته المستفزة يلجان من المدخل، انتابتها ربكة مفاجأة، تطلع لها الأول في استغرابٍ مندهش، ثم سألها بشكلٍ آلي كأنه يحقق معها:
-رايحة فين السعادي يا "فيروزة"؟

توترت ملامحها بشكلٍ ملحوظ وخرج صوتها مترددًا وهي تجيبه:
-كنت.. آ.. بأجيب حاجة ل.. ماما و...
تأملتها "حمدية" بنظرات جابت عليها من رأسها لأخمص قدميها، ثم تدخلت في الحوار متسائلة في استنكار وعلامات النفور ظاهرة على خلجاتها:
-في نص الليل؟
ثم انخفضت نظراتها نحو زجاجتي الزيت اللاتين تحملهما لتسألها والريبة تعتريها:
-والزيت ده بيعمل معاكي إيه؟

انتبه "خليل" لحديث زوجته ونظر إلى حيث قالت، وسألها مستفهمًا:
-صحيح، بتعملي إيه بدول؟
رفعت "فيروزة" يدها قليلاً لتحدق في حيرة بالغة فيما معها، أحست بجفافٍ كبير يجتاح حلقها، ازدردت ريقها ولعقت شفتيها قبل أن تجيبه بارتباكٍ يدعو للشك:
-أصل الحكاية... يعني آ... كنت هوديهم..
لوحت "حمدية" بيدها مضيفة بنبرة ذات مغزى:
-شكلها بتدور على كدبة تبلفنا بيها!

عبارتها الأخيرة أشعلت حنق زوجها فتساءل بلهجته الصارمة:
-انطقي يا "فيروزة"، إنتي بتعملي إيه من ورايا؟
ترددت في البوح بحقيقة ما تفعله، خشيت إفساده للأمر قبل أن تتمتع بنجاحه، لذا أجابته بشجاعة تفتقد لها:
-ولا حاجة يا خالي.
رمقتها "حمدية" بنظرة مزدرية قبل أن تتهمها بالباطل:
-تلاقيها مصدقت إنك مش موجود فخارجة تدور على حل شعرها..

هنا تجهمت تعابير ابنة أخته وكشرت عن أنيابها لتهاجهما بشراسةٍ حتى تدافع عن نفسها:
-أنا محترمة غصب عن عين الكل، وينقطع لسان أي حد يقول غير كده
احتقنت نظرات زوجة خالها فصاحت تعنفها:
-قصدك إني بأتبلى عليكي؟
ردت غير مبالية:
-والله إنتي أدرى!

التفتت "حمدية" نحو زوجها تهتف فيه بغضبٍ استعر بداخلها:
-شايف بنت أختك المؤدبة بتقولي إيه؟ بدل ما تشوف الصايعة دي خارجة فين في أنصاص الليالي جاية تعلمني الأدب؟!!!!
حفزت حميته الرجولية بكلماتها المستفزة والمثيرة للأعصاب، اندفع "خليل نحوها ليقبض على ذراعها، أمسك بها بقسوة آلمتها بضغطه الشديد عليها، ثم هزها بعنف وهو يسألها بزمجرة بائنة في صوته:
-انطقي يا بنت ال ......! رايحة فين السعادي؟

احتقنت عيناها تأثرًا بإهانته غير المقبولة ولعناته المسيئة، ومع ذلك ضبطت انفعالاتها قبل أن تهتاج لترد بقوةٍ:
-رايحة أشوف شغلي وأكل عيشي
انزوى ما بين حاجبيه مرددًا في اندهاشٍ أكبر:
-شغلك؟
ردت باستبسالٍ يعبر عن شخصيتها غير الضعيفة:
-أيوه، أنا فتحت عربية أكل وبأشتغل دلوقتي يا خالي، ورايحة أشوف الزباين اللي مستنين طلباتهم.
لطمة على الصدر مصحوبة باستنكارٍ قالتها "حمدية":
-يادي النصيبة اللي كانت على البال ولا على الخاطر!

هزها "خليل" بعصبيةٍ لاستفزازها له صارخًا بها:
-إنتي اتجننتي؟ من ورايا؟ ومن غير ما تقوليلي؟
ردت مدافعة باستماتةٍ عن حلمها:
-أنا معملتش حاجة غلط ولا حرام، وماما عارفة بده وموافقة كمان.
زمت "حمدية" شفتيها لتعلق بتهكمٍ محتقر ونظراتها الساخطة مثبتة عليها:
-بلا خيبة! هي أمك دي بتفهم!

استشاطت "فيروزة" غضبًا من إساءتها غير المقبولة عن والدتها، رفعت رأسها نحوها لتقول بنبرة مشحونة بالحقد:
-ماتغلطيش فيها، أمي على راس الكل بما فيهم إنتي!
شهقة مغلولة انفلتت من بين شفتيها، كزت على أسنانها في ضيق متعاظمٍ من جراءتها معها، ثم وضعت يدها أعلى خاصرتها لتقول بحدةٍ:
-شايف البت بتغلط فيا إزاي؟ هاتسكتلها؟ أنا مش هستنى أما أسمع شتمتي بودني، أنا طالعة، واصطفل إنت معاها، بت ناقصة رباية!
وقبل أن تبادر "فيروزة" بالرد أخرسها تحذير "خليل" الصارم وعينان تطقان شررًا:
-اسكتي خالص، ولا حرف واحد زيادة!!

كظمت غضبها في نفسها مضطرة، ثم عادت لتحدق في وجه خالها وهو يتابع بوعيدٍ:
-هنتحاسب على ده بعدين، بس الأول وريني أمك فين.
تنفست بعمقٍ لتضيف بعدها بعنادٍ استفزه:
-ماشي، بس أنا مش هابطل شغلي!
لكزها بخشونةٍ في كتفها وهو يوبخها:
-أما إنتي بجحة صحيح؟ ليكي عين تتكلمي؟ انجري قدامي.
هبطت ما تبقى من درجات وهي بالكاد تسيطر على ضيقها النامي بداخلها، لكنها عقدت العزم على ألا تتخلى عن حلمها مهما حدث.

انتهت من توزيع فناجين القهوة وأكواب الشاي المصحوبة بقطع (البسبوسة) الشهية لتجلس بجوار والدتها ونظراتها القلقة تدور على أوجه الحاضرين منتظرة بترقبٍ الشروع في الحديث عن موضوع زواجها من "تميم"، كم تلهفت لتلك اللحظة التي يجتمع فيها أفراد العائلتين من أجلها! حلمت بها مرارًا وتكرارًا، وتخيلت حبيبها يُلقي كلمات البداية الداعية لإتمام الزيجة، تلقائيًا تشبع وجه "خلود" بحمرة ساخنة فور تلميح "بثينة" الصريح بكل ثقة:
-مش كفاية تأخير بقى يا حاج "بدير"؟ الحمدلله "تميم" رجع بالسلامة، واحنا عروستنا جاهزة.

قال لها بتعابيره الجافة:
-أنا معنديش أي مشكلة، اتفقوا مع "تميم" وحددوا الميعاد المناسب.
دق قلب "خلود" في اضطرابٍ فرح، أخيرًا ستجتمع به في منزلٍ مستقل لتنعم بحياةٍ وردية تحاوطها طيور الحب، تحاشت النظر في أعين المحدقين بها، وركزت حاسة سمعها مع والدتها وهي تقول بنية عازمة:
-خير، واحنا هنبدأ نجهز فرش الشقة من دلوقتي.
رد عليها "بدير" بهدوئه الجاد:
-على بركة الله.

أطلقت "ونيسة" زغرودة عالية مهللة، ثم بررت ما فعلته وهي تضحك في ابتهاجٍ عظيم:
-ماينفعش الأخبار الحلوة دي تتقال على السُكيتي.
ضحكت "هاجر" بسعادة وهي تؤيدها:
-معاكي حق يا ماما، كله إلا "تميم" و"خلود"، دول الغاليين.
خجلت "خلود" من مدحها اللبق لها وعجزت عن الرد بصوت مسموع، لكنها كانت ممتنة لدعمها الكامل لها. تنحنح الحاج "سلطان" عاليًا ليزيح تلك الحشرجة المغلفة لأحبال صوته قبل أن يضيف حاسمًا:
-نقوط العرسان عندي، عفش كامل من مجاميعه هايكون عندهم في بحر أسبوع.

لم يجادل "بدير" والده في قراره، فحينما يبوح بشيءٍ تكون واجبة النفاذ، لذا ابتسم له وشكره بتهذيبٍ يحمل التقدير:
-تعيش وتجيب يا أبا.
على الجانب الآخر، مالت "ونيسة" على ابن أختها لتهمس له بعينين تلمعان بوميض غريب:
-بأقولك إيه يا "هيثم"، تعالى معايا عاوزاك في كلمتين.
أومأ برأسه في خفة وهو يرد:
-حاضر يا خالتي.

استند بمرفقيه على مسندي الأريكة لينهض، ثم تبعها ليسير خلفها في الرُدهة الطويلة -ذات الإضاءة البرتقالية الخافتة- والتي تنتهي بغرفة متسعة، تردد في الدخول لغرفة نوم زوج خالته، فهو من النوع المتشدد الذي يعتبر الأماكن الداخلية في منزله محرابًا لا يجوز وطئه، لكنها شجعته على الدخول. جاب "هيثم" بنظراتٍ فضولية أثاث الغرفة العتيق، ابتسامة تهكمية اعتلت ثغره، فبالرغم من المكاسب المادية التي تحصل عليها العائلة من تجارتهم الرابحة إلا أنهم لم يفكروا في تبديل أثاث المنزل الذي خطا الزمن أثاره عليه، أو حتى ينتقلوا من تلك المنطقة السكنية المليئة بالسكان محدودي الدخل، وكأن قوتهم وغرورهم مستمدين من بقائهم فيها.

توقفت حدقتاه عن الحركة عند تلك الشُفونيرة القديمة المكونة من أربعة أدراج، فتحت خالته الدرج الأول لتخرج منه شيء ما، اشرأب بعنقه للأعلى لينظر بفضولٍ إلى ما تفعل، سال لعابه وقد لمح ما يزيد عن أربعة رزم من النقود المعقودة بشريط بنكي مرصوصة فيه، على الفور أدار رأسه للجانب الآخر قبل أن تلتقطه مدعيًا التهائه بالتحديق أسفل قدميه، اقتربت منه "ونيسة" وأمسكت بكف يده ثم دست في راحته النقود المطوية وهي تقول له:
-خد يا حبيبي القرشين دول مشي بيهم حالك.

اعترض بكرامةٍ زائفة:
-كتر خيرك يا خالتي، بس مستورة والحمدلله.
أصرت عليه ببسمتها البشوش:
-يا واد ماتتكسفش، ده إنت معزتك عندي زي "تميم" بالظبط.
هز رأسه في استسلام مصطنع ولسانه يلهج بالشكر:
-ربنا يخليكي ليا يا "خالتي"
ثم ربتت على ظهره تشد من أزره وهي تضيف:
-ومتزعلش من عمك "بدير"، إنت عارفه شديد حتى معايا.

خرجت تنهيدة بطيئة من صدره كتعبير عن عدم رضائه عن قساوته معه، ثم قال متملقًا:
-والله يا خالتي إنتي الوحيدة اللي نصفاني هنا.
مسحت بنعومة على ذقنه النابتة وابتسامتها اللطيفة لا تزال مرسومة على وجهها،
تقلصت يدها فجأة وقد أتاها صوت "بدير" من خلفها متسائلاً في عصبيةٍ:
-الواد بيعمل إيه هنا؟
ابتلعت ريقها وأجابته بوجهٍ متوترٍ:
-كنت بأخد بخاطره، مافيهاش حاجة يا حاج.

تحرج "هيثم" وانزعج من نظرات "بدير" الحانقة نحوه، رمقه بنظرات قاتمة غريبة وهو يرد ببرود:
-لا مؤاخذة يا جوز خالتي، بس خالتي كانت عاوزاني، وأنا مبأخرلهاش طلب!
امتعاضٍ متأفف غطى ملامحه قبل أن يتمتم "بدير" من بين شفتيه بخفوتٍ:
-عيل سمج ورزل..

انتظره حتى خرج من الغرفة ليلتفت نحو زوجته يحذرها مستخدمًا سبابته في الإشارة ونظراته في التأكيد:
-اسمعي يا ولية، تاني مرة ملاقيش الواد هنا في أوضة نومي.
هزت رأسها في انصياعٍ:
-حاضر
نفخ "بدير" في ضيقٍ أكبر وهو ينتزع جلبابه الفضفاض من عليه ليتابع بنفس النبرة المزعوجة:
-هي نقصاه على آخر اليوم!!!

انقضت السهرة على خير وعاد الجميع إلى منازلهم ليستريحوا بعد عناء يومٍ شاق، انتهت "هاجر" من غسل جسدها بالماء الدافئ وارتدت قميصها الأحمر الواسع ذي الحمالات الرفيعة، بدت بطنها بارزة بشكلٍ ملفت، تحسستها برفقٍ وكأنها تدلل جنينها بذلك، ثم خرجت من الحمام منتزعة المنشفة التي تلف بها شعرها المصفف حتى لا يبتل. ألقت نظرة سريعة على زوجها المستلقي على الفراش، أولته ظهرها وجلست على مقعد المرآة لتضع القليل من مساحيق التجميل على وجهها المنتفخ بفعل تأثير الحمل، توقفت عما تفعل لتدير رأسها في اتجاهه حينما قال بازدراءٍ:
-من ساعة ما أخوكي رجع وأبوكي معاملته ليا اتغيرت.

دافعت عن أبيها قائلة بلهجة أظهرت ضيقها:
-الكلام ده مش مظبوط يا "محرز"، طول عمرك دراعه اليمين و...
قاطعها ملوحًا بذراعه في حركة مستنكرة:
-كان زمان، دلوقتي جه اللي سحب البساط من تحت رجلي!
تعقدت ملامحها وهي تسأله مستوضحة:
-تقصد إيه؟

أجابها بوجهٍ مقلوب:
-أنا يطلع عيني ليل نهار، وأطفح الدم مع الرجالة في السوق، والمحروس أخوكي يجي على الجاهز يُقش كل حاجة.
ردت مهاجمة سوء ظنه:
-هو كان سايب أبويا بمزاجه؟ ما إنت عارف اللي حصل!
علق بتكشيرة جانبية ونظراته الحاقدة ترتكز على نقطة في الفراغ:
-واهوو رجع ياختي.
تركت "هاجر" المشط من يدها لتحذره بلهجة آل "سلطان" الصارمة:
-بأقولك إيه، أبويا حر في ماله، يعمل ما بداله، إن شاء الله يولع فيه، محدش ليه عنده حاجة، ماشي؟ وكفاية اللي بيعمله معانا..
أشاح بوجهه للناحية الأخرى ليرد عليها بزفيرٍ مستاءٍ:
-ماشي يا بنت أبوكي، أما نشوف هترسى على إيه معاكم!

لف تلك الحقيبة النسائية السوداء المصنوعة من الجلد -والمقلدة لماركة عالمية شهيرة- بين كفيه بعد أن أخرج محتوياتها لينظر إن كانت تحوي مبلغًا ثمينًا أو قطعة من الذهب يبيعها وينفق مالها على مزاجه الخاص. رفع "حمص" عينيه ليتطلع إلى شريكه "شيكاغو" الذي كان يتحدث في الهاتف مع أحدهم، راقبه وهو ينفث دخان سيجارته من فمه قبل أن يرد:
-أوامرك يا كبير، اعتبره حصل.

كلمات وداع مقتضبة رددها بعد ذلك لينهي معه المكالمة، ثم اتجه نحو "حمص" الذي هم بسؤاله:
-مين كان بيتكلم؟
أجابه وهو يلقي بجسده على الوسائد الأرضية:
-ده الريس "ناجي" كان عاوزنا نتقابل عشان مصلحة كده
قذف "حمص" الحقيبة الخاوية عند قدميه بعد أن مزقها ليرد بتأفف:
-كويس، بدل ما الحال مأشفر معانا على الآخر، أهوو نطلعلنا بسبوبة حلوة نمشي بيها حالنا.

تساءل "شيكاغو" باهتمامٍ ونظراته مثبتة على محفظة جلدية، وبعض مساحيق التجميل الرخيصة، وعلبة مناديل ورقية:
-إنت إيه اللي معاك ده؟
أجابه بشفاه ملتوية:
-شنطة سرقتها من ولية ماشية في الشارع، بس طلعت شبهها فقر، مافيهاش ولا مليم.

أشعل الأخير سيجارة أخرى ملفوفة يدويًا، سحب منها نفسًا عميقًا كتمه في صدره لثوانٍ حتى ظهر احتقان بشرته، لفظ الدخان دفعة واحدة قبل أن يسعل بخشونة، رفع يده المرتعشة قليلاً نحو رفيقه يدعوه:
-طب خد عفر.
تناولها منه وهو يرد مبتسمًا ابتسامة صفراء أظهرت اتساخ أسنانه:
-من يد ما نعدمها.

خلال بضعة دقائق كانت العربة مدفوعة بيديها ويدي أختها نحو مدخل المنزل، اعتصر الحزن قلبها لإفساد خالها نهاية يومها بصراخه في الزبائن وإبعادهم بعد رد المال المدفوع لهم، بكت "فيروزة" بحرقةٍ طوال سيرها حتى وصلت للباحة الخلفية، كانت تشعر بالهزيمة والضعف، وذلك الشعور كان مرفوضًا بالنسبة لها، غطت العربة بملاءة قديمة وهي تكفكف بظهر يدها دمعاتها الساخنة على بشرتها الباردة، صعدت إلى والدتها التي كانت تتلقى جزائها بالتوبيخ القاسي، فالأخيرة قد أضعفتها الحاجة إلى مُعيل ذكر تُلقي إليه بهمومها، وتستند عليه في وهنها.

احترقت أحشائها من تعنيفه الحاد لتلك المسكينة التي لا تملك من حيل الدنيا شيئًا، وأختها "همسة" تبكي في صمتٍ عاجز كعادتها المستسلمة، كورت قبضة يدها وضغطت على أصابعها بقوةٍ حتى ابيضت مفاصلها، احمرت عيناها غضبًا وهو يلومها بصياحها الهادر:
-بقى إنتي يا "آمنة" توافقي على جنان بنتك ده؟!! لأ وبتساعديها كمان؟
بكت أخته تستعطفه:
-والله ما عملوا حاجة غلطت، دول بيسلوا وقتهم، وأنا أعدة على إيدهم.

علقت "حمدية" ببسمة ساخرة لم تبذل أي مجهود في إخفائها:
-ما هو باين التسالي والشباب حوالين البنات أد كده!
ردت عليها "آمنة" تحذرها:
-بناتي أشرف من الشرف يا "حمدية"، خدي بالك من اللي بيقوله لسانك!
وضعت الأخيرة إصبعيها على طرف ذقنها تقول لها باستعلاءٍ:
-ما هو واضح، وبالأمارة مستغليين غياب خالهم عشان يعملوا ما بدالهم!

لم تستطع "فيروزة" التحكم في أعصابها المستثارة، خاصة مع وجود تلك المقيتة التي تتلذذ بإشعال المواقف المتأزمة والرقص على أطلالها المحترقة، فقالت لها بتشنجٍ:
-بلاش تحشري نفسك، مش لازم تولعيها.
زجرتها "حمدية" تعاتبها بقساوةٍ شديدة:
-قصدك إيه يا مفعوصة إنتي؟ هو اللي يقول كلمة الحق يبقى غلطان؟ بكرة كل من هب ودب يجيب في سيرتنا ومش هيبقلنا عين نرد!
صرخت بها بوجهها المحتقن:
-يا شيخة بطلي تولعي فيها، ارحمينا بقى.

حدجتها "حمدية" بنظرة مميتة قبل أن تلتفت نحو زوجها تعنفه لتخاذله في الثأر لكرامتها:
-شايف المحروسة بتكلم معايا ازاي؟ مش عملالي أي اعتبار، لأ وأنا مش عاوزة أجيبها تحت رجلي واقطم رقبتها.
ردت عليها "فيروزة" تتحداها:
-ولا تقدري تعمليلي حاجة أصلاً.
أمسكت بها "همسة" من ذراعها وهمست لها بخوفٍ:
-بلاش تشتبكي معاها عشان خاطري.
صاحت "حمدية" عاليًا لتستفز زوجها وتخرجه عن هدوئه الذي يغيظها:
-شايف بتقول إيه؟ دي ناقص تمد إيدها عليا.

لم يكن منه بعد كلماتها المحفزة لحقن النفوس ووغر الصدور إلا التحرك نحو ابنة أخته، حيث هجم "خليل"على "فيروزة" قاصدًا الاعتداء عليها بالضرب، ما منعه من الاقتراب منها جسد "آمنة" الذي حال بينه وبينها مما منحها فرصة لتنأى بنفسها عن بطشه الأعمى. رفع خالها صوته يصرخ بها:
-ما تتعدلي في كلامك مع مرات خالك، محدش عاجبك فينا ولا إيه؟ ولا الظاهر عيارك فلت!!
ردت "فيروزة" بصوتها المختنق رافضة الرضوخ أمام صرامته:
-أنا مجتش ناحيتها، بس هي اللي بتدخل في اللي مالهاش فيه.

وضعت "حمدية" يدها أعلى منتصف خاصرتها ترمق "آمنة" وابنتيها بنظرات احتقارية مغلولة، هزت جسدها في حركة مستنكرة، ثم قالت:
-ده اللي ربنا قدرك عليه يا سبعي؟ ده بدل ما تديها جوز أقلام يفوقوها!
حملقت فيها "آمنة" بنظرة حادة، وأعقبها رجاءٌ يحمل التهديد:
-اهدي على نفسك شوية يا "حمدية"، الموضوع مش مستاهل
بادلتها بنظرات كارهة لثلاثتهن ثم ردت عليها:
-أنا أحسن حاجة أعملها أطلع بيتي بدل ما تتفقع مرارتي، بس أديني بأحذرك يا "خليل"، لو البنات دول ماجبوهاش لبر مش هانشوف طيب!!

نظرة وضيعة منحتها للفتاتين ووالدتهما، وانحنت تسحب شالها الموضوع على حافة الأريكة لتسير في اتجاه باب المنزل تاركة من فيه يشتعل غضبًا. استدار "خليل" موجهًا لومه المهدد نحو "آمنة":
-قسمًا بالله لو المسخرة دي اتكررت تاني محدش فيكو هايشوف طيب...
ثم تحولت أنظاره نحو "فيروزة" مكملاً كلامه:
-سمعاني إنتي بالذات؟!
ردت عليه ابنة أخته مُعاندة إياه:
-وأنا مش هافضل أعدة في البيت يا خالي، هاشغل العربية.

أغاظه عنادها فما كان منه إلا أن هوى بكف يده القاسي على وجهها ليصفعها وهو يقول لها:
-إنتي يا بت مالكيش كبير؟ إيه كلامي مش مالي عينك؟!!
شهقت "آمنة" تعاتبه في صدمة:
-"خليل"!
في حين احتضنت "همسة" أختها وهي بالكاد تسيطر على دموعها الغزيرة:
-"فيرو"!

وضعت "فيروزة" يدها على وجنتها المتألمة، قاومت بشراسةٍ تلك الرغبة العارمة التي تحثها على البكاء كمدًا، وردت بكرامة شامخة، وهامة منتصبة:
-إنت على عيني وراسي يا خالي حتى لو ضربتني مليون قلم!
بذلت مجهودًا مضاعفًا لتخفي أوجاعها، وأضافت بنفس الثبات العجيب:
-بس أنا ماتعلمتش عشان أبقى أعدة في البيت مستنية صاحب النصيب، ولا اللي يحن عليا عشان يتجوزني ومابقاش عانس.. أنا ليالي كيان، وعندي طموح هاحققه.
رد ساخرًا بنبرة ناقمة:
-طموح إيه ده اللي هيتحقق في الشارع؟

قالت بإصرارٍ متجاوزة إحساسها بالألم والقهر:
-مش عيب إني أبدأ كده، بكرة شغلي هيكبر والكل هيعرفني.
صاح بها بصوته الجهوري المتزمت:
-إنتي عاوزانا نتفضح؟
ثم قبض على كومة من شعرها يجذبها منه بعنفٍ ليقسو عليها أكثر فترتدع وتتخلى عن عنادها البائس، صرخت "فيروزة" عاليًا بمرارةٍ:
-آآه، سيب شعري يا خالي، كفاية بقى!

حاولت "آمنة" تخليص ابنتها من براثنه قبل أن يصم جام غضبه المشحون على فلذة كبدها، توسلته بعينين دامعتين:
-يا "خليل" اسمع البت للآخر.
رد عليها بخشونةٍ وقد أرخى أصابعه عن ابنتها:
-طبعًا ما إنتي موالسة معاها على المسخرة دي، ما هو لو كان ليها أب يربيها مكانش ده حصل
تبين على وجهها علامات الحنق من جملته الأخيرة، فردت عليه بقوةٍ لم يعهدها فيها:
-المرحوم عرف يربي بناته كويس، وأنا مش هاقبل بأي حد يقول عنهم غير كده.

شعر "خليل" بالحرج لمحاولتها ذبذبة هيمنته على الفتاتين، انتصب في وقفته يُخيرها بحسمٍ:
-هي بقت كده؟ طيب يا "آمنة"، يا أنا يا بنتك، اختاري.. ودلوقتي!!
وضعها عن عمدٍ في خيارٍ عسير؛ إما أن تخذل ابنتيها وتدعمه، وإما أن تخسر مساندته لها ويتخاصم معها. التفتت تنظر إلى صغيرتيها بعينين حائرتين، رأت فيهما الأمل والرجاء، ثم عادت لتحدق في وجه أخيها المتجهم، كانت القساوة متجسدة على كل ذرة فيه. عفويًا امتدت ذراعاها لتحتضن ابنتيها، ضمتهما إليها وشعرت بذراعيهما تلتفان حول جسدها ثم قالت له:
-أنا ماليش إلا هما بعد ربنا.

صدمة غير متوقعة هبطت على رأسه فأصابته بالحنق والغل، رمقها بنظرات نارية ثم أشار لها بإصبعه ينذرها:
-إنتي اللي اختارتي يا "آمنة"!
نكست رأسها حتى لا ترى نظراته المشبعة باللوم، يكفيها أن تشعر بسعادة ابنتيها ليتخللها إحساس الرضا، انتفض جسدها مع صفقه العنيف لباب المنزل، شددت من ضمها لابنتيها وهي تقول لهما بنحيبٍ:
-أنا ماليش إلا إنتم، مش مستعدة أخسركم...!!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة الخامسة بقلم منال سالم



تلفت حوله في حلقت دائرية باحثًا عنها، كانت هنا قبل قليل، وهو لم يغب كثيرًا .. فقط ما يقرب من نصف الساعة، أيعقل أن تختفي هكذا فجأة وكأنها لم تكن موجودة مطلقًا؟ ما زالت الحياة سائدة بالمكان، بل ربما زادت قليلاً بالرغم من الغيوم المتجمعة، إذًا أين اختفت؟ حك شعر رأسه الذي استطال قليلاً بيده وأزاح زخات المطر الخفيفة المتساقطة عليه .. اقترب أكثر ليدقق النظر فيما تبقى من آثارها، لا شيء أبدًا يدل على احتلال تلك البقعة في الكورنيش، وكأنها قد خلت من سواها.

سدد نظرة متفحصة للعربات المصطفة على مسافات متباعدة، كلها تعمل تقريبًا والشباب متجمهر أسفل مظلاتها الجلدية ليحتمي من المطر المتساقط. استنشق "تميم" الهواء البارد عله يرطب على صدره الحانق دون سببٍ معلوم، نفخ مجددًا بضيقٍ غير مفهوم وهو يردد لنفسه:
-أنا متأكد إنها كانت هنا!

تطلع إليه "ناجي" باستغرابٍ، ثم قال مُلطفًا:
-جايز يكون حد من برا منطقتنا بيجرب رزقه هنا.
رد عليه بنفس النبرة المدهوشة وقد ازداد انهمار المطر:
-بس دي كانت بنت اللي واقفة.

أزاح "ناجي" بكف يده المياه التي احتلت وجهه، ثم سأله مستوضحًا:
-بنت؟ ومين نعرفه هنا هيسمح لبنته تقف وسط الشارع تبيع نص الليل؟ ..
ثم تلفت حوله وهو يكمل بنبرة ذات مغزى:
-لأ وكمان أغلب الموجودين شباب!!
عبث بذقنه النابتة قبل أن يرد في حيرةٍ:
-ما هو دي اللي مستغربه.
علق عليه "ناجي" مقتنعًا:
-أكيد حد مش من عندنا.

لاذ "تميم" بالصمت وحملق في الفراغ أمامه يفكر مليًا في تلك العربة المريبة التي ظهرت من العدم واختفت بعدها لتثير فضوله وريبته، ربما لم تكن لتلفت انتباهه لو لم يرَ بنفسه الشابة التي تعمل بها في تحدٍ صارخ للأعراف والتقاليد المتبعة هنا، وضع رفيقه يده على كتفه لينتبه له، ابتسم مضيفًا:
-عمومًا ماتشغلش بالك، هما تلاقيهم مشيوا عشان الجو وبكرة هيرجعوا.
تنهيدة متعبة خرجت من جوفه قبل أن يستطرد:
-أما نشوف..

لكن ما لبث أن اكتست نبرته بالجدية الآمرة وهو يكمل:
-بس عاوزك تجبلي أرارهم، وتعرفلي تبع مين.
رد محركًا رأسه بالإيجاب:
-تمام يا كبير.
ربتة خفيفة من "تميم" على ظهر رفيقه حثته على التحرك في الاتجاه المقابل لعبور الطريق، وبقي البال مشغولاً بتلك الأمور الغريبة التي حدثت معه وإن كانت مصادفة وبسيطة، لكنها استحوذت على تفكيره بشكلٍ يدعو للريبة، ناهيك عن انشغاله بما يخص أعمال الأسرة الهامة.

دس المفتاح في القفل الخاص به ليفتح باب المنزل بعد أن انقضت سهرته مع رفيقه، لم يكن بحالة مزاجية رائقة تمكنه من قضاء المزيد من الوقت مع أصدقائه القدامى .. لم يتوقع "تميم" أن يجد والدته في انتظاره، كانت متكأة على مرفقها وبالكاد مستيقظة، اقترب منها حتى أصبح بجوارها، انحنى نحوها يقبلها أعلى رأسها في حنوٍ، ثم هزها برفقٍ قبل أن يناديها هامسًا:
-يامه!

انتفضت في خفة على إثر صوته الخافت رافعة عينيها إليه، سألته بصوتٍ ثقيل ناعس:
-إنت رجعت من بدري يا "تميم"؟
هز رأسه بالإيجاب وهو يرد متسائلاً:
-أيوه يا أمي، إنتي إيه اللي مسهرك في البرد ده؟
أجابته بغريزة أمومية صافية وعيناها تعبران عن حبها الفطري له:
-مستنياك يا ضنايا، قولت تكون عايز حاجة كده ولا كده.

أحنى رأسه على جبينها يقبله في امتنانٍ شاكر، ثم ضمها إليه وقال:
-حبيبتي يا أمي، ربنا يباركلي في عمرك، قومي ارتاحي إنتي
ربتت على كتفه في رفقٍ متابعة باهتمامٍ:
-يعني مش عاوز حاجة أعملهالك؟
رد نافيًا:
-لأ، أنا تمام، يدوب أخش أنام.

ابتسمت قائلة له في ودٍ:
-ماشي يا غالي، تصبح على خير.
مسح برفقٍ على كف يدها الذي رفعه إلى فمه ليقبله، وتطلع إليها مرددًا:
-وإنتي من أهله..
سارت "ونيسة" بضعة خطوات في اتجاه الردهة قبل أن تدير رأسها ناحيته تسأله:
-إنت كلمت "خلود"؟

أجابها بوجهٍ فاتر التعبيرات:
-لأ لسه .. أفوق كده وأكلمها
ردت مبتسمة:
-ماشي يا حبيبي، عمومًا أبوك اتفق مع جدك على جوازكم قريب، مالهاش لازمة تطولوا أكتر من كده
علق بدبلوماسية لم تفهمها:
-اللي عايزه ربنا هايكون.

لوحت له بيدها واستدارت مكملة سيرها نحو غرفة نومها، في حين تلكأ "تميم" في خطواته حتى تأكد من ولوجها وإغلاق الباب خلفها لتنقلب ملامح وجهه بامتعاضٍ مُحبط، لم يكن مستعدًا بعد لخطوة الزواج الجادة، هو ما زال يتعافي من آثار حبسه والذي انعكس بشكلٍ سيء على طباعه وأكسبه صفات الجمود والقسوة، عزز ذلك الشعور لديه إحساسه المحايد نحو "خلود"، لم يكن بالعاشق المتيم بها، القرابة فقط ما حتمت عليه موقفه من الزواج منها..

أخرج زفيرًا مطولاً من صدره واتجه إلى غرفته، أغلق الباب بهدوءٍ بعد أن ضغط على زر الإنارة، ثم استلقى على الفراش دون أن يبدل ثيابه، شعر بشيء مزعج في جيبه الخلفي يعوقه عن التمدد بأريحية، فرفع جسده ليعتدل في نومته ثم أخرج منه المنديل والمشبك.. كان قد نسيهما تمامًا في خضم ما رأه، تلك المرة تطلع إليهما بتفحصٍ مدقق، ابتسامة متهكمة لاحت على زاوية فمه.

أسندهما على الكومود الملاصق لفراشه، وبتباطؤ وكسل نهض من مكانه ليتجه إلى دولاب ملابسه، أخرج من ضلفته اليسرى منامة من تلك المجموعة التي رتبتها له والدته بعنايةٍ، وبهمة منخفضة وتثاؤبٍ متواصل انتزع ثيابه وألقاها بإهمالٍ على الأرضية ليرتدي منامته المريحة ويعود إلى فراشه، تمدد عليه وسرعان ما انخرط في نومٍ عميق أفسده اتصالٌ مزعج من "خلود"، بنبرة ثقيلة أجاب عليها متسائلاً بفظاظة:
-خير في حاجة؟

ورغم أسلوبه الجافي معها إلا أنها قالت برقةٍ:
-وحشتني..
رد عليها يلومها بجمودٍ ودون أن يحاول إزاحة آثار النوم عن صوته:
-وده وقت تتصلي فيه بردك يا "خلود"؟
أجابته ببساطة أظهرت عشقها له:
-ما هو إنت اتأخرت كتير برا، وأنا كان نفسي أشوفك قبل ما أمشي..
نفخ قائلاً بضيقٍ:
-وأنا هاروح منك فين؟ احنا هنشوف بعض كل يوم.

ساد للحظة الصمت بينهما قبل أن تسأله بترددٍ بنبرة تستطيع أن تتبين اهتزازها:
-"تميم" إنت لسه بتحبني؟
رد متسائلاً بغموضٍ ضاعف من حيرتها:
-تفتكري إيه؟
أجابته بخوفٍ محسوس:
-أنا خايفة تكون اتغيرت و...
قاطعها بنفاذ صبرٍ فلم يملك الطاقة الكافية لتحمل المزيد منها:
-أنا فهمتك على وضعي، وإنتي براحتك بقى.

استطاع "تميم" أن يسمع صوت نهنهة خافتة حاولت إخفائها، اعتدل في نومته وتمتم مستغفرًا بصوتٍ خفيض ليعتذر منها بهدوءٍ:
-معلش يا حبيبتي أنا تعبان ومش قادر أتكلم دلوقتي، حقك عليا.
وكأنه بكلماته المعتذرة تلك قد نجح في تبديد كل أحزانها فعادت الحيوية إلى صوتها وهي ترد بحماسٍ:
-حبيبتي.. الله! وحشاني الكلمة دي منك، دي كفاية عليا
رد ضاغطًا على شفتيه وكأنه مجبرٌ على الحديث معه:
-ماشي يا "خلود"، خدي بالك من نفسك.
قالت في سعادة:
-حاضر يا قلبي، تصبح على هنا
ودعها باقتضابٍ ودون أي إطالة:
-وإنتي من أهل الخير، باي.
ثم قام بإغلاق هاتفه نهائيًا حتى لا تزعجه هي أو غيرها خلال ساعات نومه القليلة.

هداها تفكيرها البسيط غير المدنس بالنوايا الخبيثة بإعداد صينية فطار شهية بكل ما لذ وطاب لتكون بادرة صلح طيبة بينها وبين أخيها، هي اتخذت جانب ابنتيها، لكنها غير راضية عن خسارة دعمه .. تأكدت "آمنة" من رص الأطباق وملأها بما يحبذه، ثم صعدت متهادية على الدرج حتى لا تفسد الشكل الجمالي لترتيب الطعام، وبحذرٍ مبالغ فيه رفعت يدها بعد أن ألصقت الصينية بصدرها لتتمكن من قرع الجرس، انتظرت بابتسامة بشوشة فتح الباب لها، استقبلتها "حمدية" بعبوسٍ مستنكر، رمقتها بنظرة احتقارية جابتها من رأسها لأخمص قدميها، تجاوزت "آمنة" عن نظراتها الوقحة لتستهل حديثها بودٍ:
-صباح الخير عليكي يا مرات أخويا.

زمت شفتيها مغمغمة بصوتٍ خفيض لكنه وصل لمسامعها:
-يادي القرف اللي على الصبح!
ثم منحتها نظرة دونية متعالية قبل أن تشيح بوجهها عنها وكأنها نكرة لتصيح عاليًا:
-تعالى كلم يا "خليل".
خرج الأخير من الحمام وبيده منشفته يجفف بها وجهه متسائلاً:
-في إيه؟
لم تجبه بل تغنجت بجسدها المتهدل لتظهر عدم ترحيبها بضيفتها ثم اقتربت من زوجها ولكزت كتفه تحذره:
-أختك يا سبع الرجالة.. اوعى تضحك عليك بمُحنها!

كانت كلماتها تحمل تلميحًا بالإهانة، وعفويًا تتطلع إلى "آمنة" باندهاشٍ متعجب، لكن ما لبث أن تحولت كامل تعابيره للتجهم، وقف قبالتها يسألها بجمودٍ ونظراتٍ قاسية:
-خير؟ عاوزة إيه يا "آمنة"؟
أجابته بوديةٍ وصفاء وهي تضع الصينية على طاولة السفرة:
-أنا عملتلك يا خويا كل الأكل اللي إنت بتحبه.
نظر لها شزرًا قبل أن يقول بوقاحةٍ:
-مش عاوز منك حاجة.

ابتلعت غصة مريرة في حلقها متغاضية عن جفائه معها، تنهدت ترجوه:
-يا "خليل" متخليش الشيطان يدخل بينا، احنا إخوات وسند لبعض
أولاها ظهره قائلاً لها بحسمٍ:
-إنتي اللي اختارتي.
بررت له موقفها بنبرة أقرب للتوسل:
-ما هو غصب عني برضوه، أنا مقدرش أكسر بخاطر بناتي، هما مالهومش غيري!
التفت نحوها يسألها في حدة:
-لكن يجيبولنا العار عادي؟!

ردت بتمهلٍ علها تمتص انفعاله الظاهر على محياه
-إن شاءالله مافيش حاجة وحشة هتحصل، وبعدين لو إنت في ضهرهم ه .....
قاطعها قبل أن تكمل جملتها رافعًا يده أمام وجهها:
-ماليش دعوة بحد، أنا علاقتي اتقطعت بكل اللي يخصكم، اصرفوا بعيد عني
بدت وكأن الدمعات تتجمع في طرفيها لتغرقهما، انخلع قلبها وهي تستعطفه:
-بس آ...

استدار بعيدًا عنها ليقول بجمودٍ قاسٍ أشعرها بالمذلة:
-شرفتي يا "آمنة"، وخدي أكلك معاكي.
-بقى كده يا خويا؟
وكأنها تُحادث الفراغ، لم يأخذه بها شفقة أو أدنى عاطفة، اختفى بالداخل غير عابئ بمشاعرها ورجاواتها المستمرة .. أطرقت رأسها في حزن آسف وحملت الصينية من مكانها لتخرج من المنزل مفطورة القلب.

لم تدخر وسعها في إظهار بأن عودته تعني الكثير لها من خلال الاهتمام بكافة التفاصيل المتعلقة به، دقت على باب غرفته بهدوءٍ حتى لا توقظه إن كان لا يزال نائمًا، أطلت "ونيسة" برأسها من الباب فلم تجد ابنها على الفراش، دفعته بيدها لتزداد فرجته ودارت بعينيها في أرجاء الغرفة، كانت خالية منه، اعتقدت بوجوده في الحمام، ولجت للداخل وتلقائيًا انحنت على الفراش لترتبه .. ابتسمت لكون ابنها ما زال محتفظًا بعادته في الاستيقاظ باكرًا وإن تأخر في عودته للمنزل مساءً. التقطت عيناها دون قصدٍ منديل الرأس النسائي المسنود على الكومود، مدت يدها لتمسك به فرأت المشبك المثبت به، انعقد حاجباها في استغرابٍ سائلة نفسها:
-بتوع مين دول؟

سرعان ما تلاشى اندهاشها مع ظنها أنه يخص "خلود"، ربما أهدته إياه خلسة ليحتفظ بشيءٍ يخصها فتحرك المياه الراكدة في علاقتهما .. ابتسامة عبثية لاحت على ثغرها وهي تعيد وضعه في مكانه، اعتدلت في وقفتها مكملة حديث نفسها:
-ربنا يقرب ما بينكم.
التفتت لتجد "تميم" واقفًا عند أعتاب الغرفة، منح والدته نظرة مليئة بالحب وهو يلقي عليها التحية ليمرح بعدها معها قائلاً:
-إيه الدلع ده كله، بنفسك بتروقيلي الفرش.

قالت له في عتابٍ رقيق:
-هو أنا عندي أغلى منك؟ الظاهر السجن نساك كنت بأعلم إيه عشانك!
احتضنها وأحست بذراعيه تطوقان جسدها المسن، قبَّل أعلى رأسها يشكرها:
-ولا لحظة نسيت يامه، ده مكانش في حاجة بتهون عليا بُعدك عني يا ست الكل
ربتت على كتفه بحبٍ مضاعف، ثم رددت بابتسامتها الودودة:
-حبيبي يا ابني، ربنا ما يحرمني منك أبدًا، الحمدلله إن ربنا مد في عمري وشوفتك قصادي تاني..

وما لبثت أن تحولت نبرتها للجدية وهي تنذره:
-بس بالله عليك بلاش أمور اللبش دي تاني! أنا مش ناقصة يا ابني، العمر معدتش فيه باقية.
رد بإجابة محايدة:
-كله على الله.
سألته في اهتمامٍ:
-أعملك تفطر؟
رد نافيًا بهدوءٍ:
-لأ، ده أنا يدوب أنزل ألحق الحاج في الدكان، ورانا طلبية بحر لازم تخلص قبل الضهر.

دعت له بصدقٍ:
-ربنا يعينك يا ابني ويفتحها في وشك من وسع
لف "تميم" وشاحًا رفيعًا من الصوف حول عنقه حتى لا يلفحه الهواء الشمالي البارد الآتي من البحر، مشط شعره بمشطه ليتركه بعدها على التسريحة، ثم هذب ذقنه بيده ملقيًا نظرة أخيرة على هيئته، التفت متجهًا نحو باب غرفته لكن استوقفه طلب والدته القائل:
-ماتنساش تاخد "خلود" تفسحها، بنت خالتك صبرت كتير، حاسسها إنك رجعت، وأجبر بخاطرها بكلمتين.
استدار برأسه نصف استدارة وقد بدا الوجوم واضحًا على ملامحه، سألها في ضيقٍ معتقدًا أنها ربما قد تكون استفاضت في الحديث مع خالتها:
-هي اشتكتلك يامه ولا حاجة؟

نفت كليًا وبجدية تامة:
-قسمًا بالله ما حصل، بس أنا ست وأفهم في دماغ البنات، وهي صعبانة عليا، لا لحقت تفرح بيك ولا تتهنى بخطوبتها.
زفيرٌ بطيءٌ خرج من جوفه قبل أن يتصنع الابتسام وهو يعدها:
-حاضر، هاخلص اللي ورايا وأرتب معاها خروجة.
رفعت كفيها للسماء تدعو له:
-ربنا يراضيك زي ما بتراضيني كده على طول.
قال في إيجازٍ:
-يا رب، سلامو عليكم.
أسرع في خطاه خارجًا من الغرفة وكلمات والدته تلحق به قائلة له:
-وعليكم السلام يا "تميم"، ربنا يبعد عنك شر الطريق

ملأها الحماس لتنزل باكرًا إلى الأسفل وتحديدًا باحة المنزل الخلفية بعد تناول الإفطار حتى تتفقد عربتها، كانت على عكس طبيعتها كلها حيوية وإقبال على الحياة، صدمة مروعة أصابت أطرافها بالشلل مؤقتًا فتجمدت في مكانها وقد رأت التخريب المتعمد الذي أصاب حلمها، تدلى فكها السفلي في ذهولٍ وارتعاب، أحست بقلبها ينخلع في صدرها من قوة المفاجأة المحطمة لآمالها .. رمشت "فيروزة" بعينيها وهي بالكاد لا تصدق مدى الضرر الذي لحق بالعربة، تساءلت مع نفسها في استنكارٍ تام:
-إزاي ده حصل؟

أجبرت ساقيها على التحرك في اتجاهها، تلمست بيدٍ مرتعشة النافذة التي انتزعت بشراسةٍ وتركت ملاقاة على الأرضية، وارتفع ذراعها ليمسك بالمظلة الجلدية التي تمزقت إربًا، ناهيك عن تلطيخ جسم العربة بالزيت وألوان بشعة ليفسد مظهرها الخارجي، وبالتالي ستحتاج لطلاء جديد لإعادتها لهيئتها الأولى .. في أقل من ثوانٍ كانت عيناها تسبحان في أبحر من العبرات الحارقة، حلمها انتهى قبل أن يبدأ، أصيب ذهنها بالتشوش فلم تستطع في البداية أن تفكر بعقلانية، انهارت جاثية على ركبتيها تبكي في ألمٍ، حانت منها التفاتة تلقائية للأعلى لتجده محدقًا بها من النافذة في تشفٍ صارخ، أكدت تعابيره المرسوم عليها ابتسامة انتصار عريضة ونظراته المزهوة أنه من يقف وراء ذلك، رددت بذهولٍ محاولة استيعاب أنه الفاعل:
-خالي؟

اتسعت ضحكة "خليل" اللئيمة وهو يستعيد المشهد في عقله منذ البداية، انتظر صلاة الفجر وهبط من منزله متجهًا للباحة الخلفية وهو يضمر سوءًا نحو ابنتي أخته، لن يتركهما يحققان مآربهما، سينتقم منهما بقسوة ليعرفا جيدًا مع من يتعاملان، وخاصة بعد شحن زوجته له وإوغار صدره نحوهما، أمسك بعَتلةٍ قديمة لينتزع النافذة المعدنية من مفصلاتها، ثم قام بشق جلد المظلة بطرفها الحاد وخلعه من مكانه ليلقيه أرضًا.

تمكن من الصعود إلى بدن العربة، وبداخلها عاث فيها الفساد، خرب كل شيءٍ تقريبًا فباتت لا تصلح للاستخدام، ترجل منها ومسح العرق الساحن الذي غطى جسده بالكامل بالرغم من برودة الطقس، أحس بنيرانه المشتعلة تهدئ بعد أن حاز على انتقامه .. عاد "خليل" لأرض الواقع مبتسمًا بشكلٍ استفز "فيروزة" على الأخير، جفت دموعها ونهضت واقفة على قدميها تصيح به:
-ليه كده يا خالي؟

أجابها ببرودٍ ونظراته الشامتة تنعكس عليه:
-مشكلة وحلتها!
صرخت به بحرقةٍ شديدة:
-حرام عليك! ضيعت تعبي كله، أنا عملتلك إيه؟
قال غير مبالٍ قاصدًا أن يصل إليها مغزى ما فعل:
-محدش بيتعلم ببلاش، ففوقي لنفسك يا بنت "أبو المكارم"!

أتت "همسة" على صوت شقيقتها الصارخ والمنفعل لتتفاجئ هي الأخرى بالكارثة التي حلت بالعربة، وضعت يدها على فمها كرد فعل طبيعي كاتمة شهقة مصدومة تقاتل للخروج من جوفها وتعبر عن حسرتها، التفتت ناظرة إلى أختها التي تحترق حية من فرط انفعالها، وقفت إلى جوارها وحاوطتها من كتفيها، نظرت إليها بعينين حزينتين فرأتها محدقة بالأعلى، ارتفعت رأسها لتتطلع إلى من تتركز عيناها عليه، سددت "همسة" نظرة لائمة لخالها الذي كان يرقص محتفلاً بانتصاره الرخيص، أوصد الأخير النافذة في وجهي كلتيهما ليزداد حنق "فيروزة" ويندلع غضبها أكثر، أخفضت رأسها تصيح في وجه أختها:
-شايفة خالك المفتري عمل فينا إيه؟

توسلتها بصوتٍ يعبر عن قرب بكائها:
-اهدي طيب يا "فيرو"
توعدت "فيروزة" خالها بعدائية جمة:
-أنا مش هاسكتله، والله ما هاسيب حقي.
رجتها "همسة" من جديد:
-عشان خاطري اهدي الأول، هيجرالك حاجة من العصبية.
ردت عليها بحرقةٍ:
-ربنا يقهره زي ما قهرني..
أضافت عليها مؤكدة:
-ماما لازم تعرف باللي عمله.

-ده أنا هافضحه، مش هاعديها على خير، هو ده اللي خايف على مصلحتنا؟ بدل ما ياخدنا تحت جناحه ويتفاهم معانا بالعقل؟
ثم كزت على أسنانها مضيفة بحنقٍ أشد:
-أكيد الحيزبونة مراته ورا اللي حصل
أيدتها في رأسها قائلة:
-ماتستبعديش ده
ضاقت نظراتها بعزيمة أكبر وهي تعد أختها بما لا يدع مجالاً للشك أو التراجع:
-فكره إنه بكده هيمنعني أعمل اللي في دماغي؟ يبقى غلطان، أنا مش هاستسلم!
عادت لتحملق بالأعلى من جديد وصدرها الناهج يضج بغضبٍ أشد قوة، لن ينجح في تثبيط همتها أو تدمير أحلامها، ستقف له الند بالند إلى أن يرضخ بالأمر الواقع.

تأنقت بعباءةٍ جديدة سوداء اللون تنتهي أكمامها بشرائط مرصعة بالترتر قامت بتضييقها من عند الخصر ليظهر تناسق جسدها وامتلائه بشكلٍ مغرٍ، أما فتحة صدرها فمنقوشٌ عليها رسمة لقرص الشمس وأشعتها المتشعبة لتبدو لافتة للأنظار، تأبطت ذراعه في تفاخر وزهو، وكأنها ملكت الدنيا بأسرها بسيرها معه وسط العامة خلال ساعات الليل الأولى، تهادت في مشيتها بثقةٍ ودلال مستشعرة باكتمال أنوثتها في حضرته.

كم ادعت تعثرها لأكثر من مرة لتشعر بقوة قبضته حينما يمسك بها! كذلك كانت تثرثر بلا توقف، تحكي له عن توافه الأمور لتشعره بأهمية مشاطرته لها في كل ما يخصها، أما هو فقد اكتفى بهز رأسه من آن لآخر ليوحي لها بأنه متابع جيد للغوها الذي لم يلتقط منه إلا جملاً معدودة .. تنهدت "خلود" مرددة في بهجة محسوسة:
-أنا خلاص هاجيب مفرش العرايس بتاع أوضة نومنا، وأبقى بكده قفلت كل حاجتي.

قال باقتضابٍ وبوجهٍ خالٍ من التعبيرات:
-كويس.
-إنت لو ناقصك حاجة قول لخالتي عشان تجيبهالك، مش عايزين نضيع وقت
-ربنا يسهل
-بأفكر كمان لما العفش يجي أعمل الستاير لونين
نظر لها بفتورٍ وقد بدا نوعًا ما منزعجًا من تلك التفاصيل المملة عن تأسيس منزل الزوجية، سألته "خلود" من جديد وعيناها تدوران في الطريق المتسع:
-هانروح فين يا "تميم"؟

للحظة انتبه لسؤالها الأخير بعد أن كان شاردًا عنها نسبيًا، حتى سيره معها كان بلا وجهةٍ محددة .. احتدت نظراته في الطريق وهو يفكر مليًا في المكان الذي سيصطحبها فيه ليقضي سهرته الروتينية معها، جال بخاطره فجأة أن يتجه لمنطقة الكورنيش، ولما لا فهي فرصة مناسبة للتأكد من وجود العربة، استدار برأسه نحوها يقول ببسمة بدت متكلفة:
-هانقعد على الكورنيش شوية.

استغربت من اقتراحه ورددت متسائلة:
-في السقعة دي؟
أجابها بحماسٍ عجيب:
-ده أحسن وقت يا "خلود" ..
نظرت له باسترابةٍ فأوضح لها:
-قصدي يعني هوا البحر مع أعدتنا سوا.

ورغم حالة التعجب المسيطرة عليها إلا أنها لم تعترض على فكرته، ظنت أنه يريد التودد إليها بشكلٍ حميمي ويحتاج لحجة زائفة لفعل ذلك والاقتراب منها مستغلاً برودة الجو، هكذا انطلقت في ذهنها الهواجس الوردية وتدفقت لتغزي عروقها.

عضت على شفتها السفلى في استحياءٍ مستنكرة جموح خواطرها، وأطرقت رأسها لتنظر إلى موضع قدميها وهي تكمل فسحتها الترويحية معه. دارت عينا "تميم" على مدى البصر في الكورنيش بحثًا عن تلك العربة، لم تكن موجودة مما أصابه بإحباطٍ عجيب، جاهد بصعوبة ليبدو طبيعيًا في تصرفاته مع خطيبته التي لو كانت منتبهة جيدًا له للاحظت التغيير الذي طرأ عليه وتملك منه، استنشق بعمقٍ الهواء الجليدي الذي اقتحم رئتيه فأنعشهما، أشار بعينيه إلى بقعة ما شبه خالية قائلاً:
-تعالي نقعد هناك.
-ماشي.

قالتها وهي ترفع طرف عباءتها الملامس للطريق قليلاً حتى تتمكن من صعود الرصيف والاتجاه إلى المنطقة الحجرية المخصصة لجلوس الأفراد، وقبل أن تجلس أخرجت من حقيبتها منديلاً ورقيًا مسحت به مكانها، ثم أعطت "تميم" واحدًا ليفعل مثلها، جلست معتقدة أنه سيحاول الالتصاق بها ليشعرها بحرارة جسده المضطرم فيه نيران الحب والغرام، لكنه ترك مسافة تتخطى السنتيمترات كفاصل بينهما مما أزعجها للغاية، سألها بصوته الأجش وقد نهض فجأة ليشعل سيجارته:
-عاوزة تأكلي إيه؟

أجابته في تردد وهي تهز كتفيها:
-مش عارفة
أومأ بعينيه نحو عربة قريبة منهما نسبيًا قائلاً لها:
-هاجيبلك شاورمة..
تطلعت إليه وقد أكمل جملته متسائلاً:
-مش إنتي لسه بتحبيها؟
ردت بقلب يدق في عنفٍ لكلماته التي أشعلت أكثر جذوة الحب المتقدة بداخلها:
-أيوه
-تمام..

بخفةٍ وسرعة تحرك "تميم" نحو العربة التي تبعد عدة أمتار ليقف أمام نافذتها، أملى على العامل الواقف بها طلبه ومنحه بقشيشًا إضافيًا ليعد له السندوتشات سريعًا، التفت نحو "خلود" ليراقبها عن كثب ليتأكد من عدم تعرضها للمضايقة من قِبل أحدهم، ولكن لكونه ذائع الصيت ومعروف لدى أغلب سكان المنطقة فلم يجرؤ أي شخص على الاقتراب منها، بل على العكس كان الترحيب الجلي به واضحًا طوال سيره..

أخذ "تميم" السندوتشات ذات الرائحة الشهية والمحفزة للمعدة من البائع وعاد بها إلى خطيبته، ناولها خاصتها وجلس إلى جوارها يقضم قطعة كبيرة وراء الأخرى، سكونٌ هادئ ساد بينهما لبعض الوقت، حاولت "خلود" استدراجه للحديث معها حينما طال صمته فقالت:
-فكرت في الميعاد اللي هنتجوز فيه؟
صدمها وجعل الطعام يعلق بحلقها فأصبح كالزقوم الحارق في جوفها حينما أجاب دون تفكيرٍ وكأنه يبوح بما يدور في مكنونات نفسه:
-لأ ...!!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة السادسة بقلم منال سالم



غصة جارحة مؤلمة آلمت حلقها وجعلت لقمة الطعام تشق طريقها شقًا كما يجرف المحراث الزراعي الأرض الجافة الجرداء إلى أن ابتلعتها بعد كلمته المقتضبة التي حطمت سور الأحلام الوردية وهدمته على رأسها لتشعر بمدى قساوة واقعها المحيط .. كان الهواء قارصًا، لكنه لا يقارن ببرودته المميتة للقلوب في تعامله الجاف معها، سبحت عينا "خلود" سريعًا في أبحر من العبرات الدافئة، تركتها تنساب في قهرٍ وبؤس.

فقدت قدرتها على منعها أو الصمود أمامه، بدا صدرها وكأنه ينهج من اجتهادها لكتم ألمها، عجزت عن تجاوز الأمر وتخطيه، فلملمت أشيائها، ودست ما تبقى من السندوتش في حقيبة يدها، كانت عازمة على تصعيد الخلاف غير المقصود لمداه، فإن كان لا يريدها فلن تذل نفسها من أجله، لينفصلا في هدوء، وتجتر وحدها مرارة الانتظار .. هبت ناهضة من مكانها قائلة له ببقايا كرامةٍ وبصوتٍ مجروح:
-أنا عاوزة أمشي!

تطلع إليها "تميم" في ندمٍ، كان غبيًا بدرجة كبيرة لينطق برعونة بذلك الرد الفظ الذي أفسد الليلة وأنهاها فجأة لتكون عبارتها التى تعكس ألمها مؤثرة على سمعه ووجدانه، أي حماقةٍ دفعته للتصرف هكذا معها دون تفكيرٍ مسبق! وهو المشهود عنه ببراعته في إدارة أعمال التجارة وإنهاء الصفقات الكبيرة بمعسول الكلام .. تحرك ليقف قبالتها حتى يعترض طريقها بعد أن بدأت بالسير بعيدًا عنه، نظر لها بعينين غائمتين وهو يعتذر منها:
-أنا أسف يا "خلود"، مقصدش المعنى اللي في دماغك!

رفعت وجهها الباكي إليه لتشعره بالمزيد من الندم، ثم قالت بإصرارٍ وصوتها المتقطع يعبر عن حالها:
-تقصدش ولا متقصدش إنت حر! خلينا نروح...
ما لبث أن تحولت نبرتها للرجاء الشديد:
-لو سمحت، أنا عاوزة أرجع البيت، كفاية كده!

أدرك أنه دفعها لتعيش حزنًا جديدًا بسبب طريقته الجافة في التعامل معها بالرغم من سعيه لإثبات اهتمامه بها، لكن محاولته كانت فاشلة بشكلٍ ذريع .. لم يكن منه إلا أن سايرها وتحرك معها بخطواتٍ تميل للركض حتى يجتازا الطريق، سعى لاجتذاب أطراف الحديث مبتسمًا، فلم يجد منها إلا سكونًا ضاعف من إحساسه بالضيق، فالتزم الصمت أيضًا عله بذلك يفكر بعمقٍ في طريقة لاسترضائها.

بضعة دقائق وكان الاثنان يقتربان من البناية التي تسكن بها "خلود" والصمت سائد بينهما، لم تودعه وأسرعت هاربة منه متجهة ناحية المدخل، وضعت يدها على الدرابزين وبدأت تصعد الدرجات الأولية، أردات أن تختلي بنفسها لتنخرط في تعاستها البائسة بمفردها، شهقة خافتة خرجت من بين شفتيها وقد جذبتها قبضة رجولية بقوةٍ فأعادتها مجبرة للخلف، التفتت كالملسوعة للجانب وقد استندت بظهرها على الحائط لتجد معشوقها قريبًا منها حد إتلاف الأعصاب، كانت الإضاءة خافتة، فبعثت نوعًا من التوتر اللطيف، اهتز صوتها وهي تتوسله:
-سيبني يا "تميم".

رنت في أذنيه نبرتها الجريحة فاعتذر منها بأسفٍ أكبر وقد امتدت يده لترفع وجهها إلى عينيه:
-حقك عليا، أنا فعلاً كنت غبي في كلامي.
قالت له بصعوبةٍ ظهرت في نبرتها وهي تنظر له عن قربٍ خطير، لكنها أرادت أن تزيح ذلك الثقل الجاثم على قلبها وتترك له حرية الاختيار:
-لو إنت معنتش بتحبني.. فبلاش تربط نفسك بيا و..

رفع "تميم" يده عنها ليستند على الحائط فأصبحت شبه محاصرة من ذراعه، تهدجت أنفاسها اللاهثة أكثر، وتوقعت منه عصبية شديدة لكنه قال بعتابٍ رقيق مبددًا شكوكها التي ساورتها بالفعل:
-يا ستي أنا بأحبك، فبلاش تقولي كلام يزعلني.
انخرطت في بكاءٍ مرير امتزج مع شهقاتها، تمنت لو تدفس رأسها في صدره فتسمع خفقات قلبه ليشعر بصدق حبها العميق له، نظر لها في ضيقٍ وهو يغمغم متسائلاً:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، بتعيطي ليه دلوقتي يا بنت الناس؟

أجابته بنهنهة وهي تحاول استعادة هدوئها بعد أن سيطرة عليها نوبة المشاعر المتأثرة:
-صعبان عليا نفسي.
تعقدت تعابيره متابعًا رجائه حتى تغفر له زلة لسانه وهو يتراجع عنها خطوة للخلف:
-يا ستي أنا غلطان ومحقوقلك، كلامي دبش ومبعرفش أعبر، ها مبسوطة؟
حملقت فيه من جديد مكفكفة دمعاتها بظهر كفها، وشردت متأملة نظراته التي تهواها حينما تكون مرتكزة عليها فقط، ومع ذلك لا تزال تشعر بالرهبة والقلق، لذا عبرت بصراحةٍ عن مخاوفها التي تنتابها منذ لحظة لقائه بها:
-أنا مش حابة أحس إني مفروضة عليك، أنا أقل حاجة منك بترضيني، وبرضوه أقل كلمة بتجرحني، متخلنيش في يوم أحس إني عبء عليك.

نفخ مطولاً كتعبير عن ضيقه من لومها المبرر، كيف يقنعها أنه لم يكن ينعم بحياة الرخاء في محبسٍ عفن الرائحة مع عتاة الإجرام؟ يقضي نهاره الطويل بصحبة لا تدعو للخير، أما ليله فكان ثقيلاً مليئًا بالأوجاع والحنين .. حاول أن يرد عليها بتمهلٍ عقلاني علها تزيح أفكارها السوداوية عن مخيلتها فتفكر بصفاءٍ وحكمة:
-يا "خلود" ما أنا مفهمك على الوضع، لسه مبقاليش كتير طالع من المخروب السجن، وطبيعي تلاقيني مدب معاكي، إنتي وشطارتك بقى تنسيني الغم ده كله.
سألته بقلبٍ مرتعش من تأثير كلماته الأخيرة التي لامست كيانها وداعبت مشاعرها المرهفة:
-يعني إنت لسه بتحبني وعاوز تتجوزني؟

أجابها بابتسامةٍ صغيرة وهو يومئ:
-أيوه يا ستي، وهتنيل على عيني أتجوزك.
عبست تعاتبه من جديد:
-شوف بتكلم إزاي؟!!!
ضرب "تميم" كفًا بالآخر في استنكارٍ مزعوج من تصيدها الدائم لأخطائه وإن كان يتحدث عفويًا، لوح لها بيده وقد تراجع هابطًا على الدرج خطوتين:
-لا إله إلا الله! اطلعي فوق عند أمك الله يرضى عليكي!

ساد بينهما جوًا من المرح اللطيف الذي أذاب ما كان في القلب من أحزانٍ وأعاد البسمة والضحكة الصافية للوجدان، لم ينتبه كلاهما ذاك الذي يتابعهما خلسة من الدور العلوي .. كان "هيثم" في طريقه للخروج لقضاء سهرة متأخرة كعادته يعود منها قبيل الفجر بقليل، لمحهما وهما يتبادلان عتاب المحبين، فوسوس له شيطان رأسه بفكرة جهنمية مدهشة لكنها في نفس الوقت هشة إن لم يوظفها بالطريقة التي تؤتي بنتائجها الوهمية، تحفز وشحن حواسه مستدعيًا انفعالات هائجة وهمية تعبر عن رفضه الناقم لاختلاء أخته مع ابن خالته في تلك البقعة المعتمة على السلم، هدر صائحًا بصوتٍ أجش وخشن:
-بتعمل إيه عندك يا "تميم"، ومع أختي يا ابن الأصول؟!!!!

لطمت "خلود" على خديها كردة فعلٍ طبيعية لظنه السوء بها، ارتعدت وتلبك بدنها وهي تهتف شاهقة:
-يا نصيبتي!
زوى "تميم" ما بين حاجبيه في دهشة مستنكرة متلفظًا باسمه بسخرية مقصودة:
-"هيثم"!
هبط الأخير الدرجات ركضًا وأوداجه منتفخة جدًا، وقف قبالة ابن خالته يرمقها بنظرات شريرة، ثم سأله بكلمات موحية تحمل إهانة جمة:
-حد قالك عني إني مركب قرون؟ ولا رافع الإريال؟!

اِربد وجه "تميم" بالغضب من أسلوبه المرفوض شكلاً وموضوعًا لإتهامه بالتجاوز في علاقته العفيفة ب "خلود"، استشاط حنقًا وهو ينهره بلهجته الخشنة:
-اتكلم عدل يا "هيثم"، مافيش حاجة من اللي في دماغك دي، احنا أنضف من تفكيرك الوسخ ده!!!
تجاهله عن عمدٍ موجهًا حديثه المسيء إلى أخته وذراعه ترتفع عاليًا في الهواء مهددة بصفعها:
-ليكي حساب معايا يا بنت ال ...... !!

وقبل أن تحط على وجهها كانت قبضة "تميم" ممسكة به من معصمه، شده ناحيته في شراسةٍ وعيناه تطقان شررًا، ثم استطردت ينذره بقساوة عدوانية:
-قسمًا عظمًا لو إيدك اتمدت عليها لأقطعهالك!
ثم أشار ل "خلود" بعينيه لتهرب صاعدة للأعلى قبل أن يتطاول عليها أخيها باليد وتثور ثائرته دون داعٍ، احتقن وجه "هيثم" بشدة، وبدا وكأن ما رسمه من خطة ماكرة قد ضاع هباءً، والأسوأ من ذلك أنه استصغره أمام شقيقته فربما تتمرد عليه .. انتزع يده من قبضته ونظر له شزرًا يصيح فيه:
-إنت هتعرفني ألم أهل بيتي إزاي؟

عاجله بنظرة مستهجنة كادت تجمده في مكانه، ثم رد عليه بصوته القوي الذي ينم عن شخصية مليئة بالبَأْس:
-هي مغلطتش...
وما لبث أن تحولت نبرته للتحذير الشديد حينما أكلم:
-وبلاش أحسنلك تعمل نَمرة عليا، عشان الكلام ده مايكولش معايا.
كز "هيثم" على أسنانه في غيظٍ وقال:
-إنت ب ...

أطبق "تميم" على فكه بغتةً ضاغطًا بكل قوته عليه حتى كاد أن يحطمه ليجبره على ابتلاع تهديداته الفارغة متابعًا إنذاره شديد اللهجة:
-"تميم سلطان" مش عيل كَوِرك يتاكل على قفاه، فخد بالك مني!
تلبك من أسلوبه العدائي ونظراته المليئة بالشر فبدا كما لو كان قد تراجع عن موقفه الرجولي المصطنع، فضحته نظراته المهتزة وإيماءاته المذعورة. أرخى "تميم" يده عنه ليقف مزهوًا بنفسه، منتصبًا بشموخٍ يُحسد عليه، تنحنح "هيثم" متسائلاً بحدةٍ أخف:
-أنا .. خايف على أختي، إيه مش من حقي؟

قال له بحزمٍ دون أن يرتد له جفن:
-وأختك على عيني وراسي ومتصانة، وكلها كام يوم وهتبقى مراتي!
رد عليه بوجهٍ متجهمٍ للغاية عله بذلك يظهر حرصه الزائف على سمعتها:
-ماشي .. بس لحد ما تبقى في بيتك هي رجلها مش هتخطي الشارع ولا هتخرج معاك، مفهوم؟!
أطلق "تميم" ضحكة عالية مستهزأة بكلماته تلك مما استفز ابن خالته، هدأ قليلاً وربت على كتفه يسخر منه:
-لأ حِمش يا "هيثم"! شنبك على راجل بصحيح!
احتقنت نظراته من أسلوبه التهكمي المتحقر فصاح يسأله بانفعالٍ:
-إنت بتتريق عليا؟

ابتسامة جانبية مقتضبة على زاوية فم "تميم" لاحت بشكل استثار أعصابه، أولاه ظهره قائلاً له بما يحمل في مضمونه الازدراء لشخصه التافه:
-سلامي لأمك!
تكورت قبضة "هيثم" من غيظه المحتدم وضرب بها على الحائط كطريقة سريعة للتنفيس عن غضبه المحموم، تهدجت أنفاسه وهو يتوعده بقلبٍ يضمر الشر:
-ماشي يا "تميم"، بكرة "هيثم" اللي مش عاجبك ده يوريك مقامك ويرجع البُرش تاني!

يومًا بأكمله قضته باكية معتكفة في غرفتها رافضة تناول الطعام أو حتى الجلوس مع أسرتها، لم يكن من السهل عليها أن ترى حلمها مُحطم، عادت المشاهد المستفزة لوجه خالها بقوة إلى مخيلتها فزادت من حالتها سوءًا، بكت بقلبٍ مفطور مرة أخرى، فكرت في إعادة إصلاح العربة وتجهيزها من جديد، لكن سيكلفها ذلك مبلغًا من المال، وهي لا تملكه من الأساس.. بالكاد استطاعت أن تدخر ما أعانها على شراء العربة، وتدبرت الباقي من تلك الجمعية التي اشتركت فيها مع رفاقها.

وجدت "فيروزة" نفسها واقعة في ضائقة مالية؛ فمن ناحية عليها سداد الاشتراك الشهري للجميع، ومن ناحية أخرى تحتاج لتشغيل العربة .. تجدد إحساسها بالقهر العاجز وازداد احتراقها خاصة مع سطوع طيف ابتسامة خالها المقيتة في عقلها، لم تستمع إلى دقات الباب ودفنت رأسها في الوسادة ضاربة بيدها في عصبية عليها، استطاعت أن تلمح توأمتها من بين رؤيتها الضبابية وهي تطل عليها، تقلبت على جانبها لتتجنب نظرات الشفقة منها، وإن كانت شريكتها فهي لم تكن متعلقة مثلها بذلك الحلم الضائع.

حاولت "همسة" مواساتها فجلست إلى جوارها على الفراش تربت على ذراعها برفقٍ، ثم قالت لها بما يبعث على النفس الملتاعة القليل من التفاؤل:
-إن شاء الله كل حاجة هترجع زي الأول وأحسن.
كانت فاقدة لرغبتها في تقبل مثل تلك النوعية من المواساة، أدارت رأسها قليلاً نحوها وقالت لها بصوتها المتشنج بنبرة عبرت عن يأسها الشديد:
-إزاي؟ مافيش حاجة بترجع يا "همسة"، كل حاجة ضاعت!

كانت متفهمة لانفعالها والإحباط المسيطر عليها، حاولت أن تبدو متماسكة أمامها، فادعت زيفًا:
-متقوليش كده، مشكلة وهتعدي.
-فوقي من الوهم ده!

قالتها "فيروزة" بنبرة أقرب للصراخ وهي تعتدل في رقدتها قبل أن تبدأ من جديد بفاصلٍ من العويل والنواح الممتزج بالندب، أشفقت عليها "همسة" وضمتها إلى صدرها لتبكي على كتفها دون أن تطلب منها ذلك، تأثرت أيضًا بحالها الملكوم وشاركتها حزنها بقلبٍ مفطورٍ .. على أعتاب الغرفة تطلعت إليهما "آمنة" بحرقة واضحة في نظراتها لهما، تضرج وجهها وتقلصت تعابيرها بما يعبر عن حنقها الرافض لما فعله أخيها، أيحق له تدمير أحلامهما لمجرد نزعة رجولية فارغة؟ فإن كان لا يقبل أن يمس أبنائه بسوءٍ فهي مثله، أم أنه مباحٌ له فعل ما يريد دون مراجعة أو اعتراض؟

لن تسمح له بفعل ذلك بهما، لن تقف مكتوفة الأيدي تشاهد تدمير ابنتيها دون أن تتخذ موقفًا مغايرًا له ينصفهما، هكذا قررت في قرارة نفسها، وبكل ثباتٍ اقتربت منهما تقول بصوتٍ اكتسب إيقاعًا مختلفًا لا ينم أبدًا عن الانهزام أو الكَسرة:
-ما تعيطيش يا "فيروزة"، لا عاش ولا كان اللي يقهر بناتي وأنا لسه حية وعلى وش الأرض!
نظرت الاثنتان إلى أمهما في حيرة، بينما تابعت "آمنة" مرددة بنفس النبرة العازمة:
-بكرة الصبح مشكلتك هتتحل..

تساءلت "فيروزة" في تلهفٍ وكأنها تبحث عن طوقٍ للنجاة:
-إزاي يا ماما؟
وضعت والدتها يدها على الأساور الذهبية التي تزين معصمها، انتزعت بقليلٍ من الجهد تلك التي تشبه الثعبان من رسغها لترفعها نصب عينيهما وهي تضيف:
-بكرة هنروح محل الصاغة نبيعها، وبفلوسها يا بنات هترجعوا عربيتكم زي ما كانت وأحسن.
انفرجت شفتا "فيروزة" عن تعبيرٍ مذهول، ثم ازدردت ريقها ولعقت شفتيها متسائلة في عدم تصديق:
-هتبيعيها يا ماما؟!

أجابتها بكلمة واحدة ناهية لأي نقاش:
-أيوه.
تساءلت "همسة" في استغرابٍ حائر:
-بس يا ماما دول دهبك اللي طلعتي بيه، وإنتي سيباهم عشان لا قدر الله لو حصل حاجة، هتفرطي فيهم كده بسهولة؟
ثبتت عينيها عليها وأجابتها مبتسمة في حنوٍ:
-مافيش حاجة تغلى على بناتي، إنتو عندي أغلى من أي دهب!
انتفضت "فيروزة" ناهضة من على الفراش لتركض نحو والدتها، ارتمت في أحضانها تضمها بقوةٍ، حاوطتها "آمنة" بذراعها ومسحت برفقٍ على رأسها، ثم تابعت حديثها الدافئ فقالت لها:
-مش عاوزة أشوفك مكسورة تاني.

ردت عليها بصوت متقطعٍ وقد امتزجت عبراتها بامتنانها لها:
-ربنا يخليكي ليا يا ماما.
انضمت إليهما "همسة" وقد فاض الدمع من عينيها تأثرًا بذلك المشهد العاطفي الملامس للقلوب، ثم جلست "آمنة" على الفراش أولاً، وعلى جانبيها استقرت الفتاتان يتحدثن في مرحٍ وتفاؤل عن مخططات المستقبل الناجحة .. لكن عاد الخوف يتسلل إلى "همسة" فتساءلت وكأنها تفكر بصوتٍ مسموع:
-طب افرضي خالنا بوظ العربية تاني، هنتصرف ساعتها إزاي؟

التفتت والدتها نحوها وأجابتها على مهلٍ وبثقة واضحة تحمل الغموض في نبرتها:
-ماتشيلوش هم، أنا فكرت في حل للحكاية دي..
سألتها "فيروزة" بتلهفٍ أكبر وقد تلاشى الكدر من ملامحها تدريجيًا:
-حل إيه ده؟
تابعت موضحة بعد أن أخرجت تنهيدة بطيئة من صدرها:
-عارفين أوضة البدروم المقفولة اللي جمب السلم؟
رددت الاثنتان معًا:
-أيوه.

أكملت توضيحها بابتسامة مشرقة:
-احنا بقى هنضفها ونوضبها ونخليها زي الفل عشان نعملها مخزن تحطوا العربية فيه، ده غير الأدوات والحاجة اللي بتستخدموها، وهنقفلها بالمفتاح وقفل نحطه على الباب من برا، وبكده خالكم مش هايقدر يقرب منها.
كانت فكرة عظيمة أشعلت الحماس في نفس كلتيهما، عفويًا احتضنت كلتاهما "آمنة" وهما تنهالان على وجهها بالقبلات الممتنة، أحس ثلاثتهن بدبيب السعادة يطرق بابهن من جديد ليعلن عن بدء مرحلة استقلالية مليئة بالإنجازات .. ربما لن تخلو من بعض الصعوبات والمشاكل، لكن معًا سيتخطونها.

اهتزت ساقه بعصبيةٍ واضحة والدخان الكثيف يخرج من جوفه ليشكل غمامة خانقة أعلى رأسه، ومع ذلك لم يكن راضيًا، ألقى بخرطوم نارجيلته على طاولة القهوة المعدنية الرفيعة لتصدر جلبة مزعجة، تبعها مغمغمًا بسبة نابية .. تلفت "هيثم" حوله باحثًا عمن يفرغ فيه غضبه المكبوت، لم يكن أمامه سوى عامل المقهى البائس لينال النصيب الأكبر من توبيخه اللاذع بالرغم من كونه لم يخطئ في شيء، بل على العكس كان ملبيًا لكافة أوامر زبونه الدائم، وتلك الليلة كان متقلب المزاج بشكلٍ لا يحتمل، تطلع إليه "نوح" في تعجبٍ وقد بدا إلى جواره باردًا كلوح الثلج، تنحنح بصوتٍ متحشرجٍ ثم سأله مستفسرًا:
-مالك؟ مزاجك متعكر ليه؟

أجابه بحشرجة واضحة في أحبال صوته جراء سعاله المتصل:
-هباب البرك جايبلي تعميرة أي كلام، مش عارف أظبط دماغي.
بدا غير مقتنع بإجابته فغمز له كتعبيرٍ عن رفضه تصديق تلك الحجة الفارغة، واستطرد متسائلاً في مكرٍ:
-لأ التعميرة زي الفل، إنت اللي مش طبيعي من أول ما أعدنا على القهوة، هو أنا مش حافظك، في حاجة حصلت؟
قال مقتضبًا وعبوسًا مريبًا يغطي وجهه:
-مافيش.

عمق من نظراته المستريبة وهو يلح عليه بإصرارٍ ماكر مستدرجًا إياه في الحديث:
-شكلك بيقول غير كده، إيه الحاج "بدير سلطان" سمعك كلمتين مالهومش لازمة زي تملي؟ ما هو إنت ميقلبش البونديرة معاك غير هو!
هتف محتجًا بوجهٍ اربد غضبًا:
-ولا يقدر يبُخ معايا، ده أنا أقفله هو وابنه اللي عامل فيها دكر!
غمزة أخرى لئيمة صدرت من عينه اليمنى معلقًا عليه:
-"تميم"، شكلك ملبخ معاه!
صاح فيه بعصبيةٍ مرئية للعيان:
-بأقولك إيه قفل على سيرة العكننة دي، أنا مش ناقص حرقة دم.

تدارك الأمر وسحب ناعمًا معه حتى يمتص ثورته المتأججة، فقال ملطفًا:
-يا سيدي بكرة تحلو معاك وتعرف تعلم عليهم بطريقتك.
لاذ "هيثم" بالصمت، بينما استمر "تميم" في وسوسته مضيفًا بنبرة أقرب لفحيح الأفعى:
-ما هو اللي زي دول يجوز فيهم أي حاجة، وخصوصًا فلوسهم اللي زي الرز دي، وكل مدى عمالة بتزيد..
نجح بأسلوبه الملتوي في الحديث في استسقاء المعلومات منه، فنطق بغموضٍ وعيناه تبرقان بوهجٍ متحمسٍ:
-أنا في دماغي فوكيرة (فكرة) إنما إيه، لو ظبطت هتروق على الآخر!

سأله في فضولٍ وتلك النظرة المتشككة تعلو تعابيره:
-قولي اللي بيدور في دماغك.
رد بابتسامة تهكمية مقتضبة على جانب شفتيه:
-بعدين، أنا بس سايبها تخمر شويتين تلاتة
صفق "نوح" بيديه ليستدعي عامل المقهى وهو يضيف بانتشاءٍ مريب:
-وأنا دايس معاك في أي مصلحة!
ابتسم له "هيثم" دون أن يضيف المزيد، لكن خياله جسد له مشاهدًا مُركبة لخطته التي ستصير قابلة للتنفيذ على أرض الواقع عما قريب.

سارت والفرحة تملأ صدرها في الطريق مع والدتها لتتجه كلتاهما نحو امتداد منطقتهما الشعبية القريبة من منزلهما المنعزل عمن حوله، حيث تتزاحم البيوت وتتلاصق جدرانها، بالإضافة إلى الحركة اليومية الروتينية في الشوارع والطرقات الضيقة .. جلبة صاخبة سيطرت على الأجواء في ساعة الظهيرة، خاصة أن الطقس كان إلى حد ما يميل للاعتدال مما شجع الناس على الخروج. حانت من "فيروزة" نظرة عابرة على الوجوه الكادحة المنهمكة إما في البيع أو الشراء أمام المحال التجارية المجاورة لبعضها البعض، كم لوحت والدتها معتذرة بيدها تارة وبلسانها تارة أخرى لأكثر من بائع يعرض عليها الدخول لآخذ نظرة سريعة على معروضاته فربما تشتري منه! انتبهت لها وهي تقول بصوتٍ أقرب للهاث من المجهود المبذول لتسير على عجالةٍ حتى تستثمر الوقت ولا تضيعه هباءً:
-محل الصاغة آخر الشارع ده، إن شاء يكون فاتح دلوقتي.

ردت بهدوءٍ ونظراتها تجول حولها:
-إن شاء الله، ويا رب الفلوس تكفي!
قالت لها:
-هتكفي بإذن الله، ولو نقص حاجة ربك هيدبرها.
تأبطت في ذراع والدتها لتميل عليها تهمسها في امتنانٍ:
-ربنا ما يحرمني منك أبدًا
اكتفت "آمنة" بالابتسام لابنتها وتابعت السير نحو وجهتها المحددة، لكن استوقفهما شخصًا مهيب الطلة تبدو من هيئته الوقار والاحترام. تحولت عينا "فيروزة" ناحيته حيث حركته المتهادية التي تنم عن ثقة غريبة، كان وجهه مألوفًا رغم عدم تذكرها له، وجدت نفسها تطالع والدتها حينما بادرت مرحبة به بودٍ وألفة:
-إزيك يا حاج "بدير"؟

في البداية نظر لها بعينين ضيقتين وكأنه يعصر ذهنه ليتذكر هويتها، ما لبث أن ارتخت تعابيره ليقول بابتسامةٍ وقورة:
-يا أهلاً بيكي يا حاجة، فينك؟ مش بنشوفك خالص نواحينا؟!
أجابته متعللةٍ بنفس النبرة الودودة:
-مشاغل الحياة يا حاج، والحاج "سلطان" عامل إيه؟
أومأ برأسه يجيبها في رضا:
-نحمد ربنا .. في أحسن حال
-يدوم يا رب.

قالت له معتذرة وقد أطرق رأسها خجلاً منه:
-حمدلله على سلامة ابنك ولو إنها متأخرة، كان المفروض أروح أبارك للحاجة "ونيسة" لما عرفت بالأخبار الحلوة دي من حبايبنا في السوق، بس ملحوءة إن شاءالله!
حرك عكازه بيده القابضة على رأسه وهو يقول مجاملاً:
-كتر خيرك، اعتبري المباركة وصلت
أضافت في حرجٍ خجل:
-كلك ذوق يا حاج، ربنا ما يضركم فيه أبدًا ويفرحكم بيه عن قريب.

هز رأسه قائلاً:
-يا رب .. واحنا قريب هنجوزه، وأكيد هنتشرف بيكي إنتي والبنات
ردت على الفور دون أن تمنح نفسها فرصة للتفكير:
-طبعًا يا حاج "بدير"، هانكون أول الموجودين إن شاء الله.
اتسعت ابتسامته يُجاملها:
-تسلمي يا حاجة، دعواتك بقى.

قالت في تضرعٍ:
-والله بأدعيله وبأدعي لبناتي ربنا يجبر بخاطرهم ويراضيهم.
أطبقت "فيروزة" على شفتيها مكتفية بمتابعة حوارهما دون أن تعلق بكلمة واحدة وإن كانت مجاملة لتتخذ موقف المشاهد الصامت، انتظرت حتى استأذنت والدتها وهمت بالانصراف لتتحرك على خطوتها البطيئة وعيناها ترتكزان على لافتات المحال تبحث بينهم عن ضالتها المنشودة.

في تلك الأثناء، كانت إحدى الشاحنات الضخمة تسد الزقاق الجانبي المؤدي لمحل الصاغة بشكلٍ عرضي مما جعل الطريق ضيقًا للغاية ويتعذر السير فيه، كذلك وضعت عشرات الأقفاص المليئة بالخضراوات والفاكهة الطازجة في تلك المساحة المحدودة فأجبر السائرون على المشي بحذر لتفادي الاصطدام بهم .. بينما انقسم العاملون ما بين واقفًا أعلاها وأسفلها ينقلون الأقفاص الثقيلة فيما بينهم عن طريق إلقائها عاليًا بطريقة يدوية تنم عن خبرة مهارية واحترافية ليلتقطها الآخر بنفس البراعة والقدرة. ومن بين المتواجدين بالأعلى كان يقف "تميم" ليشرف بنفسه على سير العمل بدقةٍ وإتقان حتى ينتهي تجهيز الشحنة المطلوبة وتسليمها في أقرب وقت، صفق بيده محفزًا رجاله بصوته الجهوري:
-شهلوا يا رجالة، عاوزين نرص العدايات دي كلها.

رد عليه أحدهم بلهاثٍ:
-قربنا نقفل النقلة التانية يا معلم، ربعاية وكله هيكون خلصان
قال بتحمسٍ ظاهر على محياه:
-قول يا رب!

جالت عيناه عفويًا على السائرتين في مطلع الزقاق بحكم وقفته العالية، لاحظ انشغال الشابة المجاورة لوالدتها بالتطلع على ما حولها على عكس الأخيرة المنتبهة جيدًا لخطواتها، خُيل إليه أنها لو لم تحتط لربما فزعت من إلقاء القفص أعلى رأسها وتعثرت في مشيتها وانكفأت على الوحل المتراكم بسبب سقوط الأمطار وتلطخت ثيابها، لذا بكل مروءةٍ جلجل صوته يحذرها:
-خدي بالك يا أبلة وإنتي ماشية.

تحركت رأس "فيروزة" ونظراتها نحو مصدر الصوت الرجولي الأجش، تقلصت تعابيرها وضاقت عيناها مع رؤيتها لذلك الشاب ذو الملامح الجادة، تيقنت أنه يخاطبها من عينيه المثبتة عليها، قرأت فيهما صرامة ممتزجة بالقوة، عاد ليشير لها برأسه لتتجه عيناها تلقائيًا -وكأنها واقعة تحت تأثير تعويذة سحرية- نحو الأقفاص الطائرة، اشتدت قسماتها توترًا وتحفزت حواسها بالكامل وقد فطنت لمقصده، سارت على حذرٍ تام، ثم تطلعت إليه مجددًا وابتسامة صغير متكلفة تلوح على شفتيها مع نظرة أخيرة عابرة لتتجاوزه بصحبة والدتها وتختفي بداخل المحل وصوته المشجع لرجاله يتردد صداه بين جدران البيوت...!!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة السابعة بقلم منال سالم


بوجهٍ متورد، ونظراتٍ خجلة مرتبكة تطلعت إلى ما تحويه ضلفته الخاصة من ثياب جديدة مرصوصة على الرف السفلي تم فرزها مسبقًا لنقلها دون عناء، تلمستها برفقٍ ناعم وكأنها أشياء ثمينة هشة وقابلة للكسر لذا تحتاج لعناية من نوعٍ خاص .. لجأت "ونيسة" لطلب مساعدتها فقط لتمنحها الفرصة لخلق المزيد من الذكريات السعيدة واللحظات المميزة جزاءً لصبرها الطويل وانتظارها غير المشروط ليحصل على حريته من خلال قيامها شخصيًا بتوضيب ما يحتاج إليه "تميم" استعدادًا لنقله لاحقًا لمنزل الزوجية الكائن بعد بنايتين من هنا، لم تصدق "خلود" نفسها وهي تقف في غرفته تتأمل متعلقاته الخاصة.


 
صارت الآن تتحرك فيها بحريةٍ أكبر بعد أن كانت تختلس الدقائق وتختلق الحجج لتدخلها، لفتة خاطفة حانت منها في اتجاه خالتها والتي كانت منحنية قليلاً على الفراش وهي تطوي الثياب بشكلٍ منظم في حقيبة السفر الجلدية الكبيرة (ذات اللون البني الداكن) والموضوعة على الفراش، عادت لتحدق في ضلفته بنظراتٍ ساهمة والهة إلى أن أخرجتها "ونيسة" من حالة التأمل لتقول مسترسلة بسجيتها:
-عارفة يا بت يا "خلود"...


 
ردت الأخيرة متسائلة في اهتمامٍ:
-أيوه يا خالتي.
تابعت بابتسامة عريضة وقد تركزت عيناها على ابنة أختها:
-من يوم ما اتولدتي وشيلتك بين إيديا وإنتي في اللفة، وأنا ندراها في نفسي .. أجوزك لابني لما يكبر!
تضرج وجهها وتوهجت بحمرته الخجلة، أحست بالسخونة تنبعث من وجنتيها، بالحرج الشديد ينتابها، في حين ازدادت ابتسامة "ونيسة" اتساعًا بعد تلك الضحكة العفوية المرحة التي أطلقتها لتكمل بنفس الود المتحمس:
-عمري ما شوفت واحدة تانية غيرك تنفع مرات ابني، هو مايلقش عليه إلا إنتي، بتحبيه، وهتصوني العشرة، ودايمًا معاه على المُرة قبل الحلوة.


 
لم تعرف بماذا تعلق عليها، نطقت بارتباكٍ يشوبه الحياء:
-الله يخليكي يا خالتي.
اقتربت منها "ونيسة" لتقول بعبثية وهي تغمز له بطرف عينها:
-بس عجبتيني لما إديتي "تميم" التوكة بتاعك!
تطلعت إليها بعينين زائغتين، فجأة اكتسى تعبيراتها حيرة عجيبة وكأن صاعقة ضربت برأسها، حاولت أن تتماسك قبل أن تسألها بصوتها المندهش:
-توكة؟!!!


 
لم تلحظ خالتها التغيير الذي غطا ملامحها فاستفاضت تنصحها:
-أنا عاوزاكي تتلحلحي معاه يا "خلود"، الراجل يحب الست اللي تشاغله وتملى دماغه، خليه دايمًا يفكر فيكي.
وكأنها تُحادث الفراغ، شردت تفكر فيما قالته، هي لم تمنح "تميم" أي هدية مميزة، وما تبوح به خالتها يوحي بشدة أنه حدث قريبًا، إذًا عن أي شيء تتحدث؟ هل تعرف إلى إحداهن مؤخرًا ويخفي عنها تلك الحقيقة كي لا يصدمها؟ تخلل عقلها سؤالاً بعينه لم تكن لتسمح لنفسها أبدًا بتصديقه.


 
لكن شيطان رأسها قوى ذلك الهاجس بداخلها، أيخونها "تميم"؟ انقباضة مؤلمة اعتصرت قلبها وكادت تقبض على روحها، حاولت أن تخفي ضيقها الظاهر على قسماتها لترسم ابتسامة ثقيلة متكلفة وهي تطلب منها بنبرة جاهدت لتجعلها ثابتة حتى لا ترتاب في أمرها:
-هو.. "تميم" حاطط التوكة.. دي فين؟
-هناك!

أجابتها وهي تتجه نحو الكومود لتفتح الدرج العلوي وتخرج منها منديل الرأس والمشبك، فقد وضعتهما به بعد أن تركهما "تميم" عليه، في تلك اللحظة اشتعلت عينا "خلود" بشكلٍ حانق وقد تجمدت نظراتها عليهما، أحست بالدماء الثائرة تتدفق بقوة في عروقها لتندفع بلا توقف نحو عقلها فأصابها بصداعٍ غريب، لمن إذًا تلك الأشياء الأنثوية؟ ولماذا يحتفظ بها في درجه الخاص؟ بدأت نيران الغيرة تنهش فيها .. تأملتها "ونيسة" لوهلةٍ معتقدة أنها انزعجت لكشف ذلك، حاولت أن تهون الأمر عليها فقالت بلطافةٍ لتبرر موقفها قبل أن تسيء فهمه:
-اوعي تزعلي مني يا حبيبتي، أنا مش النوع ده من الحماوات اللي بتفتش ورا ولادها!


 
جفاف مرير كالعلقم اجتاح جوفها، قاومت باستماتة تلك الغصة التي أصابت صوتها، بدت متهدجة الأنفاس وهي ترد:
-لا يا خالتي، مافيش أي حاجة.
مسحت "ونيسة" بكف يدها على وجنتها الملتهبة دون أن ينتقص من ابتسامتها الصافية شيء، ثم أضافت بتنهيدة أشارت لتعبها:
-طيب يا قلب خالتك، أنا هاروح أشأر على الأكل اللي على النار ورجعالك، إنتي عارفة مافيش حاجة في البيت مش بتخلص.
غيم القهر على وجدانها فلم تعد تملك من القدرة ما يجعلها تظل راسخة هكذا، قالت فجأة بوجهٍ تحول للوح جليدي ونظراتٍ عكست مزيجًا من الغضب المكتوم والحسرة المؤلمة:
-أنا لازم أمشي.

تقطب جبينها متسائلة بدهشةٍ:
-الله، ده احنا متفقين تقضي النهار كله معايا! وأمك عارفة بده، يعني هنقعد براحتنا.
تعللت بإرهاقٍ مفاجئ ونبرتها قد تحولت للقتامة:
-معلش يا خالتي، حاسة إني دايخة شوية، ده غير أني وعدت أمي متأخرش، وهاجيلك تاني.
رضخت "ونيسة" أمام إصرارها فهتفت مستسلمة:
-ماشي يا حبيبتي، إنتي بردك مهدود حيلك في الفرش واللذي منه، خدي بالك من نفسك
حاولت أن تبتسم فظهرت ابتسامتها مبتورة منقوصة يشوبها عيبًا مريبًا للشك حينما ردت باقتضابٍ
-طيب، مع السلامة.

بيدٍ مرتعشة سحب حقيبة يدها وهي تكاد تسيطر على اتزانها، انتاب الفضول "ونيسة" وهي تتبعها نحو الخارج، ظلت دهشتها مرسومة على محياها، فقد اندفعت ابنة أختها كالطلقة وكأنها وضعت مكوكًا في قدميها لتخرج من المنزل، صفقت "خلود" الباب خلفها بعصبية ملحوظة، فقدت السيطرة على أعصابها بعد اكتشافها لما أسمته خيانة لعهد الحب الوفي، انسابت دمعاتها بحرقةٍ، شعرت بوخزات ألم الحب تفتك بقلبها، غلت الدماء في عروقها وزاد اضطراب أنفاسها، كانت كمن خرج من معركة قتالية مهزومًا هزيمة نكراء، رددت مع نفسها بحنق يتعاظم أضعافًا مضاعفة كلما هبطت درجة من درجات السلم:
-بتخوني يا "تميم"! طب ليه؟ وبعد الحب ده كله؟!

طاردتها الهواجس وسيطرت على ما تبقى مما تملكه من تفكير منطقي .. جُرحت أنوثتها، وطُعن حبها في مقتل بغدره الخائن لعهد الوفاء بينهما، قررت "خلود" أن تهاتفه لتنهي الأمر بينهما، فإن كان لا يريد حبها فليذهب للجحيم، لكنها لن تحيا كظلٍ مهمش في حياته تقتات على ما يمنحه لها من اهتمام حذر، ارتجفت يدها وهي تضغط على الأزرار باحثة عن اسمه، بدت الرؤية صعبة بسبب دمعاتها الفائضة، كانت خيانته لها مدمرة لكل أحلامها، استندت على الحائط حتى لا تسقط، فقدماها عجزتا عن حملها، اهتز صوتها بألم معنوي مميت وهي تستطرد منادية باسمه:

-"تميم"
بدا صوه جافًا جادًا مكتسبًا طابعه الرسمي وهو يرد:
-خير يا "خلود"؟
ارتفعت شهقتها التي استماتت لتكبحها فخرجت من بين شفتيها وهي تلومه بقلبٍ مفطور:
-ليه خنتني؟ ليه؟
لم يظهر التأثر على صوته، لكنه سألها بما يشبه الضيق:
-إيه الكلام الغريب ده يا "خلود"؟ هو إنتي طبيعية
ردت بحرقةٍ وعبراتها تزداد انهمارًا:
-إنت وجعتني أوي يا "تميم"، أنا محبتش حد إلا إنت، كنت قولي إنك مش عاوزني..

أتاها صوته المزعوج مرددًا:
-أنا مش فاهم حاجة!!
تابعت كالمغيبة وصوتها بات واهنًا موجوعًا:
-أنا عرفت الحقيقة، بس كرامتي فوق أي اعتبار.
صرخ بها في نفاذ صبر:
-إنتي مجنونة يا بت؟
تمالكت نفسها لترد ببقايا كبرياءٍ محطم:
-المرادي أنا اللي مش عاوزاك!

استطاعت أن تسمع صراخه يرن بقوة في أذنها:
-يا "خلود" استني آ....
لكنها أغلقت الخط لتنهي المكالمة وقد ذبحها ذلك الإحساس الفتاك بالغدر،
انفجرت باكية بمرارةٍ وحسرة، تهاوت جاثية على ركبتيها عند بداية السلم، حركت جسدها للجانبين وهي تنوح بشدةٍ ليظن من يتطلع إليها أنها فُجعت في أحدٍ عزيزٍ للغاية.

حمولة جديدة كان عليه تجهيزها قبل حلول المساء وفقا للعقد المبرم مع تلك السفينة السياحية، ولكن لانشغال أغلب العاملين في تعبئة ورص الأقفاص الخاصة بسفينة أخرى اضطر "تميم" للاستعانة برفيقه "ناجي" ومن هم على صلة به للذهاب إلى سوق الجملة الشهير لإحضار المطلوب. تلك المكالمة العجيبة التي تلقاها من خطيبته أزعجته قليلاً وانعكست على تعابيره المشدودة.

لم يفهم سبب توترها المفاجئ ورغبتها في إنهاء الزيجة دون تفسير مقنع، ثم تساءل في نفسه عن اتهامها له بالخيانة، عن أي خيانة تتحدث؟ هو لم يكن على صلة بأنثى غيرها، إذًا فكيف يخونها؟ حيرة في غير وقتها سيطرت على عقله مما جعله يرجئ التفكير مؤقتًا في الأمر ريثما ينهي أعماله التي تنتظره .. ترجل من الشاحنة وسار مهمومًا ونظراته إلى حد ما غائمة، لاحظ "ناجي" تبدل ملامحه للعبوس فتلكأ عن السير ليسأله:
-في إيه يا "تميم"؟

رد باقتضابٍ وهو ينظر له:
-مافيش.
فطن لكونه لا يحبذ الحديث عن أمر يخصه فأشار بيده يدعوه:
-طب بينا عشان نلحق نجمع البضاعة.

أومأ برأسه وخطا نحو البوابة المتسعة، كان السوق مزدحمًا مليئًا بالتجارِ من كل حدبٍ وصوب، الشاحنات من كافة الأحجام تدخل وتخرج معبأة بما تشتهيه الأنفس، الكل يبتاع ويُزايد ليحصل على الأفضل، ومهمته هنا تقتضي شراء الأجود من الخضراوات والفاكهة بسعر جيد لضمان تحقيق الربح في الأخير. سار بشموخٍ وعظمة بين المزاحمين في المكان، يلوح بيده تارة، ويلقي التحية مبتسمًا تارة أخرى، لكن ذلك الصوت الكئيب الساخر المنادي عاليًا استوقفه فجأة:
-محدش قالي إنك خرجت من السجن.

استدار "تميم" بجسده للخلف ليجد كائنًا لزجًا يطالعه بنظراته الحقودة، ما زال يحتفظ بملامحه السمجة وجسده المتهدل المتراخي في بعض أجزائه والذي يبرزه جلبابه المتسخ قليلاً، عرفه على الفور؛ إنه "سراج" أحد أهم تجار سوق الجملة حاليًا، وتحديدًا من أحدث به عاهة مستديمة وكاد ينحره لتجرأه قديمًا على والده ونعته بألفاظ قذرة نابية مست شرف العائلة.

حينها تناسى إنسانيته وأوشك على سفك دمائه لولا مشيئة القدر وتدخل الجميع لمنعه من مذبحة خطيرة، آنذاك أُلقي القبض عليه، ولم ينكر التهم الموجهة إليه وصدر الحكم ضده بالحبس، اعتبر "تميم" ما حدث وسامًا على صدره يدعو للتفاخر والزهو، وبات الكل يخشى اندلاع غضبه .. وبالرغم من مرور السنوات إلا أن غضبه يتجدد ويصل لذروته كلما تذكر جريرته، وها هو اليوم يقف أمامه يستفزه ليخرج الوحش الكامن بداخله، تكورت قبضة يده كنوع من كظم الغضب -مؤقتًا- خاصة حينما تابع "سراج" وصلته المتهكمة:
-ده أنا فكرتك هتعفن هناك.

بكل هيبةٍ وقوة رد عليه وعيناه تتوهجان بشكل مخيف:
-طلعك نأبك على شونة، ولسه زي ما أنا، وبعدين السجن للرجالة!
غمز له ساخرًا بنبرة تعمد أن تكون مسموعة للجميع:
-وللنسوان كمان، ولا إيه؟
انتصب "تميم" في وقفته فبدا أكثر مهابًا ورهبة، هدر يحذره بنبرة لا تبشر بأي خير:
-شكلك نسيت اللي حصلك زمان، كنت زي الدبيحة، مرمي تحت رجلي، وجزمتي فوق رقبتك، وكل اللي هنا شِهدوا على جُرستك!

امتلأ وجه "سراج" بتعابير حانقة، وتحول وجهه للقتامة عندما تابع غريمه إهانته القاسية له:
-ها قولي، لو عاوزني أمسح بيك أسفلت السوق من تاني، فأنا جاهز!
دس الأول يده في جيب جلبابه البيج ليخرج منه مدية يحتفظ بها دومًا لاستخدامها في قطع الثمار، أشهرها في وجهه وبدلها بين قبضتيه كنوعٍ من الاستعراض، ثم صاح يهدده علنًا:
-وإنت الصادق مطوتي جاهزة تسيب تذكار للمدام تشوفه ليلة دخلتها...

إنها تلك اللحظة التي لا يعود فيها للعقل أي وجود، كلمات كالقنابل الموقوتة أشعلت فتيل هياجه الجامح، اربد وجهه وأطلق الشرر من عينيه، لم يرتدع "سراج" وتجرأ متابعًا بما لا يمكن السكوت عليه دون عقاب مهلك:
-ألا بصحيح نويت تتجوز ولا عملوا عليك حفلة في السجن وخلوك تترهبن؟!!!
تهدج صدره بشكل مخيف وقد بات محملاً بمشاعر غاضبة، ناقمة، عدائية، ساخطة، جلجل صوت "تميم" متوعدًا بلهجة مرعبة:
-آه يا ابن ال .....، المرادي هاجيب أجلك!!

رد غير مبالٍ وابتسامة مستفزة تعلو ثغره، ويده تلوح بالمطواة عاليًا:
-وريني يا ابن "ونيسة"!
اندفع نحوه صارخًا به:
-أمي أشرف من إن اسمها يجي على لسان واحد "....." زيك!

كانت حركته المفاجئة ناحيته -بكامل غضبه- قد أذهلته، لكمة تعرف الطريق جيدًا إلى فك "سراج" أطاحت به وقذفت بعمامته التي تلتف حول رأسه بعيدًا، ترنح من شدتها وحاول التماسك، ثم ما لبث أن وجه واحدة مماثلة لها في القوة تلقاها "تميم" أسفل عينه اليسرى، لكن الأخير تغاضى عن ألمه ليشرع في الهجوم عليه، نزف الدماء فورًا من جرح عميق أحدثته المطواة في صدره، استشاط غضبًا واندفع كالثور الهائج مسددًا لكمة أخرى أشد قوة وأعظم شراسة في عنق "سراج" فأشعرته بأن أنفاسه قد قطعت مما جعله يفقد زمام الأمور في لحظة فمنحت الأسبقية للأول..

فرد "تميم" ذراعه ليكمل اعتدائه على كتلة اللحم الكائنة أمامه، طرحه أرضًا مستخدمًا كل قوته، ثم جثا فوقه يكيل له اللكمات يمينًا ويسارًا على وجهه الذي بات كالعجين .. أقام رجال "سراج" الدنيا ولم يقعدوها اندفعوا للتشاجر مع "تميم" وأتباعه، وتحولت ساحة السوق في ثوانٍ معدودة لساحة حرب مميتة، الكل يتراشق بالألفاظ وما تطاله الأيدي من أسلحة بيضاء، وسلاسل حديدية .. الأقفاص تطايرت في الهواء بشكلٍ مرعب واستخدمت في الضرب على الأجساد والإطاحة بالرؤوس، حالة من الفوضى الصاخبة عمت المكان واختلطت مع الصيحات المجلجلة.

نزف "سراج" الدماء من بين أسنانه، كذلك تحطمت سنتين من فكه السفلي جراء العنف المفرط ل "تميم"، أوشك الأخير على إزهاق روحه لولا تدخل كبار التجار للفصل بينهما، أبعدوه من فوقه وأحدهم يرجوه بشدة:
-اهدوا يا رجالة، مايصحش كده!
اخشوشن صوته المحتقن وتشنجد وهو يرد حاسمًا أمره:
-الكلب ده مالوش دية عندي، هايموت النهاردة!

تعلق الحاج "لطفي" أحد أهم كبار تجار السوق -ممن يمتازون بالسمعة والصيت والكلمة المسموعة عند الآخرين- بكتفه ليضمن بقائه في مكانه، ثبت وجهه عليه ونظر في عينيه يتوسط عنده بنبرة أقرب للرجاء:
-هو غلط في حقك، وكلنا شاهدين، بس إنت اهدى، واللي عاوزه هيتعمل!
زجره قائلاً بإصرارٍ مخيف:
-أنا مش هاسكت، رجالتي هيدبحوه، وكل اللي من طرفه هيتصفى النهاردة!

استند "سراج" على مرفقه ليعتدل في رقدته، حاول أحدهم مساعدته على النهوض لكن ثقل جسده الكبير لم يسعفه في شيء، ومع ذلك رد متحديًا دون خوفٍ أو ارتعاب:
-ده لو فضلت عايش يا ابن "ونيسة"!
على الفور استدار نحوه "لطفي" يحذره بصوته الأجش المرتفع قبل أن تتفاقم الأمور مجددًا ويحدث ما لا يُحمد عقباه:
-اتلم يا "سراج"، من امتى بنجيب سيرة الحريم؟ ولا إنت قلبت مَرَة وبقيت بتغلط زيهم؟ قولي عشان أبقى عارف لما أتعامل معاك بعد كده!

إهانة غير مقبولة، بل سَبَّة على الجبين، تلقاها من معلمه ذو الشأن الرفيع، تطايرت شرارات الحنق المختلطة بالحقد من عينيه ولم يجرؤ على التفوه ليدرأ إهانته، نكس رأسه في ضيقٍ وإن ظل غضبه مستعرًا، التفت "لطفي" لينظر إلى "تميم" موجهًا حديثه بشكلٍ عام:
-الكلام ده ماينفعش، كبارات السوق هيتلموا النهاردة ونشوف حل لده، مش هانستنى أما تحصل جناية قتل هنا!
كان كلامه نافذًا لا يجوز مناقشته، سحب نفسًا سريعًا لفظه وهو يكمل بصرامةٍ:
-ارجع يا "تميم" عند الحاج "بدير"، وطلباتك هتوصل لحد عندك.

عانده بوجهه المتجهم رافضًا الإصغاء له:
-مش ماشي من هنا!
ضاقت عينا "لطفي" وهو يعنفه بحذرٍ:
-هو أنا ماليش كلمة عندك ولا إيه؟
تنحنح قائلاً بتذمرٍ:
-إنت على عيني وراسي، بس ...
قاطعه منهيًا الأمر:
-خلاص يبقى تسمع الكلام، اتوكل على الله وبضاعتك هتوصلك!

نظرة نارية تركزت من "تميم" على وجه "سراج" وهو يرد بنبرته التي اكتسبت قوة:
-ماشي كلامك!
شكره بامتنانٍ عظيم:
-أهوو ده كلام الرجالة!
استبد الغيظ ب "سراج" الذي لم ينل نفس القدر من الاحترام والتبجيل وكأنه نكرة بالرغم من مكانته المرتفعة بين باقي التجار، اضطر أن يكظمه حتى تحين اللحظة المناسبة، حينئذ سيدعسه تحت قدميه ويظفر بانتقامه الدامي منه.

ندبٌ وعتابٌ لا بأس به ناله منها بعد أن رأت بأم عينيها ما أصاب وجهه من كدمات وجرحٍ قطعي في يده، حاول إخبارها بأن ما حدث له أمر معتاد نتيجة بعد الشجارات المفتعلة في تلك الأسواق المزدحمة بأربابها، تركها تعاتبه حتى أفرغت ما في جعبتها، ثم دخل إلى الحمام ليغتسل ويبدل ثيابه، فلديه زياؤة طارئة لخطيبته ليفهم منها ما الذي حدث بعد أن تجاهلت طوال النهار رسائله واتصالاته المتكررة بها..

وقف "تميم" أمام المرآة يمشط شعره، لم يستغرب بقاء والدته بالغرفة، فدومًا حينما يتسبب في المشاكل تجلس على طرف فراشه تلومه، وتوبخه، وتحذره من عواقب طيشه. التقت عيناه بانعكاس وجهها في المرآة راقبته عندما سألته كأنها تحقق معه:
-هاتروح فين تاني يا "تميم"؟ ناوي تضارب مع اللي ما يتسمى؟

لف الشال حول عنقه ثم استدار ناحيتها ليجيب بهدوء ضاعف من ريبتها:
-لأ يامه، مش ناوي أتخانق النهاردة..
قطبت جبينها متسائلة بتوجسٍ ونظراتها القلقة مرتكزة على ملامحه الباردة:
-أومال رايح فين؟
أخرج زفيرًا بطيئًا قبل أن يجيبها على مضضٍ:
-لبنت أختك، قالبة عليا من الصبح وأنا مش عارف ليه!
رددت عفويًا وقد بدت مندهشة:
-"خلود"!

-أيوه
سألته مستوضحة:
-مالها؟ ما هي كانت زي الفل من الصبح..
رد بنفس النبرة الممتعضة:
-معرفش، اسأليها، ده لو ردت عليكي أصلاً!
لطمت على صدرها بشكلٍ عفوي قبل أن تلومه:
-اوعى تكون زعلتها؟ أنا عارفاك لما مخك يقفل و...
قاطعها مدافعًا عن نفسه:
-هو أنا لحقت أصلاً أكلمها؟! ده أنا في هم كبير من طلعة النهار.

زمت شفتيها بطريقة مستنكرة، وشردت تستعيد مشاهد ما دار ظهيرة اليوم في المنزل، أخرجها "تميم" من سرحانها السريع بسؤالها:
-قوليلي هي مكانش باين عليها حاجة؟
نفت قائلة:
-لأ يا ابني، كانت تمام.
عاد ليسألها بإلحاح أكبر علها تعتصر ذهنها وتتذكر تفصيلة ما ربما تكون قد غابت عنها:
-يعني مشيت من هنا مبسوطة؟ ماشتكتش من حاجة؟ أومال القلبة السودة دي جت منين؟!
تطلعت إليه متسائلة:
-هي قالتلك إيه؟

أجابها باستنكارٍ كبير وتعبيرات ناقمة:
-مفكرة إني عارف عليها واحدة!
شهقت "ونيسة" بصوتٍ مرتفع قبل أن تؤيده:
-وده كلام يتصدق بردك؟
قال في تهكمٍ:
-قوليلها، الواحد أصله مش فاضي للهري ده، وهي عاملة حوارات
-كبدي يا ضنايا
ران الصمت بينهما لعدة لحظات انشغل فيها "تميم" بارتداء حذائه، لاح في باله سؤال بعينه فنطق به:
-طب هي "هاجر" جت النهاردة وهزرت معاها بكلام بايخ ولا حاجة؟

أجابته والدته مؤكدة:
-لأ مجاتش، بس أختك بتحبها أكتر من روحها ..
أطبق على شفتيه مانعًا سبة تعبر عن استياءه من الخروج من جوفه، ولكن تبدلت تعابيره فجأة للاندهاش الحائر حينما رددت أمه عفويًا:
-لا يكونش ده حصل بسبب التوكة؟!
تعابير واجمة غطت كامل وجهه وهو يسألها:
-توكة إيه؟
أشارت بيدها وهي تجاوبه:
-اللي كانت في درج الكومودينو..

على الفور تحرك في اتجاه الكومود وفتح الدرج العلوي ليجد منديل الرأس والمشبك به، أخرجهما منه ورفعهما نصب عينيه للحظة قبل أن يتركهما من أصابعه ليسقطا بالداخل، التفت ناحيتها متسائلاً بانزعاجٍ كبير:
-هو إنتي قولتلها إيه بالظبط؟
قصت عليه ما دار بالتفصيل لتتضح الصورة كاملة في ذهنه، وضع يده أعلى رأسه في حركة مستاءة من تصرف والدته الأحمق الذي فتح عليه بابًا من المشاكل بدون داعٍ، زمجر قائلاً في غضب:
-دول مش بتوعها يامه، ليها حق تفكر إني بأخونها!
سألته في فضولٍ:
-أومال بتوع مين طيب؟

هتف بعصبيةٍ اتضحت في صوته وحركته بداخل الغرفة:
-أنا لاقيتهم في الشارع وأنا ماشي، يا ريتني كنت رميتهم بدل وجع القلب ده!
شعرت "ونيسة" بالذنب وسوء تصرفها بالإيحاء ل "خلود" بأنها تشجعها على التودد من ابنها لتخلق نوع من الألفة بين الثنائي المقبل على الزواج بعد بضعة أيامٍ، ومع ذلك ألقت باللوم عليه، فقالت:
-وأنا هاعرف منين يا ابني؟ ما إنت مابتقولش حاجة!
استمر على عتابه لها قائلاً:
-حتى لو كده، برضوه مكانش ليه لازمة البؤين بتوعك دول!

تنهدت معقبة بقلة حيلة:
-أهوو اللي حصل بقى.
سألها وكأن عقله قد توقف عن إيجاد الحلول المنطقية:
-وهنحلها إزاي دي؟ يعني كنت ناقص خوتة!
اقترحت على استحياءٍ:
-حاول كده تضحك عليها بكلمتين، جايز ربنا يهديها وتعدي الحكاية على خير.
كان غير مقتنع بما تفوهت به، وقال موجزًا كتعبيرٍ عن عدم رضائه:
-ربنا يسهل.

همَّ بالخروج من الغرفة لكن استبقته والدته بالصياح عاليًا وكأن عقلها قد أضاء بفكرة ما:
-استنى يا "تميم"...
استدار ناحيتها فتابعت:
-إنت تقولها إنهم بتوع "هاجر"، وكانت نسياهم عندنا، فإنت خدتهم منها وعنتهم معاك لحد ما تشوفها
بدا حلاً جيدًا، لكن شكوكه جعلته يتساءل:
-وده هايخيل عليها؟

رد مبتسمة ابتسامة عريضة لتشير إلى استعادتها لضوابط الأمور:
-ملكش دعوة، أنا هأكد على "هاجر" تقول نفس الكلام، وإن شاء الله تصدق، وأمك مش هينة بردك
بادلها ابتسامة صغيرة على محياه أضاف بعدها:
-خلاص هاجرب..
نظرت لها بعينين متفائلتين ثم هتفت متضرعة:
-ربنا يهدي سركم يا ابني.
-يارب.

تبعته في سيره إلى الخارج وهي تكمل على سجيتها الفطرية:
-وربنا احنا اتحسدنا، ده شيطان ودخل بينكم..
غمغم "تمتم" ساخرًا في نفسه وهو يمسك بمقبض باب المنزل ليديره:
-هو أنا لحقت أعمل حاجة عشان الشيطان يدخل، ولا هو بيتلكك!

فتح الورقة المطوية التي تشربت الكثير من الزيت والبخار المنبعث من الطعام الساخن، ثم فردها على الطاولة القصيرة المستديرة لتظهر وجبة شهية من (الكباب والكفتة)، هبط "حمص" من على مصطبته القديمة ليجلس على الأرضية فور أن اقتحمت الرائحة الزكية أنفه، وبيده المتسخة اختطف قطعة كبيرة دسها في فمه، وتلذذ بمذاقها الذي اشتهاه للغاية، ظهرت علامات الاستمتاع واضحة على تعابيره، نظر له "شيكاغو" بتأملٍ ثم سحب قطعة يلكوها في فمه، تملكه نفس الإحساس الرائع بتناول أحد أشهر الوجبات وأغلاها على المعدمين من أمثالهم .. تناثرت البقايا من جوف "حمص" وهو يستطرد:
-بس تصدق الشغل مع المعلم "تميم" حاجة تانية.

رد عليه "شيكاغو" يؤيده في كلامه:
-ده حاجة أخر نغنغة، مصلحتين تلاتة معاه وهنبطل سرقة!
رمقه بنظرة نارية رافضة قبل أن يوبخه بحدةٍ:
-نبطل، إنت عبيط، حد يقول للرزق لأ؟!
سأله بفمٍ ممتلئ على آخره:
-ليه في حاجة جديدة؟

أجابه بعد أن تجرع رشفة كبيرة من مشروبه المسكر الذي أحضره:
-وقعتلك على حتة ألماني إنما إيه، هتريحنا بتاع شهرين تلاتة.
تساءل في اهتمامٍ:
-دي فين دي؟
تجشأ موضحًا:
-عند الفلل القديمة، مدير أمن سابق، على المعاش دلوقتي وعايش لوحده.
توقف "شيكاغو" عن ابتلاع الطعام ليحدق فيه مصدومًا، ثم صاح محتجًا:
-إنت جاي تودينا عش الدبابير؟!!!!

قال غير مكترثٍ وقد بدا متحمسًا لتلك السرقة:
-يا عم ده راجل مكحكح، مش هيستحمل زقة مننا، وبعدين أغلب الوقت مش موجود في فيلته.
حذره بلهجة جادة ربما يتراجع عن فكرته المتهورة تلك:
-بلاش منها.
أصر على رأيه قائلاً:
-صدقني هنسترزق، وزبونها جاهز هيدفع على طول.

وضع قطعة أخرى من اللحم الشهي في جوفه، ابتلعها ورد عليه بعبوسٍ:
-مش مرتاح
ظهرت على تعابير "حمص" علامات الارتياح، استرخى في جلسته وأمسك بزجاجة مشروبه يرفعها نحو فمه، ثم قال عن ثقة تامة وقد عكست نظراته قتامة مريبة:
-يا عم حط في بطنك بطيخة صيفي، هتعدي زي اللي قبلهم!

-تسلم إيدكم يا بنات، رجعت زي الأول وأحسن.
قالتها "آمنة" بابتسامة بشوشة على تعبيراتها الهادئة وهي تتأمل بعينين مشرقتين العربة بعد تجديدها بالأموال التي حصلت عليها جراء بيع أسورتها الذهبية، لم يذهب مالها سدى، هكذا رددت في نفسها! كنت ابنتاها قد توليتا نقل العربة إلى تلك الغرفة بعد تنظيفها لتصبح مكانًا آمنًا للاحتفاظ بها دون الخوف من تكرار تخريبها، التفتت "همسة" ناحية والدتها لتأخذ منها صينية السندوتشات التي أعدتها لهما، بينما احتضنتها "فيروزة" وشددت من ضمها لها وهي تشكرها معترفة بجميلها الكبير:
-الحمدلله يا ماما، كله بفضل ربنا ومساعدتك لينا، لولاكي كان زمانا حاطين إيدنا على خدنا.

ردت بحنوٍ:
-ربنا يفرحكم دايمًا..
ثم أشارت بعينيها للأعلى مكملة جملتها:
-هاطلع أنا فوق ولو عوزتم حاجة نادوا عليا.
هزت "همسة" رأسها ترد عليها:
-ماشي يا ماما
تابعتها الاثنتان بعينيهما إلى أن صعدت على الدرج واختفت بالأعلى، ثم تحركت "همسة" نحو أحد الصناديق الخشبية الموضوعة جانب الحائط لتسند الصينية عليها، حملقت في العربة قائلة:
-تعرفي كده شكلها بقى أحلى.

تنهدت "فيروزة" قائلة في سعادة ممتزجة بالارتياح:
-الحمدلله، أنا كنت هاموت بحسرتي لو المشروع ده باظ.
-ربنا كريم، والتوسيعات اللي اتعملت من جواها بقت أحسن
-مظبوط، هنعرف نقف براحتنا، وكمان عندنا مخزن نعين فيه حاجتنا
-صح كلامك.

لفتة عادية برأسها نحو جانب العربة جعلتها تلمح "حمدية" وهي تتلصص عليهما من الخارج من خلال انعكاس صورتها في المعدن، انقبض قلبها وشعرت بإحساس مزعج يتخللها، لذا مالت "همسة" نحو أختها تقول لها بصوتٍ يكاد يكون مسموعًا:
-الحقي مرات خالك بتبص علينا!
امتقع وجه "فيروزة" وتغيرات نظراتها للضيق، كزت على أسنانها هامسة في توعدٍ صريح ينم عن بغضها لها:
-بجد، ليها نصيب تتهزأ!!

اقتربت من الباب مدعية حديثها مع أختها، فقالت بنبرة عالية متعمدة أن تصل إليها:
-الجو جايب هوا بارد، بارد أوي، مش كده يا "همسة"؟
في البداية لم يتفقه ذهن "همسة" إلى ما تفعله، وبالتالي لم تستطع مجاراتها فتساءلت بقليل من الحيرة:
-فين ده؟
أجابتها بنبرة موحية ونظرات ذات مغزى:
-من برا، مش حاسة ولا إيه؟

انتبهت "حمدية" المرابطة بالخارج لكونها المعنية بذلك الحديث غير المباشر، استرقت السمع وتحفزت للرد لكنها منعت نفسها قبل أن تتهور حتى لا تكشف أمرها، في حين وضعت "فيروزة" إصبعيها على أنفها لتسده مكملة استخفافها بها بشكلٍ مهين:
-لأ ومليان ريحة زفرة، يا ساتر، هانتخنق من الريحة المعفنة دي، في إيه كده برا، فسيخ ولا تنضيف سمك؟!

كادت "حمدية" أن تخرج عن طور سكونها المضطر لترد عليها، بدت كمن تتصاعد ينفث دخانًا من أذنيه حينما تابعت "فيروزة" تمثيليتها المتهكمة عليها:
-أحسن حاجة أعملها أقفل الباب، خلي القذارة تفضل بعيد عننا!
وبكل قوة صفقت الباب في وجه "حمدية" التي انتفض جسدها تلقائيًا من الصوت المرتفع، استشاطت غضبًا من إهانتها القاسية لها، احمر وجهها غيظًا واشتعلت نظراتها في حنق، ثم تمتمت من بين أسنانها المضغوطة بنبرة مغلولة:
-يا بنت ال .....! بقى أنا تلأحي عليا بالكلام؟

كورت قبضة يدها وضربت بها على الدرابزين، ثم ما لبثت أن أمسكت بخصلة من شعرها لفتها حول إصبعها متوعدة "فيروزة" بحقدٍ مضاعف عكس قدرًا محدودًا من نواياها الخبيثة:
ماشي يا بنت "آمنة"، وحياة مقاصيصي دول لهفرجك ...!!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة الثامنة بقلم منال سالم


كوعاءٍ موضوعٍ على موقد مشتعل ويحوي مياه تغلي حتى تقطعت اندفعت صاعدة إلى منزلها وكلماتها الحانقة تخرج من بين شفتيها، احتقنت نظراتها أكثر، واِربد وجهها بعلامات الغضب المحموم، وقفت "حمدية" أمام باب منزلها تفتش عن مفتاحها في محفظة يدها، تصاعد غضبها أكثر مع تذكر إهانة تلك المستفزة لها، همست قائلة وهي تكز على أسنانها.


 
-والله لأولعها حريقة، وهانشوف مين هايضحك في الآخر يا بنات "آمنة"!
جال ببالها أن تشوه الحقائق وتختلق الأكاذيب، برقت عيناها بوهجٍ شيطاني لئيم، تحولت في لحظة لأفعى ماكرة تحيك المؤامرات لتوغر الصدور وتزرع الفتن، حاولت أن تستعيد أي ذكريات حزينة في رأسها لتساعدها على استدعاء عبراتها، ثم بدأت في النواح وهي تدس المفتاح في قفله، انفتح الباب فرفعت صوتها المنتحب قائلة بنبرة أقرب للتحسر:
-بقى دي آخرتها، أه ياني يامه، مكنش العشم!


 
رفع "خليل" أنظاره عن الأوراق المفرودة على الطاولة أمامه والتي بدا منهمكًا في دراستها ليتطلع إليها باستغرابٍ، ضاقت نظراته متسائلاً بفتورٍ محسوس:
-مالك يا "حمدية"؟
ألقت بجسدها على الأريكة ثم أحنت رأسها على صدرها لتخبئ وجهها خلف يدها، وواصلت نحيبها بنبرة كانت إلى حد ما مفتعلة، ضجر زوجها من مماطلتها فصاح بها بنفاذ صبرٍ:
-يا ولية في إيه؟


 
ادعت مسحها لدموع التماسيح الزائفة، وقالت له بندمٍ أثار حفيظته:
-شايف يا أخويا بنات أختك عملوا فيا إيه؟ كله بسبب طيبتي وحنية قلبي!
مل من ثرثرتها الزائدة عن الحد والتفافها حول أساس المشكلة، لذا هدر بها بتذمرٍ:
-ما تنطقي عملوا إيه الطواعين دول؟

جاوبت ما طرحه بمزيد من الغموض المستفز له:
-لأ وأنا اللي زي الهبلة نزلت أخد بخاطرهم وأقولهم يطلعوا يصالحوك والمياه ترجع لمجاريها
نفخ في استياءٍ من طريقتها الملتوية في الإشارة للأمور، حاول السيطرة على أعصابه ليسألها من جديد:
-أنا مش فاهم حاجة، وضحي كلامك.
تنحنحت قائلة بنبرة متقطعة متوسلة إياه:
-هاقولك يا "خليل"، بس بالله عليك ما تعملهم حاجة، هي غلطتي من الأول.
-ماشي.


 
تركزت عيناه عليها وهي تسرد أكذوبتها المقنعة بما يجعلها في موضع المجني عليها وليس المتطفلة الخبيثة، حيث ادعت كذبًا أنها ذهبت للحديث مع ابنتي أخته لإعادة روابط الود بينهما وبين خالهما، لكن عاملت الاثنتان إياها بأسلوب فظٍ ووقح وتتطاولتا عليها بكلماتٍ مهينة مما أحرجها للغاية، استشاطت نظراته حنقًا مما سمعه، ببساطةٍ شديدة نجحت في استفزازه واستثارة أعصابه المتوترة .. ضرب بيده بعصبيةٍ على الطاولة لتهتز بما عليها صائحًا وقد هب واقفًا:
-أما بنات قليلة الأدب بصحيح متربوش ولا عرفوا تربية، عاوزين قطم رقبتهم..

أخفت عينيها الماكرتين وهي تكمل:
-ما هو لو كانوا بيعملولك حساب، كانوا احترموك وقدروا نزلة مراتك ليهم
حقًا كانت ماهرة في انتقاء الأسوأ من التعبيرات لتنشر الحقد والكراهية بين النفوس، تقدم نحوها "خليل" ليربت على كتفها وكأنه يهدئها، بدا صوته متهدجًا منفعلاً وهو يقول لها:
-معلش يا "حمدية"، حقك عليا..


 
أغاظتها تلك الكلمات التي أوحت لها بسلبيته تجاه الموقف، تضاعف إحساسها بالضيق منه، خشيت أن يخذلها ويقف كالمشاهد تاركًا إياها تحترق بغيرتها وحقدها، لهذا عمدتٍ إلى زيادة الطين بلة بالاسترسال قائلة:
-كله من أختك، لو كانت وقفتلهم ومنعتهم من المسخرة دي كانوا اتلموا، بس نقول إيه؟ هي اللي مشجعاهم على الفُجر ده، أل وعملالي متمسكنة وغلبانة، ياما تحت السواهي دواهي!!

عكست نظراته نحوها كراهية بائنة بعد أن تلفظت بتلك الجمل المليئة بالبغضاء، وجهه المشبع بغضبه ازداد تقلصًا، حملق فيها قائلاً:
-اصبري عليا بس أخلص مراجعة الجرد السنوي للمخازن وحسابات الموظفين وأفوقلهم...
التقط أنفاسه ليضيف بقسوةٍ متوعدة:
-وساعتها هاجيبهم تحت رجليكي يعتذرولك!
زمت شفتيها لتقول في عدم اقتناعٍ ونظرة ساخطة تظهر على تعبيراتها بوضوحٍ جلي:
-أما أشوف...


 
نفخ الهواء الذي استنشقه دفعة واحدة حينما وقف أمام أعتاب المنزل ليستعد نفسيًا لتلك المواجهة مع "خلود"، خطيبته التي تعشقه بكل جوارحها، تمنى أن تكون والدته قد عالجت الموقف الذي لا ناقة له فيه أو جمل سوى أنه وجد تلك الأشياء واحتفظ بها دون أن يعرف صاحبتها .. رفع "تميم" يده للأعلى ليقرع الجرس، تنفس بعمقٍ ورسم تلك البسمة الثقيلة الباردة على محياه ليبدو لطيفًا حينما ينفتح الباب، تأهبت حواسه وقد أطلت خالته منه ترمقه بنظرة عبرت عن امتعاضها، لاحظ تجمد نظراتها على الكدمة التي تزين وجهه، بدت كما لو كانت سعيدة لذلك، وبتكشيرة ظاهرة على جانب شفتيها سألته:
-إزيك يا ابن أختي؟

رد مرحبًا بها:
-الحمدلله، أخبارك إيه يا خالتي؟
تنهيدة بطيئة خرجت من جوفها قبل أن تقول:
-نحمده على كل حال..
سألها في لباقةٍ بعد أن لاحظ أنها تسد الطريق عليه لتمنعه من الدخول للمنزل بشكلٍ غير مباشر:
-مش هاتقوليلي اتفضل؟
تنحت ببطءٍ للجانب ليمر بجوارها ووجهها ما زال محتفظًا بتعابيره المزعوجة، التفت برأسه نحوها يسألها:
-"خلود" صاحية؟
أجابت في سخط:
-وهي من امتى بتنام الميعاد ده؟!

تصنع "تميم" الابتسام كبديلٍ عن الرد عليها، اتجه تلقائيًا للصالون حيث اعتاد الجلوس به حينما يلتقي بها، تبعته وكأنها ظله ثم جلست في مواجهته مسلطة عينيها عليه وهي تسأله مباشرة:
-قولي بقى، إنت ورا لوية بوزها؟
انزعج منها، ومع ذلك رد عليها متسائلاً بما يشبه المراوغة حتى لا يُشبع فضولها:
-هي قالتلك كده؟
هزت رأسها بالنفي وهي تجاوبه:
-لأ .. بس أنا خمنت.

استقام في جلسته واشتد كتفاه معقبًا عليها:
-طالما مقالتش يبقى متصدقيش كل حاجة تشوفيها يا خالتي!
اختلج وجهها من جملته تلك فحذرته بلهجةٍ شديدة:
-شوف يا ابن "بدير"...

ظهر الضيق عليه لمناداته هكذا، بذل مجهودًا مضاعفًا ليبدو ثابت الملامح أمامها حتى لا يمنحها فرصة الاستمتاع بإزعاجه، في حين تابعت "بثينة" تهديدها الضمني بلهجة صريحة:
-اللي هيقرب من ولادي ولا يفكر يأذيهم هاقرقشه بسناني وأكل لحمه ني، واللي بس يمس شعرة منهم هيلاقيني واقفة في وشه، كفاية أوي خسارتي في أبوهم زمان بسببكم!

ظل كعادته رابط الجأش قبالتها حينما تشرع في الحديث عن الماضي وإلقاء التهم على الآخرين متغافلة عن قصدٍ عن حقائق الأمور، ثم رد عليها ببرودٍ وكامل عيناه مثبتة عليها:
-بلاش نفتح لبعض الدفاتر القديمة!
نهضت من أمامه تقول:
-أديني بأعرفك، زعل "خلود" مش هاسكت عليه!
رمقها بنظرة جافة وهو يؤكد لها:
-اطمني .. أنا مش من النوع ده، بس شكلك نسيتي مين ابن الحاج "بدير"!

تطلعت إليه بعينين حادتين، ما زال قادرًا على الاحتفاظ بكرامته دون مساس، بدا وكأنه قد سيطر على الموقف واستعاد قدرته على التحكم بمجريات الأمور مع كلماته الأخيرة تلك، اكتست خلجاتها بقليلٍ من الضيق وهو يضيف بوقاحةٍ:
-ومعلش ناديهالي، أصلي مش فاضي!

انصرفت منه أمامه لتستدعي ابنتها التي كانت مشغولة بإجراء مكالمة هاتفية مع ابنة خالتها، لوحت "خلود" بيدها لأمها كتعبير عن فهمها لإشارتها، تغيرت كليًا عن الصباح، كانت أكثر ارتياحًا وهدوئًا، حتى بكائها غير المفهوم قد تلاشى وكأن شيئًا لم يحدث .. وبيدها المتحررة ضبطت حجاب رأسها، وشدت فستانها على جسدها ليبدو مفرودًا، ثم دنت من "تميم" راسمة ابتسامة رقيقة على محياها وهي تنهي اتصالها بمرحٍ لطيف:
-ماشي يا "هاجر"، هنتكلم تاني، سلام يا حبيبتي.

كانت على وشك الترحيب بخطيبها الذي هب واقفًا ليسألها بخشونةٍ:
-ممكن أفهم في إيه؟
أطرقت رأسها معتذرة كطفلة صغيرة أخطأ التصرف:
-أنا أسفة.
رد متسائلاً بوجهٍ جاد للغاية في تعبيراته:
-ده على إيه بالظبط؟

رفعت عينيها لتتطلع إلى في ندمٍ آسف، لكن ما لبث أن تحولت نظراتها للخوف وتعابيرها للقلق حينما رأت ما حل بوجهه، جُزع قلبها وهتفت تسأله في لوعةٍ وتلهفٍ:
-إنت مال وشك، حصلك إيه..
ضغط على شفتيه رافضًا الإجابة عليها، انخفضت عيناها لتنظر إلى كفه الملفوف بشاشٍ طبي، وضعت يدها على فمها تكتم شهقتها المذعورة، نظرت له مرددة بارتعابٍ:
-الله وإيدك كمان؟ طمني عليك يا حبيبي إنت كويس؟
-أيوه
-طب ده من إيه؟!

تجاهل الإجابة عن أسئلتها ليرد بضيقٍ:
-مش موضوعنا، احكيلي اللي حصل
أدركت "خلود" تفاقم المشكلة التي تسببت فيها دون داعٍ من خشونته معها، أطرقت رأسها من جديد في حرجٍ، واستطردت بربكةٍ ظاهرة في نبرتها:
-ده.. كان سوء تفاهم.. وخلاص اتحل..
شعر "تميم" بالارتياح يتخلله بعد أن فطن لنجاح خطة والدته في خداعها، لم يحبذ استخدام تلك الطريقة معها، فهي مناقضة لطبيعته، لكنها كانت الأمثل لتلافي تطور المشكلة، ومع ذلك حافظ على رسمية ملامحه متسائلاً ليبدو أكثر إقناعًا:
-قصدك على توكة "هاجر"؟

أومأت برأسها إيجابًا بدلاً من الرد عليه، ثم أضافت:
-أنا افتكرت إنها ...
لم يحبذ "تميم" التطرق أكثر في تلك المسألة السخيفة وإعطاها أكبر من حجمها، لذا قال بحسمٍ ومنهيًا الخلاف بينهما:
-"خلود"، أنا يوم ما أحب أعمل حاجة هاعملها في النور، مش أنا اللي أوعد واحدة بالجواز، وأمشي مع واحدة تانية!

ظهر الندم في عينيها جليًا خاصة حينما استفاض موضحًا:
-ولو مكونتش عاوزك يا بنت الحلال مكونتش كملت معاكي حتى لو مين أجبرني على ده، بس إنتي برضوه مش قادرة تفهميني..
كلمات كالسياط هبطت عليها فأوجعتها بشدة، أحست بغصة مريرة تؤلم حلقها وهي تبرر له تصرفها:
-قدر موقفي يا "تميم"..

غص صدرها بالبكاء مستعيدة ذلك المشهد في رأسها، أعادت وصفه قائلة:
-أنا.. لاقيت خالتي بتحكي عن حاجات واحدة تانية، وكأنها مني، وأنا معرفش عنها حاجة، تفتكر إيه اللي هايجي في بالي؟
رد عليها يسألها بما يشبه العتاب:
-طالما مش واثقة فيا، يبقى إزاي هنتجوز يا بنت الناس؟
اختنق نبرتها أكثر وتحولت للبكاء، كما تجمعت العبرات في عينيها بكثافةٍ وشكلت سحابة ضبابية حينما همست بما يشبه الاستجداء:
-"تميم" أنا بأحبك! مقدرش أتصور إنك بتفكر في غيري، أو حتى أقدر أعيش من غيرك ..

أوجعته صراحتها الصادقة، هي تعشقه حتى النخاع، متيمة به بجنون، لا ترى في حياتها سواه، ولا يوجد حدًا لعواطفها الجياشة نحوه، بينما مشاعره ناحيتها عادية لن تصل مطلقًا للهيام، لكن القليل من الاهتمام يرضيها، حدق فيها بشرودٍ حائر، فماذا إن استحالت الحياة بينهما بعد الزواج؟ استغلت صمته لتضغط عليه ورجته بنبرتها المستعطفة وعينيها الدامعة:
-حقك عليا، عشان خاطري سامحني، أنا عرفت غلطي.

ظلت تعابيره جامدة وهو يتطلع إليها، ثم استطرد ينصحها:
-عمومًا ابقي حكمي عقلك يا "خلود" قبل ما تحكمي عليا، ده لو عاوزة عيشتنا تمشي سوا!
ازدردت ريقها وهزت رأسها بإيماءات متكررة مؤكدة له:
-حاضر، مش هايحصل تاني
اكتفى بحركة بسيطة من رأسه وقال بعدها بجديةٍ:
-أنا ماشي
انتفضت من رحيله المفاجئ فهتفت مصدومة:
-إيه ده؟ مش هاتقعد معايا شوية؟

حرك رأسه نافيًا، اعترضت طريقه قائلة بإصرارٍ حينما همَّ بالرحيل:
-طب استنى أعملك حاجة سخنة تشربها
زفير مرهق خرج من جوفه قبل أن يعتذر:
-مرة تانية يا "خلود"، تعبان من الصبح، وإنتي شايفة شكلي عامل إزاي، ده غير إن لسه عندي شغل أد كده عاوز أخلصه.
قالت في رقة وقد استعادت حيويتها:
-ربنا يقويك يا حبيبي، لسه زعلان مني؟
تقوست شفتاه لتظهر ابتسامة صغيرة وهو يرد:
-لأ.

تضرج وجهها بحمرة باهتة وقد تدللت لتقول له في نعومة:
-هتوحشني لحد ما أشوفك تاني، خد بالك من نفسك.
اكتسب صوته إيقاعًا هادئًا وهو يرد:
-إن شاء الله، عاوزة حاجة مني؟
-لأ يا حبيبي.

قالتها بنعومة أكبر قبل أن تصحبه نحو باب المنزل، لوحت بيدها تودعه، وانتظرت للحظات حتى هبط الدرجات، أغلقت الباب بهدوءٍ، ثم استدارت بجسدها وعلى وجهها ابتسامة بشوشة، سريعًا ما اختفت وحل الانزعاج كبديل عنها وقد بدأت والدتها في تعنيفها، فقالت لها:
-أنا مش عارفة إنتي مدلوقة عليه كده ليه؟

ردت بعبوسٍ:
-عشان بأحبه
نظرت لها شزرًا وهي تكمل:
-يا بت اجمدي كده واتقلي عليه بدل ما يبيع ويشتري فيكي،!
اتخذت الصمت سبيلاً أمام كلامها الذي لا تعتد به حينما يخص حبيب قلبها، سارت في اتجاه غرفتها ووالدتها تتبعها مكملة تحذيراتها الجادة:
-اللي زي "تميم" ده نمرود، مش هايقدر اللي بتعمليه عشانه، بكرة يتفرعن عليكي
التفتت ترد بعنادٍ:
-برضوه هاحبه، القلب وما يريد يامه، وأنا مش عاوزة إلا هو!
علقت عليها في استنكارٍ:
-بكرة يوريكي النجوم في عز الضهر.
-مش هايحصل.

-خلاص اسمعي كلامي وإنتي تكسبي
عضت على شفتها السفلى وتطلعت إلى والدتها بنظرات ساهمة، ثم عقبت عليها:
-أنا عاوزة أسمع كلامه هو وبس
حدجتها "بثينة" بنظرة نارية حادة مستاءة من سذاجتها، ثم وبختها بانفعالٍ ظهر في صوتها وتعبيراتها:
-خايبة زي اللي خلفتك، بكرة تجيلي تعيطي، وساعتها هتعرفي إن الله هحق!

ألقت حديثها وراء ظهرها واكتفت بالسعادة التي احتلت روحها بعد تصالحها مع "تميم"، لم يتبقِ سوى القليل لتكون في عصمته، بضعة أيام وتصبح حرمه المصون، لكنها لم تكن تعلم أن بداية معاناتها الحقيقية ستبدأ بمجرد أن يصيرا زوجين.

لاحقًا، وبعد بضعة أيامٍ .. سدد نظرة عميقة متأملة لهيئته التي بدت غير مألوفة بالنسبة له في انعكاس وجهه بالمرآة بعد أن ارتدى بدلة عرسه، عدَّل من وضعية البابيون الذي يمزج بين اللونين الأبيض والأسود ليصبح في المنتصف، شعر بالغرابة والتوتر، وبالرغم من كونه على دراية بميعاد زواجه إلا أن حدوثه فعليًا كان مدعاة للقلق، لا يعرف كيف مرت الأيام سريعًا ليصل لليلة المنشودة، علل ذلك بكونه مشغولاً للأغلب الوقت فالتهى عن التفكير في تبعات الزواج.. زفرة طويلة بطيئة خرجت من صدره مستديرًا نحو المصفف ليكمل باقي عمله، ظهر "تميم" وسيمًا نوعًا ما بعد نجاح الأخير في العناية به وإظهاره بشكلٍ يليق بتلك الليلة المميزة؛ فحلق ذقنه النابتة، ورطب بشرته المتيبسة ببعض الكريمات المرطبة فأكسبها اللين، كذلك هذب خصلات شعره المتناثرة بأحد مستحضرات العناية بالشعر ليظل ثابتًا لأطول فترة ممكنة.. تساءل الأخير بابتسامة عملية قاصدًا مدح زبونه السخي:
-تمام كده يا ريس؟

هز "تميم" رأسه في استحسانٍ، وأجابه:
-زي الفل.
نثر المصفف مادة لامعة على طرفي ياقة بدلته السوداء كنوعٍ من منحة لمسة إضافية مختلفة ليبدو أكثر أناقة عن ذي قبل مع إفراطه في استخدام العطر الخاص ليزكم أنف عروسه برائحته الطيبة، أشار له "تميم" بيده ليتوقف فامتثل له، ثم دس يده في جيب بنطاله القماشي وأخرج منه حفنة من النقود وطواها في راحته، مد بها كفه نحوه يشكره:
-تعبتك معايا.

رد المصفف مهللاً بعد أن لمح المبلغ الكبير الذي أعطاه له:
-يا باشا ده إنت تؤمر.
ثم أفسح له المجال ليمر ويخرج من صالون الحلاقة حيث ينتظره "محرز" بجوار سيارة العائلة السوداء ذات الطراز القديم نسبيًا -بالرغم من كونها ماركة مرسيدس- والتي تستخدم في تنقلات أفراد الأسرة، ألقى عليه نظرة إعجاب يمتدحه بها وهو يصيح عاليًا:
-مبروك يا عريس.

اقترب منه "تميم" ليصافحه وعينيه تجوب على شرائط الزينة البيضاء التي تغطي جانبًا لا بأس به من زجاج السيارة الأمامي، لكن "محرز" جذبه من كفه نحوه ليحتضنه وربت على ظهره بخشونةٍ، ثم مازحه بسخافةٍ عكست تلميحًا خارجًا:
-عاوزينك ترفع راسنا النهاردة، ولا تحب أقولك تعمل إيه؟
رمقه "تميم" بنظرة قاتمة لا تقبل الهزل في مثل تلك الأمور الخاصة جدًا، وإن كانت على سبيل الدعابة والمزاح، لذا أحرجه قائلاً:
-مايخصكش.

تجاوز "محرز" عن رده الجاف ليقول بابتسامته اللزجة:
-طول عمرك جامد يا "تميم"
رد عليه بانزعاجٍ:
-إنت هتؤر عليا ولا إيه؟
افتعل الضحك معلقًا عليه:
-على رأيك، ما يحسد المال إلا أصحابه، وإنت مال وحسب ونسب وهيبة و...
قاطعه منهيًا الحوار:
-ارحمني، أنا مش ناقص
قال ببرودٍ سمج:
-ماشي يا عريس، كلنا كنا زيك كده، وكله بيعدي في الآخر.

حاول "تميم" أن يتمالك أعصابه حتى لا تنفلت، اتجه إلى السيارة ليجلس كعادته في الأمام لكن استوقفه "محرز" صائحًا:
-عندك يا عريس، ده أنا اللي هاوصلك بنفسي
أشار بيده معترضًا:
-البيت هنا، مش حكاية هي!
حاول احتلال المقعد الأمامي ليقول بضحكة مصطنعة:
-والله ما يحصل، ده أنا نادرها.
غمغم "تميم" مع نفسه مرددًا في تأفف ممتعض وهو يطالعه بنظراته المزعوجة:
-ربنا يخلصني من الشبكة السودة دي على خير، هو أنا كنت ناقصه.

تصفيقات مصحوبة بالزغاريد العالية والضحكات المرتفعة الخليعة تخللت تلك الجلسة النسائية البحتة في غرفة نوم العروس بمنزل عائلتها كتعبير عن فرحة قريباتها وصديقاتها بتزويجها، بضعة نصائح هامسة عن أسرار السعادة الزوجية تناقلتها الألسن لتشجع تلك الفتاة الخجول على التعامل بجرأة ممزوجة بالحب والدلال مع زوجها حتى تضمن بقائه أسيرًا لرحيق عشقها، تلون وجهها بألوان الحياء وأشاحت ببصرها بعيدًا في خجلٍ أكبر مع كل تلميحٍ ذو دلالة.

عجزت عن الرد أمام جراءتهن الوقحة، وطلبت منهن التوقف، لكنهن أبين الإصغاء واستمتعن فيما يفعلن .. وضعت خبيرة التجميل ذائعة الصيت اللمسة الأخيرة على وجهها بعد أن أصرت الأخيرة على تجميلها في المنزل، أتقنت الأولى تضخيم شفتي العروس بأحمر الشفاه لتبدو جذابة ولافتة، كذلك استخدمت فرشاتها لتضيف القليل من الحُمرة على وجنتيها فتخفي ذلك الشحوب والإرهاق فتظهر فاتنة، خاطفة للقلوب.

اشتعلت الأجواء حماسًا مع قيام أحداهن بالرقص والتمايل بميوعة واحترافية وكأنها ولدت هكذا، صفقت المتواجدات لها بحماسٍ لتزيد في رقصها، ثم جذبت أخرى لتشاركها تلك الوصلة المرحة، انتبهت "خلود" وسط ذلك الصخب الدائر لأصوات أبواق السيارات، قفز قلبها بين ضلوعها رهبةً وسعادة، استدارت تبحث بعينيها عن والدتها بين الجالسات، ثم أشارت لها بنظراتها لتأتي إليها، مالت "بثينة" ناحيتها فاشرأبت ابنتها بعنقها تسألها في تلهفٍ وصدرها يعلو ويهبط بشكلٍ ملحوظ
-هو "تميم" جه يا ماما؟

أجابتها مبتسمة:
-واقف تحت يا حبيبتي.
وضعت "خلود" يدها على صدرها النابض بقوةٍ تتحسسه، أحست بربكة عظيمة تجتاح كيانها، برقت عيناها وتصلب جسدها حينما أردفت أمها تسألها:
-ها أشاورله يطلع؟
ردت على الفور:
-أيوه...
لكن ما لبث أن سيطر عليها التردد الخائف فتراجعت قائلة:
-ولا أقولك استني.

نظرت لها "بثينة" في استغرابٍ، في حين ألقت "خلود" نظرة مدققة على هيئتها المختلفة في ثوب العروس تتأمل كل تفصيلة فيها، بدءًا بوجهها ومساحيق التجميل التي تغطيه، ومرورًا على حجابها الأبيض الذي يزين رأسها، وانتهاءً بثوبها البراق المرصع بالقطع الكبيرة اللامعة عند صدره فقط لينسدل على جسدها بانتفاخٍ ملحوظ بسبب طبقات القماش المتراكمة فوق بعضها البعض، شعرت بالرضا عن حالها، ومع ذلك سألت والدتها لتمنحها ثقة أكبر:
-ها كده شكلي حلو؟

طمأنتها والدتها بتفاخرٍ وزهو:
-زي البدر في تمامه.
عادت لتتساءل بارتباكٍ وقد زاغت أنظارها:
-تفتكري هاعجبه ولا ...؟
وضعت "بثينة" قبضتيها على كتفي ابنتها، شددت من ضغطها عليهما وهي تقول لها بجدية بعد أن اكتسب وجهها تلك اللمحة الصارمة:
-خليكي واثقة في نفسك، إنتي زي القمر، هو كان يطول يتجوز واحدة زيك أصلاً؟

أطرقت رأسها وهي تصغي لباقي حديث والدتها الجاف:
-ده إنتي ضيعتي مستقبلك عشانه! يعني المفروض يحمد ربنا..
حملقت "خلود" بنظرة مستنكرة مندهشة وقد باحت والدتها علنًا وعن قصدٍ:
-وفي الآخر هيتقال اتجوزت واحد سوابق وخريج اللومان! فخليني ساكتة أحسن!
عاجلتها ابنتها قائلة باستهجانٍ حتى لا تتمادى معها:
-بلاش يا ماما تنكدي عليا في اليوم ده!

ردت بوجهٍ امتلأ بالوجوم:
-إنتي اللي بتخليني أتكلم، وأنا مش ناقصة أصلاً.
قالت لها معتذرة:
-أنا غلطانة، حقك عليا، ممكن يامه مانفتحش السيرة دي تاني
أومأت برأسها مرددة على مضضٍ:
-طيب
تضرعت "خلود" في نفسها وقد بدأت الهواجس تطاردها بعد ذلك الانزعاج الرافض الذي لامسته في حديث والدتها:
-يا رب عدي اليوم على خير، أنا مش مصدقة فعلاً إني هاتجوزه!

انتفضت، وتوترت، وارتعشت كل أطرافها مع سماعها لصوته الذي تعشقه يصدح خرج غرفتها، تجمدت في مكانها مستشعرة تلك الرجفة اللذيذة الفرحة التي أصابت حواسها، حاولت أن تضبط إيقاع قلبها السريع لكنها فشلت، فكل ذرة فيها تتمناه وتريده بالأمسِ قبل اليوم، خلت الضوضاء المحيطة بها إلا من نبرته المميزة، أسرتها فبدت كالمسحورة وهي تحت تأثيرها القوي، جذبتها والدتها من ذراعها برفقٍ لتحثها على الخروج من غرفتها وهي تصيح عاليًا:
-طلي على عريسك يا عروسة، ماتسمعونا زغرودة يا حبايب!

انطلقت الزغاريد من الخلف وقد خطت "خلود" في الردهة لتتقدم نحو الصالة حيث يتواجد "تميم"، نظرة خاطفة اقتنصتها نحو وجهه لتجده محدقًا بها بنظرات مطولة، سؤسعًا أخفضت عينيها ولم تجرؤ على النظر إليه مجددًا من فرط خجلها المختلط بحماسها؛ إنها ليلة زفافها الحالمة. توقفت عن السير حينما أصبحت قبالته، رفعت عينيها لتطالعه بنظراتها الهائمة الناعسة، بادلها نظرات لطيفة تعكس إعجابه بها، تنحنح في خفوت قبل أن يهنئها:
-مبروك.

ردت بخجلٍ كبير وهي تتحاشى النظر إليه:
-الله يبارك فيك.
وقف إلى جوارها حتى تتأبط ذراعه، شعر برجفتها وهي تستند عليه، ابتسم في هدوءٍ ولاذ بالصمت مكتفيًا بالإيماء برأسه وهو يتلقى التهنئات ممن حوله. توترت "خلود" من سكوته فاعتقدت في وجود خطب ما ربما لم يعجبه يخص ثوبها أو زينتها، لذا استدرجته في الحديث تسأله قبل أن يتجها لخارج المنزل:
-مقولتليش الفستان عجبك؟

رد باقتضابٍ وقد كان وجهه غير مقروء التعبيرات:
-أه حلو.
تلك التعابير الغامضة أزعجتها، فعبرت عما تشعر به قائلة:
-حساك مش مبسوط يا "تميم"
التفت ناحيتها يجيبها:
-مين قال كده؟
-مش باين عليك!

قال وهو يصطنع الابتسام ليخفي عدم ارتياحه:
-أنا بس ما بأعرفش اتكلم قصاد حد.
بدت غير راضية عن رده الأخير فأوجزت معه وقالت:
-طيب.
حاول ألا يفسد الأجواء بينهما فبادر يمدحها:
-بس إنتي طالعة حلوة أوي، متوقعتش كده!

وكأنه أعاد لها بهجة الحياة وسرورها فأشرقت تعبيراتها لتستفيض موضحة له:
-حبيبي، تعرف أنا مردتش أخلي الكوافيرة تحطلي حاجات أوفر، يعني كل اللي إنت شايفة طبيعي
هز رأسه في استحسانٍ وهو يعقب عليها:
-كده كويس
همست له ببسمتها الناعمة:
-أنا حاسة إني بأحلم، ياه .. أخيرًا اليوم ده جه ..
-الحمدلله.
-لحد دلوقتي مش مصدقة!

نظر لها متأملاً فرحتها الجلية عليها، بينما تابعت معبرة بتلقائية عن مشاعرها الجياشة:
-تعرف، أنا قلبي بيدق جامد، حاسة إني في حلم جميل مش عاوزة أفوق منه أبدًا!
حذرها بلطافة وابتسامة بسيطة تزين شفتاه، ولكن اكتسب وجهه تعبيرًا جادًا:
-لأ اهدي شوية، الليلة لسه في أولها.
أسبلت عينيها نحوه وأردفت قائلة بتنهيدة عميقة غير عابئة بمن حولها:
-أنا بأحبك أوي يا "تميم".

ضاقت نظراته قائلاً بجدية:
-ماينفعش الكلام ده كده قصاد الناس يا "خلود"...
قاطعته بشغف بائن في مقلتيها:
-مش فارق معايا أي حد، إنت وبس اللي تهمني!
هز رأسه بطريقة آلية مجاملاً:
-حبيبتي، ربنا يخليكي ليا.
-ومايحرمنيش منك يا عمري كله.

شدد "تميم" من ضمه لذراعها ليسحبها بتؤدة نحو (بَسطة) السلم حتى لا تتعثر في ثوبها الثقيل، كفت "خلود" عن حديثها الهامس معه رغمًا عنها إلى أن تختلي به، حينها فقط ستستفيض في إظهار مشاعرها المدفونة، ومع ذلك نطقت نظراتها بما عجز اللسان عن البوح به. توقف كلاهما عند أعتاب باب المنزل تمهيدًا لصعود قائد الزفة الشعبية التي أتت قبل قليل، بدأ بتحية العروسين والمباركة لهما كتمهيدٍ متبع قبل أن يبدأ فقراته الغنائية، دس "تميم" يده في جيب بنطال بدلته وأعطاه نفحة إضافية من النقود ليتحمس الرجل كثيرًا، استدار بجسده للخلف ليشير بذراعه لأفراد فرقته بيده فصدح صوت المزمار عاليًا وجلجل بقوة وهز جدران المنزل..

انتفضت أجساد الحاضرون في طربٍ على دق الطبول المختلفة في أحجامها، وبدأوا في التصفيق بحرارة، كما انطلقت الزغاريد من حول العروسين فضاعفت من تحفيز المتواجدين للمشاركة، وما هي إلا لحظات واندمجوا جميعًا مع ذلك الإيقاع الراقص المصحوب بأصوات المزامير العالية لتلك الزفة الشعبية التي احتلت المدخل والطوابق الأولى للاحتفال بالعروسين على الطريقة التقليدية السائدة من خلال ترديد الأغاني الشهيرة الخاصة بالأفراح لتزداد الأجواء بهجةً وحماسة...!!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة التاسعة بقلم منال سالم


تأنقت كلتاهما بثيابٍ أنيقة شبه رسمية مع احتفاظها بالذوق الشبابي لكنها ليست كأثواب الأفراح، فهناك عمل ينتظرهما عند الكورنيش، حيث تتواجد عربة الطعام والتي وضعت هناك قبل وقت سابق، وبمجرد إنهاء تلك الزيارة غير الضرورية ستتوجهان إليها، ذهابهما فقط جاء بناءً على رغبة والدتهما. وقفت "همسة" أمام توأمتها تعقد لها أنشوطة بلوزتها النبيذية اللون والمصنوعة من قماش الستان التي ارتدتها أسفل الجاكيت الثقيل، تأكدت من إحكامها حتى لا تنحل عقدتها، في حين تذمرت "فيروزة" من ذهابها لذلك العرس قائلة:
-مش فاهمة لازمتها إيه نروح؟ عندنا شغل والنهاردة الويك إند، ده غير إن في حاجات كتير لازم تتعمل.


 
تنهدت مبررة ذهاب ثلاثتهن:
-ما إنتي عارفة ماما محكمة رأيها، بتقولك جيرانها وعِشرة زمان و...
توقفت للحظة عن متابعة جملتها لتقلد نبرتها، ثم استطردت قائلة محاكية إياها في حركة جسدها وإشارات حاجبها:
-لازمًا وحتمًا نعمل الواجب، إنتو عاوزين الناس تاكل وشي؟
ضحكة صغيرة ارتسمت على شفتي "فيروزة" من طرفة أختها .. التفتت الاثنتان نحو والدتهما حينما صاحت من الخارج:
-أنا جهزت خلاص يا بنات، إنتو خلصتوا؟


 
-أيوه يا ماما
قالتها "همسة" أولا وهي تتحرك إلى الخارج بعد أن نفضت شعرها خلف ظهرها لينسدل عليه كنوع من تغيير مظهرها، في حين عقصته فيروزة كعكة وزينته بمنديل رأس قرمزي اللون غير ذاك الذي فقدته لكنه يحمل ذات النقوش مما منحها رونقًا آخاذًا، تبعتهما في هدوءٍ .. أدارت "آمنة" رأسها نحو ابنتيها تسألهما:
-قفلتوا الشبابيك كويس؟ ومحبس الغاز فصلتوه و....


 
قاطعتها "همسة" مؤكدة:
-عملنا كل حاجة يا ماما، متقلقيش
ردت مبتسمة:
-خير .. يالا بينا، توكلنا عليك يا رب
جلست "فيروزة" على المقعد المجاور لباب المنزل لترتدي حذائها ذو الرقبة العالية، رفعت رأسها نحو والدتها تسألها في فضولٍ وعيناها مرتكزتان عليها:
-هو خالي جاي؟
أجابت "آمنة" بوجه به مسحة ضيق:
-معرفش، ومسألتوش.


 
عقبت عليها بنظرات متنمرة:
-يا رب ما يجي، مش ناقصين عكننة..
وما لبث أن انخفض صوتها وهي تكمل:
-وخصوصًا الحرباية مراته!
ردت عليها "همسة" تؤيدها:
-معاكي في ده!
حدجتهما "آمنة" بنظرات محذرة وهي تعاتبهما:
-عيب يا بنات، مايصحش تتكلموا عنها وحش، مهما كان دي بردك مرات خالكم.


 
انزعجت "فيروزة" من طيبتها العفوية نحوها، فنعتتها قائلة بنبرة غاضبة:
-دي كتلة شر ماشية على الأرض!
ردت غير مبالية:
-هي حرة، واحنا مالناش دعوة بيها، ربنا وحده قادر يهديها.
أطبقت على شفتيها غيظًا وحاولت ألا تنفعل حتى لا تعكر الأجواء بسبب تلك المرأة الحقود، انتظرت حتى خرجت والدتها من البيت ومالت على أختها تهمس لها:
-أمك دي سهل أي حد ياكل بعقلها حلاوة، مصدقة إن الحرباية دي ملاك! دي شيطان اقسم بالله.


 
ردت "همسة" بصوت خفيض:
-أنا مصدقاكي، بس هنعمل إيه، خلينا بعيد عنها أحسن.
-وتفتكري هي هتسيبنا في حالنا؟ ماتبقاش العقربة "حمدية"!
توقفت كلتاهما عن الهمس حينما صاحت والدتهما متسائلة:
-بترغوا في إيه يا بنات؟ هنتأخر.
ردت عليها "همسة" بارتباكٍ طفيف:
-ولا حاجة يا ماما، احنا نازلين وراكي أهوو.

تأكدت "فيروزة" من غلق باب المنزل بالمفتاح وخطت نحو الدرج ونظراتها تتجول على الطابق العلوي، حدسها ينبئها أن تلك الأفعى تحيك أمرًا في الخفاء، فكما عاهدتها هي ليست من أولئك الذين يتنازلون بسهولة عن الانتقام، ولكونها قد فازت عليها بالجولة الأولى في معركتها معها، لذا لن تتوانى "حمدية" عن الرد وبقسوة، تنهدت محدثة نفسها بنبرة عازمة:
-هتلاقيني وقفالك بالمرصاد!

اقتطع جزء من الشارع الرئيسي ليُقام فيه العرس الكبير، وتولى أحد محال (الفِراشة) تجهيز المكان ليصلح لتلك المناسبة في مثل ذلك الطقس البارد، حيث وُضعت السجاجيد بالطرقات ورُصت فوقها المقاعد الخشبية وبعض الطاولات الدائرية، وأقيم عند المقدمة مسرحًا صغيرًا لتجلس عليه الفرقة الموسيقية التي ستشدوا بالأغاني الطربية والشعبية، كما تم تجهيز (كوشة) لافتة للأنظار مُزدانة بالإنارات البراقة عند أقصى يمين المسرح، ولم يغفل منظمو الحفل عن الاستعانة بمتخصصين في خدمة الضيوف وتوزيع الطعام والمشروبات عليهم.

ومع حلول المساء بدأ المدعوون في الحضور واتخاذ مقاعدهم في الصفوف الأولى إلى أن امتلأ المكان تقريبًا، والموسيقى الصاخبة تشدو حولهم .. بعد برهة ارتفعت أصوات الزغاريد والتهليلات الذكورية كإعلان عن اعتلاء العروسين للكوشة واستقرارهما به، وبحركة مجاملة لوح "تميم" بيده لضيوفه يشكرهم على حضورهم، بينما وزعت "خلود" ابتسامات سعيدة مشرقة على من تعرفهم، لا تصدق أنها اليوم ترتدي ثوب عرسها وستزف إلى فارس أحلامها الوحيد، بدأت الفقرات الغنائية، والكل يتسابق في إظهار فرحته، بدا وكأن كل شيء يسير على ما يرامٍ إلى أن ظهر "محرز" ومعه ضيفٍ غير مرحب به، هنا تبدلت ملامح "تميم" للوجوم، كان كمن أُجبر على ابتلاع شيئًا يمقته بشدة، تقدم الأول نحوه وابتسامته اللزجة تعلو محياه مهللاً وكأنه أحرز انتصارًا لا مثيل له:
-إيه رأيك في المفاجأة دي؟

رمقه بنظرة عبرت عن انزعاجه -بالإضافة لرفضه- لتصرفه غير المقبول تحت أي ظرف، كانت قسمات وجهه تنطق عنه، بذل الكثير من الجهد ليسيطر على انفعالاته وهدوئه بالرغم من عروقه المشدودة ونظراته القاتلة، خاصة وأن "سراج" الذي أتى بصحبة "محرز" كان يبدو متحفزًا، مستعدًا لافتعال أي مشاجرة، أخرجه من تحديقه الناري به صوت الحاج "لطفي" القائل:
-السلامو عليكم يا حاج "بدير".

تحولت نظراته نحو والده الذي جاء ليرحب بالضيوف، بادله التحية وهو يصافحه بحرارةٍ:
-وعليكم السلام، إزيك يا حاج "لطفي"؟
أجابه ببسمة هادئة:
-في نعمة والحمدلله.
رد مجاملاً بودٍ زائد:
-شرفتنا النهاردة، المكان نور.
قال له بنبرة عميقة:
-بأصحابه يا حاج.

تقدم "محرز" خطوتين للأمام وهو يتصنع الضحك ليقف في المنتصف بينهما، ثم أضاف بعدها، وكأنه يفرض نفسه على المتواجدين:
-أنا قولت ماينفعش في الليلة الحلوة دي النفوس تكون شايلة من بعض، وإلا إيه معلم "سراج"؟
تنحنح الأخير معقبًا بخشونةٍ وبوجهٍ مقلوب:
-مظبوط.

احتدت نظرات "تميم" بشدة، كانت كراهيته ل "سراج" قد بلغت منتهاها، لكن الظرف لا يسمح لإتخاذ أي قرارٍ طارئ.. مد الحاج "لطفي" يده لمصافحة العريس الذي نهض لاستقباله يهنئه:
-مبروك يا "تميم"، بالرفاء والبنين إن شاءالله.
حاول أن يضبط إيقاع نبرته وهو يرد مبادلاً إياه المصافحة، لكن نظراته اتجهت ناحية غريمه:
-الله يبارك فيك يا حاج.

استطرد الحاج "لطفي" ممهدًا بأسلوبه الجاد الذي يمزج بين الوقار والاحترام:
-احنا كلنا أخوات، ومش عاوزين المشاكل ترجع تفرق بينا، مصالحنا كلنا واحدة، ولا إيه؟
رد عليه "تميم" بضيقٍ بائن وعيناه لا تحيدان عن "سراج":
-كلامك على عيني وراسي، بس ...
تدخل "محرز" في الحوار مقاطعًا بسماجة ثقيلة:
-خلاص بقى يا "تميم"، ده الرجالة جايين لحد عندك، هاتكسفهم ولا إيه؟

رمقه بنظرة ضيقة تعبر عن رفضه القاطع لفرض الأمور عليه هكذا، علق والده ليقول بدبلوماسية محنكة راجعة لسنوات خبرته الطويلة حتى ينهي ذلك النزاع:
-جيتكم فوق دماغنا، وأكيد كلنا بنسعى للخير، بس لا ده وقته ولا ده مكانه، وبعدين مايصحش الحاج "سلطان" يبقى موجود ومحدش يسلم عليه، ولا إيه؟
هتف "محرز" قائلاً وضحكته السمجة تلازمه:
-ده أبونا كلنا قبل ما يكون كبير السوق كله، بينا يا رجالة تاخدوا واجبكم هناك.

تطلع إليه "تميم" بنظرات مطولة مغتاظة، فقد استفزته طريقته المهترئة لإظهار أنه صاحب القول الأخير، إنه ينتمي لذلك النوع من البشر الذي يحاول تسلق الآخرين ليظهر وجوده، تحامل على نفسه كي يتغاضى عن الأمر ويتجاوزه، احترامًا فقط لرجاء والده الذي ظهر من خلال نظراته وإيماءات وجهه فاعتبرها إشارة ضمنية لإنهاء الجدل، ولولا ذلك لفعل ما يستوجب لإيقاف كل شخص عند حده، خاصة السمج "محرز".

مررت "فيروزة" عينيها على المكان باحثة بتمعنٍ ودقة عن مقاعد شاغرة لتجلس عليها مع أختها ووالدتها بعد أن ازدحم المكان بمئات البشر، وقعت نظراتها على تلك المقاعد الموجودة بالزاوية المنزوية والتي تبدو إلى حد ما مترامية الأطراف عن الصخب الدائر، اعتقدت أنها بقعة جيدة للجلوس فيها لتكون ثلاثتهن بُعاد عن الزحام والأعين الفضولية المتلصصة، أشارت لهما لتتبعاها، وبتأنٍ وتؤدة اجتزن أجساد البشر المتمايلة ليصلن إلى وجهتهن، وقبل أن تجلس "آمنة" انحنت على ابنتيها تخبرهما:
-هاروح أسلم على الحاجة "ونيسة" والجماعة قدام ورجعالكم!

هزت "همسة" رأسها ترد عليها:
-خدي راحتك يا ماما.
ابتعدت عنهما لتتجه صوب الطاولات الأمامية حتى تلقي التحية على أهل العريس، في حين حركت "فيروزة" جسدها نحو أختها لتبدو قريبة منها وهي تتحدث إليها .. كانت الرؤية محجوبة عنهما لينظرا إلى العروسين بسبب تكتل الأجساد أمامهما، تساءلت بفضولٍ وهي ترى مظاهر الثراء والبذخ من خلال الإعلان عن أسماء مانحي (النقوط) عبر الميكروفون:
-الصرف باين يا أختي.

ردت عليها "همسة" مبتسمة:
-كلها مجاملات، الفرح النهاردة عندي، بكرة عندك، والفلوس رايحة جاية بينهم.
-تحسي إنها تجارة مش جوازة!
-أكيد
-بس يا ترى النوع ده من الجوازات بيستمر؟!
-الله أعلم
خف الزحام قليلاً فأصبحت الرؤية متاحة، اشرأبت "فيروزة" بعنقها لتتطلع إلى وجه العريس، تعقد حاجباها بشكلٍ ملحوظ، لم تكن ملامحه بالغريبة عليها، خُيل إليها أنها رأته من قبل، لكنها لا تذكر أين ومتى، تابعت قائلة ونظراتها مرتكزة على وجهه:
-حاسة إن العريس وشه مش غريب عليا، زي ما يكون شوفته قبل كده أو اتكلمت معاه!

ما لبثت أن تحولت عيناها نحو العروس لتضيف:
-والعروسة كمان، برضوه مش غريبة.
لم تكن زاوية الرؤية واضحة من جهة "همسة"، فقالت غير مبالية وهي تحيد بنظراتها عنهما لتتطلع إلى عموم المدعوين:
-طبيعي يكونوا معروفين، ما إحنا كلنا عايشين في منطقة واحدة وبنتقابل مع أغلب الناس كل يوم حتى لو مش بنتكلم.
عادت "فيروزة" لتسألها بابتسامة سطحية فاترة:
-بس إيه رأيك في الفستان؟

أجابت بتلقائية:
-حلو وبسيط، وحتى الميك آب بتاعها رقيق وهادي.
وافقتها الرأي قائلة:
-على رأيك.. أول مرة نلاقي عروسة مش حاطة طن بوهية على وشها
علقت ساخرة:
-تتحسد والله، لازم تبخر نفسها.
-أنا هاعمل كده في فرحي، مش هاحط ميك آب أوفر.
-وأنا زيك يا "فيروزة".
استمرت كلتاهما في ثرثرتهما عما يحدث في الفرح، خاصة بعد أن أشعل أحد المطربين الشعبيين الحفل بأغانيه الصاخبة فهلل عليها الحاضرون ورددوا بسعادة ما يحفظونه من كلماتٍ عن ظهر قلب ..

هب "حمص" واقفًا من مكانه، ثم صعد على المسرح ممسكًا بعصاه الخشبية ليرقص باحترافية مُزيدًا من حماس المتواجدين كنوع من مجاملة سيده الجديد الذي كان كريمًا معه مؤخرًا، شاركه رفيقه "شيكاغو" التمايل بالطريقة الذكورية المستعرضة في رقص المهرجانات ليعلو التصفيق أكثر، نجح كلاهما في لفت الأنظار بالصياح العالي:
-مبرووووك يا كبيرنا، عقبال البكاري يا ريس.

نالا نظرات الرضا من "تميم" الذي أشار بعينيه لأحد أتباعه ليهتم بهما بعد أن ينهيا حركاتهما الراقصة فابتهجا على الأخير .. في تلك الأثناء كان "هيثم" يجلس بهدوءٍ لا يتفق مع شخصيته الهوجاء يميل بين الحين والآخر بجسده نحو رفيقه "نوح" الجالس في المقعد الخشبي الملاصق له، لم يتواقفا عن الحديث الهامس وكأن هناك خطب ما، حتى أنه لم يشارك في أي فقرة تضم الشباب المتحمس، بدت ملامحه جادة للغاية، ونظراته قلقة مُرتابة، حتى صوته كان أقرب للفحيح حينما همس يحث صديقه:
-عاوزك تراقبلي الجو كويس وتفتح عينيك.

أومأ "نوح" برأسه معلقًا عليه ودخان سيجارته المشتعلة يتطاير في الهواء:
-ماشي هاقفلك ناضورجي ...
ثم غمز له بطرف عينه يؤكد عليه بنبرة ذات مغزى حتى لا يغفل عنه لاحقًا:
-بس ماتنسانيش لما الدنيا تزهزه معاك.
رد عليه بامتعاضٍ:
-ماتقلقش، المهم تركز
-عينيا.

مرر "هيثم" نظراته على الأوجه لمرة أخيرة، وخاصة على زوج خالته المشغول مع ضيوفه، قبل أن يتسلل خلسة منسحبًا من الحفل للقيام بما خطط له؛ فالفرصة مواتية للإقدام على السرقة دون أن تحوم الشكوك حوله اعتقادًا منه أنه يفعل ذلك ليأخذ حقه المسلوب والذي ضاع بمقتل والده في ذاك الحادث المشؤوم، حيث تُرك يتيمًا يعاني من مرارة البؤس ،وألم الحرمان، والعوزة والشقاء.

تصبب عرقًا غزيرًا باردًا وهو يدور بتوترٍ حول البناية ليضمن عدم اكتشاف أمره حينما يصعد للأعلى لينفذ سرقته، رفع عينيه للأعلى يجوب ببطءٍ على الشرفات، كانت أغلب النوافذ مغلقة، والإضاءة معتمة، مما بعث القليل من الطمأنينة على نفسه المتوترة، سحب نفسًا عميقًا يثبط به الأدرينالين المتدفق بقوةٍ في عروقه، كان كل شيءٍ هادئًا ومشجعًا للقيام بالأمر، اتجه "هيثم" إلى مدخل البناية وهو يتلفت حوله، صعد الدرجات عدوًا لكنه تجمد في مكانه حينما سمع تلك الخرفشات الخافتة، أحس بالدماء تهرب من عروقه، انزوى في بقعة معتمة ملصقًا جسده بالحائط.

حبس أنفاسه مترقبًا وقد ظن أن أحدهم سيراه، عاد السكون ليغلف المكان فهدأت دقاته المتلاحقة كقرع الطبول، وبحذرٍ شديد تقدم خطوة للأمام رافعًا رأسه للأعلى، أحس بالهدوء يتسرب إلى صدره الناهج مع استمرار السكون، انخفضت عيناه تدور على نوافذ المنور الجانبية، نظر مليًا بتمعنٍ مسلطًا نظراته على شرفات المطبخ الصغيرة قليلة الاستخدام التي تطل على ذلك المنور تحديدًا، فتلك الموجودة بالطابق الأول ستسهل عليه المسألة كثيرًا لكونها الأقرب لوجهته، حيث ستساعده على الصعود للأعلى، ومن ثَمَ الولوج للشقة من خلال دفع باب الشرفة بقليلٍ من الجهد فيصبح فعليًا بالداخل.

سار كل شيءٍ بسلاسة وفق خطته الجهنمية وكما رسم في عقله الشيطاني، تحرك بخفة ودقة على حافة الشرفة الخاصة بالطابق الأول، ثم شحذ كامل قواه ليدفع جسده للأعلى ممسكًا ب (منشر) الغسيل، تمايل جسده في الهواء ووجد صعوبة في الاحتفاظ بتوازنه، كادت أصابعه تنزلق لولا تلك الدفعة الأخيرة التي استنزف معها ما تبقى من قوته فمكنته من الصعود .. أصبح "هيثم" بداخل الشرفة الضيقة.

كانت مزدحمة بالكراكيب القديمة وأدوات الطهي غير المستخدمة، وضع يديه أمام عينيه ليحصل على قليلٍ من الظلمة حتى تتمكن نظراته من اختراق المكان بالتطلع عبر الزجاج المغبر بالأتربة وبواقي زيت الطهي، شعر بالانتشاء لكون المكان ساكنًا، تحرك في اتجاه الباب الجانبي، وبدفعة قوية نسبيًا من كتفه تمكن من فتح الباب الصدئ في مفاصله واقتحم المنزل.

رغبة عارمة بالسعادة المنتشية سيطرت على أوصاله، حلمه بالثراء السريع على وشك التحقق، خطا "هيثم" على أطراف أصابعه نحو الردهة، كان يحفظ المكان جيدًا، وبالتالي لم يشعر بالتخبط وهو يتجول في أرجاء المنزل الخالي من قاطنيه .. انتفض فزعًا واتسعت عيناه في ذعر حينما رن هاتفه فجأة، شعر بأن قلبه على وشك التوقف من فرط الارتعاد، التقط أنفاسه اللاهثة، ثم نظر إلى المتصل وسباب نابي يتردد بين شفتيه، وضع الهاتف على أذنه بعد أن ضغط على زر الإيجاب هامسًا بنبرةٍ تحولت للحنق:
-في إيه؟ في حاجة جدت؟

أجابه رفيقه ببرود:
-لأ!!
صاح به بغضبٍ رغم همسه:
-أومال بتتصل ليه دلوقت؟
رد عليه "نوح":
-بأطمن عليك.
كز "هيثم" على أسنانه يوبخه:
-مش أنا قايلك ما تكلمنيش إلا لو حاجة حصلت؟ هو إنت مابتفهمش؟!
حذره الأخير:
-بلاش الغلط يا عمنا!
برر حنقه بعد أن تنفس بعمق ليكبح غضبه:
-ما هو مش وقته بصراحة.

استطاع أن يسمع زفيره قبل أن يعقب عليه:
-ماشي يا سيدنا، على العموم كله في التمام..
قال موجزًا معه المكالمة:
-طيب.. كويس، وخليك مركز.. سلام
ثم ردد بوجهه الممتقع وقد أنهى اتصاله معه:
-هو أنا كنت ناقصك!

سحب شهيقًا عميقًا يهدئ به صدره المضطرب، لحظاتٍ واستعاد ثباته، ثم واصل سيره متجهًا إلى غرفة زوج خالته، فتحها ووطأ بقدميه داخلها مستخدمًا إضاءة هاتفه المحمول .. كانت عيناه تعرفان إلى أين تنظر تحديدًا، ابتسامة زهو وانتصار تشكلت على ثغره وقد بات قاب قوسين أو أدنى من الظفر بسرقته، على الفور تحرك في اتجاه (الشُوفنيرة) ينظر لها بعينين تبرقان بقوة، مد يده ليفتح الدرج لكنه كان موصدًا، غمغم بسبةٍ بذيئة محدثًا نفسه بحسمٍ:
-والعمل إيه دلوقتي؟ ما هو أنا مش هامشي من هنا إلا والفلوس معايا!

تلفت برأسه يبحث بالإضاءة الضعيفة للهاتف عما يمكن أن يستخدمه في فتح الدرج، سلط هاتفه على أرجاء الغرفة وهو يفكر في عجالة وبتوترٍ، فالثواني تشكل فارقًا كبيرًا معه، لمح المقص الموضوع على التسريحة فاعتقد أنها وسيلة مناسبة، لذا التقطه واستدار عائدًا إلى الشُوفنيرة، حاول بنصل المقص الحاد تحريك القفل، ونجح بعد عناءٍ عضلي في إزاحته من مكانه في ذلك، لهث هامسًا بصدر ينهج:
-أخيرًا..

قام "هيثم" بفتح الدرج، اتسعت نظراته في حبور عظيم وقد أبصر رزم النقود المرصوصة بعناية بداخله، هلل رغم همسه:
-يا دين النبي، كل دي فلوس!
توهجت عيناه على الأخير واكتست بلمعانها الجهنمي، وعلى الفور -ودون تراجعٍ أو ندم- سرق كل ما يحويه الدرج، ثم دسهم في جيوب سترته ومسح بكمه البصمات من على قفل الدرج والمقص، فإن فكر زوج خالته في اللجوء للشرطة لا يجد أفرادها من التحقيق الجنائي ما قد يدينه. ومثلما تسلل خلسة انسحب بخفة من المكان ومن حيث جاء مُعيدًا كل شيء لطبيعته، لكن تلك المرة جيوبه ممتلئة بما ليس له.

ضجرت "فيروزة" من إضاعة وقتها دون أدنى فائدة تعود عليها لمجرد الالتزام بما أسمته والدتها (واجب الجيرة) والجلوس للنهاية، أي حتى انتهاء مظاهر الاحتفال وانطفاء الأضواء، بل والبدء في جمع المقاعد، أرادت أن تنهض وتعود إلى عملها لتستفيد بالحركة الرائجة للأهالي في منطقة الكورنيش وما حولها من محال قبل أن يسرقهم الوقت ويقل الزحام.

أرجأت مفاتحتها في الأمر لبضعة دقائق حتى تنتهي من حديثها مع إحدى المدعوات بالرغم من التوتر البادي على ملامحها، إلى أن لمحت "حمدية" وخالها وأطفالهما قادمون من على بعدٍ، هنا زادت تعابيرها انزعاجًا وظهرت تكشيرة صريحة عليها، رأت البغض جليًا في نظرات الأولى نحوها، حقدها يكاد يكون مرئيًا للعيان، حتى وجهها عكس مقتها، بادلتها نظرات كارهة لها عاقدة العزم في نفسها أنها لن تجلس في مكان يجمعها بها، حتى لو فيه إزهاق روحها، هكذا حدثت نفسها، لذا أحنت رأسها نحو والدتها تقول لها بنبرة عازمة وهي تلملم أشيائها:
-بيتهيألي كفاية كده، عاوزين نشوف اللي ورانا يا ماما.

زوت "آمنة" حاجبيها محتجة في اندهاش متعجب:
-ده لسه بدري، الحاجة "ونيسة" قالتلي في عشا و....
قاطعتها بإصرارٍ متذمر وقد تقلص وجهها:
-هو احنا ناقصين أكل يا ماما؟
طالعتها أمها باستغرابٍ، حاولت "فيروزة" أن تبدو هادئة فتصنعت الابتسام لتضيف ساخرة حتى لا تثير الريبة فيها:
-دي آخر حاجة نفكر فيها ولا إيه رأيك يا "همسة"؟
بدت "آمنة" غير راضية عن تصرفها فعاجلتها قائلة:
-بس يا "فيروزة" الناس هتزعل مني، وأنا محبش حد يشيل مني أو...

قاطعتها في تهكمٍ:
-صدقيني وجودنا مش هيفرق معاهم، هما ملبوخين بالبشر اللي مالي الفرح.
عفويًا أدارت والدتها عينيها في المكان وقد ظهر التردد عليها، في حين همَّت "همسة" بالنهوض وأيدت أختها في رغبتها قائلة بابتسامتها الرقيقة علها تقتنع بالأسباب:
-خلاص يا ماما، برضوه عشان مانضيعش وقتنا، والحاجة اللي معمولة ماتبوظش، وكمان مانتأخرش.
أضافت "فيروزة" مُمازحة لتبدو مرحة معها:
-ودي ساعة رزق كمان!

علقت عليها والدتها بجدية:
-بقيتي بتتكلمي زي بتوع السوق!!
قالت لها مبتسمة وكأن ما تفعله وسام يزين صدرها:
-ما احنا بقينا منهم، والشغل مش عيب.
تحركت "آمنة" ببطءٍ وقد استسلمت أمام إلحاح ابنتيها، لكنها اشترطت عليها بتنهيدة مرهقة:
-أمري لله، بس هانروح نسلم على الجماعة قدام!
استاءت من ذاك الاهتمام الزائد بجيرانها الذين لا تعرف عنهم شيئًا، ضغطت على شفتيها متسائلة بتذمرٍ:
-هو لازم يعني؟

ردت عليها بحسمٍ ونظراتها الجادة تملأ وجهها:
-اللي يعمل حاجة بيكملها للآخر، وبعدين ماضمنش الحاجة "ونيسة" ولا جوزها الحاج "بدير" يسألوا عليا، مش هاسيبهم يشغلوا بالهم بيا.
نفذت كل محاولاتها للتملص من تلك المجاملة المبالغ فيها والتي تعدها أقرب للنفاق عن أداء الواجب، حاولت "فيروزة" أن تبدو هادئة لتقلل من أمارات الاعتراض البائنة على خلجاتها، تلمست منديل رأسها بلزمة لا إرادية لتتأكد من وجوده في مكانه، نفخت أولاً، ثم تهدل كتفاها في يأس لتقول لها بعدها في ضيقٍ عبر عن كون الفكرة غير مستساغة بالنسبة لها:
-حاضر، اللي يريحك ....!!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة العاشرة بقلم منال سالم


بخطوات عادية اخترقن الصفوف بين المدعوين ليصلن إلى مقدمة المسرح حيث يتواجد أهل العروسين ممن يتلقون التهنئة من المحبين لهم، بالطبع تقدمت الأم في خطواتها لتسبق ابنتيها وكأنها تلبي نداء الوطن، وبكل ودٍ ومحبةٍ صافية احتضنت "آمنة" جارتها القديمة "ونيسة" تُهنئها بابتسامتها الودودة قائلة لها:
-مبرووك يا حاجة "ونيسة"، ربنا يتمم بخير.


 
سألتها الأخيرة بتلقائية وقد انعقد حاجباها بقوةٍ ليظهر جديتها:
-هو إنتي ماشية ولا إيه؟
أجابتها دون أن تفتر ابتسامتها:
-يدوب يا حاجة..
ردت معترضة في لباقة ووجهها ما زال محتفظً بضيقه:
-ما لسه بدري يا "آمنة"، ده الليلة في أولها، وفي مغنيين جايين وطبل وزمر.
رمشت بعينيها معللة سبب انصرافها:
-ربنا يكتر من أفراحكم وأيامكم الحلوة، بس إنتي عارفة أنا ماليش في السهر.
قالت مبتسمة لها وكأنها تشاركها في المزاح:
-والله كلنا زيك.


 
أضافت "آمنة" بحماس:
-بس اليوم كان عسل، وربنا يجعل ليلتهم خير، ويرزقهم بالذرية الصالحة.
هزت رأسها ترد مجاملة:
-أمين يا رب ، وعقبال ما تفرحي ببناتك.
-يا رب إن شاءالله الله، هاروح أسلم على الحاجة "بثينة" والعريس وعروسته القمراية
-كلك ذوقك يا غالية.
-تسلمي يا رب.


 
قالت كلماتها الأخيرة وهي تهم بالصعود على درجات المسرح لتتجه إلى الكوشة لتؤدي واجبها كاملاً.. بينما في تلك الأثناء، كانت أنظار كلاً من "فيروزة" و"همسة" مرتكزة على وجه العريس تحديدَا .. بدا مألوفًا لهما .. ملامحه لم تكن بالغريبة عليهما .. كلتاهما تعرفتا إليه بشكلٍ أو بآخر. مالت
"همسة" على أختها تقول لها بصوتٍ خفيض ومتعمدة أن تضع يدها أمام شفتيها حتى لا يُقرأ كلامها:
-"فيروزة"! أنا عاوزة أقولك على حاجة مهمة!!!

ضاقت عيناها وهي ترد عليها مستشعرة وجود توارد خواطر بينهما:
-قولي.. في إيه؟
همست بصوتٍ يشوبه الربكة مستعيدة ذكرى صدامه الحاد معها عند عربة الطعام:
-العريس ده أنا عارفاه!
علقت عليها بنبرة تميل إلى التهكم:
-طب وإيه الجديد؟ ما أنا بأشبه عليه!
هزت رأسها بالنفي مكملة توضيحها المتوتر:
-الحكاية مش كده، أصل.. في حاجة حصلت من فترة تخصه ..


 
بدا حديثها غامضًا ومثيرًا للشكوك، ثبتت "فيروزة" نظراتها عليها تسألها:
-إيه اللي حصل؟
وكأن "تميم" قد قرأ أفكارها التي تتخبط في رأسها فارتعدت فرائص "همسة" من نظراته التي أمسكت بها تحملق به خلسة في ريبة محسوسة، شعرت بجفافٍ عجيب يجتاح جوفها، أشاحت بعينيها القلقتين بعيدًا عنه وردت بارتباكٍ أكبر:
-بعدين.. بعدين هاقولك عشان ..آ... ماما جاية علينا!
كانت "فيروزة" غير مقتنة بحجتها الضعيفة، تجاوزت عن الأمر مؤقتًا وجابت بنظرات هائمة على أفراد الفرقة الغنائية الذين أشعلوا المسرح حماسةً بأغانيهم الشعبية الصاخبة.

انتهى "تميم" من مصافحة الضيفة التي تمنت له حياة أسرية سعيدة وهانئة مع زوجته الجميلة لينظر بتمعن لتلك الشابتين اللاتين تتطلعان إليه بغرابةٍ، في البداية لم يعرهما الاهتمام إلى أن لاحظ نظرات التفحص المصحوبة بالهمس من الفتاة الأولى، حينها جالت عيناه على وجهها تدرسان تفاصيله المألوفة، استغرقه الأمر بضعة لحظات لتتنشط ذاكرته، عرفها على الفور؛ إنها فتاة العربة التي تبيع الطعام على الكورنيش للمارة .. تأهب في جلسته وتحفزت نظراته نحوها.


 
بدا وجودها مستفزًا بالنسبة له، يحمل تحديًا جريئًا لا يمكنه القبول به، ولكن الظرف غير مناسب بالمرة لاتخاذ اللازم وفق مفاهيمه الخاصة .. لاحظ ارتباكها والاضطراب الذي كسا ملامحها، إخفائها لوجهها عنه أكد له أنها أيضًا عرفته، حرك رأسه بتلقائية في اتجاه الفتاة الملاصقة لها، لفت أنظاره منديل الرأس الذي ترتديه، تجمدت حدقتاه عليه، كان مُطابقًا لذاك الذي بحوزته فيما عدا اللون، ردد لنفسه مذهولاً:
-مش معقول الشبه ده، استحالة!

شعر "تميم" بخفقة قوية تضرب صدره، برجفة أصابت حواسه، نظرة خاطفة نحو عروسه التي تبتسم في سعادة أشعرته بالتوتر، عاد ليحدق به وقد انخفضت عيناه لتتأمل وجه صاحبته لكنها أدارته قبل أن يبصره جيدًا، وقبل أن يستمر في فحصه الفضولي المدقق انتشلته "خلود" من سرحانه متسائلة:
-بتفكر في إيه يا حبيبي؟
في البداية تطلع إليها بوجومٍ، ثم بثبات انفعالي واضح أجابها وابتسامة باهتة انعكست على شفتيه:
-ولا حاجة يا "خلود"، المهم إنتي مبسوطة؟ في حاجة نقصاكي؟


 
ردت بتنهيدة عبرت عن عشقها له وقلبها يقفز بين ضلوعها في سعادة غامرة:
-كله تمام يا حبيبي، أنا والله ما مصدقة إننا بقينا لبعض.
اكتفى بالابتسام لها فتابعت بغنجٍ رقيق وقد أسبلت عيناها:
-ربنا يقدرني وأسعدك يا "تميم"، وأنا أوعدك إني هاعيشك في الجنة.

أومأ برأسه في استحسان ومد يده ليربت على كفها المسنود في حجرها بخفةٍ قبل أن يسحبها إليه، ثم رفع عينيه من جديد نحو الزاوية حيث تقف الشابتان لكنه لم يجدهما، انزعجت تعابيره ونفخ في ضيق، فقد أراد التحقق مما رأه وأثار فيه الفضول والاهتمام بشكلٍ غير متوقع، حاول أن يلهي عقله عن التفكير في تلك المسألة المحيرة محدثًا نفسه:
-ده بيتباع في محلات كتير، جايز تكون صدفة!
ابتسم لنفسه في سخريةٍ وقد بدت الفكرة مقنعة، ربما لأنها تريحه من إحساسه بتأنيب الضمير.

-ها؟ كله تمام يا عمنا؟!!
تساءل "نوح" باهتمامٍ مبالغ فيه بعد أن عاد "هيثم" للفرح وهو يتصبب عرقًا غزيرًا لا يليق بالأجواء الشتوية الباردة، حدجه الأخير بنظرة نارية تحمل مزيجًا من اللوم والحنق، تلفت حوله بطريقة تدعو للاسترابة قبل أن يسحبه من ذراعه ليسير به نحو الجانب وهو يوبخه:
-إيه يابا؟ إنت ناوي تفضحني؟
رد صديقه معاتبًا بوجهٍ متقلص:
-فضيحة إيه بس يا جدع..

ثم غمز له وتلك الابتسامة اللزجة تتجسد على شفتيه مكملاً عبارته:
-شكل العملية مشيت معاك آخر حلاوة، زي السكينة في الجاتوه
كز "هيثم" على أسنانه قائلاً له في غيظٍ:
-اكفي على الخبر ماجور، الحكاية مش ناقصة أر.
تصنع العبوس معقبًا عليه:
-هو أنا هاحسدك بردك؟ ده أنا سترك وغطاك!!

زجره قائلاً بعصبية بائنة حتى في نظراته:
-يا عم ابلع ريقك! أنا مش ناقصك!
وفجأة انتفض فزعًا حينما سمع زوج خالته يسأله مباشرة من خلفه، وكأنه كشف أمره:
-كنت فين يا "هيثم"؟
التفت كالملسوع نحوه يطالعه بعينين جاحظتين مليئة بنظرات الرعب والخوف، تقدم "بدير" نحوه حتى بات في مواجهته، تأمله في دقةٍ متسائلاً:
-مش باين في الفرح ليه؟

ارتجف قلب "هيثم"، وشحب لون بشرته، كما زادت ربكته وتلبكه، وبدت علامات الارتعاد مقروءة على قسماته، خرج صوته مهزوزًا متلعثمًا حينما أجابه:
-ده .. أنا .. كنت واقف.. هنا .. قصدي ورا.. مع ناس صحابي و....
رفع الحاج "بدير" سبابته محذرًا دون أن يمهله الفرصة لإكمال كذبه المختلق:
-مش عايز لَبش هنا يا ابن "بثينة"!!!

مجرد نعته باسم والدته أنساه خوفه من اكتشاف مسألة السرقة، بل وكاد أن يصيبه بالجنون، احتقنت نظراته واِربد وجهه بغضبٍ شديد، ثم تحفز في وقفته وانتصب كتفاه قائلاً بخشونةٍ ومتعمدًا استخدام نفس طريقته المستخفة:
-ما تنادنيش تاني باسم أمي يا جوز خالتي!
ثم ما لبث أن قست نظراته أكثر وهو يتابع:
-أنا ابن أبويا الحاج "غريب"، اللي ضحى بنفسه فداكم.
قال "بدير" ساخرًا منه ونظرات الازدراء واضحة عليه:
-هي أمك لسه بتملى راسك بالكلام الفارغ ده؟!

هاجت الدماء في عروقه واستثارت من تحقيره الصريح، فانفجر صائحًا بتشنجٍ وعروقه تنتفض بقوةٍ:
-أنا أمي مش كدابة، ولا اللي حصل لأبويا كلام فارغ، إنتو بس اللي بتتعمدوا تنسوا عشان متحسوش بالذنب، بس حق أبويا أنا عارف إزاي وامتى هاجيبه!
حدجه "بدير" بنظرة خالية من التعاطف وهو يرد عليه في تحدٍ ينم عن قوة وسلطة:
-حقكم خدتوه زمان، واللي حصل كان برضا أبوك، فبلاش تهري في المنهي!

وقبل أن تزداد الأمور سوءًا تدخل "نوح" بجسده ليفصل بينهما، وأبعد رفيقه الغاضب عن زوج خالته مستخدمًا قوته الجسمانية كما كان يرجوه بشدةٍ:
-خلاص يا "هيثم"، ده لا وقته ولا مكانه، احنا في فرح أختك يا جدع
رد عليه بعصبيةٍ وهو يقاوم إمساكه له:
-سيبني يا عم، ماتزوءنيش!

رجاه أكثر وقد نجح في إزاحته من أمام زوج خالته قبل أن يتصرف معه بأسلوبٍ لن يعجبه على الإطلاق:
-بالله عليك تلم الدور، ده الحاج "بدير" كبير العيلة، وفي مقام أبوك..
صاح عاليًا مقاطعًا إياه وقاصدًا أن يصل إليه صوته:
-أنا أبويا مات، مافيش حد يملى مكانه
رد في توترٍ قلق:
-طيب.. طيب ... بينا من هنا!

دفعه "هيثم" بقسوةٍ في صدره ليتحرر من قبضتيه واستدار خارجًا من المكان وهو يغمغم بكلمات جمعت بين السباب واللعن، في حين تابعه "بدير" بنظراته النارية المستنكرة فساد أخلاقه، وانعدام تربيته، تغاضى مرغمًا عن تصرفه الأهوج حتى لا يفسد أجواء الحفل بالرغم من تعكر مزاجه وتكدرها .. همَّ بالتحرك عائدًا للمدعوين وهو يهز رأسه في ضيقٍ وانزعاج جاهد لإخفائه، لكن لحدس قوي أصاب داخله قرر فجأة أن يتبعه ...

في ذلك التوقيت، كانت "آمنة" تسير على تمهلٍ وهي تحكي عن ذكريات طفولتها مع جيرانها خلال تلك النوعية من الأعراس الشعبية التي قد تمتد لأيامٍ متصلة تبعًا لثراء العائلة ومدى شهرتها، أنصتت ابنتاها إليها في مللٍ لتكرار نفس الحديث للمرة المائة مما باتا يحفظاه عن ظهر قلب، تبادلت "فيروزة" مع أختها نظراتٍ مفهومة، ثم أدارت رأسها نحو والدتها مدعية السعال لتقاطعها قائلة:
-حلو الكلام ده كله يا ماما، نركز في شغلنا بقى!

رمقتها "آمنة" بنظرة حادة، وقالت لها:
-إنتي بايخة! يعني أقولك زمان كنا بنعمل هيصة و....
وقبل أن تكمل جملتها للنهاية خرج من جوفها شهقة مفزوعة وقد اندفع جسدها بالكامل ككتلة ثقيلة للأمام لتنكفئ على ركبتيها في ألم موجع، استندت "آمنة" على كفيها كي لا ترتطم رأسها بالأرض الصلبة، تهدج صدرها ولهثت وهي بالكاد تحاول استيعاب ما حدث لها في لمح البصر.

بالطبع كان الأمر مفسرًا حينما رأت ذلك الشاب الأرعن يتحرك بخطواتٍ عصبية غير عابئ بمن يصطدم، صاحت فيه "فيروزة" وقد رأت وقاحة ما فعله مع والدتها وهي تنحني لتساعدها على الوقوف مع "همسة":
-إنت غبي يا جدع إنت؟ مش شايف اللي قدامك يا أعمى!
استوقفته جملتها المهينة فالتفت "هيثم" نحوها يرمقها بعينين تطقان شررًا، عاد إليها يزأر بها في انفعالٍ شديد:
-إنتي اتهبلتي يا بت إنتي؟

خشيت "آمنة" من إقحام ابنتها في أمر لا يحمد عقباه فتوسلتها:
-خلاص يا بنتي.. محصلش حاجة.
ردت بوجه مكفهر الملامح:
-لأ .. حصل!
تركت "فيروزة" والدتها لتقف في مواجهة ذلك الفظ الوقح الذي لم يظهر الندم على خطئه، تحولت ملامحها للشراسة ونظراتها للعدائية، وردت عليه بقوة وجراءة منقطعة النظير غير مبالية بهيئته المهددة:
-احترم نفسك! إنت غلطان وبجح، لأ وبتكلم كمان؟!

صاح يهددها ملوحًا بذراعه:
-ما تخلنيش أمد إيدي عليكي!
استشاطت عيناها من عدائيته الفجة، ومع هذا ردت بشجاعةٍ دون أن تهابه:
-طب جرب كده وأنا هاعرفك مقامك وأوديك في داهية..
قال لها بوقاحةٍ أجفلتها:
-داهية تاخدك إنتي واللي معاكي!
لم تستطع كظم غضبها بل ناطحته الند فقالت:
-اهوو إنت، ما أنا لو بأتكلم مع راجل بيعرف في الأصول مكانش غلط من الأول.

صاح بها بوجهٍ قاسٍ وقد أصبح على وشك إفراغ شحنة غضبه بها:
-أنا راجل غصب عن عين اللي خلفوكي.
كاد أن يتفاقم الوضع ويتعقد كثيرًا لولا أن تدخل الحاج "بدير" الذي تابع المشهد في نهايته فهدر يعنفه محذرًا بلهجةٍ شديدة:
-"هيثم"، لِم الدور هنا! سامعني؟
ثم تقدم نحو "آمنة" التي تمزقت عباءتها من عند ركبتيها جراء سقطتها العنيفة معتذرًا لها:
-حقك عليا أنا، امسحيها فيا يا حاجة.

وقبل أن تنطق والدتها بكلمة هتفت "فيروزة" محتجة:
-لأ معلش يا حاج، كلامك فوق راسنا ...
ثم أشارت بعينيها -في احتقارٍ صريح- نحو "هيثم" متابعة كلامها:
-بس احنا مش هنقبل بقلة الأدب دي وطولة اللسان، الحيوان ده هو اللي غلطان مش إنت يا حاج، وهو اللي لازم يتأسف لأمي.

أوشك "هيثم" على نعتها بلفظة نابية -وخادشة للحياء- جراء عبارتها الأخيرة، لكن تلك النظرة الصارمة من عيني زوج خالته كانت كفيلة بإخراسه، كتم غضبه المستعر مجبرًا، وبدا صوت أنفاسه الهادرة مسموعًا .. تحرك "بدير" في اتجاه "فيروزة" والذي حال بجسده بينها وبين ذاك الفظ ليقول:
-خلاص يا بنتي، حقكم عندي.
هنا صاحت "آمنة" بنبرة عبرت عن خوفها وهي تجاهد للسير بصورة طبيعية محاولة إخفاء ألم ركبتيها:
-مافيش بعد قولك كلام يا حاج، وأنا .. مسامحة في حقي.

كان كمن يُشارك في سباقٍ للعدو، يسير بخطواتٍ سريعة غير مكترثٍ لزوجته التي تبذل مجهودًا أكبر منه لتلحق به، رفع معصمه نحو عينيه لينظر إلى ساعة يده الثمينة -من وجهة نظره- حيث اشتراها من إحدى المزادات التي حضرها مصادفة، ومن وقتها كان يتباهي باقتنائه لشيء باهظ الثمن، لاحظ تأخر الوقت فامتعضت قسماته والتفت على يساره يُحادث زوجته بما يشبه الأوامر:
-مدي يا "حمدية" شوية، احنا كده اتأخرنا.

نظرت له شزرًا وردت في تأفف وكأنها تضع حبة حبهان بين ضرسيها:
-هو يعني كان بمزاجي؟ مش عقبال ما أكلت العيال، وخلصنا مذاكرة، ونيمتهم.
علق عليها بما يشير إلى بخله:
-ما كنا خدناهم معانا، وأهي كانت اتحسبت عليهم خروجة واستفدنا من الأكل والشرب الزيادة
قالت غير مبالية بعد أن زمت شفتيها:
-لأ يا خويا، أنا مش ناقصة نهيان قلب وبس وهس!

رمقها "خليل" بنظرة مستاءة قبل أن يتطلع أمامه متابعًا مشيه المتعجل وقد غفل عن التجمع القريب منه، والذي بالطبع كان محط أنظار واهتمام "حمدية"، انعقد حاجباها بشكلٍ ملفت، ورددت عاليًا لتجذب انتباه زوجها:
-إيه ده .. مش دي المعدولة بنت أختك؟
تلقائيًا تحولت أنظاره نحو زوجته متسائلاً
-مين؟ وفين؟

أشارت له بعينيها فحرك رأسه في الاتجاه المعاكس ليجد "فيروزة" تتحدث إلى أحدهم وتعبيراتها مشدودة على الأخير، استطاع كذلك أن يرى "آمنة" وابنتها الأخرى تقفان على مقربة من ذاك الرجل المهيب .. تساءلت "حمدية" في فضولٍ غريزي بها:
-هي المحروسة بتتخانق ولا إيه؟
أجابها في حيرة وتعابيره تجهمت نسبيًا:
-مش عارف.

زمت شفتيها في اعتراضٍ قبل أن تضيف بأسلوبها التهكمي:
-داهية لا تكون عملت نصيبة زي عوايدها؟!
حينما اقترب "خليل" منهم استطاع أن يلمح وجه ذلك الرجل، ردد عفويًا وتلك الخفقة القلقة تضرب صدره:
-ده الحاج "بدير" واقف كمان، سترك يا رب!
هنا أسرعت "حمدية" في خطواتها لتقول بخبثٍ بائن في نبرتها وأيضًا نظراتها:
-تعالى أما نشوف في إيه.

كان وجهه انعكاسًا لقلقٍ حقيقي في البداية وهو يقترب من شقيقته وابنتيها، مرر نظراته عليهن قبل أن تتوقف حدقتاه عند الحاج "بدير"، تطلع إليه في توترٍ، خاف من أن يكون الصدام مع صاحب الهيبة والوقار، وقف قبالته مهزوز القامة يسأله في حيرة ويكاد يشعر بتلاحق دقات قلبه:
-سلامو عليكم يا حاج "بدير"، خير في حاجة حصلت؟

التفتت نحوه الأخير مدققًا النظر فيه، عرفته بالطبع، وابتسم له يجيبه:
-وعليكم السلام يا "خليل"، مافيش حاجة مهمة، ده مجرد سوء تفاهم.
وبالرغم من توقعها لرؤية خالها إلا أن قدومه للاستفسار عن سبب ما حدث كان غير متوقعٍ بالنسبه لها، ومع ذلك اعترضت "فيروزة" كالعادة على تفسير الموقف والاستهانة بإيذاء والدتها فصاحت بنبرتها الحانقة:
-لأ مش كده خالص..

ثم سلطت عينيها المشتعلتين على طيف "هيثم" الذي انصرف قبل لحظاتٍ تهينه من جديد، فنارها لم تبرد بعد:
-ما هو الحيوان قريبه وقع أمي على الأرض وبهدلها زي ما إنت شايف.
بدا الوجوم المختلط بالتردد ظاهرًا على تعابير خالها، لم يحبذ أبدًا ان يكون طرفًا في أي جدالٍ أو مناوشة مع الحاج "بدير" وأقربائه، فالنتيجة ستكون محسومة من البداية لصالحهم، تنحنح متسائلاً في رهبةٍ وهو يخشى النظر إليه:
-قصدك مين؟

هنا أجابه "بدير" موضحًا ومبادرًا في لفتة طيبة منه:
-"هيثم" ابن أخت الحاجة يا "خليل"، وأنا قولتلها حق أمها على راسي، فمافيش داعي نكبر الحكاية!
حملق فيه في شرودٍ غير مصدق لما تلفظ به، للحظة طرأ في باله أن يستغل تلك الفرصة الجهنمية في الاستفادة من ذلك الرجل السخي والحصول على مصلحة ما يجني من ورائها أي أموال أو منفعة تعود عليه بالنقود، وفي سرعة خاطفة اتجه نحو أخته يضمها من كتفيها في حنوٍ زائف، ادعى تفحصه لساقيها وهو يسألها:
-إنتي كويسة ياختي؟

تقوس فم "حمدية" في تأفف وهي ترى ما يفعله مغمغمة مع نفسها:
-هو الراجل اتهبل ولا ايه؟
تابع "خليل" اهتمامه بأخته متسائلاً:
-حاسة بإيه؟ في حاجة بتوجعك؟ قوليلي، ومتخافيش من حاجة
ردت "آمنة" بنبرة مهتزة وهي تحاول استيعاب خوفه عليها:
-يعني .. شوية!

تقلص وجه "حمدية" في امتعاضٍ من تصرفه، فكيف له أن يتصالح معها هكذا بعد أن تعقد العلاقة بينهما؟ رددت مع نفسها وهي تنفخ بصوتٍ مسموع:
-دي إيه الحنية اللي هبطت عليك فجأة دي؟!!!

إشارة خفية من حاجب "خليل" لزوجته استطاعت أن تلمحها جعلها تعيد التفكير مليًا، فقد تفقه ذهن "حمدية" الداهية إلى تلك الحركة اللئيمة الصادرة من زوجها، فمن المستحيل أن يعفو عن أخته بعد المشادة التي دارت بينهما هكذا بسهولة، ولكونها قادرة على تفسير تصرفاته دون مجهود يذكر فأدركت أنه يحاول تصيد هذه الفرصة، ولهذا ودون استئذانٍ أو توجيه، خطت نحو "آمنة" تسألها أيضًا في خوف مفتعل وحسرة آسفة بعد أن انحنت قليلاً نحوها لتنفض التراب العالق بعباءتها:
-مالك يا حبيبتي؟ هو إنتي كنتي ناقصة وقعة، ده كفاية هدة الحيل اللي إنتي فيها ليل نهار!

تدلى الفك السفلي ل "همسة" في اندهاش متعجب، حتمًا ليست تلك زوجة خالها المتسلطة التي تزعجهن دومًا بكلامها الوقح وأسلوبها الفظ! كانت صافية النية لتفطن للحيلة التي تُحاك على والدتها، بينما على النقيض فهمت "فيروزة" التمثيلية الساذجة التي يحاول الاثنان تأديتها، لكنها كانت هزلية، مفتعلة، خالية من العاطفة والمحبة الصادقة .. استشاطت نظراتها حينما اصطحب خالها الحاج "بدير" ليتحدث معه بعيدًا عن أسماعها، بدا كما لو كان يخطط لشيءٍ ما، نظرت له باسترابةٍ وهي تحاول ضبط انفعالاتها حتى لا تنفلت وتتصرف بعصبية فتخسر ما لا تملكه بعد.

وبكل تملقٍ وابتساماتٍ زائفة بادر "خليل" مقترحًا، وكأنه يصنع جميلاً مع صاحب الشأن:
-اعتبر الموضوع منهي يا حاج "بدير"، العيال ياما بتغلط، ولازمهم قرصة ودن صغيرة، ما احنا كنا زيهم...
ثم أطلق ضحكة سخيفة مفتعلة قبل أن يقطعها ليكمل بخبثٍ:
-وأنا تحت أمرك لو احتجت أي حاجة.. إنت عارفني أنا بأحب أخدم الحبايب الغاليين اللي زيك برموش عينيا، وبدون مقابل، ده احنا بينا عِشرة وجيرة.

رد عليه بهدوءٍ وقد كان وجهه غير مقروء التعبيرات بالنسبة له:
-ربنا يعمل اللي فيه الخير، ما أنا بردك شايلك لوقت عوزة
سأله "خليل" في إلحاح:
-طب مش عايز مني حاجة؟
رد نافيًا وشفتاه تقوستا قليلاً لتظهر ابتسامة صغيرة:
-لأ .. تسلم.

مد يده لمصافحته قائلاً:
-يدوم المعروف يا حاج، هاروح أسلم على عريسنا نوارة الحتة، وربنا اللي عالم ده غلاوته من غلاوة عيالي
انتهى من مصافحته وربت على كتفه يشكره على كلماته المجاملة:
-الله يباركلك ..
تأكد "خليل" في قرارة نفسه أنه نجح في خلق فرصة له من العدم معه، وأنبئه حدسه أن ما يصبو إليه سيتحقق خلال أيام .. ما عليه إلا الصبر والانتظار ...

-ليه يا ماما خلتيني أسكت؟
دمدمت "فيروزة" بتلك العبارة التي عكست نقمها على رضوخ والدتها وتنازلها عن حقها ارضاءً لأخيها، وكأنها قد تحولت للتابع المطيع لسيده، وكل هذا فقط من أجل استعادة ودّه مرة أخرى، نفخت "آمنة" في استياءٍ من تزمت ابنتها، وقالت لها بحدة طفيفة مبررة أسبابها وهي تسير بتعرجٍ خفيف:
-خلاص بقى يا "فيروزة"، أنا مصدقت خالك رجع يتكلم معانا!

ردت باستنكارٍ وقد ارتفعت نبرتها قليلاً:
-وهو عملنا حاجة؟ بالعكس ده طلع بمصلحة على قفانا!
ضغطت على شفتيها قائلة:
-عفا الله عما سلف.
احتجت عليها ابنتها هاتفة:
-بلاش الطيبة دي الله يكرمك يا ماما، هي اللي مضيعة حقك..

نظرت لها أمها من طرف عينها قبل أن تشيح برأسها لتقول لها:
-أنا كده ومش هاتغير، مابعرفش أشيل من حد، والدم عمره ما يبقى مياه!
كزت على أسنانها مبدية اعتراضها على ذلك الأسلوب المستسلم المسامح لأخطاء الآخرين:
-يا ماما ...

قاطعتها "همسة" بلطفٍ حتى لا تضغط على والدتها وتزيد من إرهاقها بتشددها:
-كفاية يا "فيروزة"، ماتتعبيش ماما.
التفتت نحوها قائلة في اعتراضٍ ووجهها يكسوه تعابير قاسية:
-دلوقتي كلامي اللي بقى بيقف في الزور؟
هنا أضافت والدتها في نفاذ صبرٍ بعد أن ضجرت من عنادها معها:
-هو إنتي لازم تعكنني علينا؟
ردت بحدة وانفعال:
-الله، كمان أنا اللي بقيت سبب النكد؟

تأبطت "همسة" ذراع أختها وأجبرتها على السير بتباطؤ ترجوها:
-اهدي يا "فيرو"، لو سمحتي..
نفضت ذراعها عنها تقول:
-أنا هاروح العربية
استدارت والدتها مرددة في حسمٍ:
-بلاش منها الليلادي، ماسمعتيش مرات خالك وهي بتقول هتعدي علينا.

عضت "همسة" على شفتها السفلى متذكرة عبارتها الأخيرة قبل أن ينفض التجمع، تساءلت في حيرة وقلق ونظراتها مركزة مع وجه أختها المتجهم:
-أه صح .. طب هنعمل إيه؟
ردت "فيروزة" بعصبيةٍ وقد فقدت آخر ذرات صبرها:
-والله احنا اللي بنجيب الهم لنفسنا، بقى "حمدية" دي يتعملها حساب؟
توقفت "آمنة" عن السير لتستدير كليًا ناحيتها، ثم تطلعت إلى ابنتها تقول في عتابٍ محسوس:
-نفسي في مرة تسمعي كلامي من غير ما تضايقيني..

كانت كراهيتها لتلك المرأة قد وصلت لمنتهاها، ومع ذلك سحبت نفسًا عميقًا تحاول به ضبط أعصابها المستثارة، تصنعت الابتسام لتبدو لطيفة وهي ترد على والدتها:
-حاضر يا ماما...
لكن ما لبث أن تحولت ملامحها للجدية وهي تكمل بصوتٍ أقرب للتحذير:
-بس افتكري إن العقربة دي هتعمل حريقة في بيتنا قريب.
علقت عليها والدتها في يأسٍ:
-برضوه يا "فيروزة"! مافيش منك أمل!!

كانت ابنتها صعبة المراس، غير قابلة للتفاوض، ولا تقبل بالحلول الوسطى. نفذت قدرتها على الجدال معها، لذا تركتها واتجهت لمدخل البناية مستندة على الجدران لتخفف من إحساس الألم الذي أصاب ركبتيها لتختفي بالداخل، في حين تلكأت "فيروزة" في خطواتها لتبدو قريبة من أختها التي بدت نوعًا ما شاردة، سألتها مباشرة، وكأنها قد تذكرت الأمر للتو:
-صحيح كنتي عاوزة تقوليلي إيه عن العريس ....؟!!!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة الحادية عشر بقلم منال سالم


رمشت بعينيها في بطءٍ وهي تتطلع إلى أختها التي باغتتها بسؤالها ذلك وقد اعتقدت أنها تناسته في خضم تلك المشادة الأخيرة، عقدت المفاجأة لسانها، أحست بجفاف شديد في حلقها، بخوفٍ ممتزج بالتوتر يتسلل تحت جلدها، بالعرق البارد يصيب أنحاء متفرقة من جسدها .. كانت حيرتها جلية على قسماتها؛ فإن تفوهت بما حدث مسبقًا لربما دفعت "فيروزة" للعودة إلى العرس والتشاجر من جديد معه، وهذا ما ترفضه قطعيًا، لأنه سيزج بها في مشاكل جمة لن تُحل بسهولة .. وإن أخفت الأمر عنها لربما غضبت منها إن شاءت الأقدار وتكرر الصدام معه أثناء عملهما بالعربة، أصاب "همسة" الوجوم الشديد، حتى أن ملامحها بهتت ونظراتها زاغت .. طال صمتها مما زاد من غريزة الفضول لدى أختها، استغرقت بلا وعيٍ في أفكارها المتخبطة حتى انتبهت على صوت "فيروزة" حينما ألحت عليها تسألها:
-إيه يا بنتي؟ إنتي نسيتي كنتي عاوزة تقولي إيه عنه؟


 
لعقت "همسة" شفتيها تجيبها في تلعثم:
-لأ.. ولا حاجة، كنت .. آآآ.....
جفاف أكبر أصاب جوفها مما زاد من طعم المرارة به، ازدردت ريقها الهارب وتابعت كذبًا:
-كنت مفكراه شبه .. ممثل كده، وحتى كنت .. هسألك لو تعرفيه.
ثم حملقت في "فيروزة" تراقب بأعصابٍ مشدودة ردة فعلها، ورغم سذاجة إجابتها إلا أنها كانت كافية لتمنحها فرصة للتفكير مليًا في حجةٍ أكثر إقناعًا إن استمرت في التحقيق معها وحاصرتها بأسئلتها، تنفست "همسة" الصعداء حينما ردت عليها بما يشبه التهكم:
-والله إنتي فايقة ورايقة، ممثل إيه بس!


 
خرجت ضحكة متكلفة من جوفها وكأنها تضحك على كلماتها فقط لتخفي الاضطراب الذي اعتلاها، تحركت "فيروزة" للداخل دون أن تتفوه بكلمة أخرى وقد بدأت زخات المطر في الهطول، أحست "همسة" بالارتياح لانصرافها، وتمتمت مع نفسها في تضرع:
-الحمدلله يا رب، عدت على خير.

تركت للمطر مهمة تبريد تلك السخونة التي انتشرت في بشرتها بفعل الأدرينالين والانفعال، أغمضت عينيها ورفعت رأسها للأعلى مستمتعة بذلك الإحساس المنعش، ثم تنفست بعمق حتى تتأكد من انتظام دقات قلبها، رفعت "همسة" يدها لتمسح المطر العالق بأهدابها، واشرأبت بعنقها لتنظر إلى ما تفعله "فيروزة" بجوار السلم، فوجدتها تفتح الحجرة المخصصة لتخزين العربة لتجمع صناديق الطعام الصغيرة، تبعتها في صمتٍ لتساعدها وهي تردد كلمات أغنية علقت في ذهنها مما جعل الأخيرة تضحك على صوتها المريع وهي تنظر لها من طرف عينها، ثم بدأت في مشاركتها الغناء بصوتٍ لا يقل عنها نشازًا.


 
تراصت السيارات أمام البناية المشابهة لأغلب عمارات المنطقة في ارتفاعها الذي لا يتجاوز الأربع طوابق -والمملوكة لعائلة "سلطان"- لتصدح بعدها أصوات الأبواق كإعلانٍ صريح عن وصول العروسين لمسكن الزوجية، وبالرغم من كون ذلك قد أحدث صخبًا وجلبة عالية إلا أنه لم يشكو أحدهم من هذا، فما زالت تلك هي الطريقة التقليدية المتبعة في الأفراح .. ترجل "تميم" أولاً من السيارة واستدار بجسده للخلف لينظر إلى والده الذي ترجل من سيارة أخرى.

تحرك الأول في اتجاهه وامتدت ذراعاه لتحتضنه وتشكره على مساندته طوال الساعات الماضية، ثم أطل برأسه من زجاج النافذة ليمسك بكف جده، رفعه إلى فمه وقبله احترامًا وتبجيلاً. اعتدل في وقفته ليجد والدته تربت على جانب ذراعه ووجهها البشوش يلمع بعبرات الفرح، مسحت بأناملها دمعاتها المنسابة وهي تدعو له:
-ربنا يرزقك يا ابني بالسعادة وراحة البال.. إنت تعبت واتظلمت كتير، وعروستك طيبة وتستاهلك
أحنى رأسه على جبينها يقبله في امتنانٍ يشكرها:
-ربنا يخليكي ليا يامه، أنا من غير دعواتك ولا حاجة.


 
نظرت له بحبٍ، وقالت:
-حبيبي يا ابني ....
ثم ابتسمت له قبل أن تستأنف جملتها:
-وبعدين يا ضنايا البت "خلود" طلعالي، وتربية إيدي، يعني هتريحك في كل حاجة
رد ممازحًا:
-يا ريت يامه تبقى شبهك، بس إنتي بردك مافيش زيك يا ست الكل.
علقت عليه بنبرة ذات مغزى وهي تشير بحاجبيها:
-روح لعروستك بقى، مايصحش تسيبها كده مستنياك..

التفت برأسه عفويًا في الاتجاه الذي أشارت إليه فوجد "خلود" قد ترجلت من السيارة، وتتبادل الحديث مع والدتها التي حتمًا كانت تُملي عليها الوصايا العشر لتفرض سيطرتها على المنزل، هكذا خمن في نفسه، خاصة وأنها كانت ملتصقة بها بطريقة غير طبيعية وزائدة عن الحد منذ بداية العرس وحتى نهايته، تقدم نحوهما متنحنحًا في خشونة، ثم هتف عاليًا لتنتبه "بثينة" له:
-ها يا حماتي، خلصتي مع مراتي ولا لسه قدامك شوية؟


 
نظرت له خالته في استهجانٍ قبل أن تجيبه بشفاه مقلوبة وبما يشبه التهكم:
-أديني واقفة معاها لحد ما تخلص إنت، ولا عاوزني أسيبها لواحدها لحد ما سيادتك تفضى؟
حدجها بنظرة حادة عكست ضيقه، واستطرد يحرجها بكلماته القوية:
-ما هو أنا واقف مع أهلي اللي هما برضوه أهلها، مش برده احنا بينا دم واحد؟ ولا الظاهر إنك بقيتي بتنسي كتير الأيام دي يا .. حماتي!
استشاطت غيظًا منه فصاحت تهاجمه في قسوة:
-أنا خالتك قبل ما أكون حماتك، يعني في مقام أمك!!!

رد مبتسمًا بغطرسة ليشعل غيظها أكثر:
-أنا ماليش إلا أم واحدة!
أطبقت "بثينة" على شفتيها في حنقٍ واضح للحظات، ثم هتفت تحذره بنبرة أقرب للتهديد:
-طيب أحسنلك تاخد بالك من "خلود"، وإياك تزعلها! هتلاقيني في ضهرها ووقفالك!
ظهر عرق نابض في جيبنه بسبب ضيقه من أسلوبها غير المستساغ في التوجيه، استنشق الهواء البارد ليثبط به دمائه التي زاد احتقانها، وزفره دفعة واحدة ليضيف بعدها ضاغطًا على كلمات جملته الأولى:
-اطمني يا .. حماتي، أنا عارف إزاي أعامل أهل بيتي، مش مستني حد ينصحني، و...


 
ثم سلط أنظاره على أبويه متابعًا في تفاخرٍ وغرور:
-وكفاية إني تربية الحاج "بدير"، ومن قبله جدي "سلطان"، ده غير أخلاق أمي اللي مغروسة فيا، فمتقلقيش...
وما لبث أن تحولت لهجته للقوة ونظراته للصرامة عندما تابع بنبرة خفيضة نسبيًا وقد مال نحوها برأسه:
-إنتي بس ريحي نفسك والدنيا هتمشي!

زمت "بثينة" شفتيها في امتعاضٍ مستنكر وهي ترمقه بنظرة نارية مغتاظة، ثم تقدم "تميم" خطوة للأمام ليتجاوزها ويقف قبالة عروسه التي تضرج وجهها بحمرة نضرة، ثني ذراعه وهو يبتسم لها، فمدت "خلود" يدها لتتأبطه وقد أسبلت عينيها بخجلٍ، التفتت للجانب برأسها قليلاً لتلوح بيدها الأخرى لعائلتها تودعهم، ثم تطلعت أمامها وأكملت سيرها بحذرٍ رافعة طرف ثوب عرسها وكذلك واضعة طرحتها الطويلة على مرفقها حتى لا تتسخ بفعل الأرض المبتلة بزخات المطر، اتجهت مع زوجها نحو مدخل العمارة الذي تم طلائه حديثًا باللونين الأبيض والرمادي الفاتح ليخفي التشققات الناتجة عن الرطوبة المستمرة والظاهرة على الجدران. دق قلبها في حماسٍ وخوف، كما تواترت مشاعرها في تلك اللحظات المصيرية، واضطرب وجدانها مع اقتراب تحقيق حلمها الوحيد.

تراقصت أحلامها الوردية بتمضية ليالٍ رومانسية ناعمة ودافئة في مخليتها وهي تزف إليه بعد صبر طويل وعزيمة قوية، لم تنسَ "خلود" لحظات اليأس التي كادت أن تتملك منها وتفقدها الأمل، ولكن في تلك الليلة تلاشت مخاوفها وتبددت أحزانها، وباتت تنتظر بشغفٍ تذوق رحيق الحب مع معشوق قلبها وفارس أحلامها الوحيد.

أخرجها "تميم" من سرحانها المُشوق بأن يجمعهما سقف واحد حينما استوقفها عند بداية الدرج ليحملها بغتةً بين ذراعيه، خفق قلبها بقوةٍ، وتلبكت من حركته التي هزت كيانها وحفزت مشاعر الحب بداخلها، أخفضت عينيها في استحياءٍ، لكن تأثير أحاسيس الحب عليها بدا ملموسًا، واضحًا، ولا حاجة به إلى برهان، واصل تسلق الدرجات بها في خفةٍ وكأنها لا تزن شيئًا حتى وصل إلى الطابق الثاني حيث تتواجد شقتهما.

أنزلها لتقف على قدميها، ثم دس يده في جيب سترته ليخرج المفتاح منه، دسه في مكان القفل وفتح الباب بدفعة خفيفة لينفتح على مصراعيه، عاد ليحملها من جديد ليزيد من مشاعر الشوق والرغبة بداخلها، وتلك المرة تجرأت على تطويق عنقه بذراعيها، واختلست النظرات نحو وجهه الذي كان قريبًا منها للغاية، كانت تشعر بحرارة أنفاسه اللاهثة، بالإيماءات الحذرة المتشكلة على جانبي شفتيه، انفصلت عن محيطها الواقعي لتبقى أسيرة تلك الهالة الساحرة التي تحاوطه.

وعلى عكسها كان "تميم" مشغولاً بالانتباه إلى خطواته بداخل الشقة التي كانت كبيرة في مساحتها، وبالتالي لم تكن هناك أي صعوبة في شراء الأثاث كبير الحجم أو حتى رصه، بل تبقت زوايا خالية تحتاج للمزيد من اللمسات الأنثوية لملئها، نظرة سريعة في البهو تبعتها أخرى نحو الردهة، ثم تقدم بها في اتجاه غرفة النوم، هناك أنزلها على قدميها بكل رقة ورمقها بابتسامة دافئة قبل أن يستهل حديثه مُبارِكًا:
-نورتي بيتك يا عروسة.

أسبلت عينيها في خجل رقيق، وعضت على شفتها السفلى وهي ترى نظراته المتأملة له، أولته ظهرها لتنظر إلى الفراش الذي تم ترتيبه بشكل منمق ليليق بليلة كتلك، جابت عيناها ثياب كليهما الموضوعة بانتظام على طرفي الفراش، استدارت لتتطلع إلى زوجها وهي تقول بأنفاسٍ شبه متهدجة من فرط فرحتها:
-أنا مش مصدقة نفسي لحد دلوقتي! أنا وإنت في بيت واحد..
رد مبتسمًا وقد دس يديه في جيبي بنطاله:
-لأ صدقي.

اقتربت بغنجٍ متدلل خطوة منه حتى أصبحت المسافة بينهما ضئيلة للغاية، حركت كتفها بإغراء وعذوبة، ثم رفرفت بعينيها وهي تتمعن النظر فيه عن قرب، لاحت ابتسامة رقيقة مغرية على شفتيها الممتلئتين حينما همست بنعومة:
-أنا بأحبك أوي.
وكأي شخص طبيعي تتأثر مشاعره الأكثر صلابة بفعل المغريات اللذيذة المؤججة للمشاعر الذكورية الحميمة أحنى "تميم" رأسه على زوجته بعد أن احتضن وجهها براحتيه ليختطف منها أول قبلة مطولة انحبست فيها الأنفاس واهتز معها الوجدان.

استضافته بترحابٍ فرح للغاية بعد أن جاء إلى زيارتها تنفيذًا للوعد الذي قطعه علنًا أمام الحاج "بدير" قبيل انتهاء العرس، لم تبخل على شقيقها بشيء، تناست خصومتها معه فور أن وطأ أعتاب منزلها، وكأن شيئًا لم يكن، في قرارة نفسها كانت تتلهف لإعادة روابط الود بينهما، أعدت له الأصناف الشهية من الحلويات وملأت الكؤوس والفناجين بالمشروبات الباردة والدافئة، حتى أنها ضيفت زوجته بلطفٍ زائد لتنسيها أي خلاف مما استفز ابنتها الجالستين بالداخل، وخاصة "فيروزة" التي كانت ناقمة على الاثنين لكونهما مخادعين، تلصصت كلتاهما على الحوار الدائر في الصالة معلقتين بهمسات مزعوجة وساخطة، تردد أصداء صوت "خليل" الذي كان عاليًا عاليًا وهو يستطرد مبررًا:
-بردك ياختي أنا خايف عليكي، واللي عملته ده كان عشان مصلحة البنات، ما أنا زي أبوهم.

ردت عليه "آمنة" بإيماءة موافقة من رأسها:
-طبعًا يا "خليل".
في حين علقت "حمدية" بحماسٍ مريب مستخدمة يدها في الإشارة:
-ومهما كان اللي حصل الدم عمره ما يبقى مياه، ولا إيه يا "أبو العيال"؟
أيدها الرأي قائلاً:
-مظبوط .. ومسيرنا كنا هنتصالح.
تحفزت "حمدية" في جلستها، ومالت نحو أخت زوجها تؤكد بقوةٍ وكأنها صاحبة الفضل في فض الخصام بينهما:
-أيوه، هو إنتو ليكو إلا بعض ياختي؟ ربنا يبعد عنكم الشيطان.

ابتسمت لها في امتنانٍ، ثم أدارت رأسها في اتجاه شقيقها تشكره:
-ربنا يخليك ليا ياخويا، ومايحرمنيش منك أبدًا.
أضافت "حمدية" في خبثٍ وابتسامة سخيفة باردة متشكلة على شفتيها:
-وإن كانوا البنات غلطوا فيا، فأنا مسامحة في حقي، دول زي إخواتي الصغيرين، مش هاقول عيالي عشان أنا لسه صغيرة ..

ثم أطلقت ضحكة لزجة وكأنها قالت دعابة من المفترض أن يكركر عليها الجميع بهيسترية، لكن لم يضحك أحدهما، فأطبقت على شفتيها لاوية ثغرها قليلاً. تنهد "خليل" معلقًا بعد أن تنحنح:
-طول عمر قلبك طيب يا "آمنة"، زي أمنا الله يرحمها، كانت بتحب الناس كلها وعمرها ما شالت من حد.
لمعت عيناها نوعًا ما تأثرًا بذكراها العطرة، ورددت بخفوتٍ في تضرعٍ راجٍ:
-الله يرحمها ويجعلها في الفردوس الأعلى.

تناول "خليل" رشفة أخرى من فنجان قهوته، ثم تركه على الطاولة البيضاوية التي تنتصف الغرفة ليهب واقفًا وهو يختم تلك الزيارة اللطيفة الودية:
-لو عوزتي حاجة ياختي تعاليلي في أي وقت، بابي مفتوحلك
نهضت واقفة تحملق فيه بعينين مليئتين بالحنو والمحبة، وردت عليه قائلة:
-تعيشلي يا رب، ده إنت اللي باقي لي من الحبايب.

ربت على كتفها برفقٍ وهو يودعها بالمزيد من العبارات المستهلكة على الأذن، لكن لها مفعولها العجيب على النفس، شعر "خليل" بالانتشاء يغمره، وارتسمت ابتسامة انتصارٍ على محياه اللثيم، حيث أدت طريقته الجديدة لنتائج باهرة ونجح في استقطابها إلى جبهته لتغدو مرة أخرى طوع بنانه وتحت إمرته، حتى إن أمعن لاحقًا في الضغط عليها للموافقة على أحد الأمور لأظهرت استجابتها الفورية له ولم تقاوم رغباته الطامعة.

نوبة حب رائعة عاشتها خلال تلك اللحظات المحدودة انتقلت فيها لعالم مشبع بالمشاعر الدفينة التي تحتاج ليد الخبير لإظهارها على السطح، أرخى قبضتيه عن وجهها فتحررت من حصاره الحابس للأنفاس، لكن بقيت آثار أصابعه على وجنتيها اللاتين تضرجتا بحمرة ساخنة، أخفض "تميم" ذراعه ليمسك ب "خلود" من كفها، جذبها برفق نحو الفراش وأجلسها على طرفه، ثم جلس إلى جوارها، شهيق طويل سحبه إلى صدره ثم لفظه بتمهلٍ، وكأنه بذلك يستحضر ما سيقوله بعد ذلك. اكتسبت نبرته عمقًا عكس جدية ما قاله حينما استطرد:
-شوفي يا بنت خالتي، قبل ما نبدأ حياتنا سوا، عاوزين نتفق على كام حاجة عشان حياتنا تمشي من غير مشاكل.

هزت رأسها بالإيجاب وهي تنصت له باهتمامٍ، فتابع:
-أنا طول عمري دوغري في كل حاجة، لا بأحب اللف ولا الدوران، ولا كلام الضحك على الدقون، كلمتي زي السيف مع أي حد، وحتى مع أهل بيتي، اللي إنتي بقيتي دلوقتي منهم
-تمام.
شدد عليه بلهجته الجادة ودون أن يرف له جفن ليبدو صارمًا نوعًا ما فيما يقوله:
-أي حاجة تحصل بينا هنا، حلوة أو وحشة، مشاكل أو اتفاقات، يا ريت تفضل بينا ما تطلعش برا!
أجابت دون تفكير:
-حاضر يا حبيبي.

تابع في لهجة جمعت بين الصرامة والنصح:
-أنا عاوزك تكوني الأمان بالنسبالي، وزي ما أنا مش هاسمح لحاجة تضايقك، إنتي كمان بلاش تخلي حاجة تزعلني منك.
هتفت تعقب عليه دون ترددٍ:
-أنا مش هاعمل غير اللي يسعدك وبس.
ابتسم لها بعذوبة، ثم أكمل بنبرة عقلانية حتى تتضح الصورة كاملة:
-وارد يحصل بينا مشاكل، أتمنى ساعتها محدش يعرف بيها، وخصوصًا أمي وأمك.

كان شاغله الأكبر خالته الثرثارة، التي لا تتوانى أبدًا عن خلق المشكلات من توافه الأمور وتعظيمها، وخاصة أنها تقف الند بالند له ولعائلته بسبب هاجسها الخاطئ، خشي أن تنزعج "خلود" من طلبه، أو حتى تعارضه، لكنها خالفت توقعاته حينما أكدت عليه بصدرٍ رحب:
-حاضر، وعشان تبقى عارف أنا مش نقالة للكلام!

صحح لها جملته حتى لا تسيء فهمه:
-وأنا مقولتش كده، أنا بس مابحبش حد يتدخل في حياتي أو يفرض عليا رأيه، أو حتى أبرر تصرفاتي ليه.
هزت رأسها ترد:
-معاك حق، محدش كمان بيسيب حد في حاله يا حبيبي.
أوضح "تميم" أكثر وهو يومئ برأسه:
-بالظبط، والموضوع الصغير هايكبر ويبقى حكاية، واحنا في غنى عن ده كله.

ابتسامة رقيقة احتلت صفحة وجهها الناعم وهي تقول له عن طيب خاطر وبمحبة لا حدود لها:
-خلاص يا حبيبي، كل اللي إنت عاوزه أنا هاعمله وأنا مغمضة عينيا.
وضع "تميم" إصبعيه على طرف ذقنها يداعبه في رقة قائلاً لها بنبرة عميقة عبرت عن شخصيته الرجولية وشهامته الكبيرة:
-ربنا يخليكي يا حبيبتي، وليكي عليا أعاملك بما يرضي الله، لا هاقل أدبي، ولا هامد إيدي عليكي، بس إنتي راعي ربنا فيا.
مالت برأسها للجانب لتستند بوجنتها على راحة يده، ثم همست له بدلالٍ:
-ده إنت أغلى ما في حياتي.

ابتسم لها ممازحًا:
-أنا عاوزك كده على طول، رقيقة وهادية، بلاش تقفشي ولا أشوف جنان البنات
ردت بوجه مدعي العبوس:
-أنا مش مجنونة، أنا بأغير بس عليك
-ماشي يا ستي، وبالله عليكي ماتحاوليش تضايقني وأنا متعصب، سبيني أهدى وبعدين نتكلم
ردت وضحكة عابثة تتلاعب على شفتيها
-عندك حق في دي، لأحسن زعلك وحش أوي، وأنا مش أد
قال مؤكدًا:
-أيوه، ببقى غبي بجد!

انتهى "تميم" من فرض ما بدا أشبه بالتعليمات عليها قبل أن يهب واقفًا، تطلع إليها بنظرة مطولة تجوب على زينتها الرقيقة وجمال جسدها الممشوق في ثوب الزفاف، أشاح بوجهه قائلاً بنحنحة خفيفة:
-أنا هاغير هدومي برا وأسيبك هنا تلبسي براحتك.

شعرت "خلود" بتقلصات خفيفة تضرب معدتها بعد جملته تلك، لوهلةٍ أصابها الوجوم كما لو كانت قد تلقت صدمتها الأولى، لم يكن ذلك مثل ما خططت له في مخيلتها، أليس من المفترض أن يتلهف عليها ويحترق شوقًا لضمها إلى أحضانه وتأملها بما خف وقل من الثياب؟ أفاقت من دهشتها المؤقتة والمستنكرة حينما بادر مبررًا بابتسامة صغيرة قاصدًا أن يخفف من توترها الطبيعي في هذا الموقف الحرج وغير الاعتيادي:
-أنا عارف إن البنات بتتكسف في اليوم ده .. فعشان ماتتحرجيش مني وآ...

قاطعته بنبرة مختنقة نسبيًا وقد امتدت يدها لتقبض على معصمه حتى يظل واقفًا في مكانه:
-أنا عاوزاك معايا.. ماتسبنيش!
بدا صوتها أقرب للرجاء عن أي شيء آخر، تطلع إليها في اندهاش بعد أن تركزت أنظاره في البداية على كفها الممسك به، ثم تنهد قائلاً لها بهدوءٍ:
-لو ده اللي إنتي عاوزاه، فأنا معنديش مانع
عللت رغبتها في وجوده بعفويةٍ، وكأنها بذلك تزيح ثقلاً كئيبًا كان جاثمًا على صدرها:
-إنت مش متخيل أنا استنيت اليوم ده أد إيه، أكتر من 7 سنين يا "تميم" بأحلم إني أكون جمبك ومعاك، عيشت تفاصيل كل لحظة فيها بخيالي، وبقيت بأصبر نفسي إنك في النهاية هاتكون ليا.

مَسَّت كلماتها المفعمة بمشاعرها الصادقة قلبه، فرفع راحته ووضعها على وجنتها ليشعر بنعومتها المغرية على جلده، داعبها بإبهامه، وطالعها بنظرة ممتنة مليئة بالود والألفة، ثم دنا منها بشفتيه ليطبق على خاصتها وقبلها من جديد بقبلة أشد عمقًا ضاعفت من لهيب الشوق والرغبة، استسلمت لما يبثه فيها من مشاعر محفزة لتعيش معه أحد أهم أحلام يقظتها، ولكن على أرض الواقع!

أمسكت بفرشاة تنظيف الثياب الخشبية، ونفضت العالق من الأتربة والشوائب الصغيرة عن جلباب زوجها الذي ارتداه في تلك الليلة قبل أن تعلقه على الشماعة ليحصل على التهوية الجيدة ومن ثم تغسله حينما يتسنى لها الوقت لفعل ذلك لتعيده بعدها في مكانه بالدولاب. انحنت "ونيسة" بتمهلٍ لتمسك بالحذاء وتضعه في مكانه قائلة بفرحة صادقة وابتسامة عريضة تغزو صفحة وجهها الضاحك:
-أما كانت ليلة يا حاج، مافيش بعد كده! حاجة تِشرح القلب بصحيح!

هز "بدير" رأسه في استحسانٍ وهو يتمدد على الفراش ليريح جسده المنهك من عناء مجهود اليوم، ثنى ركبته اليمنى إلى صدره، وأراح ظهره للخلف، ثم قال لها:
-الحمدلله، المهم يكون الكل اتبسط ..
ردت بعبوسٍ زائف وقد وضعت يدها أعلى منتصف خاصرتها:
-هو حد يقدر يتكلم بعد اللي عملته يا حاج؟!
ثم ما لبث أن ارتخت ملامحها حينما أضافت بتفاخرٍ:
-ده ليلة "تميم" هيتحكى عنها لشهور قدام
رد باقتضابٍ:
-ربنا كريم.

لانت نبرتها أكثر وهي تضيف ونظراتها مرتفعة للسماء:
-الحمدلله إنك مديت في عمري يا رب عشان أشوف ابني وهو بيتزف لعروسته.
استطرد مضيفًا بابتسامةٍ صغيرة:
-ده أبويا كان فرحان بيه أوي، تحسي إن الدموية ردت في وشه لما شافه
قالت بنبرة مزهوة:
-لازمًا يفرح بيه، مش حفيده البكري، ربنا يديه الصحة
-يا رب.

التفتت "ونيسة" نحو الشفونيرة لترص ما طوته من ثياب نظيفة عليها، استرعى انتباهها الدرج العلوي المفتوح قليلاً، ضاقت نظراتها نحوه متفحصة إياه دون أن تلمسه، ورددت متسائلة في اندهاشٍ كبير، وكأنها تفكر بصوتٍ مسموع:
-هو إنت يا حاج نسيت الدرج ده مفتوح؟
استدار برأسه نحوها يسألها:
-أنهو درج؟
امتدت يدها لتشير إليه قائلة بتلقائية مما شد انتباهه بالكامل:
-الدرج ده يا حاج.
اعتدل "بدير" في جلسته المسترخية وأخفض ساقه ليقول نافيًا:
-محصلش.. وريني كده.

ثم هب واقفًا على قدميه واقترب من الشوفنيرة ليدقق النظر في الدرج بعد أن تنحت زوجته للجانب، اكتشف كسر القفل الخاص به، وهرع يفتحه ليجد مفاجأة صادمة في انتظاره، حيث كان خاليًا من الأموال التي احتفظ بها بداخله، حلت أمارات الحنق على تعابيره المجهدة، وغطى الغضب الجم نظراته كليًا، التفت كالمسلوع نحوها يسألها بحدةٍ:
-الفلوس اللي هنا راحت فين؟

على الفور هتفت "ونيسة" ترد لتدافع عن نفسها وتنفي تلك التهمة عنها:
-والله ما أعرف يا "بدير"! أنا مشوفتش حاجة، وإنت بنفسك اللي بترص فلوسك في الدرج.
صاح في عصبيةٍ شديدة وهو يعتصر ذهنه محاولاً التفكير فيما حدث لتلك النقود أو حتى أين أنفقها:
-أومال راحوا فين؟
هزت كتفيها تجيبه:
-معرفش.

حك "بدير" رأسه في ضيق متعاظم، ولكن ما لبث أن تذكر شيئًا، الأموال الأخرى الموضوعة في الدرج السفلي، ذاك المبلغ الضخم الذي ما زال محتفظًا به ريثما يرسله للبنك، امتدت يده عفويًا لتسحب الدرج، لكنه وجده موصدًا فأشعره ذلك بالارتياح، زفر قائلاً بصوتٍ خفيض خفف بنسبة قليلة من حنقه:
-الحمدلله.

التفت عائدًا للخلف ليمسك بمفاتيحه المسنودة على الكومود، وأسرع نحو الدرج وقام بفتحه، قليل من الارتياح تسرب إليه، ومع هذا هتف بصوته الأجش الحانق:
-الحرامي ابن ال ..... مخدش باله من الدرج ده، كان فيه يجي فوق ال 100 ألف جنية وأكتر محطوطين هنا.
شاركته التعليق:
-ألف حمد وشكر ليك يا رب
ثم غلف الخوف نبرتها وهي تُعاود سؤاله:
-بس مين هيتجرأ ويسرقنا يا حاج؟
تطلع إليها في حيرة قبل أن يجيبها:
-مش عارف!
رددتت "ونيسة" في ذعرٍ وهي تتلفت حولها بنظرات مرتعدة:
-لأحسن يكون الحرامي لسه مستخبي هنا ولا هنا.

وكأنها بعفويتها قد نبهت زوجها إلى خطورة ذلك، تحرك على الفور إلى خارج الغرفة بعد أن جذب عكازه ليستخدمه في الدفاع عن نفسه وضرب السارق إن وجده، جاب "بدير" غرف المنزل يفتش في كل زاوية وركن وأي مكان يحتمل أن يختبئ به، لكن لا أثر له، العجيب في الأمر أنه لم يعرف بعد كيف اقتحم المنزل، وكيف قام بالسرقة مما ضاعف من فضوله وتساؤلاته، حاول كذلك خلال بحثه عنه ألا يزعج والده الكهل الذي استغرق في نومه بعد مشقة اليوم إلى أن يحل الصباح فيطلعه على الأمر، ومع هذا تأكد من خلو غرفته منه.

ظلت أطراف "ونيسة" ترتجف بالرغم من بحث زوجها المتأني عن اللص، وبقي إحساس الخوف متغلغلاً في أعماقها، لحقت ب "بدير" كظله ولازمته حتى توقف عن التفتيش، ابتلعت ريقها وقالت بصوت مهتز ينطق عن هلعها:
-أنا خايفة أوي يا حاج.. تفتكر ال .. الحرامي ممكن يرجع تاني؟
علق في استهجانٍ شديد، ونظراته امتلأت بالغيظ:
-ده يبقى غبي أوي، هو خلاص خد النهيبة وخلع!
سألته مستفهمة:
-طب هتبلغ البوليس ولا هنتصل ب "تميم" نعرفه؟

أجابها مستنكرًا آخر جملتها:
-وده كلام يا "ونيسة"؟ نتصل بابنك ليلة فرحه نقوله إلحق اتسرقنا؟ انسي الكلام ده خالص، "تميم" مش هايعرف دلوقتي، مفهوم
-طيب..
-خليني أفكر هاعمل إيه.
عادت لتسأله في إلحاحٍ:
-يعني هتكلم البوليس؟
رد نافيًا:
-لأ مش هاطلب أي حد!
اقترحت عليه بعفوية:
-طب وجوز بنتك؟
ردد بوجهٍ ممتعض:
-"محرز" ده لا بيحل ولا بيربط، هيعملي زيطة على الفاضي.

-أومال هتعمل إيه يا حاج؟
-لسه مش عارف.
قالت "ونيسة" بصوتها المرتجف:
-أديلنا زمن من يوم ما سكنا في الحتة ماحد عمره هوب ناحيتنا ولا فكر يسرقنا
أيدها الرأي قائلاً:
-معاكي حق.
-أول مرة تحصل الحكاية دي، الظاهر ولاد الحرام كانوا مراقبينا.
-الله أعلم.
انكمشت "ونيسة" على نفسها تقول له:
-بس أنا خايفة أوي يا حاج.
حاول طمأنتها فقال لها بهدوءٍ بالرغم من الثورة المستعرة بداخله جراء ما حدث:
-ماتخافيش يا "ونيسة"، أنا هتصرف..

أومأت برأسها عدة مراتٍ وتبعته أينما ذهب، ولم يعلق هو عليها، كان متفهمًا لخوفها الغريزي، إلا أنه كان عكسها يغلي من داخله، عاد ليفحص باب المنزل في دقةٍ عله يجد آثار الاقتحام، لكن لا شيء، انشغل تفكيره في اكتشاف طريقة دخول اللص للمنزل، امتلك "بدير" من الفراسة والخبرة الحياتية العريضة ما يجعله مؤهلاً لتحليل الأمور بشكلٍ منطقي، والوصول لنتائج واستنتاجات هامة. فرك طرف ذقنه في حركة ثابتة، وقال بصوتٍ خفيض:
-القفل مش مكسور، والباب زي ما هو.

علقت في سذاجة:
-يكونش الحرامي معاه مفتاح البيت؟
قال مستنكرًا محدودية تفكيرها:
-ليه كنت مديله نسخة وأنا مش دريان؟
زمت شفتيها معقبة عليه:
-أهوو اللي جه في بالي!
فكر "بدير" بعمقٍ مشاركًا زوجته ما يدور في رأسه:
-الحرامي ده عارف هيسرق إيه بالظبط، ولو كان دور كويس، كان شاف الفلوس التانية
-مظبوط.
-أنا حاسس كده إن الموضوع ده مخرجش برا حد نعرفه.
سألته مستوضحة:
-قصدك مين؟

نظر لها بغموضٍ وقد بدا وجهه صارم التعبيرات، التزم الصمت رافضًا البوح بما يراود عقله من هواجس وشكوك تدفعه للتفكير في شخصٍ بعينه...
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة الثانية عشر بقلم منال سالم


أخرجت تأويهة متألمة بعد أن نزعت حذائها الجديد عن قدميها بمجرد جلوسها على الأريكة، شعرت بوخزات حادة في أصابع قدميها التي بدت متورمة قليلاً جراء ارتدائها له لفترة طويلة، انحنت للأمام لتفركها في رفقٍ، ثم عادت بظهرها للخلف لتسترخي في جلستها. سمعت "بثينة" جلبةً تأتي من داخل غرفة ابنها فانتصب جسدها، أجبرت نفسها على النهوض واتجهت إليه بخطواتٍ متأنية..


 
وقفت عند أعتاب الغرفة تتأمل ما يفعله على عجالة، انخفضت نظراتها نحو الفراش لتجده واضعًا لحقيبة سفره عليه، حملقت فيه مجددًا فرأته يحشر ثيابه دون ترتيب فيها، ولجت للداخل وهي تعرج قليلاً، ثم سألته مباشرة ونظراتها موزعة بينه وبين حقيبة السفر الصغيرة:
-إنت بتعمل إيه؟


 
نظر لها في فتورٍ وكأن سؤالها لا يعنيه، ألحت عليه مكررة تساؤلها المستفهم:
-يا واد قولي بتعمل إيه؟ ولا رايح فين السعادي؟
رد بنبرة ساخطة تنم عن عزمه للأمر:
-بأوضب هدومي للسفر زي ما إنتي شايفة.
-يعني إنت مسافر؟
-أيوه، طالع أغير جو يومين كده مع أصحابي
هتفت مرددة في استغرابٍ مُبرر:
-في الجو ده يا "هيثم"؟ طب ليه؟
أجابها بزفيرٍ منزعج ووجهه مغطى بتعابير جامدة:
-مخنوق.


 
رفعت حاجبها للأعلى متسائلة:
-في حد ضايقك؟
أجابها بنظراته المتنمرة وتعابير أقرب للتزمت:
-هو في غيره
لم تكن بحاجة لامتلاك ذكاء خارق لتفطن إلى الإجابة الصحيحة لسؤاله، حيث علقت عليه بنظراتها الحادة:
-جوز خالتك "بدير"، صح؟
تابع معللاً سفره المفاجئ مستغلاً تلك الحجة الزائفة ليبدو جيدًا في إقناعه لها:
-ما هو لازم يسمم بدني بكلمتين بايخين من بتوعه، حتى لو كان ده فرح أختي
وقفت "بثينة" قبالته تقول له بتجهمٍ:
-معلش يا حبيبي، ولا تحرق دمك، هو كده غاوي ينكد على الناس، اطلع سافر وغير جو، وروق مزاجك، وأنا ليا لي كلام معاه و...


 
قاطعها في عصبيةٍ:
-يامه أنا مش عاوزك تتحشري في مشاكلي معاه كل مرة، بيمسكهالي ذلة ويعايرني بيكي
ردت بنبرة منفعلة:
-فشرت عينه، ده إنت راجل ابن راجل، هو نسى نفسه ولا إيه بتاع الجرجير ده؟!!
قال "هيثم" في عدم اكتراث وهو يجرجر حقيبة سفره خلفه بعد أن أنزلها من على الفراش:
-أديني هسيبهاله وهاغور من وشه، إياكش يرتاح
سارت خلفه محاولة تهدئته، فقالت:
-ولا تضايق نفسك، أنا هاعرف أجيبلك حقك منه.

لم يكلف نفسه عناء الرد عليها، تابع سيره المتعجل متجهًا نحو الصالة، سألته باهتمامٍ مدللة إياه:
-ناقصك فلوس يا نور عيني؟
للحظة تجمد في مكانه وكأن صاعقة أصابت جسده، التفت نحوها ينظر لها بعينين غائمتين متذكرًا سطوه على منزل خالته في ظلام الليل وحصوله على مبلغ لا بأس به، بدت تعابيره غريبة نسبيًا ووالدته تتأمله، تدارك شروده السريع ليقول بتلعثم وهو يهرب من نظرات والدته:
-م.. مستورة.


 
أصرت عليه قائلة:
-يا حبيبي ماتكسفش، هو إنت بتطلب من حد غريب، ده أنا أمك، وكل ما أملك ليك يا "هيثم"
استدار ناحيتها متصنعًا الابتسام، ثم شكرها وهو يحني رأسه نحو جبينها ليقبله:
-تعيشيلي يامه.
أوصته "بثينة" بنظراتها التي تبدلت للجدية:
-خد بالك من نفسك وكلمني كل شوية عشان أطمن، ماتسبنيش قلقانة
-طيب.

قالها وهو يدير مقبض الباب ليفتحه، اتجه للخارج في سرعة وهو يعد نفسه بسَفرةٍ ممتعة مع رفقاء السوء ينفق فيها ما حصل عليه من غنيمته الثمينة على شهواته دفعة واحدة، وكأنه بذلك يفرغ غضبه المكبوت في إضاعتها سدى مقنعًا نفسه بأن ما سرقه ليس إلا جزءًا ضئيلاً من حقه المسلوب.


 
رفعت رأسها لتستند على كتفه بعد أن ذاب الجليد بينهما وغابا في لحظات حميمية مميزة تأكد فيها من عفتها، وشعرت فيها بتأثير أنوثتها عليه، استلقى "تميم" على الفراش وشبك ذراعيه خلف رأسه تاركًا إياه تداعب صدره بأناملها الرقيقة، أغمض عينيه ليغفو مما حمسها لتأمله عن كثب بعينين تشعان بهجة، بدت أنفاسها دافئة وهي تلطم صدغه حينما همست له بنعومةٍ:
-مش عاوزة أفوق من الحلم الجميل اللي أنا عايشة فيه معاك، نفسي نفضل كده على طول، أنا في حضنك، وإنت معايا مابتفارقنيش.

رد عليها بصوت يميل للنعاس، ودون أن يفتح جفنيه:
-بكرة تزهقي مني.
اكتسى وجهها بتعبير مزعوج، وقالت محتجة:
-استحالة يحصل ده، أنا ماليش إلا إنت وبس!

شعر بتلك القبلة الناعمة التي انطبعت على جانب وجهه ففتح عينيه ليجد "خلود" تكاد تلتصق به، وتتطلع إليه بنظرات هائمة مليئة بالعشق، بسمة عذبة ظهرت على شفتيه قبل أن يرفع رأسه نحوها ليطبق على خاصتها مبادلاً إياها قبلة ناعمة جعلت بشرتها تتضرج بحمرتها النضرة، تثاءب في تعبٍ وربت على كتفها، ثم أزاحها ليتقلب على جانبه وهو يقول لها بإرهاقٍ:
-تصبحي على خير يا "خلود"
اكفهرت قسماتها وردت متسائلة بتذمرٍ:
-إنت هتنام دلوقت؟ مش هانقعد مع بعض شوية؟

أجابها في ثقلٍ وقد انطبق جفناه على بعضهما البعض:
-معلش يا حبيبتي، أنا مش قادر خالص، جسمي كله مكسر، ومش شايف قدامي!
أحست "خلود" بقليل من الإهانة والتجاهل من خلال جملته تلك، فمن المفترض أن يقضي ليلته الأولى معها حتى الصباح، انزعجت من عدم اكتراثه بما يجيش في صدرها من ضيقٍ، واعتدلت في رقدتها لتكتف ساعديها أمام صدرها، تعمدت أن تنفخ بصوتٍ مسموع ليعبر عن استيائها، ثم رددت عاليًا:
-يعني هاسهر لوحدي؟ بقى ده ينفع؟ ده أنا نفسي أحكي معاك ومانمش خالص.

أدرك "تميم" أنها لن تتوقف عن التذمر والشكوى حتى ينهض، نفض النعاس عن جفنيه متخليًا عن رغبته الشديدة في الحصول على قسطٍ وافر من النوم، والتفت نحوها متسائلاً بخلجاتٍ عابسة:
-عاوزة تحكي في إيه يا "خلود"؟

شعرت بالزهو لنجاحها في اجتذابه إليها، تطلعت إليه بنظراتها الوالهة، ثم صمتت لتفكر فيما تريد الحديث عنه، طرأ ببالها سؤاله عن الندوب التي تحتل الجانب الأيمن من كتفه، بدت لها كآثار حروق قديمة، لكنها لا تعرف سببها مما استرعى فضولها، استندت بطرف ذقنها على مرفقها المسنود على الوسادة متسائلة في نشوةٍ وبابتسامتها الفاتنة:
-هو اللي في ضهرك ده جالك من إيه؟

وأشارت بعينيها نحو جانب كتفه لتتحرك أنظاره عفويًا مع إيماءتها، ويا ليتها لم تتطرق إلى تلك الذكرى المؤلمة! فقد اشتدت تعابيره المسترخية قساوة واحتقنت نظراته، رمقها "تميم" بنظرة غريبة قاتمة هادرًا بها:
-ملكيش فيه!
انتفضت من صوته الأجش الذي جعلها تتخشب في مكانها وتحملق فيه في ذهول، تدلى فكها للأسفل وهو يتابع تحذيره القاسي:
-في حاجات مابحبش أحكي عنها ولا حتى أفتكرها، منها حروق ضهري! يا ريت تفهمي ده!

ارتجفت شفتاها، وشعرت بالاختناق يضرب صدرها من حدته معها، حاولت أن تتماسك حتى لا تبكي أمامه، ثم هتفت مبررة سؤالها البريء:
-أنا.. مقصدش يا "تميم"، إنت عارف إن أي حاجة تخصك تهمني، و.. معرفش إن سؤالي ده بالذات.. ه.. هيضايقك
رد بشراسةٍ وقد غامت عيناه:
-وأديكي عرفتي، يا ريت ماتكرريهاش
-بس .. كده آ....
قاطعها بحسم وبلهجة ذات طابع رسمي جليدي وهو يوليها ظهره:
-تصبحي على خير.

تطلعت له في قهرٍ وحسرة، دمعة حزينة فرت من طرف عينها تأثرًا بموقفه الصارم معها، مسحتها بيدٍ مرتعشة، واستدارت للجهة المعاكسة ملقية برأسها على الوسادة، ضغطت على شفتيها لتمنع شهقة باكية من الخروج من جوفها لتفضحها بعد أن أشعرها بالخذلان، لم تستطع السيطرة على الرجفة الخفيفة التي سيطرت على جسدها، نهنهة تكاد تكون مسموعة انفلتت منها حينما أحست بذراعه تحاوطها من الأعلى، حاولت الابتعاد عنه لكنه رفض إفلاتها، أطبقت على جفنيها في قوة مقاومة تيار المشاعر الحزينة الذي غزاها، تردد صوته الهامس في أذنها معتذرًا:
-حقك عليا يا "خلود".

عاتبته بنحيبٍ:
-ليه دايمًا بتكسر بخاطري يا "تميم"؟ وأنا اللي بأحبك!
ندم الأخير لسوء تصرفه وقساوته غير المفهومة معها، فقال لها موضحًا أسبابه:
-والله ماقصدش، متزعليش مني، وبعدين ده أنا لسه مفهمك إن في حاجات بتضايقني، وإني عاوزك تصبري عليا لما أتعصب.
ردت في غير اقتناعٍ:
-وسؤالي عمل كل العصبية دي؟

تنفس بعمقٍ ليثبط انفعالاته كليًا، ثم لفظ الهواء في زفير بطيء قبل أن يجيبها بهدوءٍ يناقض عصبيته قبل لحظات:
-أكيد لأ.
تابعت متصنعة اللا مبالاة:
-عمومًا حصل خير
مرر "تميم" ذراعه الآخر أسفل جسدها لتصبح أسيرة ذراعيه، ثم سألها بصوتٍ رخيم:
-لسه زعلانة مني؟
هزت كتفيها تُجاوبه:
-عادي .. مش هاتفرق، ما أنا لسه غريبة عنك!

زادت كلماتها الأخيرة من إحساسه بالذنب، أراد "تميم" أن يعوضها عن ذلك، فشدد من ضمه لها لتشعر بحرارة جسده عليها، ارتجفت من لمساته التي تُجيد اللعب على أحاسيسها المرهفة، وتشعرها باحتلاله لوجدانها، لهيب أنفاسه الساخنة وترها أكثر، خاصة حينما لامست جانب عنقها وهو يستأنف همسه المعتذر:
-حقك عليا.

ردت بصوتٍ لان بدرجة كبيرة وقد استجمعت نفسها:
-خلاص يا حبيبي.
وبكل ودٍ ولطف أدارها إليه ليجثم فوقها وتصبح أسيرة نظراته التي تفتنها، ابتسم لها بطريقة ساحرة أشعلت جذوة الحب في كيانها، مال عليها يقول بنبرة ذات مغزى، وتلك العبثية المغرية تتراقص في حدقتيه:
-سبيني أصالحك على طريقتي!
تورد وجهها بالكامل وقد فطنت إلى تلميحه المتواري بمنحها المزيد من اللحظات الشغوفة التي حتمًا ستمحو تعاستها.

ليلة طويلة باردة انقضت عليه حتى سطع النهار وهو جالس في الصالة بمفرده رابط الجأش يفكر مليًا وبعمقٍ فيما حدث، كان المكان غارقا في الهدوء مما ساعده كثيرًا ليصفو ذهنه وينشط ذاكرته، فقد تركته زوجته لتستسلم لسلطان النوم حينما تمكن منها التعب وغفت في غرفة ابنها بعد أن رفضت النوم في غرفة نومها كردة فعل طبيعية لتأثير الصدمة المرتعدة عليها. أطفأ "بدير" سيجارته العاشرة في منفضته التي امتلأت بأعقاب السجائر مُنشطًا ذاكرته بالأحداث التي يمكن أن تحفز ذلك اللص وتدفعه للتجرأ واقتحام منزله في غفلة منه، وكأنه يعرف جيدًا متى سيخلو البيت من ساكنيه لينفذ جريمته.

كل الشواهد حامت حول شخص بعينه، ولا ينكر "بدير" أنه استعان هاتفيًا بأحد أصدقائه القدامى ممن يعملون بالسلك الشرطي ويحتلون منصبًا متقدمًا فيه، أفادته تلميحاته الدقيقة، ونصائحه الخبيرة مع محترفي الإجرام في إرشاده لضالته وتأكيد شكوكه التي اتجهت نحو "هيثم" تحديدًا .. نعم إنه أول من فكر فيه ليقوم بتلك الفعلة النكراء، خاصة وأنه الوحيد الذي تواجد مؤخرًا في غرفة نومه، وربما لمح الأموال مصادفة في الدرج العلوي، تبقى له فقط أن يتأكد من معلومة واحدة إجابتها لدى زوجته، فإن أعطته المال حقًا دون علمه وعرف أين يتواجد، فستكتمل الصورة في ذهنه. ضغط "بدير" على أصابعه في غيظٍ حتى ابيضت مفاصله، ثم ردد مع نفسه يتوعده بوجه لا يبشر بالخير:
-أه لو طلعت إنت! هاعلقك وأعرفك مين أنا يا ابن "بثينة"!

ازدهرت الأعمال خلال الأيام التالية بعد أن تذوق معظم رواد منطقة الكورنيش السندوتشات الشهية، أصبح لديهما زبونهما الخاص ممن يفضلون الأطعمة المختلفة وذات المذاق المميز، وبدأت تتكون علاقات ودية وطيبة مع الكثير من العائلات التي تصادقت مع الشابتين وأمهما، تلك السيدة الوقورة صاحبة الملامح الوديعة، والقلب الحنون التي تعامل الجميع برحابة صدر ولطف محبب للجميع. وبالرغم من امتعاض "خليل" ورفضه لذلك العمل غير المجدي -من وجهة نظره- إلا أنه اتخذ موقفًا سلميًا وتابع بنفسه ما تقوم به الفتاتين، والحق يُقال أنهما كانتا مثالاً يحتذى به للأخلاق والجدية، التزمت كلتاهما في التعامل مع الجنس الآخر، وانشغلتا فقط بتأدية المطلوب منهما في سرعة ودقة..

إلى جواره، وعلى مقربة من العربة، جلست "حمدية" التي كانت أحشائها تحترق كمدًا من حيادية زوجها تتابع المشهد العبثي بنظراتها الناقمة؛ تارة تحدق في "خليل" شزرًا، وتارة أخرى تحملق في الاثنتين بسخطٍ متعاظم، نفخت متسائلة بنفاذ صبر وهي تهز ساقيها في عصبية:
-هو احنا هنفضل قاعدين الأعدة الهباب دي كده كتير؟
رد بفتورٍ دون أن يحيد بنظراته عن عربة الطعام:
-لو زهقتي روحي!

قالت بنبرة مستهجنة ووجهها متجهم الملامح:
-وأقعد لوحدي بوزي في بوز العيال؟
زفر ببطءٍ قبل أن يعلق بإيجازٍ:
-هانت يا "حمدية".
تابعت الأخيرة شكواها فأكملت وهي تحكم لف شالها السميك المصنوع من الصوف حول كتفيها لتحصل على الدفء:
-ده البرد نخر في عضمي، معنتش قادرة من كتافي.
رد على مضضٍ:
-اصبري.

أضافت بحقدٍ وعيناها تبرقان في غيظٍ:
-لأ وبنات أختك معندهومش دم! إن مافي واحدة عزمت علينا بسندوتش ولا حتة فطيرة سخنة تطري علينا، وهما مولعينها من بدري، آل يعني اللقمة دي هاتخسر معاهم!
زجرها مرددًا في تهكمٍ ساخر:
-بطلي طفاسة يا "حمدية"!
شقهت تعنفه مستخدمة يدها في الإشارة:
-طفاسة؟ لأ عندك! ده أنا جاية من بيت شبع يا "خليل"، أكل إيه اللي أبصله وعيني فيه؟! حاسب على كلامك معايا!
رد بضحكة مستهزأة من إنكارها الزائف:
-ما هو باين.

زمت شفتيها في حركة متأففة وهي تدور بعينيها على المارة مغمغة بعبارات ناقمة لم يفهم معظمها "خليل" إلى أن ضجرت من انتظارها الممل، لذا قالت مرة أخرى وقد نفذ صبرها:
-مش ناوي تقوم معايا؟
أجابها معاتبًا:
-وأسيب أختي وبناتها لواحدهم في الشارع؟
ردت عليه بازدراءٍ ونظراتها الاحتقارية تجوب أوجه ثلاثتهن:
-يعني هيجرالهم إيه، ما الناس حواليهم أد كده زي الرز، مش هياكلهم البعبع ياخويا!
أصر على بقائه مشددًا:
-بردك مايصحش، أنا هافضل معاهم.

أومأت بحاجبها تسأله بنبرتها المتنمرة:
-ده إيه الحنية اللي نزلت على قلبك دي؟ من إمتي الحب ده كله يا "خليل"؟
جاوبها بضيقٍ وقد غلف تعابيره الانزعاج:
-يعني عاوزة الناس تاكل وشي بعد ما اتعرف إن بنات "آمنة" فاتحين عربية أكل وأنا مش واقف جمبهم؟!!

لم تصدق بالطبع مبرراته الواهية التي يختلقها ليظهر اهتمامه الزائف بعائلته، فقالت ساخرة منه بحدية أكبر:
-وهما لما يشوفوك أعدلهم كده هيشجعوك؟ ده مش بعيد يقولوا عليك طرطور، أو آ.... ولا بلاش تسمع مني كلام يوجعك، لأحسن تزعل!
قال لها في نفاذ صبرٍ:
-انزلي عن دماغي يا "حمدية"، أنا مش ناقصك.
تمتمت ترد عليه وهي تزم شفتيها:
-حِكَم!

تابع "خليل" مضيفًا مشاركًا إياها ما يدور في عقله:
-أما أنا في مخي ترتيب حلو، لو مشى زي ما أنا عاوز هنطلعلنا بمصلحة!
سألته بفضول وقد توهجت نظراتها:
-ترتيب إيه ده؟ ما تقولي عليه!
رمقها بنظرة مزعوجة قبل أن يقول على مضض:
-ما أنا خايف لتبرمي فيها وتفسد!
زجرته بعصبية وقد هبت واقفة على قدميها:
-ليه؟ حد قالك إني بومة؟ خلاص يا إدلعدي مش عاوزة أعرف!

أمسك بها من معصمها ليستوقفها، ثم جذبها منه ليجلسها في مكانها وهو يقول مرغمًا:
-هاقولك وربنا يستر!
ادعت عدم اكتراثها، وأشاحت بوجهها للجانب لتظهر ضيقها، فأكمل بحذرٍ عارضًا عليها فكرته الخبيثة:
-دلوقتي الحاج "بدير" عليه دين في رقبته لينا، عشان اللي حصل من قريبه مع أختي، أنا عاوز أستغل ده بقى وأخد منه قرشين كده ندفعهم عربون لدكان محندق حاطط عيني عليه بقالي فترة، أل يعني بحجة إننا بنساعد البنات اليتامى بدل وقفتهم في الشارع
انتبهت له وسألته مستوضحة:
-أها، وبعدين؟

قال بإيجازٍ مليء بالغموض:
-ولا قبلين، هاجيب الدكان وأشغله لحسابي
رددت في قلقٍ:
-طب وبنات أختك، هتعمل معاهم إيه؟
أجاب ببساطة وكأنه قد أعد الرد مسبقًا:
-هخليهم يبيعوا العربية دي وأخد فلوسها واحطها في الدكان وتوضيبه.
-طب ما جايز يشبطوا فيه وتخسر المصلحة كلها!!
-مش هايحصل، ما أنا هاعمل الورق كله باسمي ويبقوا يقابلوني لو طالوا مني حاجة
حذرته من جديد بلهجة مغلفة بالجدية:
-إنت ضامن الحكاية دي؟ بنت أختك "فيروزة" مش عبيطة، ولا سهل يضحك عليها
استطرد محتقرًا قدراتها:
-دي جعجاعة على الفاضي، قطتها جمل، ومش هاتقدر تعمل حاجة.

كانت غير راضية عن استهانته بها، فعادت لتحذره:
-أنا بأنبهك بس، هي مش سهلة!
تقوست شفتاه قليلاً وأظهرت ابتسامة مغترة عليهما حينما قال عن ثقة كاملة:
-متقلقيش، جوزين أقلام مني على وشها هيربوها!
نظرة مطولة منها إلى وجهه الخبيث، بدت كما لو كانت تدرسه، ثم تنهدت قائلة:
-هانشوف.

بابتسامة عملية بحتة وإيماءة رأسٍ بسيطة مدت يدها بكيسٍ ورقي مليء بالسندوتشات من نافذة العربة نحو أحد الأشخاص المنتظرين ليحصل على طلبه، تلقت "فيروزة" النقود من شخص آخر ودونت في ورقة صغيرة ما يريد، ثم استدارت نحو أختها تسألها بتلهفٍ:
-أوردر 36 خلص؟
أجابتها "همسة" بلهاثٍ وهي تدور حول نفسها لتنجز عملها في أسرع وقت:
-بأقفله أهوو.

أشارت الأولى بالورقة الصغيرة التي في يدها متابعة حديثها:
-طيب في أوردر تاني مستعجل
هزت رأسها بالإيجاب وهي ترد عليها ويداها مشغولتان في تغليف السندوتشات بطريقة جذابة:
-ماشي.. هاعمله بعد ده على طول
-أوكي.

تطلعت "فيروزة" من النافذة مجددًا لتراقب وتقرأ ردات الفعل على أوجه الزبائن الذين لم يغادروا المكان بعد، وآثروا تناول السندوتشات على الكورنيش بجوارهم، رأت علامات التلذذ والاستحسان واضحة على محياهم، شعرت بالانتشاء والرضا لنجاحها في إرضاء جمهورها من الذواقة، استمرت في تحريك عينيها على باقي المنطقة إلى أن توقفت عند البقعة التي يجلس فيها خالها، لم تصدق بقائه حتى تلك الساعة، قالت في ذهول لاكزة أختها في جانب ذراعها لتنتبه لها:
-تصدقي يا "همسة" خالك لسه قاعد لحد دلوقتي!

رفعت الأخيرة عينيها لتنظر إلى الأمام باحثة عن مكانه وهي تقول:
-بتهزري!!
تابعت "فيروزة" جملتها بتأفف مشمئز:
-لأ والعقربة مراته لازقة فيه!
ردت عليها أختها تمازحها:
-تلاقيها مش رحمانا من كتر أرها علينا
أيدتها الرأي فاستطردت:
-ايوه، ربنا يستر من عينيها، ومن شر حاسد إذا حسد!
-يا رب، الأوردر جاهز للتسليم يا "فيرو".

قالتها وهي تناولها آخر ما أعدته من طعامٍ لتضعه في الكيس الورقي حتى يتسنى لها إعطائه لصاحبه، ولزمة معتادة منها مسحت كفيها في مريلة المطبخ التي تحاوط خصرها قبل أن تنظر مصادفة أمامها، وكأنها على موعد مع القدر، كانت أكثر إحساسًا بالتوتر والضياع، جحظت عيناها في ارتعابٍ منه حينما أبصرته أمامها يطالعها عن قصدٍ، جف حلقها وانتفضت عروقها خوفًا من قدومه المحمل حتمًا بالمشاكل، رددت مع نفسها في رجاءٍ كانت واثقة أنه لن يستجاب:
-شكل الليلة مش هاتعدي على خير، يا رب ما يجي هنا!

تراجعت تلقائيًا خطوة للخلف وقد بات بالفعل واقفًا أسفل نافذة العربة وكامل نظراته مرتكزة عليها أولاً قبل أن تتحول عيناها تلقائيًا وبشكلٍ آلي نحو "فيروزة" وقد هتف صائحًا بصوته الرجولي الأجش:
-سلامو عليكم...!!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة الثالثة عشر بقلم منال سالم


بخطواتٍ متهادية بطيئة وحذرة اتجهت "هاجر" إلى الأريكة لتستلقي عليها وقد بدا بطنها المنتفخ متدليًا بشكلٍ لافت للأنظار، وضعت صحن الفاكهة الذي قطعت ثماره إلى قطعٍ صغيرة في حجرها، وبدأت في تناوله واحدة تلو الأخرى، شعرت بعدم الراحة لجلوسها هكذا وساقيها تتدلى، لذا ثنيت ساقها اليسرى ووضعتها أسفل منها، وتطلعت إلى والدتها بنظرات عادية قبل أن تقول لها بلومٍ وفمها ممتلئ بالفاكهة التي تلوكها:
-إنتي غلطانة في الحكاية دي يامه، كان لازم تبلغوا البوليس!

زمت "ونيسة" شفتيها قائلة في حيرة وضاربة بظهر كفها على الآخر:
-وأنا كنت هاعمل إيه وأبوكي مصمم على اللي في دماغه؟!
قالت وبقايا الطعام تتناثر من جوفها:
-كنتي تقوليلنا واحنا نتصرف.
بدت أمها كما لو لسعتها حية فانتفضت بجزعٍ تقول:
-إنتي عاوزاه يغضب عليا؟
ثم التقطت أنفاسها لتهدئ من حالتها المرتاعة لتضيف في ندم:
-بقى دي جزاتي إني حكيتلك؟
-لأ يامه، بس احنا خايفين عليكي.


 
ردت بصوتٍ متهدج متذكرة إحساسها الشديد بالارتعاب لمعايشة تلك الذكرى من جديد، حتى وإن كانت متجسدة في مخيلتها:
-متفكرنيش يا "هاجر"، ده أنا حالتي كانت حالة، ولسه وحياتك لحد دلوقتي!
تجشأ "محرز" بصوت مزعج بعد أن انتهى من تجرع زجاجة المشروب الغازي على دفعتين وهو يستدير في اتجاه حماته ليعلق بسخافةٍ، وكأن الأمر يعنيه حقًا:
-يا حاجة كده احنا ادينا الحرامي ده فرصة يعلم علينا، والكلام لو اتنتور واتعرف في الحتة شكلنا مش هايبقى حلو.


 
أدارت رأسها في اتجاهه لترد عليه:
-عمك الحاج هيتصرف
استطرد متسائلاً وهو ينظف ما بين أسنانه بظافر إصبعه الصغير:
-و"تميم" يعرف على كده؟
اتسعت عيناها تحذره بلهجةٍ جادة:
-بالله عليك ما تقوله يا "محرز"! احنا مش عاوزين نعكنن عليه وهو لسه عريس جديد بيشم نفسه مع مراته، مش هايبقى محطوط في مشاكل من أولها!
رد على مضضٍ:
-ما هو هيضايق لما يسمع من برا، ويجي يعتب علينا!


 
قالت مؤكدة عليه في نبرة أقرب للرجاء حتى لا يتسبب في إحداث مشكلة دون داعٍ:
-ما أنا قولتلك محدش يعرف، وإنت ماتقولوش خالص، ولا كأن في حاجة حصلت، ماشي يا ابني؟
بينما هتفت "هاجر" توصيه هي الأخرى ومدعمة لوالدتها في رغبتها:
-خلاص يا "محرز"، هما أدرى بمصلحتهم.
هز رأسه بإيماءة مستسلمة يقول لهما:
-ماشي يا حماتي، اللي يريحك.


 
نظرت له "ونيسة" في امتنانٍ بالرغم من القلق الذي اعتراها بعد أن أطلعتهما على ما حدث في المنزل من سرقةٍ قبل بضعة أيام، دعت الله في نفسها ألا يتفوه أحدهما ولو مصادفة بشيء ل "تميم" أو والده فتتعرض هي للتوبيخ، أشاحت بعينيها بعيدًا عن وجه "محرز" لتنظر إلى ابنتها متسائلة في اهتمامٍ:
-هننزل امتى نشتري حاجات النونو؟

أجابها بتنهيدة متعبة:
-يومين كده ولا حاجة يامه، أكون بس شديت حيلتي شوية.
حركت رأسها في تفهم، وابتسمت تدعو لها:
-على خيرة الله، ربنا معاكي ويقويكي، ويرزقك بساعة سهلة من عنده.


 
مسحت بمنديل ورقي اللوح الرخامي الممتد أمامها حتى تزيح أي بقايا لزجة عالقة به فور أن عبأت السندوتشات في الكيس الورقي لتكتمل مهمتها في تجهيز الطلب وإعداده للاستلام قبل أن ترفع رأسها وتنظر إلى ذاك الشخص المرابط أسفل نافذة العربة، دققت "فيروزة" النظر في ملامحه المألوفة، عرفته دون عناءٍ في التفكير، إنه العريس الذي دُعيت والدتها لحضور حفل زيجته منذ أيام، وبابتسامةٍ روتينية بحتة سألته:
-أيوه .. أؤمر حضرتك، إيه طلباتك؟!

انتصب "تميم" في وقفته الرجولية المهيبة يجوب بنظراته شكل العربة من داخلها وخارجها وكأنه مفتش من الصحة يبحث عن النواقص والعيوب قبل أن يكتب تقريره النهائي، تأملته "همسة" في خوفٍ مبرر، فسكوته ونظراته المريبة تؤكد لها وجود خطب ما، ناهيك عن معرفتها الجيدة بحمية أختها وتعصبها الزائد لما يخصها، تضرعت بتوسلٍ للمولى أن يمر الأمر على خير، خاصة أن اللقاء السابق معه لم يبشر بخير. أطاح "تميم" برجاواتها حينما هتف متسائلاً بوقاحةٍ منقطعة النظير مستخدمًا يده في الإشارة:
-إنتو بقى اللي مدورين الليلة دي كلها؟


 
وضعت "همسة" يدها على جوفها لتمنع شهقة مصدومة من الخروج عقب جملته الموحية تلك والتي حتمًا ستشعل جذوة الشجار، كانت مرتعدة من ردة فعل أختها التي لن تقبل بتلميح صريحٍ ومسيء كهذا، التفتت نحو "فيروزة" لتجدها قد جحظت بعينيها في ذهولٍ مستنكر لتلاعبه بالألفاظ والإشارة لكون الاثنتين تفعلان ما يشين، احتدت نظراتها نحوه ورمقه بنظرة عدائية شرسة قبل أن تصيح في وجهه بصوته مرتفع وغاضب:
-ما تحترم نفسك يا جدع إنت! إيه الكلام ده؟ يعني إيه مدورينها؟

أجابها ببرودٍ وقد قست نظراته هو الآخر:
-يعني زي ما فهمتي يا أبلة!
استشاطت حنقًا من اتهامه الباطل الذي يمس سمعتها دون وجه حق، فتشنج صوتها، ولوحت بذراعها وهي تهاجمه وقد انحنت من النافذة نحوه:
-اخرس، قطع لسانك إنت واللي زيك، إنت جاي تقل أدبك علينا هنا؟
بدا فجًا للغاية وهو يتابع وكامل نظراته المزدرية تدور في المكان بشكل ينم عن نفوره:
-أومال تسمي اللمة اللي هنا دي؟ دي معجنة! حريم على رجالة، والسايب في السايب.

اشتعل وجهها واربد بغضبه المستعر، اعتقدت أنه واحدًا من المتسكعين اللزجين الذين يظهرون وقاحتهم مع الناس لترتعد، ردت تحذره بحديةٍ حتى توقفه عند حده، فلا يتمادى معها:
-لأ عندك، أنا مسمحلكش!
ثم اتجهت إلى باب العربة دافعة أختها للجانب لتتنحى عن طريقها، توسلت لها الأخيرة باستماتة والرعب يشع من عينيها المذعورتين:
-بلاش يا "فيروزة"، خليكي معايا، ده شكله بلطجي!
ردت حاسمة أمرها ودون أن تلتفت لها:
-مش سيباه برضوه!

هبطت عن العربة لتغدو في مواجهته، لم تكن بصاحبة القامة القصيرة لتخشاه، بدت أقرب طولا إليه، تطلعت إليه في عدائية بائنة، وهتفت مدافعة عن نفسها بقوةٍ وذراعها يلوح في الهواء:
-الكل واقف باحترامه هنا، محدش يجرؤ يعمل حاجة غلط، ولا حتى يقدر...
قست نظراتها أكثر نحوه حينما استأنفت جملتها قاصدة إهانته بشكلٍ فج يليق بتصرفه:
-بس في ناس تفكيرها قذر.. زيك كده .. مفكرة الكل مش مظبوطين!

نظر لها شزرًا وقد احتقنت عروقه بدمائه الثائرة، حدجها بنظرة احتقارية جابتها من رأسها لأخمص قدميها وهو يسألها بلهجةٍ ذات مغزى:
-وإنتي بقى اللي مظبوطة؟
صرخت فيه تهدده بسبابتها وعيناها تطقان شررًا:
-اخرس قطع لسانك، انسان مش محترم!
ثم ما لبث أن هددته بعدوانية يستحقها:
-اقسم بالله لو ما مشيت من هنا لأفرج عليك الناس وأمسح بكرامتك الكورنيش ده كله وألبسك مصيبة وقتي!
هتفت "همسة" لها من بعيد وقد تخلت عنها شجاعتها:
-سبيه يا "فيروزة".

لم تستدر نحوها وظلت تحملق فيه بقوة لا تعرف من أين أتتها، لكنها تخرج دومًا في الوقت الصحيح حينما يتم استفزازها، وبالرغم من استبسالها في الدفاع عن خاصتها إلا أنها كانت متوترة من ردة فعله المجهولة، وباتت هواجسها عن كونه أحد أولئك المتعاطين للمواد المخدرة كبيرة، فحينما يلعب المخدر برأس أحدهم يصبح في حالة جنونية وغير واعية، وبالتالي يفتعل المشاجرات مع الأبرياء من أجل مساومة حقيرة، أو فرض رسوم جباية لا حق لهم فيها ليحصل على الأموال التي يريدها بطريقة سريعة وغير شريفة. تحلت بشجاعتها وأخفت قلقها لتنظر له في تحدٍ وقوة، تقوست شفتا "تميم" قليلاً لتظهر بسمة تهكمية قبل أن يرد عليها عن ثقة مُربكة لها:
-هانشوف مين هايمشي، لأنك مش هاتفضلي هنا كتير.

لوحت بيدها في وجهه تصيح بنبرة مستهجنة:
-إنت مين أصلاً عشان تتكلم ولا تهددني؟
ثم أطلقت ضحكة ساخرة قبل أن تستهزأ به :
-أيوه صح، إنت عريس الغفلة!
هددها بسبابته وهو يكز على أسنانه:
-لمي نفسك معايا.
ردت غير مبالية:
-غلطان وبتبجح؟

لم تعبأ بمظهره الغاضب وتعابيره المحمومة ووقفت له الند بالند حتى لا يستضعفها، حانت منها نظرة سريعة خلف كتفه فرأت بعض الشباب مجتمع في الخلف، ربما إن تطور الأمر لرفعت نبرتها واستعانت بهم ليبعدوه، أشعرتها تلك الفكرة بالارتياح قليلاً، في حين أحس "تميم" بالمزيد من الغيظ يتعمق فيه مع كلماتها التي تنتقص من قدره، وتهينه بشكلٍ قاسٍ.

أمعن النظر فيها والحيرة تداعب عقله، وخاصة فيما هو متعلق بجراءتها الأنثوية التي تناقض كليًا طبيعة زوجته الساهمة المستكينة التي تكاد تفني عمرها لأجل الحصول على ابتسامة صغيرة منه. عاد من شروده السريع على صوتها المكمل وقد استبد بها حنقها:
-أنا ورقي كله قانوني، وماشية سليم! ولو مفكر بالشبورة اللي إنت عاملها دي هخاف تبقى غلطان، أنا أد عشرة من عينتك! ويا ريت تبطل الهباب اللي بتشربه ده
ابتسم لها في استخفافٍ بعد آخر ما تلفظت به، يا للسخرية! هي تظنه متعاطيًا لأحد السموم البيضاء، اندلع غضبها أكثر منه، ولم تعد تتحمل استهانته بها، لذا وجدت "فيروزة" نفسها تتلفت حولها باحثة عما يمكن أن تستخدمه لتضربه بها حتى تزيحه عن طريقها.

توقفت أنظارها عندما وجدت دلوًا مليئًا بمياه غسل أدوات الطهي، على الفور تحركت ناحيته لتحمله، ثم قذفته دون تفكير في وجهه لتغرقه به وهي تطرده:
-اتطرأ من هنا، السكة اللي تودي.
تفاجأ "تميم" بفعلتها غير المتوقعة تلك، وانتفض كليًا مع إغراق ثيابه بالمياه المتسخة، هدر بها في هياجٍ مبرر:
-إنتي اتجنني!!!!

لطمت "همسة" على صدغيها في هلع، وقد تفاجأت هي الأخرى بتصرفها، ارتدت خطوة للخلف تقول في نفسها أن حربًا ضروسًا اندلعت بينهما، ولن يوقفها أحد .. صاحت "فيروزة" وابتسامة انتصار ممتزجة بالشماتة تتراقص على محياها ودون أن يبدو عليها أدنى بادرة ضعفٍ أو تراجع:
-خلي المياه الوسخة تنضف الأشكال الضالة وتشيلها من هنا.

صعد معه الدرجات في تمهلٍ متبادلاً معه حديثًا مقتضبًا قبل أن يصل إلى الطابق الكائن به منزله، بدا ضيفه مشغولاً بدراسة المكان وفحص كل زاوية وركن بعناية فائقة، حتى أن هيئته كانت تعبر عن اشتغاله بوظيفة في جهاز حساس بالرغم من تقلده لبدلة عادية. دس "بدير" يده في جيبه ليخرج مفتاحه منه، ثم وضعه في القفل الخاص به ليديره وينفتح الباب، ثم تنحنح عاليًا بصوته المميز ليعلن عن وصوله قبل أن يبادر مرحبًا بضيفه:
-اتفضل يا باشا.

تأهبت حواس "ونيسة" مع سماعها لصوت زوجها، وعدلت من وضعية حجاب رأسها عليها، رسمت ابتسامة لبقة على شفتيها تقول في ودٍ وقد رأت اللواء "وفيق" يمرق للداخل:
-يا مرحب بالضيف الغالي، أديلنا زمن ماشوفنكش يا باشا
قال مجاملاً:
-إزيك يا حاجة، إنتي عارفة ورايا أشغال كتير، واللي زينا مالوش راحة.
دعت له بصدقٍ:
-ربنا يقويك وينصرك على مين يعاديك يا سعادت الباشا
تساءل "بدير" في اهتمامٍ وعيناه تمسحان المكان:
-أومال أبويا فين؟

جاوبته مسترسلة في ردها:
-صلى العشا ونام، و"هاجر" وجوزها كانوا هنا من شوية ونزلوا.
أومأ برأسه في تفهمٍ:
-طب تمام.
أضاف "وفيق" يطلب منها وهو يمسح على شاربه الكث ليهندمه بلزمة التصقت به:
-معلش يا حاجة هنتعبك شوية، عاوزين فنجانين قهوة كده مظبوطين!
ردت على الفور:
-عينيا، دقيقة ويكونوا عندكم في الصالون، اتفضل ارتاح.

هز رأسه في تهذيبٍ واستدار متجهًا إلى غرفة الصالون حيث قام زوجها بإضاءة أنوارها ليجلس فيها بصحبته، دقائق وعادت زوجته ومعها فنجانين من القهوة وضعتها على المائدة الرخامية المستديرة التي تنتصف الأرائك، ثم انصرفت في هدوء ليبدأ بعدها "وفيق" في تناول خاصته وهو يستأذن بهدوءٍ يعكس جديته:
-عاوزك يا حاج "بدير" توريني أوضة النوم، محتاج أشوف الدرج اللي اتكسر وأعاين المكان.
وافق دون نفاش مشيرًا بيده:
-اتفضل، اعتبر البيت بيتك.

تناول رشفة أخرى من فنجان قهوته، واستند على مرفقيه لينهض من جلسته الاسترخائية ليسير عبر الردهة متجهًا إلى غرفة النوم، قام بفحص الشفونيرة بتأنٍ وهو يسأل "بدير" بضعة أسئلة تحقيقية، وأجابه الأخير بكل ما يعرفه، وما إن فرغ منها حتى طلب الذهاب إلى المطبخ للنظر إليه، فكعادة أغلب اللصوص دومًا يقتحمون المنازل من نوافذ المطابخ أو الحمامات، لأن تلك الأماكن مهملة إلى حد كبير من قبل سكان البيت، وتعد بمثابة نقطة الضعف التي يستغلها السارق للولوج للداخل. تساءل "وفيق" بلهجة اكتسبت طابعًا رسميًا وأنظاره مرتكزة على بقعة ما بالأسفل:
-في حد بيستخدم البلكونة دي؟

أجابه نافيًا:
-لأ معتقدش
مط فمه يفكر في أمر ما، ثم عاد يسأله:
-مين غريب بيجي عندك يا "بدير"؟
استغرقه الأمر لحظة ليجيبه مستفهمًا:
-زي مين يعني؟
أجابه ببساطة:
-واحدة بتيجي تنضف مثلاً، عامل بتبعته بطلبات البيت، آ..
أجابه مستفيضًا في الرد.

-لأ مافيش، أنا اللي بأجيب الحاجة بنفسي، يا ابني "تميم" ببعته بالطلبات كل أسبوع، وحتى "أم علي" الست اللي بتيجي تساعد الحاجة "ونيسة" في تنضيف البيت كل فترة بتبقى الحاجَّة واقفة على إيدها لحد ما تخلص وتمشي.
هز رأسه معقبًا عليه:
-مفهوم.
سأله "بدير" ليطلع على ما يدور في رأسه من تفكير محلل للأحداث:
-رأيك ايه يا "وفيق" بيه؟

تنحنح مجيبًا إياه بعقلانية:
-واضح أوي من المعاينة يا "بدير" إن الحرامي دخل من هنا...
ثم أشار بيده نحو الزاوية المهمشة ليسير الاثنان نحوها بجوار الشرفة، تقدم "وفيق" أولاً ليقوم بفتحها بعد أن أزاح ما يعيقه، اعتلى ثغره ابتسامة ساخرة حينما رأى بقايا آثار أقدام موجودة في الأنحاء وتحدد بوضوح كيف جاء وانصرف اللص، وذلك بسبب تراكم الأتربة التي تحولت لطين بفعل الأمطار الغزيرة، أومأ بعينيه نحوها يقول:
-بيتهيألي إنت شايف اللي أنا شايفه، رجليه باينة إزاي هنا وهنا، وده معناه إنه طلع من المنور ونط لفوق عشان يوصل للبلكونة دي، ومنها دخل للشقة
علق في غيظٍ:
-ابن الأبلسة.

التفت نحوه متابعًا تفسيراته الشرطية وقد بدا على وجهه علامات التفكير العميق:
-هو أكيد عارف المنطقة كويس عشان يقدر ينط من هنا ويوصل للي عايزه بدون ما يعمل قلق، أو حتى حد يشك فيه لو شافه طبعًا، ده غير إنه عارف كمان إن مافيش حد فيكم كان موجود السعادي في البيت.
-مظبوط.

-قولتلي إن الحاجة كانت إيدت قريبك اللي شاكك فيه فلوس؟
-أيوه، ده الوحيد اللي دخل الأوضة، وبعدها حصلت السرقة
-عارف إنت لو كنت بلغت عنه كان اتقبض عليه
رد على مضض وقد اربد وجهه بتعبيراتٍ متأففة:
-مكانش ينفع، بس أنا عارف أربيه إزاي!

أوصاه "رفيق" بلهجة يشوبها الجدية:
-عمومًا لازم تاخد بالك عشان مايتكررش الموضوع ده تاني معاك، وأمن المكان كويس
رد دون جدال وعيناه تجولان على وجهه:
-هيحصل إن شاء الله!

دقائق غاب فيها من أجل شراء المثلجات لزوجته اللحوح حتى تكف عن تذمرها المستمر؛ والذي أصاب رأسه بالصداع. اصطحب معهما أخته كنوع من إظهار لطفه لها قبل أن يوصلهما للمنزل ليعود ويجد ذاك المشهد المتأزم نصب عينيه، سقط كوب المثلجات عن يده وتبعثرت محتوياته على الرصيف ليهرع بعدها نحو "فيروزة" التي على ما يبدو تتشاجر مع أحدهم، تساءل "خليل" بصوته العالي الذي سعى ليكون خشنًا متحشرجًا:
-في إيه بيحصل هنا؟

تسمرت قدماه وتصلب في مكانه مصدومًا وقد رأى وجه "تميم" الغاضب أمامه، كما تلاشى تفكيره لحظيًا، ابتلع "خليل" ريقه الذي جف وارتجفت أوصاله وقد جاء صوته مهددًا بقوةٍ:
-هتتحاسبي على ده.
انخفضت نظرات "خليل" نحو ثيابه المبتلة، أدرك أن ابنة أخته قد ارتكبت كارثة خطيرة، وعبثت مع من لا يجب المزاح معهم، اقترب منه محاولاً استرضائه وهو يعتذر منه لاعقًا شفتيه بصوته الذي كان يهتز توترًا منه:
-"تميم"، هو إنت؟ معلش يا ابن الكبير، حقك عليا أنا، ده اللي ما يعرفك يجهلك، وإنت سيد الناس.

اغتاظت "فيروزة" من وقوفه في صفه واعتذاره النادم منه دون أن يفهم حقيقة الأمر؛ وكأنها هي المخطئة، فهتفت تعاتبه بحدةٍ مشيرة بإصبعها في احتقار ل "تميم":
-إنت هتعمل لده قيمة يا خالي؟
برزت حدقتاه خوفًا من بشاعة هجومها الضاري عليه، رمقها بنظرة حانقة يصرخ بها والخوف زاده توحشًا معها:
-يا بت اسكتي وابلعي لسانك! احنا هنروح في داهية كده!
قالت في احتقارٍ أكبر، وتلك النظرة المستهزأة تعلو وجهها:
-مع ده؟ ولا يقدر يعمل حاجة!

بقيت أنظارها النارية عليه وهي تتابع:
-ده أنا هوديه في داهية وهاعمله محضر عشان يتربى.
تمالك "تميم" أعصابه المحتقنة حتى لا ينفجر فيها ويحرق الأرض بمن عليها ليخمد ثورته، لم يستطع وصف مشاعره التي جمعت بين الكثير من التناقضات في نفس الآن بسبب تهورها الأرعن؛ خليطٌ عجيب من الذهول، والغضب، والمهانة، والانتقام. كتم غضبه قائلاً لها بما لا يدع مجالاً للشك أنه سينتقم وبقساوة:
-اللي عندك اعمليه!

تدخل "خليل" يرجوه:
-امسحها فيا أنا، دي بت غبية مابتفهمش.
نظر له "تميم" بعينين غائمتين تنذران بشررٍ مستطر، ولكن صوت "فيروزة" المرتفع أفسد محاولته البائسة لتحجيمه عندما رددت غير مكترثة بتبعات جريرتها:
-ماتعتذرلوش يا خالي؟ ده واحد بجح وشارب، جاي يقول شكل للبيع ويخانقنا ويقول هتتحاسبي وكلام فارغ مالوش معنى!
ثم وضعت يدها أعلى منتصف خصرها متابعة تحديها له:
-طب وريني هتعمل إيه يا سبع البورمبة! البلد فيها قانون يفرف يلم اللي زيك ويحطهم في السجن!

بذل "تميم" مجهودًا خارقًا ليحجم من غضبه الذي خرج عن السيطرة وانعكست بوادره في نظراته القاتمة، زجرها قائلاً وقد همَّ بالانصراف:
-الأيام بينا، وهتشوفي!
تحرك بعدها مبتعدًا عن ساحة الكورنيش التي امتلأت بعشرات المتابعين ونظرات "خليل" المذعورة تتبعه، التفت نحوها قابضًا على ذراعها يهزها منه بعنف وهو يصرخ عاليًا:
-إيه يا بت اللي عملتيه ده، احنا كده وقعنا في مشاكل مع عيلة "سلطان"!!
ردت غير مبالية وهي تنفض ذراعها لتتخلص من قبضته:
-يوريني، وأعلى ما في خيله يركبه!
ازدرد "خليل" لعابه بصعوبة وغمغم مع نفسه في ضعفٍ واضح أزعج "فيروزة":
-استر يا اللي بتستر، كل حاجة كده ضاعت!

استطردت ترد عليه:
-متقلقش منه، أنا ....
هدر في عصبيةٍ:
-بس، اسكتي خالص، إنتي مش عارفة النصيبة اللي وقعتينا فيها.

-ايه اللي حصل هناك؟
تساءل "ناجي" في فضولٍ يأكله بعد أن رأى مقتطفات من المشاحنة التي دارت بين رفيقه وتلك الفتاة التي تعمل بالعربة دون أن تتضح الصورة لهن اتخذ موقفًا محايدًا حتى يعود إليه ويتقصى عن الأسباب، في البداية تجاهله "تميم" ولم يرد عليه واستمر في سيره المتعصب ليبتعد عن المنطقة قبل أن يستفزه أحدهم بتعليق مازح يجبره على الفتك به، وهو بالكاد قاب قوسين أو أدنى من التصرف برعونة ورد الصاع صاعين لمن يتجرأ على العبث معه. ألح عليه "ناجي" حتى يشبع رغبته في معرفة التفاصيل، لكن ثمة غمامة مخيفة بدت ظاهرة في صوت رفيقه وهو ينهره مقتضبًا في حديثه:
-قولتلك بعدين.

شعور مزعج راح يضرب كيانه فأصابه بالتخبط والانزعاج، لم يجد التفسير له، لكنه وضعه في حالة ذهنية غير تلك التي اعتاد عليها، ناهيك عن إحساسه المتقد بالغضب الأعمى. اقترح عليه صديقه بطيش حينما تأمل ما يجيش على وجهه من تعابير مخيفة:
-لو عاوزني أربي البت اللي قلت أدبها عليك دي، فأنا جاهز و....

توقف "تميم" عن المشي ليدير رأسه في اتجاهه، ثم قاطعه بصوته المائل للتشنج ونظراته الصارمة مثبتة عليه:
-وأنا من إمتى بأخد حقي من الحريم يا "ناجي"؟!
رد عليه غير مبالٍ بما هو متبع في عُرفه الملتزم بالأصول:
-خلاص، سيبني أنا أتعامل بطريقتي، وملكش دعوة.
حذره بحزمٍ صريح وقد اشتدت نظراته قتامةً وشراسة:
-متدخلش يا "ناجي"! مفهوم؟

هز رأسه بغير اقتناعٍ ليرضيه مؤقتًا، لكنه كان عازمًا في قرارة نفسه على الاقتصاص له، ومع هذا قال له ليريحه:
-ماشي يا صاحبي.
-سلام، هاكلمك تاني
-مستنيك يا كبير.
كالبركان الثائر قطع "تميم" طريقه عدوًا ليتجه إلى منزل عائلته حتى يبدل ثيابه، فإن ذهب إلى زوجته وهو في تلك الحالة المريبة حتمًا لن يسلم من تساؤلاتها التي ستجدد غضبه وبقوة، وربما يضطر لصبه فيها وتصبح هي ضحية إفراغ شحنته المكبوتة، لذا الأسلم لها وله أن يأخذ فاصلاً بعيدًا عنها حتى يستعيد زمام أمره...!!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة الرابعة عشر بقلم منال سالم


ذهب إلى منزل أسرته ليبدل ثيابه بالقديم الموجود في دولابه حتى لا يعود إلى زوجته وهو بتلك الحالة الرثة فيثير فيها الشكوك والتساؤلات الكثيرة، وهو حاليًا في غنى عن تحقيقها المستفز الذي لن يجني منه سوى استثارة أعصابه من جديد وتذكيره بما يحاول تجاوزه. سحب "تميم" منشفة قطنية نظيفة مسح بها وجهه بعد أن غسله بالماء والصابون، ثم اتجه إلى غرفته لينزل ثيابه الخارجية، تبعته والدته تسأله بعد أن أعدت له مشروبًا دافئًا:
-حصلك ده من إيه يا ابني؟


 
أجابها في اقتضابٍ وتلك الملامح المتجهمة ما تزال مرسومة على وجهه:
-ولا حاجة يامه.
أسندت الصينية الصغيرة على طرف التسريحة، وسارت في اتجاه الفراش لتجلس على طرفه، رفعت رأسها تتطلع إليه وهي تسألها بفضولها الأمومي القلق على أحوال فلذة كبدها:
-اتخانقت مع "خلود"؟
جاوبها بما يشبه التهكم:
-يامه دي غلبانة ولا تقدر تهش دبانة!


 
صمتت لحظة تفكر مليًا في حيرة، فابنها عاد متأخرًا في تلك الساعة وثيابه في حالة يرثى لها، وعلى وجهه تعبيرات غاضبة، لم يتشاجر مع زوجته، إذًا الدافع شيء آخر تخشاه، وبكل عفوية ونزق هتفت ونظرات الخوف متشكلة في عينيها:
-بس! يبقى إنت اتخانقت تاني مع حد من بلطجية السوق! ده اللي حصل ومش عاوز تقولي
استدار نافيًا:
-لأ
ألحت عليه بإصرارٍ ونظراتها بالكامل مرتكزة عليه:
-أومال إيه اللي بهدلك كده؟ قولي يا "تميم" وطمني!


 
جلس إلى جوارها على طرف الفراش، انتصب بكتفيه وأجابها بابتسامة لطيفة:
-دي حاجة بسيطة يا أمي، ما تحطيش في دماغك.
ردت بغير اقتناعٍ وقد وضعت يدها على صدغه تتحسه:
-شكلك رجعت لشغل اللبش تاني والخناقات ومش عاوز تقولي.
أكد لها بصدقٍ:
-أبدًا والله.
سألته في عتابٍ:
-أومال ليه عاوزني تتعبني معاك ومش مريح قلبي؟ شكل في نصيبة حصلت وإنت مخبي عليا! ده أنا أمك وقلبي عليك، متزعلنيش يا ضنايا!


 
أدرك "تميم" أنها لن تكف عن ملاحقته بأسئلتها إلى أن يجاوبها بما يثلج صدره، تنفس ببطءٍ ثم أوضح لها بسلاسة ودون أن يتعمق في التفاصيل:
-يا ستي والله أنا كنت مع "ناجي" صاحبي، سهرانين شوية، بس مشكلة كده بسيطة حصلت، وخلاص اتحلت وكله تمام
تنهدت "ونيسة" في ارتياحٍ، ثم قالت له وهي تربت على فخذه:
-كملها بالستر معانا يا رب، ده أنا مصدقت إنك رجعت تاني لحضني وبقيت جمبي وسندي، مش هاستحمل حاجة تجرالك.

انحنى ابنها ليمسك بكف يدها المجعد، رفعه إلى فمه ليقبله، ونظر إليها يقول لها ببسمة صغيرة:
-اطمني يامه، مافيش أي حاجة تخوف.
ثم نهض من جوارها ليمسك بالمشروب الدافئ ليرتشفه، تجرعه على مرتين، وتركه في مكانه بالصينية ملتفتًا نحو والدته، سألها في اهتمامٍ:
-قوليلي يامه فين أبويا؟
أجابته بتلقائيةٍ:
-جه أعد شوية مع اللواء "وفيق"، وبعد كده لفوا في البيت ونزلوا.


 
استغرب كثيرًا من حضور ذلك الضيف الذي لا يأتي دومًا إلا عند حدوث مشكلة خطيرة، مثل قضيته قديمًا، كذلك كانت كلماتها الأخيرة مُدعاة للتساؤل والحيرة، فماذا تعني بقولها أخذ جولة بأنحاء المنزل؟ دقق النظر فيها متسائلاً:
-ليه؟
شهقة خافتة خرجت من جوفها بعد أن انتبهت لما تفوهت به، حاولت الهروب من أنظار ابنها المسلطة عليها، وأدارت وجهها للجانب الآخر لتدمدم بتلعثمٍ ملحوظ:
-هه! م.. مافيش .. حاجة.

ساورته الريبة من طريقتها المكشوفة لتخفي عنه الأمور، سألها بجديةٍ وهو يدنو منها:
-إنتي مخبية عليا حاجة يامه؟
لعقت شفتيها مدعية كذبًا وقد شحب لون بشرتها:
-لا يا ابني.
تفحص وجهها المرتاب قائلاً لها بلهجته التي غلفها الجدية:
-شكلك بيقول غير كده، في إيه؟
لم تستطع النجاة من حصاره، فقالت في استسلام وهي توصيه بتلهفٍ خائف:
-أصل.. يعني .. بس بالله عليك ما تجيب سيرة لأبوك ولا تقوله إني عرفتك، أنا مش عاوزاه يضايقك
علق بنفاذِ صبرٍ:
-قولي يامه حصل إيه!


 
زاغت نظراتها قليلاً، حاولت أن تبدو جلدة، متماسكة، لكنها فشلت، فخوفها الغريزي ما زال موجودًا بها، لهذا أجابته بتردد وهي تزدري ريقها:
-يعني.. آ... من كام يوم كده واد ابن حرام .. سرقنا.
هتف في ذهولٍ غير مصدق ما تلفظت به:
-نعم، اتسرقتوا؟!
بررت له بصوتها المهتز:
-أيوه، بس أبوك مسكتش وتقريبًا عرف هو مين، بس مش عاوز يقول و...

اربد وجهه بحنقٍ شديد لإخفاء الأمر عليه، شعر بدمائه تثور عما كانت قبل قليل لمجرد تخيل اقتحام أحدهم للمنزل، وربما اعتدائه على من فيه بالقتل أو ما شابه، ثارت ثائرته، وقاطعها منفعلاً:
-وأنا كنت فين؟ وإزاي محدش قالي؟
نهضت من جلستها لتقف قبالته، طالعته بعينيها المتوترتين، وقالت له في يأس عل ثورته تخبو:
-بسيطة يا "تميم"، عدت على خير.
صرخ بها في هياجٍ مبررٍ له أسبابه:
-تتسرقوا وأنا ولا دريان وتقوليلي بسيطة يامه؟؟!!

نظرت له في صمتٍ عاجز، فله كامل الحق في أن يغضب ويعاتبها، نكست "ونيسة" رأسها في حرجٍ منه، بينما استأنف "تميم" صياحه الغاضب يسألها في لومٍ شديد:
-طب وكنتوا مستنين أعرف من برا؟ للدرجادي أنا غريب عنكم؟
لامست جملته الأخيرة قلبها وبدت كالخنجر المسموم فوخزتها بقسوةٍ فيه، رفعت رأسها تنظر إليه في إنكارٍ، ثم دافعت عن موقفها قائلة بنظرات تحتبس الدموع:
-متقولش كده يا ضنايا، غريب إيه بس، متوجعنيش بكلامك ده، إنت بس كنت ملبوخ مع عروستك واحنا محبناش نقلقك ولا نزعلك في شهر العسل.

زاد وجهه احمرارًا من غضبه المتعاظم بداخله، واستطرد مرددًا بصوته المتعصب:
-محروق الجواز، إنتو أهم عندي.
ربتت على كتفه تتوسله:
-اهدى طيب.
نفخ في غيظٍ، ثم سألها مستوضحًا حتى لا يبقى غافلاً عما يحدث من وراء ظهره:
-وبلغتوا البوليس ولا عملتوا ايه؟
أجابته على حسب عِلمها:
-أبوك قال هيتصرف!

نظر لها بعينين مخيفتين، كان غضبه قد بلغ ذروته، تكالبت المصائب على رأسه فجعلته شبه فاقد للسيطرة على انفعالاته، اندفع في عصبيةٍ إلى خارج الغرفة، تبعته والدته لتلحق بخطواته المتعجلة وهي تسألها:
-إنت رايح فين دلوقت؟
أجابها دون أن يستدير نحوها:
-هانزل أشوف أبويا وافهم منه اللي حصل
أمسكت به من ذراعه لتستوقفه وهي ترجوه:
-لا بلاش، ده موصيني مقولكش، وحتى أختك لما عرفت حلفتها ما تجبلكش سيرة.

تطلع إليها في استنكارٍ، كان ما باحت به قد أذهله، غامت نظراته يعاتبها بخشونةٍ:
-يعني "هاجر" عرفت وأنا لأ.. وطبعًا النطع جوزها عارف بالحكاية، وأنا بقى اللي في الطراوة!
بدأت والدته في فاصلٍ من النواح، فقالت وهي تضرب على صدرها بكفيها:
-يعني دي غلطتي إني عرفتك؟ أعمل إيه بس يا ربي!
انزعج أكثر وساءت حالته المتشنجة من أسلوبها الباكي في استجدائه، ازدادت نبرته عصبيةٍ وهو يسألها:
-يامه يعني نسيب ابن الحرام ده يعلم علينا من غير ما نجيبه ونربيه؟!

ردت تجيبه عله يتراجع عما ينتوي فعله:
-وأبوك راح فين؟ ما هو مش ساكت، وقالب الدنيا
تقلص وجهه أكثر وهو يجاهد حتى يستعيد التحكم في انفعالاته الهائجة، أخرج زفيرًا بطيئًا من صدره قبل أن يسألها:
-والمبلغ اللي اتسرق كبير؟
هزت رأسها بالنفي وهي تجيبه:
-لأ، ربنا ستر.. كانت حاجة بسيطة.
قال في استهجانٍ:
-بسيطة ولا كتيرة، ابن ال ..... لازم يتجاب من قفاه!

التف سائرًا بخطاه المائلة للعدو نحو باب المنزل، سألته والدته من خلفه في تلهفٍ مرتعد:
-إنت رايح فين دلوقتي؟ إنت وعدتني متعرفش أبوك!
توقفت يده على مقبض الباب، أدار رأسه نحوها يقول:
-خلاص يامه
استعطفته بعينين تتلألأ فيهما العبرات:
-بالله عليك ما تعمل حاجة، الموضوع خلص يا "تميم".

بدا مترددًا في حسم قراره النهائي، استغلت "ونيسة" الأمر وضغطت عليه بطريقتها الناعمة التي تلين القلوب وتوسلته:
-ماشي يا ضنايا، ارجع بيتك ربنا يرضى عليك، أنا معنديش إلا إنت، ومش عاوزة أخسرك.
لم يجد "تميم" جدوى من الاستمرار في الحديث مع والدته التي وضعته في موقفٍ لا يحق له الاعتراض فيه، تركته ينهي زيارته الخاطفة لها بعد أن وعدها بترك الأمر لوالده، لكن ثورته المستعرة بداخله لم تهدئ بعد.

ذرع غرفة نومه جيئة وذهابًا ونظرات الغل والحنق تشع من عينيه؛ تارة يضرب كفه بالآخر، وتارة أخرى يسب بكلمات نابية، راقبته "حمدية" ببرودٍ ودون أن تتأثر بشيء، وكأن الأمر لا يعنيها حقًا، أمسكت بمبرد الأظافر تقلمهم بهدوءٍ وهي جالسة على أريكتها الموضوعة في زاوية الغرفة، ثم تطلعت إليه وتلك النظرة الجليدية تغطي صفحة وجهها، تنهدت تنصحه بسماجةٍ ضاعفت من عصبيته:
-بالراحة يا "خليل" ليطقلك عرق ولا تقع من طولك!

استشاط غيظًا من جمودها بعد أن سرد لها تفاصيل المشاجرة، فصب جام غضبه عليها يلومها:
-حبكت يعني أجيب أم الزفت الآيس كريم ده عشان تطفحيه!
زمت شفتيها في برودٍ أكبر، بينما تابع استرساله الحانق قائلاً:
-ما أنا لو كنت موجود، مكانش ده كله حصل، وكنت اتصرفت قبل ما المصيبة تكبر.
شهقت ترد في استنكارٍ وقد أخذتها حميتها:
-هو إنت هتلبسهالي؟ ما المحروسة بنت أختك هي السبب، أل مش قادر على الحمار بيتشطر على البردعة.

كور "خليل" أصابع يده ضاغطًا عليهم في عصبيةٍ وقوة حتى ابيضت مفاصلهم، ثم تمتم بنبرته المتحسرة:
-المصلحة كده طارت، وبقى ليهم عندنا حق!
أضافت "حمدية" بعدائية صريحة لتزيد من تعاظم غضبه:
-المزغودة في قلبها دي مالهاش كبير، ما إنت لو كنت واقفتلها وماسبتلهاش السايب في السايب من الأول وعرفتها إن الله حق مكانتش عملت كده.
نظر نحوها متسائلاً في حيرة:
-طب أعمل إيه دلوقتي؟ "تميم" مش هيسكت، وده قرصته والقبر!

بثقلٍ وتكاسلٍ استندت على مرفقي الأريكة لتنهض من مكانها، أحست بتنميلٍ طفيف أصاب ساقها، تحركت بحذرٍ نحو التسريحة لتضع مبرد الأظافر في مكانه بالكوب المعدني الذي ترص فيه أدوات التجميل، تغنجت بجسدها ومسحت عليه بيديها في تباهٍ، ثم سألت زوجها ونظراتها مثبتة على انعكاس صورته بالمرآة:
-أعملك العشا ولا هتنام خفيف؟
استبد به غضبه فزجرها قائلاً بصوته الحانق:
-وده وقت طفح؟ مش عاوز أتنيل أكل، سبيني في البلوى اللي أنا فيها دي.

ردت بعدم اكتراث وهي تضع أحمر الشفاه على فمها:
-ياخويا، بكرة تطلع الهلولة دي على الفاضي
انهار "خليل" جالسًا على الفراش وواضعًا رأسه بين كفيه، هتف مع نفسه بأنفاسٍ متهدجة من فرط انفعالاته الزائدة:
-دماغي هتنفجر، مش قادر أفكر، ده غير المأمورية اللي عندي من صباحية ربنا
وضعت "حمدية" يدها أعلى منتصف خصرها وهي تستدير نحوه، هزت ساقها تسأله بوجهها الغائم ونظراتها المتسلطة:
-بأقولك إيه إنت هتسافر وتسيبني أنا وعيالك؟!

رفع وجهه إليها يجاوبها في بنبرة مستهجنة:
-هاعمل إيه يعني؟ هو بمزاج أهلي؟!
قالت حاسمة أمرها ودون أن تمنحه الفرصة للنقاش معها:
-طب خلاص، اعمل حسابك يا "خليل" أنا هاروح البلد اليومين اللي إنت مسافر فيهم اقعد مع أهلي، ولما تخلص تعالى خدنا من هناك، ما هو بصراحة مضمنش يحصل إيه وإنت مش موجود.
تتطلع إليها باستياءٍ قبل أن تتحول نظراته نحو نقطة ما بالفراغ ليقول في نفسه بأسفٍ مختلط بالحسرة:
-ليه كده يا بنت "آمنة"، بوظتي الدنيا كلها!

-ده إنتي ضربتي كرسي في الكلوب، أنا متوقعتش تعملي كده خالص!
رددت "همسة" تلك العبارة في إعجاب واضح على نظراتها وفي نبرتها وهي تسحب الغطاء على جسدها بعد أن ألقت بنفسها على الفراش لتستلقي عليه، نظرت لها "فيروزة" في زهو وغرور تستحقه بعد أن سحقت رجولة ذاك الغريب بجراءة وشجاعة تحسد عليها، لاحت بسمة صغيرة متغطرسة على زاوية فمها وهي تقول لها:
-يعني كنت أسكتله بعد ما قل أدبه؟
ردت نافية:
-لأ.

لكن ما لبث أن غلف صوتها القليل من القلق وهي تكمل:
-بس أنا خايفة عليكي يا "فيرو".
علقت عليها بثقةٍ وقوة تؤكد شجاعتها:
-الأشكال دي ماينفعش معاها إلا كده، وبعدين يا "هموس" الواد البلطجي ده سوابق ورد سجون.
سألتها في فضولٍ بعد أن استرعت كلماتها الأخيرة اهتمامها:
-وإنتي عرفتي منين؟

أجابتها ببساطة:
-افتكرت لما أمك قابلت أبوه من فترة واحنا في السوق، ملخص الحوار إنه كان لسه خارج من السجن، يعني اللي زيه هيخاف يرجع الحبس تاني!
ما زال ذلك الإحساس المزعج بالقلق ينتابها كلما مر طيفه بمخيلتها، ابتلعت ريقها وحذرتها بتنهيدة متوترة:
-برضوه مش مطمنة، فخدي بالك.
قالت بلهجة يشوبها القوة وقد أراحت رأسها على الوسادة:
-سيبك منه، ولا يقدر يعملنا حاجة! كمان أنا أخو واحدة صاحبتي ظابط، يعني لو فكر يتعرضلنا هطيره.
سألتها "همسة" بفضولٍ حائر:
-طب وخالك هيسيبنا نكمل شغل بعد اللي حصل؟

زفرت "فيروزة" ببطءٍ قبل أن ترد:
-أنا قولتله مش هافتح العربية يومين كده لحد ما نشوف الجو.
تقلبت أختها على جانبها لتنظر لها عن قرب وهي تسألها:
-وإنتي هتعملي كده فعلاً؟
ضحكت تجاوبها في استخفاف ساخر:
-لأ طبعًا، إنتي عاوزانا نخسر زبونا
بدا على وجهها تعابير أكثر قلقًا عن ذي قبل، اعتدلت في نومتها متسائلة:
-أومال؟ هتتصرفي إزاي؟

أجابت في ارتياحٍ وهي تشبك ذراعيها خلف رأسها:
-ولا حاجة، خالك وسط برطمته وندب حظه قال إنه طالع مأمورية، وأنا فهمته بالمحسوس إني هستناه لما يرجع
-وصدقك؟
-معرفش، خالك ده جبان، قطه جمل، هيطلع يطلع وينزل على مافيش، يومين بس وهتلاقيه عادي.
-ربنا يعديها على خير
علقت عليها "فيروزة" في تفاؤل وهي تتقلب على جانبها لتوليها ظهرها:
-إن شاءالله هتعدي، واللي جاي أحسن.

طرأ ببال "همسة" شيء ما فهتفت تقوله بابتسامةٍ عريضة مستعيدة المشهد الساخر في عقلها:
-صحيح شوفتي العقربة مرات خالك كانت هتموت واحنا شغالين، عينها كانت بتبظ على الآخر
تثاءبت أختها وهي ترد عليها:
-ربنا يكفينا شر عينيها
قالت لها "همسة"، وكأن اقتراحها كان مطروحًا للتنفيذ:
-مش كنا إدينها أي سندوتش ولا حاجة
نظرت لها من طرف عينها في ضيقٍ، ثم عقبت بتأففٍ:
-خسارة فيها اللقمة، دي واحدة ما بيطمرش فيها المعروف
-بس ....

وقبل أن تكمل جملتها كانت والدتهما تطل برأسها من باب الغرفة تسألهما:
-إنتو لسه ساهرنين يا بنات؟
بادرت "همسة" بالرد وتلك الابتسامة الناعمة تزين وجهها:
-خلاص يا ماما هنام.
أومأت برأسها في حركة تلقائية، وقالت:
-طيب يا حبايبي، تصبحوا على خير.

استرخت "همسة" على الفراش ترد عليها:
-وإنتي من أهله يا ماما
أغلقت "آمنة" الباب على كلتيهما بعد أن أطفأت الإضاءة، ساد الصمت للحظات قبل أن تقطعه "فيروزة" بصوتها المائل للنعاس وهي مطبقة على جفنيها:
-بأقولك إيه، تبات نار تصبح رماد، كله بيتنسى، فمتحطيش في بالك.
تنهدت أختها في رجاءٍ وقلبها القلق يدعو:
-يا ريت.

لم يتجه مباشرةً إلى منزله، بل تجول في المناطق المجاورة بغير وجهة محددة حتى تمكن التعب من قدميه، تلفت حوله باحثًا عن مقهى ما زال يستقبل زبائنه، لكن أغلب المحال قد أغلقت أبوابها بسبب برودة الطقس الذي كان كالنسمات على وجهه المشتعل، تطلع "تميم" إلى ساعة يده، كان الوقت قد تأخر بالفعل، لم يجد بدًا من العودة إلى زوجته، تلكأ في خطواته، وأثناء صعوده الدرج معتقدًا أنها ربما تكون قد استغرقت في النوم. وما إن دس المفتاح في قفله وفتح الباب حتى وجدها في استقباله، نكس رأسه مرغمًا حتى لا يرى نظراتها المعاتبة، لكن صوتها المتلهف اخترق أذنيه وهي تسأله:
-إيه اللي أخرك يا حبيبي؟

كان "تميم" فاقدًا للرغبة في مسايرة ما تُعايشه من أحلام يقظة وردية، لذا رد بفتورٍ وتعب:
-عادي.
استنكرت "خلود" رده المقتضب معها، ومع ذلك اقتربت منه تمسح على ظهره برفقٍ وحنو، أراحت رأسها على كتفه، وابتسمت له قائلة:
-ولا يهمك يا حبيبي، المهم إنك رجعتلي.
ثم انخفضت نظراتها لتتأمل ثيابه التي بدت مختلفة، سألته والدهشة تعتريها:
-إيه ده؟ هو إنت غيرت هدومك؟ في حاجة حصلت يا "تميم" وأنا معرفهاش.
أجاب بغموضٍ أربكها:
-متقلقيش.

ثم حرر نفسه من ذراعها المحاوط لكتفه ليسير نحو غرفة النوم، مشت خلفه تسأله في ضيقٍ وقد فاض بها الكيل من تجاهله لها:
-ماتسبنيش كده على ناري، قولي في إيه؟
نفخ أولاً بزفيرٍ مسموعٍ قبل أن يجيبها مضطرًا حتى تكف عن أسئلتها السمجة:
-مافيش، اتبهدلت في حوار كده، وعديت على أمي أغير هدومي بدل ما أمشي بمنظري ده في الشارع.
سألته كأنها تحقق معه:
-هو إنت اتخانقت تاني؟
أجاب بضيقٍ:
-ولا خناقة ولا نيلة، كبري دماغك.

سبقته في خطواته حتى اعترضت طريقه، سلطت أنظارها عليه وهتفت بإصرارٍ عنيد:
-لأ مش هاكبر، أنا....
صاح بها في قوةٍ وقد نفذت طاقته:
-"خلود"، كفاية، أنا مش ناقص خاوتة!
انتفضت من صوته المجلجل، حاولت أن تستخدم الرقة معه لتستنبط منه الحقيقة التي يخفيها عنه، اقتربت منه، ووضعت يدها على كتفه، تلمسته في رقةٍ حتى لامست أناملها جانب عنقه، أسبلت نظراتها الساهمة نحوه تقول له:
-أنا خايفة عليك يا "تميم"، لو حصلك حاجة هموت، وبعدين دلوقتي أنا مراتك، وليا لي حق عليك.

طالعها بنظرة غريبة ملتزمًا بصمته المريب، وكأن الكلمات تأبى الانصياع له ومجاراتها في مشاعرها المهتمة به، أولاها ظهره واستدار عائدًا نحو صالة المنزل، اندهشت من تصرفاته التي تدعو للاسترابة، لحقت به تسأله:
-إنت رايح فين دلوقتي؟
وجد نفسه يجيبها ودون أن يكلف نفسه عناء التطلع إليها:
-طالع السطح، مخنوق وهاقعد شوية لوحدي فوق.

هتفت من خلفه بما يشبه اللوم:
-أنا مشوفتكش طول اليوم، وحتى الساعة اللي هانقعد فيها سوا هتسبني لوحدي؟!
أمسك بالمقبض يديره، ثم قال بنبرة عازمة:
-معلش، سامحيني المرادي، أنا على أخري!
ثم حانت منه التفاتة سريعة من رأسه وهو يعدها:
-وهاعوضك بعدين.
لوت ثغرها قائلة بتجهمٍ كبير وامتعاضٍ يعبر عن عدم رضائها عما يفعله:
-طيب براحتك.

أضاف بجمودٍ:
-ولو عاوزة تنامي ف ...
قاطعته بما لا يدع مجالاً للنقاش:
-لأ هستناك، أنا مش جايلي نوم أصلاً.
هز رأسه في تفهمٍ وهو يرد:
-ماشي.
خرج "تميم" من المنزل صافقًا الباب بقوةٍ جعلت أطرافها تهتز لا إراديًا، وبنظرات غائمة ووجهٍ مكفهر حملقت "خلود" في شرودٍ، وذاك السؤال الحائر يتردد في عقلها:
-يا ترى إيه اللي حصل وشقلب كيانك كده يا "تميم"؟!

تراءى له بوضوحٍ ما يجب أن يفعله معه بعد أن اكتملت أجزاء الصورة الناقصة، خاصة وأن أحد رجاله قد أبلغه بعودته من السفر. وقف "بدير" أمام باب المنزل ينقر برأس عكازه عليه في قوةٍ، استقام في وقفته التي تعبر عن هيبته وسطوته منتظرًا مجيئتها لتفتحه له، وها قد صدق توقعه، ووجد "بثينة" تقف عند أعتابه تتأمله بنظراتها الناقمة على الحياة ومن فيها، وبكل غلظةٍ وخشونة سألها:
-المحروس ابنك شرف؟

نظرت له شزرًا قبل أن تجيبه:
-الناس بتقول سلامو عليكم الأول يا حاج "بدير"!
رفع عكازه أمامها ليشير به وليجبرها على التنحي للجانب حتى يمر، رمقها بنظرة غامضة وهو يرد عليها:
-لا سلام ولا كلام، ابنك البغل رجع من السفر؟
اغتاظت من شتمه له، وقالت على مضضٍ:
-أيوه، ونايم جوا يريح جتته من تعب السفر.
حدجها بنظرة أخرى عبرت عن ازدرائه لها، ثم اندفع نحو الردهةٍ مما استفزها، سألته من خلفه وهي تسابقه في خطواته:
-إنت رايح فين يا حاج؟
قال باقتضابٍ:
-هافوقه.

قطبت جبينها في اندهاشٍ حائر، لم تدع الفضول يأكلها فسألته بتعبيراتها الحادة:
-هو في إيه؟
تلك النظرة الاحتقارية التي تعلو وجهه كانت تستحقها، لم يرح بالها وأجابها بنفس الغموض المثير للأعصاب:
-ابنك عارف.
استاءت من تلاعبه معها فصاحت به:
-هو إنت هتكلمني بالألغاز، أنا لازم أفهم في إيه؟ جيتك السعادي مش طبيعية، وراها حاجة!
جلجل صوته وهو يحذرها:
-خليكي برا الليلة دي أحسن يا "بثينة"
-ليلة! يبقى الموضوع فيه إن!!

تمتمت بتلك العبارة والشكوك ملأت صدرها، فحضور زوج أختها في ذلك التوقيت الشاذ يوحي بكارثة وشيكة، لحقت به تراقب ما يفعله، وجدته يلكز ابنها المسجى على الفراش في جانب جسده بقسوةٍ مستخدمًا عكازه مما جعله ينتفض مذعورًا وغاضبًا في نفس الآن، خاصة وهو يهينه:
-اصحى يا حرامي
كان على وشك سب من تجرأ وأيقظه من غفلته، لكنه تدارك نفسه بعد أن حلت عليه الدهشة واختلطت مع مخاوفه، همس بصوته المهتز الثقيل:
-هه.. جوز خالتي!!

نظر له "بدير" في احتقارٍ، ثم أهانه بغيظٍ وهو يكز على أسنانه:
-نايملي ومدلدل كرشك يا كلب، قوم واتعدلي كده
مسح "هيثم" لعابه المنساب من جانب فمه بظهر كفه، ثم فرك رأسه متسائلاً في توترٍ ورائحة أنفاسه الكريهة تكاد تصل إليه:
-في.. إيه يا جوز خالتي؟

تأفف منه وهو يتفحصه في دقةٍ مُلاحظًا تلك الحمرة المريبة التي تحتل حدقتيه، مع فقدانه للاتزان، وجه عكازه نحوه ليلكزه بعنفٍ في صدره وهو يأمره بصوته الأجش:
-اقف على حيلك وأنا بأكلمك!
سألته "بثينة" والاستغراب يعتري كامل ملامحها:
-في إيه يا "بدير"؟ عاوز من ابني إيه.

التفت نحوها ينظر لها في حنقٍ، ثم أدار رأسه نحو "هيثم" يطالعه في غموضٍ قبل أن تمتد يده لتهوي على صدغه بصفعة قاسية مؤلمة تردد صداها في أركان الغرفة وجعلته يتأوه من شدة تأثيرها. هتفت "بثينة" في جزعٍ:
-ابني
اخشوشنت نبرة "بدير" وتحولت للشراسة وهو يوجه اتهامه نحوه:
-بتسرق بيت خالتك يا حرامي؟!
فرك "هيثم" جانب وجهه الذي تخدل من عنف الصفعة، وأنكر فعلته قائلاً بصوته الحانق:
-أنا مسرقتكش!
هدر به زوج خالته بقوةٍ:
-كداب.

تدخلت "بثينة" تدافع عن ابنها باستماتة وقد وقفت بجسدها تحول بينهما:
-إنت جاي تتبلى على ابني يا "بدير"؟ لأ وكمان بتضربه؟
أجابها بنفس الصوت الغاضب ونظراته المشمئزة مسلطة على "هيثم":
-هو عارف عمل إيه!
تفاجأت "بثينة" كليًا وشهقت مصدومة حينما قال ابنها بغتةٍ ومعترفًا بجريمته:
-أيوه عملت كده وسرقتك..
لطمت على صدغها تقول في دهشة وقد شخصت أبصارها:
-"هيثم"! إنت عملت إيه؟

أجابها صائحًا ورذاذ لعابه يتناثر في الهواء:
-أنا خدت حقي منه
رد عليه "بدير" مستنكرًا وقاحته:
-حقك؟ حق مين يا أبو حق؟
تابع "هيثم" هدره الناقم:
-حق أبويا اللي راح فداكم زمان!!!

للحظة توقف الزمن وعاد إلى الوراء، حيث تجلت المشاهد القديمة في ذهنه بوضوح مدهش، كان "غريب" والد ذلك الوقح لا يزال على قيد الحياة ويشكو مرارة العيش وصعوبة توفير النفقات، آنذاك جاء إليه يتوسله أن يقرضه المال لينفقه في إقامة مشروع صغير سيجني منه الأرباح ويسدد ديونه المتراكمة، واقترح عليه أن يفتتح محلاً لبيع الطلاء يكون مملوكًا له بعد سداد كامل قيمته، وفي المقابل يشاركه في الأرباح.

وافق وقتها ومنحه كل الدعم المادي ليقف على قدميه، ولم يطالبه بسداد الأقساط المستحقة إكرامًا لرجاء زوجته بالوقوف إلى جواره ودعمه، لكن أطماع "غريب" ورغبته في الثراء السريع جعلته يغش في تجارته، استبدل الجيد من مواد الطلاء بأخرى قليلة الجودة، وبالرغم من نصائح "بدير" المستمرة له -وتهديداته أحيانًا بإنهاء العمل وفض الشراكة- إلا أنه لم يرتدع أو يصغِ إليه، وأصر على ما يفعله ضاربًا بكل تهديداته عرض الحائط حتى حدثت الفاجعة والتهمت النيران كل شيء، وهلك هو معها، لتحل الخسارة على جميع الأطراف.. عاد "بدير" من سرحانه في تلك الذكرى غير السارة وقد توحشت نظراته وكذلك نبرته حينما هدر:
-أبوك موت نفسه بسبب غشه وطمعه، مش بسببنا، وبلاش تخلط الأمور ببعض.

رد عليه يلومه:
-عاوز تبرأ نفسك من دمه؟
هتف موضحًا بصوتٍ يشبه الرعد في قوته:
-احنا عملنا اللي علينا زمان وساعدناه، وسيبناه يشتغل زي ما هو عاوز، بس أبوك كان غشاش، مصانش النعمة، وكان ماشي ورا شيطانه لحد ما ضيع نفسه ...
ثم تحولت نظراته نحو "بثينة" وهو يتابع:
-وأمك عارفة بكده، متقدرش تنكر!
أنكرت الحقيقة فادعت كذبًا:
-إنتو اللي عاوزين تاكلوا حقنا، و...

أخرسها على الفور "بدير" رافضًا منحها الفرصة لتلفيق الأكاذيب بأسلوبها المبتذل في التلاعب بالأمور مستخدمًا عكازه في التلويح المهدد:
-حقكم خدتوه تالت ومتلت! ولولا العِشرة وصلة الدم لكنت رميتلك ابنك يتعفن في السجن!
تطلعت إليه بعينين ناريتين عاجزة لوهلة عن الرد عليه وقد أوقظ ذكريات الماضي بكل ما فيها، دب الرعب في بدنها وجحظت عيناها الحانقتين حينما هدد ابنها وبركان غضبه يثور فيهما:
-وإنت يا حرامي! هاعتبر الفلوس اللي إنت سرقتها من ورايا فدا عيالي، بس قسمًا بالله لو اتكرر ده تاني هخليك تحصل أبوك، وأدفنك بالحيا، سامعني!

نظرة أخيرة محملة بالكراهية والشر رمقها لكليهما قبل أن يتركها وينصرف من الغرفة، التفتت "بثينة" نحو ابنها تعاتبه:
-ليه كده يا "هيثم"؟ ليه خليته يبيع ويشتري فينا؟
وبوقاحةٍ وعدم احترامٍ دفع "هيثم" والدته من كتفها ليزيحها عن طريقه ليندفع نحو الخارج صارخًا بها وغضبه المستعر يتجمع في عينيه بسرعة البرق:
-ابعدي عني يامه!
لم تتمكن من استبقائه في المنزل بعد أن أطاحت عاصفة "بدير" بكل شيء، وقفت في مكانها تلطم على صدغيها حتى التهبا وهي تنوح في حسرةٍ وسخط:
-منك لله يا "بدير"، هتخسرني الواد اللي حيلتي ...!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة الخامسة عشر بقلم منال سالم


لا يعرف كم دخن من السجائر لينفث بها عن حنقه المكبوت والمشتعل في رأسه، ناهيك عن الأحاسيس الجديدة التي اُضطرمت بداخله وزادت من تأجج غضبه غير المفهوم، لم يكن السبب فقط موضوع السرقة الذي أُخفي عنه، بل إهانة تلك الفتاة الثائرة له. استثاره أنها لم تهابه، ولم ترتدع من سمعته التي ربما تجعل البعض يفكر مرتين قبل أن يقترب منه، كانت على النقيض من بني جنسها من النساء، أنثى قوية، شجاعة، لا تهتز بسهولة، وقادرة على الدفاع عن نفسها بشكلٍ يثير الإعجاب والفضول. أحس "تميم" بدبيب شيء ما يناوشه من بعيد، لكنه لم يفقه إليه بعد، ورغم ذلك ما زال حانقًا لعدم إفراغ غضبه..


 
كان وجهها المتشنج بنظراتها النارية لا يزال محتلاً لمخيلته، وكأنها طيف حي يزداد سطوعًا مع استمرار تفكيره فيها، قاوم تلك الأحاسيس الغامضة التي استحوذت عليه مستعيدًا موقفها الأخير بإلقاء الماء العكر في وجهه أمام الحاضرين، استغله ليقضي على تلك اللمحة المحيرة التي تشوش ذهنه وتجعله غير قادر على اتخاذ موقفًا صارمًا .. نفخ في غلٍ، ردد مع نفسه في استنكارٍ مستهجن وكأنه يُفكر بصوتٍ مسموع:
-مش أنا اللي يتعمل فيا كده، مين دي أصلاً؟!


 
قذف بقدمه حجرًا مهملاً كان موجودًا على مقربةٍ منه، ثم تقدم خطوة نحو السور المنخفض لسطح منزله، ورفع قدمه ليستند به عليه، تطلع بغير هدى في الفراغ المعتم أمامه بعينين تقدحان شررًا وقد أدرك أنه في حيرةٍ من أمره، فليس من شيمه أن يقتص لحقه من النساء، وإن كانت مذنبة، فهذا يناقض ما نشأ عليه، فلو كانت رجلاً لأبرحه ضربًا ولجعله عبرة لمن في المنطقة، لكنها امرأة! عاد ليفكر مليًا وبعمقٍ فيما فعلته مختلقًا لها الأعذار، ربما لم تكن كما اعتقد وأساء الظن بها، وما تطاولت به عليه كان دفاعًا مشروعًا عن حقها في الحصول على لقمة العيش، لكن ليس من المعتاد أن تمتهن النساء بتلك الأعمال المثيرة للريبة.

خاصة وأنها تمتد لساعات متأخرة من الليل، كذلك هو رأى بعينه تجمعات مختلفة لمجموعات من الشباب الضاحك المحتشد بجوار عربتها، ناهيك عن وجود بدائل أخرى من الأعمال النسائية مما لا تثير الشبهات، عاد تفكيره ليدينها وقد ظن أن ذلك ربما يكون ستارًا خفيًا لاصطياد الرجال وارتكاب المحرمات تحت غطاء العوز والفقر، كور قبضة يده وضغط عليها بشدةٍ حتى ابيضت مفاصله، همس مع نفسه في ضيقٍ مزعجٍ:
-أنا كده متكتف، هاتصرف معاها إزاي؟


 
في تلك الأثناء، ضجرت "خلود" من انتظارها غير المجدي بمفردها في المنزل تضرب أخماسًا في أسادسٍ تترقب عودة زوجها إليها، أحست بضرورة وجودها إلى جواره حتى وإن كان معترضًا، ومع تغلغل تلك الرغبة فيها فقدت آخر ذرات صبرها، لذا قررت الذهاب إليه متحملة تبعات تلك الخطوة، ربما تنجح بدلالها وغنجها الأنثوي في امتصاص عصبيته وتثبيطها، ومن ثمَ استدراجه ليبوح لها بأسراره..

لفت الوشاح الصوفي حول كتفيها، وأحكمت ربط حجاب رأسها ثم سحبت مفتاح المنزل ودسته في حافظتها الجلدية الصغيرة، أغلقت الباب خلفها واتجهت للدرج، كانت تعدو صعودًا بأنفاس متهدجة، وقفت عند مدخل السطح تتطلع إليه بعينيها الساهمتين، خُيل إليها أنه هدأ قليلاً بعد مكوثه لساعات بالأعلى، لكنها سمعته يهمهم بكلماتٍ غير مفهومة، دنت منه بهدوءٍ تام عل أذناها تلتقط ما يقوله، باتت على بعد خطوتين منه، ولم تستمع إلا لأصوات أنفاسه الغاضبة وسبابٍ حانق يلعن به أحدهم، سألته بتلقائيةٍ:
-إنت بتكلم نفسك يا حبيبي؟


 
انتبه لوجودها فتقلص وجهها الحانق أكثر، رمقها بنظرة لا تبشر بخيرٍ وهو يسألها في عصبيةٍ:
-"خلود"؟ بتعملي إيه هنا؟
ضبطت نبرة صوتها حتى لا تظهر قلقها عليه قبل أن تجيبه:
-جيت اطمن عليك يا حبيبي...
ثم أراحت رأسها على كتفه، وتابعت مُبدية اهتمامها به:
-الجو مش برد عليك؟
أبعد رأسها عنه وكأنها حية تلدغه، ثم أمرها بخشونة:
-انزلي الشقة وماتطلعيش تاني!

تطلعت إليه في انزعاجٍ واضح، لم تصغِ إليه وسألته بوجهٍ اكتسب ملامحًا جادة:
-مالك يا "تميم"؟ إيه اللي مغيرك؟
هدر بها بصوته المتشنج:
-يوووه، هو إنتي لازم تعصبيني كل شوية؟
انتفضت من صراخه بها وتراجعت لا إراديًا خطوة للخلف لتكون في مأمن من غضبته، ازدردت ريقها وهتفت بما يحمل العتاب:
-"تميم"، اهدى، في إيه لكل ده؟ أنا مراتك مش حد غريب!


 
لانت نبرتها قليلاً حينما أكملت موضحة:
-وبعدين أنا قلقت عليك وخوفت يجيلك برد فطلعت أشوفك، ما أجرمتش يعني؟
نظر لها بشكلٍ غامض، كانت محقة في أسباب قلقها. اختفت الجدية من صوت "خلود" ليحل الاختناق عليه وهي تلومه مستشعرة بقوةٍ أنه لا يبادلها أي نوعٍ من المشاعر المهتمة:
-ليه دايمًا بتحسسني إنك مُجبر عليا؟ وإني حد غريب عنك؟
رد بجمودٍ:
-أنا حابب أكون لوحدي، مش حكاية يا "خلود"!
-لأ يا "تميم" حكاية ورواية كمان!

وجدت صعوبة في إكمال جملتها بصلابةٍ، حتى كلماته لا تشفق عليها ولا تظهر أي نوعٍ من التعاطف معها، وكأنها مخلوق من حجر لا يتأثر ببرودة مشاعره، انسابت دموعها ونكست رأسها في خذلانٍ وهي تستطرد:
-أنا.. قولتلك من الأول.. لو مش عاوزني متكملش!
كالخنجر الحاد طعنته جملتها في صدره وأشعرته بتأنيب الضمير، لماذا وحدها تتحمل جرائر انفعالاته وهي التي تكاد تموت شوقًا لكلمة ناعمة منه؟ استنشق الهواء البارد حتى يستعيد انضباط أعصابه، عليه أن يصلح ما أفسده، تنهد بقنوطٍ، بدت حركة قدميه ثقيلة وهو يخطو ناحيتها ليعتذر منها:
-متزعليش.


 
تراجعت قبل أن يلمسها تصرخ فيه بمرارةٍ ووجهها أُغرق بالكامل بدموعها الحارقة:
-مش كل مرة كده، أنا بيصعب عليا نفسي وأنا بأحاول بكل الطرق أرضيك وإنت ...
انفجرت باكية فعجزت عن مواصلة الحديث، إحساسه بالذنب وخز وجدانه أكثر، خطا نحوها وامتدت ذراعه لتمسك بها من معصمها، وبحركة واحدة قوية جذبها إليه وخبأها في أحضانه، بكت "خلود" بشهقات متقطعة على صدره، في حين مسح برفقٍ على ظهرها وقبل أعلى جبينه متابعًا اعتذاره النادم:
-أسف يا "خلود"، معلش استحميلني شوية.

رفعت وجهها الباكي إليه، تطلعت إليه في ألمٍ، ثم ردت عليه:
-أنا معنديش مانع أصبر العمر كله، بس معاملتك تتغير معايا، أنا ماستهلش ده منك
وجد صعوبة في الابتسام وهو يقول:
-حاضر يا حبيبتي، كل اللي إنتي عاوزاه هيتنفذ، بس متعيطش!
تنفست بعمقٍ لتسيطر على نوبة بكائها، كذلك حاول "تميم" استرضائها بمنحها قبلة ناعمة على وجنتها، وداعب بإصبعه أنفها، نظرت له بحبٍ شغوف متناسية آلامها المعنوية، كفكفت بظهر كفها عبراتها وسألته:
-ها .. هتنزل معايا ولا آ...؟

أجابها دون تفكيرٍ:
-نازل يا ستي، مبسوطة
حركت كتفيها في غنجٍ، ثم عضت على شفتها السفلى وهي ترد :
-شوية.
حاوطها من ظهرها وضمها إليه وسار معها نحو باب السطح فأحست بالدفء يغلف جسدها، تنهدت في ارتياحٍ صامت، ونظرت له عن قرب وهي تهمس له ويدها تتلمس صدره النابض بقوة:
-ربنا يخليك ليا يا حبيبي.
ربت على جانب ذراعها دون أن ينبس بكلمةٍ آملاً في نفسه ألا يستبد به الغضب من جديد فلا ترى هي -أو غيرها- وجهه الخفي الذي يحاول كبحه.

سهرة ذكورية متأخرة أقامها أعلى سطح منزله الذي يقطن فيه بمفرده، ولكن بصحبة أتباعه ليقوموا بخدمته وتلبية احتياجاته من إحضار المشروبات الكحولية، وتجهيز نارجيلته كلما انطفأ حجرها. التزم "ناجي" الصمت أغلب الوقت -وكأنه يحيا في عالمٍ خاص به- مكتفيًا بإخراج سحب الدخان الكثيفة بعد أن تنتهي مهمتها في إحراق رئتيه من جوفه وفتحتي أنفه، لم يكن رائق المزاج أو كعادته المعروفة في إلقاء النكات السمجة أو القبيحة ليلهب الأجواء. جثا "شيكاغو" على إحدى ركبتيه ليضع الفحم المتقد في مكانه بالنارجيلة متسائلاً في فضولٍ وعيناه تجولان على وجهه:
-مالك يا ريسنا، في حاجة معكرة مزاجك؟

أجاب باقتضابٍ زاد من الفضول:
-يعني..
سأله مبتسمًا، وكأنه يملك عصًا سحرية قادرة على فعل المستحيل:
-طب إيه المطلوب ونعدل المزاج يا كبير؟
لوح له بخرطوم النارجيلة قبل أن يجيبه:
-مالوش لازمة!
ومن الخلف تساءل "حمص" في اهتمامٍ:
-أومال الريس "تميم" فين؟ مش هيسهر معانا ولا إيه؟
رد عليه "شيكاغو" بما يشبه المزاح:
-شكل الجواز هيجي على دماغنا.
علق عليهما "ناجي" بزفيرٍ ثقيل، وكأن شيء ما يجثم على صدره:
-لأ مش كده، بس انسوه خالص اليومين دول!
ارتفع حاجب "حمص" للأعلى متسائلاً:
-ليه بس؟

أجابه دون وعيٍ بعد أن لعب الدخان غير البريء برأسه فأصبح غير قادر على التحكم فيما يتفوه به:
-أصل شوية بنات شوارع عكننوا عليه مزاجوا، ومش طايق حد.
توهم "شيكاغو" أنه يتحدث عن مشاجرة شديدة ربما تكون قد وقعت بين "تميم" وإحدى الساقطات اللاتي يتخذن أماكن معينة في بعض المناطق من أجل الحصول على متعة غير شريفة في مقابل حفنة من النقود، فقال عارضًا خدماته:
-لأ دول معروف تمامهم إيه، إدينا بس الإشارة!
عقب عليه في فتور وقد شعر بالثقل يجتاح رأسه:
-بعدين، غيرلي الحجر لأحسن مش عاجبني!

تحول في لحظةٍ إلى التابع المطيع وهو يرد مبتسمًا بابتسامة سخيفة أظهرت اتساخ أسنانه:
-أوامرك يا كبير.
أجاد ما يفعله معه، واسترسل معه بمكرٍ عله يحصل على معلومات مفيدة ربما يوضفها لصالحه بعد أن طرأ بباله فكرة جهنمية، وما إن انتهى منه حتى تركه يستمتع بالتدخين ليعود إلى رفيقه الذي كان يبتلع الطعام بشكلٍ مقزز، مال عليه يسأله بصوتٍ خفيض:
-إيه رأيك ياض يا "حمص" لو خدنا بونط ووجبنا مع الريس "تميم"؟

رد متسائلاً والرذاذ المختلط باللعاب يتناثر من فمه:
-هنعمل إيه يعني؟
غمز له بطرف عينه، ثم لكزه وهو يرد بصوتٍ خفيض:
-هفهمك بعدين، بس أشوف ريسنا!

نهض من رقدته حاملاً طبقًا مليئًا بالسوداني وبعض المكسرات ليضعه بجوار "ناجي"، تأكد من عدم حاجته إليه ليرجع إلى صديقه، تبادل معه حوارًا هامسًا أطلعه فيه على ما يدور في رأسه بعد أن تشكلت فكرته العبقرية، حيث راودته فكرة السعي للانتقام ل "تميم" والاقتصاص له بعد أن باح له "ناجي" في غير وعي منه عن حنق الأول مما صار معه ورغبته في إهانتها بعد أن عبثت بهيبته في مقابل نيل مبلغ مالي كبير يسد به كليهما عوزهما، ونجح بحنكته اللئيمة في أن يحصل على بعض المعلومات الأساسية عن تفاصيل المشاجرة مع الفتاة. رد عليه "حمص" بوجه تظهر عليه علامات التفكير:
-مالوش لازمة، بت إيه اللي هنتخانق عشانها؟ إنت شكلك لسعت!

رد عليه بعقلانية حتى يقنعه بالاشتراك معه في رسم تلك الخطة:
-ياض مايبقاش مخك ضلم، هنطلعلنا بقرشين كده منه، وهو فلوسه حلوة وكتيرة، خلينا نروق على نفسنا، والحكاية مش هتاخد مننا غلوة، احنا بس نفكر ونرتب هنعملها ازاي وامتى.
حك طرف ذقنه يفكر في العرض الشيطاني، ثم ما لبث أن سأله مستفهمًا وقد راقت الفكرة له:
-وهنعرف البت دي منين؟

جاوبه في انتشاءٍ مغتر:
-بسيطة، صاحبك معلم وبيعرف يجيب أرار أي حاجة!
هز رأسه في استحسانٍ متابعًا تعليقه عليه بما أكد له موافقته الصريحة على الاشتراك فيما يريد فعله، وتلك النظرة الغامضة الوضيعة تتوهج في حدقتيه:
-على رأيك، وأهوو نستفيد بأي حاجة بدل ما الدنيا مأشفرة على الآخر معانا، دوس يا برنس وأنا معاك!

لوح بيده لأحد عماله ليكمل تعبئة الأقفاص بالخضروات الموضوعة في الأجولة، ثم استدار سائرًا نحو المكتب الخشبي ليسحب المقعد الجانبي، حمله "تميم" في خفةٍ وبيد واحدة ووضعه على مقربة من والده الجالس بالخارج ومنهمك في تناول قهوته ومطالعة الصحيفة، كنهج يتبعه يوميًا. جلس بجواره ونظراته المعاتبة تغطي وجهه، تنهد في ضيقٍ، وتطلع إليه بترددٍ ليقول مستهلاً حديثه معه:
-ينفع كده يا حاج، أبقى أنا آخر من يعلم بالسرقة اللي حصلت؟

في البداية لاذ "بدير" بالصمت، وسدد له نظرة غريبة قبل أن يقول بامتعاضٍ ظاهرٍ على قسماته:
-هي أمك برضوه انسحبت من لسانها وقالتلك؟
رد بهدوءٍ ادعاه:
-أنا اللي ضغطت عليها عشان تقولي، هي مالهاش ذنب يابا، بس كان المفروض تعرفوني وأنا هاتصرف!!
ترك "بدير" فنجان قهوته ليحتج بنبرة تميل للضيق، وقد تملك منه الانزعاج لانفلات لسان زوجته وإفشائها للسر:
-هو أنا مش مالي عينك؟!

لعق ابنه شفتيه وضبط صوته حتى يحافظ على هدوء نقاشهما حينما قال:
-لأ يابا، مش القصد، بس بردك آ...
قاطعه والده بلهجته الصارمة منهيًا الحوار في ذلك الموضوع تحديدًا:
-خلاص يا "تميم"، موضوع وراح لحاله.
رفض ترك الأمر وسأله مستوضحًا بإلحاح عنيد:
-يعني إنت عرفت اللي سرقنا؟
لوى ثغره يجيبه بتحفزٍ:
-أيوه، وخد جزاته خلاص!

لم يرغب "بدير" في نبش تفاصيل السرقة حتى لا يوغر بينه وبين زوجته ويفسد علاقتهما بسبب أخطاء الغير، خاصة أن الأمر يمس شقيقها وأمها. وبخبرته الحياتية الطويلة عِمد إلى تغيير النقاش فيه فأمر ابنه بما لا يقبل المجادلة:
-انساه، وخلينا نشوف الطلبيات اللي ورانا، مش هانفضل نلُك كتير في حاجات مالهاش تلاتين لازمة!!
كان مدركًا لطبيعة والده في إنهاء النقاش حينما يحتدم، رد مستسلمًا بالرغم من تذمره الظاهر عليه:
-حاضر يابا، اللي يريحك.

نهض من مقعده واستعد لإعادته إلى مكانه حينما سمع صاحب الصوت الرجولي المألوف يهتف:
-سلامو عليكم.
التفت "تميم" برأسه للجانب ليجد أحد أصدقائه الأعزاء ممن جمعهم العمل في البداية بسبب الأباء قبل أن يتحول الأمر بين الأبناء إلى ود وصداقة أعمق بالرغم من سنوات الحبس، ترك المقعد، واتجه إليه ليصافحه وهو يرحب به بحرارةٍ شديدة:
-وعليكم السلام! منور الدكان والحتة كلها يا "منذر"!

(( "منذر طه حرب" هو أحد الشخصيات الرئيسية في رواية <الدكان>، والتي سبق نشرها الكترونيًا عام 2018، في ذلك المشهد يحل ضيفًا على عائلة "سلطان"، حيث تربطهما روابط الصداقة والعمل والتي تعود لجيل الأباء .. كذلك كانت زوجة "منذر" الأولى خلال تلك الأحداث متوفية، ولم يكن قد التقى بعد ب "أسيف"؛ معشوقته))

بادله "منذر" المصافحة والحضن الرجولي رابتًا على ظهره بقوة قبل أن يبتعد عنه ليتابع باهتمامٍ:
-منور بأصحابه، وحسكم دايمًا فيه، إزيك يا حاج "بدير"؟ عامل إيه؟
رد عليه الأخير بلطفٍ وتلك الابتسامة الهادئة مرسومة على شفتيه:
-يا أهلاً وسهلاً بالغالي ابن الغالي، أنا الحمدلله في نعمة.
وقف "منذر" قبالته مكملاً ترحيبه المهتم وهو يمسح على كتفه بودٍ كنوعٍ من التوقير له:
-والحاج "سلطان" أخباره إيه؟

-بخير والحمد لله.
تلفت حوله باحثًا عنه وهو يسأله:
-هو فين يا حاج؟ أنا مش شايفه.
أجابه "بدير":
-شوية وهينزل الدكان يقعد معانا.
ابتسم معلقًا عليه:
-ربنا يديه الصحة، ده بركتنا كلنا.

دنا "تميم" من صديقه، وضع المقعد الخشبي أمامه ليدعوه للجلوس عليه، ثم استطرد متسائلاً:
-إيه يا ابن العم، جاي في مصلحة ولا زيارة؟
تنحنح "منذر" في خفوتٍ قبل أن يجيبه بنبرته القوية الرنانة:
-الاتنين، عندي شغل قريب منكم هنا، فقولت أعدي أسلم على الحبايب.
رد "بدير" في امتنانٍ وتقدير:
-الله يسلمك، ابن أصول وفيك الخير .. والحاج "طه" أخباره إيه؟ و"دياب"؟
تنهد وهو يرد:
-كلنا تمام وفي فضل من ربنا.

مال "بدير" نحوه يسأله وقد استند بكفيه على رأس عكازه:
-إيه مش ناوي تتجوز زي أخوك؟
بدت آثار المفاجأة السارة جلية على ملامحه، التفت في بهجة نحو رفيقه يهنئه بعد أن نهض من مكانه ليحتضنه مجددًا:
-مبرووك يا "تميم"، بالله ما أعرف، والله فرحتك أوي.
رد الأول مجاملاً:
-الله يبارك فيك يا صاحبي، مش ناوي تعملها إنت تاني؟

قال معترضًا على الفور وتلك النظرة المهمومة بائنة على تعابيره:
-لا يا سيدي، كفاية مرة، وأديك شايف لعنة الجواز عاملة فينا إيه!
علق عليه "بدير" بنبرته الرزينة:
-ربنا يصلح حال عباده، بكرة تقابل بنت الحلال اللي تستاهلك يا "منذر".
قال له بصوتٍ فيه مسحة من الأسى:
-أنا راضي بنصيبي بعد المرحومة.

أصر عليه:
-الله يرحمها، بس دي سنة الحياة، الأمر مايسلمش من واحدة تاخد بالها منك، تراعيك وتشوف شئونك، وتجيب عيال يشيلوا اسمك ويكونوا امتداد ليك.
ضغط "منذر" على شفتيه قليلاً، وقال:
-اللي فيه الخير يقدمه ربنا.
هتف "تميم" عاليًا ومستخدمًا يده في الإشارة:
-هاطلبلك شاي ولا تحب أجيب قهوة، ولا أقولك، نجيب فطار أجدع من ده كله و...
قاطعه معتذرًا في لباقةٍ:
-لا الله يكرمك، أنا تمام التمام، أنا بس جيت أرمي السلام وماشي.
رد مدهوشًا وقد تبدلت تعابيره للضيق قليلاً:
-هو إنت لحقت يا "منذر"؟

تنحنح يقول له بابتسامةٍ مهذبة:
-معلش يا صاحبي، ورايا مصالح كتير متعطلة، ويدوب الوقت يكفي، ده غير إن ورايا مشوار سفر طويل، خليها وقت تاني.
-طب عاوز أشوفك، هنتقابل إزاي؟
-على تليفون بقى، إن أنجزت بدري هاعدي عليكم.
أخرج زفيرًا بطيئًا من جوفه قبل أن يرد:
-ماشي يا ريس.
لوح "منذر" بيده يودعهما:
-أشوفكم على خير، مع السلامة!
-في حفظ الله!

راقبه "تميم" بعينيه حتى توارى عن أنظاره واختفى في الزحام، انتبه لجملة والده حينما استطرد يشكر مجيئه لزيارتهما:
-فيه الخير ابن "طه".
رد "تميم" يؤيده في مدحه والثناء عليه:
-عيلة "حرب" كلها ولاد أصول ويعرفوا في الواجب يابا.
-معاك حق.
رفع "تميم" يده ليضعها أعلى رأسه ليفركها بحركة دائرية وهو يقول بنبرة عازمة:
-طيب يابا، أنا هاروح أقف على إيد العمال، وأشوف الطلبية اتقفلت ولا لسه
أومأ برأسه يرد عليه:
-ماشي يا ابني.

مضى اليوم على كلتيهما بهدوءٍ ودون أن يعكر صفوه أي شيء، فخالهما "خليل" سافر في مأمورية عمل، وزوجته -الحشرية- غادرت أيضًا لتذهب في زيارة قصيرة لعائلتها بالبلدة، وبالتالي ترك لهما المجال والحرية لمزاولة عملهما بعربة الطعام، مع فارق بقاء والدتهما "آمنة" بالمنزل لشعورها بالإعياء. لم تجد الفتاتان أي وقت لإضاعته وعملتا بجدٍ لإرضاء الزبائن وتحصيل النقود، وضعت "فيروزة" السندوتش الآخر الذي انتهت من تغليفه في الكيس الورقي، وأضافت معه بعض المناشف الورقية لتدير رأسها في اتجاه أختها، ثم استطردت تقول بلهجةٍ جادة:
-بأقولك إيه عاوزين نقفل بدري شوية عشان نشوف ماما، شوفتي شكلها عامل إزاي النهاردة، طول اليوم مأريفة.

لم ترفع "همسة" عينيها إليها، بل بقي تركيزها منصبًا على قلي شطائر اللحم وهي ترد عليها:
-شكلها خدت دور برد.
عللت التعب الذي أصاب والدتها قائلة:
-ما ده الموسم بتاعه، وناس كتير تعبانة...
توقفت للحظة عن الكلام لتسلم الطلب لزبونها وابتسامة عملية تزين وجهها، ثم تابعت بصيغة آمرة ويدها تمسح بمنشفة نظيفة الرخامة الملطخة ببقايا المسطردة:
-المهم خلصي اللي في إيدك عشان أسلمه ونرجع لماما.

هزت رأسها وهي تقول:
-ماشي .. على طول.
لم تلاحظ إحداهما هذين الشابين المرابطين في نقطة تواجههما مباشرة، وكأنهما يتربصان بهما بشكلٍ مريب ويدعو للقلق. نفخة خفيفة لبقايا السيجارة الزهيدة الممسوكة بين إصبعيه قام بها "شيكاغو" قبل أن تتحول نظراته نحو "حمص" الذي سأله بتأهبٍ:
-هما دول؟
أجابه وهو يلفظ الدخان من بين شفتيه:
-على حسب كلام المعلم "ناجي" مافيش إلا هما في المنطقة.

سأله من جديد كإجراءٍ احترازي حتى لا يتسببا في إحداث الفوضى دون داعٍ:
-يعني إتأكدت منهم ولا هنعمل فورتينة (مشكلة) على الفاضي؟
قال بنفاذ صبرٍ وهو يلقي بعقب سيجارته ليدعسه تحت قدمه بحذائه القديم:
-يا ابني أنا لفيت الكورنيش كذا مرة ومافيش إلا هما، ده غير إني سألت كام واحد من اللي واقفين بيبيعوا بالمحسوس عن اللي حصل مع الريس "تميم"، وقالوا عن اللي شافوه، والكل قال هي البت دي.

توجهت نظراته نحو "فيروزة" التي تناول أحدهم كيسًا مليئًا بالطعام، فرك "حمص" كفيه معًا وقال بنبرة توحي باستعداده:
-مية مية، كده احنا في السليم، جاهز يا بونط؟
تبدلت نظرات "شيكاغو" للشراسة على نحو مخيف قبل أن ينطق:
-جاهز يا برنس، بينا.

وجهٌ قميء منفر رمقها بنظرة غريبة تعكس شرًا وخبثًا وهو يدنو من العربة حينما حدقت نحوه بتلقائية من النافذة أمامها، كان ممسكًا بعصاه غليظة؛ أو ما يطلق عليها "شومة". راودها شعورًا غير مريح تجاهه، فله تعابير شيطانية تبعث الانقباض، لم تستطع إبعاد أنظارها عنه، ولكن اكتسى وجهها بتعابيره الجادة حينما بات في مواجهتها مباشرة، وبرسمية بحتة بادرت "فيروزة" قائلة له:
-معلش احنا قفلنا الأوردرات و...

قاطعها "شيكاغو" بابتسامة وضيعة، وتلك النظرات الملبكة للأبدان تجتاح عينيه:
-احنا مش جايين في أوردر يا حلوة.
عبست ملامحها، وقطبت جبينها مرددة في استغرابٍ لا تنكر أنه وتَّرها:
-نعم؟
انتبهت "همسة" للكلام المريب الذي شحنت به الأجواء وقد كانت في البداية منهكمة في غسل أدوات الطهي، تحركت حدقتاها لتتجول على وجه الرجل الآخر الملاصق لذاك الفظ حينما استطرد:
-سمعتي عن المثل اللي بيقول اللي مالوش كبير بيشتريلوا كبير؟

نظرت "فيروزة" لكليهما شزرًا قبل أن ترد بلهجتها المزعوجة:
-أفندم؟! إنتو جايين تهزروا هنا؟
تجاهل عبارتها ليضيف بكلمات موحية بشرٍ قادم وهو يرفع عصاه عاليًا ليلوح به:
-وإنتو غلطتوا في كبيرنا!

كانت طريقته مستهلكة في بث الخوف، لكنها فعالة في التأثير على النفوس، وبالرغم من تلك الرجفة التي تسللت إليها إلا أنها قاومت شعورها بالخوف ووأدته في مهده قبل أن يتمكن منها لترد ببسالةٍ:
-كبيركم مين ده؟ هو احنا نعرفكم أصلاً؟!!!
قست نظراته عندما جاوبها:
-لأ متعرفوناش! بس احنا رجالته، واللي يمسه يمسنا.

استجمع جأشها وتغلبت عن خوفها الذي تضاعف قليلاً لترد بهدوءٍ حذر:
-طب امشي من هنا، والله يسهلك، احنا مش عاوزين مشاكل مع حد
أولته ظهرها لتستدير نحو أختها، ثم دمدمت بصوتٍ خفيض، وكأنها بذلك تطرد الخوف قبل أن يتمكن منها:
-هي ناقصة بلاوي على آخر الليل، شكلهم مبلبعين حاجة.
على عكسها كانت "همسة" تتطلع إليهما في ارتعابٍ، لعقت شفتيها مرددة بصوتٍ مهتزٍ:
-قلبي مقبوض يا "فيروزة"، حاسة إن ...

لم تكمل جملتها للأخير، فقد لمحت واحدًا منهما يرفع عصاه في الهواء ليضرب بها نافذة العربة، فتهشم زجاجها، وكردة فعل تلقائية مذعورة جذبت أختها نحوها وهي تصرخ منادية إياها في هلعٍ حتى لا تتناثر القطع الحادة على ظهرها:
-حاسبي يا "فيروزة"!

وبأعجوبة شديدة نجت الأخيرة من ضربة قاسية كادت أن تطالها من طرف العصا، استدارت "فيروزة" تنظر في حنق لذلك الوغد الذي شرع في تدمير حلمها بتحطيم واجهة العربة وتمزيق الإعلانات الملتصقة بها، انتابتها نوبة من الهياج فصرخت به لتذود بشراسة منقطعة النظير عن خاصتها:
-إنتو اتجننتوا، إيه اللي بتعملوه ده؟

على الفور ترجلت من العربة لتواجههما بمفردها وصرخات أختها المذعورة التي تتوسلها بالابتعاد عنهما تصدح من خلفها، كانت مغيبة فلم ترَ سوى تصرفهما الشنيع. انهال "حمص" بعصاه على جانب العربة ليُحدث التواءً جسيمًا ببدنها، حاولت إيقافه فاندفعت تلكم ظهره بقبضتيها وهي تلعنه، لكنه دفعها من كتفها بخشونة فارتدت للخلف وسقطت على ظهرها، جثت "همسة" على ركبتيها أمامها ترجوها باستماتة وهي تجاهد لمنعها من العودة إليه:
-لأ يا "فيروزة"، احنا مش أدهم!

صرخت بهيسترية:
-سبيني عليهم.
ردت ببكاءٍ مفزوع وصارخ:
-بلاش عشان خاطري، هيأذوكي
تفاجأ المتواجدون بالمكان بما يحدث من تخريب للعربة، حاول بعضهم التدخل لإيقافهما لكن تهديد "شيكاغو" شديد العدائية والمقترن بإشهار سلاحه الأبيض ذو النصل الحاد في يده الأخرى أجبر أشجع الرجال على التراجع بعد أن تلاشت بوادر الشجاعة، دار في المكان وهدد صائحًا بصوته الجهوري:
-محدش يتدخل لنجيب كرشه على الأرض!!!!!!

ولكونه ذائع الصيت في تصرفاته الإجرامية، لم يتجرأ أحدهم على إيقافه، وإلا لتحول لجثة هامدة، وتركوه يفعل ما يحلو له، صرخت "فيروزة" مستنجدة بمن حولها علها تجد من يتصدى لهما:
-الحقونا يا ناس، هاتسيبوهم كده؟

ولكن لا حياة لمن تنادي، الكل خذلها في لحظة، انعدمت الشجاعة في نفوسهم، واختفت المروءة فأداروا لها ظهورهم خوفًا على أعمارهم مما سحقها تمامًا، احتضنتها "همسة" بكل قوتها وجثمت عليها حتى لا تتحرر منها وتتورط بتهورها في تلك اللحظات المصيرية في كارثة قد تودي بحياتها، امتزجت أصوات صرخاتهما مع بكائهما المرير، وفي دقائق معدودة كانت النيران تضرم في العربة لتحترق روح "فيروزة" معها. وما إن انتهى "شيكاغو" من عمله حتى استدار نحوهما، رفع عصاه الغليظة أمام وجهيهما يلوح لهما بها وصوته الخشن يجلجل عاليًا لينذرهما:
-ده درسك ليكم عشان لما تتعاملوا مع أسيادكم تعرفوا مقامكم وتلزموا حدودكم!

وضع "حمص" يده على كتف رفيقه وهو يقول بنبرته المزهوة:
-الريس "تميم" مش هافية عشان شوية نسوان كسر تعلم عليه، لأ وراه رجالة ينسفوا اللي يقرب منه!
كركر "شيكاغو" ضاحكًا قبل أن يبتر ضحكته فجأة ليهينهما:
-سلام يا بياعين الكبدة!

رحل كلاهما تاركين ألسنة النيران تلتهم العربة وتقتلع روح "فيروزة" معها، رأت بأم عينيها ما سعت لتحقيقه يذهب سدى ويتحول إلى رماد، لم تتحمل قساوة الأمر، كان لزامًا عليها أن تنتقم ممن أحرقها حية، دفعت أختها عنها بقوة مستخدمة كفيها، أسقطتها إلى جوارها ونهضت تركض في اتجاه الطريق، تأوهت "همسة" من الألم، وصرخت تناديها:
-رايحة فين يا "فيروزة"، استني عشان خاطري!

قاومت الألم الشديد ولحقت بها، اعترضت طريقها لتستوقفها، ورجتها بأنفاسٍ متهدجة:
-وحياة أغلى حاجة عندك تخليكي هنا!
كانت مدركة أن أختها حينما تنال منها عصبيتها العمياء تتحول للجنون، وتطيح بكل شيء خلال غضبها الأهوج، تملصت "فيروزة" منها صارخة بلا وعي، وغضبها يتعاظم في عينيها كحمم البركان الملتهبة:
-ابعدي عني، والله لأوريه "تميم" ده، قسمًا بالله لأحرق قلبه زي ما حرق عربيتي، مش هاسيبه إلا لما أرجعه السجن اللي جه منه!

كالمجذوبة، والفاقدة لأهليتها، اندفعت عبر الطريق غير عابئة بحركة السير فيه، قطعته عدوًا وبشكلٍ جنوني وسط أبواق السيارات المتذمرة لرعونتها، فشلت "همسة" في إيقافها، فما كان منها إلا اللحاق بها وهي تصيح بها كرجاء أخير بائس حتى بح صوتها:
-يا "فيروزة" استني!

ركضت في اتجاه دكان عائلة "سلطان" الذي يطل على ناصيتين؛ إحداهما للزقاق الجانبي، والآخر لطريق فرعي يصل في نهايته للشارع الرئيسي، كانت كامل نظراتها المحتقنة مسلطة على وجه "تميم"، وقفت قبالته وهو جالس أمام المدخل وصدرها ينهج علوًا وهبوطًا، مسحت بيدها عبراتها التي انسابت بلا توقفٍ، حدجته بنظرة مميتة خالية من الحياة، ثم نادته عاليًا بنبرة أقرب للصراخ بصوتها المجروح:
-إنت يا رد السجون، يا خريج اللومان!

تفاجأ "تميم" من النداء الأنثوي الفج وقد كان مشغولاً بمراجعة الفواتير مع والده، التفت برأسه نحو صاحبة الصوت ليتطلع لها في استنكارٍ وغضبه قد بدأ في الظهور على ملامحه، عرفها بمجرد التطلع إلى وجهها .. علامات الاستهجان غطت تعابيره .. كذلك ضاقت نظراته وهو يتأمل الحالة الفوضوية المسيطرة عليها، تبادل مع والده نظرات حائرة حينما كررت ندائها:
-إنت أطرش؟ رد عليا يا بلطجي!

كانت الحركة شبه هادئة في المنطقة في ذلك التوقيت الليلي بعد انصراف الأغلب ليعودوا إلى منازلهم، لكن بصوتها المرتفع والجلبة التي أحدثتها بدأ القليل في التجمع ليتابعوا بفضولٍ ما يدور. وبتشنجٍ وغيظ نهض "تميم" عن مقعده بعد إهانتها الوقحة التي تكررت على مسامعه، استدار متجهًا إليها ليصبح في مواجهتها، حدجها بنظرة شرسة، ثم سألها بشكلٍ مباشر:
-مين ده اللي بلطجي؟ إنتي بتكلميني أنا؟

لوحت بيدها مهينة إياه:
-أيوه إنت يا معدوم الرجولة! يا حيوان! بتحرقلي عربيتي ومفكرني هاسيبك؟
استقام "بدير" في وقفته لينظر إلى تلك الشابة بنظراته الدقيقة المتفحصة، تنشطت ذاكرته وعرفها دون عناء؛ إنها ابنة جارتهم القديمة "آمنة". انزعج من تطاولها على ابنه، ومع هذا سألها بصوته الرخيم وبهدوءٍ حذر حتى لا يقود ذاك الجدال المحتدم غير مفهوم الأسباب لمنحنى آخر:
-هو في إيه بالظبط؟

جاوبته بصراخٍ:
-اسأله الكلب ده!
نعتت "تميم" بما لا يليق فاستشاط غضبًا، ولولا وجود والده لكان له كلام آخر يردع به لسانها المنفلت، تساءل "بدير" بوجومٍ:
-إيه اللي بيحصل يا "تميم"؟
أجابه بحنقٍ وعروقه تنبض بدمائه التي طالها الهياج:
-مش عارف يابا، أهي بلاوي على آخر الليل!

خطوة جسورة تقدمت بها "فيروزة" نحوه شحذت معها قواها الغاضبة بالكامل، ودون سابق إنذارٍ رفعت يدها في الهواء لتهوى به على وجه "تميم" لتصفعه في غفلة منه قبل أن تتهمه علنًا:
-باعتلي شوية بلطجية يحرقوا عربيتي يا جبان، بتردهالي يا حشاش!
باغتته بصفعتها المهينة وعبثت برجولته، احمر وجهه واِربد بالمزيد من الغضب المحموم .. كما اندفعت الدماء الثائرة تغزي عروقه .. همَّ بالانقضاض عليها والإطباق عليها من عنقها ليخنقها وهو يهدر بها في عصبية مبررة:
-إنتي اتهبلتي يا بت!!!!

ولكن وبكل مهابةٍ وقوة ضرب "بدير" بعكازه الأرضية صائحًا في ابنه ليوقفه قبل أن يتهور ويبادلها صفعة حتمًا ستؤخذ عليه:
-عندك يا "تميم"!!!
لم يهتز ل "فيروزة" جفن، ولم ترتعد أو تندم من فعلتها تلك، بل شعرت أنها شفيت جزءًا من غليلها بإيلامه هكذا بوقاحةٍ تليق به، وبالانتقاص من كرامته بإحراجه وإذلاله بذلك الشكل المهين. هدر "تميم" يقول لوالده بصوته اللاهث من الغضب وقد استبد به جنونه وسيطرت عليه انفعالاته الجامحة:
-دي بتمد إيدها عليا وسط الخلق وعاوزني أسكت؟

أنذره "بدير" بصياحه الآمر به ونظراته التي تعكس سطوته:
-ولا كلمة، وقفتي مش عجباك؟
كبخ غضبه مرغمًا ليرد:
-على دماغي يا حاج، بس آ.....
إشارة أخرى من عيني والده جعلته يصمت مضطرًا، وجه حديثه إلى "فيروزة" يعاتبها بلهجةٍ جمعت بين الشدة والحزم:
-مايصحش اللي عملتيه ده؟ لو ليكي حق عنده تعاليلي، لكن مافيش حُرمة بتمد إيدها على راجل و...

قاطعته متعمدة احتقار ابنه وإهانته بقساوة أكبر:
-ده لما يكون راجل أصلاً!!!!
استفزته عبارتها تلك وأخرجته عن شعوره، لذا صاح بها بعصبيةٍ جمة وهو يهددها بيده التي تكاد تطالها لتفتك بها وتحطم عظامها وعيناه تقدحان بالشرر المستطر:
-أنا راجل غصب عن اللي خلفوكي، ما تلمي نفسك يا بت إنتي وإلا هاقتلك!

ردت بجراءة تتحداه فيها معبرة عن غضبها المندلع وهي تلهث من فرط انفعالاتها الثائرة:
-مش خايفة منك يا قتال القتلة، وأنا والله ما سيباك، وخلي الناس دي كلها تشهد عليا، أنا هاحبسك تاني، ومش هتنازل عن حقي لو فيها موتي يا بلطجي!
ثم حدجته بنظرة نارية قبل أن تتركه يحترق كمدًا في مكانه، ارتبكت "فيروزة" في حقه -وهي في قمة غضبها- خطئًا جسيمًا لن يغفره، وقبل أن يتصرف برعونة أمسك به والده من ذراعه ليستوقفه قائلاً له بصرامةٍ:
-مكانك يا "تميم"!

هتف بتشنجٍ، وجسده ينتفض من شدة غضبه:
-مش سامع يابا بتغلط فيا إزاي وبترمي بلاها عليا بنت ال ..... دي؟! أنا مش هاسيبها!
شدد أباه من قبضته عليه وجره رغمًا عنه إلى داخل الدكان وهو يقول له:
-سيبها دلوقتي
-إنت هتصدقها يابا وتسيبها تمشي كمان! ومين هايجبلي حقي منها بعد الجُرسة دي؟
رد حاسمًا الأمر:
-أيوه هاسيبها...

ثم تابع موضحًا أسبابه:
-ما هو مش طبيعي اللي عملته ده، أكيد في حاجة حصلت وإنت ليك يد فيها!
نظرة استنكارٍ كست وجهه عقب لومه المتواري، أحس بغليان يأكل جسده الذي تصلب وانتفض، ثم هتف مدافعًا عن نفسه بصوته الذي اكتسب نبرة هائجة:
-ده أنا جمبك طول اليوم يا حاج متنقلتش من مكاني!
غامت عينا "بدير" وهو يعقب عليه:
-يبقى الحكاية فيها إن! واهدى كده خلينا افهم إيه أصل الموضوع!

كور "تميم" قبضة يده وضرب بها الحائط في جنونٍ حتى لا ينفجر من شدة غيظه، شعر بأحشائه تحترق، بلهيب ساخن يندفع من عينيه، وبأنفاسٍ هادرة صاح يتوعدها وقد حل الإظلام على قسماته:
-وأنا مش هاسيبها ...!!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة السادسة عشر بقلم منال سالم


افتقرت إلى الشجاعة واختبأت خلف أحد الأكشاك المغلقة تراقب في فزعٍ تلك المواجهة المحتدمة بين أختها و"تميم"، لم تكن مثلها جريئة، مندفعة، تناطح من يتحداها الرأس بالرأس، أصابها الجزل الشديد حينما رفعت أختها يدها لتصفعه، ظنت أنها نهايتها المحتومة، ودق قلبها في ارتعابٍ مهلك .. كتمت أنفاسها، وحاولت جمع جأشها وتحفيز حواسها لتذهب إليها وتزيحها من طريقه قبل أن يفتك بها، لكن لم تسعفها قدماها، تجمدت كالصنم، وبقيت أنظارها تراقب في خوفٍ ورجاء..


 
حبست "همسة" أنفاسها، وبقيت دقات قلبها تنبض بعنفٍ حتى كادت أن تصم أذنيها، تنفست الصعداء بمجرد ابتعادها عنه، انتظرت حتى باتت قريبة منها، فهرعت إليها وألقت بنفسها في حضنها حامدة الله في نفسها أنها ما زالت على قيد الحياة، أفاقت من فزعها وجذبتها بعيدًا عن الأنظار لتلومها في تلهفٍ ونظراتها تتحرك بتوترٍ كبير:
-ليه كده يا "فيروزة"؟
أجابت أختها بجمودٍ ووجهها القاسي مشدود على الأخير:
-يستاهل!


 
أمسكت بها من ذراعيها تهزها في عنف وهي تواصل لومها المرتعب:
-إنتي كده ضيعتي نفسك، حد يعمل اللي عملتيه ده؟!!!
نفضت قبضتيها عنها، وقالت بألمٍ وهي تحملق فيها بعينين مشعبتين بحمرةٍ ملتهبة:
-واللي عمله فينا بالبلطجية بتوعه عادي؟ تعبنا راح كله يا "همسة"، سمعاني؟ احنا اتدمرنا بسببه!
علقت عليها بأنفاسها المتهدجة:
-أنا خايفة عليكي، هو كده مش هايسيبك، اللي زي ده هياخد حقه منك، ومش بعيد آ...

هربت الكلمات من على طرف لسانها، خشيت أن تبوح لها بما ينبئها حدسها، بأنها فتحت على نفسها بابًا من الجحيم حينما اعتدت عليه، وقبل أن تكمل تفسيرها سبقتها "فيروزة" قائلة بنبرة عازمة أظهرت قوة غريبة:
-وأنا مش هاستنى لما يقرب مني، أنا لسه مخدتش حقي أصلاً
تدلى فكها في رعبٍ أكبر، ورمشت بعينيها تسألها وقد تشوش ذهنها بالكامل:
-هتعملي إيه تاني؟
نظرة غامضة مليئة بالشر والقسوة احتلت حدقتيها، اندفعت للأمام تجيبها:
-هاتشوفي.


 
سارت "همسة" خلفها وهي تحاصرها بأسئلتها الخائفة، وجدتها تقف عند ناصية الشارع تراقب بقايا حلمها المحترق بعينين تعكسان ألسنة اللهب المتأجج .. مسحت "فيروزة" دمعاتها المتحسرة ودست يدها في جيب بنطالها الجينز لتخرج منه هاتفها المحمول، كانت شاشته قد أصيبت بالشروخ جراء سقطتها العنيفة قبل قليل، عبثت بالهاتف لتتأكد من عمله، قليل من الارتياح تسرب إلى روحها المتألمة وقد وجدته يستجيب لها، ضغطت على قائمة الأصدقاء لديها، انتقت اسم واحدة من المقربات منها، ثم اتصلت بها ووضعت الهاتف على أذنها، واليد الأخرى انغرست في شعرها الفوضوي، هتفت فجأة بصوتٍ مضطرب لكنه ثابت:
-أيوه يا "علا"، أسفة إني بأتصل بيكي في الوقت ده!

أتاها صوت رفيقتها يقول في تفهمٍ:
-لا ولا يهمك احنا لسه صاحيين.
حررت "فيروزة" أناملها من شعرها ودارت حول نفسها في المكان قائلة لها على عجالةٍ:
-أنا محتاجة مساعدة من أخوكي "ماهر"، ممكن أكلمه؟
وبالرغم من استغراب الأخيرة لطلبها إلا أنها ردت بترحابٍ:
-تحت أمرك يا حبيبتي، هو راجع من برا، ثواني أروحله الأوضة أوديله الموبايل.
-شكرًا يا "علا".


 
قالتها وهي تعض على أناملها في توترٍ، كانت تحاول جاهدة ترتيب أفكارها في رأسها حتى تسرد له الكارثة التي حلت بها كاملة، انتفضت وشعرت بقليل من التشتت وصوت "ماهر" الهادئ العميق يقول لها:
-مساء النور، إزيك يا "فيروزة"؟
تلبكت وهي تجيبه:
-"ماهر" بيه، أنا أسفة إني بأزعجك، بس حصلت معايا مصيبة ومافيش غيرك اللي هايقدر يساعدني
جاء رده جادًا:
-خير، قوليلي في إيه؟

أجابته على عجلٍ بمقتطفاتٍ مما حدث، حاولت ألا تغفل عن شيء، فيما عدا ذلك الجزء الخاص بمواجهتها مع "تميم"، فقد تعمدت إخفائه حتى تتجنب لومه مثلما فعلت أختها، فالأهم عندها حاليًا التركيز على موضوعها الرئيسي، وليس أي فروع جانبية، هزت رأسها وكأنها تراه أمامها حينما أمرها بصوته ذي اللهجة الرسمية:
-حالاً تروحي تعملي محضر إثبات حالة في القسم التابع ليه منطقتك، وأنا هاحصلك على هناك.


 
لمحت إلى صدامها معه فادعت مظهرة القليل من قلقها الذي تقاومه:
-أنا خايفة يتعرضلي يا "ماهر" بيه.
هتف بجدية ليؤكد لها ودون أن ترتفع نبرته:
-البلد فيها قانون، متخافيش، واحنا بنعرف نتعامل مع البلطجية والمجرمين.
تنهدت في ارتياحٍ قبل أن ترد عليه:
-كلامك طمني والله.
أكد عليها من جديد حتى لا تتقاعص:
-ماتضيعيش إنتي وقت وروحي على هناك، مفهوم يا "فيروزة".
هزت رأسها قائلة:
-حاضر.


 
أضاف "ماهر" بصوته الهادئ:
-وهابعتلك رقمي في رسالة عشان تسجليه، وتخليكي معايا على الخط.
كانت ممتنة لوقوفه معها في أزمتها، فتنحنحت تشكر جميله:
-أنا مش عارفة أقول لحضرتك ايه؟
رد عليها بنبرته الثابتة:
-متقوليش حاجة، وطمنيني لحد ما أجيلك.
شكرته من جديد بامتنانٍ أكبر:
-حاضر، شكرًا يا "ماهر" بيه، ربنا يخليك لينا.

أنهت معه الاتصال وابتسامة راضية أضاءت عتمة وجهها، انتاب الفضول "همسة" لتعرف ما دار بينهما خلال تلك المكالمة، اعترضت طريق أختها تسألها واللهفة تملأوها:
-قالك إيه الظابط أخو "علا"؟
جذبتها من ذراعها لتدفعها للسير معها قبل أن تجيبها:
-هاحكيلك، بس تعالي معايا الأول.

بصعوبة جمة ومجهودٍ غير يسير أقنعه بترك الدكان، وإرجاء كافة الأعمال ليعود معه إلى منزله حتى يضيع عليه فرصة الاشتباك مع تلك الفتاة الطائشة التي خرقت القواعد، وتجاوزت الأعراف والأصول بتطاولها باليد على ابنه. أجبره على الانصياع لأوامره بالرغم من الثورة العارمة المندلعة بداخله، وليضمن بقائه بعيدًا عنها أصر على الذهاب معه، وقف كلاهما أمام مدخل البناية في حالة تحفز مبررة، استطرد "بدير" يأمره بلهجته غير القابلة للنقاش:
-اطلع البيت حالاً، سامعني؟

سدد "تميم" لوالده نظرة عكست غليانه المتأجج، نفخ بصوتٍ مسموع، وأشاح بوجهه للجانب الآخر وقد بدا كامل جسده متصلبًا من شدة عصبيته المكتومة، هزه والده معاودًا إملاء أوامره عليه:
-"تميم"، اتحرك! مستني إيه؟
رفض الاستجابة له، فقال بصوته الحانق وتلك الملامح المظلمة تكسو وجهه:
-مش هامشي يابا!!
رد عليه "بدير" بحدة طفيفة ضاغطًا عليه:
-قولتلك أنا هاتصرف معها.

غامت نظراته أكثر، ورد معارضًا بشدة:
-الموضوع ده بالذات يخصني، ده مس كرامتي و...
قاطعه بحزمٍ:
-لما تهدى الأول اسيبك تتعامل، لكن دلوقتي استحالة! إنت هتولعها حريقة
-هي ولعت خلاص يابا.
حاول أن يحدثه بعقلانية، فقال له بنبرة أبوية:
-طيب، اطلع لمراتك، هي مستنياك من بدري.
وكأنه يُحادث الفراغ، انفجر فيه هادرًا بنبرة تعبر عن جزء محدود للغاية مما يستعر بداخله:
-أنا عاوز حقي يابا.

علق عليه مشددًا بنبرته الرزينة ودون أن تطرف عيناه:
-حقك هانجيبه بالأصول، ماشي؟ بالأصول ومش بحاجة تانية! ويا ريت مراتك متعرفش حاجة عن اللي حصل.
صاح في غلٍ وعروقه تنبض بقوةٍ:
-ده الحتة كلها اتفرجت عليا وبنت ال ...... بترفع ايدها عليا و....
قاطعه مؤكدًا:
-محدش هيجرؤ يتكلم بالسوء عنك حتى لو هي غلطت، إنت اتصرفت صح
رد بألم وغضبه يتضرج في وجهه:
-دمي محروق يابا، حاسس ببركان بيغلي في نافوخي، مش قادر أهدى خالص!

كان "تميم" غير راضٍ بالمرة عن إذلاله بتلك الصورة المهينة على يد امرأة دون أن ينال لكرامته المبعثرة، ظل ذلك المشهد متجلي في عقله ليزيد من حنقه ويضاعف من غضبه، لاحظ "بدير" قساوة تعابيره، بالإضافة إلى ذلك التقلص المريب الذي أصاب وجهه، حاول أن يخرجه من حالته المكبوتة فوعده
-أنا هاتصرف وأجيبلك حقك، وزي ما وعدتك الموضوع ده هيتجاب أراره النهاردة، اطلع إنت بس لمراتك.

كان عنيدًا بشكلٍ رهيب، رفض الإصغاء له وظل باقيًا في مكانه ينفث عن غضبه بإشعال السجائر وتدخينها بشراهةٍ، لازمه والده مضطرًا عاقدًا النية على المبيت بجواره، وإن بقيا هكذا واقفان في مكانهما حتى ييأس الأخير ويتخلى عن عناده.

صدمة هبطت كالصاعقة المدمرة فوق رأسه حينما تساءل مصادفة عن سبب اندلاع الحريق بعربة الطعام المملوكة للفتاتين، والتي دوى صداها في الأرجاء كما تنتشر النيران في الهشيم، بالطبع تفاجأ من كون أتباعه هم من أضرموا فيها النيران وقاموا بإحراقها، وما زاد الطين بلة تباهيهم المستفز بذلك. صال وجال، وهاج وماج، وانتفضت عروقه وهو لا يستوعب حجم الكارثة التي وقعت على الجميع. ركل "ناجي" بقدمه صينية الأكواب الزجاجية الموضوعة على طاولة قصيرة الطول بكل عصبيته لتسقط بما فيها على الأرضية، تهشم الزجاج وتبعثر في كل مكانٍ مسببًا الفوضى، ثم هدر بصوته الغاضب لاعنًا "حمص" وشيكاغو":
-الله يحرقكم إنتو الجوز! عملتوا كده ليه؟

أجابه "شيكاغو" بنوعٍ من التفاخر وبوجهه البادي عليه علامات الإجرام:
-كنا بنوجب مع الريس "تميم" يا كبير.
رد في حنق وعيناه تطقان بالغيظ:
-إنتو وقعتوا الدنيا في بعض، ضربتوا كرسي في الكلوب، والكل هيولع.
علق في برودٍ مستفز:
-متكبرش الحكاية يا كبير، دول تمامهم صويت ولطم، مافيش أكتر من كده.

هدر به بنبرته المغتاظة وهو يدفعه من كتفه في قسوةٍ:
-إنت غبي ولا بتستعبط؟! دي مصيبة يا هباب البرك! ربنا يستر ومايقلبش علينا!
فرك "حمص" طرف ذقنه متسائلاً بسماجةٍ:
-واحنا هنعرف منين إنه مش هايعجبه شغلنا؟
التفت "ناجي" ناحيته يعنفه بحدةٍ وصراخ:
-حد طلب منكم خدمة؟ ولا قولنالكم حاجة، إنتو أغبية ومخكم فيه جزمة! بتتصرفوا من دماغكم ليه؟

برر له "شيكاغو" قائلاً بوجهه الممتعض:
-يا معلم فكرنا لما هنعمل كده هيرضنا عننا و آ.....
قاطعه في غلٍ:
-ده مش بعيد يولع فيكم بعد ما يعرف!
حك "حمص" طرف أنفه وهو يجيبه بلسانٍ شبه ثقيل:
-كله بيعدي ياكبير، روق إنت بس، تحب ألفلك سيجارة وصاية؟

نظر له شزرًا، فقد كان يبدو عليه أثر تعاطي تلك المواد المخدرة، بصق عليه ثم قال:
-يخربيت الزفت اللي بتسفوه، أهوو ودانا في داهية!
تبادل كلاً من رفقي السوء نظرات غير مبالية أو حتى نادمة عما اقترفا، وعلى عكسهما كان يدور "ناجي" حول نفسه في دوائر فارغة يعتصر عقله ويفكر بعمقٍ عله يجد الحل الملائم لتلك المعضلة العويصة، تمتم مع نفسه متسائلاً وهو يكز على أسنانه:
-طب أتصرف إزاي دلوقت؟

استغرق في أفكاره الانتقامية الهوجاء فلم يشعر بمرور الوقت، كانت نظراته قاتمة، واحتوت على قساوة مخيفة خاصة حينما أتت الأخبار السيئة عن احتراق العربة، إذًا الفتاة لم تكن تدعي بالباطل عليه، وهناك من أشعلها وزج باسمه في الأمر ليبدو متورطًا بشكلٍ مباشر فيه، وكأنه بذلك يخلق العداوة بينهما، وبالرغم من كم ما علمه إلا أنه لم يعرف بعد هوية المتسببين فيه التخريب، لكن الأوصاف التي قيلت عن أحدهم تنطبق بصورة كبيرة على واحدٍ ممن يشك فيهم، انتشله والده من سرحانه الواضح وقد شعر بالإرهاق يتغلغل في عظامه المسنة، فقال له بما يشبه الرجاء:
-مش كفاية كده يا "تميم"، اطلع بيتك خليني أتوكل على الله.

-يابا قولتلك امشي من بدري، بس إنت اللي رافض
-ما هو ما ينفعش أسيبك وإنت كده
-خلاص أنا هديت
-ربنا يكملك بعقلك، كل حاجة وليها حل، اطمن
ظن بكلماته تلك أنه سيسكن آلامه المعنوية، لكنها لم تفعل شيئًا سوى تأجيل رغباته الانتقامية لوقت يكون قادرًا فيه على الرد وبشراسة .. بدأت زخات المطر في الهطول بشكل خفيف بعد أن تجمعت السحب الكثيفة وكإنذارٍ مبكر عن زيادة حدتها، اعتبرها "بدير" فرصة جيدة لحث ابنه على الصعود، أشار له بعكازه:
-اطلع يا ابني، أديك شايف الجو بقى عامل إزاي، وبعدين مراتك قلقانة عليك.

ردت في ضيقٍ:
-ما أنا واقف أهوو تحت البيت، هاروح منها فين، وبعدين أنا مش فايقلها أصلاً.
وفجأة صدحت أبواق سيارات الشرطة في المكان فلفتت انتباه كلاهما، تركزت أنظارهما مع رجال الشرطة الذين ترجلوا منها، اقترب أحدهم وهو يرتدي زيًا مدنيًا ليسألهما بصوتٍ مرتفع لكنه رسمي:
-في واحد اسمه "تميم سلطان" ساكن هنا؟!

نظرة حائرة غامضة تبادلها "تميم" مع والده الذي كان يتطلع إليه في اندهاش، استدار برأسه ليرد على الضابط بتعابيره المدهوشة:
-أيوه أنا، خير يا حضرت الظابط؟
رمقه بنظرة دونية عبرت عن ازدرائه له قبل أن يأمر رجاله من خلفه بكلمة واحدة لكنها نافذة وهو يشير لهم بيده مُشعرًا إياه أنه يتعامل مع شخصية حقيرة نكرة:
-هاتوه!
رد محتجًا في حدة:
-يجبوني ليه؟ أنا معملتش حاجة!

تجاهله تاركًا لرجاله مهمة إلقاء القبض عليه، حاول "بدير" اعتراض طريقهم كردة فعلٍ تلقائية لحماية ابنه، وتساءل في جزلٍ:
-عاوزينه ليه يا حضرت الظابط؟ هو عمل إيه؟
أجابه بغموضٍ وتلك النظرة الاحتقارية تغطي ملامحه:
-في القسم هيعرف!

لم يتمكن من الجدال معه حيث انقض العساكر على "تميم" وجذبوه بقساوة وقوة نحو سيارة الشرطة، وبالرغم من اعتياده على مثل ذلك الأسلوب الجاف في التعامل إلا أن إهانته بتلك الصورة زادت من توحشه ومقاومته، تبعه "بدير" صائحًا:
-ماتقلقش يا "تميم"، أنا جاي معاك! وهاكلم المحامي ومعارفنا كلهم، اطمن!

رد عليه بنبرة قاتمة:
-كده ولعت على الآخر يابا!
دفعه العساكر دفعًا ليصعد في مؤخرة السيارة وكأنه بهيمة غير مكترثين بالإصابات المؤلمة التي تنال من جسده جراء خبطه عن قصدٍ وبقساوة. أدرك "تميم" من تلك المعاملة الحادة معه أن هناك من يكيد له، ورغم عدم الإعلان عن سبب القبض عليه إلا أن ما يراود عقله من ظنون بشأن تورطها في تلك المسألة كان قويًا.

ضمت كفيها معًا ووضعتهما في حجرها وهي تجول بعينيها المتوترتين على تفاصيل مكتب الضابط الذي تجلس أمامه بمفردها، حيث طلبت من أختها العودة إلى المنزل والبقاء مع والدتها ريثما تذهب لقسم الشرطة، استجمعت "فيروزة" جأشها وحافظت على صلابتها خلال إدلائها بأقوالها في البلاغ الرسمي الذي تقدمت به ضد "تميم" محاولة عدم الإغفال عن أي تفصيلة.

معاملة جيدة تلقتها في الداخل حينما أعلمت أحد الضباط بأنها على صلة بالضابط "ماهر"، والذي على ما يبدو كان الأسبق في إعلامهم بقدومها، لم تجد أي صعوبة في القيام بالإجراءات القانونية، وتم اصطحابها لمكتب أحد الضباط ذوي العلاقات القوية مع "ماهر"، استعلم منها بإيجازٍ عن مشكلتها قبل أن تسرد له الأحداث كاملة، ما دعم أقوالها أيضًا هو ذاك البلاغ الذي قام به أحد المواطنين ليعلن عن نشوب حريق في إحدى عربات الطعام الكائنة بمنطقة الكورنيش جراء الاعتداء السافر لأحد المجرمين، ولكن لم يجرؤ مقدم البلاغ عن الإفصاح عن هوية المتسبب في الحريق خوفًا على حياته من بطشه.

كانت "فيروزة" في حالة قلقٍ وحيرة مبررة، أخفت بمجهودٍ عظيم تلك الرجفة التي أصابت جسدها بمجرد أن وطأت ذلك المكان، امتدت يدها لتمسك بكوب عصير الليمون، وضعت طرفه على فمها ترتشف منه القليل حتى تبلل حلقها الذي جف كليًا، شعرت بالمذاق اللاذع يؤلم جوفها، ومع ذلك ابتلعته مجبرة وهي تترقب سؤال الضابط التالي. عبث "وجدي" بقلمه الحبري ونزع غطائه ووضعه عليه من جديد في لزمة مملة، وكأنها وسيلته لترتيب أفكاره، نظر إليها نظرة مطولة قبل أن يعاود سؤالها:
-يعني إنتي بتتهمي "تميم" ده بحرق عربيتك؟

أجابت دون ترددٍ:
-أيوه يا باشا.
ترك القلم من يده وسألها:
-وإيه الدافع اللي يخليه يعمل كده؟
شعرت بالقلق من سؤاله الروتيني، انتابتها الهواجس بأنه لا يصدقها، وربما تفتري عليه، ازدردت ريقها، ثم تنفست بعمق وجاوبته:
-معرفش يا حضرت الظابط
مط فمه، وسألها مباشرة من جديد:
-في عداوة بينكم؟
صمتت للحظة تحاول قراءة ما يدور في رأسه، ترددت في إطلاعه على تلك الكراهية التي نشبت بينهما فجأة دون أسباب حقيقية، ومع ذلك حسمت أمرها وباحت بتفاصيل كل شيء.

اقتادوه للقسم الشرطي، وتعاملوا معه بشكلٍ مهين مبعثرين كرامته الغالية بنعته بشتائم خارجة وألفاظ نابية تمس الوالدين، قاومهم "تميم" بخشونة مما زاد من تحاملهم عليه، كان أكثر وقاحة وعدائية وهم يجرونه للداخل، أجبروه على الجلوس على الأرضية في الردهة والأصفاد في معصميه منتظرًا السماح له بالدخول لغرفة الظابط المسئول عن التحقيق معه. لحق به والده ولم يتخلَ عنه، وقف قبالته، ولكن على مسافة ما يقول له:
-متقلقش يا "تميم"، أنا كلمت حبايبنا كلهم، ودلوقتي هنفهم في إيه.

رد عليه في قتامةٍ وعيناه تبرقان بوهجٍ غاضب:
-مش محتاج أعرف، ما هي باينة زي الشمس!
أضاف في تلهفٍ ليهدئه:
-كله هيتحل، حبايبنا زمانتهم جايين.
رد غير مبالٍ وبنبرة جافة ومخيفة:
-وحتى لو متحلش، هو بقى عندي!

لم يعقب عليه، فقد علم في قرارة نفسه إلى الذي يرمي إليه، وحدها فقط من تقف وراء تلك المهزلة المهينة، وحتمًا لن يمرر ذلك مرور الكرام بمجرد خروجه من هنا.
لحظاتٍ وامتلأ القسم بعناصرٍ من أفراد الشرطة من ذوي الرتب والمناصب العليا، وكأن هناك زارة استثنائية من أحد كبار المسئولين للتفتيش عمن فيه، كان المفاجأة الصادمة لمعظم العاملين به أن أغلبهم قد جاء للتوصية ب "تميم"؛ فصداقات والده الوطيدة مع أمثال اللواء "وفيق" أفادته كثيرًا. تبدلت المعاملة للنقيض، وتم انتزاع الأصفاد الحديدية من معصميه، واصطحابه لغرفة جانبية تستخدم لاستراحة الضباط. وبالرغم من المحاولات الجادة لتعويضه عما قابله من معاملة سيئة في البداية إلا أن ذلك لم يخفف من حدة الغليان المسيطر عليه.

في تلك الأثناء، جاء ضابط ما، مفتول العضلات، عريض المنكبين، ذو طلة مهيبة، وصاحب وجه صارم وتعابير جادة إلى القسم، ألقى عليه من يمرق بجواره التحية العسكرية مظهرين احترامهم له، ولج إلى غرفة مكتب الضابط "وجدي" قائلاً له بلهجته ذات الطابع الرسمي:
-"وجدي" بيه!

نهض الأخير من خلف مكتبه فور أن رأه ليرحب به، مد يده ليصافحه وهو يقول:
-أهلاً "ماهر" بيه، نورت مكتبي المتواضع.
رد مجاملاً:
-شكرًا يا باشا.
نظرة خاطفة تحولت نحو تلك الفتاة وهو يهم بالجلوس قبالتها محاولاً التأكد منها قبل أن يشرع في سؤالها، تأملها بنظراته المتفحصة قبل أن يسألها:
-إنتي "فيروزة"؟
هزت رأسها تُجيبه:
-أيوه أنا.

لم يكن "ماهر" قد رأها إلا في مرات عابرة حينما كان يعرج على أخته في الكلية ليوصلها، لذا بدا وجهها مألوفًا بالرغم من الحالة الفوضوية البادية عليها، وعلى النقيض عرفته "فيروزة" من وجهه الذي رأته في أغلب الصور الفوتوغرافية التي جمعته مع صديقتها "علا"، ومع هذا لم يُصادف أن يتبادل كلاهما أي حديث ولو مقتضب. تفرس فيها وسألها باهتمامٍ:
-إنتي كويسة؟ عملتي اللي قولتلك عليه؟

أجاب عنها "وجدي" تلك المرة، وتلك الابتسامة المتكلفة مطبوعة على شفتيه:
-اطمن يا "ماهر" بيه، أنا قايم بالواجب كله معاها
رد يشكره بتملقٍ:
-ده العشم يا باشا...
ثم استأذنه بصوته الجاد:
-تسمحلي أطلع على المحضر؟
قال مرحبًا ودون أن يظهر أي اعتراض:
-اتفضل سعادتك.

مد "وجدي" يد نحوه بالأوراق التي دونت فيها أقوال "فيروزة" ليبدأ "ماهر" في قراءتها على عحالةِ، صمت مريب ساد في المحيط إلا من أصوات لفظ دخان السجائر المشتعلة، قاومت "فيروزة" رغبتها في السعال بسبب الدخان الذي عبق المكان وملأه. دق الباب ليلج بعدها أحد العساكر وعلى وجهه نظرة متوترة قبل أن يتجمد في مكانه مُلقيًا التحية العسكرية، ثم أردف بعدها:
-تمام يا فندم.

رفع "وجدي" أنظاره نحوه يسأله:
-خير يا عسكري.
أجاب بلهجته الرسمية ودون أن يرف جفناه:
-سيادة المأمور عاوز سعادتك حالاً
استغرب كثيرًا من طلب المأمور غير المعتاد لرؤيته، تنحنح بصوتٍ مرتفع، ثم أشار له بعينيه وهو يقول:
-روح إنت يا عسكري، وأنا جاي وراك.

أدى له التحية العسكرية قبل أن يستدير منصرفًا من الغرفة ومغلقًا الباب خلفه، تطلع إليه "ماهر" متسائلاً في اندهاشٍ:
-مش غريبة المأمور يطلبك
رد بوجهٍ مبهم التعبيرات:
-مش عارف، مش بعوايده
ثم نهض من خلف مكتبه متابعًا حديثه:
-هستأذنك يا "ماهر" بيه، خد راحتك، المكتب مكتبك
ابتسم في امتنانٍ وهو يرد:
-شكرًا يا "وجدي" بيه.

التقط الأخير ولاعته، وميدالية مفاتيحه، وكذلك علبة سجائره، ثم اتجه إلى الخارج تاركًا الاثنين بمفردهما، كانت الفرصة مناسبة ل "فيروزة" لتشكو له التصرفات الوقحة والعدائية من قبل ذلك الفظ "تميم" علها بذلك تسترق قلبه وتحوز على كامل دعمه.

حيرة ما بعدها حيرة أصابت عقله بالتخبط وشوشت ذهنه بعد المقابلة الرسمية مع مأمور القسم، والذي طلب منه فيها بصراحةٍ فض النزاع القائم بين "فيروزة" و"تميم" بشكلٍ ودي، وإنهاء الأمر في التو والحال، تعجب "وجدي" كثيرًا من مدى الصلات الوثيقة التي تربط مجرمًا مثله بأهم المسئولين ليجبروا رئيسه في العمل على التدخل في تلك المشكلة، وقف في الردهة يفكر مليًا فيما سيفعله، لم يرغب في إغضاب رؤوسائه، اقترب من النافذة المفتوحة، واستند بكفيه على حافتها محملقًا في الطريق أمامه لبعض الوقت، استنشق بعمقٍ الهواء البارد الذي اندفع منها قبل أن يتحرك عائدًا إلى مكتبه وفي رأسه فكرة ما توصل إليها، هز رأسه قائلاً وهو يتجه نحو مقعده:
-متأخرتش عليك يا "ماهر" بيه؟

رد نافيًا:
-لا يا باشا.
التفت "وجدي" نحو "فيروزة" يسألها بلهجته الجادة:
-آنسة "فيروزة" إنتي معاكي تراخيص للعربية دي؟
أجابته بنظراتٍ متوترة:
-أيوه.
أكد عليها بنبرة غريبة لم تستساغها:
-يعني كل التراخيص كاملة ولا في حاجة ناقصة؟
بلعت ريقها وردت متسائلة:
-يعني إيه؟ أنا مش فاهمة.
هنا تدخل "ماهر" في الحوار ليسأله:
-في إيه يا "وجدي" به؟

نظر له بغموضٍ جعله يشعر بالاسترابة من مظهره المُغاير لما قابله قبل قليل. وحتى لا يضعه في موقف محرج أمام ضيفته، هب "وجدي" واقفًا ونظراته بالكامل مرتكزة على "ماهر"، ثم قال له بصوتٍ جافٍ اكتسب رسمية جادة:
-"ماهر" بيه أنا عاوزك برا في كلمتين.
نهض الأخير من جلسته ليرد عليه:
-اتفضل.

تطلعت إليهما "فيروزة" وبوادر الفضول مسيطرة عليها، استدار "ماهر" نحوها ليقول:
-اشربي ليمونك وأنا راجع تاني.
ردت بابتسامة صغيرة لكنها مصطنعة:
-حاضر.

راقبت الاثنان وهما يخرجان من الغرفة، لاحظت ببديهيتها وفطنتها تغير أحوال الضابط الذي كان يحقق معها، حيث أصبح وجهه جامد كالصخر، واختفت نظرات التعاطف معها، بدا رسميًا معها على غير الودية التي قابلها بها. لم تنكر "فيروزة" أنها استشعرت وجود خطب ما، تنفست بعمقٍ وحاولت التغلب على التقلصات المؤلمة التي أصابت معدتها، لكن ظل ذلك الهاجس يعبث برأسها، رددت مع نفسها في تهكمٍ:
-يا خبر بفلوس ...!!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة السابعة عشر بقلم منال سالم


سحبه من ذراعه برفقٍ ليوجهه عبر الردهة الطويلة الضيقة حتى ينزويا عند أحد الأركان وبعيدًا عن الجلبة الروتينية الدائرة من حولهما بسبب طبيعة العمل في القسم الشرطي، بدا "وجدي" حائرًا في كيفية مفاتحة "ماهر" في الأمر، لكن لا مناص من ذلك! وبتعابيره الجادة ونظراته الغائمة نسبيًا استطرد يشرح له بإيجازٍ عما دار خلال لقائه مع المأمور، وكيف ألزمه الأخير بحل النزاع القائم بين "فيروزة" و"تميم" وديًّا حتى لا تتخذ الأمور منحنًا آخرًا، استطرد يؤكد عليه:
-إنت ليك كلام معاها، حاول تقنعها.


 
هتف بعد صمتٍ قليل:
-هحاول، لكن موعدكش بحاجة.
استرسل مضيفًا بنفس نبرته العميقة الثابتة موضحًا خطورة وجدية المسألة:
-يا "ماهر" بيه إنت عارف إني مقدرش اتأخر عنك في حاجة، بس الموضوع ده بالذات طلع فوق قدراتي، والمأمور بنفسه متابعه، وأنا مش عاوزلها الأذى.
حملق فيه في صمتٍ فتابع موضحًا:
-مش هايسبوها لو ركبت دماغها وعاندت، هايطلعوها الغلطانة في الآخر، إما إن في مشكلة في تصاريح الصحة، أو السجل الضريبي، وحاجات شبه كده
قال معقبًا عليه:
-مفهوم.


 
وبنبرة ذات مغزى أكمل:
-وزي ما سيادتك عارف، اللي مالوش ضهر في البلد دي بيحصله إيه!!
لم يكن بحاجة للمزيد من التفسيرات ليفهم ما الذي يرمي إليه، قضية "فيروزة" خاسرة من قبل أن تبدأ، ظل يدير الأمر في رأسه من أجل إيجاد الوسيلة المناسبة لإقناعها بالعدول عن رأيها والقبول بالتنازل. أشعل "وجدي" سيجارة جديدة، سحب دخانها بقوة، ثم لفظه وهو يقول ببسمة بدت متكلفة:
-وأنا تحت أمرك في أي حاجة تانية.

رد مجاملاً وهو يشير له في خفةٍ بعينيه:
-شكرًا يا "وجدي" بيه، أنا تاعبك معايا.
بادله ابتسامة فاترة، وتابع تدخين سيجارته، تنحنح "ماهر" متسائلاً من جديد:
-طب افرض هي رفضت، هتعمل إيه؟
أجابه بعد تفكيرٍ متأنٍ:
-أقصى حاجة ممكن أعملها إني أأجل تقديم البلاغ للنيابة لحد ما تتنازل.
-وده ينفع؟
رد مؤكدًا عن ثقة:
-الموضوع في إيدينا، بس المهم هي.
أشعره ذلك بقليلٍ من الارتياحٍ، وقال له:
-أنا هاعمل اللي عليا معاها.


 
استجمعت جأشها قليلاً واستعادت شجاعتها التي فقدتها في البداية رهبةً من الموقف، كانت حيرتها تزعجها، فقررت أن تستغل فرصة انفرادها بنفسها في غرفة المكتب لتهاتف أختها حتى تتقصى منها عن طبيعة الأجواء في المنزل، خاصة بعد عودة "همسة" بمفردها، عبثت "فيروزة" بلزمةٍ لا إرادية بشعرها وهي تسألها بصوتٍ خفيض :
-كله تمام عندك؟

أجابتها بنبرة عبرت عن قلقها:
-هي ماما بتسأل عليكي، وأنا مش عارفة أقولها إيه، وبصراحة خوفت أحكيلها و...
قاطعتها محذرة:
-لأ استني لما أرجع عشان ماتتخضش وتقلب الدنيا، والحكاية مش ناقصة.
سألتها "همسة" بنفس الصوت الخافت:
-طب هاقولها إيه؟ ولا هاتصرف إزاي؟
-ثواني كده.


 
سكتت قليلاً لتفكر في حجة مقنعة، طرأ ببالها فكرة ساذجة، لكنها كافية للانطلاع على والدتها مؤقتًا، هتفت فجأة وبجديةٍ غطت ملامحها:
-قوليلها في مشوار تبع "علا" صاحبتي، ومش هتأخر، هي عارفاها وبتثق فيها
سألتها بحذرٍ:
-ماشي، وإيه الأخبار معاكي؟
أجابتها بابتسامةٍ مطمئنة:
-لحد دلوقتي كل حاجة ماشية تمام، "ماهر" بيه عامل معايا الواجب وزيادة، ومش بعيد تلاقيهم قبضوا على الحيوان ده، وحابسينه.
سألتها في جزعٍ:
-هو إنتي شوفتيه تاني؟

ردت نافية:
-لأ، بس طبيعي يقبضوا عليه بعد البلاغ اللي قدمته فيه..
ما لبث أن اتسعت ابتسامتها الساخرة وهي تضيف:
-ده مش بعيد يكونوا بيعلقوه دلوقتي.
قالت لها "همسة" بتوجسٍ:
-أنا خايفة عليكي يا "فيروزة"، حاسة إن الموضوع ده نهايته مش خير أبدًا!


 
انزعجت من خوفها الزائد، وهتفت في حدةٍ بعد أن تقلصت تعابيرها بشكلٍ ملحوظ:
-ما هو كله حصل على إيديك، هو اللي ابتدى من الأول، وحاربني في أكل عيشي، وكل اللي بأعمله معاه إني بأخد حقي منه.
استطاعت أن تسمع صوت تنهيدتها وهي تقول لها:
-ربنا يستر، وتعدي على خير.

شعرت "فيروزة" بجلبة تصدر من الخارج وتزداد حدتها، فوضعت يدها على فمها لتغطيه وهي تنهي المكالمة مع أختها:
-الظاهر في حد جاي يا "همسة"، هاكلمك بعدين.
لم تنتظر الرد منها، وأنهت معها المكالمة لترفع بعدها رأسها للأعلى وتحدق في "ماهر" الذي عاد بمفرده للمكتب، بدت تعابيره غير مقروءة، لكن نظراته الغريبة التي تتجنب التطلع إليها توحي بشيءٍ ما، جلس قبالتها مستقيمًا، ثم سألها بصوته الرخيم الجاد:
-كلمتيهم في البيت عندك تطمينهم؟

أجابته وهي تهز رأسها بالإيجاب:
-أيوه..
ثم تملقته قائلة:
-وكلهم بيشكروا سعادتك على تعبك معايا ووقوفك جمبي.
اكتفى بإيماءة خفيفة من رأسه لها، شعرت "فيروزة" أنه يريد إخبارها بشيء، لكنه متردد، فبادرت متسائلة:
-هما مسكوا البلطجي ده؟
جاوبها بزفيرٍ بطيءٍ:
-أيوه.


 
ارتسمت ابتسامة ارتياحٍ على محياها وهي تعلق عليه:
-طب الحمد لله، أهوو هياخد جزائه!
استغرق "ماهر" في صمته المريب ليشعرها بالمزيد من الاسترابة والشك في أمره، تفرست في وجهه الغريب متسائلة بنظراتٍ متوترة:
-هو في حاجة حصلت وحضرتك مش عاوز تقولي عليها؟

تخلى عن جلسته المنتصبة ليميل نحوها وهو يقول دون مراوغة:
-"فيروزة"، إنتي لازم تتنازلي عن المحضر!
تطلعت إليه في اندهاشٍ عظيم وبفمٍ مفتوح وهي تكاد لا تصدق ما نطق به للتو، بلعت ريقها ورددت في استنكارٍ ظهرت علاماته على قسماتها:
-حضرتك بتقول إيه؟!

سرد لها بأسلوبه الهادئ والعقلاني الأبعاد القانونية لما سيحدث لاحقًا إن أصرت على تصعيد مشكلتها مع "تميم" الذي ظهر الجانب الآخر القوي لعائلته، والتي لن تتوانى عن استغلال أي ثغرات لقلب الطاولة على رأسها، لم تصغِ لكلمة واحدة مما قالها، وردت معاندة ورافضة بشكلٍ قطعي:
-لأ طبعًا مش هاعمل كده!
عقب عليها بتمهلٍ:
-افهمي يا "فيروزة"، الناس دي أكبر مني ومنك و...

صاحت مستنكرة وعلى وجهها نظراتٍ متنمرة:
-ده بلطجي، خريج اللومان، بتعملوا للي زي ده قيمة؟ ليه يعني؟
أجابها ببساطةٍ ودون تزييف:
-لأنه مسنود.
تملكها الحنق لمجرد التفكير في الأمر، كانت كلماتها عنيفة، مليئة بالاتهامات حينما قالت له:
-قول إن حضرتك مش عاوز تساعدني.

عاتبها بوجهه الذي تحول للصرامة:
-عيب الكلام ده يا "فيروزة"، أنا مش كده
لانت نبرتها قليلة، وقالت معتذرة دون أن تخبو انفعالات وجهها:
-أنا أسفة، بس ده حقي، وأنا مش هتنازل عنه
رد عليها بعقلانية علها تنحي عواطفها جانبًا وتحكم عقلها:
-وحقك هتاخديه، بس بشكل ودي.

أصرت على رفضها، واستطردت تقول:
-أنا أسفة يا "ماهر" بيه، سامحني، مش هاقدر أسمع كلامك.
سألها بعينين جادتين:
-يعني مصممة على اللي في دماغك؟
هزت رأسها تجيبه بكلمة واحدة:
-أيوه.
لم يحاول أن يستحثها على التنازل، ورد بهدوءٍ:
-تمام.

دقائق ساد الصمت فيها بينهما، تخللته فقط أصوات رسائل ترد على هاتف "ماهر" كان يجيب عنها نصيًا. فُتح الباب فجأة، ودخل "وجدي" للمكتب متسائلاً بحماسٍ، وقد توهم نجاح زميله في إقناعها:
-ها وصلتوا ليه؟
أجابه "ماهر" على مضضٍ وهو يهز رأسه بالنفي:
-للأسف راكبة دماغها يا "وجدي" بيه، ومصممة على المحضر.

اختفت الحماسة من تعابير "وجدي"، ورد عليه بوجومٍ وهو يسحب مقعده للخلف ليجلس خلف مكتبه:
-براحتها، خلينا نكمل المحضر بتاعنا...
ثم تركزت أنظاره على "فيروزة" وهو يكمل بلهجة مغايرة للود الذي استقبلها به:
-ونستدعي المدعو "تميم".
سألته في صدمة وقد اتسعت عيناها على الأخير:
-هو حضرتك هاتجيبه هنا المكتب؟

رد ببرودٍ وتعالٍ:
-أكيد طبعًا، مش محضر ولازم يتقفل!
ازدردت ريقها في اضطرابٍ، وشعرت برجفة مقلقة تصيب بدنها، فبكلماته الجامدة تلك نزع الطمأنينة من قلبها، تطلعت إلى "ماهر" بنظراتها المتوترة، وكأنها تستنجد به، نظر إليها بغموضٍ قبل أن ينطق بنبرته ذات الطابع الرسمي:
-تسمحلي أحضر معاك يا "وجدي" بيه؟
أجاب مرحبًا به:
-مافيش مشكلة.

مواجهة محتومة بينهما كانت مليئة بالحنق، بالكراهية، بالغضب، وبكل المشاعر العدائية. تطلع الاثنان إلى بعضهما البعض بعد أن جلسا متقابلين بنظرات متحفزة ونارية، وكأن بينهما صراع خفي بدأ منذ زمنٍ بعيد، كذلك امتلأت الغرفة بأحد أبرز محامين الدفاع ليتولى واحد منهم مهمة الحديث حينما يستلزم الأمر، وأيضًا حرص الضابط "ماهر" على التواجد، ناهيك عن توصيات اللواء "وفيق" الذي عرج عليهم بالغرفة ليلقي التحية على "تميم" قبل أن ينصرف.

حينها أدركت "فيروزة" أنها باتت في موقفٍ أضعف، لكنها ما زالت تثق في قوة القانون الذي لن يخذلها. بدأ "وجدي" في تدوين أقوال كليهما مستعينًا بأحد معاونيه، نظر إلى "تميم" متسائلاً بروتينية:
-الآنسة بتتهم حضرتك بإنك ولعت في عربية الأكل بتاعتها، إيه ردك على الكلام ده؟
عمق "تميم" من نظراته العدوانية لها، وأجابه بصوته الأجش:
-كدابة، ده محصلش!

هدرت "فيروزة" في عصبيةٍ وقبضة يدها المتكورة تضرب على سطح المكتب بانفعالٍ:
-أومال هي ولعت لوحدها؟ إنت بعت البلطجية بتوعك يحرقوها!
كانت نظرة الازدراء الباردة التي تطل من عينيه كفيلة بإغضابها أكثر، استرخى في جلسته، وأضاف نافيًا التهمة عنه:
-ماليش علاقة باللي بتتكلمي عنهم، أنا كنت قاعد في دكاني وكل أهل الحتة شاهدين عليا.
زاد من حنقها، وردت عليه في استهجانٍ ساخط متعمدة إهانته:
-طبعًا هتنكر، ما هو اللي زيك الإجرام بيجري في دمهم!

تأهب "تميم" في جلسته ونظر لها بشراسة قبل أن يحذرها مهددًا بلهجةٍ تنطق بعدائيته:
-اتكلمي كويس بدل ما أعدلك!
طرق "وجدي" بيده في ضيقٍ على سطح مكتبه مستنكرًا أسلوب "تميم" الهجومي، وهتف يحذره:
-ماينفعش الأسلوب ده هنا!
رد عليه من بين أسنانه المضغوطة، ونظراته المغلولة مسلطة على "فيروزة":
-وحضرتك مش شايف قلة أدبها؟

صاحت تدافع عن نفسها:
-أنا مغلطتش فيه.
التفت "وجدي" ناحيتها، ووجه حديثه لها يأمرها بلهجةٍ أقل حدة:
-وإنتي يا آنسة بالراحة من فضلك.
ضغطت على شفتيها في تأفف، وأدارت رأسها في اتجاه "ماهر" حين قال لها:
-اهدي يا "فيروزة"، احنا في تحقيق رسمي.
ردت صاغرة وعلى مضضٍ:
-حاضر يا "ماهر" بيه.

استمع "وجدي" إلى باقي أقوال "تميم" التي تنفي عنه تهمة إحراق العربة مؤكدًا بالبراهين الدامغة عدم تورطه في الأمر، ثم أضاف أحد محاميه برسميةٍ وهو يشير نحو "فيروزة" ليسهم بحكنةٍ ودهاء في تصعيد الموقف:
-اسمحلي يا باشا أشتكي على الآنسة في محضر رسمي واتهمها بالسب والقذف والاعتداء على موكلي في مقر عمله.
هبطت جملته على رأسها كدلو ماءٍ مثلج، انتفضت في جلستها، وهتفت في ذهولٍ:
-نعم؟ إيه الكلام ده؟

قال لها المحامي موضحًا بابتسامةٍ لئيمة استطاعت أن تبصرها مرسومة على وجهه:
-تقدري تنكري إنك اتهجمتي على الأستاذ "تميم" وضربتيه في دكانه؟!!
شحب وجهها من إجابته التي حتمًا ستفسد المخطط المرسوم في رأسها، نظرة مترددة سددتها إلى "تميم" الذي بدا على غير العادة قويًا، معتدًا بنفسه، أحست بمرارة العلقم في حلقها، بخفقات مذعورة تصيب قلبها. هربت الدماء من عروقها حينما تابع المحامي اتهامه لها:
- ده غير الشتايم والإهانة الفظيعة اللي سببتيهاله وسط أهله، وهو في المقابل مقربش منك؟!!!

أوشكت أن تموت من التوتر والخوف بعد أن تبدلت المواقف، وأصبحت هي في نظر الجميع المتهمة، لاذت بالصمت لعجزها عن إيجاد الكلمات المناسبة التي تدافع بها عن نفسها، طال صمتها مما جعل الشكوك تساور "وجدي"، سألها مستفهمًا:
-الكلام ده حصل؟
أجابت بصوتٍ مهتز محاولة تبرير تصرفها:
-أيوه، بس عشان كنت متعصبة، وهو اللي حرق عربيتي و...
هدر بها "تميم" في غيظٍ:
-قولتلك محرقتهاش، هو رمي بلى والسلام!

عنفه "وجدي" لتجاوزه في التحقيق قائلاً بشدة:
-اسكت لو سمحت، ماينفعش اللي بتعمله ده.
زفر بصوتٍ مسموعٍ ورد بتعابير مشمئزة:
-ماشي يا باشا.
هتف المحامي بقوةٍ مستغلاً الموقف ليقلب الموازين ويحرز النصر لصالح موكله:
-سجل عندك يا باشا في المحضر اعترافها ده، ونقدر كمان نجيب لسعادتك تسجيل الكاميرات اللي في الدكان، ونشوف بقى مين اللي اتهجم على مين!

كم بدت تلك اللحظة قاسية على "فيروزة"! شعرت بالخزي من نفسها وبالندم على سوء تصرفها، فلو لم تنساق وراء عصبيتها لكانت في مركز قوة، نظرة لائمة حانت من "وجدي" ل "فيروزة" وهو يقول لها صراحةً:
-كده الموضوع هياخد سكة تانية.

استأذنه "ماهر" أن ينفرد بها للحظات بعد أن تفاجأ هو الآخر بتصرفها الخاطئ، أمسك ب "فيروزة" من ذراعها، وسحبها لركن منزوٍ بالغرفة حتى يتحدث معها، انساقت معه دون اعتراضٍ أو مقاومة، رمقها بنظرة تحمل الإدانة، وعاتبها هامسًا:
-كده تحرجيني يا "فيروزة"؟ إنتي مكونتيش صريحة معايا من الأول!
بررت له بصوتها المضطرب:
-والله كان غصب عني، مكونتش في وعيي بعد اللي حصل، ومجاش في بالي إنه هيعمل كده.

أصبح فجأة قاسيًا معها وهو يكمل بصوته الخافت:
-دلوقتي موقفك إنتي بقى وحش، واحتمال تتعرضي لمشكلة لو الموضوع كبر.
ردت في استنكارٍ:
-يعني يبقى حارق عربيتي وأنا اللي اتحاسب؟
قال في بساطةٍ:
-لأنك ضيعتي حقك بتهورك!
كان محقًا في لومه، نكست رأسها للحظةٍ في خزي، ولم تجرؤ على التطلع له وهي تسأله:
-طب والعمل إيه يا "ماهر" بيه؟

أجاب بزفيرٍ مزعوج:
-هانشوف هترسى على إيه.
رفعت عينيها إليه ترجوه وقد تسرب الخوف إلى أوصالها:
-أرجوك يا "ماهر" بيه تقف جمبي وتساندني، مش عاوزة حقي يروح.
لم يكن أمامه خيارٌ بديل سوى دعمها، نفخ في ضيقٍ، ورد عليها:
-ربنا يسهل
لعقت فيروزة شفتيها الجافتين والتوتر يزداد بداخلها، نظرة خاطفة وجهتها إلى تميم فرأته محدقا بها في قوة وزهو، وكأنه يظهر لها شماتته، أشاحت بوجهها المنكمش عنه، وهمست لنفسها في رجاءٍ يائس علها بذلك تستدعي قوتها الهاربة:
-مش أنا اللي أتنازل بسهولة!

ذرعت الغرفة جيئةً وذهابًا وهي تنوح وتولول على زوجها الذي اقتادوه من أسفل المنزل ليزجوا به في سيارة الشرطة، رأته مصادفة من خلف الزجاج الموصود بعد الجلبة التي أحدثتها صافرات الشؤطة المميزة، لم تعرف "خلود" كيف تتصرف حينذاك، صرخت منادية إياه باسمه، لكنه لم يسمعها، هرعت للداخل تدور حول نفسها كالمجنونة، فتحت ضلفة الدولاب لتخرج عباءتها، ألقت بها على ثيابها المنزلية، وركضت إلى خارج المنزل لتذهب إلى بيت خالتها، علها تجد عندها الخبر اليقين.

تفاجأت بها الأخيرة، وصدمت لما أصاب ابنها، تشاركت الاثنان في العويل والندب، ثم قامت "ونيسة" بمهاتفة زوج ابنتها لتستدعيه حتى يقف بجوار "تميم"، ولم يتأخر عنها، وبقيت كلتاهما حبيستان في المنزل، تنتظران على أحر من الجمر الأخبار المطمئنة. تلفت أعصاب "خلود" واحترقت أحشائها كلما تذكرت ذلك المشهد المؤلم، التفتت نحو خالتها تنوح لها:
-هتجنن يا خالتي، قلبي بيتقطع عليه، لسه برضوه مافيش أخبار عنه؟

ردت "ونيسة" بحزنٍ كبير ظاهر عليها:
-أديني كلمت عمك الحاج وقالي كلهم معاه جوا عند الظابط.
سألتها في لوعةٍ:
-يعني هيطلع ولا هيحبسوه؟
زجرتها في ضيقٍ:
-تفي من بؤك، الشر برا وبعيد.
قالت موضحة:
-أنا عاوزة أطمن بس.
تنهدت معقبة عليها في قنوط:
-محدش عارف حاجة لسه.

لطمت "خلود" على صدرها مكملة عويلها الموجوع وعيناها تبكيان:
-منهم لله اللي كانوا السبب، ربنا يحرق قلبهم زي ما حارقين قلبي على جوزي، وحارمني منه.
رفعت "ونيسة" كفيها للسماء تناجي المولى:
-يا رب ينجيك منها على خير يا ابني، أنا ماليش غيرك يا رب

استُكملت باقي الإجراءات الخاصة بالتحقيق في البلاغات التي نالت طرفيه، وتبقى فقط التوقيعات عليه، فعلت "فيروزة" ما رأته صوابًا من وجهة نظرها، وإن تحملت تبعات رعونتها، انتظرت تراقب "تميم" في تحفز على مقعدها، لكن صعدت الدماء بقوةٍ إلى وجهها حينما قال "وجدي" بلهجةٍ عادية:
-تقدر تتفضل يا أستاذ "تميم"
سأله المحامي مستوضحًا:
-يعني موكلي يقدر يمشي؟
أجابه وهو يهز رأسه بالإيجاب:
-أيوه.

صدمت "فيروزة" من قراره الذي خالف توقعاتها، ورددت متسائلة في عصبيةٍ والدهشة تكسو كامل ملامحها:
-إنتو هتسيبوه يمشي بالبساطة دي؟
ابتسم لها "تميم" ساخرًا:
-أومال فكرك إيه؟ هبات في التخشبية؟
استشاطت نظراتها واِربد وجهها بغضبٍ عظيم، وقبل أن تتفوه بكلمة تندم عليها لاحقًا، بادر "وجدي" يحذرها بصرامةٍ:
-اهدي يا آنسة، وسيبني أشوف شغلي.

قالت في استهجانٍ:
-طب إزاي؟ ده بلطجي وسوابق!
لم يقبل "تميم" بإساءتها لشخصه، فحذرها بخشونةٍ ونظراته النارية مرتكزة عليها:
-اغلطي أكتر عشان تتحاسبي أكتر.
قالت في تحدٍ:
-أنا مش خايفة منك!
صاح بهما "وجدي" في نفاذ صبرٍ:
-ماينفعش الأسلوب ده هنا، إنتو في قسم البوليس مش في الشارع..

ثم وجَّه باقي حديثه إلى رفيقه" بلهجة منفعلة قليلاً:
-اتكلم مع قريبتك يا "ماهر" بيه!
استدار نحوها الأخير يأمرها بجمودٍ:
-لمي الدور يا "فيروزة"، واهدي شوية.

خُيل إليها أنها ترى ابتسامة "تميم" المستفزة متشكلة على ثغره ونظراته الحاقدة تنفذ إلى داخلها، لم تستطع أن تمرر إخلاء سبيله بعد ما تكبدته من عناء، لذا مالت على "ماهر" تقول له وهي تجاهد لضبط انفعالاتها حتى لا تستثار مجددًا:
-عاوزني أهدى إزاي يا "ماهر" بيه وأنا شايفة بعيني حقي بيروح
رد عليها بهدوءٍ اكتسبه من طبيعة مهنته التي تتطلب ثباتًا انفعاليًا كبيرًا:
-لسه في كلام، الموضوع مخلصش.

وبالرغم من نظراته التي تؤكد لها دعمه إلا أن شعورها بالارتياح يكاد يكون انعدم، تحركت حدقتاها تلقائيًا مع صوت المحامي وهو يقول مبتسمًا في زهوٍ:
-يالا يا أستاذ "تميم"، احنا موقفنا في السليم.
بقيت نظراتها متجمدة عليه وهو يرحل من الغرفة بصحبة محامينه، وقبل أن يخرج من الباب التفت "تميم" يودعها وتلك النظرة الغامضة تحتل عيناه:
-سلام يا .. يا أبلة!

كزت على أسنانها في غيظٍ وهي تشعر بالدماء تفور في رأسها، ما انتشلها من تحديقها الناري في طيفه الذي رحل صياح "ماهر" المعنف بها:
-اللي عملتيه ده غباء، وحطيتي نفسك في موضع شبهات.
تطلعت إليه في حيرة، فتابع بنفس الصوت الحانق:
-وطبعًا بالمحضر اللي عمله فيكي لو مثبتش فعلاً إنه متورط فيه هيطالبك بتعويض.
ردت متسائلة في قلقٍ، وما زال عنادها مسيطرًا عليها:
-والحل إيه دلوقت؟ أنا عاوزة حقي منه!

هنا تدخل "وجدي" في حوارهما ليقول:
-للأسف إما إنك تتنازلي عن المحضر أو ...
أدارت رأسها نحوه تقاطعه بإصرارٍ شديد:
-مش هتنازل مهما حصل
نصحها بجديةٍ وهو ينظر لها:
-فكري بالعقل وبلاش استعجال
وقبل أن تنبس بكلمة إضافية، بادر "ماهر" يقول لها مشددًا:
-خدي وقتك واحسبيها كويس، وأنا معاكي في القرار الصح اللي هتاخديه

اصطحبها عبر ردهات القسم حتى وصل بها إلى الخارج، وأوصاها "ماهر" خلال سيره المتباطئ معها بالتروي وتحكيم العقل قبل اتخاذ أي قرارٍ مصيري، وعدته "فيروزة" بإعادة التفكير في تلك المسألة دون أن تعطيه ردًا صريحًا بالتراجع، ودعته بعد أن اعتذرت منه بلباقةٍ عن الإزعاج الذي سببته له، كما شكرته على دعمه ووقته الذي خصصه لها، وبدأت في الهبوط على درجات القسم الرخامية. خرجت من محيط ذلك المكان الشرطي لتتفاجأ به يعترض طريقها بجسده المشدود، ونظراته القاتمة..

سرت عدوى الارتعاب في كامل جسدها، تراجعت تلقائيًا خطوة للخلف وهي تحاول التظاهر بالتماسك أمامه، تقدم "تميم" نحوها وهو يقول لها بوجهٍ يفح غضبًا:
-لو مفكرة إني هاسيبك تبقي غلطانة، إنتي فتحتي على نفسك طاقة جهنم معايا!
تحلت بالشجاعة، وقالت بصوتٍ شبه متهدج:
-إنت بتهددني؟

توحشت نظراته بشكلٍ مخيف جعل قلبها يدق في خوفٍ أكبر، دنا أكثر منها غير عابئ أنها تتراجع نحو القسم ليهددها:
-سميه زي ما تسميه، والقلم اللي ضربتهوني قصاد الناس، هتتحاسبي عليه.. بس في وقته!
قاومت خوفها، وردت تتحداه:
-مش هاتقدر تعملي حاجة، وبكرة ترجع اللومان و...
قاطعها بما يشبه السخرية:
-ده لو مدخلتهوش قبلي!

برقت عيناها من تهديده الواثق بالفوز، وكأن القضية التي لم تبدأ بعد قد حُسمت لصالحه، تركها تتخبط في أفكارها وأولاها ظهره لينصرف مبتعدًا عنها بخطواتٍ تميل للعدو .. قابل "ناجي" الذي كان ينتظره بالخارج وعند سيارة والده، وما إن رأه الأخير مقبلاً عليه حتى هرع نحوه يسأله:
-"تميم"، إنت كويس؟ عملوا معاك إيه؟
تطلع إليه في اندهاشٍ قبل أن يرد على سؤاله:
-"ناجي"، إنت عرفت منين إني هنا؟

خرج صوته مهزوزًا بشكلٍ ملحوظ وهو يجاوبه:
-"محرز" كلمني، وأنا .. جيتلك على هنا، واطأست وعرفتك إنك جوا، مش كده يا "محرز".
رد عليه مبتسمًا في سماجة:
-ايوه مظبوط، ده متأخرش عنك يا "تميم"!
أحس "تميم" بيد والده تربت على كتفه، التفت برأسه للجانب ناحيته وهو يطلب منه:
-بينا يا ابني نرجع البيت.
رد معتذرًا بوجهٍ متجهمٍ:
-ثواني يابا، عاوز "ناجي" في كلمتين.

ثم استدار نحوه يسأله مباشرةً:
-إنت ليك يد في اللي حصل؟
ارتبك وهو يجيبه:
-آ.. هو... مش أنا بالظبط وآ....
-تعالى معايا.

قالها "تميم" بنبرة عميقة وهو يقبض على ذراع رفيقه يجره منه بعيدًا عن والده والبقية، انزوى به في بقعة معتمة، ثم دفعه بقسوةٍ نحو أحد الأبواب الحديدية لأحد الأكشاك المغلقة ليستفسر منه عما حدث، أخبره "ناجي" بترددٍ عن محاولة "حمص" و"شيكاغو" الغاشمة من أجل إرضائه، انقض عليه فور أن سمع الحقيقة كاملة مطبقًا على عنقه وضاغطًا بأصابعه على عرقه النابض، تحشرج صوت "ناجي" وهو يبرر له مدافعًا عن نفسه:
-اقسم بالله ما كنت أعرف إنهم هيعملوا كده..

كز على أسنانه وهو يصرخ به:
-بتورطني يا "ناجي"؟ من امتى بأخد تاري من الحريم؟
حاول أن يلتقط أنفاسه ليقول له بصعوبة واضحة عليه:
-غلطة يا "تميم" ..
أرخى أصابعه عنه وهو يدمدم بسبة نابية، سعل "ناجي" بعد أن استنشق دفعة كبيرة من الهواء ليملأ بها صدره المختنق، نظر في توجسٍ لرفيقه الذي تراجع للخلف وهو يلومه بشدةٍ:
-وهتفدني بإيه لما تقولي كده؟

أبدى "ناجي" ندمه الشديد، ووعده بنبرة عازمة:
-أنا محقوقلك، والليلة بقت عندي، وأنا عارف هصلحها إزاي، اديني بس يومين تلاتة، وكل حاجة هترجع زي الأول وأحسن.
أشار له "تميم" بسبابته وهو يرد بنبرة تحمل في طياتها التهديد، وقد غامت نظراته بشكلٍ مقلق:
-يا ريت، وإلا هايكون في كلام تاني صدقني مش هايعجبك!
هز برأسه في ارتياحٍ بعد أن منحه الفرصة، وهتف معقبًا عليه:
-أمين يا صاحبي.

تسللت كاللصوص إلى داخل المنزل بعد أن هاتفت أختها لتطلب منها انتظارها بالقرب من الباب حتى تفتحه لها فور وصولها، وبالتالي لا تثير انتباه والدتها أثناء عودتها. وبخطوات خفيفة وحذرة خطت "فيروزة" نحو غرفتها، ألقت بثقل جسدها المنهك على الفراش، وأغمضت عينيها لوهلةٍ وهي تكاد لا تصدق أنها في البيت، تنفست الصعداء ووضعت يدها على صدرها تتحسس نبضات قلبها بعد مُضي ذلك اليوم المشحون بكل ما فيه من مآسٍ، جلست "همسة" إلى جوارها، وسألتها في تلهفٍ عن تفاصيل كل شيء، أوجزت الأولى معها في الحوار، وأعطتها لمحة مختصرة عما آلت إليه الأمور، اختتمت حديثها قائلة في امتعاضٍ وهي تسحب الوسادة خلف ظهرها:
-الزفت اللي اسمه "تنين" عمل فيا محضر.

تعجبت "همسة" من ذلك اللقب الغريب الذي أطلقته على خصمها، وتساءلت مستوضحة:
-"تنين"!! تقصدي "تميم"؟
ردت بتأففٍ وقد انفرجت زاوية فمها عن ابتسامة ساخرة:
-أيوه، هو في غيره!
ثم اعتدلت في نومتها وتابعت بتفاخرٍ زائف حتى لا تشعر بقلقها من تطور الأمور:
-بس أنا مسكتش وعرفته مقامه!

لم تنتبه لصوتها الذي كان مرتفعًا بعض الشيء بسبب انفعالها فحاز على انتباه والدتها التي مرت مصادفة بجوار الغرفة، التصقت بالباب لتسترق السمع لحوارهما الخطير، انقبض قلبها في فزعٍ وتوترت كليًا بعد أن عرفت تقريبًا ما خبأته ابنتاها عنها، وبضيقها المختلط بارتعابها اقتحمت الغرفة متسائلة بحدةٍ ونظرات العتاب بائنة في عينيها:
-إيه اللي أنا سمعته ده؟
حاولت "فيروزة" الإنكار، فقالت وهي تتصنع الابتسام:
-مافيش حاجة يا ماما، ده آ...
قاطعتها بغلظةٍ:
-هتخبي عليا يا "فيروزة"؟

حثت "همسة" أختها على البوح بالحقيقة، فقالت وهي توزع نظراتها المتوترة بين وجهي كلتيهما:
-قوليلها يا "فيرو"، ماما لازم تعرف!
لم تجد بدًا من مصارحتها، نهضت عن الفراش، واجتذبت والدتها من ذراعها لتجلسها على طرفه، ثم جثت على ركبتيها أمامها ورفعت رأسها إليها لتتطلع إليها وهي تسرد لها تفاصيل الساعات الأخيرة، اتسعت عينا "آمنة" في ذهولٍ، توقعت من والدتها أن تأزرها، وتساندها في أزمتها، أحبطت سقف توقعاتها حينما لطمت على خدها ووبختها بقسوةٍ:
-يا نصيبتي! محاضر وأقسام؟ هو احنا كنا ناقصين مشاكل يا بنتي؟ ليه تعملي كده؟

استندت على مرفقيها لتنهض من جلستها غير المريحة، وهتفت معترضة على خذلانها لها:
-هو الكل ليه جاي عليا، الحيوان ده اللي بدأ، وأنا كنت بأخد حقي منه، المفروض تقفي معايا يا ماما وتساعدني
صرخت بها أمها وهي تنتفض واقفة:
-مش في ده يا "فيروزة"!

لم تتمكن قدماها من حملها، فعادت لتجلس وهي تندب سوء الحظ الملازم لعائلتها الصغيرة:
-استرها علينا يا رب، ده احنا ولايا، هنعمل إيه بس..
نظرت لها "همسة" في إشفاقٍ، ومالت عليها تضمها من كتفيها إليها محاولة تهدئتها، بينما رمقت "فيروزة" أمها بنظرة مغتاظة، أشاحت بوجهها للجهة الأخرى وظلت تنفخ بصوتٍ مسموع، كادت أن تفقد هدوئها المفتعل ووالدتها تضيف بخوفٍ غريزي نابع من طبيعتها المستكينة:
-آه لو خالك عرف!!

نظرة حانقة مسحت بها وجه والدتها قبل أن ترد غير مبالية:
-مش فارقة معايا، اللي حصل حصل، وأنا مش هاسكت عن حقي!
هبت والدتها واقفة على قدميها، تحركت صوبها وأمسكت بها من كتفيها لتديرها إليها، ثم صرخت فيها بتشنجٍ:
-هو احنا كنا ناقصين؟ طول عمرنا في حالنا وماشيين جمب الحيط، هانيجي على آخر الزمن نخش أقسام ونروح نيابات؟ الموضوع ده تفضيه، وكفاية إنه انتهى على كده
ردت بتزمتٍ:
-لأ مخلصش، وأخو "علا" الظابط واقف معايا فيه
قالت لها بما يشبه التوسل:
-يا بنتي أنا مش عاوزة مشاكل، محدش هينفعنا في الآخر، إنتي تشوفيلك حل، وبناقص منها العربية، في ستين داهية!
علقت بعندٍ أكبر:
-مش هايحصل.

استبد ب "آمنة" خوفها، فأخذت تنوح بغضبٍ:
-أنا عارفة إن الكلام مش هايجيب فايدة معاكي، إنتي ما بتسمعيش كلام حد أبدًا!
انسحبت "فيروزة" من الغرفة حتى لا يحتدم جدالها العقيم مع والدتها، استدارت "آمنة" إلى توأمتها ترجوها والدمع قد بدأ في التجمع في مقلتيها:
-كلميها يا "همسة"، جايز تسمعلك.
ردت صاغرة وهي تومئ برأسها:
-حاضر يا ماما، أنا هاعمل اللي عليا معاها، وربنا يهديها.
خرجت والدتها من الغرفة مجرجرة ساقيها، استطاعت أن تسمع صوتها المناجي وهي تدعو :
-استرها علينا يا رب من اللي جاي.

ارتمت في أحضانه بمجرد أن وطأ منزل أبويه وتعلقت في عنقه كالطفل الصغير رافضة تركه وهي تكاد لا تصدق عودته إليها، لم تبالِ بمن يتطلع إليها وبمن سيلومها على شغفها الزائد به، المهم أنه عاد إليها سالمًا، اضطر "تميم" أن يتحرك بها نحو الصالة، في حين دفست "خلود" رأسها في صدره، وهتفت بتلهفٍ مبتهج:
-حمدلله على سلامتك يا حبيبي، أنا كنت بأموت لما شوفتهم بياخدوك من تحت البيت، الحمدلله إنك رجعتلي.

أبعدها عنه في حرجٍ من اندفاعها نحوه بذلك الشكل المخجل، نظر لها بعينين تعكسان انزعاجه قبل أن يرد بأنفاس الضيق:
-أنا كويس أهوو قدامك، ماينفعش كده
رفضت التخلي عنه، وظلت ملتصقة به رغمًا عنه، واستطردت:
-مش هاسيبك يا حبيبي، إنت ماتعرفش غلاوتك عندي عاملة إزاي.
رد ببسمة متكلفة:
-ما هو باين.

جاءت والدته إليها وأزاحتها من طريقها وهي تقول:
-وسعي يا "خلود" خليني أخد ابني في حضني.
اضطرت أن تتركه قائلة على مضضٍ وبوجهٍ شبه عابس:
-اتفضلي يا خالتي.
فتحت "ونيسة" ذراعيها لابنها الذي انحنى عليها ليقبلها من كتفيها، ضمته إليها ليشعر بأحضانها الحانية على جسده المرهق، ثم رفعت رأسها إليه لتتأمل وجهه، مسحت بيديها على صدغيه وسألته في لهفةٍ:
-حبيبي يا "تميم"، إنت كويس يا غالي؟ قولي عملوا فيك إيه ولاد ال ..... دول؟

تنهيدة مهمومة خرجت من صدره قبل أن يرد عليها مبتسمًا ابتسامة باهتة:
-ولا حاجة يامه، أنا زي الفل..
تحولت أنظار "تميم" نحو والده، وأثنى على مجهوده العظيم قائلاً:
-وأبويا ربنا يبارك في عمره قام بالواجب وزيادة.
هز "بدير" رأسه في استحسانٍ ورضا، بينما أضاف "محرز" من خلفهما بابتسامته اللزجة مستخدمًا ذراعيه في التلويح:
-الحمدلله ابنكم رجع بالسلامة أهوو، أنا كده عداني العيب، ألحق أروح ل "هاجر" وأطمنها.

استدار "تميم" نحوه يشكره:
-كتر خيرك يا "محرز"، سهرناك معانا
ضحك في سخافةٍ قبل أن يقول بنفس تلك الابتسامة المستهلكة:
-ولا يهمك يا ابن عمي، سلامو عليكم.
قاموا بتوديعه ليسير بعدها "تميم" نحو أقرب أريكة، استراح عليها وأغمض عينيه للحظات محاولاً تعطيل عقله الذي لم يتوقف عن التفكير مؤقتًا، شعر بيدٍ حنون تفرك جانبي عنقه، فاستسلم للأنامل التي بددت الآلام المكتومة في عظامه، انتبهت حواسه فجأة ووالدته تسأله:
-حقه الكلام اللي سمعناه ده صحيح؟ بنت "آمنة" اللي ورا حبسك؟

أجابها بقنوطٍ وهو ينظر لها:
-آه هي.
ثم عاد لصمته الإلزامي من جديد رافضًا إشباع فضول والدته المستثار.
بدت الحيرة واضحة على تعبيرات "خلود"، سلطت أنظارها عليها متسائلة بفضولٍ ويداها ما زالت تعملان على كتفي زوجها:
-مين دي يا خالتي؟
ردت في أسفٍ وقد اكتست تعبيراتها بلمحة من الحزن:
-واحدة كنت مفكراها جارتي يا "خلود"، مكنش العشم والله!

ضرب "بدير" بعكازه على الأرضية ليقول بعدها في حسمٍ:
-خلاص يا "ونيسة" مالوش لازمة نتكلم، المهم "تميم" رجع لبيته.
أيده الرأي فقال بصوتٍ أجوف:
-مظبوط يابا، كفاية رغي فيه.
هزت والدته رأسها في استسلامٍ، ثم اقترحت بنبرة مرحبة والابتهاج يملأ عينيها:
-إنت تبات معانا إنت ومراتك هنا، أوضتك جاهزة وزي الفل، أنا موضبة كل حاجة.

على الفور ودون منحه الفرصة لاتخاذ القرار هتفت "خلود":
-أنا معنديش مانع يا خالتي، ده بيتنا، و"تميم" محتاج يرتاح، كفاية اللي شافه طول اليوم.
حرك رأسه قائلاً، وقد تمكن التعب منه:
-طيب.
وبثقلٍ وتباطؤ نهض "تميم" من مكانه واتجه إلى غرفته، وخطوات زوجته تلحق به، صاحت "ونيسة" من خلفهما:
-أنا هاجهزلكم لقمة تاكلوها.
استوقفت كلماتها "خلود"، فأدارت رأسها نحوها لتشكرها:
-تسلمي على تعبك يا خالتي.
أشارت لها بيدها تستحثها بنبرة ذات مغزى:
-روحي ورا جوزك شوفي ناقصه إيه.
-حاضر.

قالتها بمرحٍ وهي تسرع الخطى نحو غرفة نوم "تميم"، تلك التي ستبيت فيها الليلة في أحضانه الدافئة بعد أن كانت تطأها خلسة، راقبتهما "ونيسة" إلى أن تواريا بالداخل، ثم التفتت نحو زوجها تقول له وقد تبدلت تعبيراتها للتجهم:
-اعمل حسابك يا حاج أنا مش هاسكت عن اللي حصل ده.
رد عليها بلهجة جادة:
-ماتكبريش الموضوع يا "ونيسة".

غامت عيناها وهي تتطلع إليه، وبدت قسماتها المرهقة مشدودة عن ذي قبل، ثم هتفت بلهجتة عبرت عن قساوةٍ لا تظهر إلا في المصائب، لتعلن بصراحة عن تصعيد الخلاف لأقصاه:
-هو كبر لوحده خلاص يا "بدير"! وابني عندي مش أغلى من بنت "آمنة" ...!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة الثامنة عشر بقلم منال سالم


قضت في أحضانه ليلة مغايرة لتلك الليالي الجوفاء الأولى في حياتهما الخاصة معًا، واستمتعت بنوبة حب عنيفة مليئة بكل المشاعر الجامحة التي امتزجت بقوته الذكورية فأحيت فيها عنفوانها وجعلتها تحلق عاليًا في سماء الحب، بل وتطلب المزيد من ذاك الشغف العاصف بالوجدان، استطاع أن يصل بها إلى مناطق لم تختبرها من قبل، خاضت بجوارحها تجربة أوقظت فيها مشاعرها الكامنة بالكامل.


 
لم تتوقع "خلود" أن يمنحها "تميم" مثل تلك الأحاسيس العميقة، بدا مختلفًا كليًا عن ذي قبل، تأوهت بصوتٍ خفيض وهي تنهض بتململٍ من على الفراش، التفتت برأسها نحو زوجها فوجدته لا يزال مستغرقًا في النوم، تأملته بابتسامة مشرقة ووجهها يشع نضارة لطيفة .. عبثت في خصلات شعرها المتنافرة ومشطتها بيدها لتعيد ترتيبها، ثم عقصتها كعكة دون أن تربطها بمشبكٍ للرأس..


 
أخفضت نظراتها لتنظر إلى ما اضطرت أن ترتديه في الليلة الماضية؛ إنه واحد من قمصانه، يكاد يغطي نصفها العلوي، توردت قليلاً لمجرد تذكر تأثير رؤيته ترتديه، أعطاها جاذبية مغرية، ومنحها ليلة حافلة العواطف الجياشة، وعلى غير عادتها نهضت مليئة بالحيوية والنشاط، كانت متحمسة لإعداد الفطور له وإحضاره بالفراش، مشيت على مهلٍ وبحذرٍ حتى لا توقظه، لكنه انتبه لحركتها، تقلب على جانبه، ونظر لها بنصف عين، بادلته ابتسامة رقيقة وهي تستطرد بنعومة متعمدة التدلل في وقفتها:
-صباح الخير يا حبيبي.

فرك "تميم" وجهه بيده، وقال متثاءبًا:
-صباح الخير.
عضت على شفتها السفلى وهي تسبل عينيها نحوه، ثم تغنجت في وقفتها المغرية لتضمن تركيز كامل أنظاره عليها، وما إن نجحت في ذلك حتى تحركت مبتعدة عنه لتجعله يتأمل تفاصيلها الأنثوية عن عمدٍ فتحرك فيه مشاعره، وأضافت وهي تشير بيدها نحو عباءتها:
-أنا هاحضرلك الفطار وأجيبهولك هنا يا حبيبي.


 
أومأ بحاجبه معقبًا بنبرة موحية:
-طب ما تيجي أصبح عليكي الأول!
التفتت برأسها نصف التفاتة تقول له في دلالٍ ممتع وقد امتلأت عيناها بوميض لامع:
-اللي تؤمرني بيه يا حبيبي.

ثم تهادت في خطواتها المائعة نحوه لتزيد من تأجج الرغبة بداخله، وما إن أصبحت قريبة منه حتى مد يده ناحيتها وقبض على معصمها ليجذبها إليه، سقطت في أحضانه، وأحاطها بذراعيه .. وبخفة ممتزجة بالقوة رفع جسدها وأدارها للناحية الأخرى من الفراش لتغدو أسفل منه، وما هي إلا لحظاتٍ وانغمست معه في أنهر الحب اللذيذة.


 
ركام محترق، بقايا مدمرة، هذا كل ما تبقى لها من العربة حين وقفت تتطلع إليها في الصباح عند الكورنيش، أخفت "فيروزة" عينيها الغائرتين خلف نظارة داكنة، لكن دمعاتها أبت الاختباء، انسابت في صمتٍ تحسرًا على حلمٍ قريب ضاع قبل أن يكتمل، لم تأبه لمن يتطلع إليها، لم تشعر بمن حولها، فقط مزيج من المشاعر الحانقة، الغاضبة، والمتألمة كان مسيطرًا عليها، مسحت بطرف إصبعها دمعاتها التي شقت طريقها عبر صفحة وجهها لتضع بعدها الهاتف على أذنها، هتفت متسائلة بصوتها المائل للبكاء:
-مافيش لسه جديد يا "علا"؟

أجابتها رفيقتها على مهلٍ:
-لأ لسه.
عادت لتسألها بعد زفير بطيء:
-و"ماهر" بيه طمنك على وضعي القانوني؟
لحظة صمت سادت بينهما قبل أن تجيبها:
-كله تمام.
مسحت بمنديلها الورقي أنفها المبتل، وأضافت تسألها:
-يعني أنا مش محتاجة أستشير محامي أو حد متخصص
نفت على الفور:
-لالالا، هو قايم بكل حاجة، معارفه كتير زي ما إنتي فاهمة.


 
أومأت برأسها ترد وقد شردت نظراتها في أمواج البحر المتلاطمة والتي نثرت رذاذها على عربتها:
-ماشي، بس لو عرفتي حاجة بلغيني.
قالت لها:
-أكيد يا حبيبتي، وإنتي خلي بالك من نفسك
-إن شاء الله.
أنهت "فيروزة" المكالمة معها لتلقي نظرة أخيرة طويلة على ما كانت عربتها قبل أن تستدير للجانب لتسير مجرجرة ساقيها بعيدًا عما أصبح يؤلمها.

على الجانب الآخر، كان "ماهر" جالسًا إلى جوار شقيقته واضعًا ساقه فوق الأخرى ويتابع بأنفاس مكتومة حوارهما الخاص بعد أن أسمعته المكالمة الدائرة بينهما. تعليماته لها كانت واضحة؛ أن تماطل قدر المستطاع معها حتى لا تلجأ لمساعدة محامٍ متخصص فيفسد ما يحاول إصلاحه، أغلقت الخط، والتفتت نحوه تسأله في ضيقٍ:
-أنا خايفة "فيروزة" تزعل مني لما تعرف إني كنت بأكدب عليها، وإن المحضر اتركن ومافيش فيه جديد.


 
حدق فيها بنظرة جامدة خالية من العطف وهو يرد:
-ده لمصلحتها يا "علا"، الناس اللي واقعة معاهم تُقال أوي، وممكن يضيعوها، واللي أنا عملته ده هيخدمها بعدين.
رددت والتأثر ظاهر في نبرتها:
-بس هي صعبانة عليا أوي.
انتصب في جلسته يقول لها:
-للأسف احنا في غابة، والضعيف مالوش مكان فيها، وصاحبتك بعنادها حطت نفسها في عرين الأسد
سألته في قلقٍ:
-طيب هيحصل إيه بعد كده؟

أجابها برويةٍ، مؤكدًا لها أن الأمر مخطط له:
-هنحاول نخليها تتنازل، أنا متفق مع "وجدي" على ده، والصراحة هو عامل اللي عليه وزيادة عشان الموضوع ميوصلش للنيابة.
تمتمت في رجاءٍ وهي تستند بطرف ذقنها على كف يدها:
-ربنا معاها
حذرها "ماهر" بوجهٍ صارمٍ للغاية ونبرة غير قابلة للنقاش:
-إنتي خليكي متابعة معاها على الخط كل حاجة بتعملها، لوو جد أي جديد عرفيني، مفهوم؟
أومأت برأسها متنهدة في خنوعٍ:
-حاضر.

وقف مستندًا بكفيه على حائط الحمام المبتل في منزله تاركًا المياه المتدفقة تنهال على رأسه بقوتها علها تسكت تلك الأصوات الصاخبة في عقله، والتي أصابته بالتخبط والارتباك، تردد مريب جعله يعاود التفكير في أمرها بالرغم من مرور يومين على تحرير المحاضر بينهما، أغمض "تميم" عينيه مستعيدًا المشاهد الشائكة التي حدثت له معها مؤخرًا، وكان هو طرفًا محوريًا فيها، بدا كمن يحلل الأحداث وينقيها محاولاً استنباط الحقيقة بشفافية بعيدًا عن تحيزه الذكوري الأعمى وهواجسه الخاطئة، ربما لكون حديث والده وما تردد من فمها خلال نوبة غضبها قد أوقظ إدراكه العقلاني، بالإضافة لرؤيته للأضرار الجسيمة التي قضت على العربة، فبدت بدنًا مهترئًا لا يصلح لشيء، تساءل مع نفسه بعشرات الأسئلة التي أرهقت عقله كثيرًا لإيجاد الإجابات عليها..

ماذا لو تبدلت الأدوار وكان هو في محلها وعبث أحدهم بلقمة عيشه؟ بالطبع لم يكن ليتهاون في حقه! بل ومن الممكن أن يطيح برأس أحدهم انتقامًا منه .. تلقائيًا وجد نفسه يُوجد لها الأعذار المنطقية مبررًا تصرفها معه بعدائيةٍ بحتة، كذلك وصل إلى نتيجة مقنعة جعلته يميل لدافعها المفهوم بالتعامل معه بكل ذلك الحنق المشحون؛ قهرها على ضياع مصدر رزقها، لعلها تكون هي المعيلة الوحيدة لأسرتها، ومحدودية تفكيره جعلته يُدينها دون تهمة حقيقة. ردد مع نفسه بصوتٍ خفيض وهو يستدير بجسده:
-ما يمكن أكون غلطان!

لم ينكر أنه خلال ممارسته لطقوس الحب الحميمية مع زوجته كانت "فيروزة" ضيفة مميزة في مخيلته، لوهلة ارتبك من اقتحامها لذهنه وحاول مقاومة صورتها الخيالية ليركز انتباهه مع تلك التي تمنحه حبها غير المشروط، تعامل بشكل غير اعتيادي مع زوجته ليتغلب على تلك المتطفلة، لكنها اخترقت أحلامه الجريئة وطغت عليها بحضورها المثير لحواسه لدرجة جعلته يرغب في مطارحتها الغرام، نهض من النوم مذعورًا قبل شروق الشمس وهو يلهث وقد فزع من جموح أحلامه، تطلع إلى "خلود" بنظرات غريبة.

ما لبث أن تحولت للندم بعد أن تبين ملامحها على أثر الضوء الخافت، وكأنه اقترف ذنبًا في حقها باستدعائها إلى منطقته المحرمة، نفض تدفق تلك الأفكار عن رأسه منذرًا نفسه بعواقب التمادي في تخيلها بتلك الطريقة، أكمل استحمامه محاولاً الاسترخاء غير عابئ بالوقت الذي قضاه في الحمام..

حملق أمامه بعينين متسعتين وكأن طيف وجهها المحتقن شبه متجسد على المرآة المشبعة ببخار الماء يلومه على إحراق عربتها، أحاسيس غريبة بدأت تراوده من جديد نحوها خلال يقظته، لكنها لا تضم مشاعر الغضب من عدوانيتها، إلى حد ما مال للتعاطف معها بعد أن تفهم موقفها وأدركه من أبعاد أخرى لم يكن قد فكر فيها من قبل، شعر وكأن الوحشة التي عششت في قلبه بسبب تأثير الحبس عليه قد تضآلت قليلاً، لكن ما انتاب جسده من تأثيراتٍ حسية لمجرد احتلالها لذهنه أصابه بالتوتر، توقف فجأة عن التفكير في أمرها وتلك الدقات الخفيفة تطرق على الباب يصحبها صوت "خلود" المنادي:
-عمي "بدير" بيتصل عليك.

رد متصنعًا الجدية وهو يكبح هواجسه:
-طيب، أنا هاخرج وأكلمه، تسلمي .. يا حبيبتي.
غسل رأسه ودعكها بخشونة وهو يلوم نفسه بشدة على ضعفه غير المسبوق أمام تلك الخيالات المثيرة للشهوات، كيف يعقل ذلك وهو من يصنع إرادته بنفسه؟ كز على أسنانه يعنف نفسه بنبرة لا تتخطى الهمس:
-إنت اتجننت ولا إيه؟ فوق يا "تميم"!! مراتك ما تستهلش ده منك!
عاهد نفسه ألا يخطو مجددًا نحو تلك المنطقة المحرمة بالتفكير فيها، بل وعقد العزم على إنهاء تشاحنهما القانوني بحلٍ سريع وودي ليقطع سبل التواصل معها، غمره الارتياح بالوصول لذلك القرار.

اعتقدت بسجيتها أن الأمور تسير على ما يرام إلى أن جاءت إليها في زيارة استثنائية وغير عادية، فتحت "آمنة" باب منزلها لتتفاجأ بآخر من توقعت رؤيته، رمشت بعينيها في ذهول وتطلعت للضيفة بفمٍ مفتوح، لعقت شفتيها راسمة على وجهها ابتسامة باهتة قبل أن تبادر مرحبة بصوتٍ عبر عن اهتزاز نبرتها:
-حاجة "ونيسة"، يا أهلاً وسه....

لم تكمل جملتها للنهاية، حيث قاطعتها "ونيسة" تعاتبها بصوتٍ متجهمٍ، ووجه عابس للغاية:
-مكنش العشم يا "آمنة".
ازدردت ريقها في حلقها الجاف، حاولت أن تحافظ على ابتسامتها المبتورة، وقالت:
-اتفضلي يا حاجة، مايصحش نتكلم على الباب.
دفعتها بغلظة من كتفها لتمرق للداخل، ثم استدارت لتهاجمها كلاميًا:
-وهو إنتي تعرفي اللي يصح واللي مايصحش؟

ردت "آمنة" على الفور مدافعة عن نفسها حتى لا تسيء الظن بها:
-من قبل ما تتكلمي وتعاتبيني، أنا أقسم بالله ما كنت أعرف أي حاجة.
نظرت لها باحتقارٍ، وكأنها غير مقتنعة بكذبتها الساذجة، ثم سألتها مباشرة:
-ولما عرفتي، اتصرفتي إزاي؟
نكست رأسها تجيبها بلبكة بائنة:
-أنا كلمت بنتي، و.. وضاغطة عليها عشان.. تتنازل عن المحضر
ركزت نظراتها عليها وهي تسألها:
-وبعدين..؟

بلعت ريقها في حلقها الجاف وردت بتلعثمٍ:
-هي.. يعني.. آ..
كانت تبحث عن الكلمات المناسبة لتسعفها قبل أن تتفوه بما قد يأزم الأمور ويعقدها، لكن "ونيسة" استطردت موضحة دون مراوغة:
-راكبة دماغها، عاوزة تقولي كده، مظبوط؟
نفت في التو:
-لالالا يا حاجة "ونيسة"، بس الموضوع فيه سوء فهم.
رفعت سبابتها أمام وجهها تحذرها بلهجة قوية وقد توحشت نظراتها:
-شوفي يا "آمنة"، هي كلمة من الآخر...

انتبهت حواسها لما هو قادم، وتابعتها بآذان صاغيها حينما أكملت:
-بنتك لو أذت ابني فأنا هانسى الجيرة اللي كانت بينا في يوم، ومش هاعمل حساب لحاجة، سمعاني؟
أحست بدوار قاسٍ يضرب رأسها، حاولت التماسك أمامها حتى لا تُظهر ضعفها، لكن ملامحها الباهتة أكدت خوفها، واصلت "ونيسة" تهديدها العلني قائلة:
-قدامك يومين تحلي فيهم كل المشاكل، وقد أعذر من أنذر!!
رمقتها بنظرة متعالية متأففة قبل أن توليها ظهرها لتتجه نحو المنزل وهي تغمغم بحنقٍ:
-ومافيش سلامو عليكم.

بحثت "آمنة" عن أقرب مقعدٍ لتستند عليه بيدها قبل أن يختل توازنها، زاغت نظراتها وأحست بعنف دقات قلبها، اضطربت أنفاسها وهي تولول تحسرًا:
-يا دي المصايب اللي نازلة ترف على دماغي من الصبح!
تشوش ذهنها واحتلت الهواجس المذعورة رأسها، تخيلت المخاطر تحيق بكل فرد من أسرتها دون وجود مدافع عنهم، فزعت أكثر، وما ضاعف من ذلك ارتعابها من ردة فعل شقيقها إن علم بما دار خلال غيابه، ارتعش بدنها، وهمست في هلعٍ:
-ناوية تخسريني مين تاني بعد كده يا "فيروزة"؟!

مرت الساعات كأنها أدهر عليها وهي تلملم ما ظنت أنه حلمها، أخلت "فيروزة" الغرفة التي أعدتها مخزنًا من كل ما تحتويه من أشياء ووضعتهم بالباحة الخلفية تمهيدًا لبيعهم، فوجودهم بها ليس له جدوى، تأزم الموقف حقًا بعد جدالها العقيم مع والدتها التي سعت لإجبارها على التنازل عن حقها القانوني إرضاءً لجارتها القديمة دون أن تأبه بمشاعرها المقهورة، رفضت بشدة وتمسكت بقوة بآخر حقوقها المشروعة، وبفتورٍ وحزن أخرجت آخر صندوقٍ كان موضوعًا بالزاوية، حملته بيديها وسارت نحو الكومة الملقاة لتضمه إليها، رأت "همسة" الدمعات النافرة من عينيها، دنت منها وهي تقاوم رغبتها في مشاطرتها البكاء، ثم ربتت على كتفها محاولة تهوين الأمر عليها قبل أن تستطرد مواسية إياها:
-متعيطيش يا "فيروزة"، قلبي بيتقطع عشانك.

نظرت نحوها بأسى، وقالت بصوتها المنتحب الذي يعبر عن ألمها وهي تلقي بالملاءة القماشية على الكومة لتغطيها:
-حلمي ضاع يا "همسة"، كل اللي حلمت بيه راح، ومحدش حاسس بالوجع اللي جوايا.
تماسكت أختها بصعوبة أمامها، وردت بغصة مريرة عالقة في حلقها:
-كله هيتعوض، و...

كانت بلا وعيٍ فلم تصغِ لحديث "همسة" الآسف، زادت نهنهاتها وهي تواصل ندبها المتحسر:
-ومطلوب مني بعد ده كله أتنازل عن حقي، وأسيب اللي عمل كده من غير حساب؟ ده يرضي مين بس؟
فشلت "همسة" في مغالبة دموعها المتأثرة، ورددت عفويًا:
-حبيبتي..

ثم مدت يدها لتأخذها في أحضانها من تلقاء نفسها، وضمتها إليها محاولة تهوين الأمر عليها ليس بكلماتٍ لا تسمن ولا تغني من جوع وإنما بمشاعرها الصادقة، فهي ما تملكه حاليًا لتخفف من مصابها، لم تتمكن كلتاهما من الحصول على لحظة سكينة هانئة، فقد أتت من تكدر الصفو وتعكر السلام الداخلي، صاحت "حمدية" مهللة وهي تتبختر في خطواتها متجهة نحوهما:
-هو في إيه اللي بيحصل هنا؟

كزت "فيروزة" على أسنانها في حنقٍ قبل أن تميل نحو أختها لتقول لها بصوتٍ خفيض:
-أنا مش نقصاها السعادي
اندفعت بعصبيةٍ مبتعدة عنها حتى لا تمنحها الفرصة للتشاجر معها، لكن كان كتفها الأسبق في لكزها بعنف محسوس، نظرت لها "حمدية" بتعالٍ وغيظ، ثم عادت لتحملق في أختها، مصمصت شفتيها متسائلة:
-مالها دي؟ لاوية بوزها علينا كده ليه؟

أجابتها "همسة" على امتعاضٍ وهي تمسح بيدها آثار دموعها:
-معلش يا مرات خالي، ظروف بقى.
ردت ساخرة وهي تومئ بحاجبها:
-إيه نسيتوا الزيت على النار، وانشغلتوا بالهئ والمئ فالأكل باظ؟
عبست بتعبيراتها في استنكارٍ من سماجتها الثقيلة، همت بالانصراف، وقالت لها:
-لأ يا مرات خالي، عن إذنك
غمغمت بنبرة ناقمة:
-غوري، جاتك ضربة إنتي التانية!

ألقت "حمدية" بحقيبة يدها على كتفها، واستدارت عائدة من حيث أتت، توقفت عند المدخل لتأمر زوجها ببرودٍ:
-طلع الشنط إنت يا "خليل" لأحسن مش قادرة، وبالمرة هافوت على أختك أسلم عليها، وأشوف طابخة إيه، جايز أريحك من أكل برا النهاردة!
نظر لها شزرًا وهو يتناول باقي الأجرة من السائق قبل أن يرد بوجهٍ متجهم:
-يكون أحسن بردك.

كان "خليل" مجهدًا للحد الذي يمنعه من الانتباه إلى ثرثرتها المزعجة أو حتى الاعتراض على أوامرها المملة، انحنى ليرفع الحقائب عن الأرضية مكملاً السير بتريثٍ وهو يعيد ترتيب ما سيفعله لاحقًا في رأسه؛ فأيامه القادمة مشحونة بالكثير من الأعمال الهامة.

ثينت ساقها اليسرى ووضعتها فوق اليمني لتجلس القرفصاء على الأريكة، وباستخدام أصابعها قامت "حمدية" بفرك وتدليك قدميها المتورمتين، أصدرت أنينًا عاليًا من جوفها ونظراتها تجول على وجه "آمنة" الشارد، تفحصتها بعينين فضوليتين، كانت تعلم أن الأخيرة بها خطب ما، فجلوسها صامتة بتلك الملامح الواجمة يؤكد لها إحساسها، مهدت للحديث معها قائلة بنبرة تعمدت أن تظهر فيها تعبها:
-أما كانوا يومين ما يعلم بيهم إلا ربنا، الواحد قال يروح البلد يشم نفسه شوية يبص يلاقي النكد في ديله.

اكتفت بهز رأسها كتعبيرٍ عن استماعها لها، بينما تابعت "حمدية" مسترسلة بأسلوب يشدها للحوار وتلك النظرات اللئيمة تكسو حدقتاها:
-عارفة يا "آمنة" الولية اللي اسمها "حنان" مرات "رياض خورشيد" اللي كان مات من قريب.
ضاقت عيناها متسائلة باهتمامٍ:
-أه، مالها؟

التوى ثغرها بابتسامة ماكرة لنجاحها في الاستحواذ على انتباهها، اختفت تلك البسمة سريعًا ليحل الحزن المصطنع على تعابيرها قبل أن تقول موجزة:
-ماتت.
لطمت "آمنة" على صدرها مرددة في صدمة مفجوعة:
-يا ساتر يا رب، امتى ده حصل؟
زمت شفتيها تجاوبها:
-اليومين اللي فاتوا، راحت تزور باين قرايب جوزها، وماتت عندهم.
قالت في أسفٍ:
-إنا لله وإنا إليه راجعون.

أضافت بنبرة خالية من أي تعاطف:
-ولسه مش عارفين هايعملوا إيه مع بنتها، ما إنتي عارفة سلو بلدنا في الحاجات دي
ردت عليها بتنهيدة حزينة:
-ربنا يتولاها
وبخبثٍ مكشوف سألتها مباشرة:
-مقولتليش صحيح، إيه اللي حاصل مع بناتك؟

لم تكن "آمنة" في مزاج رائق يسمح لها بالفضفضة العفوية معها، كانت تخشى من البوح معها بما آلم بعائلتها في الأيام الماضية فتستغل الموقف كعادتها وتزيد من تعقيد الأمور، لذا تهربت من الإجابة عليها، وقالت وهي تنهض من على الأريكة لتسير بتؤدة نحو المطبخ:
-زمانت الأكل سخن، هاطفي النار عليه
نظرت لها "حمدية" في غيظٍ مكبوت، وما إن اختفت عن عينيها حتى غمغمت مع نفسها بتبرمٍ:
-بتتلاوعي عليا يا "آمنة"؟! مسيري هاعرف، ده مافيش حاجة بتستخبى عليا!

انتهى من تدخين سيجارته الرابعة أو الخامسة، لم يعر الأمر أي اهتمامٍ زائد، فكامل تركيزه كان منصبًا على أمر آخر، ولكنها كانت وسيلته المؤقتة للتنفيس عن التوتر الغريب الذي اعتراه. راقب "تميم" الطريق بعينين حادتين ممعنًا النظر في الأوجه التي تمر أمامه، حيث انتقى تلك البقعة تحديدًا لتمكنه من رؤيتها حينما تعرج من أي اتجاه، تفحص جيبه الممتلئ بلزمة لا إرادية كل بضعة دقائق، انتصب جسده واشتد كتفاه حين أبصرها قادمة من على بعدٍ.

ألقى بسيجارته ودعس طرفها بقدمه ليطفئها، ثم تأهب في وقفته. تنحنح "تميم" بخشونة طفيفة ليزيح تلك الحشرجة التي تغلف أحباله الصوتية، وبدا إلى حد ما مستعدًا لمواجهته مجددًا معها.

لم تكن "فيروزة" منتبهة لذاك الظل الواقف على مقربة من منزلها وفي تلك البقعة المعتمة، كانت مستغرقة في أفكارها المهمومة محاولة توفيق أوضاعها وفق ما توفر معها من ماديات بعد بيع كل ما يخص عربة الطعام من أدوات ومستلزمات الطهي، تسمرت في مكانها مذعورة حين أقبل عليها أحدهم بهامته الطويلة، في البداية لم تتبين ملامحه، ودق قلبها بخوفٍ طبيعي، وما إن انعكس الضوء الباهت على قسماته حتى اتضحت قسماته المألوفة؛ إنه ذاك الوغد الذي أفسد عليها حياتها! حقًا كان بارعًا في إفزاعها بخروجه المفاجئ من الظلام ليغدو في لحظة أمامها، تداركت خوفها الغريزي وتطلعت إليه بنظرات حانقة قبل أن تصيح فيه بقوةٍ مهاجمة إياه:
-إنت بتراقبني؟

نظر لها بجمودٍ تاركًا لها الفرصة لتفرغ ما في جعبتها من كلماتٍ ناقمة، وكذلك ليتمكن من ضبط تلك المشاعر الحسية التي هاجمته بشكلٍ غير متوقع، واصلت "فيروزة" صياحها الغاضب فقالت:
-فكرك أسلوب المجرمين ده هيخوفني؟ يبقى إنت متعرفنيش كويس، أنا ورايا ناس ...
رفع "تميم" كفه أمام وجهها ليخرسها بصيغة شبه آمرة:
-ابلعي ريقك شوية، أنا جاي في كلمتين وماشي
ردت معترضة بشراسةٍ على أسلوبه الفظ معها:
-مش إنت اللي هاتقولي أتكلم امتى وأسكت امتى.

نفخ في استياءٍ فاستغلت الفرصة لتضيف بغضبٍ ظاهر على وجهها المتشنج:
-ومش هتنازل عن أي محضر مهما حصل!
كانت نظراته نحوها غامضة ممتزجة بالقسوة، وبكل ترفعٍ علق عليها:
-محدش قالك اتنازلي.. مش المحضر بتاعك ده اللي هايفرق معايا.
اغتاظت من ازدرائه الملموس في طريقة تحدثه معها، وقبل أن تبادر بالكلام مجددًا هتف بهدوءٍ:
-أنا جاي في حاجة تانية خالص.
تبدلت تعبيراتها للاندهاش، ورفعت حاجبها للأعلى متسائلة بنفس النبرة المتعصبة:
-خير؟

لا يعرف لماذا ظلت عيناه مشدودة لوجهها المليء بأمارات الغضب، وكأنه يدرسه، يتمحصه، يفحص كل ذرة فيه على حدا، بات من العسير عليه أن يكبح تلك التأثيرات الحسية التي تجتاحه على نحوٍ مقلق وغير اعتيادي. تنفس بعمقٍ ليكبت ما يعتريه ويوؤده في مهده، ثم استطرد موضحًا بنبرة باردة وكأن أمرها لا يعنيه حقًا:
-أنا جاي أعوضك عن اللي حصل لعربيتك.
رددت في اندهاشٍ مذهول من عرضه المفاجئ وقد تعقد جبينها:
-تعوضني؟

أخرج "تميم" من جيب سترته المغلف الأصفر المطوي إلى نصفين، ومد به يده نحوها قائلاً:
-اتفضلي.
تجمدت يداها ولم تحركهما قيد أنملة، وكأن جسدها بالكامل قد تحول لتمثال حي، نظرت له بعينين غاضبتين متسائلة بوجهها المقلوب:
-إيه ده؟
لوح بالمغلف وهو يجيبها في بساطةٍ:
-فلوس، بدل عربيتك المحروقة.

ابتسمت في تهكمٍ غير مصدقة عرضه الذي بدا من وجهة نظرها سخيفًا ولا معنى له سوى إذلالها بشكلٍ متعمد، رفعت رأسها للأعلى في كبرياءٍ، ثم سألته بما يشبه السخرية:
-مش سيادتك أنكرت إن ليك صلة بالموضوع من الأساس، جاي تدفعلي تعويض ليه بقى؟!
ارتبك لوهلةٍ لسؤالها الصريح، ومع ذلك حافظ على ثبات نبرته وهدوئها وهو يبرر لها:
-لأني مرضاش بخراب البيوت لحد.

التوت شفتاها في ابتسامةٍ مستهجنة، ثم علقت بنبرتها الساخرة وهي تطالعه بنظراتٍ احتقارية واضحة:
-عاوز تقولي إنك يا حرام قلبك رق وصعبت عليك بعد اللي حصل فقولت أطلع قرشين للغلبانة دي أتعطف بيهم عليها، وأهي تبقى بجميلة وأعرف أكسر عينها كويس!!!

صدمته واقعيتها وأفسدت مخططاته العادية بتزمتها الحاد، كان يعتصر عقله ليجد الكلمات المناسبة التي يعلل بها تصرفه، فهي تركيبة نسائية عجيبة لم يقابلها في حياته من قبل، أخرجته من صمته حين هتفت بنبرة اكتسبت قساوة أكبر:
-شكرًا يا حضرت، أنا ما بأقبلش العوض ولا الإحسان من حد..
-بس أنا قصدي..
قاطعته بغصة شعرت بألمها في حلقها:
-محصلتش إني أشحت على نفسي!

دافعت بعزة نفس عن كبريائها الذي جرحه بعرضه السخي، تفهم موقفها ولم يعلق بشيء، لكنها أفسدت احترامه لموقفها بقول:
-خلي فلوسك في جيبك، وابقى ادفعهم للمحامي عشان يطلعك من السجن.
احتقنت نظراته من بشاعة لسانها السليط، لم يكن قد تجاوز بعد عن صفعتها، وحاول تخطيها مرغمًا لينسى كل ما يخصها بإنهاء المسائل العالقة بينهما، لكنها تعيده إلى ذروة الخلاف بحماقتها وتهورها، استطاعت برعونتها أن تستثير حميته فعنفها بحدةٍ وقد توحشت عيناه:
-الواحد غلطان إنه بيعمل معاكي أي واجب.

ردت ببرودٍ:
-مش عاوزة، خليهولك!
نظرة احتقارية له أطلت من عينيها جعلته يستشيط غضبًا، تركته يغلي في مكانه قبل أن يتحول لوحش كاسر ويهاجمها إما لفظيًا أو بدنيًا، فتجربتها السابقة معه توحي بذلك، خاصة مع عدم وجود من يدافع عنها إن تطلب الأمر تدخلاً سريعًا، بدأت "فيروزة" تسير مبتعدة عنه بخطا متعجلة غير مبالية بنظراته النارية المصوبة نحوها. كان "تميم" على وشك التحرك وهو بالكاد يكبح انفعالاته المستثارة، لكنه أدار رأسه في اتجاهها ليقول لها بنبرة عالية:
-عارفة، إنتي عاملة زي الطاووس بالظبط!

استوقفتها جملته الغريبة فالتفتت نحوه تسأله:
-نعم..
تابع موضحًا بما يشبه التهكم عليها:
-أيوه، إنتي مغرورة ومناخيرك لفوق، مالكيش كبير، ومابتسمعيش لحد، ولسانك سابق دماغك، وصدقيني ده هيضيعك.
تفاجأت من تحليله لشخصيتها بتلك الصورة التي تضعها في قالب ترفضه، تماسكت حتى لا تظهر تأثرها بوقاحته، ونظرت له بتعالٍ وهي تعقب عليه:
-طب يا ريت تخلي نصايحك لنفسك، هتنفعك أكتر مني.

لاح على زاوية فمه ابتسامة ساخرة منها مما استفزها، فاندفعت قائلة بنزقٍ:
-أه، وبالمرة قول للست الوالدة ماتتعبش نفسها وتيجي تهددنا تاني، أنا هاخد حقي منك وبالقانون!
بدا تأثير المفاجأة بائنًا على تعبيراته التي تحولت للوجوم وهو يردد:
-إيه الكلام ده؟

شعرت "فيروزة" أنها كسبت تلك الجولة لصالحها، فارتخت قسماتها وانعكس عليها القليل من الزهو، ثم قالت ساخرة وتلك النظرة المنتصرة تتراقص في حدقتيها:
-مش معقول متعرفش بده، غريبة!
اشتد في وقفته، ودنا منها خطوتين ليسألها بصوتٍ قاسٍ:
-فهميني هنا، معناه إيه كلامك البايخ ده!
حذرته بتهديدٍ صريح وهي تتراجع للخلف:
-عندك! متقربش مني وإلا هاعملك محضر تحرش وبدل السنة هتبقى عشرة!

نظر لها بعينين مغلولتين مستنكرًا بجاحتها، أهذا جزاء معروفه معها؟ ردد لنفسه في ضيقٍ، بينما تابعت "فيروزة" بنبرة تهزأ به:
-وإنت ماشاء الله سوابق، وسمعتك سبقاك.
أوصلته بنزقها المستفز إلى درجة جعلت من الصعب عليه السيطرة على غضبته الوشيكة، غالب "تميم" ما يعتريه من مشاعر حانقة ومستثارة حتى لا يتصرف بطيشٍ .. وبصوتٍ أجش رن صداه في أذنيها بقوةٍ قال لها متعهدًا:
-بكرة السوابق ده هيكسر مناخيرك ويجيبها الأرض...!!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة التاسعة عشر بقلم منال سالم


حالة من الحنق، الغيظ، السخط سيطرت على كامل جوارحه واختلطت بغضبه المكتوم لتتشعب في كل ذرة من جسده بعدما أخبرته "فيروزة" بشأن زيارة والدته غير المستساغة لها، لم يحبذ مطلقًا أن يوضع في ذلك الموقف الحرج، وبجهد مضاعف ضبط انفعالاته ليبتعد عن المكان قبل أن يرتكب ما قد يندم عليه لاحقًا بسبب نجاحها في استفزازه بتسلطها الحاد.


 
كور "تميم" قبضة يده ضاغطًا على أصابعه بقساوةٍ، سار بمحاذاة الكورنيش لوقت طويل حتى تخبو تلك النيران المستعرة بداخله فلا يعود لمنزله وهو على وضعه الحالي، استياء عظيم شعر به لفشله في تحقيق ما كان يصبو إليه، قادته قدماه خلال طريق عودته إلى العربة المحترقة، تجمد أمامها وحملق فيها طويلاً بعقلٍ شبه شارد، ورويدًا رويدًا بدأت ثورته المتأججة نحوها تخبو لتتحول نحو رفيقه الذي أحدث تلك الكارثة.


 
بدا كمن أصابه البرق فانتصب في وقفته وغير مساره ليتجه نحو منزل "ناجي"، توقع مكوثه بالسطح ليلهو كعادته كل مساء، صعد الدرجات سريعًا، وقف عند أعتاب مدخله وألقى نظرة شاملة على من فيه، وكما صدق حدسه، فقد كان متواجدًا بصحبة "حمص"، و"شيكاغو"، صاح عاليًا لينتبه ثلاثتهم لوجوده:
-سلامو عليكم.


 
على الفور نهض "ناجي" من جلسته المسترخية مهرولاً نحوه وهو يرحب به:
-أهلاً بكبير منطقتنا، نورت المكان كله.
مد يده لمصافحته، وجذبه الأخير نحوه ليحتضنه، ثم دعاه للجلوس قائلاً:
-تعالى، ده الأعدة الحلوة لسه هتبتدي.

نظر له بعينين غائمتين ووجه عابس، لم يكن راغبًا في السهر أو المكوث معه، فمجيئه فقط كان من أجل مهمة محددة، لذا سار بتثاقلٍ نحو الوسائد المحشوة التي تفترش السجاجيد بزاوية السطح، رحب به التابعان بودٍ زائد، اكتفى بالابتسام المتحفظ لهما، صاح "شيكاغو" عن ثقة وتلك البسمة اللزجة تعلو ثغره:
-اطمن يا معلم، الحكاية عندنا..


 
وأضاف عليه "حمص" متخذًا موضعه في الحوار:
-وزي ما ورطناك هنحلها بطريقتنا.
التفت نحوه يطالعه بنظرات قاسية رافضًا الغموض الذي يغلف كلماته، وهتف ينذره بخشونةٍ:
-طريقتكم!! أنا مش عاوز شغل عوأ وبلطجة تاني مع الحريم!
أجابه "حمص" نافيًا:
-لأ يا كبير، دي حاجة في السليم، ومضمونة.

اقترب منه "شيكاغو" ليقول بخبثٍ من بين أسنانه المتسخة:
-وبعدين ده احنا تحت طوعك يا معلم "تميم"، ومطرح ما تودينا نروح واحنا مغمضين.
هز "حمص" رأسه مؤكدًا هو الآخر:
-أيوه، رقبتنا فداك يا كبير.
نظر لهما بعدم ارتياح، وشدد من جديد بلهجته الجادة:
-ماشي، بس أديني قولتلكم أهو، عشان محدش يلومني لما اتصرف بعد كده.
قال له "شيكاغو" دون تفكير:
-فداك يا كبير.


 
قبض "ناجي" على ذراع "شيكاغو" وسحبه منه لينزوي به بعيدًا عن عيني "تميم" المراقبة له، وبنبرة أقرب للخفوت سأله:
-عرفت هتعمل إيه؟
جاوبه بصوته الخفيض دون أن تفتر ابتسامته السخيفة:
-أيوه، كله زي ما فهمتنا يا ريس "ناجي".
ارتخت أساريره المشدودة، وقال له:
-طيب، عاوز البشارة تجيلي قريب.
رد يطمئنه عن ثقة واضحة:
-قريب هاتسمع اللي يفرحك، بس ماتنسناش في عرقنا.

علق في سخطٍ:
-أما تتنيل تحلها تبقى تتكلم، بلاش تقاطع يا فقري
قال بتملقٍ، وكأنه بذلك يكسب وده:
-ولو ببلاش يا معلم، مايهمكش، اعتبرها عربون محبة وتصالح
هز رأسه في استحسانٍ، ثم اختطف النظرات نحو "تميم" الذي تمركز جالسًا على الوسائد، تنحنح بصوته الخفيض وأشار بعينيه ل "شيكاغو" ليبتعد عنه، أحضر نارجيلته ودنا منه وهو يحملها، افتعل الضحك ملقيًا دعابة خارجة، لكن لم يضحك رفيقه، بل بدا أكثر وجومًا، وسأله مباشرةً ليشعره بأنه يراقبه عن كثب:
-مقولتليش هتعمل إيه ؟


 
تلجلج قليلاً وهو يجيبه:
-كل خير يا صاحبي، اطمن..
حذره بجديةٍ واضحة:
-يا ريت ماتكونش مصيبة جديدة تحط على دماغي!
هتف نافيًا ليبدد شكوكه:
-لأ، دي حاجة مضمونة يا "تميم"، متقلقش!
وبالرغم من كلماته الباعثة على الاطمئنان إلا أنه لم يشعر بذلك الإحساس الذي يسعى رفيقه بكل جهده لبثه فيه، بل انتابه هاجسًا مزعجًا أن الأمور تتجه للتعقيد أكثر، وربما للأسوأ، خاصة بعد مواجهته الأخيرة مع صاحبة الرأس العنيد؛ "فيروزة".

كارثة بكافة المقاييس حلت على رأسها، وبالكاد ستقضي على سند عائلتها إن لم تتنازل عن عجرفتها وكبريائها الذي تعتد به لأجل فلذة كبدها، انخلع قلبها خوفًا عليه، وتهدجت أنفاسها فور معرفتها بما آلم به من مصيبة لن يخرج منها بسهولة، استطاعت بصعوبة أن تتمالك نفسها لترتدي ثيابها وتفكر بذهنٍ غير مشوش حتى تصل لحل ينقذه مما بات فيه.


 
هرولت "بثينة" نحو منزل شقيقتها لتستنجد بها بعد أن هاتفها ابنها ليخبرها بإلقاء القبض عليه بالقسم الشرطي في تهمة لم يفصح لها بعد عن فحواها، استقبلتها "ونيسة" بترحابها المعتاد متجاوزة عن أي خلاف حدث من قبل، وتفاجأت بها تبكي بحرقةٍ وهي ترجوها أن تتدخل لإنقاذ ابنها، لم يكن أمامها سوى اللجوء لزوجها ليساعدها، تركتها تجلس بمفردها في الصالون بعد أن أعدت لها عصير الليمون لتشربه وتهدأ، سارت عبر الردهة لتدخل إلى غرفة النوم حيث يستلقي "بدير" في قيلولة قصيرة، توقفت في مكانها مترددة، لم تكن راغبة في إيقاظه خلال لحظاته المقدسة تلك، لكن لا مفر، استجمعت جأشها، وتقدمت نحوه، وبكل رفقٍ هزته من جانبه هامسة له:
-حاج "بدير"! إنت صاحي يا حاج؟

نظر لها الأخير بنصف عين، تقلب على جانبه، وبصوتٍ ثقيل نائم سألها:
-في إيه يا "ونيسة"؟
بصوتٍ متذبذب أجابته:
-معلش ممكن تفوقلي كده شوية، أنا عاوزاك في مسألة مهمة
انتفض في نومته يسألها والقلق قد غطى ملامحه من طريقة حديثها:
-"تميم" جراله حاجة؟ الدكان فيه مصيبة؟ البضاعة باظت؟
ردت بالنفي:
-لأ يا حاج، الشر برا وبعيد عننا، ابننا بخير، والدكان زي ما هو.

نظر لها بغضبٍ وهو يوبخها:
-أومال مصحياني ليه يا ولية السعادي؟
أجابته على استحياءٍ:
-أصل "بثينة" برا، وكانت آ.. عاوزاك.
تقلصت تعابيره واكتست بأمارات الانزعاج وهو يدمدم بتأفف:
-هي الحكاية فيها أختك، خير عاوزة إيه؟
اعتدل "بدير" في نومته، ونظراته المستاءة ما زالت تحتل وجهه، استقامت في وقفتها وردت:
-أصل الواد "هيثم" واقع في مشكلة، وآ....

قاطعها بتبرمٍ:
-يادي الزفت الحرامي ده اللي ما بيجيش من وراه أي خير!!
ربتت على كتفه تستعطفه:
-أنا عارفة يا حاج إن بلاويه كتير، بس إنت كبيرنا، وفي مقام أبوه، ولو موقفناش معاه الواد هيضيع.
علق في سخريةٍ، وقد تقوست زاوية فمه بابتسامة متهكمة:
-تقوليش هو ماشي عدل، ما هو ضايع خلقة!

حاولت استرقاق قلبه، فقالت له بلطفٍ:
-معلش يا حاج، مالوش غيرك بعد ربنا، وأمه مكسورة الجناح
هتف معترضًا على كلماتها الأخيرة:
-دي مكسورة الجناح؟ أختك ومن غير زعل كده يتفتلها بلاد، كتلة شر ماشية على الأرض.
ردت بانكسارٍ ملموسٍ في نبرتها:
-هي أختي بردك ومالهاش غيري.

أزاح "بدير" الغطاء عن جسده، وأخفض ساقيه ليهبط عن الفراش قائلاً لها:
-عشان خاطرك يا "ونيسة" هاروح أشوفها، مع إني كنت مقرر ما اتحشرلهاش في حاجة بعد اللي عمله ابنها.
سارت خلفه تثني على معروفه الكبير:
-ربنا يخليك لينا يا حاج، طول عمر قلبك طيب وبيسامح.

أخفض "هيثم" رأسه في خزي أمامه بعد أن تدخل لإخراجه من محبسه ودفع تكاليف الإفراج عنه منهيًا الخلاف القانوني مع ذاك الشخص الذي اعتدى بالضرب عليه خلال نوبة غضب عمياء، تملكته عزة نفسه وأفرغ في الأخير ما يعتريه من مشاعر عدائية غير مكترثٍ بتبعات جنونه الجامح، لكن لحنكة المحامي البارع، وأساليبه الجيدة في الإقناع، انتهت الأمور على خير. تطلع إليه "بدير" بنظرات المتفحصة، بدا وجهه جادًا، متصلبًا، خاليًا من مظاهر التعاطف، وبصوته الأجش هتف قائلاً للمحامي:
-متشكرين يا أستاذ، مدوخينك معانا كل يوم.

رد مجاملاً:
-ده شغلي يا حاج، وأنا تحت أمرك في أي حاجة
-تسلم
تنحنح مستأذنًا:
-طيب يا حاج "بدير"، هاروح أنا أشوف مصالحي، ولو في أي حاجة ضرورية كلمني
صافحه في ودٍ:
-ماشي يا سي الأستاذ، في رعاية الله
انتظره حتى اختفى من أمام أنظاره ليستدير في اتجاه "هيثم"، رمقه بنظرة احتقارية قبل أن يستطرد:
-أفتكر كده إني عملت معاك الواجب وزيادة.
رد عليه على مضضٍ:
-أيوه.

تابع مضيفًا بازدراءٍ محسوس في نبرته:
-حد غيري مكانش سأل فيك بعد قلة أدبك وسرقتك ليا..
برقت عينا "هيثم" من جملته تلك، لكن ما لبث أن غلف نبرة "بدير" قدرًا من العطف وهو يكمل:
-بس أمك مالهاش ذنب يتحرق قلبها عليك، ولا أنا كلامي غلط؟
اعتذر في ندمٍ لم يكن يبدو أنه حقيقي:
-غلطة يا جوز خالتي.
استهزأ به في تهكمٍ:
-أها، لأ وواضح إنك ماشي على الصراط.

لم يعلق عليه وضغط على شفتيه بامتعاضٍ بائن متحملاً سخافاته، بينما لانت نبرة "بدير" قليلاً حين قال له:
-أنا نفسي حالك يتصلح، وتبقى زي باقي الشباب بتراعي لقمة عيشك وبتحوشلك قرشين عشان تتجوز بيهم، ولا عاجبك التسيب اللي إنت فيه ده؟
أظهر اتفاقه معه وردد قائلاً:
-لا يا جوز خالتي، أنا عقلي مكانش فيا، بس إن شاءالله أتغير.

ابتسم في أمل:
-يا ريت.
اضطر "هيثم" أن يجاريه بحماسٍ مصطنع في آماله الواهمة ليغير من مسار حياته الطائشة طوال سيره معه فقط ليخدعه، ودون أن يظهر حقيقة أنه يضمر له كل شر وحقد.

مراقبة حثيثة، ونظرات متربصة قاما بها خلال الفترة الماضية ليرصدا كافة تحركاته، باتا يعرفان عنه ما يلزم للقيام بمهمتهما التالية، والتي خططا لها جيدًا حتى لا يقعا في الفخ .. كان الأمر بسيطًا بالنسبة لهما، هما اعتادا فعله في أول حياتهما الإجرامية؛ سرقة احترافية لأحد الموظفين ممن يخرجون من البنك حاملين لحقيبة جلدية متخمة بالنقود، وكان "خليل" ينتمي لذلك النوع الروتيني من الأشخاص مما سهل الأمر عليهما كثيرًا، وللمصادفة العجيبة كان اليوم هو الميعاد المخصص لمنح أجور العاملين، انتظراه على مقربة من البنك ريثما ينهي الإجراءات والمعاملات البنكية ليتبعا خطواته المحفوظة خلال انتقاله في السيارة التي تعود به إلى مقر عمله، وباتفاقٍ مسبق تم إبرامه مع السائق وزميله نظير مبلغ مادي معقول دخلت الخطة في حيز التنفيذ.

وقبل أن يصل "خليل" إلى وجهته، وعند ذلك المكان الخاوي المحفوف بالأشجار العالية، قطع "حمص" و"شيكاغو" الطريق عليه. أظهر السائق فزعه ليبدو مقنعًا، ونظر إلى الاثنين الملثمين اللذين يحملان أسلحة في يديهما بخوفٍ شديد. صاح "حمص" عاليًا وهو يصوب سلاحه الناري نحو رأسه:
-اركن على جمبك وإلا هاطير نافوخك!

لم يكن أمام السائق سوى الانصياع له، ترجل من السيارة بعد أن صفها في تلك البقعة الخالية من المارة وهو يدعو الله ألا يزهق روحه، ضربه بشراسةٍ على مؤخرة عنقه لينكفئ على وجهه وهو فاقدٌ للوعي، في حين تحرك "شيكاغو" نحو الموظف الآخر الجالس ملتصقًا ب "خليل" يصيح به:
-انزل.

رفع الأخير يديه في الهواء يرجوه في مذلةٍ:
-ماتموتنيش، أنا عندي عيال بأربيهم! خدوا فلوسي، ساعتي، موبايلي بس سبوني أعيش!
قال له "شيكاغو" بعينين تقدحان شرًا:
-أنا مش جايلك إنت..
وتركزت عيناه المخيفتان على وجه "خليل" الشاحب، بدت نبرته واضحة وأكثر إرعابًا وهو يضيف بكلماته الموحية:
-حوارنا كله مع الخال!
ثم غمز له بطرف عينه وهو يكمل:
-ولا إيه يا عم "خليل"؟ مش ده اتفاقنا؟

انقبض قلب "خليل" وهوى بين قدميه من شدة خوفه، لم يفهم ما يحدث حوله أو مقصده من تلك التلميحات الكارثية، لكنه شعر بدمائه تفر هلعًا من عروقه، بينما تطلع الموظف بغرابةٍ إلى زميله مبديًا استرابته في أمره، وكأن الشكوك تساوره حول كون تلك السرقة المدبرة، وقبل أن يستوضح الأمر ببديهية لتنطلي التمثلية أكثر قفز فزعًا في مكانه حينما صرخ به "شيكاغو" بصوته الآمر الذي زاد من رجفة القلوب:
-انزل وما ترغيش، وإلا إنت الجاني على روحك!
-ح.. حاضر.

قالها الموظف وهو يمسك بيدٍ مرتجفة مقبض الباب لينزل من السيارة، أمسك به "خليل" ليجبره على البقاء معه وهو يهمس له بصوته المرتعب:
-ماتسبنيش، خليك معايا.
نفض قبضته المرتعشة عنه، وقال له غير مبالٍ بما سيحدث له:
-يا عم سيبني، الواحد روحه على كف عفريت!

ترجل من السيارة ووقف في الخلاء رافعًا ذراعيه للأعلى كتعبيرٍ عن استسلامه وخنوعه، اقترب من خلفه "حمص" وضربه بقوة على رأسه ليوقعه أرضًا، وانفرد كلاهما ب "خليل" الذي تشبث بالحقيبة وضمها إلى صدره بالرغم من الارتعاشة القوية المسيطرة على بدنه. ثبت "شيكاغو" فوهة سلاحه أمام وجهه وهو يطل عليه من نافذة السيارة، وقال له بصيغة آمرة:
-سلمني الفلوس اللي معاك يا "خليل".
اندهش مجددًا من ترديده لاسمه وكأنه يألفه، نظر له في حيرة، ومع ذلك تعلق بالحقيبة أكثر وهتف يستعطفه بصوته المرتجف:
-دي مرتبات الموظفين، وهما.. ناس غلابة و...

قاطعه بصوته الخشن:
-ماليش فيه، هاخدها يعني هاخدها.
سلمها له طواعية حتى لا يخسر حياته وقد أدرك حجم الخطر الكامن فيه، ولكن تصلب جسده في مكانه مصدومًا وهو يقول له بغموضٍ أربكه:
-بس يكون في معلومك، إنت هاتشيل الليلة دي يا "خليل"!
بهتت ملامحه أكثر، وتلعثم متسائلاً:
-أنا ...؟

فسر له ببساطةٍ:
-هو إنت مادرتش إن اللي معاك هيشهدوا عليك إنك سرقت الفلوس وعملت الحوار ده كله عشان تطلع بالمصلحة دي
هدر نافيًا عنه تلك التهمة الباطلة:
-كدب، إنتو هجمتوا علينا و...
كركر "حمص" ضاحكًا قبل أن يقاطعه في انتشاءٍ:
-هتروح في داهية يا "خليل"، ومحدش هيصدقك.
تضاعف خوفه من تلك المصيبة المهلكة، استدارت رأسه في اتجاه "شيكاغو" الذي بادر موضحًا له مباشرة:
-وكله بسبب بنت أختك، شوفت بقى!
ردد مدهوشًا وقد برقت عيناه على الأخير:
-بنت أختي؟

قست تعابير "شيكاغو" حين أكمل له:
-ما هو اللي يعادي أسياده لازم يتجاب الأرض!
لعق شفتيه وحاول ابتلاع ريقه الجاف مغمغمًا:
-أنا.. مش فاهم حاجة.
ضربه "شيكاغو" بقساوة في جانب كتفه وهو يهينه:
-هتعمل فيها غبي بروح أمك!
تأوه "خليل" من الألم المباغت، وتحمله مرغمًا ليرد مدافعًا:
-أقسم بالله ما أعرف حاجة، عملت إيه بنت أختي؟

نظر له "شيكاغو" بشراسةٍ وهو يجيبه مهددًا:
-من الآخر كده يا "خليل"، وعشان نقطم الليلة دي، بنت أختك تتنازل عن المحاضر اللي عملاها في الريس "تميم"، وإلا هتخش إنت مكانه!
ارتعشت شفتاه وهو يرد:
-بنت.. أختي
قال "شيكاغو" في عدائية ساخرة:
-أيوه، بياعة الكبدة!
هتف "حمص" من الجانب الآخر للسيارة:
-والفلوس دي رهن، تنفذ كلامك هترجع وكأن مافيش حاجة حصلت.
استأنف "شيكاغو" تهديده العلني قائلاً:
-معاك لبكرة الصبح، وإلا زمايلك هيطلعوا على النيابة يشهدوا عليك، ما إنت اللي سرقت الفلوس، وده حوار فاكس معمول!
أيده "حمص" الرأي:
-بالظبط.

وجد "خليل" صعوبة في استيعاب الموقف والإمساك بأطراف خيوطه، هتف بتلعثمٍ عله يمنحه المزيد من التفسيرات:
-أنا... بس..
قاطعه "شيكاغو" بغلظةٍ شديدة:
-مات الكلام!
ثم ضربه بمؤخرة سلاحه بعنف في جيبنه ليفقده الوعي لتكن آخر ما تلتقطه أذناه قبل أن تغيب الصورة عن ذهنه:
-سلام يا خال!

في كل غيظ الدنيا وحنقها سار "خليل" مترنحًا بعد أن استعاد وعيه يعبر الطرقات حتى عاد إلى المنزل، نزع ربطة عنقه عنه وألقاها في الطريق، وفتح أزرار قميصه حتى انكشف صدره، لم يعبأ بالهواء البارد الذي يضربه، كان غضبه المستعر يحتاج لأطنانٍ من الثلوج ليخمده، ومع إن وطأ المدخل حتى اندفع كالثور الهائج يصعد الدرجات بسرعة، توقف أمام أعتاب المنزل، لم يمنح نفسه الفرصة لالتقاط الأنفاس، بل استند بكفيه على الباب يدق عليه بعنفٍ وهو يصرخ مناديًا:
-افتحي الباب يا "آمنة"! أنا عرفت كل حاجة!

كانت صرخاته متواصلة ومرعبة في نفس الآن، حملقت فيه أخته في ذهولٍ بعد أن فتحت له، سألته بتوجسٍ وقد رأت الحالة المزرية التي عليها:
-في إيه يا "خليل"؟ بتزعق ليه؟ ومالك مبهدل كده ليه؟
دفعها بخشونة من كتفها ليلج للداخل فكادت تُطرح أرضًا من دفعته المباغتة، حافظت على اتزانها، والتفتت نحوه تسأله:
-إيه اللي حصل بس؟

تجاهلها وجال بنظراته المكان باحثًا عن ابنتي أخته، لم يجدهما أمام أنظاره، فاستدار نحو "آمنة" يصيح بها:
-بناتك فين يا "آمنة"؟ مخبياهم عني فين؟
سددت له نظرة غريبة مستنكرة ما يتفوه به، ومع ذلك أجابته بتلقائية:
-بناتي جوا، هاخبيهم ليه؟

وقبل أن تتحرك لتعترض طريقه، هرول بكامل عصبيته في اتجاه غرفة الفتاتين، ودون استئذانٍ اقتحمها صارخًا وهو يسبهما:
-عملتوا محاضر في مين يا ولاد الكلب؟
انتفضت "فيروزة" فزعًا من على الفراش حينما رأت خالها أمامها وقد اتسعت عيناها مذهولة من هيئته المهتاجة، بينما انكمشت "همسة" على نفسها وتراجعت عفويًا للخلف لتحتمي من بطشه، استشاط "خليل" غضبًا وهتف يسألهما من جديد:
-انطقوا عملتوا إيه من ورايا؟

فطنت "فيروزة" لمقصده دون الحاجة لاستيضاح الأمور، وقبل أن تبرر له تصرفها القانوني، هتفت "آمنة" في لوعةٍ معتقدة أنها بذلك تخفف من وطأة الأمور:
-بالله عليك يا "خليل" ما تعمل فيهم حاجة، كانت ساعة شيطان، وكل حاجة هتتحل
التفت نحوها بوجهه الحانق والصدمة تكسو قسماته، نظر لها في حقدٍ قبل أن يلومها:
-يعني كنتي عارفة إنهم عاملين مصيبة وسكتي؟

أسهبت موضحة الحقيقة من تلقاء نفسها بصوتها المهتز وقد تملكها الخوف من عدائيته التي تلوح في الأفق:
-ما أنا اتكلمت مع "فيروزة"، وإن شاء الله هتسمع الكلام وتتنازل عن المحضر، هي بس كانت آ....
لم يمنحها الفرصة لتبرير تصرف ابنتها الجريء، بل هجم على "فيروزة" قابضًا على كومة من شعرها، لفه حول ذراعه قاصدًا اقتلاعه ليؤلمها أكثر، صرخت من الألم الشديد، وحاولت تخليص نفسها من قبضته، وقبل أن تتملص منه كانت صفعة مدوية تهبط على وجهها، شهقت "همسة" خوفًا، وعجزت عن الدفاع عن أختها، بينما اندفعت "آمنة" بجسدها البطيء تذود عن ابنتها بطش أخيها الأهوج وهي ترجوه باستماتة:
-سيبها يا "خليل"، البت هتموت في إيدك!

توسلته "همسة" ببكاءٍ يدمي القلوب:
-حرام عليك يا خالي، "فيروزة" معملتش حاجة، خلينا نفهم اللي حصل
هدر بها بجنون:
-لأ عملت، ومش عاوز أفهم حاجة، كفاية إني هاروح في داهية بسببها
تضاعفت شراسته، ودفع بيده الأخرى "آمنة" عن طريقه لتصبح "فيروزة" في قبضته، ونال وجهها منه لكمة مباشرة ومؤلمة تركت آثارها الملتهبة على بشرتها، صرخت "فيروزة" مدافعة عن حقها المشروع:
-إنت ظالمني يا خالي، هما ولعوا في عربيتي، وحقي أنا بأخده بالقانون.

صفعها بعنفٍ على نفس الوجنة المتألمة رافضًا الإصغاء لها، ليقول بعدها بصوته المهتاج:
-كسر حقك 100 مرة، إن شاءالله يولعوا فيكي حتى، ملكيش دعوة بيهم، أنا في الآخر اللي بأشيل بلاويكم
بدا المشهد مفزعًا، مؤلمًا، وقاصمًا للأظهر .. لم تتحمل "همسة" بشاعته وتحركت لتنجد أختها التي نال جسدها من الأذى المزيد من الركلات والضربات، حاوطتها بجسدها وتحملت طيشه الأهوج حتى تكورت إلى جانب "فيروزة" على الأرضية وهي تئن من الوجع الشديد، تخدل ذراعا "خليل" من عنفه المفرط مع الفتاتين.

توقف عن اعتدائه القاسي ليلتقط أنفاسه، توحشت نظراته أكثر وهو ينظر إلى أخته يأمرها بلهجته النافذة وبأنفاسٍ متهدجة وسبابته تلوح في الهواء:
-بنت الكلب دي هاتقوم تلبس وتنزل معايا دلوقت تتنازل عن المحضر...
انحنت "آمنة" على ابنتيها تبكيهما في مرارة وقهر، كانت مكتوفة الأيدي، لا تملك من القوة ما تحميهما به، رفعت رأسها فجأة نحو "خليل" لتحدق فيه بارتعابٍ مميت وهو يكمل تهديده للنهاية:
-وإلا هادفنها حية، وما هتعرفيلهاش تُربة ...!!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة العشرون بقلم منال سالم


ليلة مُوحشة مُؤلمة تحمل كل قساوة الحياة وأوجاعها مضت عليها وهي لم تنبس بكلمة واحدة بالرغم من توسلات والدتها وبكاء أختها، بدت فاقدة للنطق وإن لم تكن كذلك، فقد اختنق كل شيء في صدرها، خبأتها "آمنة" في أحضانها واحتوتها بين ذراعيها علها تكون الملاذ الآمن لها بعد أن فشلت فشلاً ذريعًا في درء عنف خالها عنها، مسدت على رأسها بحنانٍ كبير، وانحنت تقبل جبينها وهي تُحادثها بالكلمات المواسية التي لا تملك سواها، لكن جروحها أبت الاندمال، انسابت دمعات "فيروزة" في صمت، دمعات العاجز الفاقد لحقه في الاختيار، كانت مغيبة عمن حولها، تشرد بذهنها لتعيش تلك اللحظات العنيفة الصادمة، فتنتفض وهي تئن من الألم لتعاود أمها تهدئتها بقراءة القرآن تارة، وبالمسح على جسدها برفقٍ تارة أخرى حتى توقف عقلها عن التفكير وغابت عن الوعي من شدة إعيائها.


 
تركتها "آمنة" على الفراش وتفقدت ابنتها الأخرى، كانت مثلها تشكو أوجاعها، طيبت خاطرها، واتجهت إلى غرفتها تبكي بداخلها في تعاسةٍ واضحة، تكومت على نفسها على فراشها البارد تنوح وحدتها القاتلة بدون زوجٍ يحميها من قسوة الأقرباء قبل الغرباء، تجمعت هموم الدنيا في قلبها، وكادت تغفو من تعبها المضني، شهقة فزعة انطلقت من أعماق جوفها حينما سمعت الدقات الهادرة على الباب، عفويًا التفتت إلى المنبه الموضوع على الكومود، كان الوقت لا يزال مبكرًا، لكن جدسها ينبئها بكارثة قريبة. حركت بدنها المتعب من قلة النوم وإتلاف الأعصاب في اتجاه باب المنزل، وقلبها نظرت من العين السحرية فوجدت أخيها يصيح بها:
-افتحي يا "آمنة".


 
دب الرعب في قلبها، واهتزت كليا، لا إراديًا استدارت مستندة بظهرها على الباب، وفاردة لذراعيها على حافتيه، وكأنها بذلك تشكل حاجزًا بشريًا تمنعه من اقتحام المنزل، ثم صرخت بصوتها المبحوح:
-مش هافتحلك يا "خليل"، كفاية اللي عملته في بناتي.
صاح بها بعصبيةٍ ويده تضرب بقوةٍ على الباب:
-يوووه، أنا مش فاضي للهري ده، بأقولك مافيش وقت نضيعه، وأنا واقع في مصيبة بسبب عمايل بناتك، افتحي خلينا نخلص من الهم ده كله.
ردت عليه بارتعابٍ وقد زاد تمسكها بحافتي الباب الذي يهتز من خلفها:
-أفتحلك عشان تمد إيدك عليهم تاني؟


 
قال بنبرة عبرت عن ثقة واضحة:
-لأ يا "آمنة"، المحروسة بنتك زمانتها عقلت بعد الوش التاني اللي شافته مني.
هتفت معاندة بإصرارٍ رافض:
-لأ مش هافتح!
كالحرباء وقفت أعلى الدرج تتابع صياحهما بابتسامة متشفية، وكأن ما فعله زوجها بابنتي أخته قد أثلج صدرها وبرد نيران حنقها نحوهما، ارتدت "حمدية" قناع الضيق على وجهها، وهبطت الدرجات وهي تنادي عاليًا لينتبه لها:
-حاسب كده يا "خليل"، بلاش الافترى ده.


 
نظر لها بحدة من تصرفها غير المفهوم، لكنها غمزت له بعينها ليفطن أنها تشاركه تمثيلية ساذجة لتتمكن من إقناع أخته بالتخلي عن عنادها وفتح الباب، تنحنح "خليل" يوبخها بتجهمٍ زائف:
-ملكيش دعوة يا "حمدية"، أنا بأتكلم مع أختي.
ردت بصوت عمدت لرفع نبرته:
-هتكلمها وإنت متعصب كده؟ يبقى مافيش حاجة هتنفع.

نفخ في وجهها كتعبير عن عدم رضائه، لكنها تابعت بلطفٍ غير معتادٍ منها:
-اطلع إنت فوق بس يا أبو العيال، اشرب الشاي، وأكون أنا خدت وإديت مع "آمنة"، ماشي؟
هز رأسه على مضضٍ:
-طيب، أما أشوف
وبغمغمة متبرمة أولاها ظهره ليمسك بالدرابزون ويصعد للأعلى، التفتت تحدق في الباب مجددًا وهي تطرق عليه برفق منادية إياها:
-افتحي يا "آمنة"!


 
صاحت بها الأخيرة وهي ما تزال مصرة على رفضها:
-لأ مش هافتح، قولي لجوزك يبعد الأول.
ردت تطمئنها:
-هو طلع خلاص، مافيش إلا أنا.

اشرأبت "آمنة" بعنقها للأعلى بعد أن استدارت بجسدها لتحدق في العين السحرية حتى تتأكد من صدق قولها، شعرت بالارتياح لغيابه، ارتخى جسدها المشدود وامتدت يدها لتدير المقبض، أطلت "حمدية" برأسها وتلك الابتسامة الزائعة تعلو شفتيها، ربتت على كتفها في ودٍ، وسارت نحو الداخل وصوت "آمنة" من خلفها يدعوها:
-تعالي يا "حمدية".
مصمصت شفتيها لتظهر إشفاقها وهي تعقب عليها:
-قلبي عندك يا حبيبتي
همَّت "آمنة" بالبكاء مجددًا ليخرج صوتها مضطربًا:
-شوفتي أخوكي عمل فينا إيه؟


 
أومأت برأسها ترد بتنهيدة مطولة، وكأنها تتفق معها في الأمر، لتوحي لها بدعمها الكلي:
-متزعليش يا حبيبتي، أخوكي صعب أوي لما بيتعصب، أنا بس اللي ما بشتكيش!
تنهدت "آمنة" في أسى وقد بدا الإرهاق واضحًا عليها، تأملتها "حمدية" بتفحصٍ فرأت تلك الكرمشة تحت جفنيها، وأثار إحمرار عينيها، شعرت بالنشوة تغمرها وهي تتذكر أصوات الصراخ التي صدحت بالأمس وملأت جدران المكان، برقت حدقتاها بوميض غريب، وتنحنحت متابعة باهتمامٍ مصطنع وهي تجاهد لإخفاء ما يعتيرها من شماتةٍ وانتشاء:
-ها قوليلي فين البنات؟ عاوزة اطمن عليهم.

عاونتها أمها على النهوض من رقدتها، وتلك الأنات تخرج من بين شفتيها لتظهر مدى الألم الذي تعانيه، بالطبع لم تسلم "فيروزة" من العبارات الشامتة والتوبيخات المستترة من زوجة خالتها التي واتتها الفرصة على طبق من ذهبٍ لتظهر سعادتها وإن لم تفصح عن ذلك علنًا، لكن كل ما كانت تفعله يشير وبقوة إلى فرحتها بالأذى الذي لحق بها. حاولت آمنة إقناعها بإخفاء أثار الكدمات باستخدام مساحيق التجميل، لكنها رفضت، وأصرت أن تريه ما اقترفته يداه عله يشعر بالذنب وتأنيب الضمي وإن كانت تشك في ذلك..

ارتدت ثيابها بتمهلٍ محاولة كتم آلامها، ووضعت نظارة داكنة على عينيها، لم تصغِ لتوصيات والدتها ولا نصائحها الواهية، اكتفت بما يضمره صدرها من كراهية مشبعة لخالها ومن دفعه على إيلامها.
وبتؤدةٍ حذرة سارت إلى جوار "خليل" متخذة مسافة آمنة بينه وبينها بعد أن هبطت السلم وخرجت من المنزل لتجده بانتظارها، لاذت بالصمت بالرغم من تهديده القوي لها:
-كلمة واحدة غير اللي قولتلك عليها مش هارحمك، أنا معنديش اللي أبكي عليه.

انفرجت زاوية فمها بابتسامة حانقة، وتلك النظرات النارية مرتكزة على وجهه المشدود، أشار لها بذراعه لتنحرف عن الطريق وتعبره متابعًا إملاء أوامره:
-واحنا في القسم، مش عاوز أسمع منك نفس، تمضي وإنتي ساكتة، أنا هتولى كل حاجة.
كان واثقًا من خنوعها له، ومنحته ذلك التأكيد بسكوتها بعد أن انهزمت معنويًا وبدنيًا، توقف عن السير ليستدير نحوها، تجمدت في مكانها وحملقت فيه بغضبٍ من خلف نظارتها، حذرها بلهجةٍ صارمة مستخدمًا سبابته في التلويح:
-ولو الظابط سألك، ما ترديش عليه، مفهوم؟

لم تحرك شفتيها لتنطق، بل تجاهلته كليًا، ولم يكترث هو بردها، واصل سيره المتعجل يقول لها بما يشبه الاستهجان:
-مالوش لازمة الكلام من الأساس.
بات الهواء خانقًا على صدرها وهي تدرك أن آخر آمالها لاسترداد حقها المسلوب على وشك أن يضيع سدى، بالطبع سينتصر ذاك الهمجي وأعوانه من معتادي الإجرام عليها بقوة القانون لتتحقق مقولة الضابط "ماهر": من لا يملك سلطة فهو ضعيف وضائع. تغلغل فيها إحساس الانكسار وبدت محبطة للغاية، انتبهت لحديث خالها الأخير حينما أصبح كلاهما على أبواب القسم:
-أدينا وصلنا، يالا خلينا نخلص من القرف ده كله، والفلوس ترجعلي، كفاية تعب أعصابي طول الليل.

تأوهت من الألم فجأة وقد شعرت بقبضته تعتصر رسغها، تقلص وجهها واحتدت نظراتها المخبأة، شدد "خليل" من ضغطه عليها وهو ينذرها:
-وده يعلمك ماتعصنيش تاني، لأن المرة الجاية بموتك يا "فيروزة"، وأهوو نرتاح منك
نفض أصابعها الغليظة عنها فأمسكت بمعصمها تفركه لتخفف من الألم، همست بصوتٍ محبط واليأس بادي عليها:
-معدتش فارقة.

كان مذهولاً وقد هاتفه محاميه منذ الصباح الباكر ليخبره بضرورة الحضور إلى القسم الشرطي لإنهاء المحاضر بعد أن وافقت الخصمة على التنازل عنها، بدا "تميم" مدهوشًا، حائرًا، مشتت الذهن وهو يحاول استنباط الأسباب التي دفعتها للمواقفة، فعلى حسب خبرته معها لم تكن سهلة الإقناع، إذًا فكيف ارتضت بقرار التنازل؟ طرأ بباله احتمالية كان قد غفل عنها دون قصد، ربما نجح رفيقه في التصرف بحنكة كما أخبره، وتم ترضيتها بشكلٍ أو بآخر بعيدًا عن حضوره مما شجعها على الموافقة، لم يدع الأمر يحيره كثيرًا، وهاتف "ناجي" ليتأكد من شكوكه، وطمأنه الأخير بنجاح مسعاه، شعر بالارتياح وتوسم خيرًا أن تنتهي الخلافات كليًا ليمحي شبحها وما له صلة بها من رأسه للأبد .. ارتدى ثيابه على عجالة، وتوجه على الفور إلى هناك.

وعلى عكس توقعاته وما رسمه عقله من خيالات في فضاءاته الوهمية، كانت "فيروزة" جالسة بوجومٍ في المقعد المقابل له تخفي وجهها خلف تلك النظارة السوداء المتسعة، لوهلة اعتقد "تميم" أنها ليست نفس الشخص الذي تجرأ عليه من قبل .. بدت غريبة، وديعة إن جاز التعبير، ساهمة، شاردة الذهن، مما أشعره بالتوجس، دار بنظراته على الأوجه المتواجدة؛ محاميه الخبير، صديقه "ناجي"، وقريب الفتاة "خليل".

الكل يبتسم في حبورٍ وكأنهم مرتضين بالتسوية، عادت أنظاره لترتكز عليها، راقبها مراقبة حثيثة محاولاً سبر أغوارها، لم تنطق بكلمةٍ واحدة، وكأن لا روح فيها، هي جسد متواجد معهم، لكن بلا حياة .. لم يرقه الأمر وزاد تغلغل إحساسه بالانزعاج، ومع هذا ترك للمحامي إنهاء الإجراءات، واكتفى بالتحديق الصامت فيها، وإن كان يظن أنها تتطلع إليه من وراء حجابها البلاستيكي.

تنفس "خليل" الصعداء حينما رأى الضابط يضع الأوراق أمام "فيروزة" لتوقع في البقعة التي أشار لها، تنحنح "وجدي" بصوتٍ عالٍ ثم جال بعينيه على وجوه الحاضرين قائلاً:
-أفتكر إن مافيش داعي يحصل مشاكل تاني بينكم، مهما كان كلكم أهل وجيران ..
ثم مال بجسده نحو "فيروزة" موجهًا حديثه لها:
-ولا إيه رأيك يا "آنسة"؟

اكتفت بهز رأسها فالأمر لم يعد مجديًا، الكل انتصر في معركته، وهي وحدها الخاسرة. ذلك السكوت المثير للدهشة استفز "تميم"، اعتدل في جلسته، وتطلع إليها متوقعًا أن تنفجر فيه بين لحظة وأخرى، لكن تحولت عيناه نحو "خليل" حين هلل مؤيدًا:
-أيوه مظبوط، احنا أهل في بعض، وجيران وعِشرة من زمان، إن شاءالله ما يحصلش حاجة تاني.
زجره "وجدي" بحدةٍ:
-أنا موجهلها السؤال، ممكن تحط لسانك في بؤك وتسكت.

تحرج "خليل" من فظاظته معه، ووضع يده على كتف "فيروزة" ليضغط بأصابعه على عظام ترقوتها حتى تنتبه لحديثها معه، رفعت الأخيرة رأسها لتنظر نحوه بجمود، رمقها بنظرة ذات مغزى فهمتها في صمت، أخفضت رأسها وحدقت في الضابط لتقول له بصوتٍ أجوف بارد:
-كل حاجة خلصت يا باشا.

تضاعفت الهواجس لدى "تميم" من أسلوبها الغريب، وتأهب في جلسته أكثر، ليست تلك الجالسة أمامه هي نفس الشابة المندفعة المنفعلة التي ناطحته الرأس بالرأس، وتجرأت ذات ليلة وصفعته أمام دكانه بكل وقاحةٍ. كانت مستكينة، مستسلمة لأمرها، منقادة لمصيرها وكأنها فتاة ضعيفة لا تملك حق القرار، استراب في أمرها وتضاعفت هواجسه، لذا تقدم نحوها بجذعه وسألها مباشرة دون أن يهتم بتبعات قوله الصريح:
-في حد أجبرك تتنازلي عن المحضر؟

تطلعت إليه "فيروزة" بتلك النظرات الميتة، شعرت بالحنق يستعر بداخلها من سؤاله المستفز، أبكل تلك البساطة يدعي براءته وهو من يقف وراء كسرها؟ يالدنائته وخسته! تقلصت تعبيراتها وازدادت وجومًا، حتى بشرتها الشاحبة تشبعت بحمرة غاضبة وكأنها ستشتعل، ارتجف "خليل" من سؤال "تميم" المفاجئ، وخشي من تهور ابنة أخته، فهي دومًا تفسد الأمور قبل اكتمالها، فعلى الفور تدخل وهتف نافيًا:
-أجبرها إيه بس يا معلم "تميم"، هي لاقت الموضوع آ...

قاطعه "تميم" بخشونةٍ ونظراته القاتمة مسلطة عليه:
-اديها فرصة تتكلم.
هز رأسه مستجيبًا له، لكن ضغطات أصابعه القاسية على عظامها كانت كفيلة بإيقاظ آلامها وتنشيط ذاكرتها بمشهد الأمس الدامي، تأوهت بصوتٍ خفيض، وأجابت وهي تشيح بوجهها:
-لأ مافيش
أجابةٍ لم يستسغها "تميم" بالمرة، ما زال إحساسه يخبره بوجود شيء مريب، حملق في وجه "خليل" المتولي دور المصلح الاجتماعي حين قال من جديد:
-بيتهيألي كده احنا عدانا العيب وزيادة، نقدر نمشي يا حضرت الظابط؟

جاوبه برسميةٍ وهو يشعل سيجارته:
-أيوه، هنقفل باقي الإجراءات
أضاف المحامي بابتسامةٍ عملية وهو يمد يده ببضعة أوراقٍ:
-والأستاذ "تميم" هيتنازل برضوه عن المحضر بتاعه.
تناولها منه "وجدي" معلقًا في استحسان:
-تمام.

كان الأمر محيرًا، مزعجًا، مثيرًا للتساؤلات، ورأسه ليس بالمكان الخاوي ليمتلأ بما يخصها، انتظر على أحر من الجمر انتهاء ما يخصه من إجراءات ليهرع ورائها تاركًا "ناجي" والمحامي يكملان الباقي، وراجيًا في نفسه ألا تكون قد ابتعدت كثيرًا، تنفس الصعداء حينما رأها لا تزال واقفة بجوار خالها على مقربة من القسم، والأخير يتحدث معها وهي غير منتبهة له، تردد في التقدم نحوها وسؤالها مباشرة في حضوره، ولحسن الحظ ابتعد "خليل" عنها ليتجه نحو كشكٍ قريب يبتاع منه شيء ما، استغل الفرصة وأسرع في خطاه ليجذبها بقبضته من ذراعها ويسحبها عنوة بالقرب من شجرة عريضة عند الناصية.

تفاجأت من جرأته وجره لها بذلك الشكل السافر والمتحكم، نفضت ذراعها بقوة لتتحرر منه، ورمقته بنظرة نارية يكاد يجزم أنها يراها من خلف نظارتها، تراجع خطوة عنها وسألها دون مراوغة:
-غيرتي رأيك ليه؟

التوت شفتاها ببسمة متهكمة، وهزت رأسها في سخرية قبل أن ترد متسائلة بصوت من أصابه السأم:
-يعني مش عارف؟
تطلع إليها بنظراته المستريبة، كانت مستفزة لأبعد الحدود، تستثير إدراكه وحواسه بشكلٍ جنوني وكأنها طاغية تعرف كيف تذبذبه، هتف يسألها من بين أسنانه المضغوطة وهو يبذل قصارى جهده ليضبط انفعالاته:
-فيكي إيه متغير؟

لم تتحمل نكرانه الكاذب فانتزعت عن عينيها نظراتها لتكشف له عن الكدمات التي تحتل وجهها، صاحت به بهياجٍ غير عابئة بنبرتها التي ارتفعت:
-بص وإنت تعرف كويس!
اهتز كيانه بشكلٍ لم يتوقعه حين رأى علامات العنف ظاهرة على قسماتها، وذاك فقط ما كشفت عنه، لكن الباقي مخبأ أسفل ثيابها، ضاقت حدقتاه في ضيقٍ واستنكار، وسألها:
-إيه ده؟ حصلك من إيه؟

كادت أن تضحك بمرارةٍ من سؤاله السخيف، أيهزأ بها حقًا ويدعي براءته؟ اكتفت بالنظر باحتقارٍ له قبل أن تولية ظهرها وتعود إلى خالها قاصدة تجاهله، لم يغضب منها "تميم"، بل شعر بإحساسٍ متعاظم بالذنب نحوها، وإن لم يعلم تفاصيل الأمور بعد، لكن كلماتها المقتضبة مع نظراتها اللائمة أوحت له بتورطه في إيذائها بذلك الشكل العنيف والسافر، سحب نفسًا عميقًا حبسه في صدره المتأجج ولفظه على مهلٍ، كانت نظراته تتبعها حتى اختفت عند الزاوية، لكنه التفت كالملسوع فجأة وقد صاح "خليل" عاليًا بذلك الأسلوب الرخيص المستجدي العطف والشفقة:
-بالله عليك يا باشا تخليهم يرجعوا فلوسي، أنا عملت كل اللي طلبوه مني بالحرف الواحد، ودلوقتي مافيش محاضر ولا نيابات ولا غيره.

في البداية ارتبك من وجوده، فكامل تركيزه كان مع ابنة أخته، وبالتالي حضوره باغته، تدارك نفسه، ورمقه بنظرة غريبة وهو يسأله مستوضحًا:
-فلوس إيه؟ أنا مش فاهم حاجة منك!!
أجابه بأنفاسٍ لاهثة وهو يحاول استدعاء دموع التماسيح ليبكي أمامه:
-فلوسي اللي خدوها غصب عني يا معلم، هاروح في داهية وأنا عندي عيال..
لم يستوعب شكواه الغريبة، لكن ما لبث أن اتضحت الأمور أكثر حين أضاف بصوته المتهدج:
-أنا خليتها تحت طوعكم، وقطمت رقبتها وكنت مستعد أموتها عشان ترضى عني!

حدق فيه مدهوشًا بما أملاه على مسامعه، وبدأت ملامحه تقسو تدريجيًا، توتر "خليل" من صمته وظن أنه سيتراجع عن وعده، لهذا ألح عليه:
-رد عليا يا معلم "تميم"، ماتسبنيش كده!
تفقه ذهنه الآن لما حدث، وإن لم يعرف بالضبط كيف تم إجبار "فيروزة" على التنازل، تركه يتوسله باستماتة وسار بخطواتٍ أقرب للركض عائدًا إلى رفيقه "ناجي"، لحق به "خليل" صائحًا باستعطافٍ أشد:
-بالله عليك ترجعلي الفلوس، هاروح في داهية.

كانت صوته عاليًا بالقدر الكافي الذي جعل "ناجي" يسمعه وهو يبتسم بسماجةٍ غير منتبه للوجه الذي اربد بغضبه المحموم والمقبل عليه مندفعًا، توقف عن الهرولة ليتلقط أنفاسه، ثم استأنف رجائه:
-ده مال ناس يا خوانا، وربنا المعبود ما فلوسي!
انتصب "ناجي" في وقفته، ونظر له بتسلية قبل أن يقول في تفاخرٍ وزهو:
-شكلك اتعلمت درسك كويس يا "خليل".
أومأ برأسه قائلاً بتلهفٍ:
-أيوه، اتعلمته، هترجعلي الفلوس؟

نظر "تميم" بحنقٍ إلى "ناجي" الذي بدا في أوجه وهو يحذر:
-وتاني مرة محدش يقول للغولة عينك حمرة.
ضجر من موقفه الأبله وسأله بعصبيةٍ بدت ملموسة في صوته:
-في إيه يا "ناجي"، فلوس إيه دي؟
تنحنح قائلاً برجفةٍ طفيفة دون أن تخبو بسمته اللزجة:
-احم.. أنا عارف هو بيتكلم عن إيه..
مال ناحيته ليهمس له:
-وبعدين مش أنا وعدتك هاحل الموضوع على طريقتي، اطمن، كله تمام!

نظر "خليل" في توتر ممزوجٍ بالخوف إلى الاثنين، خاف من تراجع أحداهما عن إعادة الأموال له، فتساءل الفزع متعمقٍ فيه:
-يا معلمين ريحوني، هترجعوا الفلوس؟
لوح له "ناجي" بكف يده وهو يقول:
-خلاص، اطمن، ارجع على بيتك والأمانة هتلاقيها هناك.
أحس بقليل من الارتياح يغمره، اندفع كالمغيب نحو "فيروزة" التي راقبت توسلات خالها من على بعد ووجهها يعبر عن سخط غير محدود، جذبها من يدها بقساوة وهو يأمرها:
-يالا يا بت، تعالي معايا، هنرجع البيت.

تلك المرة رفضت الاستجابة له وأزاحت يده عنها وهي تقول بحدةٍ:
-معلش كده
تقدمت بثباتٍ نحو "تميم" تناديه بصوت يلهث من الانفعال:
-ثانية واحدة يا معلم ...
استدار نحوها من ندائها الذي استرعى انتباهه وقد حلت الدهشة على خلجات وجهه، وقفت قبالته تنظر له بعينين تنطقان بالغضب، وقالت بنبرتها المتهدجة وهي بالكاد تسيطر على ثورتها الهائجة بداخلها:
-كده إنت خدت حقك وزيادة، بس حقي أنا .. لسه!

ضاقت نظراتها نحوه، كان مشدوهًا بحديثها، مأخوذًا بعينيها المليئتين بالشجن، ما زال يحاول جمع قطع الأحجية ليفسر كيف ومتى تم إنجاز الأمر بسلاسة، نفذ صوتها المنكسر إلى قلبه كالخنجر الحاد حين همست بألمٍ عميق:
-ومش مسمحاك فيه!

أحس بزلزال يعصف به، بانهيارٍ لشيء كان مترسخ به، وكأن كلماتها قد أحدثت الشرخ المطلوب. تنفست "فيروزة" مطولاً لتكبح نوبة البكاء التي تهاجمها الآن، لن تنهار أمامه! استقامت في وقفتها وتوعدته بنبرة لا تعرف الغفران:
-وهايجي يوم وهاردهولك.

نظر لها بفمٍ مفتوح وعيناه تتطلعان إليها في حيرة، لم يلومها أو حتى يبادلها الكراهية، كان مأخوذًا بالتحول السريع في طباعها، لكنه كان واثقًا أن الفتاة المتهورة قد عادت إلى طبيعتها التي يعهدها. استطاع "تميم" أن يلمح خالها وهو يخطو بعصبية نحوها، تأوهت "فيروزة" من الألم وقد أمسك بها من كتفها بشراسةٍ ليديرها إليه، رفع كفه للأعلى يعنفها ونناويًا صفعها علنًا:
-إنتي مش هتتلمي أبدًا.

وقبل أن تطال يدها وجهها المتألم، كانت قبضة "تميم" تمسك بمعصمه، أبعد ذراعه وهو يهدر به بصوت اخشوشن بقسوةٍ:
-إيدك عنها!
ارتجف من نظراته النارية وهيئته المتحفزة التي أنذرته بعدم المساس بها دون أن يتفوه بذلك الأمر المنطوق، أخفض "خليل" ذراعه وهز رأسه بخنوعٍ قائلاً:
-خلاص يا معلم، احنا ماشين..

وبحذرٍ واضح أشار لابنة أخته لتسير معه، وبقي يختلس النظرات ناحية "تميم" الذي كان مستعدًا للانقضاض عليه في أي لحظة دفاعًا عنها .. نظرة أخيرة حزينة حانت بها "فيروزة" نحوه أوغرت صدره أكثر، ابتعدت بالفعل لكن بقيت كلماتها ترن في أذنيه لتشعره أن انتصاره في معركتهما القصيرة لم يكن نزيهًا أو حتى بالتراضي...

بمجرد أن وطأت قدماه المدخل حتى هرول قفزًا على الدرجات ليصعد إلى منزله، والتلهف يقتله ليتأكد من عودة النقود المسروقة إليه، لم يهتم ب "فيروزة" التي كانت تطالعه بحقدٍ أكبر، أو حتى أظهر ندمًا زائفًا لما فعله بها، لم يكن يعنيه سوى نفسه فقط، وليحترق البقية. أخرج "خليل" المفتاح من جيبه ودسه في قفله، فتح الباب على مصراعيه، وبنظرات يملأوها القلق صاح عاليًا:
-يا "حمدية"، إنتي يا ولية.

أتته الأخيرة تمشي بتمهلٍ وكسل، نظرت له بعبوسٍ قبل أن ترد:
-في إيه يا "خليل"؟ بتجعر كده ليه على الصبح؟
سألها بأنفاس متلهفة:
-محدش خبط عليكي ولا...

قاطعته بوجهها الجامد وهي تشير بيدها نحو مقعدٍ منزوٍ بجوار مرآة طولية تحتل الركن الأيمن من الصالة:
-أيوه، في واحد شكله مش ولابد كده سابلك الشنطة دي يا "خليل".
مر ركضًا بجوارها نحو المقعد، والتقط الحقيبة الجلدية بيده، ألقى نظرة سريعة على مافيها، ارتسمت تعابير الارتياح على ملامحه، زفيرٌ بطيٌ خرج من جوفه قبل أن ينطق:
-الحمدلله، الفلوس رجعت، كنت هاروح في داهية.

رددت مستفهمةٍ وقد دنت منه:
-هي دي فلوس الشغل اللي قولتلي عليها.
هز رأسه بالإيجاب وهو يرد:
-أيوه يا "حمدية"، دي مرتبات الموظفين...
ابتسامة عريضة احتلت وجهه ليكمل بعدها وهو يهم بالتحرك:
-بس خلاص كله تمام، دلوقتي أطير أسلمها وأخلي مسئوليتي.
أوقفته من ذراعه وسألته بضيقٍ ظاهر عليها قبل أن يتركها هكذا بين فضولها المتزايد:
-استنى بس وفهمني جوم إزاي وعملت إيه و...

قاطعها نافضًا قبضته عنه ليرد بنفاذ صبر:
-خلاص يا ولية، حلي عن نافوخي دلوقتي، أنا مش فاضيلك.
أصرت على عدم تركه، وأسرعت في خطاها لتغلق الباب، وقفت قبالته تسد عليه السكة، وهتفت بعنادٍ أزعجه:
-لأ مش هاسيبك، هو أنا في الحزن مدعية والفرح منسية!!!
نفخ في استياءٍ وهو يعقب عليها:
-يا ولية بأقولك دي فلوس الشغل.

كتفت ساعديها أمام صدرها، ونظرت له غير مبالية لتضيف بعدها بإلحاح:
-قولي الحكاية من طأطأ لسلامو عليكم الأول، عملت إيه في القسم، والفلوس دي رجعت إزاي.
تأكد "خليل" أن زوجته لن تتركه يخرج من المنزل دون أن تقف على أساس الموضوع، لذا أوجز معها وأخبرها بالعناوين العريضة لما دار في الساعات الماضية، هزت رأسها في استحسان حين سألها:
-ها ارتحتي كده؟
ابتسامة باردة تشكلت على شفتيها وهي ترد:
-ايوه.

نهرها بحدةٍ بائنة:
-طب أوعي من سكتي.
اعترضت طريقه مشيرة بكفها بعد أن حلت مرفقيها:
-اسمع بس، ما جايز ابن المعلم "بدير" يستقصدك تاني، هو إنت ضامنه
استرعت انتباهه بجملتها المثيرة للقلق، واستطرد يقول:
-مش فاهمك، قصدك إيه يعني؟
أوضحت برويةٍ وقد لمعت عيناها بخبثها المعتاد:
-اللي زي ده نابه أزرق، ورد سجون، ومايعرفش يامه ارحميني.

نظر لها بتأففٍ، وقال:
-يا ولية احنا قفلنا اللي بينا خلاص، معدتش في حاجة، لا مصالح ولا خناقات.
وكأنه أضاء عقلها الشيطاني بكلماته الأخيرة، فلمعت فكرة جهنمية في طيات عقلها، تحفزت هاتفة بنزقٍ وقد زاد اتساع بسمتها الماكرة: ف
-تصدق، احنا ممكن نعمل مصلحتنا من الحكاية دي.
التوت زاوية فمه بابتسامة استجهان، وسألها باستخفافٍ استشعرته في نبرته:
-إزاي
تغنجت "حمدية" بكتفيها، وسارت مبتعدة عن الباب لتقول له بأسلوبها البارع الذي تنجح به في استدراجه إليها:
-بس هتمشي ورا كلامي الأول؟

وقع "خليل" في شباكها بكل سذاجة، والتفت نحوها يرد:
-أوزنه وأشوف إن كان ينفع ولا لأ
قهقهت ضاحكة كنوعٍ من التعبير عن تفاخرها بأفكارها الجهنمية، ثم انتقت أقرب أريكة لتجلس عليها واضعة ساقها فوق الأخرى، غاصت في مقعدها وصاحت مزهوة بنفسها:
-ده أنا حلولي هتأكلنا الشهد وتطلعنا في العلالي.
أسند زوجها الحقيبة في حجره بعد أن جلس إلى جوارها، ركز كامل حواسه معها، وهتف كمن يسيل اللعاب من فمه:
-ها، قولي يا فالحة، أنا سامعك...!!
يتبع..


رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة الحادية والعشرون بقلم منال سالم


سحبه من معصمه بشكلٍ غريب محكمًا أصابعه الغليظة عليه بعد أن ابتعدا عن قسم الشرطة، وكأنه لا يريد إفلاته أبدًا إلى أن وصل به إلى دكانه، هناك دفعه بقساوةٍ وعنف من جسده نحو الأقفاص المهملة بالداخل، استغرب المتواجدون بالمكان من ردة فعله الهائجة، ولكن لم يتدخل أحد.


 
كاد توازن "ناجي" أن يختل من أثر الدفعة القوية لولا أن استند بيده على المكتب الخشبي، اعتدل في وقفته لكنه انتفض مذعورًا وقد أشهر "تميم" مديته التي يقطع بها ثمار الفاكهة في وجهه، أمسكه الأخير من تلابيبه بعد أن انقض عليه، ثم دفعه مجددًا نحو الحائط ليحاصر صدره بذراعه، ثم وضع النصل الحاد على عنقه يريد نحره، ارتجف "ناجي" من تصرفه الخطير، وهتف بصوته المهزوز يرجوه:
-إنت.. بتعمل إيه بس؟ اعقل كده يا "تميم".


 
هدر به بجنونٍ شديد وقد اربد وجهه بغضبٍ لا حصر له:
-ده اللي قولتلي هاتصرف فيه وأعمله؟
توسله برجاءٍ ونبرته ما زالت مرتعشة:
-اهدى بس، ده أنا صاحبك.
لكزه بعنفٍ في صدره قاصدًا إيلامه، وواصل صراخه المنفعل به:
-قولتلك حلها بالعقل، مش بالبلطجة وضرب الحريم!
أنكر تورطه في إيذاء "فيروزة" قائلاً:
-وأنا مجتش جمبها، ولا حد من رجلتي، كان الحوار كله مع خالها.


 
استفزه بقوله وشعر بدمائه المحتقنة تندفع بقوة إلى رأسه المشتعل، وما زاد من وهج غضبه تجسد وجه "فيروزة" المتورم في مخيلته ليفقده عقلانيته، لكزه بقسوة أكبر وضغط على صدره ليزيد من إحساسه بالوجع، ثم هدر به صارخًا والنصل يهتز بين أصابعه:
-أومال اللي خالها عملوا فيها ده تسميه إيه؟
ارتعد "ناجي" من عصبيته البائنة، ازدرد ريقه وردد مستنكرًا ومحاولاً في نفس الآن تبرئة ساحته:
-وأنا كنت هاعرف منين إنه هيعجنها؟ قولت هايتكلم كلمتين بالعقل معاها ويقنعها بالهدوء.

حدجه بنظرة مميتة كأنه يريد الفتك به، ورد عليه باستهجانٍ ساخط:
-يا سلام، يا برودة دمك يا أخي! إنت أغبى خلق الله.
لعق "ناجي" شفتيه قبل أن يضيف بحذرٍ:
-أنا غرضي كان أقرص ودن الراجل وبس.
طاقة من الغضب نفذت من عينيه إليه، ثم رد عليه في تهكمٍ صارخ:
-يا شيخ، بإنك تسرق الراجل وتلبسهالي أنا؟!


 
تدخل "محرز" قبل أن تسوء الأمور، وحاول إبعاد "تميم" من كتفيه ليخلص "ناجي" من براثنه وهو يرجوه:
-خلاص يا "تميم"، كل حاجة هتتحل، هدي أعصابك.
نفض الأخير كتفيه عنه وتراجع بضعة خطوات للخلف، لكن ظلت مديته في يده .. تنفس "ناجي" الصعداء لتخلصه من عنف وتعسف رفيقه، تحسس بيده عنقه الذي جرح قليلاً، نظر إلى خط الدماء المطبوع على أصابعه بصدمةٍ، كان بالفعل مهددًا منه، انتفض واكتسى وجهه بعلامات الرعب من جديد حين تقدم "هيثم" نحوه يقول بصوتٍ ميت:
-لو عاوزني أدخل يا ابن خالتي فأنا جاهز، خلي الطلعة دي عندي!

استدار "تميم" نحوه، ورمقه بنظرة صارمة من عينيه المحتقنتين، لم يحبذ مطلقًا اللجوء للغير لفض نزاعاته الذكورية، يكفيه محاولة واحدة فاشلة تورط فيها وجرت عليه مصائب أخرى، قست تعابيره وقال له ملوحًا بذراعه:
-لا سيدي، مش عاوز خدمات من حد.

احتدت نظرات "هيثم" من أسلوبه الجاف معه، وتجهمت قسماته وهو يعاود التراجع للخلف، ي حين راقب "بدير" ردات فعل ابنه بحذرٍ، وبثباتٍ وتؤدة تقدم نحوه ليقف بجسده الشامخ بين الاثنين المتلاحمين، وزع نظراته بينهما قبل أن يقول بصوته الأجش:
-اعتبره موضوع وراح لحاله.
نظرة مستنكرة كست عينا "تميم" بعد تلك الجملة، ازداد حنقه، وهتف محتجًا وعروقه النابضة قد اشتدت بشكلٍ أكبر:
-يابا لأ، كده حرام، واللي حصل مع البت دي كان بسببي في المرتين، حتى لو مكونتش أعرف، أنا اللي محقوقلها دلوقتي.


 
وقبل أن ينطق والده بكلمة بادر "ناجي" مبررًا عله ينجح في ضمه إلى صفه:
-يا حاج "بدير" أنا فكرت رجالتي هيحلوها ودي، هما جودوا من عندهم، دي دماغهم وده تفكيرهم.
علق عليه "تميم" وعيناه تقدحان بغضبه الشديد:
-أه طبعًا، ما إنت باعت شبيحة وولاد ليل يتصرفوا، طبيعي حلهم زيهم.
هتف "محرز" وهو يشير بيديه لكليهما:
-نهدى بس يا رجالة، وكل حاجة وليها حل.

ثم اتجه نحو "تميم" يدفعه برفقٍ من كتفه ليحثه على المشي وهو يغمغم في أذنيه بكلماته المستهلكة عله يمتص غضبته الثائرة، سحب الأول مقعدًا وأسنده خارج الدكان دون أن يستمع له، ثم جلس عليه وقد وضع سيجارة بين شفتيه، أخرج "محرز" ولاعته وأشعلها له وتلك الابتسامة اللزجة محفورة على وجهه معتقدًا في نفسه أنه خبير العائلة النفسي الناجح ذو الخبرات العريضة والتي من خلالها يُطيع الأمور المستعصية. تركزت الأعين كلها فجأة على ذاك المنادي بالصوت الراجي من بعيد:
-يا حاج "بدير"!


 
هب "تميم" واقفًا حينما رأى "خليل" مقبلاً عليه، بدا متحفزًا للغاية، جسده متصلب، وكتفاه مشدودان، توقف الضيف ليتلقط أنفاسه وصوته ما زال ينادي:
-حاج "بدير"، أنا واقع في عرضك.
تحرك "بدير" في اتجاهه والدهشة تحتل قسمًا كبيرًا من ملامحه، قطب جبينه مرددًا في تعجبٍ:
-"خليل"!
كاد الأخير ينحني على يده يقبلها في توسلٍ قبل أن يسحبها سريعًا ليقف بعدها في خزيٍ وهو يستميل مروءته بكلماته المستعطفة:
-بالله عليك ما تردني مكسور الخاطر.
-استغفر الله العظيم.

قالها "بدير" وقد تراجع خطوتين للخلف.. حضوره المفاجئ استثار "ناجي" الذي لم يفق بعد من محاولة اعتداء رفيقه عليه، كانت فرصته ليصب غيظه المكبوت عليه، لذا خطا ناحيته يصيح به بشدة وهو ينعته بألفاظٍ مهينة:
-في إيه تاني يا ....... ؟ فلوسك مش رجعتلك، ولا جاي ترمي بلاك هنا!
رفع "بدير" يده يحذره بلهجته الصارمة:
-متدخلش يا "ناجي"!

هز رأسه بانصياعٍ وقد أُرغم على طاعته، لكن بقيت نظراته الحادة مثبتة على وجه "خليل" اللئيم، حتى "تميم" زاد شعوره بالعدائية نحوه، لم يكن مُدينًا له بشيء، بل على العكس كان يكن له غضبًا متعاظمًا، لذا هدر فيه بخشونةٍ:
-إنت جاي تعمل دور هنا ولا إيه؟
اهتز بدن "خليل" من صوته الجهوري المتعصب، وأدار رأسه لينظر في خوفٍ إلى "بدير"، وكأنه يطلب نجدته، استجاب له الأخير وهتف بلهجته الصارمة الرافضة للجدال:
-ماسمعش نفس حد هنا، هو أنا مش مالي عينكم؟!

قال "تميم" على مضضٍ وهو يكور قبضة يده:
-اتفضل يابا.
استقام "بدير" في وقفته المهيبة، وتطلع من جديد إلى "خليل" بنظراته المتفرسة قبل أن يسأله بهدوءٍ وروية:
-عاوز إيه؟
اختلس "خليل" النظرات نحو الأوجه الحانقة المتطلعة إليه، وابتلع ريقه قائلاً بصوتٍ خفيض يميل للانكسار:
-حاج "بدير"، أنا.. كنت آ...

عَمِد إلى اقتطاع جملته ليظهر ارتعابه مما دفع "بدير" للقول بنفس اللهجة النافذة:
-اتكلم متخافش، محدش هيعملك حاجة!
وكأنه اكتسب حماية مطلقة بتصريحه العلني، تشجع في وقفته وانتصب كتفاه قليلاً، ثم قال بنبرة تعبر عن تعاسة واضحة متعمدًا أن ينظر إلى موضع قدميه:
-يا حاج، احنا ناس غلابة، جيران من زمان وإنت عارفنا أبًا عن جد، وطول عمرنا ماشيين جمب الحيط، ومالناش دعوة بحد
أومأ برأسه يرد عليه ويداه قد ارتكزتا على رأس عكازه:
-مظبوط.

ابتلع ريقه بعد أن استجمع جأشه قليلاً ليمضي في حديثه قائلاً:
-البت مقصوفة الرقبة بنت أختي مكانتش تعرف هي بتعادي مين، وأنا رجعتلها عقلها، وندمت على هبلها، بس آ...
بتر عبارته من جديد ليستثير فضوله، فهتف "بدير" يسأله:
-قول.. في إيه؟

كانت كل الآذان تصغي إلى ما يقوله بالرغم من مشاعر الكراهية والحنق التي تملأ الأجواء، ومع هذا حافظ "خليل" على قناع الوجه المنكسر الذي يرتديه مستمتعًا بترقبهم، حانت فرصته الثمينة ليغتنمها، تلك الفرصة التي لا تأتي في العمر مرتين، أخفض رأسه ليظهر خذلانه، وقال بنبرة أقرب للتسول واستجداء الإحسان:
-هي كانت بتساعد أمها وأختها من القرشين اللي بيطلعولها من العربية، ما هما أصلهم يتامى ومكسورين الجناح، وأنا زي ما إنت عارف موظف ومرتبي على أدي، يدوب مكفي بيه الجماعة بتوعي والعيال اللي مصاريفهم ما بتخلصش، وبعد اللي حصل ده، والخراب اللي جه علينا، ف ... فيعني آ...

فطن "تميم" لأسلوبه الملتوي لطلب المساعدة، فقال بنزقٍ:
-أنا عرضت عليها تعويض، وهي موافقتش!
تفاجأ الحضور بما فعله في الخفاء ونظروا إليه في حيرة واستغراب، لكن كان "خليل" الأكثر صدمة بينهم، همس لنفسه في غيظٍ:
-آه يا بنت الكلب، ومقولتيش!

حاول أن يحافظ على انكسار نظراته وذبول صوته وهو يكمل:
-كتر خيرك يا معلم "تميم"، أصل احنا نفسنا عزيزة، وآ.. ومانقبلش ناخد فلوس كده من غير ما نتعب فيها.
زجره "هيثم" قائلاً بنفاذ صبر بعد أن مل من ثرثرته الطويلة:
-قول دوغري إنت عاوز إيه، ورانا أشغالنا ومش فاضينلك.
ابتلع "خليل" ريقه وهو ينظر إليه في توترٍ، عاد ليحدق في وجه "بدير" وردد بتلعثمٍ:
-حاضر..

ثم سحب شهيقًا عميقًا لفظه دفعة واحدة قبل أن يتابع بنفس اللجلجة المفتعلة:
-يعني لو.. تكلملنا يا حاج "بدير" عم "فايد" يأجرنا المحل اللي على ناصية الشارع، وتضمنا عنده بكلمتك اللي زي السيف إنه يصبر بس عليا في العربون والمقدم كام شهر لحد ما أفتحه وأسترزق منه، وبعد كده أسددله الفلوس، ما إنت كبيرنا، والحال واقف معانا، وأكيد ميرضكش قطع الأرزاق!
أسبل عينيه ليراقب ردات الفعل المرسومة على الأوجه، لكن كان جل من يهمه هو صاحب المال، نكس رأسه في تواضعٍ وهتف يرجوه وهو يشير بيده:
-واللي هتأمر بيه يا حاج فوق راسي.

مط "بدير" فمه يفكر في طلبه الغريب، ثم حسم أمره قائلاً:
-ماشي، معنديش مانع.
ذهل الحاضرون من موافقته، والتي بدت كما لو كانت قد أعدت مسبقًا، ومع هذا لم يجرؤ أحدهم على الاعتراض عليه، هلل "خليل" في سعادة غامرة:
-الله يخليك يا حاج "بدير"، ده احنا مالناش بركة اللي إنت، وأنا هامشي في الحتة كلها أقول للناس على معروفك معايا.

تابع "محرز" المشهد الهزلي المكشوف بنظراتٍ ثاقبة وابتسامة مهترئة، لم يكن ساذجًا لتلك الدرجة لتنطلي عليه تلك الحكايات المستهلكة التي يمليها عليهم "خليل"، كان أكثر إحساسًا بلؤمه، حيث قابل عشرات الأشخاص من صنفه المتغذي على الآخرين، وبالتالي لم يتعجب من تسوله السخيف، لوهلة ومض عقله بفكرة ماكرة، ربما ستساعده في تنفيذ شيء لطالما خطط له، لكنه تعثر بسبب مستجدات الأمور .. وبسماجة مصحوبة ببسمة مصطنعة هتف ملوحًا بيده:
-تسمحلي يا حاج أقول حاجة كمان.

التفت "بدير" برأسه نحوه مرددًا:
-خير يا "محرز".
تنحنح بصوتٍ عالٍ، ووزع نظراته على الجميع قبل أن يستطرد:
-أنا عندي اقتراح تاني يا حاج، هيفرق معانا ومع سمعتنا في الحتة بعد اللي حصل يعني
صاح "خليل" من تلقاء نفسه:
-قطع لسان اللي يجيب سيرتكم بكلام بطال، ده إنتو ولاد أصول!
نظر له "بدير" في امتنانٍ معقبًا:
-متشكرين، ها قول يا "محرز".

دار الأخير حول الواقفين بخطواتٍ متريثة يراقب نظراتهم كلاً على حدا، وكأنه أفعى سامة تتلوى لتنتقي ضحيتها التالية، ثم أضاف:
-إنت عارف إن الناس ما بتصدق تلاقي حاجة وتعمل منها حكايات وروايات، فاحنا هنسكتهم باللي ما يخليهمش يتجرأوا يفتحوا بؤهم أبدًا
أثار فضولهم بكلماته ذات الدلالات الغامضة، وتابع بنفس الأسلوب المشوق:
-ده غير إن الكل هيتأكد إن مقام الحاج "بدير" ابن الحاج "سلطان" فوق الكل.
رد عليه "خليل" متخذًا نفس الأسلوب المدعم:
-مقام الحاج كبير طول عمره، هو حد يستجري يقول غير كده؟

حدج "تميم" الاثنين بنظراته النارية المتنمرة، وهتف يسأله بضيقٍ واضح:
-ما تقول يا "محرز" اقتراحك إيه! بلاش لف ودوران
هز رأسه بإيماءة إيجابية، ثم أدار رأسه في اتجاه "خليل" ليسأله:
-إنت بنات أختك دول متجوزين يا "خليل"؟
بدا مأخوذًا من سؤاله الغريب، وقال في ترددٍ طفيف:
-هاه .. لأ
برقت عينا "محرز" حين قال له موضحًا:
-خلاص، يبقى محلولة، احنا عندنا عريس لواحدة فيهم.
بفمٍ مفتوح ووجهه مشدوه ردد "خليل" عاليًا:
-عريس؟!!!

على جمرات مشتعلة ظل يدور ويتحرك بطاقة مضاعفة في الدكان مدعيًا انشغاله بمتابعة عماله أثناء تفريغهم للثمار الطازجة وتخزينها بالثلاجة التي تحتل القسم الخلفي من المكان، حاول "تميم" إشغال نفسه وإضاعة الوقت ليلتهي عن التفكير في ذلك الاقتراح الصادم ريثما ينفرد بوالده، لكن عقله أبى الإنصات وألح عليه بهواجسه المعقدة، لم يكن ليتصور أن يحظى ابن خالته الأرعن ب "فيروزة" إن جاء نصيبها معه وإن كان الخلاف يجمعهما.

لوهلة تخيل أنها تخطب إليه ويُقترن اسمها به، شعر بمعدته تتقلص وكأن النيران قد اضطرمت في أحشائه، رفض استيعاب الفكرة ونبذها عقله بشدة، بل أحس بدمائه تفور لمجرد طرح الفكرة، حاول تهدئة نفسه وإفراغ المشاعر المكبوتة فيه بأداء الأعمال الشاقة بنفسه آملاً أن تخور طاقته المستثارة .. وما إن تحقق مراده وأصبح والده جالسًا بمفرده حتى أقبل عليه حاملاً كرسيه الخشبي في يده، أسنده إلى جواره، وسأله بصوته المتجهم:
-إنت عاجبك الكلام اللي "محرز" قاله ده يا حاج؟

ببساطة شديدة وهدوء مبالغ فيه رد عليه "بدير":
-والله مش عيب ولا حرام، هو بيتكلم بالعقل.
هتف محتجًا بشدة ونظرات الاستنكار ظاهرة عليه:
-جواز إيه ده، لأ ول "هيثم" كمان؟
علق بهدوئه المعتاد:
-محدش يقول للحلال لأ، وبعدين مسيره في يوم هايتجوز، وأكيد لما يلاقي نفسه شايل مسئولية بيت وعيال هيعقل.

قال معترضًا عليه ومستنكرًا استهانته بتلك المسألة المصيرية تحديدًا:
-اللي فيه طبع ما بيتغيرش يابا، متصدقش إن ابن خالتي ده حاله هينصلح.
تنهد "بدير" ناطقًا:
-أدينا بنديله فرصة.
صاح في عصبية وقد اختلج وجهه حمرة غاضبة:
-ونظلم بنات الناس معاه؟

التفت "تميم" كالملسوع فجأة حينما قال "محرز" بسماجة وقد فرض نفسه عليهما:
-إنتو بتتكلموا عن جوازة "هيثم"
هب واقفًا ليرد عليه بنظراتٍ يملأوها الإظلام:
-أيوه، أنا مش موافق على اللي قولته
رد يسأله ببروده السخيف:
-ليه بس؟ إنت تكره الخير لابن خالتك؟ ده إنتو لحم ودم!

كان "تميم" سهل الاستفزاز، سريع الغضب، وبذل أقصى ما يستطيع ليظهر هدوئه، لكن لم تتطاوعه ردات فعله .. استغرب "بدير" من حمية ابنة الزائدة، ومع ذلك قال له معللاً تشجيعه لذلك الاقتراح:
-يا ابني الجواز سترة للبنات في الأول وفي الآخر، ربنا يقدم اللي فيه الخير للجميع.
بينما أضاف عليه "محرز" متشجعًا:
-احنا مش خسرانين حاجة، مسير "هيثم" كان هايجي للحاج ويقوله عاوز أتجوز، وبعدين هما ناس غلابة وهيرضوا بأي حاجة.
اغتاظ "تميم" من تدخله وكلامه المستفز فنهره بتزمتٍ:
-بلاش تتحشر، وسيبني أخد وأدي مع أبويا!

نظر له في ضيقٍ، وقال معاندًا له:
-أنا نيتي خير، والحاج عارف إن يهمني مصلحة الكل.
وقبل أن يثور عليه مجددًا صاح "بدير" فيه منهيًا الجدال بينهما:
-خلاص يا "تميم"، كلام "محرز" موزون، وفيه الصالح.
أصر على احتجاجه قائلاً بوجهٍ متصلب:
-مش مع "هيثم"، أنا عارف طبعه.

وقف "بدير" لتصبح نظراته نافذة له، ثم حذره بلهجته الصارمة
-وأنا الشيبة اللي على راسي دي مش من قليلة، ومش هارضى بحاجة فيها أذية لمخلوق.
لامس "محرز" بوادر أزمة وشيكة، فهتف بسماجته وهو يفتعل الضحك:
-يا عم "تميم" ده الحاج "بدير" هايبقى ضهر ليهم، هو حد يطول يناسب الجاه والنسب ده.
أدرك "تميم" أنه لن يصل لشيء في نقاشه العقيم، فقال مستسلمًا وهو يدير ظهره للاثنين ليعود للداخل:
-اعملوا اللي يريحكم.

راقبه "محرز" بعينين ثاقبتين تضمران خبثًا خفيًا، أخفض رأسه وقال بعبوسٍ زائف:
-والله يا حاج أنا غرضي مصلحة الكل
زفر "بدير" ببطء قبل أن يرد عليه:
-أنا عارف يا "محرز"، وفاهم قلق ابني، بس عشمي في المولى كبير
عادت البسمة لتشرق على محياه من جديد وهو يعقب عليه:
-إن شاءالله مش هايحصل غير كل خير يا حاج .. ولا إيه!
برقت حدقتا "محرز" بذلك الوميض غير المريح وقد بدأت ملامح خطته المعدلة تدخل في حيز التنفيذ.

صداقة ممتدة وغير معلومة جمعت بين ثلاثتهم حرصوا فيها جيدًا على إخفائها ليبدو أمام العيان كغرباءٍ يجمعهم النسب والمعرفة السطحية لا كرفقاء قدامى دمغوا أحلامهم بسبب فقرهم المدقع .. وفي ذلك المنزل المتهالك حيث يسكن "نوح" جلسوا سويًا بعد أن وضبوا ما يحتاجون إليه لتكتمل جلستهم الترفيهية..
-إنت بتورطني يا "محرز"؟ هو أنا كنت ناقص بلوى!

تساءل "هيثم" بهذه الكلمات الناقمة وهو ينفث دخان نارجيلته دفعة واحدة في الهواء ليعبق بها الغرفة شبه المعتمة، حانت منه نظرة محتدة نحو "محرز" الذي بدا في أوج هيمنته وهو يستمتع بتدخين سجائره غير البريئة، أخرج سحابة كثيفة من جوفه، واعتدل في جلسته على المقعد الجلدي المتآكل أطرافه ليقول بخبثٍ، وكأنه بذلك يحمسه على القبول:
-ياض افهم، هتطلع بسبوبة حلوة من ورا الجوازة دي.

زوى ما بين حاجبيه متسائلاً:
-إزاي؟
أجابه بلؤمٍ:
-يعني هتعرف تسحب فلوس من جوز خالتك على حس إنك متجوز وفاتح بيت ومصاريفك كتير ومش مقضية، واللي معرفتش تاخده وإنت لوحدك، هتاخده دلوقتي براحة راحتك، ومن غير ما حد يحاسبك ولا يذلك.
كركر "نوح" ضاحكًا وهو يرص حجر الفحم على ناريجيلته لتزداد توهجًا، ثم هتف يمتدح عقله الداهية:
-يخربيت شيطانك، إبليس قاعد معانا!

التفت "محرز" نحوه ليسأله في تباهٍ واضح:
-عجبتك يا "نوح"؟
هز رأسه يثني عليه في إعجابٍ:
-دماغ يا "محرز"، كلنا لازم نتعلم منك، حتى الشيطان
شعر بالانتشاء من مدحه المبالغ فيه، وقال مجاملاً:
-تُشكر يا حبيبي.
ألقى "هيثم" بخرطوم النارجيلة في عصبيةٍ، وانتفض بجسده يقول مقررًا:
-وأنا مش عاوز أتجوز.
مال "محرز" نحوه محاولاً إقناعه باللين:
-اسمع بس وبلاش قفش يا عمنا ..

نفخ الأخير في استياءٍ وأشاح بوجهه للجانب الآخر، لم يبدُ "محرز" من ذاك النوع اليائس المستسلم، كان مثابرًا لأقصى الحدود، سحب نفسًا عميقًا من سيجارته، ثم استند على مرفقه ليساعده على تحريك جسده المتراخي ناحيته، وما إن بدا قريبًا منه حتى مال عليه، ووسوس في أذنه ليقنعه:
-لازمًا تعمل كده، ده لو عاوز ترجع حق أبوك، دي السكة اللي هتدخل منها ليهم، ومن غير سجن ولا بهدلة أقسام، ولا حد يتحكم فيك!
نظر له على بعينيه المجهدتين، وسأله مباشرة:
-طب أنا هتنيل أتجوز، إنت بقى هتستفاد إيه؟

أراح "محرز" ظهره المتعب وأرجعه للخلف ليغوص في المقعد أكثر مستمتعًا بمذاق التبغ المطعم بذلك المخدر في جوفه، فرد ساقه وفرك بيده -وفي حركة دائرية متعاقبة- ركبته قبل أن يجيبه بنوع من المراوغة وتلك النظرات الشيطانية الماكرة تملأ حدقتيه:
-بعدين .. كلها مصالح في الآخر.

وأخيرًا ابتسم الحظ له، بل فتحت الدنيا أبواب سعادتها على مصراعيها بذلك العرض غير المتوقع من "محرز"، كاد "خليل" أن يتخلى عن وقاره الزائف ويرقص طربًا في الشارع كتعبير عن فرحته الغامرة، حتى أنه اعتقد في نفسه بكونه قد بات شريكًا في أموال عائلة "سلطان" الثرية، لا يشكل أي فارق معه إن كان قريبه "هيثم" فقيرًا معدمًا أم لا، المهم أنه سيصير نسيبًا لتلك العائلة ذائعة الصيت والغنى، تبقى أمامه مهمة شاقة؛ ألا وهي إقناع إحدى الفتاتين بالارتباط به، بالطبع لم يكن ليجرؤ على مفاتحة أخته أو ابنتيه دون الرجوع أولاً لرأس الأفعى والعقل المدبر؛ "حمدية"! استشارها في تلك المسألة الحيوية، وقالت له بمكرها المعتاد:
-إنت ماتديهومش فرصة يفكروا، اعتبر رأيهم تحصيل حاصل.

تطلع إليها متسائلاً:
-أقصدك أجبرهم؟
هزت برأسها مؤكدة:
-أيوه، أومال تسيبهم يقولوا أه يا لأ، وتضيع من إيدينا الفرصة دي؟ كام مرة حد بيناسب عيلة زي دول!
كان مقتنعًا بكل ما ينطق به لسانها لكونه يشجع طمعه المادي، سال لعابه ورد مؤيدًا:
-معاكي حق، أنا هالبسلهم الوش الخشب، وإياكش يولعوا.
اتسعت ابتسامتها اللئيمة وهي تقول بقلب يشتعل حقدًا وبغضًا:
-الله ينور عليك، دول ما ينفعش معاهم إلا كده.

ظنت أنه قد جاء لرأب الصدع مع ابنتيها، وخاصة المكلومة "فيروزة"، حين جلس يبادلها الحديث الودي وينهال على أذنيها بكلماتٍ عطوفة حانية مذكرًا إياها بصلة الرحم ورابط الدم، توسمت فيه خيرًا بسجيتها النقية غير متوقعة الشر الكامن خلف قناع اللطف الذي ارتداه .. أعدت "آمنة" كوبين من الشاي وأضافت نكهة القرنفل عليه، ثم عادت إلى أخيها، وأسندت الصينية أمامه لتجلس بعدها على مقربة منه، وبتلذذ واضح على تعابير "خليل" المسترخية بدأ يتناوله رشفة تلو الأخرى محدثًا صوتًا شبه مزعج، رفع عينيه إليها ونظر لها مليًا قبل أن يستهل حديثه قائلاً:
-شوفي يا "آمنة" الموضوع اللي جاي أكلمك فيه النهاردة ده عشان مصلحة البنات قبل أي حاجة، مهما حصل بينا فهما لحمي وعرضي.

ابتسمت ترد عليه:
-طبعًا ياخويا، والضفر عمره ما يطلع من اللحم.
غاص في الأريكة وقال:
-وبما إني خالهم، والخال والد، فأنا هادور على اللي فيه الفايدة وأعمله.
شعرت بقليل من التوجس ينتابها، ومع ذلك التزمت الصمت ريثما يفرغ ما في جعبته، تنحنح "خليل" متابعًا كلامه المرتب:
-دلوقتي في عريس متقدم لواحدة من بناتك، هو محددش مين اللي عاوزها بالظبط، بس يكفيكي تعرفي إنه ابن الحسب والنسب، وهيعيشها في نعيم وعز ماكنتش تحلم بيه.

ارتفع حاجباها للأعلى في دهشة كبيرة، ورددت بفمٍ مفتوح:
-عريس!!
قال بهدوئه المريب:
-أيوه.
ابتلعت ريقها وسألته:
-مين ده؟
أجابها بزهوٍ غامض وهو ينتصب في جلسته:
-قريب الحاج "بدير".
انقبض قلبها في خوفٍ وقد لاحت مشاهد تهديدات "ونيسة" حين أتت لزيارتها في مخيلتها لتصيبها بالهلع، تشتت تفكيرها، ولطمت على صدرها في استنكارٍ قبل أن تهب واقفة لتبدي اعتراضها الكلي:
-قريبه؟ يا نصيبتي؟ واحنا إيه اللي يشبكنا مع الجماعة دول بالذات، أنا مصدقت بعدنا عنهم، وكفاية اللي حصل لبناتي!

نظر لها "خليل" في غيظٍ بعد أن أفصحت عن رأيها بصراحةٍ، ومع هذا قال ببرودٍ وقد قست تعابيره:
-بناتك اللي غلطانين من الأول، وبعدين المفروض يحمدوا ربنا إني بأصلح وراهم، مش بدل ما الحتة كلها تعادينا بسبب قرفهم؟
ردت عليه محتجة:
-هما خلاص اتعلموا من اللي حصل، وكفوا خيرهم شرهم و...
قاطعها بتزمتٍ وقد أظهر لها تشدده:
-أنا اديت للراجل كلمة ومش هارجع فيها!
سألته في لوعةٍ وعلامات الجزع تكسو وجهها:
-قصدك إيه يا "خليل"؟

نهض من مقعده ليقول بحسمٍ:
-يعني أنا وافقت على جواز واحدة فيهم لقريبه ده، ومش هارجع في كلامي مهما حصل!
لم يدرِ "خليل" أن ابنتي أخته كانتا تتلصصان على حوارهما المحتد، سيطر على الاثنتين حالة من الدهشة والصدمة المستنكرة، تبادلا مع بعضهما البعض نظرات مذعورة متوترة، لكن أبت "فيروزة" البقاء منزوية بالداخل .. فاض بها الكيل من تدخله السافر في شئون حياتهما الخاصة، بل وتقرير مصير مستقبلهما بكل هذا التعنت، لم تقبل بالخنوع أو الإذلال أكثر من ذلك، خرجت إليه مندفعة في عصبيةٍ وقد اختلج وجهها بحمرته الغاضبة، تقدمت نحوه حتى أصبحت على بعد خطوات منه، زجرته قائلة وتلك النظرات النارية تحتل حدقتيها:
-من غير ما تاخد رأينا؟

نظر لها باحتقارٍ قبل أن يرد:
-رأي إيه تاني بعد اللي هببتوته؟ ده كتر خيري إني عمل كده!
صاحت فيه "آمنة" كأنها تلومه:
-إنت كده بتبيع بناتي بالرخيص!
التفت ناحيتها برأسه ليرد ببرودٍ ساخر:
-لأ بالغالي يا ناصحة، وهما مسيرهم كان للجواز، ولا هيفضلوا كده أعدين عوانس جمبك؟
ارتفع الكدر في عيني "آمنة"، وأصابها تعاسة لا حصر لها، سارت في تخاذل لتجلس على الأريكة وقد شعر بثقلٍ في قدميها، تدخلت "همسة" في الحوار المحتدم وقالت بضيقٍ كبير:
-بس مش بالشكل ده يا خالي، ده احنا منعرفش شكله ولا بيعمل إيه ولا معاه شهادات ولا آ...

قاطعها بشبح ابتسامة ماكر لاح على زاوية شفتيه:
-كفاية إنه من طرف الحاج، هتعوزوا إيه تاني؟
وما لبث أن تحولت نبرته للإهانة وهو يكمل:
-ده إنتو شوية وهتشحتوا، بوسوا إيدكم وش وضهر إن في حد راضي بيكم!
كانت كلماته كالسوط اللاذع تهبط على أجسادهن فتحرقهن بقسوتها ومرارتها، احتجت أخته بشدةٍ وجسدها ينتفض في عصبيةٍ:
-يعني عاوزني أرمي بناتي كده في الشارع؟ يرضي مين ده يا ناس؟

أسرعت نحوها "همسة" لتهدئها وجلست على مسند الأريكة لتمسح على كتفها وجانب ذراعها في رفقٍ، بينما نظر "خليل" لأخته بعينين قاسيتين وهو يصحح لها:
-دول جيرانا من زمان، واحنا عارفينهم كويس، دلوقتي بقوا ماينفعوش ومن الشارع، هو حد يطول أصلاً يناسب عيلة "سلطان".
ردت عليه بنبرة أقل حدية لتسترق قلبه:
-على عيني وراسي الكلام ده، بس مش ده اللي اتمناه ليهم.

نفخ هاتفًا بنفاذ صبرٍ:
-بأقولكم إيه، أنا خدت قراري خلاص، واحدة فيهم هتتجوز قريب الحاج، ومافيش نقاش في الموضوع ده
هدرت فيه "فيروزة":
-ده ظلم، وإنت بتجني علينا.
قال لها وهو يتنفس أنفاس الضيق محاولاً ألا يثور حتى ينجح في مسعاه:
-ده جواز، مش حكم بالإعدام يا بت.
ردت عليه في تشنجٍ:
-لأ، أسوأ..
هتف بخبثٍ:
-ده إنتو هتستفيدوا، فتحي مخك يا غبية!

توحشت نظراتها من جملته الأخيرة التي تضمنت إيحاءً خاصًا استطاعت أن تستشف المغزى الخفي ورائه، وبكل نزقٍ قالت له وكأنها تفضحه:
-تلاقيك إنت اللي طالع منها بمصلحة!
اتسعت عيناه في حنقٍ من وقاحتها الفظة، وقبل أن يرد عليها لإخراسها بصرامته وتعسفه -البدني والمؤذي- هتفت "همسة" من الخلف بصوتٍ مرتفع تعمدت أن يصل صداه للجميع:
-أنا موافقة أتجوزه يا خالي...!!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة الثانية والعشرون بقلم منال سالم


سكون مريب وحائر محمل بعشرات الأسئلة ساد في المكان للحظاتٍ معدودة حتى يستوعب الجميع حجم المفاجأة التي حلت على رؤوسهم حين أعلنت موافقتها على الزواج من ذلك العريس المجهول الذي لم تلتقيه بعد، تطلعت "آمنة" إلى ابنتها مذهولة بعينين متحسرتين وكأنها تلومها على قبولها بعرض الزواج، تحاشت "همسة" النظر إليها حتى لا ترى نظراتها المعاتبة، ونكست رأسها، في حين احتقن وجه "فيروزة" على الأخير، وبدت كبركانٍ ثائر ينذر بانفجاره الوشيك.


 
شعرت بدقات قلبها تتسابق لتزيد من حالتها الهائجة، بدا صوت أنفاسها المتهدجة مسموعًا، اقتربت من أختها وأمسكت بها من ذراعها لتجبرها على النظر إليها، ظلت جامدة كالصنم وكأن جسدها تخلى عن روحه .. بالطبع كان "خليل" هو الوحيد الفائز في تلك الجولة المحسومة منذ البداية، وإن جاء انتصاره بمحض الصدفة ودون عناء، هلل بسعادة غامرة وقد انفرجت أساريره:
-على بركة الله، هاكلم الجماعة وأظبط معاهم كل حاجة وأعرفكم...


 
ثم ألقى نظرة سريعة على ثلاثتهن تعكس لمعان حدقتيه قبل أن يتابع:
-وإنتو جهزوا نفسكم، خلينا نفرح بقى.
لم يضف المزيد، وانصرف من المكان صافقًا الباب خلفه، حينها هتفت "آمنة" وهي تلطم على خديها:
-عملتي كده ليه يا "همسة"؟ ردي عليا
أخفضت رأسها ولم تجرؤ على النظر نحوها، في حين تابعت ندبها المصدوم:
-هو أنا قصرت معاكي في حاجة؟ بترمي نفسك في النار ليه يا ضنايا؟ حد طلب منك توافقي؟ ليه توقعينا من خالك، وهو مابيرحمش!

غطت "همسة" أذنيها بكفيها حتى لا تسمع المزيد من عباراتها اللائمة، وأطبقت على شفتيها بقوة وهي تجاهد ألا تنظر ناحيتها، نعم اتخذت قرارها في لحظة متهورة ولا تريد من أحد أن يلومها، شعرت بالألم يجتاحها، بصدرها يختنق، بالعبرات تتجمع في مقلتيها، شهقة خافتة انفلتت منها حينما قبضت "فيروزة" على رسغها وجذبتها عنوة لتسير خلفها، أدخلتها إلى غرفتهما، وأوصدت الباب خلفها، ثم هتفت تسألها بكل ما يعتريها من غضب، وحنق:
-إنتي اتجننتي يا "همسة"؟


 
نظرت لها في حزنٍ، وحافظت على صمتها الاضطراري حتى لا تفصح عن أسبابها، لم تقبل "فيروزة" بسكوتها، فهزتها بعنف وهي تواصل صراخها بها:
-إزاي توفقي على العريس ده؟ هو إنتي تعرفيه أصلاً؟ اتكلمي يا "همسة"، فهميني!
نفضت قبضتيها عنها، وردت بحدةٍ وهي توليها ظهرها لتتجنب نظراتها المحتدة:
-أهوو اللي حصل.
دارت حولها لتغدو في مواجهتها، وقالت بتهكمٍ:
-أكيد مخك جراله حاجة، ما هو دي مش تصرفات ناس عاقلين.


 
سحبت "همسة" شهيقًا عميقًا تخفف به الغصة التي تعصف بحلقها، وردت في مرارةٍ:
-ده أحسن حل يريح الكل.
نهرتها بقسوة:
-محدش طلب منك تعملي كده، مش أي حاجة خالك يقولها نوافق عليها، ده مستقبلك يا "همسة"!

نظرة حذرة رمقتها بها قبل أن تجلس على طرف الفراش، تحركت "فيروزة" لتقف من جديد أمامها، واستأنفت هجومها الشرس عليها علها تفيق من أوهامها:
-إني بترمي نفسك في النار مع ناس مابيرحموش، إنتي شوفتي بنفسك عملوا فيا إيه، وأنا مش هاستناكي تضيعي، مش هاسمح بده لو فيها موتي..

غامت عينا "همسة" وهي تحدق بها، اقتحم مخيلتها المشاهد العنيفة والمؤلمة التي تعرضت كلتاهما لها، لن تسمح بتكرار ذلك الأذى الدامي مهما كلفها الأمر، نفضت ذكراهم عن عقلها وحاولت جمع سعادة غير موجودة لتقول بابتسامة باهتة:
-يا ستي أنا مبسوطة، خالك قال إنه عريس كويس، وأهله معروفين في المنطقة، يعني فرصة حلوة ماتترفضش
رفت على شفتيها ابتسامة ساخطة مستهزأة قبل أن تتلاشى لتعاود تعنيفها:
-إنتي مستوعبة اللي بتقوليه؟ عاوزة تقنعيني بحاجة إنتي أصلاً مش مصدقاها!!


 
وفجأة هتف بنبرة عازمة وقد قست تعابيرها:
-أنا هاطلع أقول لخالك إني رفضتي.
هبت واقفة لتمسك بها من ذراعها، وتوسلتها:
-لأ يا "فيروزة"، ده قراري ومش هارجع فيه.
هتفت بها بنبرة أقرب للصراخ:
-ليه؟ فهميني؟
قالت بألمٍ وقد ارتخت قبضتها عنها:
-أهوو كده وخلاص.


 
أمسكت بها "فيروزة" من كتفها، وتطلعت إليها في قوةٍ قائلة لها:
-والله؟ من غير أي سبب، يبقى إنتي مش في وعيك وأنا هاتصرف!
همت بالتحرك لكن اعترضت "همسة" طريقها ورجتها من جديد:
-استني يا "فيروزة"!
قالت معاندة طلبها:
-لأ، مش هاستنى، ولو إنتي مش صعبان عليكي نفسك فأنا مش هاسيبك تضحي بنفسك حتى لو عشانا
هتفت بإصرارٍ:
-ماتضغطيش عليا يا "فيروزة"، أنا مش هارجع في كلامي مهما حصل.

ردت عليها في عندٍ أشد منها:
-إنتي مش واعية للي بتعمليه، محتاجة حد يفوقك و...
لم تكن "همسة" مثلها قوية الشكيمة، بل أضعف ما يكون لتتحمل مثل تلك الضغوطات المعاتبة، لذا انفجرت تبكي في صراخ لتبوح بما يجيش في صدرها:
-وأنا مش هاستحمل أشوف خالك بيمد إيده تاني عليكي أو عليا، وأمك واقفة بينا مش عارفة تعمل إيه، أيوه أنا وافقت أتجوز عشان ألاقي سند لينا، احنا طول عمرنا لوحدنا، خالك عمره ما هيكون الحماية ولا الأمان، ومع أول مشكلة هيدوس علينا زي الغرب.

تفاجأت بانهيارها، وضمتها إليها بقوةٍ لتحتويها حتى تهدأ، ثم مسحت على ظهرها بلطفٍ وقالت:
-واحنا مش محتاجين حد، احنا جمب بعض وسند لبعض!
ردت عليها بصوتٍ مهتز وهي تحاول السيطرة على نوبة بكائها:
-أنا عارفة.. وبعدين خلينا نفرح، أنا عاوزة أتجوز، ودي فرصة كويسة، وبعدين كلها كام شهر وربنا يكرمني بعيال تبقي إنتي خالتهم.
بدت "فيروزة" غير مقتنعة بالمبررات الواهية التي تملأ بها مسامعها، كانت متأكدة أنها تختلق تلك الأعذار لتخفي معاناتها حتى وإن عاشت حبيسة تعاستها الأبدية.

طرق بخفةٍ على باب غرفته قبل أن يفتحه ويطل برأسه عليه ليتأكد من استيقاظه، ابتسم قليلاً حينما وجد "تميم" جده جالسًا على مقعده الوثير بجوار النافذة، والمصحف الشريف بين يديه يقرأ فيه بصوته الخفيض، دخل بهدوءٍ وأغلق الباب من ورائه، ثم تحرك صوبه وجلس عند قدميه ليستمع إلى ترتيله العذب، شعر بالسكينة تتغلل جوارحه، لحظات من الاطمئنان والدفء غمرت كامل جسده وأوقفت تدفق الأفكار المزعجة في رأسه، بدا في حالة استرخاء وراحة تمنى أن تطول فلا يعود للواقع القاسي. دقائق أخرى قضاها في حالة خشوعٍ وإنصات حتى أنهى "سلطان" القراءة وأغلق المصحف ليقبله ويتمسح بجبينه عليه قبل أن يضعه على الطاولة، أخفض نظراته إلى حفيده، وسأله بصوته الهادئ:
-إنت كويس يا "تميم"؟

أجابه بعد تنهيدة مطولة مهمومة:
-لأ يا جدي.
سأله بتأنٍ:
-مالك؟
أجابه ببساطةٍ وكأنه بذلك يفرج عن مكنونات صدره:
-مخنوق.
دقق النظر فيه، وقال مباشرة:
-مراتك مزعلاك؟
أجابه نافيًا وقد بادر بالثناء عليها:
-لأ بالعكس، دي قايدة صوابعها العشرة ليا، بتعمل كل حاجة وأي حاجة عشان ترضيني.
رد عليه يدعو لها:
-ربنا يباركلك فيها، أومال في إيه؟

جاوبه باختناقٍ ووجهه يعكس حزنًا غريبًا:
-حاسس إني متكتف، مش عارف أتصرف.
تركزت عيناه معه، وسأله مستوضحًا:
-وده من إيه؟ أبوك كان قالي إنك حليتم المشاكل إياها، في حاجة جدت تاني؟
رد بالنفي:
-لأ.
-طب في إيه؟
أجاب بعد زفيرٍ طويل وبطيء:
-"هيثم" ابن خالتي هيتجوز.

وكأنه شعر بصعوبة الكلمات واختناقها وهي تخرج من جوفه، فسأله بتريثٍ عله يفهم ما يدور في رأسه:
-وده يزعلك يا "تميم"؟
لاذ الأخير بالصمت، فتطلع إليه جده بتفرسٍ، رأى أمارات الانزعاج متجسدة على ملامحه، هز رأسه في خفة، ثم استطرد يقول دون مراوغة:
-شكله مضايقك فعلاً.
تشجع "تميم" ليقول رغم اهتزاز نبرته:
-أصل .. الجوازة دي بالذات.. ليها علاقة بالحرمة اللي رفعت إيدها عليا
رد ساخرًا:
-ناوي يتجوزها عشان يربيها ولا إيه؟
شعر بتقلص يضرب معدته وكأن مصارحته قد ضغطت على جرحه الذي لم يندمل بعد، حملق فيه مدهوشًا قبل أن يرد مؤيدًا جملته وكل ما يظهر في عينيه قلق وتقرب:
-مش بعيد يا جدي!

علق "سلطان" في كلمات ساخرة:
-لأ و"هيثم" مش هيتوصى، جايز يدبحها ويرمي جتتها للكلاب.
جزع قلبه وأحس بالدماء تهرب من عروقه خوفًا عليها بمجرد اجتياح مشاهد خيالية تجسد ذلك لعقله المشحون، تفحص "سلطان" ملامح حفيده المبهوتة متسائلاً:
-إنت خايف عليها منه؟
ابتلع ريقه وضغط على شفتيه محاولاً تجاوز سؤاله الصريح، بينما تابع جده بلهجة مغايرة لتلك المازحة:
-شكلك بيقول كده حتى لو معترفتش بده.
قال متهربًا:
-أنا مابحبش الظلم ولا الافترا يا جدي، دي كل الحكاية.

لاحت بسمة صغيرة على جانب شفتيه وهو يرى حالة التخبط الواضحة عليه، الأمر أعمق من مجرد ما يبوح به، حتمًا هناك شيء خفي يخفيه عنه، وهو لا يريد الاعتراف به، ومع ذلك لم يضغط عليه، سيتركه على راحته إلى أن يفصح له عن أسراره .. فكر "سلطان" قليلاً، ثم رفع يده ووضعها على كتف حفيده ليربت عليه، واستطرد يقول له بصوتٍ رخيم ليحفزه:
-إنت موجود عشان تمنع ده، خليك مع الضعيف قصاد القوى في الحق، سامعني اقف مع الحق مهما كان مين الظالم!

تطلع إليه بعينين تتوهجان بشكلٍ غامض، لكن منحته تلك التوصيات شعورًا مريحًا أسكن مؤقتًا ما يعتريه من هواجس وتوتر .. عندما قام "تميم" منصرفًا شد "سلطان" على يده ليعيد على مسامعه:
-إياك تظلم الغلبان حتى لو جنى عليك في يوم! ماشي يا ابني؟
ابتسم يقول له وكأنه يعده وهو ينحني ليقبل كفه:
-حاضر يا جدي.

بعد مُضي أسبوع من إعلان موافقة العروس على الارتباط، كان الجميع مشغولاً بالترتيب لزيارة عائلية لإتمام الخطبة رسميًا .. وقفت "خلود" خلف أخيها في غرفة نومه تتأمل انعكاس هيئته المهندمة بمرآة التسريحة التي تحتل الحائط الأيمن بعد أن ارتدى السترة الرمادية الجديدة، كان مظهره مغايرًا لذاك السوقي الفظ، بدا راقيًا، ومقبول الملامح. ضبط "هيثم" رابطة عنقه، ومشط شعره ليثبت المتناثر منه، ظهر وميض الإعجاب جليًا في عيني أخته، ابتسمت الأخيرة في سعادةٍ وجابت بحدقتيها على كامل شكله المرتب، ثم رددت بتهليلٍ كبير مادحة إياه:
-الصلاة على النبي، الصلاة على النبي، قمر ياخواتي.

التفتت "بثينة" نحوها ترمقها بنظرة باردة قبل أن تنطق:
-ربنا يحميه من العين.
اعترضت عليها دون أن تخبو ابتسامتها المتحمسة:
-هو أنا هاحسد أخويا؟ ده الغالي عليا..
ثم ربتت على كتفه في رفقٍ وهي تدعو له:
-ربنا يتمملك على خير يا "هيثم"
رد مجاملاً:
-متشكر يا "خلود".

تابعت مضيفة وهي تخرج علبة حمراء مصنوعة من القطيفة من حقيبة يدها الجلدية اللامعة:
-شوفت جبتلك إيه على ذوقي، حاجة تحطها في الصينية تملى بيها عين عروستك.
أمسكت والدتها بالعلبة وفتحتها لتلقي نظرة متأنية على الخاتم العريض المليء بالفصوص البراقة، بدا الانبهار واضحًا على ملامحها، أدارته بين أصابعها وقالت في ثناء:
-ذوقك تحفة يا بت.
علقت في زهوٍ:
-من بعض ما عندكم يامه.

أعادت "بثينة" العلبة إلى ابنتها والتي دستها في الحقيبة لتتساءل بعدها باهتمامٍ حتى تشبع فضولها:
-أومال إنتي تعرفي العروسة؟ شوفتيها قبل كده؟ بيقولوا اسمها "همسة".
أجابتها بوجهٍ خالٍ من التعبيرات وهي تدير رأسها لتتجه نحو الفراش حتى تجلس على طرفه:
-مش فكراها أوي بصراحة، بس أعرف أمها، أصلها كانت جارة خالتك زمان قبل ما تعزل وتنقل على بيت "سلطان" الجديد.
هتف "هيثم" باستهجان، وتلك النظرة الناقمة تعلو تعبيراته:
-لعلمك أختها كانت عاملة مشاكل مع جوزك وجابتله البوليس.

ارتفع حاجبا "خلود" للأعلى، وحركت عينيها لتنظر في اتجاه والدتها التي استطردت محتجة:
-وإيه اللي يشبكنا معاهم؟
أوجز بغموضٍ دون أن تتغير قسماته المنزعجة:
-تحكمات بقى!
نظرات حائرة تبادلتها "خلود" مع والدتها لاحظت فيها تذمرها، توجست خيفة من إفساد الأمر، فهتفت بحذرٍ كمحاولة جادة منها لوأد أي خلاف قبل نشوبه:
-خلاص يامه الموضوع اتفض والكل اتصالح، وطلع "تميم" مالوش دعوة، ده سوء تفاهم وراح لحاله.

ردت عليها بنظراتٍ متنمرة:
-أنا قلبي مقبوض، بناقص منها الشبكة السودة دي.
اقتربت منها، وقالت مدافعة عن عائلة العروس:
-حرام، ده حمايا بيشكر فيهم.
نفخ "هيثم" بصوتٍ مسموعٍ ليضيف بعدها في سأمٍ:
-بأقولكم إيه أنا دماغي مصدعة، هاطلع أشرب سيجارة في البلكونة تكونوا خلصتوا لبس.
ردت عليه والدته وهي تومئ برأسها:
-ماشي يا ضنايا.

تابعته "خلود" بنظراتها إلى أن اختفى بالشرفة، فأدارت رأسها في اتجاه والدتها وسألتها:
-هو ماله يامه؟ هو مش مبسوط ولا إيه؟
جاوبتها بقليل من الضيق:
-والله ما عارفة، هو على دا الحال أديله كام يوم.
سألتها مستوضحة:
-مش الجوازة دي برضاه بردك؟
ردت دون تفكير:
-أيوه، هو حد يقدر يجبره على حاجة مش عايزاها، بس إنتي عارفة دماغ أخوكي، محدش بيفهمه.
اتسعت ابتسامتها العابثة، وقالت بوجهٍ شبه متورد:
-بكرة عروسته تدلعه ويشوف الهنا على إيديها.

تنهدت تقول لها في توجسٍ:
-يا ريت، ولو إني مش مرتاحة.
سرت عدوى القلق إليها، وتساءلت بتعابيرٍ تحولت للوجوم:
-ليه بس يامه؟
أجابتها بامتعاضٍ:
-جوز خالتك مابيجيش من وراه الخير
دافعت عنه "خلود"، فقالت:
-هو في زي عمي "بدير"، والله إنتو ظالمينه
نظرت لها بحدةٍ قبل أن توبخها:
-أيوه ياختي دافعي عن حماكي، ماهو أبو النبي حارسه وصاينه المعدول جوزك!
استاءت من هجوم والدتها غير المبرر على كليهما، فجلست إلى جوارها، وحاوطتها من كتفيها لتنصحها بأسلوبها السلس:
-بلاش يامه ندور على العكننة بإيدينا، خلينا نفرح ونتبسط، أخويا يستاهل كل خير، وأنا مستبشرة خير بالجوازة دي.

رمقتها بنظرة مستهزأة قبل أن تسألها في مكرٍ:
-أومال مافيش حاجة كده ولا كده؟
نظرت لها في عدم فهمٍ، انزوى ما بين حاجبيها متسائلة:
-حاجة إيه دي يامه؟
منحتها إجابة مباشرة:
-أمارة يا بت إن باطنك شايلة!
تضرج وجهها بحمرة قليلة، ونكست رأسها في حرجٍ قبل أن ترد على استحياءٍ:
-يادي الكسوف .. إيه الكلام ده بس، هو احنا لحقنا؟

ربتت على فخذها مشددة عليها بلهجة تعبر عن جديتها:
-لأ شيدي حيلك مع جوزك شوية، عاوزين نسمع البشارة قريب، دي الفرحة اللي بجد!
زفيرٌ بطيء أخرجته من بين شفتيها لتعقب بعدها بنبرة جمعت بين قليل من الرجاء والأمل:
-ربنا يسهل، دي حاجة في علم الغيب، ووقت ما ربنا يأذن هنفرح كلنا.
استندت "بثينة" بيديها على الفراش لتجبر جسدها على النهوض، ثم هتفت بزفيرٍ مرهق:
-ماشي يا فالحة، خليني أكمل لبس عشان منتأخرش، الحكاية مش ناقصة!
تحركت عيناها معها، ورددت بمرحٍ لطيف وهي تمد يدها إلى داخل حقيبتها لتخرج هاتفها المحمول منها:
-طيب يامه، وأنا هاكلم "تميم" أشوفه عمل إيه.

وضعت تاجًا رقيقًا أعلى رأسها بعد أن صففته وعقصته كعكة كبيرة فيما عدا بضعة خصلات متناثرة على وجنتيها، مسحة ناعمة من مساحيق التجميل اتخذت مكانها ببشرتها لتزيدها تألقًا وجمالاً، تأملت "همسة" ثوبها الذهبي الذي اختارته لتلك المناسبة بنظراتٍ مبهورة، كان متماشيًا مع تفاصيل جسدها الممشوق، زحزحت بيدها أطرافه الطويلة للجانب حتى لا تتعثر فيها حين تقوم من جلستها.

انخفضت نظراتها لتجول على عنقها وعظمتي الترقوة اللاتين اختبأتا خلف شالٍ رقيق شفاف يحمل نفس اللون اللامع، أحست بصدرها يعلو ويهبط في توترٍ، لكن تلك اللمسة المطمئنة من أختها على كتفها وهي تنحني عليها هدأتها قليلاً، أمعنت النظر في ثوب توأمتها الزيتي المتلألئ، كان يليق بها، ويغطي كامل جسدها فيما عدا مرفقيها، وعلى عكسها تركت "فيروزة" شعرها ينسدل على ظهرها ووضعت مشبكًا رقيقًا يمسك ببعض خصلاته عند الفارق الذي أحدثته فيه، اقتربت " منها وداعبتها بإعجابٍ:
-زي القمر يا "هموس" ، ماشاءالله عليكي.

نظرت إليها من خلال المرآة، وقالت بنبرة مرتبكة:
-قلبي بيدق جامد يا "فيرو".
ابتسمت وهي ترد عليها ساخرة:
-طبيعي، ما دي أول مرة هنشوف فيها ننوس عين أمه.
اكتسبت ملامح "همسة" تعابير مزعوجة، وردت تلومها وقد استدارت ناحيتها:
-إنتي بتتريقي؟
حاولت ضبط ضحكتها التي تسعى للانفلات من بين شفتيها، وهتفت متصنعة الجدية:
-أكيد، عريس مجهول الهوية، لا شوفناه ولا عرفناه، وجاية إنتي تتخطبي ليه، لازم أستغل الموقف.

نهضت من على الكرسي الصغير -منزوع الظهر- المستقر أمام المرآة، وقفت قبالتها لترد معاتبة إياها في خوفٍ محسوس:
-بلاش بالله عليكي توتريني بزيادة، أنا ماسكة أعصابي بالعافية.
علقت عليها أختها بجدية واضحة:
-عشانك مش مقتنعة باللي عملتيه.
تحركت الأولى من أمام المرآة لتوليها ظهرها، وردت في عصبيةٍ:
-هنرجع تاني للموضوع ده؟ مش قفلنا كلام فيه خلاص..

تطلعت إليها "فيروزة" في اهتمامٍ مراقبة ردات فعلها المتباينة والتي توحي بتخبطها وحيرتها، بينما تابعت "همسة" كلامها قائلة:
-وبعدين شوفتي خالك من ساعة ما وافقت على العريس وهو معاملته اتغيرت معانا 180 درجة، ده ناقص يشيلنا من على الأرض شيل
علقت عليها باستنكارٍ:
-ماهو مش ببلاش كل ده، ده أكيد طالع بمصلحة، خالك مابيعملش حاجة لوجه الله أبدًا!!!
وافقتها الرأي وإن لم تفصح عن ذلك علنًا.. استدارت الاثنتان معًا نحو باب الغرفة المفتوح ووالدتها تسألهما من الخارج:
-ها يا بنات، جهزتوا؟

لم تبادر إحداهما بالبرد، فقد وقفت "آمنة" عند أعتاب الغرفة تقول بصوتٍ منبهر وقد انفرد ذراعاها في الهواء:
-ماشاءالله ولا قوة إلا بالله، زي القمر يا حبيبتي
أسرعت "همسة" في خطواتها لترتمي في أحضان والدتها، أغمضت عينيها مستشعرة الدفء المنبعث من جسدها العطوف، وردت في امتنانٍ شاكر:
-ربنا يخليكي ياماما
أبعدتها عنها لتحتضن وجه ابنتها البشوش بكفيها، تأملت تفاصيلها الجذابة بعينين تلمعان بعبراتٍ فرحة وهي تغمغم بصوتها المنفعل فرحًا:
-ماشاءالله يا بنتي، ربنا يحميكي من العين.

رفرفت "همسة" برموشها في خجلٍ، في حين تابعت أمها تقول وهي تسحب شهيقًا طويلاً لتكبح به عبراتها:
-الجماعة جوم برا، أنا قولت أستعجلكم.
تساءلت "همسة" في اهتمامٍ:
-ومين قاعد معاهم؟
لاحت على شفتي "فيروزة" ابتسامة متهكمة، كانت تعلم الإجابة دون الحاجة لتخمينها، وبكل بساطة ردت على أختها تجيبها وقد كتفت ساعداها أمام صدرها:
-تفتكري هايكون مين غير مرات خالك "حمدية"؟!

في بقعة شبه معزولة عن أعين الآخرين تمتاز بخفوت الإضاءة، وقفت كلتاهما تختبئان خلف الستارة المنسدلة كمحاولة جادة منهما لاختلاس النظرات نحو العريس الغامض دون أن يمسك بهما أحد الضيوف، سعت الاثنتان للبحث عنه وسط الأجساد المتزاحمة والتي حجبت الرؤية بوضوح، امتلأت الغرفة بالحضور، أشخاص يصحبن زوجاتهن، وتبدو أعمارهم متفاوتة، ولكنهم يتشاركون في الضحكات المجلجلة .. وما إن ظهر وجه "هيثم" والإشارة بالترحيب له لكونه الخطيب المقصود حتى شهقت "فيروزة" مصدومة، لطمت برفقٍ على خدها هامسة في جزعٍ:
-يا نهار إسود، متقوليش إن هو ده العريس!

تجمدت "همسة" في مكانها، شعرت بقشعريرة تسري في جسدها بمجرد أن أبصرته، ورددت هي الأخرى في ذهول لا يقل في صدمته عن توأمتها:
-"فيروزة"، أنا اتوترت بجد، مش معقول يكون نصيبي مع ده.
تطلعت إليها بفمٍ مفتوح، ثم ازدردت ريقها لتكمل حديثها بأنفاسٍ مضطربة:
-شكله هو..

تخشب جسد "همسة" وأمسكت بيد أختها، وكأنها تتشبث بها، التصقت قدماها في الأرضية لتعجز عن التقدم، حاولت جاهدة استيعاب الصدمة والتعامل معها، لكن تشوش ذهنها وارتبكت أكثر، وزاد توترها؟ خفقة قوية ضربت بصدرها حين سمعت "حمدية" تناديها:
-تعالي يا عروسة، واقفة بعيد ليه كده؟ تعالي سلمي على الضيوف
تعلقت بذراع "فيروزة" وهمست لها ترجوها:
-ماتسبنيش
هزت رأسها في تفهمٍ، وردت عليها:
-متقلقيش أنا جمبك..

تحركت الاثنتان سويًا في اتجاه غرفة الصالون التي امتلأت بالضيوف، ولكن وحده فقط من ارتكزت عيناه على عدوته القديمة، نسيبته الجديدة؛ فيروزة! تطلع إليها "تميم" في اهتمامٍ استغربه وقد بهتت أنفاسه، كانت فاتنة للغاية، خلابة تسلب العقول، ساحرة تخطف القلوب، حمد الله في نفسه أنها ليست العروس المنشودة، وإلا لا يعلم ما الذي كان أصابه حينئذ، تتبعها طوال سيرها المتهادي وهو يشعر بتلك الأحاسيس غير المفهومة تقتحم كيانه لتضاعف من تلبكه، وتهلك أعصابه .. أجبر حدقتيه على عدم النظر نحوها، لكن أبت حواسه الانصياع، بدا مأخوذًا بطلتها البهية، تدارك نفسه وأخفض نظراته ليشتت تفكيره عنها، التفت برأسه نحو زوجته الملتصقة به فوجدها محدقة بالعروس، تنفس الصعداء لكونها لم تنتبه إليه، مال نحوها ليهمس لها مدعيًا بالكذب:
-هاقوم أعمل تليفون وراجع.

نظرت له في اندهاشٍ مستنكر، وردت عليه بصوتٍ خفيض:
-وده وقته يا "تميم"؟ الكلام هيبدأ ولازم تبقى موجود
خشي من انفضاح أمر ارتباكه، فقال متحججًا:
-معلش يا "خلود" شغل ومش هاينفع يتأجل، هارجع كمان شوية.
كان جل ما يبحث عنه حاليًا هو الفرار ولو مؤقتًا من تلك الأجواء التي توتره بشكلٍ غير مسبوق، انسحب في هدوء من الصالون ليتجه إلى خارج المنزل حتى يستنشق بعض الهواء عله بذلك يستعيد هدوئه المفقود.

لفت أنظارها وهو يسير مبتعدًا باحثًا عن المخرج، نظرت له "فيروزة" من طرف عينها متعجبة من ذهابه، لم تدع الأمر يحيرها، تجاهلته وكأنه نكرة لتركز كامل انتباهها مع خالها الذي بادر معرفًا وهو يحاوط توأمتها من خصرها ليقدمها للضيوف:
-دي بقى عروستنا الجميلة "همسة"، متكسفيش يا بنتي، سلمي على عمك الحاج "سلطان" الأول، كبيرنا وبركتنا.
مدت "همسة" يدها المرتعشة إلى الكهل الوقور الجالس على الأريكة المنفردة، رحبت به مرددة بصوتٍ شبه متذبذب:
-مساء الخير.

ربت على يدها وهو يرد:
-مساء النور يا بنتي، تبارك الله..
التفتت كالملسوعة إلى جانبها حين جذبتها تلك الأصابع الناعمة من ذراعها لتسحبها نحوها، حملقت في قلقٍ لوجه المرأة المبتهج وهي تقول:
-تعالي في حضني يا عروسة ابني.
لم تقاوم شدها القاسي، واستسلمت لحضنها الإجباري، لكن ما لبث أن اِربد بوجهها بعلامات الضيق حين شعرت بها تتلمسها بطريقة متجاوزة، وكأنها تتأكد من بروز مفاتنها وصلاحيتها، تراجعت للخلف رامقة إياها بنظرة حادة متأففة، وردت بوجهٍ مقلوب:
-إزي حضرتك يا طنط؟

زمت "بثينة" شفتيها لتسخر بعدها منها:
-طنط.. أنا أبقى خالتك "بثينة" يا روحي...
رمشت بعينيها في انزعاجٍ دون أن تنطق حتى لا تشحن الأجواء من لا شيء، ولكن أضافت "بثينة" كما لو كانت تملي عليها شروطها صراحةً:
-ولما تجوزي ابني هتناديني يا ماما!
ردت ببسمة متكلفة كنوعٍ من الترضية لها:
-أها.. إن شاءالله.

إشارة واضحة من عيني خالها جعلتها تعود إلى مكانها لتجلس في المنتصف ملتصقة بوالدتها وأختها، نحنحة خشنة صدرت من "بدير" قبل أن يقول مستأذنًا بكل تهذيب:
-بعد إذنك يابا هاتكلم أنا .
أدار "سلطان" رأسه في اتجاه ابنه، وهتف مبتسمًا وغير ممانع:
-اتفضل يا "بدير".
ربتة رقيقة ممتنة حانت منه على كتف والده وهو يرد:
-شكرًا يا حاج..

جاب "بدير" بنظراته على الأوجه المنتبهة له، تنحنح من جديد ليزيح تلك الخشونة العالقة بأوتاره، واستطرد موضحًا:
-احم .. احنا مش محتاجين نتكلم في التفاصيل، الأمور واضحة، طلبات العروسة كلها مجابة، وماتشلش هم حاجة، و...
قاطعته "بثينة" قائلة بلهجة جادة وكامل عيناها مسلطة على وجه "همسة"
-اعذرني على مقاطعة كلامك يا حاج "بدير"، بس عشان نبقى على نور من أولها، أنا ابني هايعيش معايا.
هنا ردت عليها "فيروزة" من تلقاء نفسها بذهولٍ والرفض ظاهر على خلجاتها:
-أفندم.. تعيش معاكي؟

تحركت "بثينة" بعينيها نحوها لتقول وهي تجلس بخيلاءٍ في مقعدها:
-أه، مستغربة ليه؟ أنا أعدة لوحدي في بيت طويل عريض يرمح فيه الخيل، عاوزاه يتملى بأحفاد ولادي، وأنا معنديش إلا "هيثم"، ومش عايزاه يبعد عني، وهو الوحيد اللي بيشوف طلباتي، وبصراحة كده مقدرش أستغنى عنه!

استشعرت "فيروزة" من أسلوب حديثها لمحات من العدوانية المستترة، وربما طباع حادة غير مقبولة، لم تكن لتدع أختها تعاني، ستقف لمن يؤذيها بالمرصاد، لذا انتصبت في جلستها، وردت بنبرة مترفعة مليئة بالتحدي:
-حقك.. بس هنسأل العروسة الأول وناخد رأيها، ولو الكلام مش عاجبها يبقى آ....

نظرة قلقٍ تشكلت في عيني "خليل" وقد شاركت ابنة أخته المتهورة في الحوار، حتمًا ستوصل الأمور لطريق مسدود لتفسد الخطبة، وهو لن يسمح لها بذلك، ادعى الضحك ليجبرها على بتر باقي جملتها، وقال مرحبًا بحماس زائد:
-ده حماتها ست كُمل ومشهود بيها في كل الحتة، احنا عروستنا موافقة على طلبتها و...
اغتاظت "فيروزة" من فرض رأيه بطريقة سافرة، فقاطعته عن عمدٍ وقد ظهر التشنج عليها:
-يا خالي إديها فرصة تتكلم وتقول رأيها.

زجرتها "حمدية" بوجهٍ مكفهر قاصدة إحراجها أمام الضيوف:
-عيب يا "فيروزة"، خالك مش مالي عينك ولا إيه؟ ما تقوليلها يا "آمنة"! خليه يقول كلمتين على بعض.
لم تأبه لتسلطها الواضح، وقالت معاندة بإصرارٍ:
-لأ معلش، أنا مابقولش حاجة غلط، ده جواز، مش مصلحة.
رد عليها "بدير" ليمسك بزمام الحوار من جديد:
-واحنا مش هانضرها يا بنتي، كل حاجة هتتعمل وأحسن كمان، ولو هي هتعيش مع الحاجة "أم هيثم" البيت هيتفرش بأحلى عفش.

هلل "خليل" مبتهجًا:
-أهوو، الحاج جاب من الآخر، يعني كله جديد في جديد!
بدت "فيروزة" متحفزة ومستعدة للمضي قدمًا في ذلك النقاش حتى نهايته، لن تتراخى فيما يخص شأن أختها، وإن جعلها ذلك مكروهة من الآخرين .. مصمصت "بثينة" شفتيها لتقول بتبرمٍ:
-المفروض دي اتفاقات رجالة، مش عارفة الحريم بيتحشروا ليه؟

استشاطت نظرات "فيروزة" وكادت ترد عليها بغلظةٍ لولا أن نهضت "حمدية" من مكانها لتلكزها في جانب ذراعها قبل فوات الآوان، ثم سددت لها نظرة قاسية وهي تأمرها بصوتها الخفيض:
-قومي هاتي الشربات للضيوف، يالا.. عيب نسيبهم كده، هايكلوا وشنا، مظبوط يا "آمنة"؟
شعرت "آمنة" بتوتر الأجواء واحتقانها فجذبت ابنتها من ذراعها وهي ترجوها:
-تعالي معايا يا بنتي.
ردت "فيروزة" على مضضٍ:
-ماشي.

أذعنت مضطرة لأمرها المستفز فقط حتى تنفرد بوالدتها، تركتها تتحرك أولاً ثم تبعتها في هدوء، لكن نظراتها المحمومة عادت لتلتقط صاحب الوجه الصارم الذي أقبل عليها وقد بدا هو الآخر متفاجئًا لرؤيتها تخرج إليه وهو يتلمس طريق العودة، توقف "تميم" في مكانه مقاومًا حالة التخبط التي تشوش على تفكيره بشأنها، ابتسامة مستخفة صدرت من "فيروزة" قبل أن تهمس له وحنقها نحوه قد تجدد:
-خشلهم، أصلها كانت نقصاك إنت كمان!

أوقظت بنبرتها الخافتة مشاعره الغاضبة ناحيتها، تذكر إهانتها .. صفعتها .. تطاولها اللفظي .. إساءتها غير المقبولة .. وكل ما يوقد تلك النيران الحانقة فيه ويولّد فيه كراهية لا حدود لها لشخصها المزعج، كظم غضبه، وتنفس بعمقٍ ليحجم من انفعالاته قبل أن تخرج عن طور سكونها. عاود "تميم" أدراجه ليلحق بها، وقبل أن تطأ المطبخ أمسك بها من رسغها ليستوقفها، استدارت "فيروزة" نحو ذاك الذي أمسك بها دون استئذان، تفاجأت به قريبًا منها بمسافة خطيرة.

كان جريئًا للحد الذي جعل تفكيرها يُشل لحظيًا، حدجته بنظرة نارية وهي تكز على أسنانها محاولة التملص منه وتحرير يدها، لكنه قابلها بنظرة مميتة خالية من الحياة، شدد من قبضته على جلدها الناعم وقد أخفض صوته للدرجة التي تصل إلى مسامعها ليقول لها عن عمدٍ حتى يستفز أعصابها:
-احمدي ربنا إنك مش مراتي، لأني ... مكونتش هارحمك....!!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة الثالثة والعشرون بقلم منال سالم


بالكاد تماسكت وقاومت تلك الرجفة التي اعتلت جسدها بعد تهديده العلني الخالي من أي شفقة، نظرت لعينيه القاسيتين محاولة إخفاء توترها، كانت حدقتاه تعكسان قوة، صرامة، غضبًا متعاظمًا، وكراهية مُعلنة، تلوت "فيروزة" بمعصمها بين أصابعه القابضة على رسغها، لكنه أبى تركها، استمتع "تميم" للحظة برؤيتها محاصرة منه، ومع حركتها الزائدة تناثرت رائحة عطرها لتعبق صدره، هنا أصابه التشتت، وارتخت أصابعه قليلاً عنها، ومع شحذها لكامل قواها انتزعت رسغها من قبضته انتزاعًا، وقالت في استبسالٍ وعيناها تتطلعان إليه:
-اتكلم على أدك، وفي اللي يخصك!


 
نظر لها بازدراءٍ، وقبل أن يرد عليها صاحت عاليًا:
-عجبك اللي بيحصل برا ده يا ماما؟
فهم "تميم" تلميحها الضمني باللجوء إلى والدتها لحمايتها منه، وكأنها تنذره بعواقب تواجده معها، استعادت ثقتها وجراءتها حين رأت صمته، أشارت له بحاجبها في تحدٍ، فبادلها نظرات حانقة قبل أن يوليها ظهره وينسحب من أمامها حتى لا تثار المتاعب من لا شيء، زفرة خافتة أشعرتها بالارتياح بمجرد ابتعاده، التفتت بجسدها لتدخل المطبخ، ووقفت إلى جوار والدتها التي هتفت في تضرعٍ وهي تعاود ملء الكؤوس بالعصائر الطازجة:
-ربنا يعدي الليلادي على خير.


 
ردت في تهكمٍ:
-وهتعدي إزاي وده نفس البني آدم الحيوان اللي وقعك على الأرض؟
حدث ما كانت تخشاه "آمنة"، كانت واهمة حين ظنت أن ابنتها لن تتذكره، ابتلعت ريقها وردت وهي تدعي انهماكها في العمل:
-موقف وراح لحاله!
صاحت في استنكارٍ وقد اربد بها الغضب:
-ده أنا كنت ها ضربه وأوديه القسم، هو ده اللي عاوزه تجوزيه لبنتك
لمحة خاطفة من عيني "آمنة" لوجه ابنتها المتشنج قبل أن تدير رأسه وتقول:
-خلاص بقى يا "فيروزة"، مايبقاش قلبك إسود!


 
نظرت لها بغيظٍ وردت بنبرتها المتعصبة، وكأنها تلومها:
-بقى أنا اللي قلبي إسود؟ يا ماما بلاش السلبية اللي هتضيعنا دي!
حاولت "فيروزة" أن تضبط انفعالاتها فسحبت شهيقًا عميقًا ولفظته على مهلٍ لتضيف بعدها متسائلة:
-طب إنتي موافقة إن بنتك تعيش مع حماتها في بيت واحد؟

تركت والدتها ما في يدها وضربت براحة كفها على السطح الرخامي غير مكترثة بالألم الذي حل بعظامها المتعبة، ثم هتفت في نفاذ صبرٍ:
-لأ مش عاجبني، بس ما باليد حيلة، الست مش غلطانة برضوه، أنا لو أعدة لوحدي هافكر في كده، وهيبقى نفسي ولادي وأحفادي يقعدوا معايا يلموا عليا البيت.
ردت بعدم اقتناع:
-ده مش مبرر برضوه!
وقفت قبالتها وتنهدت قائلة:
-أنا تعبت والله.. مبقتش عارفة أعمل إيه.


 
عقبت ابنتها بنزقٍ، وكأن مسألة إقناعها بتنفيذ ذلك أمر مفروغ به:
-خلينا نفض الجوازة دي، بناقص منها.
تطلعت إليها في اندهاشٍ، وعلقت عليها تسألها:
-وبعدين؟ تفتكري إيه اللي هيحصل؟ خالك هيسكت؟
وقبل أن تبادر بالرد تابعت "آمنة" باستياءٍ:
-لأ طبعًا، ده مش بعيد يقلبها حريقة ويهد البيت ده على اللي فيه، وأنا أنا مش هاستحمل يعمل فيكم حاجة.

سألتها من جديد بنظراتٍ تلومها:
-وتضحي بينا؟
اكتسبت ملامحها قساوة غريبة، واستطردت:
-أختك اللي اختارت.
قالت بأنفاس متهدجة تعبر عن ضيقها:
-غبية ومابتفهمش، جت تنقذ موقف ضيعت نفسها، وأنا مش هاقف أتفرج على ال....
قاطعتها بنبرة أقرب للتوسل وقد سئمت من جدالها المرهق:
-كفاية يا "فيروزة"، عشان خاطري بلاش تبوظي كل حاجة.


 
بهتت من كلماتها الأخيرة، شعرت بأنها تلقت قذيفة فوق رأسها، اختنق صوتها وهي تسألها:
-أنا يا ماما؟
لانت نبرة والدتها وغلفها الحزن حين أوضحت لها:
-افهمي، محدش هايقف معانا، وزي ما إنتي خايفة على أختك، فأنا خايفة على بنتي أكتر منك، بس هاعمل إيه قصاد جبروت خالك والناس القادرة اللي برا؟ إنتي خبرتك قليلة في الدنيا، ومتعرفهومش زي ما أنا أعرفهم..

رفض عقلها تصديق مبرراتها وإن كانت منطقية، في حين أكملت "آمنة" بنفس الصوت المرير:
-احنا عيشنا يومين جحيم بسبب تهورك، طب تفتكري هيعملوا فينا إيه واحنا بنقولهم معندناش بنات للجواز؟ مش هيسامحوا في ده، وهانكون فُرجة الحتة كلها.
ردت عليها بهدوءٍ رغم الثورة الدائرة بداخلها:
-بس كده احنا بنشارك في ظلمها، خلينا نفكر من تاني و..


 
أدارت ظهرها لها، وانحنت قليلاً لتمسك بطرفي الصينية وهي تقول:
-كل شيء قسمة ونصيب، ونصيبها جه مع الشاب ده!
حزنت "فيروزة" كثيرًا لافتقار والدتها للشجاعة، فقط لو منحتها الدعم لأنهت تلك الخطبة، لكنها تركتها وحدها تقاتل مع من هم أشد منها قوة، نكست رأسها في خزيٍ وأسف، اتجهت نحو حوض المطبخ لتملأ كوبًا فارغًا بالماء، لم تلتفت للخلف حين سمعت "حمدية" تتساءل بلهفةٍ:

-إيه الرغي ده كله، الناس بتسأل عليكم برا، عاوزين نقرى الفاتحة.
شعرت بنظرات أمها مرتكزة عليها وهي ترد:
-حاضر يا "حمدية"، طالعين وراكي.
دمعة حبيسة تشكلت في مقلتيها حسرة على خذلان والدتها لها، مسحتها بطرف يدها وتنفست بعمقٍ حتى تعود إلى الحشد المجتمع بغرفة الصالون وهي مرفوعة الرأس كما عاهدوها.

استقرت في منتصف الأريكة بجوار والدتها وعلى يسارها جلست أختها التي تشد من أزرها بقوة شخصيتها، أحست "همسة" أنها تُعايش حلمًا غريبًا، اختفى تورد وجهها، وحل الوجوم المتواتر على ملامحها، بقيت أنظارها مثبتة لحظيًا على وجه العريس الذي تذكر وجوههن المألوفة، عرفت ذلك حين تطلع إليهن باندهاشٍ قبل أن تبتعد عيناه عنهن ليحملق في ساعة يده لبعض الوقت، ارتخت في جلستها وتفحصت ملامحه بتمهلٍ، لكنه أمسك بها وهي تحدق به بعبوسها، تلبكت وأخفضت عينيها وتجنبت النظر نحوه ولو مصادفة ..

لم ينكر "هيثم" أن التردد ظهر على تعابيره في البداية حين ولجت الاثنتان للغرفة، والسبب بديهي، لم يكن يعرف من منهما عروسه، تغلله شعور كبير بالارتياح وقد تأكد من كونها تلك الفتاة الخجلة الهادئة؛ النقيض الكلي لأختها المتحفزة دومًا والتي على ما يبدو أنها تستعد للانقضاض عليه في أي وقت. تأملها بإمعانٍ مستغلاً التهاء الجميع بالحديث نيابة عنه، كانت رقيقة، جميلة، يظهر عليها الارتباك بشكلٍ فاضح وإن ادعت تماسكها، للحظة ظن أن الحظ لعب معه ومنحه فرصة ذهبية لتعويضه ولو بالقليل عن مآسيه المتعاقبة، بدا ممتنًا ل "محرز" لأنه مهد له الطريق، لكن عاد التوتر ليحتل تفكيره وقد انتابه هاجس مزعج من احتمالية إنهاء الخطبة قبل أن تبدأ لمجرد التطرق للمشكلة الكلامية التي نشبت بينهم حين قام بالسرقة المشؤومة، تصلبت عروقه، وزاد توتره ..

أحس بجفاف مرير يضرب جوفه، بغصة علقت في حلقه، انحنى بجذعه للأمام ليمسك بكأس المشروب ويبلل به شفتيه، ارتوى قليلاً، لكن توتره لم يسكن بعد، لذا قرر أن يشعل سيجارة ليدخنها حتى يخفف من حدة اضطرابه، ظهر الامتعاض على محياه مع استمرار "فيروزة" في المقاطعة والتعليق، بالكاد حافظ على هدوء أعصابه إلى أن انسحبت وراء والدتها، هنا أخرج زفيرًا بطيئًا أزاح به الثقل الجاثم على صدره، ورويدًا رويدًا بدأ يشعر بالثقة والأمل حين تولى "خليل" زمام الأمور من جديد ورحب بالضيوف بكلماته المتملقة ليذيب الجليد ويزيد من جو الألفة والمحبة بين المتواجدين.

عادت "فيروزة" لمقعدها، والتزمت الصمت، ثم بدأت الاتفاقات الاعتيادية بين الطرفين دون أدنى اعتراض ليشرعوا بعدها في قراءة الفاتحة بعد الاستقرار على كافة الأمور، مسح "محرز" على صدغيه فور إنهائه للقراءة قائلاً بصوتٍ مرتفع وابتسامته اللزجة تنير وجهه:
-أمين، ألف مبروك يا جماعة، وعقبال الليلة الكبيرة..

هتف "بدير" بصوته الأجش وهو يشير بيده:
-إن شاء الله العروسة تحدد يوم تنزل تنقي فيه شبكتها مع حماتها، أحلى حاجة في محل الصاغة، ومايهمكوش الفلوس، دي هدية مني ومن أبويا الحاج "سلطان".
ردت "آمنة" تجامله بتهذيبٍ:
-ربنا يباركلنا فيك يا حاج، احنا هانشوف ظروفنا ونرتب مع الحاجة "بثينة".
نهضت "خلود" من جلستها لتضع علبة الخاتم الحمراء في صينية المشروبات الفارغة، وقالت بحماسٍ قبل أن تعود إلى مكانها:
-حاجة بسيطة نقاوتي، يا رب تعجب العروسة.

على الفور تحركت "حمدية" لتلتقط العلبة، فتحتها ونظرت إلى ما فيها بعينين مدهوشتين وفمٍ مفتوح في انبهارٍ، رفعتها نصب عيني زوجها لتقول بنبرة مادحة:
-ماشاءالله، ربنا يزيد ويبارك، الغالي ما يجبش إلا الغالي، بص يا "خليل" على الخاتم القيم ده!
حملق هو الآخر مبهورًا في الخاتم الذي عكس بريقًا جذابًا، سال لعابه قائلاً حين حمله بين أصابعه ليشعر بثقل وزنه:
-اللهم صلي على النبي، حاجة حلوة بصحيح ..

ابتلع ريقه والتفت نحو ابنة أخته يأمرها وهو يتصنع الضحك:
-تعالي يا عروسة، اشكري حماتك وعمتك الصغيرة على هديتهم الغالية.
نظرة سريعة من "همسة" إلى والدتها، وكأنها تستشيرها في صمتٍ، وجدتها تستحثها بعينيها لتنفذ طلبه، وعلى مضضٍ نهضت مجبرة من مجلسها، واتجهت إلى الاثنتين لتنحني عليهما وقبلت كل واحدة منهما على حدا من وجنتيها وهي تتمتم:
-ميرسي، ذوقكم جميل.

احتضنتها "خلود" بسعادةٍ قائلة لها:
-العفو يا عروسة، ولسه هتشوفي حاجات حلوة كتير، ده إنتي هتتجوزي أخويا.
ثم استدارت برأسها لتأمر أخاها بتسليةٍ وضحكتها المشرقة تصدح:
-ماتلبس عروستك الخاتم يا "هيثم"، ده إنت العريس والليلة دي كلها عشانك.
أيدها "محرز" الرأي قائلاً:
-مظبوط، ولا هو بيكسف.

ثم كركر ضاحكًا باستظرافٍ غير مكترث بمشاعر الآخرين نحوه إن كانوا يتقبلون مزحه وطرفاته أم لا، تشجع "هيثم" ونهض من مكانه ليدنو من عروسه التي لم تنظر نحوه مطلقًا، مد ذراعه أمامها وتنحنح قائلاً بصوتٍ خفيض:
-احم.. هاتي إيدك يا عروسة:
استجابت له "همسة"، وردت بصوتٍ بالكاد سمعه:
-اتفضل.
ارتعشت يدها أسفل قبضته التي لامست جلدها، وسحبتها على الفور حين ألبسها الخاتم، خجلتٍ وارتبكت وتصببت عرقًا وهي تفعل بالمثل له، شعرت بأنفاسه قريبة من وجهها وهو يهنئها:
-مبروك.

أسبلت عينيها نحوه ترد في تلعثمٍ مرتبك:
-الله يبارك فيك.
انطلقت الزغاريد عاليًا كتعبير عن فرحة النساء بإتمام الخطبة العائلية، والرغم من الإعياء الظاهر على "هاجر" إلا أنها شاركتهن في ذلك، مالت عليها "ونيسة" تحذرها:
-بالراحة يا بنتي عشان نفسك.
قالت في استحسانٍ وحبور:
-ده أخويا يا ست الكل، ومعزته عندي زي "تميم" بالظبط، ولازم كلنا نفرحله.
ربتت "بثينة" على كتف ابنة أختها تشكرها:
-ربنا يخليكوا لبعض يا حبيبتي، احنا كلنا عيلة مهما حصل!

اندفعت "حمدية" في اتجاه "فيروزة" لتدفعها من كتفها عنوةٍ حتى تجبرها على الوقوف وهي تأمرها بلهجة مزجت بين الجدية والمرح:
-تعالي يا "فيروزة" مكان العريس وخليه يقعد جمب عروسته شوية، خليهم يفرحوا ببعض.
زوت الأخيرة ما بين حاجبيها مرددة في ضيقٍ:
-أنا؟!!
أطلقت ضحكة مجلجلة وهي ترد عليها:
-يالا بقى، ماتبقيش زي العزول كده!

نهضت "فيروزة" مرغمة، وبحثت عن مكان شاغر لتجلس به، فلم يكن هناك سوى ذلك المقعد الملاصق ل "تميم"، حيث جلس "هيثم" في البداية قبل أن يحتل مكانها، تطلعت إليه في حيرة وضيق، بالطبع كانت الفرصة مناسبة لخصمها لينظر لها بتشفٍ، وكأنه يتحداها في صمتٍ أن تجلس بجواره، وبترفعٍ وغرور سارت ناحيته، واستقرت قريبة منه، تعمدت أن تبدو كالصنم، متكلفة، متعالية إن دق التعبير، لا يظهر على قسماتها علامات الرضا، وعلى قدر الإمكان أجبرت عينيها ألا ينظرا إليه، التفاتة بطيئة حانت من رأسها حين هنأتها "خلود" ببسمتها المبتهجة:
-مبروك يا حبيبتي، عقبالك.

ردت عليها بنبرة موجزة وهي تشيح بوجهها المتجهم:
-شكرًا
في حين علق عليها "تميم" قاصدًا الاستهزاء بها:
-اللي زي دي ما بيعجبهومش العجب يا "خلود"، هيفضلوا كده من غير جواز...
-ومش بعيد يعنسوا!

أكمل جملته وهو ينظر لها بجمودٍ وتلك الابتسامة الساخطة تعلو شفتيه، إهانة حقيرة لشخصها في حضور زوجته لم تتقبلها منه، استدارت برأسها نحوه ترمقه بنظرة نارية، وقالت بصوت خفيض وهي تكز على أسنانها:
-يغور الجواز اللي يجي من ناس ماتستهلش!
ردت عليها "خلود" بمرحٍ:
-بس الجواز عن حب جنة.
عقبت "فيروزة" بما يشبه السخرية متعمدة الاستهانة بمشاعرها:
-زيك إنتي وال .. الأستاذ! عايشين في جنة، صح؟

قست تعابير "تميم" من كلماتها الدلالية، ورد عليها بصوتٍ أجوف ليخفي غضبه، ولكنه أحرجها:
-ميخصكيش اللي بيني وبين مراتي، الزمي حدودك!
اختلج وجه "فيروزة" بحمرة ألهبت بشرتها على الفور لإحراجه لها بهذا الشكل السافر، نظرت له بعينين تشعان غيظًا قبل أن تتطلع أمامها وقد ازدادت عبوسًا .. مالت "خلود" على زوجها تعاتبه برقةٍ وبصوتٍ خافت:
-اهدى يا حبيبي، مالوش لازمة الكلام ده معاها، هي شكلها اتضايقت.

رد بنفس الصوت الحانق:
-اللي مش عاجبه يشرب من البحر.
اخترقت كلماته الحادة أذني "فيروزة" فأطبقت على شفتيها بكل قوةٍ لتكتم اندفاع لسانها حتى لا تنقلب السهرة لمعركة يتراشق فيها الاثنين سويًا بالألفاظ .. هبت واقفة لتترك مكانها خاويًا واتجهت إلى والدتها وجلست على مسند أريكتها ومالت نحوها لتبدو كأنها تتبادل معها الحديث في شيء ما، مجرد وسيلة هروبية مكشوفة أشعرت "تميم" بالضيق، وضاعفت من انزعاجه، فبالرغم من انصرافها إلا أن أثر عطرها بقي يداعب أنفه ويوتر حواسه.

نشوة عجيبة غمرت أحاسيسه وهو يجلس إلى جوار تلك الفاتنة، أمسك بطرفي سترته يشدها ليظهر مشدود الجسد، ومفتول العضلات فتعجب بقوته الذكورية المستترة، وجد "هيثم" لذة عجيبة في هذا الأمر، لذا نظر إليها بجراءة أكبر، وجاب بعينيه على تفاصيلها المشوقة التي تحاول حجبها عن عينيه مما زاده رغبة فيها، حتى أنها حفزت خيالاته الجامحة لتخيلها بشكلٍ أكثر تجاوزًا.. تدارك نفسه وتنحنح بخفوت وقد حرك عينيه في الجهة الأخرى ليمررها على أوجه المتواجدين، لم ينتبه إليه أحد فأشعره ذلك بالارتخاء، وتساءل مستنكرًا:
-أنا متوتر ليه، ما كله برضاهم وبموافقتهم.

تعاظمت بداخله الرغبة في الاستمتاع بما فُرض عليه، ولما لا الخطبة قد باتت رسمية الآن؟ سدد نظرة متفرسة ل "همسة"، كانت تبدو كفتاة مطيعة، مرتعبة قليلاً، لكنها ناعمة، ربما ستمنحه بعض السعادة في حياته الرتيبة الفارغة، وستكون أيضًا وسيلته المشروعة لإشباع غرائزه التي تأزر من حين لآخر، ناهيك عن الاستفادة المادية من وراء زيجته. تشجع "هيثم" ومرر يده بتمهلٍ ليمسك بيد "همسة" التي انتفضت كمن لدغها عقرب بمجرد إحساسها بقبضته عليها، حملقت فيه في ذعرٍ وابتلعت ريقها، حاولت سحب يدها من بين أصابعه، لكنه أطبق عليها جيدًا، أحنى نفسه عليها ليبدو صوته قريبًا منها وهو يهمس لها:
-مش المرادي يا عروسة.

قشعريرة باردة سرت في أوصالها، أحست بمزيدٍ من الخوف والخجل والكل يتطلع إليها، التفتت تنظر إليه بما يشبه الرجاء قبل أن يخرج صوتها المتحشرج الخافت من بين شفتيها ليقول له:
-لو سمحت، أنا .. مش بأحب كده.
ابتسم وهو يرد عليها:
-بكرة تتعودي..
ثم مال عليها أكثر ليكمل همسه المداعب:
-وجايز تتخانقي معايا عشان مش ماسك إيدك.

استجمعت قوتها الهاربة لتستل يدها من بين أصابعه، وردت عليه بصوتها المرتبك:
-لأ مش هتخانق.
انزعج من عدم تجاوبها وقال بضيقٍ، وكأنه يحذرها:
-على راحتك، بس يا ريت ماتبقيش زي المحروسة أختك.

رفعت رأسها لتحملق فيه مصدومة، لم تكن تعابيره بالمازحة، بل أصبح إلى حد ما قاسيًا كالحجارة الجافة، شعرت "همسة" بقلبها يضطرم من الخوف، التفتت باحثة عن توأمتها علها تنجدها فوجدتها مشغولة بالحديث في هاتفها، كتمت شهقتها بصعوبة وقد شعرت بيده الخشنة تحتضن كفها من جديد، أدارت رأسها ناحيته فوجدته يتطلع إليها بتحدٍ وأصابعه تزداد شدة عليها، وكأنه يخبرها بشكلٍ غير منطوق أنه بات من تلك اللحظة يمتلك زمام أمرها، أدركت حينئذ أنها جنت على نفسها حين تسرعت بالقبول، وبدأ إحساسها الحقيقي بالندم يتسرب إليها.

وُزعت حلوى الشيكولاته على الجميع، وامتلأت الأجواء ببعض الدعابات الفكاهية الجيدة أحيانًا، كما ظلت الأحاديث الودية تدور بين الأطراف في كافة المواضيع اليومية وما بالمنطقة من مشكلات تنغص ساكنيها حتى اقترب ميعاد انصراف الضيوف، هنا اقترح "محرز" بحماسٍ وهو يضع باقي الورق الفارغ من الحلوى على الطاولة أمامه:
-طب بالمناسبة الحلوة دي المفروض كلنا نطلع نتعشى برا في أحسن مطعم في المنطقة.

رد عليه "بدير" مبتسمًا:
-احنا عجزنا يا ابني على السهر!
قال بتملقٍ:
-عجزت إيه بس يا حاج؟ ده إنت لسه في عزك.
تدخلت "ونيسة" في الحوار، وقالت مازحة:
-خلي العرسان يطلعوا هما اللي يتعشوا برا..
ظنت أن حديثها لن يؤخذ بمحمل الجد، لكنها تفاجأت ب "محرز" يرحب به ويؤيده، فأضاف بنفس اللهجة المتحمسة:
-والله فكرة، بس لازمًا ناخد رأي الخال، إيه رأيك يا عم "خليل"؟

فرك "خليل" طرف ذقنه مدعيًا التفكير، ثم أردف قائلاً ببسمة فاترة:
-ولو إني مابحبش السهر ولا التأخير، بس مافيش مانع، خلي "همسة" تتبسط مع عريسها.
ارتبكت "همسة" من ذلك الاقتراح، وظهر توترها على قسماتها، نهضت من مكانها واتجهت إلى أختها تهمس لها في خوفٍ:
-سامعة خالك، ماتسبنيش يا "همسة" لوحدي معاهم، أنا معرفهومش
ردت تطمئنها وقد استقامت واقفة:
-متقلقيش..

تقدمت خطوتين نحو خالها، وقالت بما يشبه الرفض، ولكن بأسلوب لبق:
-سوري يا جماعة، بس أختي ما بتخرجش لوحدها.
رد عليها "محرز" ضاحكًا بسخافة:
-تعالي معاها، مش معنى إنك مش مخطوبة زيها ماتجيش، ولا إيه؟
طُرفة مهينة نالت منها وأحرجتها على مرأى ومسمع الجميع، بل وكادت تشعرها بالانتقاص لولا أنها حركت شفتيها لتخبره بنفس أسلوبه السمج والمستفز، وقد وضعت يدها أعلى منتصف خصرها:
-لا شكرًا، مش محتاجة اتخطب عشان أخرج، أنا أعرف أبسط نفسي كويس.

تنهد "خليل" مبديًا موافقته حتى يكبح غضب ابنة أخته قبل أن يتفاقم:
-أنا معنديش مانع، روحي مع أختك.
نظرت إلى خالها في ضيقٍ، فبدلاً من أن تُخلص أختها تورطت معها، نهض "محرز" من مكانه ليتجه إلى حيث تجلس زوجته، وقف خلفها، وتابع:
-احنا معندناش أي مشكلة، الدعوة أصلاً للكل، وبالمرة "تميم" يفسح مراته، ما هما عرسان جداد بردك.
انتصب "تميم" في جلسته المتحفزة، وتلقائيًا اتجهت عيناه نحو "فيروزة" التي كانت تطالعه بكراهية بائنة، لمسة ناعمة من "خلود" على كفه جعلته يستدير نحوها ليجدها تقول له بدلالٍ وغنج:
-أيوه يا حبيبي، إيه رأيك؟ أهوو نغير جو، عشان خاطري وافق.

أبعد حدقتيه عن زوجته ليعاود تسليطهما على وجه "فيروزة" المتشنج وهو يرد غير مبالٍ:
-اللي يعجبك.
قال "خليل" بلطفٍ غير مستساغٍ منه ليظهر بمظهر الصرامة أمام أنسابه الجدد:
-خلاص يا "فيروزة"، روحي مع أختك، ماتأزميهاش، بس هي ساعة زمن بالكتير، وخليكي معايا على التليفون، مش عاوز تأخير
نظرت له بحدةٍ وقد بدا الاستنكار من كذبه السخيف مقروءًا على تعبيراتها .. قالت "هاجر" بتأويهة متعبة والإجهاد يبدو عليها:
-معلش يا جماعة، اعذورني مش هاقدر أروح معاكو، أنا يدوب "محرز" يوصلني البيت، الحمل تاعبني شويتين.

قالت "آمنة" في ودٍ:
-ربنا معاكي ويقومك بالسلامة، ويقر عينك بمولود سليم
ردت مجاملة:
-تسلمي يا خالة..
استند "سلطان" على مسندي الأريكة بيديه المجعدتين، حركات حذرة قام بها حتى لا تئن عظامه بآلامها، نهض من مكانه، واستقام قائلاً:
-احنا كده خلصنا مهمتنا.
اعتبر "بدير" كلمات أبيه بمثابة إشارة ضمنية لانقضاء السهرة، فنهض هو الآخر ليقول مؤيدًا:
-مظبوط يا حاج "سلطان"، هنستأذنكم يا جماعة، وفرصة طيبة.

هتفت "حمدية" معترضة بضيقٍ مفتعل:
-ما لسه بدري؟ ده احنا عاملين حلويات شرقي تستاهل بؤكم، و...
قاطعها "بدير" بلطفٍ:
-بالهنا والشفا، ده كده رضا أوي، وبعدين احنا ورانا أشغال ومصالح كتير من الفجرية
رد عليه "خليل":
-كان الله في العون يا حاج.
ردد "محرز" عاليًا وهو يلوح بيده في الهواء حتى ينتبه له الجميع:
-إن شاءالله متجمعين في الخير، احنا هنستنى الشباب تحت، سلامو عليكم.

دنت "همسة" من أختها بعد أن تحررت من حصار خطيبها، تعلقت بذراعها كالغريق، ونظرت لها في توترٍ حائر قبل أن تسألها بخفوتٍ يشير إلى ربكة لا بأس بها تحتل كيانها:
-هنعمل إيه دلوقتي؟
غامت نظرات "فيروزة" وتحولت للقسوة من جديد، أومأت لها بحاجبها وقد بدت مستغرقة في أفكارها العميقة، وكأنها تراجع ما ستقوم به في رأسها .. ابتسامة مزهوة لاحت على جانبي شفتيها للحظة، أعقبها تنهيدة هادئة انفلتت من جوفها لتنطق بعدها بغموضٍ وقد اكتسح نبرتها قوة أنثوية تليق بشخصها غير الضعيف:
-هنخرج، وهيعرفوا هما ناسبوا مين...!!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة الرابعة والعشرون بقلم منال سالم


توسطت في المقعد الخلفى بالسيارة لتجلس بين توأمتها وزوجته، استقامت في جلستها غير المريحة ليبدو انعكاس وجهها واضحًا في مرآة "تميم" الأمامية، عمدت "فيروزة" إلى النظر إليه بكل ما تعكسه عينيها من كراهية وبغضاء لتستفزه أكثر، كانت تبحث عن السبل المشروعة وغير المشروعة لاستثارة أعصابه وإخراجه من طور الجمود المتحجر الذي يحبس نفسه بداخله، وكأنها بذلك تتحين الفرص لإفساد الخطبة، إما عن طريقه أو عن طريق قريبه المشابه له، أبعدت نظراتها حين سألتها "خلود":
-تحبوا تروحوا مكان معين ولا تسيبوني أختار على ذوقي أنا؟


 
أجابتها ببرودٍ وهي تهز كتفيها:
-مش فارقة.
ابتسمت مضيفة في مرح:
-طب نسأل العروسة، إيه رأيك؟
أنابت عنها "فيروزة" في الإجابة:
-إن كان على "همسة" فهي مش عاوزة تروح في حتة.


 
تدخل "هيثم" في الحوار معلقًا بامتعاضٍ بائن على وجهه:
-والله محدش طلب رأيك، هي عندها لسان، خليها تتكلم
وقبل أن تبادر بالهجوم عليه، وضعت "همسة" يدها المرتعشة على قبضة أختها تستحثها في رجاءٍ صامت ألا تختلق أي مشكلة، وحركت شفتيها ليخرج صوتها مهتزًا وهي ترد بحيادية:
-أي.. حاجة، كله مناسب عندي.

تبادلت "فيروزة" معها نظرات لائمة، لم تحبذ الظهور بمظهر الضعف والتخاذل مع هؤلاء حتى لا يقتنصوا الفرصة ويتكالبوا عليها، لتدع الأمر لها لتضعهم في مقامهم الذي يليق بهم .. رنة خافتة صدرت من هاتف "فيروزة" جعلتها تنتبه له، وتعبث به للحظات، وكأنها وسيلتها المؤقتة للانشغال عن السخافة المحيطة بها، بينما هتفت "خلود" من جديد كمحاولة أخرى ناجحة منها لتقليل الأجواء المشحونة:


 
-في مطعم على البحر هنا الكل بيشكر فيه، إيه رأيكم نجربه؟
قال "تميم" غير ممانع ونظراته موجهة نحوها من خلال انعكاس المرآة:
-طالما عاجبك يا حبيبتي نروحه.
امتدت يدها لتلمس كتفه، وقالت في امتنانٍ رقيق:
-حبيبي ربنا يخليك ليا.

لم تستسغ "فيروزة" ما يدور بينهما من مشاعر متكلفة، شعرت وكأن كلاهما يستعرض محبة زائفة فقط لإغاظتها، أبعدت نظراتها في ضيق عن التحديق بالمرآة لتنظر إلى جانبها، كانت أختها تحملق بشرود وتوتر في الطريق، تكاد تشعر بتأثير البرودة على بشرتها بالرغم من اعتدال الطقس، مسحت برفق على كفها فاستدارت "همسة" نحوها، رأتها تبتسم لها في لطفٍ ونظراتها تطمئنها، أحست بالارتياح لكونها إلى جوارها، وتمنت في قرارة نفسها أن تمضي الليلة على خير، وإن كانت غير متفائلة بالقادم.


 
لحظات وتوقفت السيارة على مقربةٍ من ذاك المطعم الشهير، صفها "تميم" بجوار الرصيف، وهللت "خلود" مشيرة بيدها:
-المكان أهوو، إن شاءالله يعجبكم.
ترجل زوجها من السيارة أولاً، ثم ألقى نظرة عابرة على الطريق من طرفيه حتى يفتح الباب المجاور لزوجته، نزلت وهي تبتسم له:
-تسلم يا حبيبي.

أدخل يده في جيب بنطاله القماشي البني الداكن، وانخفضت نظراته لتحملق في "فيروزة" متوقعًا أن تتبع زوجته، خاصة أنه ما زال يقف مستندًا بمرفقه الآخر على الباب، لكنها بادلته نظرة استخفاف غريبة، تقوست زاوية شفتيها ببسمة ساخطة، وأدارت ظهرها لتستعد للخروج من الجهة الأخرى؛ حيث ترجلت أختها، استشاطت نظراته، وشعر بالحنق من عدم تقديرها لذوقه وتعاملها الوقح معه باحتقارٍ وازدراءٍ بائن، صفق الباب بقوة وهو ينفخ عاليًا، ثم تنفس بعمقٍ ليكبح أي بوادر عصبية تلوح في الأفق بسبب طريقتها المستفزة، تأبطت "خلود" في ذراعه، رأت علامات الانزعاج مرسومة على وجهه، سألته في اهتمامٍ:
-مالك يا حبيبي؟ في حاجة مضيقاك؟


 
أجابها على مضضٍ:
-يعني.. إنتي عارفة ماليش في جو الخروجات والسهر برا.
داعبت طرف ذقنه وهي تتدلل عليه بنعومة:
-بس النهاردة غير، خطوبة أخويا وبعدين شكلك شيك خالص.
ثم ضبطت بيدها طرفي ياقة قميصه الأبيض الذي فضَّل ارتدائه بدون رابطة عنق تخنقه، ابتسامة ساخرة غير مقتنعة ظهرت على جانب ثغره، ورد بهدوءٍ:
-جو البدل ده مايلقش عليا.

ردت معترضة وقد تقطب جبينها:
-لأ إزاي، ده مش بعيد تلاقي البنات بيحسدوني عليك
ابتسم لها في عذوبة، وربت برفقٍ على كفها المتعلق في ذراعه، واصل كلاهما السير متأخرين خطوتين عن "فيروزة" التي كانت تسير بمفردها بعد أن أصر "هيثم" على الإمساك بيد خطيبته قليلة الحيلة، التفتت "همسة" برأسها نصف التفاتة، وهتفت من بين شفتيها بصوتٍ خافت للغاية:
-ماتسبنيش
ردت تطمئنها بصوت يماثلها:
-أنا جمبك.


 
لمسة وقحة من "هيثم" على وجه خطيبته ليديرها نحوه جعلتها تنتفض وتتطلع إليه في توترٍ، رأت "فيروزة" ما يفعله بجراءة وقد انعكس حنقها على خلجاتها، اضطرت أن تكظم مشاعرها المقيتة مؤقتًا، وتابعت مشيرها بتباطؤٍ وهي تزفر أنفاس الضيق.

كعادة الأماكن الراقية كالمطاعم والمناطق الترفيهية يقف بعض الندلاء بالقرب من الأبواب لاستقبال الضيوف بتهذيبٍ ولباقة، وفور أن لمح أحدهم الزائرين الجدد حتى بادر بفتح الباب الزجاجي والإشارة لهم بيده الأخرى وهو ينحني قليلاً، تولى آخر يقف على مسافة قريبة مهمة إيصالهم لطاولة شاغرة، وبنبرة رسمية بحتة، وتلك الابتسامة المدروسة تساءل النادل:
-في حجز قبل كده يا فندم؟

أجاب "هيثم" بصوته الأجش:
-لأ مافيش
تابع النادل متسائلاً:
-تمام يا فندم، حضراتكم تحبوا تقعدوا هنا، ولا على البحر؟
نفخ "هيثم" في حيرةٍ والتفت يسأل "همسة":
-إنتي عاوزة إيه؟
ابتلعت ريقها، وأجابته بترددٍ:
-ممكن.. على البحر
هز رأسه في استحسان وهو يعقب عليها:
-يكون أحسن
ثم أشار بيده للنادل آمرًا إياه:
-هنقعد هناك.

هز النادل رأسه ممتثلاً له، وعجل من خطواته ليبحث بشرفة المطعم الواسعة عن واحدة تناسب زبائنه، وجد ضالته المنشودة في إحدى الزوايا، اتجه إليها ورتب مقاعدها بما يتوافق مع العدد المتواجد؛ مقعدين متجاورين في كل جانب، وواحدٌ فقط يترأس المائدة التي اتخذت شكل المستطيل، ثم اعتدل في وقفته وقال مبتسمًا:
-دقيقة وهاتكون المنيو مع حضراتكم.
-ماشي.

قالها "هيثم" وهو يشير بيده لخطيبته لتجلس إلى جواره على المائدة، اضطرت أن تستقر في ذلك المقعد، وعيناها تبحثان عن "فيروزة"، شعرت بالارتياح حين جلست بجوارها في المقعد المنفرد دون أن تدري أن "تميم" يجلس على يمينها .. صاحت "خلود" في حبورٍ مادحة ما يقدمه المكان من وجبات شهية:
-المطعم ده بيعمل كباب وكفتة حكاية، جربناه زمان واحنا صغيرين، بس شكله اختلف كتير دلوقتي.

علق عليها "تميم" وهو يجوب على تصميمه الحديث:
-اه فعلاً، اهتموا بيه.
أضافت في حماسٍ موجهة حديثها إلى التوأمتين:
-لأ ، ولسه زي ما هو، طعم الأكل خرافة، لما تدوقوه هتعرفوا إن عندي حق.
ردت "فيروزة" باقتضابٍ:
-كويس..
تنحنح "هيثم" مقترحًا بخفوتٍ وجسده يميل نحو "همسة":
-ما تيجي نقف جمب السور نتفرج على المياه.

رفعت "همسة" عينيها لتحدق حيث أشار بعينيه، وبدت في حيرة، حسم ردها عليه بنهوضه فجأة ليسحبها من كفها ويجبرها على الوقوف قائلاً:
-هنقف أنا وخطيبتي نشم هوا جمبكم
قالت "خلود" مبتسمة:
-وماله يا "هيثم"، خدوا راحتكم.

ساد الصمت بين ثلاثتهم بمجرد رحيل الاثنين، وهنا عاد النادل ومعه قوائم الطعام وأسندها بالترتيب على المائدة منتظرًا اختيارهم النهائي بالوقوف على بضعة خطوات منهم، انشغلت "فيروزة" بقراءة ما دون فيها من أطعمة مختلفة محاولة اختيار المناسب رغم كونها فاقدة للشهية، بينهما هتفت "خلود" مقترحة وحاسمة أمرها وهي تلكز بكتفها ذراع زوجها:
-ما تخلينيي اختارلك على ذوقي؟

نظرت لها "فيروزة" من أعلى طرف القائمة ودهشة مختلطة بالسخرية تعلو ملامحها، رأى "تميم" تلك النظرة المستهزأة وإن كانت أخفت وجهها، ابتسم لزوجته بعد أن أدار رأسه ناحيتها، وقال مجاملاً:
-ماشي، فاجئيني
تدللت عليه قائلة في مرحٍ:
-بس لو معجبكش متحرجنيش
مط شفتيه وقال:
-حاضر، هادفع الحساب وأنا ساكت.

ضجرت "فيروزة" من سماجة "خلود" وميوعتها الزائدة، وكأنها الوحيدة التي تحظى بحياة زوجية وردية وهانئة، نفخت في يائس من عدم انقضاء وقت تلك السهرة السمجة، انتبهت إلى صوتها المزعج حين سألتها:
-أطلبلك أنا كمان على ذوقي؟
ردت بوجومٍ قبل أن تبتسم بسخافة:
-لأ.. أنا بأعرف أطلب.

لم يستحسن "تميم" ردها المحرج لزوجته، والذي انسجم مع نظراتها الاحتقارية التي تدور في أرجاء المكان، لذا ابتسم يقول في سخرية:
-ما تسأليهاش يا "خلود"، دي بتاعة كبدة، أكيد مش هايعجبها حاجة
احتقنت نظرات "فيروزة" وتحفزت في جلستها، استدارت نحوه وحملقت فيه بعينين تقدحان بالغيظ، وردت مدافعة عن حلمها الذي أحرقه:
-لا معلش، احنا مش بايعين كبدة مع احترامي ليك ولأصحاب المهنة دي.. احنا قبل ما تولع في عربيتنا كنا بنبيع أكل مودرن.

شعر "تميم" بالضيق من اتهامها الباطل وهجومها الشرس عليه، لكنها نجحت في النيل منه حين تابعت:
-جايز ملكش خبرة في الحاجات دي عشانك كنت مسجون!
غلت الدماء في عروقه وشعر باهتياجٍ يجتاح خلاياه، وعنفها بحدةٍ:
-ليه الغلط طيب؟
ردت ببرودٍ وقد كتفت ساعديها أمام صدرها:
-إنت اللي بدأت الأول.

هتفت "خلود" قائلة لتساهم في الدفاع عن زوجها بكل قوةٍ:
-أنا عاوزة أقولك حاجة، جوزي اتسجن عشان خاطر أهله، ماسمحش لحد يهين أبوه ولا يدوس على طرفه، والكل عارف إنه بيعتبر حبسه وسام على صدره، مش عشان حاجة بطالة لا سمح الله.
أدارت "فيروزة" عينيها في اتجاهها، وردت بنبرة مهينة حملت بين طياتها الألم وهي تشير بسبابتها:
-والله اللي قولتيه عنه مايفرقش معايا، بس جوزك الشهم ده سلط البلطجية بتوعه على أكل عيشي وحرقه، وقصادكم عامل فيها ملاك بريء و...

لم يتحمل "تميم" المزيد من عباراتها اللائمة، وإلقاء التهم جزافًا عليه، بل وتذكيره بما ينغص عليه هدوئه، فضرب بقبضته المتكورة على المائدة صائحًا بلهجة خشنة ليقاطعها:
-خلاص، فضينها .. قفلوا سيرة في الموضوع ده!
قال كلماته الأخيرة ونظراته المحتدة ترتكز على وجه "فيروزة" المتضرج بغضبه، على الفور أحاطت "خلود" كتفيه المشدودين بذراعها، وتوسلته بحذرٍ:
-حبيبي اهدى، احنا جايين نقضي وقت لطيف هنا، وده سوء تفاهم حاصل بنحاول نشيله و..

قاطعها وهو يستدير برأسه نحوها:
-قولي للي بتجر شكل معانا بلسانها اللي زي المنشار.
ردت "فيروزة" على إهانته، فقالت بوجهٍ متجهمٍ:
-منشار على معدومين الأدب.
وقبل أن يحتدم الجدال بينهما عاد "هيثم" ومعه "همسة"، جلسا من جديد على المائدة، فتساءل الأول:
-ها طلبتوا حاجة؟
مالت "همسة" على توأمتها تسألها:
-هو في إيه؟
حاولت الابتسام وهي تجيبها:
-مافيش يا حبيبتي.

رنة أخرى صدحت من هاتف "فيروزة" لتعلن عن وصول رسالة نصية، تفقدتها على الفور، واعتلى ثغرها ابتسامة انتصارٍ، سألتها أختها بصوتها الخفيض:
-في حاجة؟
أجابتها بغموضٍ وقد عادت ملامحها لتشرق:
-هتعرفي دلوقتي.
اشرأبت بعنقها للأعلى وكأنها تبحث عن شخص بعينه، لمعت حدقتاها وقد أبصرت صديقتها "علا" تدخل المطعم وبصحبتها أخيها "ماهر" ورفيقه الضابط "وجدي"، غمزت لأختها بطرف عينها قبل أن تنهض لتقول بترفعٍ:
-أنا رايحة أسلم على "علا" صاحبتي..

لم تنتظر الرد منهم، وتحركت صوب رفيقتها التي كانت تلوح لها بيدها، استنكر "هيثم" تصرفها الوقح وعقب بضيقٍ:
-هي أختك مش محترمانا ولا إيه؟
ردت "همسة" في حرجٍ كبير مبررة ذهابها الفظ وهي ترفرف بجفنيها:
-معلش.. أصلها صاحبتها الأنتيم
رد عليها بوجهٍ مقلوب:
-خليها تراعي الناس اللي معاها شوية!
قال له "تميم":
-سيبك منها وشوف هنطلب إيه.

وبالرغم من إدعائه الانشغال بالتطلع في مشهد البحر المعتم إلا أنه استطاع أن يلمح بعينه ذاك الشخص الذي أتى بصحبة الفتاة، ولكنه لم يتبين ملامحه بعد، أحنى "هيثم" رأسه على خطيبته ليسألها في انزعاجٍ واضح عليه:
-هي أختك تعرف رجالة ولا إيه؟
ورغم استنكارها لطريقة سؤاله إلا أنها تحلت بقليلٍ من الشجاعة وأجابته بثباتٍ:
-ده الظابط "ماهر" مش حد غريب عننا، وأظن قريبك يعرفه.
تحولت نظراتها نحو "تميم" الذي هتف متبرمًا:
-أه عارفه، ما هي أختك خبرة في الأقسام.

لم ترتضِ "همسة" بذلك التلميح المهين، ودافعت عنها قائلة بصوتٍ شبه مختنق:
-على فكرة أنا أختي كانت بتدور على حقها، معملتش حاجة غلط، وأي حد في مكانها في بلد بيحترم القانون هيعمل كده.
قاومت تسللت العبرات إلى حدقتيها، فهي مرهفة الحس، لا تستطيع الصمود كثيرًا، تفضحها عبراتها ويخذلها صوتها، خشيت "خلود" من نشوب الخلاف واندلاعه مرة أخرى فقالت متصنعة الضحك:
-حصل خير يا جماعة، وزي المثل ما بيقول، ما محبة إلا بعد عداوة.

هدأت حمية الجميع نسبيًا مع حضور النادل الذي بدأ في تلقي الطلبات وتدوينها، وبقي زوج الأعين يختلس النظرات من حين لآخر لتلك التي تتمايل برشاقةٍ في وقفتها مع الغرباء بشكلٍ استثار أعصابه وكدر سكونه.

وفق ترتيب مسبق بينهما هاتفيًا استجابت "علا" لطلب صديقتها المقربة وقررت الذهاب إلى نفس المطعم ولكن بصحبة أخيها ورفيقه ليس لقضاء سهرة لطيفة بالخارج فقط وإنما ليشدوا من أزر "همسة" ويدعموها بعد أن سردت لها رفيقتها ما حدث مؤخرًا، وكيف تم الضغط عليها للقبول بتلك الخطبة غير المتوافقة .. بغنجٍ وابتسامةٍ ناعمة أقبلت "فيروزة" على الثلاثة ترحب بهم:
-نورتوا المكان، فرحت أوي لما "علا" قالتلي إنكم هاتيجوا على هنا.

ردت عليها صديقتها بمحبة صافية وهي تحاوطها من خصرها:
-هو أنا أقدر أتأخر عنك برضوه
استطرد "ماهر" قائلاً بهدوءٍ يعكس جديته:
-ولو أني مش حابب الخطوبة دي، بس مبروك لأختك
تنهدت تقول له:
-ولا أنا والله حباها يا "ماهر" بيه، بس ده اختيارها.

علق عليها مؤكدًا وهو يشير بعينيه:
-عمومًا يا "فيروزة" إنتي عارفة إننا جمبك وقت ما تحتاجينا، دايمًا هتلاقينا في ضهرك
شعرت بمزيد من الارتياح يتغللها، وقالت ممتنة:
-الله يخليك لينا يا "ماهر" بيه.
ابتسم "وجدي" مضيفًا:
-وأنا موجود كمان، يعني إنتي في حماية
تضاعف إحساسها بالثقة والأمان، وردت في خجلٍ:
-مش عارفة أقولكم إيه.

هتفت "علا" تقول:
-حبيبتي إنتي ليكي معزة غالية عندي و..
قاطعهما "وجدي" مستأذنًا:
-معلش يا جماعة لحظة وجاي، هاسلم على واحد صاحبي هناك
ردت عليه "فيروزة" بلباقةٍ:
-خد راحتك يا فندم.
أشعل "ماهر" سجارته، ودس الولاعة في جيب بنطاله الجينز مرددًا:
-شوفي أنا هاروح أبارك لأختك ولعريسها عشان يعرفوا إنكم مسنودين، وإنكم مش لوحدكم، وبالمرة أقرص ودن الواد إياه..

كان يقصد بكلامه الأخير "تميم"، لفتة خافتة حذرة حانت من "فيروزة" نحوه لتزداد عينيها توهجًا وهي تتخيل المشهد في رأسها، اعتدت بنفسها، واكتسبت المزيد من الثقة والغرور، تقدم "ماهر" في خطواته نحو المائدة، تعلقت الأعين به وقد وقف أمام المقعد الشاغر ليبدو حضوره مهيبًا وطاغيًا، نفث الدخان من بين شفتيه قبل أن يبادر مرحبًا:
-مساء النور عليكم جميعًا.

نظر له "تميم" شزرًا قبل أن يرد عليه بتعابيره التي غلفتها القساوة:
-أهلاً وسهلاً..
حافظ "ماهر" على ثبات تعابيره وهو يتابع:
-طبعًا أنا مش محتاج أعرفكم على نفسي، بس حبيت أجي وأبارك لعروستنا الجميلة..
واتجهت نظراته نحو "همسة" حين هنأها:
-خطوبة سعيدة عليكي.
تورد وجهها ونظرت له في خجلٍ قبل أن تقول بصوتها المرتبك:
-الله يبارك في حضرتك يا "ماهر" بيه.

أضاف محذرًا بلهجةٍ تنم عن قوةٍ:
-شوف يا عريس، عروستك ليها غلاوة عند أختي، وأنا اللي أختى تقدره بأعتبره من العيلة، فيا ريت تاخد بالك منها وماتزعلهاش وإلا هتلاقيني واقفلك.
فارت دماء "هيثم" من طريقته الاستعراضية في إظهار القوة والسلطة، ورد عليه يسأله بعينين تقدحان بالشر:
-ده تهديد؟
ابتسم يجيبه في عجرفة:
-أنا بس بأوعيك، عشان تعرف إنت مِناسب مين.

وقبل أن ينطق بكلمة زائدة هتف "تميم" يرد عليه:
-خلاص يا "هيثم"، الرسالة وصلت يا باشا
هز "ماهر" رأسه في خفةٍ قبل أن ينهي حديثه بسخاءٍ:
-سهرة سعيدة عليكم، اطلبوا اللي إنتو عاوزينه، طلباتكم كلها على حسابي
اعترض عليه "تميم" بحذرٍ وقد رفع يده ليشير ل "هيثم" حتى لا يتدخل:
-مالوش لازمة تكلف نفسك يا باشا، رجالتنا إيديهم فرطة مع حريمهم
قال "ماهر" غير مبالٍ بجملته الأخيرة:
-دي حاجة بسيطة، تحية مني للعرسان.

ثم غمز له بطرف عينه، وألقى بسيجارته على الأرضية ليسحق بقاياها تحت قدمه، لوح لهم بيده مبتعدًا وهو يبتسم في طريقه ل "فيروزة" التي بدت مبتهجة على الأخير، احتضنت رفيقتها "علا" التي تابعت بانبهارٍ قدرات أخيها وقالت:
-أخويا ظبط الدنيا
ردت تشكرها:
-بجد مافيش زيه، مش عارفة أقوله إيه
ابتعدت عنها لتنظر إليها، وأضافت مؤكدة عليها:
-دي مش حاجة يا "فيرو"، وماتنسيش إنتي معزومة على عيد ميلادي.

أومأت برأسها ترد عليها:
-كل سنة وإنتي طيبة يا قلبي، أنا فاكراه طبعًا، وهاكلمك تاني وأعرف منك التفاصيل.
ودعتها بحرارةٍ قبل أن تعود للمائدة حيث بدأ النادل في رص الأطباق وتوزيعها عليهم، سحبت "فيروزة" مقعدها لتقترب من الطاولة، وقالت في عنجهية وتلك الابتسامة المغترة تتراقص على شفتيها:
-ذوق أوي "ماهر" بيه
صاح بها "هيثم" محتجًا على إفساده لليلة:
-مكانش ليه لازمة الحركات القرعة اللي عاملها قصادنا.

التفتت ناحيته، وقالت بحدةٍ وقد اكتسبت نظراتها قساوة شديدة:
-والله هو مش محتاج يتمنظر ولا يعمل حركات، هو راجل بيفهم وبيقدر اللي يعرفهم.
لم يتقبل "هيثم" ردها وشعر بالإهانة، فانتفض واقفًا وقد ألقى بمنديل المائدة القماشي على طبقه، ثم نظر إليها بنظراتٍ مغلولةٍ وهو يبرطم:
-أنا نفسي اتسدت، خلينا نقوم
توقع أن تغضب، لكنها ابتسمت في انتشاءٍ وأشارت له بحاجبها قائلة:
-أه يا ريت
نفخ هادرًا في غيظٍ:
-اللهم طولك يا روح.

نهض "تميم" من مقعده، ورمق "فيروزة" بنظرة نارية ثم اقترب من ابن خالته، جذبه بعيدًا عن المائدة ومال نحو أذنه يهمس له:
-اهدى، ماتخليش البت دي تحرق دمك
رد في حنق وهو يكز على أسنانه:
-اقسم بالله أنا ممكن أطبق في زمارة رقبتها، دي حقنة، يخربيتها، خميرة عكننة ونكد.
تجمدت نظراته على وجه "فيروزة"، وقال له بنبرة ذات دلالة مستترة:
-معلش، كل واحد وليه يومه!

أغلق صندوق السيارة بقوةٍ بعد أن رص أكياس الطعام البلاستيكية المعبأة بما رفضوا تناوله، سيجارة جديدة أشعلها ليسحب دخانها ويملأ بها صدره، لفظه دفعة واحدة قبل أن يتحرك للأمام ليفتح الباب ويستقر خلف عجلة القيادة، وتلك المرة أعاد "تميم" ضبط المرآة حتى لا يجد وجهها ينظر إليه ويحفز دمائه لتهتاج بتلك الصورة المريبة .. بضعة أحاديث مقتضبة حاولت "خلود" التطرق إليها لتعيد روابط الود قبل أن يعود الجميع إلى منازلهم، للحظة دار في خلدها أن تنفرد ب "همسة" وتستميلها بشكلٍ أو بآخر حتى تنجح في اكتساب أخيها دون عناء، ولهذا قررت فعل ذلك بمجرد توقف السيارة،

ستتحدث معها لبضعة دقائق وتتبادل معها أرقام الهواتف بعيدًا عن تسلط أختها، وحين حانت اللحظة، وأوقف "تميم" السيارة أمام مدخل المنزل، هتفت بمرحها:
-"هموسة" عروسة أخويا ممكن أتكلم معاكي في حاجة..
استدارت ناحيتها تسألها في حيرة بادية على نظراتها وقسماتها:
-حاجة إيه؟
تنحنحت قائلة بابتسامتها التي لا تفتر:
-احم.. هاقولك.. لوحدنا.

فطنت "فيروزة" بذكائها للسبب البديهي الذي دفعها لفعل ذلك دون الحاجة للإفصاح عنه، نظرت بنوعٍ من الاستهتار إلى "خلود" التي ترجلت من السيارة، وبلطفٍ مالت عليها تطلب منها بتهذيبٍ:
-معلش ممكن تستنينا هنا خمس دقايق.

على مضضٍ وافقت فقط لتستغل الفرصة وتباشر هي الأخرى بتحذير "هيثم" من الإساءة لتوأمتها، ولما لا تفعل المثل من أجل أختها وقد باتت متأكدة من دعم أسرة رفيقتها "علا" لها؟ انتظرت ابتعاد الاثنتين، وتقدمت بجسدها للأمام قليلاً وهي في حالة تحفز واضحة، ثم هتفت دون مقدماتٍ ولهجتها مصطبغة بالقوة:
-كلمة ليك يا أستاذ إنت!

التفت "تميم" أولاً نحوها، لكنها تجاهلته ونقرت بأصابعها على كتف "هيثم" الذي أدار جسده نصف استدارة لينظر إليها، غامت عيناه وأظلمت ملامحه عندما تابعت:
-بأكلمك إنت..
سألها في استهجانٍ:
-عاوزة إيه؟
جاوبته بمزيد من القوة والجراءة:
-مش معنى إن أختي طيبة ومابتعرفش تتكلم كلمتين على بعض إن مافيش حد في ضهرها، لأ خد بالك هي مش لوحدها ولا عمرها هتتذل!
زوى ما بين حاجبيه متسائلاً في استغرابٍ:
-قصدك إيه؟

كانت مندفعة حد الجنون، ودمدمت بوضوحٍ ونظراتها مثبتة عليه:
-يعني مش هاسيبك تتهنى للحظة لو فكرت في يوم تزعلها
رفض "هيثم" ما تفعله وصاح بتشنجٍ:
-إنتي واعية لنفسك؟ إنتي جاية تهدديني؟
كادت يده أن تمتد نحوها لولا أن أمسك به "تميم" من معصمه ليثبته في مكانه، في حين ردت "فيروزة" عليه بتحدٍ ودون أن يرف لها جفن:
-أيوه، اعتبره تهديد!

توجس "تميم" خيفة من احتمالية تطاول ابن خالته عليها، شعر بتشنج رسغه أسفل قبضته، فهو أرعن لا يعي ما يفعل أو ما يقول، لا يزن الأمور بعقله حين تمس كرامته، وحتمًا سيتصرف بجهالة، ولهذا عمد إلى الاستخفاف بكلامها حتى لا يأخذه على محمل الجد ويتعامل بطيشٍ معها وربما بتجاوزٍ لن تقبله، فقال مبتسمًا، وكأنه يهزأ بها:
-سيبها تبعبع بالبؤين اللي مضايقنها يا عم! أصل في حريم مسترجلة وعاملة فيها سبع البرومبة!
اغتاظت من جملته التهكمية، والتفتت تحدجه بنظرة محتقنة، ثم هتفت فيه:
-متدخلش، محدش طلب رأيك!

سدد لها نظرة قاتمة عبرت عن غضبه الثائر، ورغم هذا قال ببرود يشبه الجليد في قساوته:
-وأنا مش مستنيكي تقوليلي امتى اتكلم، وامتى أسكت، بلاش تخربي على أختك عشان حقدك عليها.
تطلعت إليه في فمٍ مفتوحٍ عبر عن استنكارها، وعاجلته محتجة وهي تسأله بعصبيةٍ:
-أنا بأحقد على أختي؟
نظر لها شزرًا قبل أن يرد:
-أيوه، وباين إنك مفروسة منها.
-بلاش هبل!

نجح "تميم" ببساطة في توجيه دفة اللوم ناحيته ليتحول الهجوم عليه، بينما استل "هيثم" ذراعه من قبضته، وهتف بصوته المتنمر وهو يفتح باب السيارة ليترجل منها:
-أنا هاروح أجيب سجاير بدل ما أرتكب جناية هنا.
مجرد حجة واهية ليهرب من تلك الشخصية المستفزة حتى لا يفتك بها، ومع ذلك هتفت تغيظه:
-يالا، بالسلامة.

صفق الباب بانفعالٍ فانتفض جسدها من أثر الصوت القوي، ومع ذلك ظلت على وضعيتها المتحفزة تتنفس بصوتٍ أقرب للهاث حتى هدأت مُهاجها قليلاً، لكنها أحدث تأثيرًا خفيًا على "تميم" الذي شدد من قبضتيه على المقود، أدركت "فيروزة" أنها بقيت بمفردها في السيارة، ونظرات "تميم" مسلطة عليها من انعكاس المرآة، انتابتها حالة من النفور والانزعاج، فترجلت من سيارته تقول بتذمرٍ:
-الحمدلله إن الليلادي خلصت!

وأمسكت بهاتفها المحمول لتتحدث فيه ريثما تنتهي "خلود" من إملاء تعليماتها على أختها، انشغلت في محادثتها ونظراتها بين الحين والآخر تجوب على السيارة لتجد أنظاره ما زالت تصحبها أينما سارت، رمقته بنظرة متعالية وهي تشيح بوجهها بعيدًا عنه .. أحس "تميم" بالاختناق وبشعور لا يفقهه يصيبه بمزيد من الضيق والحنق، خاصة وهو يدرك أنها تعامله بازدراءٍ، لماذا هي بالأخص تنجح في قلب أحواله وتكدير سلامه؟

تحسس جبينه فوجده مرتفع الحرارة، ترجل من سيارته ليستنشق الهواء البارد، واستند بمرفقيه على سقفها يراقب الطريق بفتورٍ مقاومًا تلك الرغبة التي تداعبه وتدعوه للالتفاف والنظر إلى "فيروزة" .. أخرج من جيب سترته علبة السجائر وسحب واحدة ووضعها بين شفتيه، أعاد العلبة لمكانها بجيبه وفتش عن ولاعته ليشعلها، تلقائيًا تحولت أنظاره نحو تلك التي تتبختر في مشيتها البطيئة على الطريق، عاد دبيب الرغبة ليناوشه ويستفز مشاعره الحسية بشكلٍ أكبر مع حركاتها العفوية وهي تعبث بخصلاتها المتمردة، وهي تتلمس شفتيها لتتأكد من وجود أحمر الشفاه بهما. تصلب جسده واشتد تيبسًا مع تلك الضحكة الناعمة التي امتزجت بابتسامتها المتوردة، ببساطةٍ جعلته يحملق بها وهو يتساءل بحيرةٍ جلية عاقدًا تلك النوعية من المقارنة الغريبة:
-فيكي إيه مختلف عن "خلود"... ؟!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة الخامسة والعشرون بقلم منال سالم


لمسة مداعبة لشعرها المتناثر بفعل النسمات الباردة حانت منها لتجمع ما تمرد من خصلاته على جانب كتفها الأيسر، تبعتها بضحكة رقيقة ساحرة من شفتيها تصيب عقول الرجال بالفتنة، التفتت "فيروزة" لجانبها بتلقائية فوجدت "تميم" ما زال محدقًا بها بجمود، انزعجت من نراته المسلطة عليها، وأنهت مكالمتها لتطالعه بغلظةٍ قبل أن تسأله:
-في حاجة؟


 
تنحنح معتدلاً في وقفته وقد أخفى تلك الربكة التي كادت تظهر على ملامحه، انتصب بكتفيه وأنزل مرفقيه عن سقفية العربة ليجيبها بصوته الأجش وببرود وهو يدس كفيه في جيبي بنطاله:
-مستني مراتي، إنتي اللي في حاجة؟


 
نظرت له باستعلاءٍ، وأبعدت عينيها عنه لتسير بتعجلٍ على الرصيف لتعود إلى مدخل بيتها، لكن لفت ساقها حول الأخرى وتعثرت في مشيتها المتسرعة لتنكفئ كالخرقاء على وجهها في لمح البصر، انفلتت من جوفها صرخة متألمة وقد أدركت أنها طُرحت أرضًا، رفعت رأسها بحذرٍ وهي تستند على كفيها لتعدل جسدها، أخفضت نظراتها وتأملت الخدوش التي نالت من باطن كفيها بأنفاسٍ مضطربة، خرجت "همسة" و"خلود" ركضًا لنجدتها، تسألت توأمتها في قلقٍ:
-إنتي كويسة.

نفضت "فيروزة" كفيها، وردت وهي تقاوم الألم الذي طال ركبتيها أيضًا:
-يعني..
سألتها "خلود" في اهتمامٍ:
-طب تقدري تقفي؟
أجابتها دون أن تنظر نحوها:
-أه.. مش حاجة مهمة
هتفت في مرحٍ محاولة تخفيف الأمر عليها:
-حصل خير، تلاقي بس حد حسدك
رفعت عينيها نحوها لتنظر لها باستخفافٍ، ثم علقت بتهكمٍ:
-أكيد، والصراحة هما كُتار.


 
لم تفهم "خلود" مقصدها، لكنها أصرت على معاونتها على الوقوف، ومدت لها ذراعها لتستند عليه، وإن كانت لم تنتبه لزوجها الذي تابع المشهد من مسافة قريبة وقد ظهر الذهول عليه .. بدا "تميم" مترددًا في الذهاب وتقديم المساعدة، حسم التخبط الدائر في عقله بعدم التحرك نحو ثلاثتهن، خاصة مع رؤيته ل "هيثم" وهو يعود حاملاً كيسًا بلاستيكيًا في يده، وبالتالي لا يُعرضها للإحراج، نظر له الأخير متعجبًا وقد رأى في حالة من التحفز قبل أن يسأله:
-في إيه؟

أجابه وهو يتنحنح بصوتٍ خفيض:
-أخت خطيبتك وقعت على الأرض، خليك واقف شوية!
اعتلى ثغره ابتسامة انتشاءٍ، وقال في سعادة:
-ده خبر عظيم وزي الفل، عقبال ما رقبتها تتقطم
زجره قائلاً بضيقٍ ونظراته الغائمة تركزت عليه:
-مايصحش الكلام ده!
لوى جانب فمه معقبًا عليه بنفورٍ:
-يا عم اسمع مني، دي بومة، والجوازة دي لو اتخربت هيبقى بسببها!


 
قال منهيًا الحوار السخيف:
-قفل، الموضوع مش مستاهل.
رد بنصف ابتسامة:
-على رأيك..
ثم رفع يده بالكيس متابعًا جملته:
-هاروح أودي دي لخطيبتي وراجع
أومأ برأسه قائلاً:
-ماشي..

وبالرغم من حنق "تميم" المبرر ناحية "فيروزة" بسبب فظاظتها ولسانها السليط إلا أنه لا ينكر تلك اللوعة التي أصابت قلبه حين رأها تسقط هكذا، وهو يقف كالعاجز لا يستطيع مساعدتها، زاد ضيقه وانعكس على تصرفاته التي مالت للتشنج قليلاً؛ فركل بقدمه بعض الحصوات على الرصيف، ودعس عقب سيجارته حتى أفناه، حتى ولاعته لم تسلم من عصبيته ظل يعبث بها حتى علقت شعلتها فألقاها وحطمها بقدمه.


 
بتبخترٍ وابتسامة عريضة سار "هيثم" نحو ثلاثتهن ملقيًا نظرة شامتة نحو "فيروزة" التي كانت تتأمل حالة ثوبها بعد تمزق جزءٍ بسيط منه عند ركبتها وعند طرفه بسبب كعبها الحاد، لم يبذل أدنى مجهود ليخفي سعادته بالأذى الذي أصابها، نادى بصوتٍ تعمد أن يكون جافًا:
-يا عروسة!
التفتت نحوه "همسة" وهي تبتلع ريقها، أشار لها بيده التي تحمل الكيس متابعًا بصيغة تميل للأمر:
-تعالي هنا لحظة.

وضعت "خلود" يدها على كتفها تستحثها وهي تهمس بابتسامتها اللطيفة، وكأنها تمزح معها:
-روحيله، متخافيش مش هايعضك.
استدارت نحو "فيروزة" تسألها بعينيها، فأجابت الأخيرة بنظراتها معلنة عن موافقتها وقد وقفت منتصبة في وقفتها تتابعها بعينين كالصقر، وكأنها تستعد للانقضاض على أحدهم إن لزم الأمر. تحركت "همسة" نحوه، تحاشت النظر إلى وجهه حين سألته بصوتها المرتبك:
-أيوه، إنت.. عاوز حاجة مني؟


 
مد يده بالكيس قائلاً:
-خدي دول، أنا جايب واحد ليكي، وواحد لأختك..
ثم أخفض من صوته مكملاً في ازدراءٍ وقد انقلبت تعابيره للعبوس:
-إياكش يطمر!
تناولت الكيس منه، وألقت نظرة خاطفة على محتوياته، فوجدت لوحين من الشيكولاته ذات الحجم الكبير، ابتسمت قليلاً وشكرته:
-ميرسي..
رد بنفس الوجه المتجهم:
-طب بصيلي وإنتي بتقوليها!

أسبلت عينيها المتوترتين نحوه، وشعرت بتوردٍ خفيف يعصف ببشرتها، بادلها ابتسامة عادية، وأشار بيده متابعًا أوامره:
-يالا اطلعي فوق، مش هتقضيها واقفة كده كتير، وأنا مش ناقص كلمتين من خالك
هزت رأسها بإيماءة بسيطة قبل أن تقول:
-حاضر.

في تلك الأثناء، وقفت "خلود" إلى جوار "فيروزة" تتأمل أخيها وخطيبته بعينين لامعتين، مالت نحوها لتقول بتفاخرٍ:
-شكلهم لايق على بعض أوي، ماشاءالله ربنا يحميهم من العين.
نظرت لها من طرف عينها وهي تعلق باستهجانٍ:
-إنتي شايفة كده؟

أجابتها مدافعة عنه بنوعٍ من التحفز الطبيعي:
-على فكرة أخويا طيب جدًا، إنتي بس اللي مش عارفاه كويس
ابتسمت "فيروزة" في سخرية قائلة لها وقد استعادت مشهد دفعه لوالدتها في مخيلتها:
-ما هو واضح.

فسرت "خلود" أسلوبها المتعالي معها في الحديث بأنه عجرفة وقحة المقصود منها احتقار شقيقها والتقليل من شأنها أيضًا، ولم تكن لتسمح بذلك، فإن كانت لا تتقبل بعض طباع شقيقها الطائشة، لكنه يظل من لحمها ودمها، لذا قالت بابتسامة متكلفة، وبنبرة ذات مغزى:
-ربنا يهنيهم، وعقبالك.. أصل أنا أعرف إن التوأم بيحبوا يعملوا كل حاجة مع بعض، حتى في الخطوبة، عشان الغيرة!
استشاطت عيناها من فظاظتها، والتفتت نحوها ترمقها بنظرة نارية، هتفت في استنكارٍ ووجهها مُربد بحمرة غاضبة:
-نعم؟ غيرة؟ على إيه إن شاءالله؟
ابتسمت في برود وهي تعقب:
-برضوه، الأمر مايسلمش!

توحشت نظراتها حين ردت تنكر ذلك:
-إنتي غلطانة! مش أنا و"همسة" اللي نغير من بعض
ربتت على كتفها ترد:
-ما تخديش الموضوع على أعصابك بس، كله في الأول والآخر قسمة ونصيب!
نجحت "خلود" في إحراقها بكلماتها الناقمة، ولم يكن فقط ينقصها إلا نعتها ب (العانس) لتتلذذ أكثر برؤيتها تتلوى من الحنق .. ضحكت بتصنعٍ قبل أن ترد عليها وهي تدعي احتضانها لتودعها:
-مش هاعطلك بقى...

وزادت من تلك البسمة السخيفة وهي تكمل بغنجٍ مائع مستخدمة عينها اليمنى في الغمز:
-زمانت جوزي قاعد على نار مستنيني، بيحبني موت، ولما بأغيب عنه بيقلق، لما تتجوزي هتفهمي .. يالا أشوفك على خير، مع السلامة
أطبقت "فيروزة" على شفتيها تمنع نفسها بصعوبة من شتمها وتلك السمجة تكركر ضاحكة بصوتٍ مجلجل لتستفزها، وكأن شأنها مع زوجها يعنيها حقًا، انتظرتها حتى خطت مبتعدة عنها، وكزت على أسنانها تغمغم في ضيقٍ متعاظم:
-يا رب تولعوا إنتو الاتنين.
ثم استدارت رافعة طرفي ثوبها لتسير بتعصبٍ نحو الدرج متحملة الألم الذي يضرب بركبتيها حتى لا تنفجر غيظًا أمامها فتظن بذلك أنها فازت في جولتهما الكلامية وتزيد من شماتتها بها.

جلس القرفصاء على تلك الوسائد العريضة التي تفترش جانب الشرفة المغلقة بنوافذ الألومينيوم ذات الوجهين، وأمسك بخرطوم نرجيلته يدسه بين شفتيه، سحب بعمقٍ الدخان، وحبسه للحظة في صدره، ثم أخرج سحبًا كثيفة منه عبقت المكان من حوله، تجشأ "محرز" وألصق هاتفه المحمول بأذنه ليتابع باقي مكالمته الجادة:
-مافيش مشكلة، بس زودلنا الأصناف دي في التوريد المرادي كمان يا حاج "لطفي".

عاد ليدخن النارجيلة وهو يصغي للطرف الآخر قبل أن يرد:
-ما هو الطلبات كتيرة عليهم
تحولت تعابيره للقتامة، وزاد احمرار حدقتيه المتهبتين مسبقًا من كثرة التدخين حين قال له بنبرة تعبر عن شيء غير مريح يخفيه:
-لا مالوش لازمة تعرفه..
لانت نبرته قليلاً عندما ادعى كذبًا:
-يا حاج هو مشغول مع الجماعة بتوعه، خليه يفرحله يومين ويدلع بعد الهم اللي كان فيه.

نفث سحب الدخان مرة أخرى قبل أن يضيف:
-أيوه، على الدكان التاني.
سعل بصوتٍ متحشرج وهو ينهي مكالمته معه:
-كتر خيرك .. ده العشم بردك .. الله يكرمك.. وعليكم السلام
فرد ساقه بارتياحٍ على وسادة أخرى وقد أغمض عينيه لوهلةٍ ليستغرق في أفكاره الطامعة، تكدر صفوه الوهمي عندما سمع "هاجر" تسأله مباشرة وكأنها تلاحقه:
-دكان إيه ده اللي بتتكلم عنه؟ شغل تبع أبويا؟ ولا في حاجة تانية أنا معرفهاش؟

انتفض في جلسته المسترخية وسحب ساقه ليثنيها نحو صدره، غامت نظراته نحوها، وحك بإبهامه كفه متسائلاً بلهجة مستنكرة تحقيقها الحذق معه:
-وإنتي من امتى بتسأليني عن شغلي يا "هاجر"؟
كتفت ساعديها أمام بطنها المنتفخ، وأجابته بمسحة من العنجهية في صوتها:
-عادي.. مش مال أهلي اللي إنت شغال فيه؟ مغلطتش لما بأطمن عليه!
اغتاظ "محرز" من جملتها الأخيرة، وتمتم بصوتٍ خفيض يلعنها:
-أبو.. أهلك!

لم تفهم صوته الخافت، فاقتربت منه لتسأله من جديد:
-بتقول إيه؟
تجشأ بشكلٍ مقزز، ثم استرخى في جلسته، وطالعها بنظرات باردة ليبتسم بعدها بسماجةٍ وهو يخبرها كذبًا:
-يا ستي ده واحد مستقصدني أتوسطله في مصلحة أقضيهاله بس مش معاه يدفع كاش، وشغلنا ده زي ما إنتي بنتربط فيه من كلامنا، وأنا وعدته أتدخل وأسهله الأمور، ها في حاجة تانية؟

نظرت له في امتعاضٍ وهي ترد:
-لأ.. بس مكنش في داعي للنرفزة دي
هتف بضيقٍ لم يخفه:
-ما إنتي كان ناقص تسرقيني يا "هاجر"، إيش حال مكونتش شايل شغل أهلك على دماغي 7 سنين ومحدش كان بيحاسبني بأعمل إيه!!

ردت عليه موضحة:
-يا "محرز" دلوقتي الوضع اتغير، و"تميم" بقى موجود، ومش ناقصة أسمع كلمة بايخة من أبويا لما يقولي ده جوزك مقصر في حاجة
أشاح بوجهه بعيدًا عن عينيها المراقبتين له، وقال بتأففٍ:
-لا ياختي اطمني، كله تمام!
شعرت "هاجر" بالغثيان يضرب معدتها من الدخان الذي لوث رئتيها، وضعت يدها على أنفها لتكتم الرائحة الكريهة التي تستنشقها، وسألته:
-هتنام ولا هتعمل إيه؟

لم ينظر نحوها حين أجابها:
-هاخلص الحجرين دول وأحصلك
هزت رأسها تحذره قبل أن توليه ظهرها:
-طيب، بس ابقى اتأكد إنك طفيت الفحم بدل ما تقوم حريقة
رد بتبرمٍ:
-ربك يسترها.
ظلت نظراته الساخطة مرتكزة على أثرها بالرغم من رحيلها، وهمس يقول لنفسه وخرطوم النارجيلة يتراقص بين شفتيه:
-هانت، كل واحد هياخد حقه .. قريب!

مسحت بظهر كفها دمعاتها الحارقة التي اغرورقت بها مقلتيها حين رأت العلامات بارزة في ثيابها القطنية، أدركت خلود أنه لا أمل ذلك الشهر في حدوث الحمل، ستنتظر على أعصابٍ متوترة ما سيحدث الشهر القادم، بالإضافة لبعض الجمل التوبيخية من والدتها، وكأنها المسئولة عن عدم حدوثه .. أكملت ارتداء ملابسها، ووقفت أمام مرآة الحمام تتطلع إلى وجهها الذابل، فتحت الصنبور وبللت أصابعها بالماء لتغسل به وجنتيها حتى تمحو آثار البكاء من عليهما، ثم قرصت خديها لتظهر توردهما بعد تنشيفهما، وابتسمت رغم حزنها حتى لا تشعره بالقهر الذي انتابها لمجرد تأكدها من زيارة ضيفتها الشهرية. خرجت من الحمام وتساءلت بمرحٍ زائف:
-حبيبي، إيه رأيك في عروسة أخويا؟ تنفع؟

أجابها "تميم" ساخرًا وهو ينظر لها:
-هو أنا هتجوزها؟
ضحكت قائلة وهي تقف أمام التسريحة لتمشط شعرها وتعقصه:
-بطل هزار، لأ بجد، رأيك فيها إيه؟ بنت كويسة؟ حلوة؟ شبهنا كده؟
لم يحبذ أبدًا التطرق لذلك الموضوع بعد الحالة المريبة التي انتابته تلك الليلة، لذا شوش على ما يناوش عقله مرددًا على مضضٍ ليظهر لها عدم اكتراثه:
-معرفش، اسألي أخوكي.

تنهدت معلقة عليه وهي تضع المشط في مكانه:
-هو شكله مبسوط، والبنت عجباني.. بس أختها لأ!
تقلص وجهه واشتدت تعابيره قليلاً حين نطقت بما لا يرغب، استلقى على الفراش، وضغط على شفتيه محاولاً ألا يشاركها الحوار، لكنها استمرت في ازعاجه وتشويش أفكاره قائلة:
-أنا مش بأقول عنها حاجة وحشة لا سمح الله، بالعكس هي جميلة، بس تحسها مش مريحة كده، أخدة الدنيا على صدرها، مش هاممها حد، وبيني وبينك شكلها غيرانة من أختها، والحدق يفهم!

أخفت ضحكة عبثية تشكلت على شفتيها بيدها، وكأنها بذلك قد نجحت في تحليل شخصيتها المعقدة باعتبارها خبيرة محنكة في أنواع النساء، أولاها ظهره ليتقلب على جانبه، وقال بفتورٍ:
-هما أحرار في بعض، احنا عملنا الواجب وخلصنا.

استلقت "خلود" بجوار زوجها بعد أن نزعت روبها عنها، مالت نحوه لتحتضن كتفيه، ثم قبلت صدغه، وتنهدت بحرارة على جلده ليشعر بلهيب أنفاسها، داعبت طرف أذنه بأناملها، وقالت له معتذرة:
-معلش يا حبيبي، إنت هتاخد كام يوم أجازة مني، يعني.. إنت فاهم بقى
فطن "تميم" إلى ما ترمي إليه، لم ينكر أنه شعر بالارتياح من تلك النجدة الإلهية لافتقاده الرغبة في ممارسة أيٍ من طقوس الحب حتى وإن قام بواجبه على أكمل وجه، ابتسم وقال بنبرة تميل للنعاس:
-مافيش مشكلة.

تابعت بمرارةٍ:
-كان نفسي أبشر باللي يفرحك، بس ربنا مأردش
تنفس ببطءٍ ورد عليها وجفناه مطبوقان:
-أنا مش مستعجل، لسه قدامنا العمر كله
قبلت جبينه، وتمددت على ظهرها لتحدق بعينين تستدعيان الدمع وهي تتابع:
-يعني.. أنا عارفة إن أهالينا نفسهم يفرحوا بالأخبار دي و...
قاطعها بجديةٍ وقد جفاه النوم فجأة:
-"خلود"!

ثم استدار نحوها ليقول:
-محدش ليه الحق لا يتدخل ولا يتكلم في الموضوع ده غيرنا، والوقت المناسب هيحصل، متحطيش إنتي في بالك.
التفتت ناحيته برأسها فرأت نظراته تجوب على وجهها المنكسر، مد يده ومسح تلك العبرات المتسللة من طرفيها، فاندفعت تقبله كالعمياء من شفتيه، احتضنها وبادلها قبلة مطولة، ثم حاول إبعادها لكنها أصرت على الالتصاق بجسده ليشعر بما يختلج صدرها، مسح على ظهرها بودٍ، وقال مبتسمًا عله يخفف من حزنها:
-سبيها على الله، وخلينا في فرحة أخوكي.

تطلعت إليه بعينين تلمعان بقوةٍ، ولاحت تلك البسمة المنتقصة على شفتيها، وردت في يأسٍ:
-نفسي أقدملك كل حاجة عشان تكون جمبي على طول، خايفة تبعد عني!
تقلصت عضلاته فجأة، شعر لوهلة بالقلق وكأنها ترتاب لأمره، ورد بانزعاجٍ ونظراته تلومها:
-هابعد أروح فين بس؟

-يعني ممكن تسافر، أو تتجوز..
-لأ ماليش في السفر..
حاول مداعبتها فمازحها بتلقائية دون أن يدرك أنه يحرر أفكاره التي تراود رأسه في لا وعيه:
-ولو يا ستي فكرت أتجوز هابقى أجيبها تعيش معاكي.

نظرت له بحدةٍ وقد قست ملامحها، فابتسم ليخفي حالة التوتر التي عصفت بكيانه لتلك الذلة المميتة، لم يقصد ذلك أبدًا، كانت مجرد طرفة عابرة، لكن ظهر تأثيرها المقلق على قسمات زوجته، أحنى رأسه عليها ليلتقط شفتيها بشفتيه، وطبع قبلة أشد عمقًا وأقوى تأثيرًا عليها علها تتأكد من مشاعره نحوها وتنسى ما باح به العقل، وكأنها نالت المسكن المؤقت لأحزانها الحالية بإشباع توقها لحبها الشغوف به...،

بقيت مستقرة في أحضانه وإن لم تغمض جفنيها. انتظمت أنفاس "تميم" وغرق في نومه، بينما ظلت "خلود" ساهدة، ساهمة حتى الساعات الأولى من اليوم الجديد، حينها خرج من جوفها تنهيدة بائسة محملة بالآمال والأحلام، تمنت فيها بكل أعماقها وعيناها معلقتان بالسماء قبل أن تغمضهما أن يحدث ما ترجوه عما قريب لتبشره وتنال الحظوة الكبرى لديه أولاً ولدى كامل عائلته، فتتربع على عرش عائلة "سلطان" بحفيدهم.. والوريث المنتظر... !!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة السادسة والعشرون بقلم منال سالم


أنهت جزءًا كبيرًا من المقرمشات والتسالي التي كانت تحتفظ بها شقيقة زوجها في المنزل وهي تتابع بنهمٍ الأحاديث الجانبية التي تلت الخطبة حتى تستأثر بكامل الأخبار، لم تصعد إلى منزلها وأخبرت زوجها بقضائها لباقي السهرة في منزل "آمنة" التي لم تمانع من وجودها وتعاملت معها بكل ودٍ ومحبة. افترشت "حمدية" الأريكة العريضة بجسدها تاركة أطفالها يلهون حتى أصابهم النعاس وغفلوا على السجاد غير مكترثة بحالتهم المحزنة..،


 
فضولها كان يدفعها لمعرفة المزيد، كانت نظراتها كالأفعى تتربص بالتوأمتين وتتابع ما يصدر منهما من كلمات أو تلميحات، حتى عندما غابت الاثنتان بالداخل ليبدلا ثيابهما بعد عودتهما من الخارج لوقت لا بأس به على أمل أن ترحل، كانت في انتظارهما بأعصاب جليدية. لم تمنحها "فيروزة" أي معلوماتٍ وتركتها تتخبط في حيرتها، و"همسة" لم تملك سوى القليل من الحديث لتقوله، وذلك لم يكن كافيًا لإرضائها ..


 
تثاءبت "فيروزة" بصوتٍ مسموع وهي تنظر إلى ساعة الحائط التي تخطى عقربها الثانية والنصف بعد منتصف الليل عل الضيفة السمجة ترحل، لكنها كانت مُصرة على البقاء، أفرغت زوجة خالها ما في يدها من قشرٍ وقالت وهي تنفض راحتيها:
-قومي يا "هموس" هاتيلي بؤ مياه، لأحسن اللب الأبيض نشف ريقي
ردت عليها "همسة" بنبرة مرهقة وهي تحاول تحريك جسدها المتعب لتنهض:
-مش كفاية كده يا مرات خالي؟ الفجر قرب يأذن.

استرخت "حمدية" أكثر في الأريكة، وقالت وهي تسحب الوسادة الصغيرة خلف ظهرها:
-ياختي ورانا إيه، أدينا سهرانين.
هتفت فيها "فيروزة" بامتعاضٍ ونظراتها المزعوجة مسلطة عليها:
-بس احنا تعبانين وعاوزين ننام، دماغنا مصدعة.
نهرتها والدتها لانعدام ذوقها معها فأردفت قائلة:
-عيب كده يا "فيروزة"، ما يصحش!


 
ردت عليها "حمدية" وذلك العبوس يجتاح ملامحها:
-قوليليها يا "آمنة"، هو أنا غريبة؟
ثم وجهت حديثها لها مهاجمة إياها بوقاحةٍ:
-أهي طولة لسانك دي اللي هاتطفش العرسان منك، وتخليكي زي البيت الواقف محدش راضي يبصلك، ما تخليكي كده زي أختك حلوة وفي حالها.
هبت واقفة، وزجرتها بعصبيةٍ:
-أنا مبسوطة كده، ومش عاوزة أتجوز.


 
مطت "حمدية" شفتيها لتهمس بتنمرٍ:
-يا ساتر على تقل دمك، ابقي تفي على وشي لو جالك حد أصلاً!
نظرت لها شزرًا، والتفتت تقول لوالدتها:
-أنا داخلة أنام، تصبحي على خير يا ماما.
ردت "آمنة" مبتسمة:
-وإنتي من أهله يا حبيبتي، اقفلي الإزاز كويس عشان الهوا جامد برا.
هزت رأسها قائلة بتثاؤبٍ:
-حاضر.. على الله الناس اللي عندها دم تحس!

كزت "حمدية" على أسنانها في غيظٍ وهي تدرك أنها المقصودة من ذلك التلميح الفظ، حاولت إخفاء حنقها الذي انعكس سريعًا على تعبيراتها ونظراتها، وضحكت مستطردة بسماجةٍ:
-لما تروحوا تنقوا الشبكة ابقيي قوليلي يا "آمنة"، أنا خبرة عنك في الحاجات دي، وعشان محدش يضحك على بنتك، ويجيبولها حاجة أي كلام، برضوه حماتها مش سهلة، واسم الله عليها "همسة" تتاقل بالدهب، وإنتي عارفاني في الحق زي السيف.


 
تنهدت معلقة عليها:
-ربنا يسهل
احتقنت نظرات "فيروزة" من تدخلها المستفز في شئون العائلة وفرض سطوتها بطريقة مبالغ فيها، فمالت على أختها لتقول لها بتذمرٍ:
-شايفة الفشر؟
ردت عليها "همسة" مبدية انزعاجها:
-أنا معرفش هي حاشرة نفسها ليه؟ الموضوع ميخصهاش من الأساس.
عقبت عليها بنبرة اكتسبت العصبية:
-لأ إزاي، ده مش بعيد تذلنا طول عمرنا، وأمك مش هاتقولها لأ طبعًا، رِجلها هتسبق رجلنا، ومرات خالكم والكلام اللي لا يودي ولا يجيب.

أمسكت "همسة" بها من ذراعها ودفعتها برفقٍ نحو الردهة وهي تتابع:
-خلينا نبعد عن وشها، أنا مش هاجيبلها حاجة، على الله تحس على دمها وتمشي
ردت باستنكارٍ:
-دي لازقة بغرا، مش هاتمشي بالساهل!


 
ظلت الاثنتان تتهامسان حتى دخلتا الغرفة، توقفت "همسة" عن السير لتغلق الباب من ورائها، بينما تقدمت "فيروزة" نحو الدولاب لتفتح ضلفته، أخرجت منامتها المريحة من على الرف العلوي، وبدأت في خلع ثيابها، لمحت الأولى تلك التحززات الحمراء التي أصابت الندبة الموجودة على كتف توأمتها الأيمن لارتدائها حمالة الصدر الجديدة ذات الأربطة الحادة لفترة طويلة، فقالت على الفور لتثير انتباهها:
-العلامة اللي عند كتفك شكلها ملتهب خالص.

تحركت الأخيرة نحو التسريحة مديرة كتفها للجانب حتى تتمكن من رؤيته تاركة منامتها على الرف، نظرت إلى الالتهاب الذي أصاب الندبة الباقية لها من آثار حريق الماضي، وقالت على مضضٍ وهي تتحسس جلدها بحذرٍ:
-منها لله "حمدية"، هو أنا كنت ناقصة!
وقفت توأمتها خلفها، وعرضت عليها بودٍ:
-خليني أدهنهالك، أنا عندي كريم ملطف.
هزت رأسها موافقة:
-ماشي يا "هموس".

قامت "همسة" بفتح الدرج الجانبي للتسريحة لتخرج منه علبة كريم مرطب تستخدمها كل فترة، نزعت الغطاء، ووضعت كمية معقولة بين أناملها، ثم لامست بحرصٍ جلدها المشتعل بحمرته الملتهبة لتدهنه حتى تسكن آلامه، ومع كل لمسة عليه كانت "فيروزة" تتصلب وتتوتر، ما زالت آثار تلك الليلة المحزنة مختومة على جسدها ومحفورة في ذاكرتها، يتنشط عقلها بين الحين والآخر بلمحات منه ليزداد هلعها وانقباض قلبها، لكنها تناضل لإغراق ما يطفو على السطح في ظلمات عقلها علها تنسى ما رأته آنذاك، اقشعر بدنها وهتفت فجأة وهي تزيح يدها:
-كفاية يا "همسة"، أنا بقيت كويسة.

لم تترك لها الفرصة للاعتراض عليها، تحركت من أمامها وعادت إلى الدولاب لتسحب منامتها وترتديها، تأملتها شقيقتها في حزنٍ وإشفاق، كانت تعلم مدى قساوة تلك التجربة عليها وإن لم تفصح عن ذلك.

استلقت على ظهرها على الفراش عاقدة يديها خلف رأسها، حملقت في سقفية الغرفة بعينين متسعتين بالرغم من الظلام الذي احتل الغرفة مستعيدة تفاصيل خطبتها وما دار فيها من شد وجذب، ومحاولات التودد وخلق العلاقات الأسرية الطيبة، أدارت رأسها للجانب لتتأمل "فيروزة"، كانت تعلم أنها لم تنم بعد؛ بسبب تقلباتها المتعاقبة على الفراش، تنهدت ببطءٍ، وهتفت تسألها:
-إنتي لسه صاحية؟

أجابتها بصوتٍ شبه متحشرج:
-بأحاول أنام
عضت على شفتها السفلى في ترددٍ واضح، ثم سألتها بربكةٍ محسوسة:
-عاوزة اسألك في حاجة؟
لم تتطلع إليها أو تتحرك من مكانها وهي ترد:
-خير؟
سحبت شهيقًا عميقًا طردته من صدرها على مهلٍ قبل أن تتابع:
-إيه رأيك في "هيثم"؟
أجابتها دون تفكيرٍ:
-مش مستريحاله لا هو، ولا أخته، ولا جوزها!

ابتسمت "همسة" في تهكمٍ، كان ردها واضحًا ومفهوم الأسباب، اعتدلت "فيروزة" في نومتها بعد أن استدارت نحوه شقيقتها، مدت يدها لتضيء المصباح الجانبي الصغير الموضوع على الكومود إلى جوارها، وسألتها دون مراوغة ونظراتها مثبتة على وجهها:
-إنتي عاوزة تكملي الخطوبة دي ولا لأ؟
جاوبتها "همسة" في حيرة وهي تفرك أصابعها لتخفي حرجها:
-مش عارفة لسه؟

قالت بلمحة تعبر عن السخرية:
-ما أكيد ملحقتيش تحبي عريس الغفلة
ردت مستنكرة:
-لأ طبعًا
أضافت "فيروزة" بجديةٍ وهي تشير بيدها:
-بصي يا "همسة"، ساعات الواحد في لحظة تسرع بياخد قرارات غلط، مش عيب إننا نرجع فيها طالما ...

لم تكن توأمتها راغبة في إنهاء الخطبة أو التراجع عن ذلك الارتباط غير المتوافق، فقاطعتها دون ربكةٍ:
-أنا مش ندمانة على فكرة، وعايزة أقولك إن "هيثم" اعتذرلي عن الموقف البايخ اللي عمله مع ماما!
رفعت "فيروزة" حاجبها للأعلى في اندهاشٍ:
-بجد؟ حصل امتى ده؟ ولا ده دفاع منك عنه.

هزت رأسها بالنفي:
-أه والله، واحنا واقفين لوحدنا، اعتذرلي..
قالت في استحسانٍ:
-كويس!
أضافت "همسة" بابتسامة صغيرة وهي تلمح للحلوى التي اشتراها لكتليهما:
-وبعدين إنتي شوفتيه جابلنا إيه قبل ما نطلع البيت
علقت ساخرة منها وقد أولتها ظهرها:
-اه .. والظاهر إنه هياكل بعقلك شيكولاته.

التفتت "همسة" بجسدها للجانب الآخر من الفراش لتولي ظهرها لشقيقتها، وتابعت هامسة بتنهيدةٍ:
-مظنش.. بس بأحاول استبشر خير.
ثم أغمضت عينيها لتستعيد في مخيلتها مشهد بقائها مع خطيبها بمفردها على الشرفة المتسعة بالمطعم، حينها كانت في حالة لا تُحسد عليها من الخجل، والارتباك، والتلعثم، والارتجاف. مد "هيثم" يده ليمسك بكفها المستند على الحافة، لكنها سحبته في سرعة وقلبها يدق بعنفٍ، استاء مما ظنه نفورها، وعاتبها بضيقٍ:
-لعلمك أنا بأتنرفز من اللي يطنشني.

اعتذرت منه باستحياءٍ وكامل نظراتها مرتكز على الأمواج المتلاطمة:
-أنا أسفة.. بس مش متعودة حد غريب يقرب مني.
نفخ بصوتٍ مسموعٍ كتعبير عن ضجره من حذرها قبل أن يستأنف قائلاً:
-ماشي، هاسيبك لحد ما تتعودي عليا، بس كنت عاوز أقولك حاجة؟
ابتلعت ريقها وردت:
-اتفضل.

تنحنح بخشونةٍ، وتابع بترددٍ بائن في صوته، وكأنه يحاول استدعاء الكلمات لتنصفه:
-فاكرة اليوم إياه.. ساعة لما وقعت أمك على وشها
ورغم استيائها من ألفاظه الفظة في محاولته للإشارة للموقف السابق -والذي دفع فيه والدتها بعنفٍ وطرحها أرضًا خلال فرح أخته- إلا أنها ردت بهدوءٍ:
-أها، ماله؟
اخشوشنت نبرته وبدت خافتة حين بادر معتذرًا:
-أنا محقوقلها، مكنش قصدي.

هزت رأسها مبتسمة في رضا:
-تمام.
أكمل مفسرًا بتشنجٍ طفيف:
-أصلي يومها كنت مضايق شوية من كام حاجة حصلت، ويعني دخلت فيكم زي القطر، ومكنش ليكم ذنب
اتسعت بسمتها أكثر، والتفتت ناظرة نحوه وهي تقول:
-كويس إنك بتعترف بغلطك، دي حاجة بأحترمها.

تأمل ابتسامتها بعينين تعبران عن اهتمامه بها، للمرة الأولى تمتدحه فيها، لم ينكر أن تصرفه ذلك -وإن كان متأخرًا- قد أتى بنتائج طيبة معها، ورأى ذلك يظهر بوضوح في تعبيرات وجهها لوح بيده مكملاً حديثه معها:
-يعني مش عايز نبدأ مع بعض وكل واحد فينا شايل من التاني.
لعقت شفتيها، وقالت:
-أها، كده أحسن.

استرسل "هيثم" مضيفًا بابتسامة متسعة معبرًا بصراحة مطلقة عن مكنونات صدره:
-تعرفي، أنا حمدت ربنا إنك طلعتي من بختي، مش أختك!
قست نظراتها وحل الوجوم على ملامحها عقب جملته تلك، ووبخته بانزعاجٍ بائن:
-لو سمحت ممكن ماتكلمش عنها، أنا بأزعل من الأسلوب ده
برر لها مقصده بوصفها بتلقائية:
-يا ستي هو أنا قولت حاجة وحشة، بس هي عاملة فيها فتوة الحتة، وإنتي شكلك غيرها.

استاءت من طريقته غير المستساغة في اكتساب ودها بتلك الصورة الفظة، وهتفت محتجة:
-برضوه هتغلط فيها؟
قال ملطفًا وهو يغازلها:
-خلاص فكك منها، وقوليلي إنتي حلوة كده إزاي؟ الصراحة قمر واقف قدامي.
تورد وجهها في خجلٍ، أخفضت نظراتها الساهمة، وردت تشكره:
-ميرسي.

تأمل تلك الحمرة التي اكتسحت بشرتها وزادت من إشراقة ملامحها، فواصل تغزله بشكلٍ أكثر جراءة:
-إنتي بتكسفي، يا لهوي يا جدعان، طب أوعى الجاز ليولع في الغاز!
أبعدت وجهها عن نظراته التي تخترقها وهي تخفي ضحكة عابثة تسخر فيها من كلماته التي تعبر عن فطرته الشعبية البحتة .. عادت "همسة" لواقعها المحيط وتلك الابتسامة لا تزال مرسومة على محياها، ربما فشل بشكلٍ ذريع في التعبير عن إعجابه بها واستمالتها نحوه، لكنه بطريقة ما استحوذ على قدر بسيط من تفكيرها.

برقت حدقتاها واتسعتا في نشوةٍ حين وضع الحقيبة الجلدية على الطاولة الرخامية أمامها وفتحها لتظهر رزم النقود بوهجها المحفز للنفوس، أحست "بثينة" بعنف نبضاتها المتحمسة، فلم ترَ مثل ذلك المبلغ الضخم في حياتها مطلقًا، سال لعابها، وظهرت بوادر الطمع على محياها، ادعت جمودها وتساءلت بعدم اكتراثٍ:
-إيه ده يا حاج "بدير"؟

أجابها بهدوئه وهو يجوب بنظراته على وجهها ذي الملامح الزائفة:
-ده عشان جوازة ابنك يا "بثينة".
ازدردت ريقها وتساءلت بحماسة جاهدت لإخفائها:
-مش فهماك؟
عبث برأس عكازه براحة يده، وقال موضحًا:
-زي ما اتفقنا قصاد نسايبك الجداد، فلوس تجهيز البيت وعفش جديد والشبكة للعروسة.

ابتسمت في رضا، وردت بامتنانٍ:
-الصراحة عداك العيب يا حاج، كده ابني يقدر يخش ومافيش حاجة نقصاه.
هز رأسه يؤيدها:
-مظبوط
ولكن تحولت نبرته للجدية حين تابع منذرًا إياها:
-وخدي بالك يا "بثينة" لو عاوزة ابنك يفلح!
زوت ما بين حاجبيها متسائلة بقسماتٍ متجهمة:
-قصدك إيه؟

أوضح ببساطة وتلك النظرة المحذرة تنطلق من حدقتيه:
-ماتفحيش في ودانه زي تملي وتشقلبي كيانه.
اِربد وجهها بالحنق، وصاحت تنفي ما قاله:
-هو أنا بأحرضه ضدك لا سمح الله؟ مش حق أبوه اللي راح وآ....
قاطعها رافعًا يده أمام وجهها لتصمت:
-احنا قفلنا على السيرة دي خلاص، وكل واحد خد حقه من زمان، وأنا رميت ورا ضهري اللي عمله "هيثم"، قومي بدورك إنتي كأم معاه، وخليه يستقر عشان حاله يتصلح، وإياكي تظلمي بنات الناس.

مصمصت شفتيها قائلة بتذمرٍ:
-أنا زي البلسم يا حاج، بأتحط على الجرح يطيب
رد عليها وهو يستعد للنهوض:
-هنشوف.
نهضت بتكاسلٍ من مقعدها، وقالت مجاملة:
-ما تقعد شوية يا حاج، ده إنت منورني
نظر لها بجمودٍ من طرف عينه قبل أن يرد:
-ورايا مصالح، سلامو عليكم
سار متجهًا نحو باب المنزل، وتبعته في سكونٍ حتى خرج وأغلقت الباب، التفتت لتلصق ظهرها به، وحملقت بعينين تتوهجان بخبثٍ ماكر على حقيبة النقود محدثة نفسها:
-أل أنا اللي هاخربها على ابني، يا حسرة عليه من يوم ما أبوه مات واحنا متلطمين، ده أقل من حقه بكتير!

-اعدل الرصة يا ابني، ده مال ناس!
هتف "محرز" بتلك العبارة عاليًا محذرًا إياه بلهجة صارمة وهو يلوح بيده لأحد العمال الواقفين أعلى تلك الشاحنة، تابعه بنظراته أثناء رصه للأقفاص البلاستيكية التي تم ملؤها بثمار الفاكهة الطازجة بعد وزنها ليتأكد من أداء عمله على أكمل وجه، التفت برأسه يمينًا ويسارًا ليتابع حركة المارة، لمح "هيثم" وهو يركن سيارة الربع نقل عند ناصية الشارع، ابتسم في مكرٍ وهو يمسح على صدره بحركة دائرية متكررة، تحرك صوبه قاصدًا الحديث معه، ترجل الأخير من سيارته ليتفاجئ به أمام ناظريه، سأله بوجهٍ جاد التعبيرات:
-خير يا صاحبي؟

غمز له قائلاً بلؤمٍ وهو يلكزه بخفةٍ في كتفه:
-هنيالك يا عريس، أنا شايف الحاج من صباحية ربنا فاتح الخزنة الكبيرة وبيعبي الشنطة فلوس بالأكوام، زمانته راح عند الست الوالدة
سأله بنبرة ساخطة وقد توحشت نظراته:
-وإنت عاوز نصيبك من الفلوس دي ولا حاجة؟
رد نافيًا ووجهه يكسوه مسحة من الغموض المخيف:
-لأ، دول حلال عليك، وبعدين مش أنا اللي يملى عيني شوية الملاليم دي، أنا عاوزك في حاجة أكبر.
تطلع إليه في استغرابٍ وهو يسأله:
-حاجة إيه دي؟

جاوبه "محرز" بمزيد من الغموض:
-بعدين هاقولك لما أظبط كل حاجة..
وزاد من ابتسامته اللزجة وهو يتابع ليتوه عن تلك المسألة المثيرة للريبة:
-ركز إنت في الجوازة اللي جاية على كفوف الراحة دي
منحه نظرة ناقمة قبل أن يعقب عليه بامتعاضٍ:
-ما هي شورتك يا أبو نسب.
افتعل الضحك وتساءل بعدها:
-أومال فين "تميم"؟ مش شايفه يعني
حك "هيثم" أذنه وهو يجيبه:
-أبوه بعته مشوار، أنا طالع على القهوة شوية، جاي ولا؟
رحب باقتراحه قائلاً ببسمة غير مريحة:
-معاك.. هو احنا لينا إلا بعض!

ألزمه "بدير" بالذهاب في المرة الأولى مع ذلك العامل ليدله على منزل العروس الجديد باعتباره حديث العهد بالعمل في تلك المنطقة التي تعد جديدة عليه، وعلى مضضٍ اضطر أن يوافق حتى لا يرد أمر والده، وبضغطة بسيطة على المكابح أوقف "تميم" السيارة بجوار الرصيف الملاصق لمدخل البيت. سدد نظرة متأملة متأنية لنوافذه الموصدة عله يلمحها واقفة، لا يعرف لماذا تبحث عيناه عنها تحديدًا؟

لم يكن ليهتم هكذا برؤية زوجته التي تغدق عليه بالمشاعر الشغوفة، ناوشته تلك الأحاسيس الحماسية العجيبة واجتاحت وجدانه، أحس بدبيب قلبه يرتفع، تنحنح بخشونة مقاومًا ما يعتريه من أوهام استنكرها ونفضها عن عقله، ثم ترجل وساعد العامل في إنزال الأقفاص المليئة بالفواكه من المقعد الخلفي، اعتدل في وقفته، ومسح بيده العرق الذي تجمع عند جبينه متسائلاً:
-عرفت الدور ولا هتبوظ الدنيا؟

لم يكن العامل ممن يفهون سريعًا، قدراته الاستيعابية إلى حد ما محدودة، فأجابه بترددٍ:
-هاشوف يا معلم.
توتر "تميم" من إفساده للأمر، وقال مرغمًا:
-أنا جاي معاك، إياكش تفهم.

ثم انحنى ليحمل واحدًا من تلك الأقفاص الثقيلة، وتقدم في خطواته المتعجلة نسبيًا ليسبقه في الصعود على الدرج، يكاد يجزم في نفسه أنه لم يكن متحمسًا هكذا في بادئ الأمر، ولكن حين بات على مقربة من منزلها نشبت بداخله رغبة مُلحة للتحجج بأي سبب ورؤيتها وإن كان ذلك على سبيل المصادفة، أيعقل أن يصل به الأمر ليتصرف كالمراهقين؟ لام نفسه بشدة على سذاجته وتصرفاته الطفولية، وردد بصوتٍ خفيض وهو يزفر:
-مش هاتحصل تاني! أنا هاسيب الحاجة وأمشي.

أنزل القفص على أعتاب باب المنزل، وانتظر صعود العامل حتى يملي عليه أوامره. همَّ بالتحرك نحو الدرابزون لينظر إليه من خلاله، ولكن صوت صرير فتح الباب جمد قدميه، التفت عفويًا برأسه نحو من أطلت عليه من الداخل، ببساطةٍ مربكة فَسد ما خطط له حين رأى "فيروزة" تتطلع إليه بنظراتها المدهوشة ورائحة عطرها الأنثوي قد فاحت في المكان واقتحمت أنفه لتملأ صدره بها، جف حلقه كليًا، وشعر بتلك الخفقة العنيفة تضرب أوتار قلبه وهو كالأبله ينظر لها مصدومًا، بدا وكأنه قد فقد القدرة على النطق أو التحرك، تخشب في مكانه لحظيًا وصوتها الناعم يردد بابتسامة لا يعرف إن كانت ساخرة أم مرحبة:
-إيه المفاجأة دي... ؟!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة السابعة والعشرون بقلم منال سالم


تعلقت عيناه بعينيها المتطلعتين إليه وكأنها نفذت إليه فاخترقت كيانه، ربكة أخرى أشد وطأة عصفت بداخله، وذبذبت ما ظن أنه يملك زمام أمره؛ قلبه .. تدارك نفسه سريعًا، وأبعد حدقتيه عن تأمل تفاصيلها القريبة منه ليتنفس ببطءٍ شديد حتى يضبط ما أصاب عقله من تخبط غير مفهوم، وفي أقل من لحظاتٍ كان وجهه قد اكتسب طابعًا مهنيًا جادًا، تراجع "تميم" خطوة للخلف ليفسح المجال للعامل لوضع باقي الأقفاص، وتجنب النظر إليها ليبدو كمن جاء لأداء مهمة محددة حين هتف آمرًا:


 
-حطهم عندك
رد العامل بامتثالٍ:
-حاضر يا معلم.
لكن صوت "فيروزة" الرنان اقتحم أذنيه عندما قالت بنفس النبرة الساخرة:
-بنفسك يا معلم، احنا مش واخدين على كده.
عقب عليها بتجهمٍ طفيف وقد خالف عهد نفسه ونظر ناحيتها:
-كان عندي أمانة من الحاج بأوصلها.


 
تساءلت بتهكمٍ ونظراتها تتفحص أقفاص الفاكهة التي احتلت عتبة المنزل:
-أها، وعريس الغفلة فين؟ مش هو المفروض يجي بدالك!
انزعج من تطاولها، ورد بحدةٍ، وكأنه يلومها:
-مش فاضي وراه شغل.
قالت مبتسمة في استخفافٍ محسوس:
-وإنت بقى اللي باعتك بتقوم بدوره، غريبة!

زفر "تميم" عاليًا، وضرب كفه بالآخر في ضيقٍ قبل أن يرد عليها بوجهه الممتقع:
-لا إله إلا الله، هي مش ضاربة معايا نرفزة على الصبح، أنا عملت اللي عليا وخلاص..
ثم التفت نحو العامل يأمره من جديد بلهجة منفعلة:
-يالا يا ابني.
سبقه العامل في خطواته، وقبل أن يمضي "تميم" في طريقه استمع إلى صوت "آمنة" المتسائل:
-مين يا "فيروزة"؟


 
وما إن أبصرته حتى نادت عليه بلهفةٍ لترحب به:
-أهلاً يا ابني، اتفضل شوية.
استوقفته عبارتها، فاستدار نحوها يشكرها:
-كتر خيرك يا حاجة.
ردت "فيروزة" على والدتها، فقالت بما يشبه التهكم:
-رحبي بنسايبنا المعلمين.
ارتفع حاجبا والدتها للأعلى في استنكارٍ من فظاظتها الزائدة، ونهرنها بعبوسٍ:
-عيب يا بنتي، الراجل في بيتنا.
رد "تميم" ينصح أمها بلهجةٍ جافة:
-شكرًا يا ست الكل، بس يا ريت تعلمي الأبلة الذوق مع الناس بدل ما لسانها فيه حتة زايدة.


 
احتقنت بشرتها بحمرة مغتاظة من تطاوله الفج، وتطلعت إليه بنظرة احتقارية شملته من رأسه لأخمص قدميه قبل أن تنطق مهاجمة إياه:
-ما في أشكال ماينفعش معاها إلا قلة الأدب!
هدرت "آمنة" تعنفها لتجاوزها غير المحتمل:
-"فيروزة"!
اشتعل وجه "تميم" بغضبه، ورد بزمجرةٍ بائنة في صوته يهددها بها وهو يلوح بسبابته أمام وجهها:
-للمرة التانية بأحذرك وإنتي بتتكلمي معايا، يا تخرسي وتحطي لسانك في بؤك، يا إما هاوقفك عن حدك!
أهانته باندفاعٍ، معتقدة في نفسها أنه لن يجرؤ على المساس بها في حضرة والدتها:
-ما إنت بلطجي و....

بترت باقي جملتها، وتأوهت من الألم المفاجئ الذي أصاب جانب ذراعها، وكأن شيئا حادا قد اخترق ثيابها وغرز في لحمها، التفتت إلى الجانب لتجد والدتها تقبض بأصابعها عليها وكامل نظراتها مشتعلة غيظًا منها، ثم وبختها بلهجةٍ قوية قاصدة إحراجها:
-ما تتلمي شوية! هو أنا معرفتش أربيكي ولا إيه؟ عيب أسلوبك ده مع ضيفنا، ولا عوزاني أمد إيدي عليكي قصاده؟!!!


 
أطبقت على شفتيها في حنقٍ وهي تكاد لا تصدق ما تفوهت به من تهديد عدواني بحت، وأمامه تحديدًا لتنصفه وتتخذ موقفًا معاديًا لها .. غالبت بصعوبة دموعها التي كانت تقاتل للتسلل إلى مقلتيها ومشاهد الإيذاء البدني واللفظي تتراقص في مخيلتها، راقب "تميم" ما يحدث بعدم رضا، وهتف معترضًا بوجومٍ:
-عمومًا يا حاجة أنا كنت بأوصل أمانة.. مافيش داعي للمشاكل..

تركزت عيناه على وجه "فيروزة" المتعصب، تبين من نظراتها الكارهة نحوه مدى ازدرائها له، ولم يشعره ذلك سوى بالانزعاج وعدم الراحة، تابع بمسحةٍ من الضيق في صوته:
-ومش هتشوفوا خلقتي تاني.
أدركت "آمنة" أن ابنتها قد تسببت في إحزانه، فاعتذرت منه على الفور:
-حقك عليا يا معلم، بنتي متقصدش.
حنقٌ مُضاعف غطى قسمات "فيروزة" عقب جملتها تلك، لم تتحمل وداعة والدتها مع من تسبب في إيذائها، استلت ذراعها من يدها، وكبتت مضطرة غضبها في نفسها، ثم قالت بصوتٍ مختنق لتنفر من المكان:


 
-مع السلامة يا ماما، أنا رايحة مشواري.
ودون أن تنتظر الرد منها اندفعت كالطلقة هابطة الدرجات ركضًا وأنفاسها تلهج، يكاد يُجزم "تميم" أنها ستبكي قهرًا، اصطحبتها نظراته تلقائيًا إلى أن اختفت، لكن شعوره بالانزعاج ما زال متعاظمًا، وكأنه ازداد قوة بابتعادها وهي في تلك الحالة الناقمة، تصنعت "آمنة" الابتسام وقالت ملطفة حين لاحظت شروده:
-والله بنتي طيبة، بس هي ساعات مابتبقاش واعية للي بتقوله، فمتزعلش منها.

تنهد قائلاً لها بأسفٍ:
-حصل خير يا حاجة، أنا عاوز أفهمك إني حاولت أراضيها وأعوضها عن اللي حصل، بس هي مرضتش
علقت عليه بنبرة متمهلة، وقد ظهرت التعاسة على محياها:
-نفسها عزيزة عليها، وأنا بتأسفلك تاني.
هز رأسه مرددًا:
-ولا يهمك يا حاجة، سلامو عليكم.
ألقت عليه التحية، فأولاها ظهره وتحرك هابطًا الدرج بخطواتٍ ثقيلة، ووجه "فيروزة" المحتقن لا يزال عالقًا في ذهنه.

تناقلت ثمرة التفاح غير المأكولة بين يديه بلزمة متكررة وكأنها كرة تتأرجح في سلاسة دون أن يفقدها أو تسقط من راحته وهو جالس أمام دكانه غارقًا في أفكاره العميقة، شرد عمن حوله، وكأنه في عالم خاص به، ما زال طيف وجهها العابس يحتل جزءًا من تفكيره، حز في قلبه أن يراها مجروحة الكبرياء أمامه وإن كانت سليطة اللسان، أوشك عقله على الانفجار من كثرة ما يعتريه من صخبٍ يخصها وحدها...،

لم ينشغل هكذا بالتفكير بأحدهم منذ حبسه، حتى "خلود" لم تستحوذ على مقدار بسيط من اهتمامه طوال تلك الفترة المشؤومة، نفخ كمن أصابه السأم وتوقف عن العبث بالتفاحة .. حملق فيه والده مطولاً وقد جلس إلى جواره، لم ينبس بكلمة أو يعلق بشيء، كان صامتًا لدرجة أثارت فيه الريبة، فسأله "بدير" مستوضحًا:
-إنت كويس يا "تميم"؟
ظل صامتًا ولم يجبه، فأعاد على مسامعه السؤال بنبرة أعلى:
-يا "تميم" أنا بأكلمك، إنت كويس يا ابني؟

انتبه لصوته وقبض على الثمرة بيده، وكأنه يعتصرها، ثم استدار نحوه، وقال بوجهٍ غير مقروء:
-أنا بخير يابا.
سأله في اهتمامٍ وقد تقطب جبينه:
-عملت اللي طلبته منك؟ وصلت الحاجة للجماعة نسايب ابن خالتك؟
رد على مضضٍ وأمارات الضيق بادية عليه:
-أيوه.. كله تمام.
حرك رأسه في استحسانٍ، وتابع:
-كويس، مش عاوزين نقصر معاهم، هما بردك محسوبين علينا
قال غير مبالٍ وهو ينهض عن كرسيه الخشبي:
-اللي يريحك.

أوقفه "بدير" قبل أن يتركه بالإمساك به من ذراعه، وسأله وهو يتفرس في ملامحه الغريبة:
-مالك يا ابني؟ في إيه مضايقك
رد ضاغطًا على شفيته، وكأنه يبتسم، وهتف بزفيرٍ بطيء:
-مافيش حاجة
أرخى قبضته عنه، وأضاف بجديةٍ:
-طب اعمل حسابك هتتغدى عندنا إنت ومراتك النهاردة
نفخ في تذمرٍ:
-مالوش لازمة يابا، ده احنا تقريبًا يوم بعد يوم عندكم، يا إما عند أمها.
قال بإصرارٍ:
-يا سيدي أمك عاوزة تشوفك، وليها حق عليك، هتكسفها
لم يكن يمتلك طاقة للجدال أو التفسير، فأومأ برأسه مستسلمًا:
-حاضر.

ابتسم له والده في حبورٍ، ودعا له قائلاً:
-ربنا يهديك راحة البال.
وكأن تلك الدعوة تحديدًا هي ما كانت يحتاج إليها عل الطبول التي تقرع في رأسه تكف عن ضجيجها، فدمدم برجاءٍ صادق:
-يا رب.
أقبل عليه "محرز" بسماجته المعهودة، وتساءل بظرفه اللزج:
-إيه يا عم "تميم"، شكلك مكلضم ليه كده؟ الجماعة مزعلينك ولا إيه؟ ما هي أيام العسل معدودة، وأيام البصل متعدش.
نظر له بعينين متنمرتين، ورد نافيًا:
-لأ يا سيدي، ربنا ما يجيب بصل!

لكزه في جانب كتفه مازحًا:
-الجواز كله كده، مهما دوقت من العسل.
لم يستلذ أسلوبه الثقيل في المزاح، وأشاح بوجهه بعيدًا عنه ليشرع في التحرك نحو داخل الدكان، فهتف والده عاليًا ليستوقفه:
-ده المعلم "لطفي" جاي من بعيد أهوو
ارتسمت علامات الفزع على وجه "محرز" بمجرد التفوه باسمه، اتسعت حدقتاه بشكلٍ مريب، وتوترت أنفاسه .. أدار كالملسوع رأسه في كافة الاتجاهات وهو يردد بذهوله المرتعد:
-هاه، مين؟

أشار "بدير" بيده يأمر ابنه:
-روح يا ابني ناديله، مايصحش نشوفه ومانسلمش عليه.
كان من الأدب ألا يتجاهل الضيف حين يراه، فرحب بودٍ:
-ماشي يابا
انقض "محرز" بعنفوانٍ يدعو للشك على ذراع "تميم" يشده منه وهو يقول بصوتٍ مرتبك:
-استنى يا "تميم"، أنا رايح بدالك ماتتعبش نفسك.
نظر له الأخير بغرابةٍ، وانتزع معصمه من قبضته، ثم قال بإصرارٍ وتلك النظرة المستهجنة تكسو حدقتيه:
-لأ يا عم "محرز".

حبس الأول أنفاسه في ذعرٍ، خشي من افتضاح ما يدبر له، بهتت تعابيره، وبدا كما لو كان قد قابل شبحًا للتو، ما أنقذه حقًا من تلك الكارثة الوشيكة هي تلك الأصوات التي صدحت فجأة لتعلن عن مشادة كلامية حادة بين العمال بداخل الدكان، استدار "تميم" برأسه نحوهم، وصاح متسائلاً بصوته الأجش:
-في إيه يا رجالة؟

احتدمت المشاجرة فتدخل سريعًا قبل أن تتطور للتشابك بالأيدي، في حين تنفس "محرز" الصعداء لحدوث ذلك، وكأنها طوق النجاة له، وقبل أن يفكر مرتين، ردد حاسمًا أمره وابتسامته المهزوزة مرسومة على شفتيه:
-هاروح أنا.. للمعلم يا حاج.
علق عليه "بدير" وكامل انتباهه مع العمال المتلاحمين:
-طيب يا "محرز".

تعجل في خطواته ليتجه إليه ودقات قلبه المتلاحقة تكاد تصم أذنيه، اعتصر عقله ليختلق الحجج المناسبة ليستغلها ويقنعه بالذهاب قبل أن تنتهي المشاجرة، نجح بلؤمٍ في استدراجه بعيدًا عن محط أنظار عائلة "سلطان"، سأله بصوتٍ شبه لاهث من فرط التوتر:
-خير يا معلم "لطفي"، في حاجة حصلت؟
أجابه بعفويةٍ:
-أنا كنت جاي أراجع معاك الطلبية الأخيرة، في حاجات ناقصة، وطلبتك في الدكان مكونتش موجود.
رد في عصبيةٍ ظاهرة على محياه:
-يا معلم ما إنت معاك موبايل، كنت اتصل عليا و..

قاطعه ليبرر سبب حضوره:
-فصل شحن يا "محرز"، وأنا كنت قريب منكم هنا، فقولت أشوفك ونتكلم..
ثم تحولت نبرته للشك حين سأله:
-وبعدين مش كله بعلم الحاج ولا ...
رد "محرز" مقاطعًا بارتباكٍ:
-لأ ما هو عارف وباعتني ليك.
أشار له بيده وهو يتابع حديثه:
-طب بينا على الدكان
هتف فجأة كالمذعور:
-لأ!!!

اندهش "لطفي" من ردة فعله الغريبة، وسأله في استغرابٍ حائر:
-نعم؟ ليه؟
ابتلع ريقه وحاول أن يبدو هادئًا وهو يخبره:
-قصدي احنا هنقعد على القهوة، أصل.. في خناقة للركب هناك، العمال ولاد الهرمة ماسكين في بعض، وإنت مش ناقص وجع دماغ.
تساءل الأخير مهتمًا:
-يا ساتر يا رب، طب والحاج "بدير"، و"تميم".

أجابه مبتسمًا وقد استعاد ثباته الانفعالي:
-بيحاولوا يهدوا الدنيا قبل ما توصل للأقسام، بينا يا معلم، أما الدنيا تروق هنروح عندهم.
تنهد معقبًا عليه، وقد ارتضى باقتراحه:
-طيب.
وببضعة جمل منمقة، وكلمات مقتضبة تأكد "محرز" من انطلاء كذبته عليه، واستطاع أن يتحدث معه بأريحية عن كافة الأمور المتعلقة بشأن تجارته السرية، ونجا ببدنه من فضيحة وشيكة، وكُتب لخطته المدروسة بعناية النجاة أيضًا.

انقضت بضعة أيامٍ وحان موعد اللقاء المرتقب بين العائلتين في وقت الظهيرة لشراء المشغولات الذهبية للعروس، رفضت "فيروزة" الذهاب مع توأمتها لانتقاء ما يعجبها حتى لا تتلقى بضعة عبارات غير لطيفة من زوجة خالها أو ظرافة غير مقبولة من شقيقة خطيبها، كانت في غنى عن تلك السخافات غير المرغوبة، فلن تستطيع كبح نفسها من الرد، لذا فضلت البقاء في المنزل والالتهاء بترتيب دولابها حتى يمر اليوم بسلام ..

وأمام تلك الواجهة الزجاجية انعكس الوهج البراق والخاطف للأنظار لتلك السلاسل الذهبية، انفرجت شفتا "حمدية" عن انبهارٍ واضح ونظراتها تجول على كل واحدة من المعروض أمامها بتفرسٍ طامع، سال لعابها وتهدجت أنفاسها مع رؤيتها لواحدة كبيرة حتمًا ستتكلف الكثير، امتلأت عيناها بصورتها الوهاجة، خُيل إليها أنها تقتنيها ويتزين بها عنقها، تلمست ياقة بلوزتها بحركة لا إرادية، بدأت الخيالات تراودها وهي تظن أنها ملكتها، وهتفت بحماسةٍ مضاعفة:
-اختاري دي، حلوة أوي.

على عكسها لم تكن "همسة" منجذبة لبريق الذهب المغري، كانت تنظر بفتورٍ لكل قطعة على حدا، بحثت عن البسيط غير المتكلف، أشارت بيدها نحو واحدة رقيقة تحتل الركن السفلي من الواجهة، وتساءلت بترددٍ:
-إيه رأيك يا مرات خالي؟ دي شكلها أحلى و...

نظرت باستنكارٍ لما اختارته، ولكزتها في جانبها بغيظٍ، فتأوهت من الوجع المباغت، رفعت عينيها لتتطلع إليها في عتابٍ، وقبل أن تعترض على تصرفها العنيف معها، كزت "حمدية" على أسنانها لتهمس لها، وكأنها تحذرها:
-إنتي عبيطة يا بت؟

حملقت فيها مصدومة، في حين واصلت زوجة خالها القول بنفس اللهجة الساخطة:
-عاوزة تختاري حتة بتاعة ماتسواش تلاتة مليم؟ إنتي مِناسبة عيلة ليها شنة ورنة، يعني لازم اللي تختاريه يكون قيم وغالي
ردت محتجة بصوتٍ أقرب للبكاء:
-بس أنا مش عاوزة.
لمحت "حمدية" حماتها وهي تخرج من محل المشغولات، فهمست محذرة:
-اتكتمي دلوقتي وما تفتحيش بؤك بكلمة!

تبخترت "بثينة" في خطواتها، وارتسمت على شفتيها ابتسامة مغترة، وكأنها حقًا تمتلك ذلك المال، ألقت نظرة متأنية على وجه العروس المتجهم، وسألتها في فضولٍ:
-في إيه يا عروسة ابني؟ مبوزة كده ليه؟
وقبل أن تبادر بالرد عليها، تدخلت "حمدية" بشكلٍ سافر في الحوار، وادعت كذبًا:
-زعلانة إن أختها مش معاها، بس هنعمل إيه يا ست "أم هيثم".
زمت شفتيها مُبرطمة، وقد ارتفع حاجبها للأعلى لتبدي اعتراضها:
-هو كل الموجودين دول مش كفاية؟!

وقامت بالتعداد لها مستخدمة يدها في الإشارة:
-ده أنا، وأمها، وخطيبها، وأخته، ده غيرك طبعًا يا ست "حمدية".
ضحكت "حمدية" بسخافةٍ، وردت عليها مُعللة:
-أصلهم توأم، متعودين يعملوا كل حاجة مع بعض!

لوحت بيدها تقول بصراحةٍ:
-إلا في الجواز يا إدلعدي، كل واحدة لصاحب نصيبها، وأنا ابني ربنا بختهاله!
هزت رأسها تؤيدها:
-مظبوط
أطبقت "همسة" على شفتيها في ضيقٍ، لم تحبذ ذلك الأسلوب الرخيص المبتذل في إدارة الحوار، أبعدت وجهها عنها، وعادت لتحدق بحيرة في المشغولات التي تحتل الواجهة وهي عاقدة لساعديها أمام صدرها، رعشة مُربكة انتابتها حين أمسك "هيثم" بذراعها فجأة ليسحب يدها نحوه ويمسك بها، التفتت ناظرة نحوه في توترٍ، ابتسم لها متسائلاً باهتمامٍ:
-ها يا عروسة في حاجة عجبتك هنا؟

بخفةٍ استلت كفها من بين أصابعه، وأوشكت على أن تجيبه لكن دفعة عنيفة نسبيًا من "حمدية" أزاحتها قليلاً من مكانها، نظرت لها شزرًا وقد وقفت في المنتصف بينهما، ثم ضحكت مهللة بحماسٍ مائع أصابها بالنفور:
-طبعًا يا عريس الهنا.
وضع "هيثم" يده على مؤخرة عنقه يفركه وهو ينفخ بانزعاجٍ من أسلوبها المستفز، وتساءل باقتضابٍ:
-إيه هي؟

تصنعت "حمدية" الخجل، وأخفضت من نبرتها لتقول وهي تضع إصبعيها على طرف ذقنها:
-بس هي خايفة متعجبكش
تساءل في فضولٍ ونظراته تدور بحيرةٍ على المعروض:
-وريني كده، فين بالظبط؟

تعلقت "همسة" بذراعها لتمنعها، لكنها نفضت يدها وأشارت بسبابتها نحو تلك القلادة البراقة التي أعجبتها، وتلك النظرة الخبيثة تكسو عينيها، بدا وجه "هيثم" غريبًا، بالطبع لم يكن راضيًا عن اختيارها الذي أوحى بجشعها، ومع ذلك زفر بصوتٍ مسموع، وقال على مضضٍ:
-ماشي.. طالما عجباها هنشتريها.

تفاجأت "حمدية" من موافقته دون جدالٍ، واجتاحتها نشوة عارمة، اعتقدت في نفسها أنه من النوع المغفل الذي يمكن استغلاله واستنزافه بسهولة، اتسعت بسمتها اللئيمة بشكل كبير وهي تمتدحه:
-ابن أكابر بصحيح!

بينما حملقت فيه "همسة" بذهولٍ صادم، لم تشعر بالفرحة لشرائها، تأملت تعابيره الممتعضة، وحركة جسده المتعصبة قليلاً، حينها انتابها هاجس مقلق بأن ما حدث الآن لن يأتي عليها بالخير، انقبض قلبها واختفت ملامح السرور من محياها، وتضرع راجية في نفسها:
-استرها من اللي جاي يا رب.

رمقت "بثينة" الاثنتين بنظرات نارية مغلولة، أدركت من التمثيلية الهزلية المكشوفة أمامها معدن تلك العروس وطينة أهلها، كزت على أسنانها تلعنها في سرها:
-آه يا بنت الطماعة! لأ وعملالي فيها غلبانة وزعلانة على أختك، وحركات قرعة، وإنتي عينك هتطلع على المشاءلله دي..
توحشت نظراتها أكثر وهتفت تتوعدها بحنقٍ كاره بدأ يتكون ضدها:
-بكرة أطلعه على جتتك، هتروحي مني فين...!!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة الثامنة والعشرون بقلم منال سالم


أرهفت أذنيها محاولة التلصص على تلك الأحاديث الهامسة بين خطيبة ابنها وزوجة خالها، لم تكن "بثينة" راضية عما يحدث من همهمات مُثيرة للشك، وما أوغر صدرها هو الطمع البائن عند انتقائها لتلك القلادة اللافتة للأنظار وإصرارها عليها، شعرت بالندم لعدم إظهار اعتراضها، وأدركت أن نظرتها لتلك الفتاة منذ البداية كانت خاطئة، وبنظراتٍ ممتعضة ووجه شبه حانق تحركت عائدة للداخل لتجلس بجوار "آمنة" وهي تبرطم بكلماتٍ ساخطة غير مفهومة، نظرت الأخيرة لحماة ابنتها بتمعنٍ، ولاحظت مدى العبوس الظاهر على تعابيرها، فسألتها بسجيتها:
-مالك يا حاجة "بثينة"؟


 
نظرت لها باستعلاءٍ من طرف عينها قبل أن تجيبها بنبرة موجزة:
-مافيش.
أحست "آمنة" بوجود خطب ما، وتوجست خيفة من احتمالية تصرف ابنتها بثورة غير لائقة مع تلك المرأة مما أزعجها .. تساءلت "خلود" باهتمامٍ:
-ما وقفتيش تتفرجي معاهم على الشبكة ليه يا ماما؟
أدارت رأسها في اتجاهها، وجاوبتها بوجومٍ:
-ماليش مزاج.


 
استشعرت تبدل أحوالها، فمالت عليها تلاحقها بأسئلتها، ولكن بصوتٍ خفيض:
-هي خطيبة "هيثم" عملت حاجة مش عجباكي؟ قالتلك كلمة ضايقتك؟
أجابتها بصوتها المتزمت وهي تلكزها في جانب فخذها:
-بعدين هاقولك، مش وقته!

تفهمت "خلود" رغبة والدتها في عدم الحديث علنًا، وتغيرت نظراتها الودودة نحو تلك العائلة ليظهر الضيق عليها، توترت "آمنة" من الصمت الغريب الذي حل بين ثلاثتهن فجأة، أحست باختفاء البهجة من حولها، وتضرعت خفية ألا يحدث الأسوأ.. ولجت "حمدية" للداخل أولاً وأساريرها منفرجة، وتلك الضحكة العالية لا تبارح شفتيها، انطلقت منها زغرودة فرحة جلجلت في المكان، ثم هتفت صائحة بغبطةٍ عجيبة:
-ماشاءالله حاجة تشرف بصحيح..


 
جلست إلى جوار "آمنة" في المقعد الجلدي الشاغر، وقالت بنبرة ذات مغزى تعمدت أن تكون مسموعة للبقية:
-عملت يا "آمنة" زي ما وصتيني مع "هموسة"، مخلتش في نفسها حاجة وماجبتهاش، وخطيبها اسم الله عليه ماتوصاش، ربنا يحميه لشبابه.
ردت تجاملها بحسن نية:
-كتر خيرك.

احتقنت عينا "بثينة" ونظرت بغلٍ إلى كلتيهما، الآن اكتمل المشهد السخيف بتلك الجملة المفهومة، ظنت أن "آمنة" خدعتها بإدعاء عدم تدخلها في مسألة شراء الشبكة للعروس، واكتفت بالجلوس لتبدو كالحمل الوديع أمامها، وفي الخفاء هي داهية خططت بمكرٍ لتستحوذ على الأغلى سعرًا والأثقل وزنًا، رمقتها بنظرة احتقارية مهينة، كتمت حقدها عليها في نفسها وكزت على أسنانها تقول في غيظٍ لنفسها:
-ده إنتو طلعتوا عقربتين، وحرباية!
لكنها توعدتها بكراهيةٍ تضاعفت فيها:
-بس أنا قادرة عليكم بأمر الله!


 
حانت من حدقتيه نظرة حائرة على باقي المشغولات المعروضة في الواجهة، كانت تضاهي بعضها البعض في بريقها اللامع وأشكالها الجذابة، لكن بقيت تلك القلادة الوحيدة المتفوقة على الجميع، زفيرٌ بطيءٌ خرج من صدره، وقبل أن يعاود أدراجه للداخل، وتحديدًا عند أعتاب الباب أوقفته "همسة" باعتراض طريقه لتقول بترددٍ:
-ممكن أطلب منك طلب صغير؟

تجمد في مكانه وجال بعينيه عليها، كانت تعبيراتها مختلفة، تظهر الحيرة عليها، تعقدت ملامحه، ثم سألها بنبرة اكتسب إيقاعًا خشنًا، وما زال ضيقه معكوسًا عليه:
-أيوه، في حاجة تانية عوزاها؟
ردت بصوتٍ خفيض وهي تتطلع من فوق كتفه للجالسين بالداخل، وكأنها تحاول استباق الأحداث قبل أن يقع الأسوأ:
-لو ينفع نتكلم برا المحل.
ازدردت ريقها، وانتظرت بقلقٍ رده، لوهلةٍ حدق فيها "هيثم" بنظرة مترددة قبل أن يضع قبضته على ذراعها، دفعها منه للأمام وهو يرد مستجيبًا لرغبتها:
-تعالي.


 
وقف كلاهما أمام الواجهة، وظلت نظرات "هيثم" مثبتة على وجه "همسة" التي استجمعت جأشها لتقول دفعة واحدة وهي تفرك أصابها في توترٍ، وكأنها بذلك تتخلص من الثقل الجاثم عليها حتى لا يُساء فهمها:
-أنا عارفة إني اللي هاقوله غريب شوية، بس.. ممكن ترجع السلسلة دي، أنا مش عاوزاها!
تفاجأ من طلبها الصادم، وردد بتلك التعابير المندهشة:
-إيه؟ أرجعها؟

أوضحت له بتهذيبٍ رقيق وهي تلعق شفتيها محاولة السيطرة على تلك الربكة التي انتابتها:
-بص هو ده اختيار مرات خالي، وأنا مردتش أحرجها قصاد مامتك، بس أنا مش كده والله، أصلاً مابحبش لبس الدهب، ومش عاوزة حاجة أوفر، فهستأذنك ترجعها.
ضاقت عيناه في تعجبٍ لم ينكره، وسألها بلمحة سخرية:
-بصراحة أنا مستغربك!


 
تابعت موضحة وقد نكست رأسها في خجلٍ:
-هو أنا بس بتلخبط ومابعرفش اتصرف وقت ما بتحط في الموقف، بس مافيش داعي تشتريها، أرجوك.
كان تصرفها مخالفًا للمعهود في مثل تلك المواقف التي تكشف عن طمع بعض العرائس، أصيب بالدهشة في البداية، لكن تحول ذلك لشعور متعاظم بالسرور، تنحنح بعدها متسائلاً بفضول وهو يتطلع إليها بنظرات متشوقة:
-يعني مافيش حاجة عجبتك نهائي هنا؟

عفويًا انخفضت عيناها على تلك السلسلة الرقيقة التي تتزين بزهرة اللوتس، وأشارت نحوها بيدها قبل أن تجيبه:
-دي كانت عجبتني في الأول.
عمق من نظراته نحو اختيارها البسيط، ثم عاد ليحدق بها وهو لا يزال مندهشًا، ثم ابتسم متسائلاً:
-بس؟
أومأت برأسها بالإيجاب، وقد لاح على شفتيها بسمة ناعمة:
-أه.
فرك رأسه بيده، وتابع باقتضابٍ:
-ماشي يا ستي
امتدت يدها تلقائيًا لتمسك به، وسألته بتلهفٍ:
-هترجع السلسلة؟

أخفض نظراته ليتأمل يدها الموضوعة عليه، لم تكن كعادتها ترتعش حين يلامسها، أو حتى تنفر منه، بل بدت أكثر ألفة معه، تحرجت من جراءتها غير المقصودة، وسحبت يدها على الفور، بقيت أنظاره عليها، وابتسم يُجاوبها بغموضٍ:
-ربنا يسهل.
عضت على شفتها السفلى في استحياءٍ، وهمَّت بالتحرك لولا أن سمعت الصوت الرجولي المنادي عاليًا بفظاظةٍ:
-أبو عمو!

التفتت لجانبها لتجد أحدهم يعبر الطريق ركضًا وهو يشير بيده لقائدي السيارات حتى يبطئوا من سرعتهم، بدت علامات الدهشة واضحة على "هيثم"، وردد وهو يسير ناحيته:
-"نوح"
احتضنه الأخير وصافحه بحرارةٍ، لم يكن قد التقاه منذ السهرة الأخيرة قبل إعلان خطبته، سأله بنبرة مهتمة وعيناه تتطلعان إلى "همسة"، وكأنها تتفحصها تحت المجهر لتقومها:
-إيه يا عمنا، فينك؟ مش باين ليه؟

رأى "هيثم" نظراته الجريئة نحوها، فجذبه بعيدًا عنها، وسأله بما يشبه الانزعاج:
-بتعمل إيه هنا؟
أجابه مبتسمًا بطريقة لا تبعث على الارتياح:
-ورايا كام حاجة بأخلصها هنا، إنت اللي فينك؟
رد بضيقٍ:
-مشغول شوية.
غمز له متسائلاً بعبثية:
-أها.. مع نسايبك الجداد؟

تصاعد ضيقه وهو يرد:
-أيوه.
أخفض رأسه ليبدو قريبًا من أذنه حين سأله في لؤمٍ:
-دي العروسة؟
رد عليه بصعوبةٍ، وكأن الكلمات تأبى الخروج من جوفه:
-أه.. هي.
نظرة جرئية نفذت منه إلى "همسة" تبعها بقوله الوقح:
-تصدق.. مكنة بصحيح!

لم يقبل بأي شكلٍ جملته المتجاوزة في وصف خطيبته، هاجت دمائه، واندفع غضبه مجتاحًا وجدانه، فانقض عليه، ودفعه خطوتين للخلف، ثم جذبه من ياقته وتوحشت نظراته نحوه وهو يوبخه بقسوةٍ:
-ما تحترم نفسك، دي هتبقى مراتي!!

تصنع الابتسام، وقال مُطلفًا حتى لا يصب جام غضبه عليه أو ينفجر فيه بفعل حميته الذكورية:
-لا مؤاخذة، هنيالك يا سيدي، وعقبالنا.
رمقه بنظرة نارية قبل أن يسأله بتجهمٍ مُضاعف:
-عاوز حاجة تاني؟
رد متسائلاً ببرودٍ:
-مش هاشوفك ولا إيه؟

علق باقتضابٍ:
-أما أشوف ظروفي.
أصر عليه قائلاً بنبرة مُلحة:
-يا عم تعالى عندي بالليل كده نشوف مزاجنا، ونرجع ليا لي زمان قبل ما تدخل القفص برجليك..
ثم أخفض نبرته ليتابع ممازحًا:
-بعد كده هتتنشق على سهرة من دول.

نفخ مرددًا في سأم:
-ربك يسهلها، يالا من هنا.
غمز له بطرف عينه وهو يكمل:
-ماشي يا عم.. وماتنسانيش في الليلة الكبيرة.
-إن شاء الله.

قالها وهو يدفعه عنوةٍ من كتفه ليزحزحه من مكانه حتى يبتعد ويتمكن من الانفراد بخطيبته وتبادل الحديث اللطيف معها بأريحية، لكن لظرافة "نوح" الزائدة ونظراته غير البريئة التي تجوب عليها بشكل جعل بدنها يقشر، تحرجت "همسة" من الوقوف بلا حول أو قوة، انسحبت في صمتٍ لتعود إلى الداخل وتتخذ مكانها بجوار والدتها وزوجة خالها. لعن "هيثم" مجيء رفيقه الذي أفسد عليه الفرصة، أطلق بعض اللعنات والسباب الخافت وهو يدور حول نفسه ليجعل دمائه الهائجة تحط، بقي للحظة بجوار الواجهة، لكنه استغل وقته وألقى من جديد نظرة متأنية على السلسلة، دار في خلده أن تكون تلك هديته الخاصة لها، لهذا عقد النية على شرائها لها من ماله الخاص الذي كسبه بكده، وليس من النقود التي منحها له زوج خالته "بدير"، أشعرته تلك الفكرة بالرضا، وشرع في تنفيذها دون أدنى ذرة ندم.

كانت شرارات الغضب تنطلق من عينيها وإن كانت صامتة، فابنها بغبائه الواضح قد ابتاع لتلك الجشعة قطعة أخرى من الذهب بالإضافة للقلادة وخواتم الخطبة وأيضًا سوار عريض، بذلت "بثينة" مجهودًا مُضنيًا حتى لا يظهر حقدها المختلط بحنقها أمامهم، انتظرت انصراف الثلاثة، وأمسكت بتلابيب ابنها توبخه في الشارع بنبرتها المنفعلة:
-كل ده دهب جايبوه للمعدولة؟ إيييه؟ هو مال سايب؟
هتف "هيثم" معترضًا على ما تتفوه به وقد انتزع قبضتيها عنه:
-في إيه يامه، ده بدل ما تقوليلي مبروك؟
تفشت فيها حمى الغضب، وصاحت في تهكمٍ وهي تشيح بيدها لتضعها على جبينها في تعبير مستهجن:
-مبروك على إيه يا إدلعدي؟ ده القرشين اللي جوز خالتك ادهوملنا طاروا في لحظة!
حاولت "خلود" تهدئة والدتها المتعصبة، وقالت بحذرٍ:
-فلوس ومتشالة لوقت عوزة، ماضعوش يعني.

استدارت نحوها محتجة عليها:
-إنتي هيخيل عليكي الحركات دي؟ ده كُهن بنات! الفلوس راحت واللي كان كان
ثم عادت لتنظر إلى ابنها، وزجرته بحدةٍ:
-البت وأمها فضلوا يدحلبوا عليك ونفضوك في تكة
تدخل "هيثم" ليدافع عنهما، فاستطرد محاولاً توضيح الحقيقة لها:
-لأ يامه إنتي غلطانة، "همسة" مكانتش موافقة، و....

قاطعته بصوتٍ أقرب للصراخ وقد اختلج وجهها حمرة غاضبة للغاية:
-إنت هتدافع عنها كمان؟! عشنا وشوفنا، بنت امبارح بقى ليها قيمة عن أمك.
نظر "هيثم" في يأس لوجه والدته الغائم قبل أن يسير مبتعدًا وهو يلوح بيده لأحد سائقي الأجرة، صاحت من خلفه "بثينة" تناديه بصوتها المحموم:
-إنت رايح فين؟ استنى هنا أنا بأكلمك.

أجابها وهو يستقل السيارة:
-مش طالبة معايا عكننة، خليني أشوف شغلي، سلام يامه.
ضربت على جانبها بيدها في عصبيةٍ، وتمتمت قائلة بنبرتها المليئة بالغل:
-ماشي يا ابن "غريب"، مسيرك ترجعلي وأفوقك.
وضعت "خلود" يدها على كتف أمها، وتوسلتها:
-اهدي يامه، أعصابك، إنتي ضغطك كده هيعلى.

ردت بأنفاسٍ غاضبة:
-حرقت دمي، لأ والولية مرات خالها واقفة تتشرط وتتنى وتتفرد تقولش شبكتها، عيلة جعانة مشافتش دهب قبل كده!
تفلتت ابنتها حولها في حرجٍ وقد رأت أنظار المارة ترتكز عليهما، أحاطت والدتها من كتفيها، ورجتها بشدةٍ:
-طب بينا على البيت، الناس بتتفرج علينا.
نفضت يدها عنها وهي ترد بعصبيةٍ تزداد حدة كل لحظة:
-اوعي بس ماتمسكنيش!
ردت بهدوءٍ وهي تستدرجها نحو الشارع لتوقف إحدى سيارات الأجرة لكلتيهما:
-حاضر، بس تعالي معايا.

سرى تأثير ذلك المشروب المُسكر في أوصاله، منحه دفئًا عجيبًا وحرارة لا بأس بها جعلته يخلع سترته الثقيلة ويغوص بجسده المتعرق في الأريكة، بدأ عقله الواعي في الانسحاب لتحل تلك الهلاوس اللحظية وتملأ فراغات مخيلته، وليبدو التأثير الوهمي بسعادة تفوق الخيال أكثر فاعلية عليه أعطاه رفيق السوء مخدر الحشيش، اكتمل إحساس النشوة المزيف، وتضاعفت الخيالات الجامحة، أسلم "هيثم" نفسه لصديقه وترك له عقله يفسده كيفما يشاء، وأبدع الأخير في سهرته الماجنة تاركًا الخمر يعبث برأسه، فبدا في حالة ما بين الوعي والهذيان، وباح بسهولة بعلاقته بخطيبته الخجولة .. تساءل "نوح" مستوضحًا بلسانٍ ثقيل:
-وجبتلها السلسلة يا مغفل من غير ما تاخد منها حاجة؟

هز رأسه يجيبه:
-أه، عملت حركة جدعنة، وأمي كانت هتطق مني.
ضحك "نوح" مستهزئًا به:
-وإنت فييس الصراحة!
انطلقت من "هيثم" ضحكة غير طبيعية، ورد ساخرًا هو الآخر:
-هي كانت فلوس أبويا.
ثم انطفأت ضحكته وساد الوجوم على تعابيره عندما واصل القول:
-إياكش تحن عليا بدل ما هي منشفاها معايا.

رد "نوح" مستنكرًا بنفس النبرة المتلعثمة لتظهر صعوبته في الكلام:
-كمان.. منشفاها؟
قال بعبوسٍ:
-شوفت يا سيدي.
مال نحوه ليلكزه في ساقه بقدمه ليهتز جسده المتهالك، وأضاف مستخفًا به:
-ولا تلاقيك مش عارف تجيب معاها سكة، شكلك هتطلع بؤ في الآخر وتفضحنا.

هتف محتجًا وهو يعتدل في رقدته:
-لأ أنا راجل غصب عن عين الكل!
استحثه بخبثٍ يُشبه فحيح الأفعى:
-بؤ.. وريها هي مش أنا! عرفها إنك راجل!
عبث في رأسه بكلماته الموحية مُزينًا له سوء عمله، وبغباءٍ محكم انساق "هيثم" وراء ضلالاته الخداعة، فنهض وهو يترنح بجسده ليقول:
-هاتشوف هاعمل إيه.

شجعه ببسمته الشيطانية:
-وريها يا أبو المعلمين!
انحنى "هيثم" ليجمع سترته التي ألقاها أسفل قدميه حين تمدد على الأريكة، وضعها على كتفه بإهمالٍ، وسار بغير اتزانٍ قاصدًا الذهاب لبيتها في تلك الساعة المتأخرة من الليل وتلك الرغبة الغريزية تتأجج بداخله وتستعر بشدة كأنها تريد التهامه.

فردت السلسلة الرقيقة على كفها ورفعته أمام عينيها لتتأملها عن قربٍ وهي تستلقي على الفراش، فتلألأت بوهجها البراق في انعكاس حدقتيها، سعادة غريبة تخللت إليها وهي تتذكر موقفه معها ملبيًا لرغبتها، ظلت "همسة" تبتسم طوال اليوم كتعبير عن فرحتها بهديته التي فاقت في قيمتها ثمن القلادة الأخرى، تعجبت "فيروزة" من حالة الوَلَه البائنة على خلجات توأمتها، تثاءبت وهي تتقلب على جانبها قبل أن تقول لها:
-يا بنتي ماشبعتيش بص عليها؟!

ردت بتنهيدة بطيئة وهي تستعيد في ذاكرتها مشهد شرائه لها ووضعها في علبة منفصلة:
-أصلي مبسوطة بيها يا "فيرو".
رفعت "فيروزة" رأسها قليلاً وأدارتها في اتجاهها نصف استدارة، وجدتها ساهمة، تعيش في حالة من الهيام الغريب، هزت رأسها بعدم تصديقٍ، ثم قالت بلهجة آمرة:
-طب اطفي النور، عاوزة أنام، الفجر قرب يأذن.

نفخت في استياءٍ منها، وقالت بتذمرٍ:
-ياباي عليكي، بتبوظي الجو الشاعري اللي أنا فيه
ردت وهي تلقي الغطاء على رأسها لتغطيه:
-معلش، أنا ماليش في حركات الحبيبة دي
نهضت "همسة" عن الفراش وهي لا تزال ممسكة بالسلسلة في يدها، وضعتها في جيب منامتها، وقالت بصوتٍ تبدل للجدية:
-أنا رايحة أتوضى للفجر.
هتفت لها من أسفل الغطاء:
-ادعيلي.

تركتها في الغرفة وتوجهت للحمام لتستعد لصلاة الفجر، لكن وصل إلى مسامعها أثناء سيرها المتباطئ في الردهة -وخلال ذلك الهدوء المتزامن مع توقيت الليل المتأخر- تلك الجلبة الخفيفة، ارتعش بدنها، وخفق قلبها خوفًا، تلفتت "همسة" حولها في ذعرٍ، في البداية اعتقدت أنها حركة سخيفة من توأمتها لإرعابها، عادت إليها فوجدتها نائمة على الفراش، سألتها بصوتٍ متلعثم:
-"فيروزة" هو إنتي صاحية؟

لم تجبها، دنت منها لتزيح الغطاء عن رأسها المخبأ، فوجدتها تعنفها:
-يا بنتي إنتي متسلطة عليا، خليني أنام
همست لها بارتعابٍ:
-أصل في دوشة برا وأنا خايفة
ردت غير مبالية وهي تدفن رأسها في الوسادة:
-تلاقي في فار في المنور ولا حاجة.
أضافت عليها:
-ما جايز يكون حرامي.

قالت ساخرة وهي تبتسم قليلاً:
-هيسرقنا مننا إيه؟ ده احنا ممكن نصعب عليه
ولكي تبدد الخوف من قلبها، تابعت بثقة وببسالة منقطعة النظير:
-اجمدي إنتي بس شوية، ولو في حاجة ناديني، وأنا هاطبق في زومارة رقبته الحرامي ده اللي أمه داعية عليه يوقع في سكتي.
بدا ما قالته منطقيًا وباعثًا على الراحة، نفضت عن رأسها مخاوفها الوهمية، وتحركت نحو باب الغرفة، وقبل أن تطأ خارجها، نطقت توصيها:
-طب ماتناميش.
أغمضت "فيروزة" عينيها قائلة بنبرتها التي مالت للنعاس:
-حاضر.

تحركت "همسة" بتمهلٍ حذر تلك المرة نحو الخارج، أرهفت السمع من جديد وخفقات قلبها تتصاعد رهبةً، ما زالت الجلبة تصدر بقوةٍ، بدت وكأنها تقترب من باب المنزل، انتفضت كليًا فجأة وكتمت شهقة صارخة بيديها حين سمعت النقرات عليه، تجمدت في مكانها عاجزة عن الحركة، حتى صوتها انحشر في جوفها، لكن النبرة المألوفة المنادية باسمها خففت قليلاً من حدة خوفها، رجفة أخرى قوية نالت من جسدها وقد تكرر النداء بشكلٍ مريب:
-افتحي يا عروسة، افتحي يا "همسة"!

اقتربت بقدمين مرتعشتين من الباب، ودون أن تنظر من العين السحرية تساءلت بتلقائية:
-مين؟
تداركت نفسها، وشبت على قدميها لتنظر من خلالها، تفاجأت بوجود "هيثم" أمام أعتاب منزلها، شحبت بشرتها، وشُل تفكيرها لحظيًا، حاولت أن تتغلب على خوفها، وتساءلت بصوتها المرتجف:
-إنت جاي ليه السعادي يا "هيثم"
رد عليها يأمرها بصوتٍ خشن ثقيل، وغير طبيعي وهو يطرق بعنفٍ على الباب:
-افتحيلي، أنا مش هامشي قبل ما تسمعيني الأول.

خشيت "همسة" من تسببه في فضيحة دون داعٍ، تصرفت بغباءٍ وفتحت الباب له لتسأله بوجهٍ متوترٍ:
-في إيه
أجابها بأنفاسٍ كريهة وهو يترنح في وقفته أمامها:
-عاوزك يا حلوة.
وصلت رائحة أنفاسه المنفرة إلى أنفها فأصابتها بالغثيان، وضعت يدها على فمها، وسألته باشمئزازٍ:
-إنت شارب؟

لم تكن بحاجة لسماع الإجابة منه، فمظهره يؤكد لها ذلك؛ عينان مشبعتان بحمرة غريبة، وقفة غير متزنة، وحركات متشنجة لا تبشر بخير .. تصلبت في فزعٍ وقد أمسك بها من ذراعيها بقبضتيه ليجذبها نحوه وهو يقول:
-إنتي مش بتحبيني؟ ده أنا هابقى جوزك.

ألقى "هيثم" بثقل جسده عليها محاولاً الالتصاق بها واحتضانها بالإجبار، قاومته رغم حالة الذعر المسيطرة عليه لتتحرر منه، وأبعدت رأسها عن رأسه الذي يدنو منها بشكلٍ مقزز، وكأنه يريد تقبيلها بالإكراه، ثم هتفت فيه بصوتٍ خفيض لكنه صارم ومهدد:
-اِبعد عني! بدل ما أصوت وأفضحك!

ضاعف رفضها لتودده المقيت من رغبته الحيوانية الجائعة في النيل منها، جذبها بكامل قوته إلى خارج المنزل وهو يكمم فمها ليشعر بحرارة أنفاسها المكتومة على يده مما استثاره أكثر، ألصق ظهرها بالحائط وحاصرها، نظر لها بعينين دمويتين وبشكلٍ أرعبها، ودون إنذارٍ أبعد يده عن فمها وهجم عليها مطبقًا بشفتيه على خاصتها ليحصل منها على قبلة عنيفة أصابتها بمزيد من التقزز والغثيان...،

تراجع ليتلقط أنفاسه وحالته قد ازدادت سوءًا، سيطرت عليه لوسة عجيبة تطالبه بالمزيد من الأفعال المشينة، تلمس جسدها بقوة جعلتها تقشعر وتصرخ، صفعته بألم على وجهه عله يفيق، ترنح "هيثم" من أثر الصفعة، نجحت "همسة" رغم صدمتها من بشاعة تصرفه الدنيء في دفعه بعيدًا عنها من صدره، وقبل أن يتصرف بتهورٍ ويستبيح لنفسه الأمارة بالسوء المزيد من دناءة أخلاقه كانت "فيروزة" تندفع نحوه بكل غضبها المشحون لتبعده عن توأمتها صارخة فيه:
-ابعد عنها يا واطي!

نجدتها من براثنه، واستخدمت عصا المقشة في ضربه على ظهره ودفعه نحو الدرج، تدحرج الأخير عليه متألمًا وقد تفاجأ بقساوة الضربات، طُرح أرضًا شبه فاقد للوعي وهو يهذي بكلماتٍ غير مفهومة، لم تتوقف عند ذلك الحد، هاجمته بشراسةٍ وضربته في أجزاءٍ متفرقة من جسده بالعصا مفرغة فيه ما يعتريها من مشاعر عدائية نحو تلك النوعية من أقذار البشر، رفعت رأسها وبصقت عليه وهي تلعنه بصوتها اللاهث من فرط انفعالها:
-بتتهجم علينا في نص الليل، أنا هوديك في داهية!

تحول صوت صراخها إلى بوقٍ أوقظ جميع من في البيت، اندفع خالها على الدرج بثياب نومه لينظر إلى ما حدث، وهتف مصعوقًا:
-في إيه اللي بيحصل هنا؟
في حين وقفت "حمدية" في مكانها تشرأب بعنقها محاولة رؤية ما يدور دون أن تتدخل، بينما خرجت "آمنة" من منزلها على صوت الصراخ والسباب، شهقت حين رأت ابنتها ترتجف وتبكي في حرقة، احتضنتها ومسحت على وجهها بيدها متسائلة في لوعة:
-مالك يا "همسة"؟ جرالك إيه؟

لم تستطع تبين ما حدث، بالكاد حاولت إمساك ابنتها التي خارت قواها .. ألقت "فيروزة" بالعصا وأشارت بإصبعها نحو "هيثم" تسرد ما حدث:
-الكلب ده جايلنا شارب وبيتهجم على أختي
نظر "خليل" مصدومًا إليه، وتحولت عيناه إلى ابنة أخته المنهارة، وقال مذهولاً:
-إيه؟ اتجنن ده في عقله ولا إيه؟
ردت عليه "فيروزة" تتوعده بكرهٍ بغيض:
-وأنا مش هاسيبه، وهاجيبله البوليس!
التقطت أنفاسها وتابعت:
-اللي زي ده مايتأمنش عليه معها!

رد عليها "هيثم" بصوته الثقيل غير الواضح، وخيوط الدماء تنزف من رأسه:
-أنا عاوز "همسة"، دي.. هتبقى مراتي..
صرخت فيه مهددة ومنهية لأحلام يقظته:
-في المشمش، الخطوبة اتفركشت، واستعد للسجن!
ثم التفتت نحو خالها لتخبره:
-أنا هاطلب البوليس، و....

حملق فيها "خليل" بعينين متسعتين في صدمة، انقض عليها ليمسكها من ذراعها، وسحبها بعيدًا عن الدرج وهو يقاطعها بتوترٍ:
-اهدي بس خلينا نفكر، مش عاوزين فضايح.
عاجلته صائحة باستنكارٍ:
-الفضايح ليه هو مش احنا!

ازدرد ريقه وحاول أن يمتص غضبها بتعقلٍ حتى لا تنفذ ما تريده، وقال بلهجة مغايرة للهجة العدائية المفترض أن يكون عليها:
-أنا هاتصرف، خلينا بس نهدى الأول.
هتفت "فيروزة" بتشنجٍ ونظراتها تلوم خالها الذي اتخذ موقفًا غير مفهومٍ:
-نهدى؟ بأقولك كان بيتهجم عليها!

أعملت "حمدية" عقلها الداهية سريعًا، وبدأت في احتساب توابع إنهاء الخطبة بتلك الصورة المهينة، حتمًا لن تكون النتيجة مرضية لأي طرفٍ، ليس بالتسبب في الفضائح فقط، ولكن بتحطيم أحلام زوجها في امتلاك المحل الجديد، وتدمير أطماعها في شراء الثمين من الذهب، توهجت نظراتها بوميضٍ مرتعد، واعتصرت عقلها لتفكر في حجة تنجيها من تلك الخسارة الحتمية. وكالشيطان الخبيث وجدت السبيل لإثارة الشكوك، فهتفت بنزقٍ محاولة تشويش عقل زوجها، وتلك النظرة الغريبة تطل من عينيها:
-وهي فتحتله ليه السعادي؟ مش جايز متفقة معاه واحنا منعرفش ونايمين على ودنا؟

تعمدت طعنها مباشرة في شرفها لتتحول بين لحظة وأخرى إلى مُدانة لا مجني عليها، هتفت "همسة" تنفي تلك التهمة الباطلة عنها وهي تبكي في حرقة:
-محصلش والله، أنا كنت مع "فيروزة".
زمت شفتيها مرددة ببرودٍ مريب:
-واحنا المفروض نصدقك كده؟!
هدرت بها "آمنة" تحذرها:
-قصدك إيه يا "حمدية"؟ أنا بنتي متربية كويس، الدور والباقي على السكران ده.

علقت عليها بنبرة جافة لتنزع منها ثقتها:
-أنا عارفة، بس لسان الناس محدش بيسلم منه! والله أعلم بالنوايا!
نظر "خليل" إلى الاثنتين بنظرات غامضة غير مفهومة، وقال وهو يبلع ريقه:
-أنا هاتصرف، خشوا جوا دلوقتي.

حدقت فيه "فيروزة" بفمٍ مفتوح، وقد باتت شبه متأكدة أنه سينساق كالأعمى خلف زوجته التي على ما يبدو نجحت في إرباكه بالإدعاء كذبًا على توأمتها، وقبل أن تهاجم معترضة صرخ بها "خليل" يأمرها من جديد بلهجةٍ متصلبة:
-خشي يا "فيروزة" واقفلي الباب، يالا!

جاهرت بنيتها المحسومة مسبقًا، وردت عليه تتعهد له بعينين تقدحان بالغضب الشديد:
-ماشي، بس لو إنت سكت، فأنا لأ!
تطلع إليها في صمتٍ وهو لا يزال في حيرة من أمره، تركته في مكانه ولحقت بتوأمتها ووالدتها صافقة الباب بعنفٍ، في حين ثبت "خليل" نظراته على "هيثم" الذي قال بوهنٍ:
-أنا .. هاتجوزها .. دي.. خطيبتي
نظر له باشمئزازٍ قبل أن يقول:
-اتنيل، فضحتنا، مستعجل على إيه؟!

لم يعرف "خليل" كيف يتصرف معه وهو في تلك الحالة من الإعياء الشديد، واللا وعي .. كان يقف مكتوف الأيدي عاجزًا عن حسم أمره؛ فأحلامه الطامعة في كفة، وحق ابنة شقيقته في الكفة الأخرى، لكنه لا يدرك أي كفة سترجح في النهاية! رفع رأسه للأعلى ليجد زوجته تشير له بعينيها، وكأنها تُريد إطلاعه على شيء ما، همست له:
-اطلع عاوزاك حالاً، أنا عندي الحل.

لم تترك له المجال للجدال معها، كان أمرها نافذًا، وربما كان يبحث عن فرصة للتفكير بتروي حتى لا يضحي بكل شيء في لحظة طيش..
لم يعلم بمراقبة "فيروزة" له من العين السحرية للباب، ومع انسحابه أدركت أنه سيخذلها كعادته ولن يتخذ أي موقف سوى ما تمليه عليه زوجته الأفعى، أحست بوخز يضرب كامل جسدها من شدة غيظها، وهتفت تقول لنفسها:
-ماشي يا خالي، مش هاسكت المرادي حتى لو فيها موتي.

كالسهم المارق اتخذت مع سطوع شمس النهار طريقها للدكان، لم تنسَ أن تأتي معها بما أحضره ذلك الوقح من هدايا غالية وزهيدة، وبوجهٍ حانقٍ وعينان لم تتذوقا طعم النوم بحثت عن الحاج "بدير"، لن تتحدث مع أحد سواه، لتنهي معه الأمر خاصة بعد أن رأت خالها يتسلل خلسة بصحبة "هيثم" وهو يسنده ليبعده عن المنزل ليعلن بذلك ولو ضمنيًا عن اغتيال حقها في معاقبته، توقفت في مكانها لتلتقط أنفاسها، وجالت بنظراتها على المتواجدين بالمكان الذي بدا مزدحمًا رغم تلك الساعة المبكرة، وجدته جالسًا أمام دكانه يرتشف قهوته، انتصبت هامتها، وهدرت عاليًا بصدرٍ متهدج وهي تندفع صوبه:
-يا حاج "بدير"!

انتبه لها وترك فنجانه ليدير رأسه ناحيتها بتوجسٍ، حملق فيها باستغرابٍ وسألها:
-خير يا بنتي؟
وبعصبية مفرطة وضعت متعلقات "هيثم" على طاولته الصغيرة وهي تقول بتشنجٍ:
-قول لقريبك المحشش معندناش بنات للجواز.
حدق فيها مصدومًا لوهلة، حاول أن يستوضح الأمر، وسألها بتريثٍ:
-فهميني في إيه بس؟

نظرت له شزرًا قبل أن تجيبه بوجه مشدودٍ أظهر نفورها:
-اسأله الكلب الجبان ده! ناقص تربية صحيح!
استشعر "بدير" خطورة الموقف، وهتف متسائلاً في قلقٍ:
-عمل إيه؟ كلميني دوغري
ردت بغموضٍ لاعنة "هيثم" وتلك النظرة المشمئزة تعلو محياها:
-هو عارف.. ابقى اسأله ال.... ده لما يفوق من اللي بلبعه!
لعبت الهواجس برأس "بدير"، وتطلع إليها في حيرة، لكنها لم ترحه وتابعت محذرة وهي تشير بيدها:
-بس يا ريت تقوله لو فكر يقرب من أختي أو يلمسها هاقتله!

لم تلاحظ "فيروزة" في ذروة غضبها زوج الأعين الحانق الذي لمحها منذ أن اقتحمت المكان، اندهش من وجودها، بالطبع ليست من النوع الاجتماعي لتقوم بزيارة ودية، تخلى "تميم" عن عمله ليدنو بحذرٍ منها، لم يقصد التلصص عليها، لكن صوتها الجهوري الغاضب كان كفيلاً باستدعاء المارة من ناصية الشارع، راقب وسمع كل كلمة أخبرت بها والده، صعد الدم إلى رأسه كالبركان الثائر وقد خمن ما ترمي إليه من كلمات موحية استطاع ببساطة أن يفسرها، هاجت عروقه بما اعتراها من ثورة محمومة، كور قبضته ضاغطًا بعنفٍ على أصابعه حتى ابيضت مفاصله من شدة غضبه، انتظرها على أعصاب محترقة حتى انصرفت ليقول بصوتٍ غائم لا ينم عن خيرٍ:
-أنا رايح مشوار يابا وجاي!

-يا ساتر يا رب، هو في إيه؟
تساءلت "بثينة" بتلك العبارة في جزعٍ وهي تسرع من خطواتها لتفتح باب المنزلها الذي كاد أن ينهار من عنف الدقات المتتالية عليه، فركت جفنيها بيديها وهي تسد المدخل بجسدها الممتلئ، نظرة استنكار غطت وجهها وقد رأت "تميم" أمامها، عنفته بشفاه مقلوبة ونظرات استهجان:
-إيه الهبد ده على الصبح؟ ما تخبط زي الناس العاقلة؟

التزم الصمت ورمقها بنظرة مليئة بالشر قبل أن يُنحيها عنوة للجانب من كتفها ليمرق إلى الداخل، لاحقته بخطواتٍ متعجلة وهي تلح عليه:
-في إيه يا "تميم"؟ إنت جاي تهد البيت علينا، ما تعبر خالتك وتقولي في إيه!

اقتحم دون مقدماتٍ غرفة "هيثم" ليجده مسجى على الفراش ورائحة كريهة نفاذة تعبق المكان، نظرت له في ضيقٍ، واستطردت توضح له من تلقاء نفسها:
-لو جاي له عشان تصحيه يروح الشغل فاعتبره النهاردة أجازة، أديك شايف رجعلي وش الفجر في الحالة دي مع خال خطيبته، أنا عارفة كان بيعمل إيه معاه!
بسذاجتها وفرت عليه الكثير، حيث تأكد من صحة ما قالته "فيروزة" دون الحاجة لسؤاله، استثيرت حميته أكثر، ورد عليها بصوتٍ قاتم أرجف بدنها:
-لا معلش، أنا هافوقه بمعرفتي.

ثم طردها بوقاحةٍ من الغرفة دافعًا إياها نحو الخارج غير مكترثٍ بتساؤلاتها الفضولية ليوصد الباب خلفه، دقت عليه تناديه في لوعةٍ لكنه تجاهلها .. وبكل ما يعتريه من مشاعر عدائية وعنف لا مثيل له انقض "تميم" على "هيثم" يسحبه من على الفراش ليسقطه أرضًا، تأوه الأخير من الألم المفاجئ الذي انتشر في كامل جسده وهو لم يشفَ بعد من آثار اعتداء الليلة الماضية، تساءل بنصف وعيٍ:
-في إيه "تميم"؟

رد عليه بصوتٍ مخيف نابع من أعماقه المهتاجة:
-لو فاكر إن اللي عملته كده هيعدي من غير ما تتحاسب تبقى غلطان
زحف "هيثم" بظهره للخلف ونظراته المتوترة مسلطة على ابن خالته، ازدرد ريقه وسأله بصوتٍ مرتبك:
-إنت بتكلم عن.. إيه؟
أجابه بسباب نابي ودون مراوغة:
-عن ليلة امبارح.. يا ............ !!!
اتسعت عيناه الحمراوتان في خوفٍ وقد فطن إلى ما يقصده، وقبل أن يبرر.

وفجأة هجم عليه بشراسة ليفتك به، جثا فوقه وشل حركته دون مجهود أو مقاومة تذكر، نال "هيثم"ما يستحقه من لكمات عنيفة عرفت الطريق إلى وجهه فأكسبت بشرته لونًا دمويًا، وحصل باقي جسده على ضربات موجعة جعلته يصرخ معتذرًا ومستغيثًا، لم ينجده أحد من بين يديه، أذاقه ألوانًا مختلفة من الألم ليعي الدرس جيدًا، انتهى منه "تميم"، ونهض عنه لينفض دمائه التي علقت في أصابعه بتقززٍ، اعتدل في وقفته وبصق عليه، ثم هدر به منذرًا إياه مباشرة:
-دي قرصة ودن ليك، سامعني؟

بكى "هيثم" من الألم المبرح وهز رأسه في إذعانٍ عله يرحمه، بينما تابع "تميم" تهديده القاسي بصوته الجهوري المرعب دون أن يرتد له طرف ليصبح كلامه نافذًا كالخنجر المسنون على عنقه فقط إن تجرأ وخالفه:
-لو اتكرر تاني اللي عملته .. هنسى القرابة اللي بينا...!!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة التاسعة والعشرون بقلم منال سالم


خُيل إليه أنه سمع صوت تكسر عظامه مع كل ضربة عنيفة تلقاها منه، وكان يستحقها بالفعل لأنه ارتكب فعلاً مشينًا في حق تلك المسكينة، وربما فعل الأسوأ بسبب حالة الهذيان المزرية التي سيطرت عليه، عاد إلى وعيه وانتحب وهو يزحف للخلف ليستند بظهره على الكومود، تطلع إليه "تميم" بنظرات احتقارية، وحذره من جديد بصوته القاتم:
-إياك تفكر تتعرضلها، سامعني!


 
هز رأسه وقال بندمٍ واضح عليه وهو يمسح بظهر كفه الدماء التي أغرقت فكه:
-ماشي.. دي ساعة شيطان، مش هيحصل تاني!
سدد له نظرة مهينة والتفت ليفتح الباب الذي أوصده من الداخل لتدفعه "بثينة" وهي تصرخ به في جنون:
-عملت إيه في ابني يا "تميم"؟


 
بحثت بعينين مرتاعتين عن ابنها فوجدته مُلقى على الأرض في حالة يرثى لها، شهقت لاطمة على صدرها، ونحته للجانب لتجثو على ركبتيها إلى جواره وهي تنوح عليه:
-حبيبي يا "هيثم"؟ إيه اللي جرالك
ثم رفعت عينيها المحتقنتين وصرخت في "تميم":
-كنت هتموت ابني ليه؟
أجابها بجمودٍ:
-بأربيه!


 
ارتفعت نبرة صراخها قائلة:
-حرام عليك يا مفتري، هو بقى فيه حيل
رد عليها "هيثم" بصوته الواهن وهو يحاول النهوض:
-خلاص يامه.
نظرت له باندهاشٍ وشكوكها تتصاعد، أخبرها حدسها الأنثوي بوجود شيء ما خطير يُخفيه عنها، فسألته مباشرة:
-إيه اللي حصل عشان يبهدلك كده؟

تطلع إليها في صمتٍ قبل أن يتدلى رأسه على عنقه كتعبير عن شعوره بالخجل، هزته من كتفه مُعاودة تكرار سؤالها:
-يا ابني انطق، متخافش منه!
ابتسم "تميم" في سخرية، وكأنها ألقت دعابة طريفة عليه، استطاعت أذناه أن تلتقط قرع الجرس، فاتجه إلى الخارج وصوت خالته يلعنه من الخلف، لكنه لم يكترث بها، فتح الباب فتفاجأ بوجود أبيه، نظر له مليًا وقد أردف موضحًا:
-اطمن يابا، أنا عملت الواجب وزيادة.


 
هز رأسه في استحسانٍ، وعقب عليه:
-كويس.. بس أنا ليا لي كلمتين معاه.
قال في سخرية:
-ده لو قدر يقف على حيله!
اصطحب "تميم" والده إلى غرفة "هيثم" حيث نهض الأخير بصعوبة ليقف على قدميه، نظرت له "بثينة" باستغراب حائر، والفضول يتضاعف بداخلها، باتت متأكدة كليًا من حدوث كارثة، وإلا لما اجتمع أفراد عائلة "سلطان" في منزلها في تلك الساعة المبكرة، التفتت ناظرة إلى "بدير" وهي تسأله:
-عاوز من ابني إيه يا حاج؟

تركزت نظراته على وجه "هيثم" المتورم، وقال بنبرة جافة وهو يشير بعكازه نحوه:
-أنا جاي أعرف ال ...... ده إن خطوبته اتفركشت
تلاشت كافة الآلام، واختفت الأوجاع مع تلك الكلمات الصادمة، هتف غير مصدقٍ:
-نعم.. إيه؟
أخبره بنفس الصوت الأجوف المزعوج:
-والجماعة بعتولي الدهب على الدكان من شوية.
لطمت "بثينة" على صدرها مولولة:
-يا نصيبتي! ليه كل ده؟


 
بينما ردد مصدومًا والدموع تُحتبس في عينيه قهرًا على ما حدث ورافضًا استيعاب حقيقة الأمر:
-مش ممكن، أكيد..في حاجة غلط!
تابع "بدير" مضيفًا بلهجة متأففة:
-أنا مش هاسيبلك الدهب، هارجعه للبنت كاعتذار على اللي عملته فيها، إياكش تحس على دمك.
لم يأبه بأمره بتاتًا، وهتف يرجوه في هلعٍ وقلبه قد انخلع في صدره:
-أنا مش عاوزه، ارميه في الشارع أنا عاوزاها هي..

أظهر عدم اهتمامه بمشاعره النادمة، ونظر له باحتقارٍ قبل أن يسبه:
-نجس
وضع "تميم" يده على كتف والده، وقال له:
-بينا يا حاج، هو خد كفايته.
أومأ برأسه موافقًا، وقبل أن ينصرف استطرد موبخًا "بثينة":
-وابقي ربي ابنك كويس، كفاينا فضايح.


 
كتمثالٍ من الشمع وقفت لوهلة عاجزة عن التفكير، تحاول استجماع نفسها وربط أطراف الخيوط معًا علها تفهم طبيعة الكارثة التي تسبب بها ابنها، التفتت لتمسك به من كتفيه، وهزته في عصبيةٍ وهي تسأله:
-ما تفهمني إنت عملت إيه؟
توسلها وهو يبكي بطريقة استغربتها:
-كلميه ياما، قوليله يرجعلي "همسة".. أنا هتجوزها!
صرخت به بتشنج حتى يتوقف عن التصرف كالأطفال الذين أفسدوا لعبتهم:
-مش أفهم إنت هببت إيه الأول!

يُمكن أن توصف بأنها ليلة كابوسية مُزعجة تُضاف إلى قائمة الليالي الطويلة الموجعة الخاصة بثلاثتهن .. انتهت "فيروزة" من إعداد عصير الليمون الطازج وأتت به إلى غرفة والدتها حيث تنام توأمتها وهي تحتضن والدتها بشكلٍ يدعو للشفقة، قلبت محتويات الكوب بالمعلقة جيدًا، ومدت به يدها نحوها وهي شبه تأمرها:
-اشربي ده يا "همسة"..

وبيدٍ مرتعشة تناولته منها وبدأت في ارتشافه، سعلت في البداية لدخول بعض قطرات السائل المنعش لقصبتها الهوائية، قبلت "آمنة" رأسها وقالت لها:
-على مهلك يا بنتي.
رفعت "همسة" وجهها الباكي نحو أختها تسألها:
-عملتي إيه يا "فيروزة"؟

أجابتها مبتسمة وهي تجلس إلى جوارها على الطرف الآخر من الفراش:
-اطمني، أنا قولت لقريبه على قذارته، ونهيت كل حاجة معاه، معدتش في حاجة تربطه بينا.
ردت "آمنة" في رضا:
-كده أحسن، خليه يتصرف معاه، كفاية الرعب اللي عمله لبنتي.
سألتها "همسة" بصوتها المذعور:
-طب وخالك؟

جاوبتها بنبرة ساخطة:
-يشرب من البحر
وعلى ذكر سيرته غير المستحبة، انتبه ثلاثتهن إلى طرقاته المصحوبة بصوته على باب المنزل، أنزلت "فيروزة" قدميها عن الفراش، وقالت بشموخٍ:
-أنا رايحة افتحله.
تمتمت والدتها في قلقٍ طبيعي ويداها تحاوطان ابنتها:
-ربنا يستر ويعدي الأيام دي على خير.

بكل سخافةٍ وبرود، وابتساماتٍ مستهلكة ولج "خليل" إلى غرفة النوم ملقيًا نظرة حزينة على ابنة أخته، عاد إلى ذهنه الليلة السابقة بكامل تفاصيلها، حيث صعد إلى زوجته التي طلبت منه إخماد تلك الفضيحة قبل أن يعلم بها أحد بحجة أن الشاب يطمح في الزواج بأسرع وقت، وما فعله كان مجرد لحظة طيش عابرة لن يكررها ولا داعي لتكبير الأمر، أما إن فعل العكس واتخذ موقفًا مغايرًا لخسر كلاهما مكاسب المستقبل المادية التي ستؤمن حياتهما لسنوات قادمة، ولهذا أعاد التفكير بتأنٍ ورتب حساباته وفق أولوياته هو غير عابئ بمصلحة ابنة شقيقته، وبهدوءٍ تام نزل ليصطحب "هيثم" وعاد به لمنزله في حالة الإعياء الواضحة، وتعلل لوالدته بأنه أنقذه من حادث سير أرعن ورأه بالصدفة وأصر على إيصاله ليطمئن عليه.. أفاق "خليل" من شروده السريع، وهتف مدعيًا اهتمامه:
-عاملة إيه دلوقتي يا بنتي؟

ردت عليه "فيروزة" بوجهٍ مقلوب:
-زي ما إنت شايف يا خالي، أكيد مش عاملة فرح!
نظر لها بضيقٍ وانزعاج قبل أن يبعدها من كتفها ليتجه نحو الفراش وهو يقول:
-طب وسعي بس كده عشان النفس.
كتمت غيظها منه في نفسها، وظلت تتابعه بعينيها المشتعلتين وهو يدنو من "همسة"، مسح على رأسها وقبلها من جبينها وهو يسألها:
-إن شاء الله شدة وتعدي.

احتجت "فيروزة" على عبارته غير اللائقة، وصححت له:
-هي كانت عيانة لا سمح الله، ده واحد ماترباش حاول يعتدي عليها
قال مدافعًا عنه:
-مكانش في وعيه يا "فيروزة"، متكبريش الموضوع
أدركت أنه لن ينصف أختها مهما حدث، فالأفعى الخبيثة قد بخت سمها، والدليل ما رأته بحدث خلسة من تهريب وطمسٍ للحقائق، لذا قررت إفساد انتصاره الزائف، وقالت مبتسمة بزهوٍ:
-عمومًا يا خالي الموضوع خلص.

لم يستوعب مقصدها، وسألها:
-يعني إيه؟
استرسلت بابتسامة أكثر اتساعًا:
-يعني أنا اتصرفت، وقولت لقريبه الحاج "بدير" على اللي عمله، وفركشت الخطوبة!
بدا كمن ألقى عليه دلو ماء مثلج، حملق فيها بعينين شاخصتين، وردد في ذهولٍ صادم:
-إنتي.. عملتي.. إيه؟

ابتسمت في انتشاءٍ، وتابعت:
-اتصرفت زي ما المفروض كنت تعمل، ارتاح إنت يا خالي، أنا قومت بالواجب وزيادة.
تكاد تُجزم في نفسها حين تطلعت إليه في تلك اللحظة بأن دخانًا كثيفًا كان ينبعث من شدة غضبه أو غيظه، لا تعرف تحديدًا، لكنها أصابته بما فعلته في مقتل، ودمرت كل مخططاته التي بنيت على حساب عائلتها، خرج "خليل" عن شعوره، وصرخ بها بجنونٍ غير اعتيادي:
-إنتي عملتي إيه؟

نظرت له نظرة ذات مغزى، وأجابت بإيجازٍ:
-الصح.. يا خالي!
تدخلت "آمنة" في الحوار، وقالت مدعمة ابنتها:
-اللي حصل امبارح ده مايتسكتش عليه، وده أنسب حاجة تتعمل مع قليل الرباية ده
صرخ بتشنجٍ وهو يضع يديه على رأسه:
-إنتو ضيعتوا كل حاجة بغباءكم.
ردت عليه "فيروزة" ببرود:
-معلش يا خالي، مافيش أغلى من أختي عندنا.

ثم تلوت شفتاها بابتسامة مستفزة وهي تسأله:
-تحب أعملك لمون تروق به دمك؟ وشك مصفر ومش عاجبني
هدر بها وهو يشيح بيده:
-امشي من قدامي السعادي.
حركت رأسها متابعة بنبرتها الباردة:
-ماشي يا خالي.
كتمت ضحكتها الشامتة بصعوبة وهي توليه ظهرها، لا تنكر أن رؤيته يغلي كمدًا أثلج صدرها وأشعرها بقليل من الارتياح، تمنت فقط لو عاد لصوابها وتصرف كما يجب أن يكون الخال الحقيقي الذي يعد بمثابة أب ثانٍ للعائلة.

-مش هاتطلع معايا يا "تميم"؟
تساءل "بدير" بتلك الجملة وهو ينظر إلى ابنه الذي أوقف السيارة أمام مدخل بيت خطيبة "هيثم" السابقة، في البداية ظل صامتًا، وكأنه يفكر مليًا في الأمر، وظهر التردد على محياه، أمسك بكلتا يديه على المقود، والتفت ينظر لأبيه قائلاً:
-لا يا حاج، أنا هستناك في العربية.

ابتلع ريقه بصعوبة، فما زال ذلك التوتر المريب يجتاح كامل حواسه كلما دنا من منزلها، أو أتى شيء ما على ذكرها، وكأنها تملك عصا سحرية قادرة على تبديل أحواله في لحظة ليصبح فاقدًا للسيطرة على مشاعره، بل ويصبح لا حول له ولا قوة حين تعتريه تلك الأحاسيس الغريبة، تبدو كما لو كانت تتكاتف جميعها وتتعاون في حضرتها بشكل قوي لتجذبه نحوها بصورة غامضة فتزيد من توتره وتضاعف من ربكته .. تنحنح والده بصوتٍ خشن، وقال مستعينًا بالمولى وهو يترجل من السيارة:
-توكلنا على الله، وربنا يقضي المشوار ده على خير.

ورغم معرفة "تميم" المحدودة ب "فيروزة" إلا أنه كان واثقًا بأنه لا رجعة لها في قرار تتخذه بشأن أسرتها إلا بحد السيف، لاح على ثغره ابتسامة ساخرة حين حدث نفسه:
-إنت وقعت مع غولة يا "هيثم"!

كان يقصد "فيروزة" بذلك الوصف الذي وجده ملائمًا لشخصها القوي في تلك النوعية من المواقف المصيرية، اقتحم ذهنه صورتها المستبسلة ونظراتها التي لا ترتدع بسهولة، كانت بها هالة غريبة تحثه على استمرار التفكير بها دون مللٍ أو ضجر، اتسعت ابتسامته التي امتزجت مع ضحكة عذبة وهو يستعيد وصفه السابق:
-بس معايا طاووس!

ضحك في مرحٍ وقد ملأ طيف وجهها صفحة خياله، تناقصت وبدأت تخبو بعد لحظة مع رنين هاتفه المحمول، تطلع إلى شاشته فوجد اسم "خلود" يُنير عليه، نفخ في ضيقٍ، وقال لنفسه بامتعاضٍ:
-عاوزة إيه دلوقتي؟
لم يكن بحاجة لتخمين الإجابة المناسبة، فتابع قائلاً لنفسه بصوته المنزعج:
-أكيد أمك بلغتك باللي عملته في أخوكي، وأنا مش ناقص صداع على الصبح!
ترك الهاتف يرن على تابلوه السيارة غير مكترث بضجيجه المؤذي، وحملق في المنزل بنظراتٍ كانت تبدو في المنتصف ما بين ساهمة وحالمة.

استقبله "خليل" في منزل أخته بحفاوةٍ تناقض طبيعة الموقف المحرج الذي يمس طرفي العائلة، كان من حسن حظه وجوده في ذلك التوقيت، وإلا لمات بحسرته على خسارة بئر نقوده بسبب عناد ابنة أخته المميت .. وبتهذيبٍ وأسف سعى "بدير" لرأب الصدع في العلاقات الودية بين الأسرتين، استأذن يقول له بلطافةٍ بعد أن ارتشف القليل من فنجان القهوة الموضوع أمامه:
-لو مافيهاش تعب هاطلب منك يا "خليل" تناديلي الحاجة وبنتها.

رد عليه متصنعًا الابتسام:
-ده إنت جيتك على راسنا يا حاج، بس إنت فاهم نفسية البت و..
قاطعه وهو يرد بخزيٍ ملموسٍ في نبرته:
-مفهوم.. مفهوم، مافيش داعي تبرر، حقها تنهي الخطوبة.
عاجله مرددًا بتلهفٍ:
-أنا والله اتكلمت معاهم.
تنهد "بدير" معقبًا عليه دون أن يفقد رزانته:
-يا "خليل" أنا مقدر ده كله، بس عاوز البنت في كلمتين مهمين، جاي أقدر أعوضها عن اللي حصل.

وقبل أن يختلق له الأعذار أتت "فيروزة" ومعها "همسة" تسحبها بتمهلٍ من يدها، وقفت كلتاهما على مقربة منه، واستطردت الأولى تقول بجسارةٍ:
-هي جت بنفسها تقول إنها مش عاوزة تكمل الخطوبة دي، ده لو مش مصدقني يا حاج
نهض "بدير" واقفًا، ودارت عيناه على وجه "همسة" الذابل وعينيها المنتفختين من البكاء المتواصل، تقدم نحوها واعتذر منها:
-حقك عليا يا بنتي، امسحي اللي عمله فيا، مافيش حاجة تعوضك عن اللي حصل من الجبان ده، أنا ربيته ولسه هاربيه من تاني
ثم امتدت يده بعلبة من القطيفة الحمراء موضوع بها المشغولات الذهبية التي تخص الشبكة، لوح بها أمامها وهو يقول بكلامٍ شبه نافذ:
-ده حقك، ومش هترجع.

تدلى فكها السفلي في استغرابٍ مما يفعله، ونظرت إلى أختها بحيرةٍ، علقت عليه "فيروزة" رافضة عرضه السخي:
-احنا نهينا الخطوبة، يعني الشبكة ماتخصناش.
أصر عليها قائلاً:
-بعد اللي حصل، مالوش الواد ده حاجة عندي، خديها، بعيها، اتصرفي فيها، محدش هيلومك
شكرته "آمنة" قائلة من الخلف:
-تسلم يا حاج "بدير" على تقديرك، دي صفحة وقفلناها.

سال لعاب "خليل" وقد رأى مدى سخاء ضيفه الذي يستثير أطماعه بشكلٍ جنوني، ارتعب من تزمت "فيروزة" وعنادها المهلك، لذا دون تفكيرٍ اختطف العلبة من بين أصابعه، وضمها إلى صدره، وكأنه يخشى ضياعها، وبادر يمتدحه ونظراته الطامعة تغطي حدقتيه:
-بصراحة عداك العيب يا حاج "بدير"، أبو الأصول كلها.
استشاطت عينا "فيروزة" من وقاحته، وهبت تعترض بنبرة مختنقة:
-لو سمحت يا خالي رجع الحاجة، احنا مش ناقصنا دهب.

نظر لها بغلٍ وقال متحديًا:
-إنتي عاوزة تكسفي عمك الحاج وتحرجيه؟ مايصحش وهو في بيتنا وجاي لحد عندنا...
والتفت إلى أخته يزجرها بعتابٍ:
-ما تعرفي بنتك الأصول يا "آمنة"!
ردت عليه "فيروزة" بتشنجٍ غير مبالية به وقد اِربد وجهها بحمرته المنفعلة:
-أنا مقبلش إن أختي تاخد آ....
اخشوشنت نبرته وهو يقاطعها بعبارته النافذة:
-"فيروزة" خلاص، أنا قولت كلمة..

ثم أشاح بيده لها يأمرها:
-روحي اعملي قهوة تانية لعمك بدل اللي بردت دي.
بلباقةٍ اعتذر منه "بدير" وهو يهم بالتحرك نحو الخارج:
-مالوش لزوم، يدوب أرجع الدكان.
وضع يده على كتفه كنوعٍ من إظهار الود، وقال مبتسمًا في نشوة:
-استنى يا حاج أنا جاي معاك أوصلك
لاحقه في خطواته ليهرب والعلبة لا تزال في يده، اهتز جسد "فيروزة" في عصبيةٍ جلية، التفتت إلى والدتها التي كانت تتابع الموقف بصمتٍ غريب، وهتفت بحنقٍ:
-شوفتي يا ماما خالي وعمايله؟

ضربت كفها بالآخر، وردت بتنهيدة حائرة:
-والله ما عارفة أقول إيه، أخويا الفلوس لحست عقله
نما إلى مسامع ثلاثتهن صوته المنادي:
-يا "آمنة" تعالي لحظة
أدارت ظهرها لابنتيها وهي ترد بسأمٍ:
-هاروح أشوفه، عديها على خير يا رب.

سارت بتباطؤٍ فوجدت "خليل" يقف أمام باب المنزل والتلهف يملأ محياه، أعطاها علبة الذهب، وشدد عليها بعدم التفريط فيها ريثما تتضح توابع الأمور، أخذ وعدًا منها بالاحتفاظ بها في دولابها دون أن تُطلع ابنتيها معللاً لها:
-لو "حمدية" شمت خبر إنهم معايا هتاخدهم، وتشبط فيهم وجايز تعمل شوشرة ومترداش تفرط فيهم، سبيهم معاكي يومين كده وأنا بنفسي هارجعهم للحاج "بدير" لما الدنيا تهدى، مش عاوزين نزعل الراجل مننا، مهما كان دي كبيرة عليه إنه يتأسف بنفسه عن غلطة غيره، ماشي ياختي؟

-معاك حق.
كان صادق النية في النصف الأول من جملته، فأطماع زوجته لا حدود لها، وربما ستحتفظ بهم كأنه حقها المكتسب، في حين أنه دس السم في العسل في باقي عبارته، فما تفوه به كان مجرد أكذوبة مخادعة ودَّ أن تنطلي على شقيقته لتوافق دون تذمرٍ على رغبته، واستجابت له بسجيتها غير المشككة فيه معتقدة أنه يفعل الصالح لابنتيها.

مضت بضعة أيامٍ حُصرت فيهم ما بين رجاوات وتوسلات ابنها، وبين عصبية وانفعالات هائجة لا حدود لها، في النهاية اضطرت أن تتخلى عن كرامتها من أجله، وتذهب في زيارة استثنائية بدون ميعاد مسبق ل "همسة" على أملِ أن تُصلح ما أفسده "هيثم"، علها تنجح في مسعاها. لم تتواجد "بثينة" بمفردها، استعانت بابنتها لتكون داعمًا لها، وبالرغم من امتعاضها إلا أنها احتفظت بتلك البسمة اللطيفة على محياها، استقبلتها "آمنة" بترحيب لائق كما اعتادت مع كل زائر يطأ منزلها، وجلست مع ضيفتيها تتجاذب أطراف الحديث العام بعيدًا عن الموضوع الرئيسي إلى أن قالت "بثينة" في الأخير لتظهر ندم ابنها:
-أنا عارفة إن ابني اتصرف بقلة أدب، بس طيش شباب والله، ده هايتجنن على "همسة"، وقلبه محروق عليها من بعد اللي حصل.

سألتها "آمنة" في عتابٍ وتعبيراتها توحي بعدم تساهلها أو لينها:
-طب يرضيكي اللي عمله؟!
نفت على الفور مستخدمة أسبابها للتبرير حتى تسترق قلبها:
-لأ طبعًا، ولو كان لا سمح الله حصل ل "خلود" كنت قلبت الدنيا، وجبت حقها، بس هو اتربى وخد جزاته، ومش هاقولك الحاج "بدير" عمل فيه إيه، ولا "تميم"، يا لهوي، ده الكل اتكاتر عليه لحد ما رقد يا حبة عيني في السرير من القهرة.

تحرجت منها "آمنة"، وبدت مذبذبة نوعًا ما لتجاريها بنفس الأسلوب الجاف في الحديث بعد الذي أفصحت عنه، تجنبت النظر نحوها وردت مبتلعة ريقها:
-مش عارفة أقولك إيه، بس كل شيء قسمة ونصيب.
هتفت ترجوها بقلبٍ ملتاع:
-ده هايموت عليها، مش شايف إلا هي يا "آمنة"، وإنتي أم زيي، والله ما يرضي حد اللي بيحصل ده!

حاولت الضغط على مشاعرها الحنون ربما تنجح في إقناعها، لكنها ما زالت محافظة على صلابتها، وقالت مبتسمة:
-ربنا يرزقه بالأحسن.
احتقنت نظرات "بثينة" من صدها لها وردودها الجافة معها، بذلت مجهودًا عنيفًا لتبدو مستكينة بالرغم من رفضها القيام بذلك الأمر المذل من وجهة نظرها، تدخلت "خلود" حين رأت أمارات الضيق تتصاعد على وجه والدتها، واقترحت بلطفٍ:
-طب ما تناديلنا يا خالتي "همسة" نسألها، يمكن رأيها غيرك.

تطلعت نحوها "آمنة"، وقالت بجدية:
-كلامها مش هيختلف عني!!
ورغم إحراجها عن عمدٍ إلا أنها ألحت بنفس الأسلوب السمج:
-معلش أهوو نسمع منها بردك، عشان خاطري يا خالتي
تنهدت قائلة في استسلامٍ وهي تهم بالنهوض من على الأريكة:
-حاضر.

وقبل أن تخرج من الغرفة كانت "همسة" تقف على أعتابها بقامةٍ منتصبة ووجه حزين، منذ لحظة وصولهما وهي متواجدة بالخارج مع توأمتها، لكنها لم ترغب في الاشتراك بالحوار، استمعت إلى كل كلمة قيلت عنه، وبالرغم من ألمها إلا أنها شعرت بالتعاطف نحوه، وكأن قلبها أبى الانصياع لتعسفها، قاومت ذلك الإحساس الخائن باللين حتى لا يطغى عليها وتتراجع، منحتها "فيروزة" إحساس القوة والثبات إلى أن أصرت "بثينة" على حضورها، شعرت بالخوف يتسلل إليها، استدعت كامل مشهده المؤسف معها حتى لا تظهر بمظهر الضعف واللين أمام تلك المرأة، لا مجال للتراجع في موقف أوضح لها معدن ذلك الرجل كما قالت لها أختها، تحلت بالشجاعة، وغالبت خوفها لتبدو قوية الشكيمة، وبثباتٍ تحركت خطوة للأمام .. وزعت نظراتها بين الضيفتين، وقالت:
-أنا موجودة يا ماما، خليكي مرتاحة.

ربتت "آمنة" على جانب ذراعها لتشجعها على الدخول، وأشارت بعينيها إلى "فيروزة" لتظل باقية بالخارج حتى لا تتدخل في الحوار وتشعل الأجواء بعباراتها المهاجمة .. دنت منهما "همسة"، مدت يدها لمصافحة الاثنتين أولاً قبل أن تتبادل معهما القبلات والأحضان دون ودٍ ظاهر عليها وهي ترحب بهما:
-أهلاً وسهلاً بيكم.

جذبتها "بثينة" من رسغها لتجبرها على الجلوس إلى جوارها على الأريكة العريضة قائلة لها بابتسامة متشوقة:
-تعالي يا بنتي جمبي كده، ده إنتي وحشاني أوي.
ابتسمت لها ابتسامةٍ متكلفة، وقالت مجاملة:
-تشريف حضراتكم ليا على عيني وراسي..
استطردت تقول لها:
-بصي يا حبيبتي، أنا عاوز أفهمك إن اللي حصل ده كان في لحظة شيطان، مش هاتكرر تاني، وأنا أوعدك بده.

ردت عليها بجمودٍ مصطنع:
-صعب أكمل معاه!
سألتها "خلود" بنبرة متأثرة:
-يا "همسة" هو إنتي لحقتي تعرفيه؟ حرام والله تظلميه!
التفتت نحوها لترد بحرقةٍ ظاهرة في نبرتها:
-ما اللي عمله فيا كفاية إنه يخوفني منه، ده كان شارب، والله أعلم لو أختى ملحقتنيش.. كان...

وجدت صعوبة في إتمام جملتها، ومع ذلك تسلحت بالشجاعة لتقول بحسمٍ:
-أنا مش هآمن لنفسي معاه، مقدرش، أنا أسفة.
استعطفتها "خلود" بصوتٍ شبه مبحوح وبدموع التماسيح التي حاولت جاهدة استدعائها لتبدو مقنعة:
-اديله فرصة تانية، ده ربنا بيسامح، وهو هيتجنن من ساعة اللي حصل.
أضافت عليها "بثينة" لتزيح الصورة السيئة المتشكلة في ذهنها عنه:
-والله ما بياكل ولا بيشرب، وشغله سايبه يضرب يقلب، مافيش على لسانه إلا إنتي، ده ربنا هداه على إيدك وساب الزفت اللي كان لاحس مخه.

لم يكن الأمر بتلك البساطة لتمحوه من عقلها أو لتتأقلم معه وكأنه شيء مُعتاد منه، طفرت دموعها في عينيها، ومسحتها بيدها قبل أن تنهض لتقول بغصة مؤلمة في حلقها:
-معلش يا طنط مضطرية أقوم، ورايا حاجات لازم أعملها، فرصة سعيدة إني شوفتكم
نظرت لها "بثينة" في يأسٍ وهي تفر من أمامها، استدارت نحو ابنتها لتأمرها والحزن يغطي تعبيراتها:
-بينا يا "خلود"، الظاهر مافيش فايدة!

ركضت هاربة وقلبها يُعتصر آلمًا دون أن تعرف إن كانت عشقته حقًا، أم لأنها تكره تلك الذكرى المؤسفة التي لوثت تفكيرها عنه، هربت والدموع تنساب بغزارة من حدقتيها، ارتمت في أحضان توأمتها التي واستها وهونت عليها من الأمر، امتدحت تماسكها قائلة:
-برافو عليكي، أنا عارفة إنه صعب عليكي، بس إنتي أدها
ابتعدت عنها لتنظر إليها بعينين تفيضان بالدمع، وسألتها بنهنهةٍ:
-تفتكري.. أنا ظلمته؟

أجابتها "فيروزة" بردٍ قاطع مظهرة عدم تعاطفها مع موقفه الناد:
-هو اللي عمل كده في نفسه.
أشارت برأسها للخلف وهي تتابع بنبرة متقطعة بسبب بكائها:
-بس على حسب.. كلام مامته.. شكله لسه.. متمسك بيا.
وضعت كلتا يديها على ذراعيها، هزتها منهما برفقٍ وهي تحذرها بلهجة قوية حتى لا تتراجع:
-اجمدي يا "همسة"، اللي زي ده مايتبكيش عليه.

نكست رأسها في حزنٍ وقالت وهي تتنفس بعمقٍ لتخفف من نوبة بكائها:
-حاضر
ابتسمت لها "فيروزة" في حبٍ، وأضافت بثباتٍ لتشد من أزرها:
-احنا مالناش إلا بعض يا "هموس"، وبكرة هايجي اللي أحسن منه، إنتي متستعجليش، ولا شكلك هتحني ليه؟
حملقت بعينين تعيستين في وجهها قبل أن تنطق بمرارةٍ:
-لأ يا "فيروزة"، ده موضوع واتقفل!

أبلغته والدته برفضها القطعي للعودة إليه وإتمام الخطبة، وكأنها بذلك نزعت فتيل قنبلة جنونه الموقوتة ليهتاج أكثر ويحطم ما تطاله يداه، كانت محقة حين وصفته بالأرعن الأهوج الذي انساق وراء نزواته، ولهذا عليه ألا يلوم أحدًا إلا نفسه، ثارت ثائرته، وفقد عقلانيته ليخرج من المنزل قاصدًا الذهاب إلى رفيق السوء "نوح"؛ ذاك الذي نصحه في غيابات الخمر باستباحة عرضها، لم يكن الأخير متواجدًا في منزله..،

دق الباب بعنفٍ عليه، أوشك أن يخلع الكتلة الخشبية التي تمنعه من اقتحام المكان، ونجح بعد عدة ضربات قوية من كتفه في إزاحة الباب، وحين تواجد بالداخل، انهال على ذاكرته تفاصيل تلك الليلة المنحوسة، هاج على الأخير وأطاح بالزجاجات الفارغة وهشمها، وركل النارجيلات المتراصة عند الزاوية بكل عصبية لتتحطم وتتبعثر محتوياتها على الأرضية، عاث في المكان الخراب وهو بالكاد يلتقط أنفاسه اللاهثة من فرط انفعالاته، لكن قلبه الموجوع لم يهدأ بعد.

جلس "هيثم" على الركام المحطم وهو يشبك يديه أمام ركبتيه يتطلع أمامه بنظرات غائمة، عاد "نوح" من الخارج ليتفاجئ بالدمار الذي لحق بمسكنه، وخاصة عدة السهر الخاصة، نظر في صدمة إلى ما افترش الأرض من بقايا زجاجية مختلطة بأحجار الفحم، تساءل في بلاهةٍ:
-هي الحرب قامت هنا ولا إيه؟

في البداية تجمدت عينا "هيثم" عليه، وكأنه يستوعب مجيئه، شحذ قواه الغاضبة ليصبها عليه، أرخى كفيه واستند عليهما لينهض، ثم انقض عليه ليمسك به من تلابيبه وهو يصرخ به في عصبيةٍ:
-إنت السبب، إنت اللي خربتها على دماغي!
حاول "نوح" انتزاع قبضتيه من عليه وهو يسأله مصدومًا:
-في إيه يا عم؟ بالراحة عليا، واحدة واحدة خليني أفهم!

واصل صراخه المهتاج قائلاً دون أن يفلته من بين أصابعه:
-كانت شورة مهببة منك، الله يحرقك البت راحت مني
سأله مستفهمًا:
-هو إنت عملت إيه بالظبط؟
في وسط نوبة انفعاله المتأججة أخبره باقتضابٍ عن تصرفه المتجاوز، ابتسم "نوح"، وعلق بما يشبه التهكم:
-إنت اللي غلطان، أنا مقولتلكش روح اغتصابها، دماغك كانت من الأول شمال معاها!

هتف مدافعًا عن نفسه في حرقةٍ:
-مش حقيقي! أنا.. مكونتش دريان بسبب الهباب اللي بلبعته
نجح رفيقه في تخليص نفسه من قبضتيه، نفض ياقته وعدلها، ثم قال ببرودٍ:
-طيب، إنت حمار وعملت فيها كده، أنا مالي بقى بغباءك ده؟!
نظر له "هيثم" بنظراتٍ مغلولة وهو يكاد يطبق على عنقه من جديد ليخنقه، لكنه كان محقًا، هو من تصرف بوقاحةٍ، وأفسد بيده خطبته مع تلك الفتاة، كز على أسنانه وهو يلعنه:
-منك لله يا شيخ، كانت معرفتي بيك معرفة سودة!

أطلق سبة نابية وهو يوليه ظهره قبل أن يخرج من منزله، لحق به "نوح" ليستوقفه، شده من معصمه مُعاتبًا بخبثه الشيطاني:
-أوام كده هتنسى الليالي الحلوة؟ عامةً مش هاخد على خاطري منك يا "هيثم"، أنا عارف إنك مضايق شوية، يومين هتفك وترجعلي.
استل يده من أصابعه الممسكة به بتشنجٍ، ورمقه بنظرة مطولة من عينيه المحتقنتين بغضبٍ وألم، ثم رد بعدها بغصةٍ متحسرة وهو يهبط الدرجات وإحساس الهزيمة يحتل كامل كيانه:
-ولا تاخد، كله ضاع خلاص، و"همسة" راحت مني ... !!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة الثلاثون بقلم منال سالم


كالطريد العاجز سار بغير هدى يجوب الشوارع والطرقات دون أن يحدد وجهته، انتهى به المطاف على الكورنيش، توقف لبرهة ليلتقط أنفاسه، لم يعرف ماذا يفعل تحديدًا، لكنه واصل سيره عليه وعقله المشحون لا يتوقف عن التفكير، تقلصت عضلات وجهه بشكلٍ مريب وكأنه تذكر ما يؤلمه، للحظة انسالت على مخيلته ذكريات قديمة راحت تسطع وتختفي كومضاتٍ من ظلمة الماضي البعيد، عاد بالزمن للوراء حين كان صبيًا صغيرًا، تجسد في عقله دكان والده بكل تفاصيله، رائحة الطلاء ومشتقاته زكمت أنفه، ما زال يذكر براعة أبيه في إعداد القهوة على (السبرتاية) لتبدو ذات مذاقٍ خاص، آنذاك وقف متذمرًا أمامه يُلح عليه بعناد الصبية الذين نبت لهم خط رفيع ليشكل شاربًا أعلى أفواههم:
-يعني مش هاتيجي معايا؟


 
نظر له "غريب" في صمتٍ قبل أن يلتهي بخلط تلك المواد العجيبة في علبة الطلاء التي فتحها، ظل "هيثم" ساكتًا وهو يراقبه آملاً أن يذعن لرغبته ويستعطف معلمه الذي تشاجر معه ليضمه إلى مجموعة التقوية التي سبق وطُرد منها، ضجر من عدم مبالاته فهتف بتشنجٍ:
-إنت وعدتني تكلم الأستاذ تاني.
نفخ والده في سأم، ورد بفتورٍ:
-مالوش لازمة يا "هيثم"، اللي اتعلموا خدوا إيه.


 
حك جانب عنقه في إحباطٍ، بالطبع لم يكن من أصحاب العقول النابغة أو متفوقًا بين أقرانه ليهرع الأول لدعمه، كان ببساطة متعثرًا في دراسته، بالكاد ينجح بالمحسوبية والواسطة، تجمدت نظراته عليه وسأله بعبوسٍ:
-طب عاوز أروح سيما مع أصحابي، اديني فلوس تبقى معايا
ترك "غريب" ما في يده وأشار له بسبابته معترضًا:
-مصروفك كله رايح على القرف ده، خليك واقف معايا واتعلم صنعة تنفعك، ده أنا هودكك على أصول الشغل كله وأسراره وهخليك تكسف بدل الجنية ألف، مايبقاش مخك ضلم في التعليم وأكل العيش...

بتر عبارته حين لمح "بدير" وولده يمران بجوار دكانه فأردف بتفاخرٍ انعكس في نظراته نحوهما:
-شوف ابن خالتك فهلوي إزاي وأبوه بيتبهاهى بيه في كل حتة، خليك كده زيه ناصح والناس عملالك قيمة.
أدار "هيثم" رأسه للأمام لينظر إلى الاثنين بحنقٍ، ثم علق عليه بتنمرٍ:
-هو أنا مابعملش حاجة تعجبك خالص؟ مش لازم أبقى زيه عشان أملى دماغك، أنا ماشي.
ظهر الانزعاج على تعابيره وهو يوليه ظهره مبتعدًا، لحق به والده ليوقفه قائلاً بحنوٍ:
-يا واد استنى.. ما تقفش كده، خد وإدي معايا!


 
نظر نحوه مُتسائلاً:
-طيب، هتعمل إيه دلوقتي؟
وقبل أن يجيبه كان أحدهم يقف على أعتاب الدكان يلوح بيده مرحبًا، وبيده الأخرى يمسك بطفلة صغيرة:
-سلامو عليكم.
أرخى قبضته عنه ليرحب بالضيف قائلاً:
-وعليكم السلام اتفضل يا عم "علي".
تقدم خطوتين منه، استأذن منه بحرجٍ دون أن تفتر ابتسامته الودودة:
-ممكن يا "غريب" البت تخش الحمام عندك.


 
أبدى موافقته هاتفًا:
-أه وماله، على إيدك اليمين
رد "علي" يشكره:
-تسلم يا حبيبي.
استدار "غريب" نحو ابنه يأمره:
-وري الكتكوتة مكان الحمام يا "هيثم".
ألقى نظرة شاملة جالت عليها من رأسها لأخمص قدميها.. كانت ملامحها الطفولية حادة، ونظراتها قوية تخترق من تتطلع إليه، حتى ثوبها الصيفي الذي كانت ترتديه يعلوه رسمة طاووس مزركش، وبامتعاضٍ لم يخفه قال:
-ماشي.

سارت معه الصغيرة نحو الركن الخلفي من الدكان حيث يتواجد حمام صغير الحجم، في حين مسح "غريب" يده بخرقة قديمة ليزيح بقايا الزيت العالقة بأصابعه وهو يسأل ضيفه الي بدا على معرفة جيدة به في اهتمامٍ:
-قاعدين أد ايه المرادي؟
أجابه مسترسلاً في الحديث:
-أسبوع وبعد كده الجماعة هوديهم البلد لحد ما أرجع من رحلتي
-ربنا يوسع الرزق على عبيده
-يا رب.


 
أوصل "هيثم" الطفلة إلى الحمام وتجول في الركن الخلفي دون هدفٍ محدد إلى أن لمح درج النقود الموجود أسفل المكتب الخشبي العريض مفتوحًا، خفق قلبه وومض عقله بفكرة عبثية جامحة، لما لا يستغل فرصة انشغال والده بالحديث مع صديقه ويأخذ بعض النقود على سبيل الاقتراض؟ أليس من المفترض أن يعطيه مصروفًا ينفقه كيفما يشاء؟ برر لنفسه أسباب السرقة، وتسلل بحذرٍ تام ليسحب بضعة أوراقٍ نقدية من فئة بسيطة ودسها في جيبه...،

استدار فجأة ليجد الطفلة محدقة به بعبوسٍ وهي تكتف ساعديها أمام صدرها، وكأنها تؤكد له أنها رأت ما فعله، توتر ودفع السبرتاية الموضوعة أعلى السطح الخشبي بتوترٍ قبل أن يهرب من نظراتها المراقبة التي حتمًا كشفت سرقته، اندفع نحو الخارج دون أن يتفوه بكلمة مما استرعى انتباه والده الذي صاح يناديه:
-واد يا "هيثم" رايح فين؟
أجاب دون أن يلتفت نحوه:
-راجع كمان شوية يابا.


 
بعدها ببضعةِ ساعاتٍ نما إلى مسامعه الحريق المروع الذي اشتعل في الدكان وأودى بحياة والده حرقًا، بكى لوعةً على فراقه وإحساسه بالذنب يقتله، تمنى فقط لو أخذه في أحضانه، واعترف له بما اقترفه مبديًا ندمه على فعلته النكراء، آنذاك أقحمت والدته في رأسه فكرة واحدة لتسيطر عليه، فقدان والده كان نتيجة سعيه الدؤوب للإنفاق على أسرته ليعيشوا في حياة كريمة، وأن المال وحده قد يعوض حرمانه من حنان الأب واشتياقه، نعم وحدها النقود تشتري السعادة أيًا كانت ماهيتها، ومع مرور الوقت تناقص اهتمامه بأي شيء مُجدي في الحياة سوى البحث عن الفرص لاصطياد المال السهل.

لم يعول "هيثم" على مستواه العلمي المتوسط ولا على شخصيته لاجتذاب النساء حين بلغ سن الشباب، ظل هاجس المال يتحكم في أفعاله، إلى أن دخلت "همسة" في حياته، اعتقد أنها مجرد صفقة مادية رابحة إلى أن تعرف إليها، كانت تذكره باللحظات التي سبقت وفاة والده، حين كان لا يزال صبيًا يرتكب الحماقات الصغيرة معتقدًا أنه سينجو من عقاب والده، بات مهتمًا لأمرها، خاصة مع يقينه الداخلي إن أفسد الخطبة بأنه لن يحصل على فرصة مثلها، فمن سترضي به وهو متسكعٌ، شبه عاطل عن العمل، يضيع أغلب وقته بالجلوس مع رفاق السوء، لكن بسبب جموحه أضاعها في لحظة طيش .. عاد إلى واقعه الأليم وقد انسابت دموعه دون أن يدري، فَقد كل السبل في استعادتها، هتف يقول لنفسه بإصرارٍ:
-لازم تسمعني، أنا مش هاسيبها.

أحنت رأسها قليلا لتبحث عن مشبك الرأس الجديد الذي ابتاعته في درج التسريحة، كان مصمما على رسمة طاووس ومزينا بالفصوص اللامعة، اعتدلت فيروزة في وقفتها، ومشطت خصلات شعرها بعنايةٍ، ثم أحدثت فارقًا عند الجانب وثبتت فيه المشبك، ضبطت ياقة سترتها البيضاء، وعقدت شرائط بلوزتها البيضاء المتدلية لتصبح أنشوطة، أطبقت على شفتيها معًا لتملأ أحمر الشفاه بهما، تبقى لها ارتداء حذائها على بنطالها الجينز لتبدو مستعدة للذهاب إلى حفل عيد ميلاد رفيقتها "علا"، التفتت نحو توأمتها تسألها وهي تنثر عطرها على جانبي عنقها وثيابها:
-برضوه مش هاتيجي معايا؟

أجابتها "همسة" بفتورٍ وهي تمد يدها بالهدية المغلفة إليها:
-ماليش مزاج.
كانت متفهمة لرغبتها في الانعزال اجتماعيًا عمن حولها، لم تضغط عليها، وقالت مبتسمة وهي تأخذها منها:
-أنا مش هتأخر، هاعمل الواجب وأديها الهدية وهارجع تاني
هزت كتفيها قائلة:
-اتبسطي يا "فيرو".

وعدت توأمتها بحماسٍ طغى على وجهها الناعم:
-وأوعدك بكرة هنخرج مع بعض نتفسح ونروق دماغنا على الآخر
قالت بخفوتٍ:
-إن شاءالله.
ولجت "آمنة" إلى غرفتهما وهي تحمل كومة من الملابس المطوية، وضعتها على طرف الفراش، وألقت نظرة خاطفة على هيئة ابنتها الأنيقة، ثم أوصتها بصوتٍ جاد:
-خدي بالك من نفسك يا "فيروزة"، امشي في شوارع واسعة ونور، وكلمينا كل شوية.

ردت دون اعتراضٍ:
-حاضر.
حذرتها بلهجة أشد جدية:
-وبلاش تأخير، مش عاوزين حد يتكلم.
ابتسمت قائلة في زهوٍ، وكأنها تمتدح ميزة خاصة بشخصها:
-إنتي عرفاني كفيلة أقطع لسان أي حد يتطاول عليا.
أكدت عليها بشدة:
-طبعًا، بس الحرص واجب!!

لم تجادل كثيرًا، وقالت وهي تعلق حقيبتها الفضية الصغيرة ذات السلسلة الرفيعة على كتفها:
-حاضر يا ماما، يالا سلام.
اصطحبتها للخارج لتودعها قائلة:
-في رعاية الله يا حبيبتي

أقسم على نفسه بيمين غليظٍ ألا يعاقر الخمر من جديد، وإن كان في ذلك نجاته، كانت يعتبرها النقاء الوحيد الذي أتى إلى حياته المدنسة مصادفة، وصل بعد مجهود عضلي زائد إلى منزلها، انعطف عند الزاوية ليدخل البناية، لكن صوت "فيروزة" المرتفع جمد قدميه وأصابه بالقلق، خشي "هيثم" أن تفسد محاولته الأخيرة في الانفراد ب "همسة" ومصارحتها بأخطائه وإعلان توبته إن رأته توأمتها المتزمتة..،

على الفور تراجع عن الصعود على الدرك، واختبأ في ركنٍ معتم حابسًا أنفاسه حتى انصرفت، تنفس الصعداء وألقى نظرة للأعلى راجيًا بشدة ألا يخفق تلك المرة، تهيأ بدنيًا وذهنيًا لرؤيتها، استجمع نفسه واتجه للدرج ليصعد عليه من جديد، قرع الجرس مترقبًا بشغف أن تطل عليه وليست والدتها.

في تلك الأثناء، ظنت "همسة" أن شقيقتها قد نست شيئًا وعادت لإحضاره، فلم يمضِ على غيابها سوى بضعة دقائق، ودون احترازٍ فتحت الباب لتتفاجأ به مرابطًا أمامها، حلت الصدمة على تعبيراتها، شخصت أبصارها في ذهولٍ مصدوم، رجفة مرتعبة اجتاحت كل أوصالها، تراجعت تلقائيًا للخلف وهي تغلق الباب في وجهه، لكن قدمه امتدت لتحول دون ذلك، توسلها بصوتٍ مختنق:
-استني يا "همسة" ماتقفليش الباب.

صرخت مستغيثة وهي تبذل أقصى طاقاتها لدفع الباب لغلقه حتى لا يقتحم المنزل:
-الحقيني يا ماما.
صاح بها بأصواتٍ لاهثة:
-اسمعيني يا "همسة"، اديني فرصة.
أتت "آمنة" على صوتها المستنجد، استطاعت أن تلمح "هيثم" وهو يقاتل لإزاحة الكتلة الخشبية حتى يلج للداخل، وكاد يفعل ذلك، شهقت في ارتعاب:
-يا لهوي، إنت بتعمل إيه؟

اندفعت دون تفكير لتزيد من الثقل عليه وهي ترجوه:
-يا ابني امشي بالذوق مايصحش اللي بتعمله ده!
هدر بعنادٍ مقاومًا الاثنتين:
-لأ مش هامشي غير لما "همسة" تسمعني.
ردت عليه بصوتها المرتجف:
-احنا مافيش بينا حاجة، كل واحد راح لحاله.

أبدى "هيثم" ندمه الشديد فقال دون تمهيد:
-أنا غلطان، وابن ستين .....، وماليش أي عذر على قلة أدبي معاكي، أنا مكونتش في وعيي ساعتها، بس اقسم بالله ما كنت أقصد أذيكي، اديني فرصة أصلح اللي فات.
وبالرغم من تبريراته التي امتزجت بنحنحة مسموعة إلا أنها قالت مهددة:
-امشي بدل ما أطلبلك البوليس!

لم يرغب في إخافتها فسحب قدمه لتتمكن من غلق الباب، تحمل الألم الشديد الذي أصابه، لكنه لا يقارن بألم قلبه، استطاع أن يسمع صوت غلق القفل من الداخل، استند بكفه على سطحه وهتف بصوته الباكي:
-والله مكونتش في وعيي
ردت عليه "آمنة" بصوتٍ مشفق ترجوه أن يتخلى عن عناده ويبتعد قبل أن يحدث ما تخشاه:
-اللي حصل حصل يا ابني، روح لحال سبيلك.

لوهلة دارت الهواجس في رأسه، وظن أن موقف "همسة" المعادي له راجع فقط لرغبة أختها، كور قبضته بتشنجٍ، ثم صاح بنزقٍ وهو يدق على الباب بعنفٍ:
-أكيد أختك اللي مقوياكي عليا، أنا عارف، إنتي غيرها!
استنكرت اتهامه الصريح، وردت بقوةٍ:
-ملكش دعوة ب "فيروزة"، ده قراري ومش هارجع فيه.

هتف معاندًا برغبة أشد إصرارًا وهو يفترش الدرج بجسده:
-وأنا مش هاسيبك!
اشرأبت "همسة" لتنظر من العين السحرية له، لم تتبينه وسط تلك الإنارة الخافتة، تحسست صدرها المتهدج بيدها، وسألت والدتها بصوتٍ خفيض لكنه خائف:
-هنعمل إيه دلوقتي يا ماما؟

احتضنتها مطولاً بعد أن انتهت من تقبيل خديها، ثم ابتعدت عنها لتنظر إليها في إعجابٍ وقد كانت فاتنة الحفل، ولما لا؟ وهي صاحبة ذلك العيد ميلاد المميز والذي أقيم بالنادي الشهير، تأملت "فيروزة" بإعجابٍ رفيقتها "علا" التي ارتدت ثوبًا براقًا من اللون القرمزي يغطي كامل جسدها بدءًا من عنقها وكتفيها لينتهي عند قدميها بذيل قصير، ابتسمت لها في رقةٍ، وهنأتها قائلة:
-كل سنة وإنتي طيبة يا "لولو".

ردت مجاملة:
-حبيبتي يا "فيروزة"، وإنتي طيبة يا قلبي..
ثم تساءلت في اهتمام:
-أومال فين "همسة" مجاتش معاكي ليه؟
مدت يدها بالهدية الصغيرة، وتحججت قائلة:
-تعبانة شوية، اتفضلي يا "لولو".
تناولت منها الهدية، وسألتها بدلالٍ:
-ولا خطيبها مرضاش؟

اكتسى وجهها بتعابيرٍ واجمة، وضغطت على شفتيها للحظة قبل أن تخبرها:
-لأ مش كده خالص، بس الموضوع آ...
ابتلعت باقي جملتها حين حضر "ماهر" ليقول بمرحٍ:
-طبعًا أختي الحلوة مستنية هديتها مني.
ردت عليه "علا" بحماسٍ:
-أكيد.
التفت إلى الجانب ليجد "فيروزة" بجوارها، رحب بها بودٍ:
-إزيك يا "فيروزة"؟ عاملة إيه؟

أجابته مبتسمة بلباقةٍ:
-تمام الحمدلله، وحضرتك أخبارك إيه؟
رد بتنهيدة مرهقة:
-يعني.. ماشي الحال
أضافت بتفهمٍ:
-الله يكون في العون، مشاغل حضرتك كتير.
هز رأسه معقبًا وهو يسحب سيجارة من علبتها ليضعها بين شفتيه:
-طبعًا، المشاكل مابتخلصش في شغلنا.

استدار برأسه نحو الجانب المعاكس حين سمع صوتًا رجوليًا يناديه:
-"ماهر" بيه
لوح لرفيقه بيده بعد إشعاله لسيجارته:
-"آسر"، جايلك..
ثم وزع نظراته بين الشابتين وقال:
-عن إذنكم لحظة.

انسحب في هدوءٍ ليلاقي صديقه "آسر" الذي صافحه بحرارةٍ، وقف الاثنان مبتعدين عن الزحام ليتدثا بأريحيةٍ، ارتكزت أنظار الأخير على "فيروزة"، ظهرت علامات الاهتمام بها جلية على قسماته، لفتت أنظاره منذ أن أطلت على الحفل بوجهها الناعم ومظهرها الجذاب رغم عدم تكلفها، كانت ملامحها مألوفة بالنسبة له، تذكر أنه رأها من قبل، اعتصر ذهنه عصرًا ليتذكر أين تحديدًا، لم يحتر كثيرًا، تنشط عقله بوجهها وضحكتها الفاتنة؛

إنها نفس الفتاة التي تواجدت بالمطعم البحري حين جاء للقاء رفاقه به، كانت تبدو غير منسجمة آنذاك مع رفاقها، لم ينكر أنها أثارت انتباهه حينها بثوبها البراق، واليوم حركت فيه نزعة غريبة كانت تزداد توهجًا مع متابعته الكثيفة لها، مال برأسه نحو "ماهر" وسأله بفضولٍ:
-مين دي يا "ماهر"؟
بدا الأخير غير منتبهٍ، فأضاف:
-اللي واقفة جمب "علا".
أجال "ماهر" بنظراته على المتواجدات حول شقيقته قبل أن يجيبه متسائلاً في حيرة واضحة:
-قصدك مين؟

أجاب موضحًا أكثر:
-البنت اللي لابسة جاكيت أبيض وفاردة شعرها دي.
أدرك أنه يقصد "فيروزة" بحديثه، ابتسم له متسائلاً بعبثية:
-دي صاحبة "علا"، مالك بيها؟
أجاب مراوغًا:
-أنا كنت شوفتها معاكو قبل كده، يوم المطعم.
رفع حاجبه الأيسر مؤكدًا صحة ما تفوه به:
-أيوه.
فرك "آسر" طرف ذقنه، وتساءل:
-إنت تعرفها كويس؟

لم يرد بإجابةٍ مباشرة، وقال كأنه يحقق معه:
-ليه في حاجة؟
تنحنح معلقًا عليه ببسمة سخيفة:
-لا عادي..
بدا رده منقوصًا، وافتضح أمره حين تابع من تلقاء نفسه:
-أنا مش شايف دبلة في إيدها.
نظر له في ضيقٍ وهو يكمل محذرًا:
-على طول لحقت تفحصها، بأقولك إيه ملكش دعوة بأصحاب أختي، وخصوصًا "فيروزة"!!!

قال مبتهجًا وقد انفرجت أساريره:
-ده اسمها؟
على مضضٍ رد:
-أيوه.
لكزه في جانبه ممازحًا:
-طب ما تخليك جدع معايا وتعرفني بيها.
غامت نظراته مرددًا في ضيقٍ، وكأنه لا يستسيغ تلك النوعية من التصرفات:
-إنت مابتضيعش وقت؟!
أجابه بابتسامة غامضة وهو يغمز له:
-مش جايز ربنا يهديني وألاقي بنت الحلال هنا.

أنذره "ماهر" بلهجة اكتسبت جدية مُريبة:
-ماشي يا "آسر"، بس إياك تعملي مشكلة، أنا بأحذرك تاني.
قال في حبورٍ، وذلك الإحساس المتحمس يتخلله:
-اطمن .. ده أنا حبيبك.

أعمل "ماهر" عقله حتى يبادر معرفًا به دون أن يثير الشكوك أو يبدو في موقفٍ حرج، دنا من شقيقته وقد تأكد من تواجد "فيروزة" بقربها ليقول بابتسامةٍ عريضة متعمدًا لفت أنظارها:
-يا "علا"! "آسر" وفى بوعده وجه عيد ميلادك مخصوص.
بهجةٌ غير عادية طفت على تعبيراتها وهي ترد:
-مش مصدقة، ده احنا لازم نعمله تمثال!

ادعى "آسر" شعوره بالإحراج وقد وقف في مواجهة "فيروزة" لتصبح شبه قريبة منه:
-يا جماعة مش للدرجادي، إنتو كده بتحرجوني!
ردت عليه "علا" بقليلٍ من المرح:
-مش بعوايدك تلتزم بأي ميعاد.
ثبت عيناه المتفحصان على وجه "فيروزة" وهو يجيبها:
-ده بس عشان أنا لسه موجود ومسافرتش.
توردت بشرتها معقبة عليه:
-ده من حظي بقى.

اتخذت "فيروزة" موقف المشاهد الصامت الذي لا داعي من وجوده معظم الحوار إلى أن استطرد "ماهر" يقدمها له:
-دي بقلا يا سيدي صاحبة أختي الأنتيم "فيروزة".
نظرة مشرقة ظهرت في عينيه وهو يرحب بها بودٍ زائد:
-تشرفت بيكي، ماشاءالله اسمك حلو ومختلف
قالت "فيروزة" باقتضابٍ وقد سطع على وجهها تعبير مهني بحت:
-ميرسي.

تساءل "آسر" باهتمامٍ وهو يخطو نحوها خطوة محسوبة ليجبرها على التحرك معه ويوجهها وفق خطواته:
-طالما إنتي صاحبة "علا" يبقى خلصتي دراسة زيها، صح؟
شعرت بعدم الارتياح لأريحيته الزائدة في الحديث معها، وكأنه يعرفها منذ زمن، لهذا ردت بإيماءة مؤكدة من رأسها دون أن تنطق، ومع ذلك تابع متسائلاً بفضولٍ أكبر:
-بتشتغلي يا آنسة "فيروزة"؟ ولا أعدة في البيت؟

لم تحبذ تلك النوعية من الأسئلة التحقيقية التي يفرضها الآخرين عليها ليتدخلوا في شئونها دون مراعاة لعدم رغبتها في الاندماج اجتماعيًا مع الغرباء، أدركت أنها ابتعدت عن رفيقتها بمسافة شبه كبيرة مما وترها قليلاً، لذا أجابته بنوعٍ من الغموض وهي تحاول عدم إحراجه حتى لا تفسد بهجة الحفل بغلظتها:
-كنت.. وسبت الشغل.
سألها كأنه يلاحقها:
-مشاكل ولا محبتيش الشغل؟

تطلعت إليه وقد امتقع وجهها، ثم أجابته باقتضابٍ قبل أن تتركه لتعود لرفيقتها:
-يعني، عن إذنك.
لم يرغب "آسر" أن يصبح ثقيلاً معها، فأشار لها بيده قائلاً بتهذيب:
-اتفضلي، وسوري إن كنت ضايقتك
لم تلتفت نحوه حين ردت:
-مافيش مشكلة.

نفخت في ضيقٍ من أسلوبه وعادت لتقف بجوار رفيقتها، ولكن وسط بقية الفتيات حتى لا يتكرر الأمر إن كان مقصودًا منه، حانت منها نظرة سريعة لتتأكد أنه لا يتطلع إليها، أُصيبت بالذهول والارتباك وقد كان محدقًا بها بابتسامة هادئة، أخفضت نظراتها وادعت انشغالها بالحديث مع من حولها، لكن أخبرها حدسها بأنه ما زال يخترقها بنظراته النافذة .. تزينت الكعكة الكبيرة بالشموع التي ملأت أطرافها، قام "ماهر" بإشعالهم ليلتفت حولها الضيوف ، ثم بدأوا في ترديد أغاني العيد ميلاد الشهيرة، أطفأتهم "علا" جميعًا على دفعتين من الهواء، وتلقت التهنئات من صديقاتها الجميلات، جاء دور "فيروزة" فقالت مودعة إياها:
-كل سنة وإنتي طيبة يا "لولو"، مضطرية أمشي عشان وعدت ماما متأخرش.

انزعجت من انصرافها مبكرًا، وقالت بتذمرٍ:
-هو إنتي لحقتي؟
بررت لها بابتسامةٍ صغيرة ظهرت على شفتيها:
-معلش يا "لولو"، هابقى أعوضهالك، وخليكي إنتي مع ضيوفك.
تفهمت موقفها، وقالت:
-ماشي يا ستي، بس عاوزة أشوفك تاني
-أكيد.

رددت تلك الكلمة قبل أن تنحني عليها لتحتضنها لمرة أخيرة، ثم انسلت من بين الحضور معلقة حقيبتها على كتفها، استوقفها "آسر" فجأة وقد ظهر لها فجأة ليعترض طريقها:
-إنتي ماشية يا آنسة "فيروزة".
انزعجت من تطفله عليها، وردت بتجهمٍ شديد:
-أيوه
همت بالتحرك لكنه أوقفها بفرد ذراعه أمامها، رمقته بنظرةٍ حادة وذلك التعبير الساخط منتشر على محياها، تساءل "آسر" بلطافةٍ مهذبة:
-تحبي أوصلك؟ أنا معايا عربية، يعني بدل بهدلة المواصلات وكده
ارتدت قناع الجمود، وسددت له نظرات قوية نافرة لتقول بنبرة جافة:
-لا شكرًا، بيتي قريب.

ألح عليها مبتسمًا:
-على فكرة دي حاجة عادية خالص، و...
قاطعته بنظراتٍ صارمة:
-مش هاينفع، وعن إذنك.
خطت للجانب حتى تتمكن من السير، لكنه لحق بها، وسألها بعفويةٍ وعيناها تدرسان قسماتها التي تتباين في ردات فعلها في وقت قياسي:
-طب هاشوفك تاني؟
هتفت توبخه بنظراتها دون أن تتوقف:
-أفندم؟ تشوفني؟

ابتلع ريقه حين قرأ بوضوح تعابيرها المزعوجة، ثم برر بلطفٍ حتى لا تنفر منه:
-قصدي يعني أتمنى أشوفك مع "علا" مرة تانية قبل ما أسافر.
اختلج وجهها بحمرة متوترة، رن صوتها الرسمي في أذنيه حين ردت وحاجباها معقودان في ضيقٍ:
-إن شاءالله.

كان الطقس لطيفًا بالرغم من التجمعات الكثيفة للسحب منذ وقت الظهيرة، اعتقد "تميم" أنها لن تمطر، سيظل الجو غائمًا فقط، ولكن بدأت زخات المطر في الهطول ليضطر أسفًا أن ينهي أعماله في الميناء مبكرًا بعد تعبئة السفن بأطنانٍ من الفواكه والخضراوات، استقل سيارته، وتحرك ببطءٍ في الشوارع الرئيسية عائدًا إلى منزله، ولكنه توقف عند أحد محال البقالة ليبتاع ما ينقص بيته تنفيذًا لأوامر زوجته، وكالعادة أزعجته "خلود" باتصالاتها المتعاقبة على مدار ساعات اليوم الطويلة، أجابها لينتهي من ذلك الكابوس المستمر قائلاً بتبرمٍ:
-يا ستي أنا جبت كل حاجة، ارتاحي شوية.

سألته بدلالٍ لا يستلطفه:
-طب هترجع امتى؟ أنا مستنياك عشان ناكل سوا، يومي ما بيكملش من غيرك!
رد على مضضٍ:
-شوية كده..
-موحشتكش
-أكيد وحشتيني
-طب قولي النهاردة كان آ...
وقبل أن تستأنف باقي أسئلتها كتحقيقٍ متبع خلال يومه الممل هتف منهيًا المكالمة:
-يالا سلام دلوقتي يا "خلود" عشان في لجنة قصادي.

رأى "تميم" بضعة أفراد من الشرطة يقفون على مسافة منه يفحصون كل المركبات السائرة على الطريق ليتأكدوا من صلاحية رخصة قائديها، لم يلقِ بالاً للأمر لالتزامه بمعايير القيادة الآمنة، لكن رنين اتصالات "خلود" الزائد كان مرهقًا بالنسبة له بعد عناءِ يومٍ شاق، ردد مع نفسه في تذمرٍ:
-إيه .. طلباتك مابتخلص!!!

التفت على يساره ليلقي نظرة خاطفة على المتجمعين أسفل تندة تخص أحد محال الثياب، خفقة مباغتة ذات تأثير قوي داعبت قلبه حين رأها تحتمي بينهم من المطر، تطلع بإمعانٍ ليتأكد منها، لم يكذب الفؤاد، بالفعل كانت متواجدة بشحمها ولحمها تضع حقيبتها أعلى رأسها حتى لا يبتل شعرها، توترت أنفاسه وردد مذهولاً وهو يرمش بعينيه:
-مش معقول، دي هي!

وكأنه أصيب بحمى عجيبة تسببت في ارتفاع حرارة جسده، بل وأصابت عقله بلوسةٍ غريبة، تنفس بعمقٍ ليهدئ من انفعالاته التي اهتاجت فجأة، أوقف السيارة على الجانب المقابل من الطريق وتلك الرجفة تسري فيه، أدار رأسه مرة أخرى لينظر نحوها، كانت تجذب عينيه ليتأملها مليًا دون مللٍ، بدت فائقة الإغراء وقد ابتلت أطراف شعرها، انقبض قلبه من جديد بقوةٍ حين نفضته لتزيح العالق من مياه الأمطار..،

ضحكة رجولية عالية غير مريحة لفتت انتباهه وانتشلته من تحديقه الواله بها لتتبدل بعدها تعابيره الساهمة لوجوم غاضب، حرك رأسه بسرعةٍ ليجد بعض الشباب يمرحون فيما بينهم، هاجت دمائه من احتمالية تفكير أحدهم في مضايقتها، خاصة أنها كانت بمفردها، لذا دون إعادة تفكير ترجل من سيارته مقنعًا نفسه أنه سيتعامل معها بدافع الشهامة.

وبخطى متعجلة كان يقطع الطريق أشواطًا ليصل إليها، وقف قبالتها، كانت ذات رونقٍ مثير وجذاب بشكلٍ لا يُحتمل جعلت أنفاسه تضطرب، دارت عيناه على ثيابها الأنيقة لتحفر وصفها في مخيلته، بدت بيضاء للغاية، تنفس ببطءٍ ليستعيد ثباته، وبالرغم من كفاحه المستميت إلا أنه حين استطرد يناديها خرج صوته مغلفًا بلعثمةٍ طفيفة:
- آ.. يا .. يا أبلة.

تدلى فك "فيروزة" السفلي في اندهاشٍ مستهجنٍ حين رأته أمامها، الآن اكتملت ليلتها برؤيته، غامت نظراتها مرددة بضيقٍ بائن عليها:
-إنت؟!
نظرة واحدة منها كانت كفيلة بإرباكه، توتر أكثر وفقد تركيزه وهو يحاول إيجاد المقدمة المناسبة ليستهل بها حديثه معها، خاصة أنها من النوع المتهور المندفع الذي يتحين الفرص للانقضاض عليه، مرر يده على رأسه وتنحنح قائلاً بتمهلٍ:
-أنا مش جاي أضايقك، بس الجو وحش زي ما إنتي شايفة، ومافيش مواصلات كتير.

نظرت له متسائلة:
-والمطلوب؟
ضغط على شفتيه للحظة قبل أن يجيبها بحذرٍ:
-ماينفعش وقفتك كده.
على الفور حدث ما يخشاه، بدأت فاصلاً من الهجوم عليه، فقالت بتهكمٍ أزعجه:
-وحضرتك مالك؟ أخصك في حاجة وأنا معرفش؟ قريبتك مثلاً؟...
توقفت للحظة عن عمدٍ لتصيبه بالضيق أكثر قبل أن تواصل بنفس الأسلوب الساخر:
-يمكن خطيبتك، أه ولا جايز مراتك؟

راقب عصبيتها بنظراتٍ غريبة، وكأنه يدرسها، ما زالت تثير كلاً من دهشته وتحفظه بالرغم من الحنق المتبادل بينهما، لكنها كانت محقة في كلامها الأخير، لا توجد صلة بينهما، ومع هذا قال بخشونةٍ حتى لا تتمادى في هجومها القاسي عليه:
-في إيه لكل ده؟ أنا كنت عاوز أوصلك، باعتبار إن سكتنا واحدة، حاجة إنسانية يعني.
تقوست شفتاها بضحكة مستهجنة قبل أن تغمغم بوقاحة:
-لما أعوز أركب سفلأة (مجانًا) هاقولك!

صدمه ردها الفظ، وردد بعينين متسعتين:
-نعم!
هتفت باستعلاءٍ، وكأنها تحتقره:
-اللي سمعته!
سدد لها نظرة نارية حانقة، ورد عليها بغلظةٍ:
-يا ستي أنا غلطان، إن شاءالله ما ركبتي..
لكن لانت نبرته بمقدار بسيط حين تابع:
-بس الوقفة وسط الرجالة ماتصحش، مافيش آمان يا أبلة لحد!

نبع خوفه الصادق عليها من قلبه، استشعرت ما ينتابه من قلقٍ، وبعفويةٍ التفتت للجانب لتجد ذلك التجمع الرجولي الزائد، تلبكت من وجودهم الكثيف، أحست بالخطر مُحاوطًا بها وإن كانت تدعي شجاعتها، بعض المواقف تحتاج للتقييم جيدًا قبل اتخاذ القرار الحاسم، انتصبت بكتفيها، وعلقت حقيبتها التي تهدلت سلسلتها على كتفها من جديد، ثم قالت بنبرة عازمة دون أن تنتظر الرد منه:
-خلاص هامشيها، والمشي رياضة!

وبخطوات جمعت بين الثقة والخيلاء بدأت بالسير على الرصيف متجاوزة إياه لتبتعد عنه وهو يكاد لا يصدق أنها فعلت الأسوأ وسارت تحت المطر لتبتل كليًا، ضرب كفًا بالآخر متعجبًا من عنادها وهو يردد لنفسه:
-رهيبة، بالله ما شوفت كده!

أزاحت "فيروزة" بيدها خصلاتها التي التصقت بجبينها، ولم تدرك أنها أسقطت مشبك رأسها بحركتها المتعصبة، لمح "تميم" ذاك الشيء الذي وقع منها وأحدث ارتطامه بالرصيف تناثرًا للمياه، سار خلفها باحثًا عنه، كان بريقه واضحًا ليتمكن من العثور عليه، انحنى ليلتقطه، تأمله في استمتاعٍ وقال مداعبًا وتلك النظرة الدافئة تلتصق بطيفها المبتعد:
-طاووس فعلاً.

تراءى له بوضوحٍ ما يجب أن يفعله معها دون أن يثير الجلبة، سيتبعها كظلها بسيارته إلى أن تصل إلى منزلها في سلامٍ .. بالفعل منح نفسه الوصاية عليها، ونصب نفسه حارسًا عليها وإن لم تعلم ذلك... !!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة الحادية والثلاثون بقلم منال سالم


شبت منذ نعومة أظافرها على فكرة أن تكون له وحده، لم ترَ سواه .. ولم تعرف غيره! هيأتها والدتها لتكون رفيقة دربه دون أن تمنحها حق الاختيار، بل وتأتي منه بالوريث الوحيد لثروة تلك العائلة ليستريح والدها في قبره، ورضخت بكامل قواها العقلية لإرادتها لكون الأمر على هواها، فأصبح شاغلها الوحيد، وطوال أعوامٍ عاشت بخيالها داخل ما أسمته حبها الأفلاطوني، وإن كان من طرفها فقط وبدون وجوده ليشاركها في تفاصيل حياتها، تأصل بداخلها رغبة أنانية في امتلاك كل ما يخصه؛ قلبه، مشاعره، جوارحه، وحتى أنفاسه التي يتلفظها..


 
لم تتدرك "خلود" أنها حولت أحلامها الوردية إلى هوس خاص بها ازداد عمقًا بمرور الأيام، وحين أصبح شريكها عجزت عن امتلاكه مثلما طمعت، كان يأبى استحواذها غير المقبول عليه، تحكمها الزائد فيما يخص أمور حياته حتى التافه منه، ولم تمنحه الفرصة لاستيعاب حبها بغير شروط، بل لجأت لحيلة سهلة التنفيذ كما أوصتها والدتها، وحاصرت المشاعر المتبادلة بينهما في الفراش فقط، فأصبحت تجره جرًا إليه لتستنزف قواه أولاً بأول معتقدة بذلك أنها إن نجحت في إشباع رغباته امتلكته.
تفقدت ألبوم الصور الفوتوغرافية الذي جمعت فيه صور حفل الزفاف بعينين حائرتين وهي تستلقي على الأريكة، تأملت وجه "تميم" بدقةٍ، لم يبتسم بسعادة، لم تظهر علامات البهجة على قسماته، كان في أغلب اللقطات إن لم تكن جميعها بلا تعبيرٍ مقروء، رددت بتنهيدة وكأنها تخلق المبررات لنفسها لتقنع عقلها بتقبل جفائه:
-حتى لو مكونتش بتحبني أد كده، فإنت هتفضل ليا!


 
اعتلى شفتاها ابتسامة واثقة حين أضافت:
-وبكرة لما أجيبلك ابنك وحفيد العيلة اللي من صلبك الضحكة هترجع لوشك، ومش هاتقدر تبعد عني!
استغرقت في أفكارها الحالمة لبعض الوقت إلى أن رن هاتفها المحمول، أخرجت زفيرًا بطيئًا من جوفها وهي تمد يدها بتثاقلٍ لتأتي به من على الطاولة، نظرت إلى اسم والدتها، وأجابت بتكاسلٍ ملحوظ:
-أيوه يامه.

صاحت فيها الأخيرة بضيق انعكس جليًا على نبرتها:
-مابترديش ليه على طول؟ وراكي الديوان وأنا معرفش؟
استغربت من عصبيتها، وتساءلت:
-مالك داخلة فيا كده؟ إيه اللي مضايقك يامه؟ "هيثم" عمل حاجة تاني
ردت بتبرمٍ:
-هو عامل حاجة غير إنه قرفني بالمعدولة "همسة"، تقولش مافيش إلا هي اللي خرطها خراط البنات!


 
علقت "خلود" في ضجرٍ وهي تغلق ألبوم الصور لتطرحه جانبًا:
-بكرة ينساها، يومين وهيرجع زي ما كان.
استطاعت أن تسمع صوت زفيرها قبل أن تضيف:
-مش باين، قوليلي جوزك رجع ولا لسه برا؟
أجابتها بزفيرٍ بطيء:
-في الطريق.
أكملت متسائلة باهتمامٍ:
-طب كويس، ها طمنيني، في أخبار الشهر ده تفرح؟


 
عادت "خلود" لتتذكر تحليل الحمل المنزلي الذي أتت به بالأمس لتختبر سرًا إن كانت تحمل في أحشائها جنينًا أم لا حين تأخرت عليها زائرتها الشهرية يومين، كانت النتيجة لا شيء، واليوم حلت ضيفتها بآلامها لتقلب مزاجها وتنغص أحلامها .. وبنفس الوجوم جاوبتها مبتلعة تلك الغصة المريرة في حلقها:
-لأ، مافيش نصيب
شعرت بنبرتها الحانقة تخترق أذنها وهي تلومها:
-إزاي يا بت؟ طب عملتي اللي قولتلك عليه؟

شردت متذكرة شريط الأقراص الدوائي الأزرق الموصوف لأصحاب الحالات المرضية التي تعاني من ضعف في العلاقات الزوجية، والذي أحضرته لها والدتها بعد بضعة أيامٍ من زواجها، وأمرتها دون نقاشٍ معاها بدسه لزوجها وسط الطعام يومًا بعد يوم لتنشط خلاياه وتعزز من نزعاته الذكورية حتى تزداد رغبته في ابنتها إن كان ينبذها وفي نفس الوقت تتمكن سريعًا من الحمل، تقلصت تعبيراتها وأطلعتها بالتفصيل على ما قامت به، وقالت:
-أيوه، طحنت الأقراص وحطيتهم في الأكل بتاعه، مخلتش في نفسه حاجة إلا وعملتها عشان أضمن إنه ياخده.


 
خالفت ما أوصاها به "تميم" من عدم إطلاع أي فرد من عائلتهما على أسرار غرفة النوم، بأن تكون علاقتهما الحميمية منحصرة بينهما لا وسيلة للتداول على الألسن، فعلت النقيض والأسوأ بكثير دون علمه أو مراعاة مدى التأثير الجانبي السلبي عليه لإفراطه في تناول تلك المواد المنشطة معتقدة أنها بذلك تزيد من استحواذها عليه .. سألتها والدتها بتلهفٍ:
-وبياكل ولا بيحصل إيه فهميني؟

أجابتها مؤكدة على مسامعها:
-أيوه، مافيش وجبة فوتها، وبعدها بيحصل المراد يامه.
تساءلت "بثينة" في حيرة:
-أومال في إيه؟ ده المفروض يجيب جيش قرود بعد الطفح ده كله واللي بتعمليه فيه!!
عقبت على مضضٍ:
-هو مقصرش معايا، بيه أو من غيره "تميم" بيقوم بدوره.
قالت لها بنوعٍ من المواساة:
-مش عارفة أقولك إيه بس، لسه الوقت مأزفش..
-أيوه..


 
استأنفت "بثينة" نصائحها الماكرة، فأوصتها مشددة:
-المهم ابلفيه تحت جناحك بالدلع والشخلعة مرة، بالبرشام والذي منه مرة، ما تخليهوش على بعضه، مش عايزاه يشوف إلا إنتي، اسمعي مني يا "خلود" الرجالة مالهاش أمان، واللي زي جوزك كنز، سهل واحدة تجره ليه لو مكانتش عينه مليانة منك، املي مزاجه وسيطري عليه.
توهجت حدقتاها بوميضٍ غريب، وردت بثقة:
-حاضر، إنتي مش محتاجة توصيني عليه، أنا مهما عمل "تميم" فهو بتاعي، مش هايكون لحد غيري!

فَسد حذائها الأبيض بفعل مياه الأمطار التي اخترقت جلده وتشبعت به فأصبح فعليًا وعاءً تغوص فيه قدميها، سارت بتذمرٍ وهي تلوم نفسها على تسرعها تلك المرة في اتخاذ القرار، لما لم تُعاند نفسها وتستقل سيارة أجرة، فالشوارع لا تصلح للسير، ولا الأرصفة ممهدة بشكلٍ جيد يقيها من العثرات المفاجئة، بعد عناءٍ وصلت "فيروزة" إلى الطريق الرئيسي المؤدي إلى بيتها، التفتت لتنظر إلى جانبيه قبل أن تعبره، ذُهلت حين رأته يسير بسيارته بهوادة ليبدو قريبًا منها، تجهمت تعبيراتها، وصاحت فيه:
-إنت بتراقبني؟

رد "تميم" ببرودٍ، ومرفقه مستندٌ على حافة النافذة المنخفضة:
-لأ
سألته بضيقٍ وهي تلوح بيدها:
-أومال بتسمي اللي بتعمله ده إيه؟
أوقف محرك السيارة، وترجل منها وهو يجيبها مازحًا بابتسامة صغيرة تعبر عن هدوئه:
-ولا حاجة، وأكيد مش شغال في المخابرات عشان أراقبك!
تقدمت نحوه ورمقته بنظرة قوية قبل أن تخبره:
-يا حضرت إنت ماشي ورايا ليه لحد بيتي.

فرد ذراعيه في الهواء موضحًا لها بثقةٍ ونظراته المغترة تتراقص في حدقتيه:
-أنا ماشي في شارع الحكومة، أسفلت زي أي أسفلت..
ثم وضع يده أسفل ذقنه مدعيًا التفكير قبل أن يتابع متسائلاً بنبرة ساخرة:
-ولا يكونش من أملاكك وأنا معرفش ومعلقين يافطة كاتبين فيها بالبونط العريض ممنوع الدخول ل "تميم" عشان الأبلة ماتضايقش؟!
انزعجت من جملته التهكمية، وقالت بعصبيةٍ وهي توليه ظهرها:
-أنا غلطانة إني واقفة هنا أصلاً.

شبك ساعديه أمام صدره، ورد عليها:
-وأنا مش ماسكك، اتفضلي خليني أرجع بيتي.
أدرك على الفور زلة لسانه التي انفلتت دون قصدٍ منه فتوقفت "فيروزة" عن السير وقد سمعتها بالفعل لتستدير نحوه، فأشار بسبابته مبتسمًا ببلاهة::
-الدنيا أصلها زحمة ومطر وحاجة صعب الصراحة، الواحد المفروض يخليه في البيت.

هزت رأسها في عدم تصديقٍ، وتابعت السير بخطواتٍ متعجلة قاصدة مدخل منزلها، تنفس الصعداء وهو يوبخ نفسه على ذلك الخطأ، أرخى ذراعيه وتحسس جيب بنطاله ليبحث عن ولاعته، لكنه تذكر مشبك الرأس الذي وجده، أخرجه من جيبه ليتطلع إليه في حيرة، تردد في إعادته لها وقبض عليه براحته، خشي أن تظن أنه يتمادى معها، قرر الاحتفاظ به لكن عادت ذكرى حادثة منديل الرأس لتنشط عقله، وقال لنفسه بنوعٍ من التحذير:
-كده هعمل مشكلة تاني مع "خلود"، وماينفعش أكدب عليها! المرة اللي فاتت عدت على خير، مالوش لازمة أجيب وجع الدماغ لنفسي!
عقد النية على قيادة السيارة والالتفاف حول منزلها ليتمكن من اللحاق بها، ومن ثم إعطائها إياه تجنبًا للمشاكل.

في تلك الأثناء، جمعت فيروزة بيديها شعرها المبتل وكأنه تمشطه حتى لا يلتصق بوجهها، ولجت إلى مدخل المنزل وهي غير منتبهة لذاك الشخص القابع في العتمة، وعلى ما يبدو لم يتوقع هو الآخر رؤيتها، شهقة مباغتة خرجت من جوفها حين لمحته جالسًا على الدرج وهو يحني رأسه على صدره، في البداية ظنت أنه لص قد جاء لسرقة المنزل، ولكن لماذا يجلس هكذا؟ تساءل عقلها بمنطقية قبل أن ينبذ تلك الفكرة، دنت منه بحذرٍ وقد استجمعت شجاعتها، دققت النظر فيه لتتبين ملامحه وهي تتساءل بصوتٍ حاولت أن يبدو ثابتًا حتى لا يظهر خوفها الغريزي:
-إنت مين؟ وقاعد كده ليه؟

رفع "هيثم" رأسه ليجدها أمامه، وكأن كراهية الدنيا كلها قد تجمعت في عينيه بمجرد رؤيتها تحديدًا، تفاجأت هي الأخرى بوجوده، وبادلته مشاعر العداء، استند على مرفقيه لينهض من جلسته المتعبة، هبط الدرج نحوها يلومها بنبرة حانقة للغاية:
-إنتي السبب!
لم تتخلَ عن جأشها، وصاحت فيه دون رهبة:
-إنت بتعمل إيه هنا؟

بدا "هيثم" في حالة غريبة، منذرة بطوفان من الغضب المكتوم، شعرت بذلك في صوته عندما أخبرها:
-إنتي اللي مخلياها ترفض ترجعلي.
تراجعت على درجات السلم بظهرها لتمنح نفسها مسافة آمنة قبل أن يفكر في الهجوم عليها، وبتمهلٍ حذر ردت عليه:
-روح لحالك .. مافيش نصيب
صرخ بها:
-من الأول وإنتي حطاني في دماغك، بتكرهيني من غير سبب
ابتلعت ريقها وعلقت عليه:
-وأنا في إيه بيني وبينك؟

هدر بها بصوته الغاضب وقد واصل هبوطه متجهًا نحوها:
-وأنا عملتلك إيه؟ مكانتش غلطة حصلت وأنا مكونتش في وعيي ساعتها!
استنكرت استخفافه بتأثير خسته على حالة توأمتها النفسية، وانتفضت تصرخ فيه:
-بتسمي اللي عملته فيها غلطة؟ بتتهجم عليها والله أعلم كان إيه ممكن يحصل لو ملحقتهاش إنه غلطة، المفروض بعد ده نتكسف على دمنا ونسكت ونرضى بيك!!!
رد بألمٍ وتلك الدمعة المقهورة تفر من عينه:
-وخدت جزاتي خلاص، ليه عاوزة تحرميني منها؟

قالت بقساوةٍ وقد هبطت الدرجات بالكامل لتصبح أمام المدخل:
-أختي مش هاتجوزك مهما حصل
توسلها بنبرة تميل للبكاء علها تمنحه الأمل:
-خليني اتكلم معاها، أشرحلها موقفي
رفضت طلبه دون تفكيرٍ:
-مش هايحصل!

يئس من إقناعها بالعكس لتزداد قناعاته بأنها متسلطة ومتحكمة فيما يخص شئون خطيبته السابقة، باح بما ينتاب عقله من هواجس في تلك اللحظة، واتهمها:
-إنتي ضاغطة عليها عشان ماترجعليش، من وقت ما اتقدمت لأختك وإنتي مش راضية بيا، زي الشوكة في الزور!
نظرت له باستحقارٍ قبل أن تقول منهية الحوار معه:
-هي مش عاوزاك، وخلاص ده باب واتقفل في وشك، روح لحال سبيلك، ملكش نصيب، اتفضل.

وقف "هيثم" قبالتها ينظر لها بكل ما يعتريه من غيظٍ وغل، احتقنت عروقه من شدة حقده المتعاظم، رفع يده يهددها بلا وعيٍ:
-وأنا مش هاسيبك تمنعيني عنها .. إنتي السبب!
تحدته بجراءةٍ وهي تبتعد عنه لتقترب من الرصيف:
-لو ما خرجتش بالذوق هاجيبلك البوليس
لحق بها قبل أن تخرج من المدخل وأمسك بها من رسغها ليوقفها، ثم جذبها بقسوة للداخل وهو يأمرها بصوته المحتد:
-استني هنا!

استخدمت "فيروزة" حقيبتها كوسيلة دفاعية لتقاومه بكل شراسة، رفعتها أمام وجهه وضربته بأقصى طاقتها على صدغه لتؤلمه وهي تصيح به:
-ابعد عني!
أحدث قفلها المعدني خدشًا واضحًا في صدغه، استشاطت حدقتاه على الأخير، وتطلع لها بشرٍ مبين، وقبل أن يفكر في الرد عليها كان "تميم" يقف حائلاً بينهما بجسده وهو يناديه بصوته الأجش القاسي:
-"هيثم"!

شلت المفاجأة تفكيره ووترته لحظيًا، لم يتوقع ظهوره في ذلك التوقيت، جف حلقه، ونظر له بترقبٍ، في حين استل "تميم" معصمها من قبضته، ورمقه بنظرة قاتمة منذرة جعلته يتراجع على الفور للخلف، ثم سأله بغلظةٍ:
-إنت بتعمل إيه هنا؟
لم يجبه، ونكس رأسه خزيًا، بينما ردت "فيروزة" من خلفه تتوعده:
-أنا هاطلبله البوليس عشان يترب....
التفت "تميم" نحوها يقاطعها بصيغة آمرة:
-اهدي يا أبلة، وخليني أفهم الأول منه!

نظرت له بحنقٍ قبل أن ترد بما يشبه التهكم:
-أه طبعًا، ما هو قريبك لازم تحاميله!
وفجأة سمع كلاهما صوت بكاءٍ حارق جعلهما يتطلعان للأمام ويتشاركان في نفس الصدمة، حيث انفجر "هيثم" باكيًا وهو يجثو على ركبتيه متوسلاً:
-ليه محدش عايز يسمعني أو حتى يصدقني؟ للدرجادي مستحقش فرصة تانية أثبت ل "همسة" بيها إني اتغيرت؟
حملقت فيه بازدراءٍ قبل أن تغمغم:
-قالوا للحرامي احلف!

صرخ باهتياجٍ وهو يتطلع لها بعينيه الملتهبتين:
-طب اعمل إيه عشان تصدقوا إني ندمان وفعلاً بأحبها؟!!
هتفت فيه "فيروزة" تلوح بذراعها وقد ظهر الاستنكار في صوتها ونظراتها إليه:
-حب؟ دي معرفتها بيك مكملتش كام يوم!
رد بحرقة وذاك الوخز يحز في قلبه:
-أقسم بالله حبيتها من أول نظرة.
قالت بقسوة وبوجه جليدي صارم:
-والمفروض أنا عبيطة وهصدق ده؟

انفلتت أعصابه وفقد القدرة على التحكم في انفعالاته، نهض بمشاعره المحتقنة من على الأرض وتلفت حوله بنظراتٍ غائمة، ثم اقترب من الحائط واستند عليه بكفيه وبدأ بضرب رأسه به بشكلٍ جنوني عنيف ودون توقف وهو يصرخ في إحباطٍ متألم:
-قوليلي أعمل إيه طيب؟ ردي عليا.

توترت "فيروزة" من هيئته الهائجة، وانتفض جسدها مع ضرباته المرعبة التي كادت تهشم رأسه، نظر له "تميم" مذهولاً، وأسرع نحوه ليبعده عن الحائط، مرر ذراعيه أسفل إبطيه وسحبه للخلف محاولاً تحجيم نوبة جنونه المخيفة، قيد حركته قائلاً له بما يقارب الرجاء:
-اهدى يا "هيثم"، إنت هتموت نفسك؟!

انسابت خيوط الدماء بغزارة من جبينه لتصبغ كامل وجهه باللون الأحمر القاني، ومع ذلك تابع بصوته المتألم لكن بوهنٍ:
-أنا زبالة وابن .......، وكل يوم بأضرب نفسي بالجزمة عشان كنت نجس معاها!
وبفمٍ مفتوح ونظرات غير مصدقة للمشهد الدموي المقشعر للأبدان رددت "فيروزة" لنفسها:
-ده اتجنن ولا إيه؟
ركز "تميم" عينيه نحوها يأمرها:
-اطلعي فوق دلوقتي
همَّت بالاعتراض لكن صوته الصارم واصل القول:
-عجبك حالته دي؟

بالطبع لا، هكذا قالت في نفسها دون أن تنطق، هي ليست بتلك القساوة لتعلن عن غبطتها لرؤيته أحدهم يأذي نفسه بتلك الصورة البشعة، وكأنه يدفع حياته للهلاك، ضغطت على شفتيها بقوةٍ وانسحبت مرغمة لتصعد على الدرج، لكنها توقفت عند المنتصف لتلقي نظرة متابعة للمشهد، رأت "تميم" يلف ذراعه حول كتفي "هيثم" ليرفع جسده عن الأرضية مما يسهل عليه اقتياده نحو الخارج، وظهر الأخير في حالة وهنٍ شديدة، ناهيك عن بقع الدماء التي لوثت ثيابه والأرضية، وللمرة الأولى تشعر نحوه بالأسف والإشفاق.

لوعةٌ أم ارتعابٌ أم كلاهما معًا هو كل ما شعرت به في تلك اللحظة حين أطل عليها زوجها وهو يجر أخيها جرًا للداخل .. كانت رأسه مضمدة بالشاش الأبيض، ووجهه في حالة ذبول وإرهاق، انهالت عليهما بالأسئلة المتواترة وكأنهما في تحقيق رسمي، التزم "تميم" الصمت ونظر لها بعينين تقدحان حنقًا، اضطرت "خلود" أن تبتلع لسانها مؤقتًا وتبعت الاثنين بقلبٍ واجف مرتعد إلى غرفة النوم الفرعية -والخاصة بالأطفال- ليتمدد "هيثم" على الفراش الفردي وقد كان شبه فاقد للوعي، لكن أنينه الخافت لم يتوقف، سحب "تميم" الغطاء على جسده ملقيًا نظرة أخيرة مهتمة عليه قبل أن يدير رأسه في اتجاه زوجته ليأمرها بصوتٍ خفيض:
-كلمي أمك وقوليلها أخوكي هيبات عندنا الليلة من غير ما ترغي معاها كتير في أي تفاصيل!

سألته في تلهفٍ، ونظراتها القلقة ترتكز على أخيها:
-حصله إيه؟ وإيه اللي في وشه ده؟ إنتو كنتوا بتتخانقوا؟
رد نافيًا بصوته الهامس:
-لأ.
نظرة شمولية جابت بها على جسد زوجها، لم يكن مصابًا، أو بوجهه كدمات، سألته لتتأكد:
-إنت كويس؟ حصلك حاجة؟
هز رأسه بالنفي، لكنها تابعت تساؤلاتها المتوجسة:
-أومال إيه اللي حصل؟ "هيثم" عمل مصيبة جديدة؟ فهمني يا "تميم"! ماتفضلش ساكت كده!

أمسك بها من ذراعها ودفعها برفقٍ بعيدًا عن الفراش حتى لا توقظه بضجيج صوتها المرتفع، خرج بها من الغرفة وأغلق الباب بهدوءٍ لينظر لها بعدها بحدة وهو يعاتبها:
-سيبي أخوكي يرتاح الأول.
وضعت يدها على ذراعه وسألته في قلقٍ:
-مين عمل فيه كده؟
أجابها باقتضابٍ وهو يسير في الردهة متجهًا إلى غرفة نومه:
-محدش.
تبعته بخطى متعجلة تُلح عليه:
-ماتسبنيش كده على ناري، احكيلي بالظبط إيه اللي حصله!

لم يكن "تميم" في حالة مزاجية رائقة ليسرد لها بالتفصيل ما فعله خلال الساعة الماضية التي تضمنت تهور أخيها في منزل "همسة"، واضطراره للتدخل وإسعافه على الفور، ثم نقله من المشفى إلى منزله وإبقائه تحت ناظريه بناءً على تعليمات الطبيب المعالج له حتى لا يكرر تصرفه الطائش ويتسبب في إلحاق الضرر الجسيم بنفسه، وحينها ربما لن يتمكن من إنقاذه .. خلع سترته الجلدية نافخًا في ضيقٍ من ملاحقتها له بالرغم من صمته المشحون، واستدار يقول لها بتعبٍ:
-بعدين يا "خلود"، روحي اعملي اللي قولتلك عليه، والصبح هاحكيلك كل حاجة.

قالت بنظراتٍ معاندة وهي تمسك به من ياقة قميصه لتديره نحوها:
-لأ دلوقتي.
فاض به الكيل من إصرارها المزعج، لذا أزاح يدها عنه وزفر عاليًا بضيقٍ جم، ثم اتجه للفراش ليجلس على طرفه نازعًا قميصه المتسخ عنه وهو يهدر بها بنفاذ صبرٍ:
-يووه، أنا تعبان يا "خلود"، قدري ده شوية
ردت على مضضٍ وهي تنحني لتلتقط قميصه الذي ألقاه بعصبيةٍ أسفل قدميه:
-حاضر، بس لما أخلص معاها هتقولي على كل حاجة تخصه
-ربنا يسهل.

قالها وهو يعاود النهوض ليتجه إلى الحمام ليغتسل، ظلت أنظارها ممسكة به إلى أن ولج للداخل وأغلق الباب خلفه، خرجت من الغرفة واستلت هاتفها المتصل بالشاحن لتخبر والدتها دون إسهابٍ أو توضيح عن مبيت "هيثم" في منزلها، وبالرغم من تذمر "بثينة" من جملها الغامضة إلا أنها التزمت بما أملاه عليها وأوجزت معها، تركت هاتفها في مكانه وعادت إلى زوجها لتجده مستلقيًا على الفراش وقد أغمض جفنيه، وذراعاه معقودان خلف رأسه، نظرت له بحدةٍ والغيظ يتملكها لاستغراقه في النوم وهي تحترق فضولاً أمامه، تقدمت نحوه وسألته:
-إنت نمت؟

أجابها دون أن يفتح عينيه:
-بأحاول.
كزت على أسنانها مدمدمة في تبرمٍ:
-ماشي يا "تميم"، اهرب مني دلوقتي، بس مش هاسيب الموضوع ده يعدي كده من غير ما أفهم إيه اللي حصل ل "هيثم".
رد باقتضابٍ:
-ماشي.
انحنت لتجمع باقي ثيابه التي تركها بإهمالٍ على المقعد التابع للتسريحة، ألقت نظرة متأنية على بنطاله وقد اتسخ بآثار الدماء، رددت مع نفسها:
-طبعًا كل هدومك محتاجة تتغسل.

تفقدت محتويات جيوبه كتقليد متبع تقوم به الزوجات حين تشرعن في غسل ثياب أزواجهن، أخرجت محفظته من جيب بنطاله الخلفي، وكذلك ميدالية مفاتيحه من الجيب الجانبي، ثم تحسست الجانب الآخر لتشعر بتلك الكتلة المعدنية الصغيرة التي تستقر في قعره، دست يدها فيه وأخرجتها منه لتنظر بعينين متسعتين في اندهاشٍ لمشبك الرأس الأنثوي المميز، انقباضة مصحوبة برجفة عظيمة ومقلقة سرت في ضلوع قلبها، ناهيك عن الهواجس المرعبة التي نخرت في رأسها وقد لبك بدنها، استدارت كالملسوعة نحوه تسأله بصوتٍ مغاير لذلك المتدلل حين تُحادثه بنعومة وهي ترفع المشبك للأعلى ليصبح نصب عينيه المغمضتين:
-بتاع مين ده يا "تميم"...؟!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة الثانية والثلاثون بقلم منال سالم


كان على فراشه الوثير مستلقيًا وفي حالة شبه مسترخية محاولاً استدعاء النوم الذي بات عزيزًا عليه حين اخترقت رنة صوتها الحادة أذنيه لتسأله مباشرة وبعصبية جلية عن ذاك المشبك الذي تناسى أمره كليًا في خضم ما مر به، فتح "تميم" عينيه ليحملق فيها مصدومًا لبرهة، وكأنه يتأكد مما يراه، اعتدل من رقدته ليتطلع إليها بصمتٍ، رمش بجفنيه وبريق ذلك المشبك ما زال ينعكس في حدقتيه، ودون بادرة كذب قرر أن يجاوبها بتعابيرٍ هادئة:
-بتاع الأبلة .."فيروزة"!


 
لم يدرك أنها المرة الأولى التي يتلفظ بها باسمها، وكأنه يختبر وقعه على مسامعه وبين شفتيه، كان حين نطق به بعفوية مُربكًا، موترًا، وخافقًا لقلبه، ولكن لسوء حظه كان أمام زوجته التي انفجرت غضبًا وغيظًا، أغيرها تنادي شفتاه؟ تنشطت ذاكرتها بذكرى منديل الرأس والمشبك القديم حين اكتشفته مصادفة وظنت والدته أنهما لها..،


 
عُقدت المقارنة في رأسها حين تكرر الأمر من جديد، وليست النهاية مرضية كما أخبرها من قبل بأنها متعلقاتٍ تخص لأخته لتنتهي القصة على خير، بل لأخرى غريبة عنه متلونة بشكلٍ أخافها، بالطبع تلك الشابة رأته وأملت نظراتها منه في غيابها، وتبادل هو معها الحديث وإن كان مقتضبًا، ثم أعطته أشيائها ليحتفظ بها وتحترق هي بنيران غيرتها عندما تكتشف الأمر، كان لذلك التفكير المؤلم آثارة عليها؛ حيث غطى الوجوم والحنق كامل وجهها، غلت الدماء في عروقها واندفعت بحممها الملتهبة لتغزي كامل جسدها، تشعبت بشرتها بحمرة ساخنة وظهر ذلك جليا عليها، احتدت نظراتها وصرخت تسأله وهي تدنو منه:
-بتقول مين؟!!!!

لم تتغير نبرته حين أوضح لها بنفس الثبات الانفعالي، وكأنها لم تتعرف إلى هويتها:
-البنت إياها أخت "همسة" خطيبة أخوكي.. أقصد يعني اللي كانت خطيبته
تحولت تلك الرقيقة الناعمة معه -والتي تُباري قريناتها في الاستحواذ على زوجها بأساليب الحب المشروعة والملتوية- إلى امرأة شرسة غاضبة تكاد تفتك به بنظراتها المظلمة، اندفعت نحوه لتمسك به من ياقته، هزته في عصبية مفرطة وهي تعلق عليه بنرفزة أشد، وكأنها تستجوبه بطريقة غير لطيفة على الإطلاق:
-ما أنا عارفة هي مين، إنت مش محتاج توصفهالي البت دي، والزفت بتاعها ده بيعمل إيه في جيبك؟! ما تنطق!


 
أزاح -رغم ضيقه البادي عليه من أسلوبها الفظ في التعامل معه- قبضتها بعيدًا عن ياقته، كان إلى حد ما متفهمًا لانزعاجها بشأن ذلك المشبك، من البديهي أن تساورها الشكوك حول شيءٍ أنثوي يخص غيرها، لكنه لم يتوقع أبدًا أن تثور هكذا، نهض عن الفراش وهو يدفعها برفقٍ للجانب ليتمكن من المرور، لم يستدر نحوها وأجاب مسترسلاً ببرودٍ زائف:
-نسيت أديهولها لما وقع منها في الشارع.

دارت حوله لتغدو في مواجهة وجهه الجليدي، سددت له نظرات نارية قاتلة وهي تواصل الصراخ المنفعل:
-نعم .. نسيت؟!!!
تنفس "تميم" بعمقٍ ليثبط تلك المشاعر المنزعجة التي بدأت تتصاعد بداخله، وقال على مهلٍ وبأنفاسٍ شبه ثقيلة موضحًا لها طبيعة الموقف منذ البداية حتى لا يبدو كمن يخدعها:
-بصي أخوكي كان بيتخانق معاها وهيرتكب جناية وأنا لحقته ساعة لما شوفتها و....


 
لم تتحمل "خلود" أي تبرير، فقدت عقلانيتها وتمكن منها غضبها الأعمى، فقذفت بغيظٍ بالمشبك في وجهه ليخدشه عند جانب صدغه، وصرخت فيه لتقاطعه بتهديد عدائي:
-أنا اللي هارتكب جناية لو مفهمتش حالاً إيه علاقتك بالبت دي!!
نظر لها بقوةٍ رافضًا ذلك الإتهام الباطل، وحذرها بلهجةٍ شديدة غير متسامحة بعد أن تغيرت معالم وجهه للحنق:
-خدي بالك من كلامك ده، مافيش بيني وبينها أي علاقة!
رمقته بنظرة جارحة من عينيها الغاضبتين، وقالت في استهجانٍ متعاظم:
-هو أنا هبلة عشان أصدقك؟ إنت كداب يا "تميم"...

اتسعت حدقتاه مذهولاً من إهانتها القاسية، بينما تابعت بنفس الأسلوب الهجومي المحتد:
-تلاقيك جايبه ليها وعامل الفيلم ده عليا عشان أصدقك!
زجرها بخشونةٍ وقد شخصت أنظاره:
-"خلود"!
دفعته بعصبيةٍ من صدره مواصلة إلقاء التهم عليه:
-طبعًا العانس دي مصدقت لاقت أختها اتخطبت وهي زي البيت الوقف، حبت ترمي شباكها عليك جايز الصنارة تغمز، وملاقتش إلا جوزي تجرب معاه، وإنت اديتها وش فساقت فيها.


 
نظر لها في استياءٍ ثم أولاها ظهره وتحرك في اتجاه النافذة ليفتحها حتى يستنشق الهواء قبل أن يختنق بحنقه المندلع بداخله، فلم يكن أيًا مما تلفظت به حقيقي بالمرة، بل على العكس كان مزيجًا من الإهانة والتجريح، ردد في عتابٍ علها تتوقف عن استفزازه:
-والله ما عارف أقولك إيه.. أكيد مافيش واحدة طبيعية هاتفكر بالشكل ده!

كانت في ذروة عصبيتها الهوجاء، اليوم اختبرت مشاعر الغيرة لديها أقصى درجات احتمالها، وفشلت في السيطرة عليها، انحنت "خلود" لتلتقط المشبك من على الأرضية، وكالمجنونة لحقت به لتمسك يده، وضعته عنوة في راحته وأضافت:
-خديه يا حبيبي، خليها تشبع بيه.
تحولت نظرات العتاب لديه للومٍ واستنكار، ثم قال لها محذرًا بنبرة أشد بأسًا:
-هي ضربت معاكي جنان على آخر الليل، ولو فضلتي على كده أنا هاسيب البيت وأمشي!

أمسكت به من ياقتيه تهزه بجنونٍ وهي تهدر بصوتها المرتفع الغاضب:
-عشان تروحلها؟! وأنا مش هاسيب واحدة زي دي تخطفك مني، ده على جثتي!
أشفق عليها وقال:
-إنتي مش في وعيك، مافيش حاجة من أساسه!


 
واصلت هزه بعصبيةٍ وهي ترد بعقلٍ مغيب، وكأنها تُعايش بكامل جوارحها ما رسمه خيالها من أوهام مخادعة لتعزز من تلك الأكذوبة:
-وأنا مش هاستنى أما يحصل بينكم حاجة، هاروحلها البيت وأوقفها عند حدها الصايعة خراب البيوت!
وضع "تميم" كلتا يديه على قبضتيها المتشنجتين، أبعدهما عن ياقته وحذرها بنبرته الخشنة، ودون أن يرف له جفن:
-فوقي يا "خلود"، مش هاتبقي إنتي وأخوكي هتشبكوا معاهم
اشتعلت الحمرة الحانقة في عينيها، وصرخت به تسأله:
-إنت بتحبني صح؟ رد عليا!

لم يجد من الكلمات ما يجيب به عليها ليعبر لها عن مشاعره الحالية نحوها بعد إساءتها غير المقبولة، تركها واتجه إلى الدولاب ليفتح الضلفة ويخرج منها سترة ثقيلة يرتديها على زيه الرياضي، في حين أكملت صياحها بنبرة بدت غريبة وكأنها تتسول عواطفه:
-إنت اتجوزتني عشان بتحبني أنا لوحدي، ومافيش واحدة غيري تملى عينك، أنا وبس اللي في حياتك، صح؟ قولي كده، إنت بتحبني؟
تنهد قائلاً في يأسٍ من حالها البائس:
-تصبحي على خير يا "خلود".

اعترضت طريقه ووضعت يديها على صدره تدفعه في عنفٍ للخلف، ركزت نظراته عليه متسائلة بحنقٍ:
-إنت رايح فين؟ عندها صح؟
فاض به الكيل من اتهاماتها، وصاح رافضًا ما تقوله:
-إنتي مجنونة؟ سامعة نفسك؟
لكزته في كتفه وهي تتابع صراخها المهتاج:
-رد عليا، إنت رايحلها السعادي، إنت سايبني ورايح عندها؟!!

قال بجمودٍ وهو يزيحها عن طريقه حتى لا يفرغ بها شحنة غضبه التي يعجز عن مقاومتها حاليًا بعد أن بلغت أقصاها:
-ريحي نفسك، أنا هبات في الشارع!
عاجلته في خطواته السريعة لتلحق به متابعة صياحها الآمر:
-ماتمشيش يا "تميم"، استنى هنا.
توقف عن التحرك ليستدير نحوها، ثم رفع سبابته أمام وجهها قائلاً بتحذير:
-أما تحطي مخك في راسك وتوزني الأمور بالعقل نبقى نتكلم، لكن مش هاخد وأدي معاكي في حالتك دي!

اندفعت نحوه لتلتصق به، طوقت عنقه بذراعيها وتعلقت به، ثم هتفت تتوسله:
-ماتسبنيش يا "تميم"، خليك هنا، أنا بأحبك، متروحش عندها وتبعد عني!
أحكم قبضتيه على رسغيها وأبعدهما عنه ليقول كمن يبدو عليه النفور:
-سلام.

وبضيق غير قابل للوصف خرج "تميم" من المنزل صافقًا الباب خلفه، وذلك الإحساس المؤلم القابض للصدر يكاد يفتك بقلبه، لا يعلم إن كانت مشاعره تتضمن إشفاقًا على حال زوجته، أم تحمل أيضًا في طياتها تعاطفًا مع تلك التي نالت دون ذنبٍ نصيبها من الكراهية العمياء.

ارتمت "خلود" على الباب الخشبي تضربه بقبضتها في حرقةٍ، بكت كما لم تبكِ من قبل قهرًا على رحيله المفاجئ، شعرت وكأن هناك حاجزًا قد ظهر من العدم فجأة ليفصل بينها وبين زوجها، لامت نفسها بألمٍ وحسرة:
-أنا هببت إيه بس؟!

لطمت على خديها في لوعةٍ لعدة مرات حتى التهبت بشرتها من فرط عصبيتها، شل تفكيرها فلم تعد ترى أي منطقية فيما تفعله، بل وحجبت غيرتها أي بادرة للتفكير المتزن، ببساطة أحالت حياتها إلى الجحيم، ودون وعيٍ منها لجأت إلى مساعدة والدتها، أمسكت بهاتفها المحمول، وضغطت بعينين تكاد لا ترى بهما شيئًا من سحب الدموع الكثيفة التي ملأتهما على زر الاتصال بها، هتفت بصوتٍ مبحوحٍ لاهث لكنه هادر، وكأنه يأتي بصراخه الناري من قعر جهنم:
-ألوو! أيوه يامه، الحقيني .. أنا في مصيبة!

أربكها تلاحق الأحداث في الساعات الماضية وشوش تفكيرها عنه، تصارعت أفكارها وتخبطت، كان يُقاتل من أجل كلمة واحدة يعبر فيها لها عن ندمه، ومع ذلك رفضت الإصغاء إليه، وجلست تنتظر عودة توأمتها لتخبرها بمجيء "هيثم" غير المتوقع، لكنها تفاجأت بها تُعلمها ببقائه بالأسفل ليستعطفها أولاً قبل أن يخرج عن شعوره ويؤذي نفسه بشكلٍ بشع، استغرقت "همسة" في أفكارها محاولة الوصول لقرار محايد يريح ضميرها بشأنه، وكان الاقتراح المناسب الذي انتهى إليه عقلها هو لقاء خارجي معه في مكان عام بحضور طرفي العائلة كفرصة أخيرة للاستماع إليه .. سألتها "فيروزة" بجدية بعد أن أطلعتها على رغبتها:
-إنتي متأكدة؟

جاوبتها موضحة أسبابها بهدوء:
-أيوه، مش عاوزة أظلمه، جايز ندم فعلاً، وأنا هاتكلم معاه وبس، هاشوف عاوز مني إيه، وإيه اللي ممكن يعمله عشان يثبتلي إنه اتغير.
أكدت عليها شقيقتها:
-"همسة" عاوزاكي تفهمي إنه مهما عمل فده مش مبرر يخليكي ترجعيله تاني.
ردت عن اقتناعٍ، وتلك البسمة الباهتة تُزين ثغرها:
-أنا عارفة ده كويس، أنا حابة ضميري يكون مرتاح من ناحيته.

وبالرغم من امتعاض "فيروزة" من قرارها إلا أنها علقت عليها مظهرة دعمها لها:
-تمام، هاكلم الحاج قريبه بحيث يكون معانا، لأن خالك الصراحة مايضمنش.
مسحة من الرقة احتلت تعبيراتها وشفتيها وهي تقول مُرحبة:
-المناسب اعمليه.

تنهدت "آمنة" في حيرة وهي تتابع النقاش العقلاني بين ابنتيها، انسالت على صفحة وجهها مشاهد توسلات "هيثم" المقطعة لنياط القلوب، وإلى حد ما تعاطفت معه بسبب طيبتها المتأصلة فيها، ولهذا لم تعترض على رغبة ابنتها .. أجالت بنظراتها للسماء وتمتمت في تضرع:
-ربنا يهديلكم العاصي يا بناتي ويحفظكم ليا.

نظرة شاردة مليئة بالهموم والحزن دارت على تفاصيل المشبك الصغير وهو يتلاعب به بأصابعه في حركة متأنية حتى لا يسقطه قبل أن يضمه إلى راحته، ثم إذ به يفتح الدرج العلوي للكومود ويضعه في داخله إلى جوار منديل الرأس والمشبك الآخر اللذين وجدهما من قبل، ألقى نظرة أخيرة على ثلاثتهم قبل أن يعاود غلقه، استدار "تميم" برأسه للجانب حين سمع والدته تقول بابتسامتها المشرقة وهي تقلب بالمعلقة الكوب الذي تحمله في يدها:
-اشرب العناب ده يروق دمك.

تناوله منها قائلاً بامتنانٍ:
-شكرًا يامه.
جلس على طرف الفراش يرتشفه جرعة وراء الأخرى، وكأنه كان بحاجة ماسة إليه، أمعنت "ونيسة" النظر إليه، بدت ملامحه تعيسة بشكلٍ مقلق، لذا سألته بفضولها المهتم عله يفصح عما يجول في صدره:
-مقولتليش بردك إيه اللي حصل وخلاك تسيب فرشتك وحضن مراتك السعادي؟

ابتسم لها ليخفي ضيقه، وقال نافيًا:
-ولا حاجة، إنتي جيتي على بالي فقولت أعدي أطمن عليكي
كان فاشلاً في الكذب عليها، وظهر ذلك في طريقة هروبه من نظراتها الفاحصة له، وكأنه يخشى أن تكتشف ذلك، ومع هذا ألحت عليها بغريزتها التي تؤكد لها وجود ما يؤلمه:
-شكلك مخبي عليا حاجة، قولي يا ابني عشان ترتاح.

وضع الكوب على فمه ليتجرع ما فيه، كانت وسيلته المؤقتة للسكوت، ثم رد عليها متسائلاً باهتمامٍ مفتعل، قاصدًا بذلك التغطية على ما لا يريد الإفصاح عنه بحديث آخر:
-صحيح أخبار "هاجر" إيه؟ قربت تولد ولا لسه؟
تفقه ذهنها إلى ما يفعله، وردت تصارحه:
-بتحور عليا عشان ما تكلمش!! ماشي يا "تميم" هاعديهالك، أختك بخير، ولسه هانشوف الزيارة الجاية الضاكتورة هتقولنا إيه.
تنهد معقبًا عليه وهو يسند الكوب الذي فرغ من شرب محتوياته على الكومود:
-ربنا يقومها بالسلامة، ويكرمها..

ثم نهض من جلسته متابعًا:
-يدوب ألحق أرجع البيت.
هبت واقفة من مكانها وتطلعت إليه في استغرابٍ قبل أن تسأله بصوتها المدهوش:
-إنت لحقت تيجي في إيه وتمشي في إيه؟!!
لم يخلو وجهه من ابتسامته الفاترة حين أجابها:
-ما أنا قولتلك أنا جاي أشوفك يا ست الكل..

غلف نبرته قليل من الألم المعاتب جاهد لإخفائه وهو يواصل القول:
-وبعدين ماينفعش أتأخر على "خلود"، مابترضاش تتعشى من غيري.
تأملته بعينين تتحركان في قلقٍ، ونطقت عما يراودها من أحاسيس:
-والله قلبي بيقولي في حاجة حصلت، وإنت مداري عليا.

انحنى "تميم" ليقبل رأس والدته، ثم ربت على كتفها برفقٍ موصيًا إياها:
-خدي بالك من صحتك، سلام يامه
تبعته في حيرةٍ إلى أن أوصلته للخارج وقلبها قلق على أحواله، ودعته بأدعيتها التي لا يتوقف لسانها اللاهج عن الدعاء له بها، ثم عادت إلى غرفتها ووضعت يدها على أسفل فكها تُحادث نفسها بنبرة عازمة:
-بكرة أكلم البت "خلود" أفهم منها في إيه!

جاب مطولاً بسيارته الشوارع الخالية والمزدحمة آملاً أن تخف وطأة ذلك الحزن الغامض الذي ملأ قلبه، في النهاية لم يكن هناك مفرٌ من العودة إليها .. وإن كانت غاضبة منه فلها أسبابه التي وجب عليه أن يتفهمها، هي تعشقه بجنونٍ وإخلاص، لم ينتقص شغفها أبدًا بالرغم من جفاء مشاعره، انتظرته لسنوات كما لم تفعل غيرها ممن يتخلين في أول فرصة تتاح لهن عن أزواجهن إن وضعوا بالحبس، تفعل كل ما في وسعها لإسعاده..،

تتلهف لتزيح آلامه، لما لا يعفو لها إساءتها وهي ضحية حبها المتيم به؟ أعاد ما اتهمته به في عقله مرارًا وتكرارًا ليدرك أنه الوحيد المخطئ في الأمر، حين منح جزءًا من تفكيره لغيرها والتهى عنها، وكأنه بذلك يخونها ضمنيًا، زوجته بكل ما تبذله من جهد لنيل محبة متبادلة بينهما تروي بها عطشها إليه لا تستحق تجاهله.. لن يكون من الإنصاف أو العدل ازدراء عواطفها الوالهة!

قرر "تميم" أن يتغاضى عما بدر منها الليلة من تجاوزات وإساءات تقديرًا لمشاعرها المخلصة له، سيحتوي غضبها ويعوضها عن ألم قلبها وإن كان ذلك على حساب نفسه، أوشكت تلك الرسائل المزعجة والاتصالات المتكررة من والدتها أن تفسد ما خطط له، أرغم نفسه ألا يلتفت إليها حتى لا يزداد شعوره بالكدر، دس المفتاح في قفله وفتح الباب ليجد "خلود" متكورة على نفسها على أقرب أريكة للمدخل، تضم ركبتيها إلى صدرها وتحاوطهما بذراعيها، نظر لها مليًا قبل أن يبادر قائلاً بتنهيدة بطيئة:
-سلامو عليكم.

لم تصدق أذنيها حين سمعت صوته يجلجل بالمنزل، رفعت عينيها المتورمتين إليه تنظر له بصدمةٍ، وكأنها استبعدت أمر عودته، قالت بنبرة أقرب للبكاءِ، وبقلبٍ خافق وصدر متهدج:
-حبيبي إنت رجعت، حقك عليا.
احتضنته وشددت من ضمها له لتلتصق أكثر به، ثم استكانت في أحضانه ومرغت رأسها في صدره لتتابع بندمٍ:
-أنا غلطانة، متزعلش مني.

جرفها طوفان الغيرة الحارق إلى مناطق مظلمة أجبرتها على استباحة أي شيء من أجل الإبقاء عليه، حاولت أن تستميل قلبه نحوها، واعتذرت:
-أنا أسفة يا حبيبي، بس صدقني ده كان غصب عني، لما شوفت الدبوس ده في جيبك مخي طار ومابقتش في وعيي.
رد بهدوءٍ متفهم:
-أنا مقدر ده.
شبت على قدميها لتلتقم شفتيه ومنحته قبلة طويلة حبست فيها أنفاسهما قبل أن تبتعد عنه وتهمس لاهثة:
-أنا بأحبك أوي.

رسم بسمة صغيرة على وجهه، وقال بصوته الهادئ وهو يمسك بيدها:
-تعالي معايا يا "خلود"، هانتكلم في أوضتنا، مش عاوزين نعمل دوشة، ماتنسيش أخوكي نايم هنا
ردت وهي تهز رأسها بخنوعٍ:
-حاضر يا حبيبي، كل اللي إنت عاوزه هاعمله.

خللت أناملها بين أصابعه لتشبك يديهما معًا، وأحنت رأسها على جانب ذراعه لتنام على كتفه، وتعلقت بيدها الأخرى في ذراعه ليظن من يتطلع إليهما أنهما عاشقين..
ولج الاثنان إلى الغرفة، وشرارات الحب تنطلق من عيني "خلود"، لم تترك زوجها وهو يغلق الباب، ظلت متشبثة به تأبى الابتعاد عنه، وكأنها ترتعد من فكرة رحيله، بصعوبة جعلها تتخلى عن الالتصاق به لتتمكن من الجلوس بجواره على حافة الفراش.. أمسك بكلتا راحتيها بيديه، وداعب جلدهما بإبهاميه، ثم نظر لها مليًا وبصمتٍ للحظات قبل أن يقطع حاجز السكون متسائلاً:
-فاكرة أول كلام قولتهولك إيه؟

هزت رأسها تجيبه بتنهيدة لاهثة:
-أيوه.
سألها بغموضٍ ليبدو كمن يمتحن ذاكرتها:
-كان إيه؟
تخبطت لوهلة في أفكارها وقد عقدت حاجبيها معًا، ابتلعت ريقها وأجابته بتلعثمٍ محاولة خلق جملة مفيدة:
-إننا .. نكون الأمان لبعض وإنك وعدتني هتراعي ربنا فيا وتعاملني كويس و...
حرك رأسه متقبلاً إجابتها وهو يعقب عليها:
-ده مظبوط...

لكن نبرته كانت متشنجة نسبيًا رغم هدوئها عندما تابع:
-بس مكانش أول حاجة طلبتها منك!
أصابها التجهم المصحوب بالتوترٍ وشعرت بتقلصات مزعجة تعتصر معدتها، لعقت شفتيها وسألته في عصبيةٍ وهي تحاول سحب كفيها:
-إنت بتختبر حبي ليك يا "تميم" ولا إيه؟
ظلت قابضًا عليهما وهو يرد بالنفي:
-لأ يا "خلود"، مافيش امتحان ولا غيره!

نظرت له في حيرة، فأكمل بما يشبه العتاب، وذلك الألم يحاول التسلل إلى عينيه:
-بس أنا طلبت منك لو في بينا مشاكل أو حتى خلاف صغير محدش يعرفه، مظبوط؟
ارتبكت وعلقت عليه:
-أيوه..

ترك يديها، وأخرج من جيبه هاتفه المحمول، ثم رفعه أمام وجهها لتنظر إلى شاشته التي امتلأت بعشرات المكالمات الفائتة من والدتها، لم تكن بحاجة لتفسير ما يُلمح إليه، وهتفت مبررة كذبًا وقد انتفضت واقفة:
-دي أمي اتصلت بالصدفة تسأل على "هيثم" وعرفت من صوتي إني كنت بأعيط وفضلت ورايا لحد ما قولتلها.
وضع يده على ذراعها وجذبها منه برفقٍ لتجلس إلى جواره مجددًا وهو يرد باقتضابٍ:
-تمام..

جمدت نظراتها عليه، وسألته بصوتٍ قاتلت ليبدو مختنقًا باكيًا:
-إنت زعلان من اللي عملته صح؟ صدقني ده كان غصب عني؟ دي أول مرة أصلاً أقولها حاجة، وبعدين أنا كنت هاتجنن لما لاقيت الدبوس ده ومعرفتش أتصرف إزاي!
رد بتنهيدة بطيئة دون أن يظهر ضيقه من كذبها الواضح كالشمس في كبد السماء:
-ماشي يا "خلود"، حصل خير، وعرفي أمك إن المشكلة اتحلت.
ضاقت نظراتها متسائلة بتوجسٍ:
-يعني عاوز تفهمني إنك مش مضايقك مني؟!

أجابها ببساطة:
-هايفرق في إيه؟ ما إنتي خلاص حكيتلها...
شعرت بالندم لتسرعها في اللجوء لوالدتها، لكن ماذا كانت تفعل وغيرتها تأكلها؟ أخرج "تميم" زفيرًا بطيئًا من صدره، وطلب منها بما يحمل الرجاء:
-بس مش عاوز الموضوع يكبر، خليه بينا..

تلك الغصة المؤلمة التي تكونت في حلقها ضاعفت من إحساسها بالذنب وهي التي أساءت له في غيابه وتحاملت عليه مع والدتها لتظهر بمظهر الضحية، وتضعه في قالب الزوج اللعوب، لم تتحمل ذلك الشعور المهلك، فبادرت تهاجمه لتقتل ما يراودها من أحاسيس معاتبة:
-يا "تميم" إنت مش مقدر حبي ليك، أنا استنيتك كتير أوي، مش يوم ولا اتنين، دول 7 سنين .. حلمت بحياتي اللي جاية كلها معاك، ده.. أنا مافيش راجل دخل في حياتي بعد أخويا إلا إنت، محبتش غيرك، قدر مشاعري ناحيتك!

تلمس جانب عنقها بكفه وداعب جلده بإصبعه ليخفف من غضبها، ورد مبتسمًا:
-أنا مقدر ده كله، وعارف إنك ضحيتي عشاني، ويعلم ربنا إني بأحاول أرضيكي.
اقشعر بدنها من لمساته الحنون، وهمست بصوتٍ مضطرب خجل كانت واثقة أنه سيؤثر به:
-أنا مش عاوزة رضا منك، أنا عاوزاك تحبني زيي وأكتر، عاوزاك تبقى ليا لوحدي وبس..

أغمض عينيه للحظة مقاومًا ما يتخلل وجدانه من ضيق وتخبط، ثم فتحهما ليرد راجيًا:
-لو تديني وقتي عشان افهمك ه......
قاطعته وهي ترتمي في أحضانه:
-أنا بأحبك ومش شايفة حد تاني غيرك، هاموت لو بعدت عني.

لم يكن لدى "تميم" أي اختيار أمام اعترافات قلبها المخضب بحبه إلا ضمها إليه، أراد منها فقط أن تستوعب تفكيره، أن تعطيه الفرصة لمبادلتها نفس المشاعر الصادقة دون مبالغة أو خداع، أن يمنحها ما يمليه عليه قلبه ووجدانه دون استجداءٍ منها قبل عقله وإرادته، كان يشعر بالضيق الشديد حين يدعي عكس ما يشعر به نحوها، ما زال يقف عند منطقة المشاعر المبهمة ناحيتها، ومع ذلك قرر أن يفعل المستحيل للشعور بها، تنفس بعمقٍ مرة أخرى قبل أن يستطرد ممازحًا بلطافةٍ:
-كفاية كده جرعة نكد، أنا خدت كفايتي النهاردة، ممكن نكمل بكرة؟

رفعت رأسها لتتطلع إليه بعينين ناعستين وهي تلح عليه:
-اوعدني إنك مش هاتسيبني أبدًا.
أسبل عينيه مداعبًا إياها بكلماته الطريفة:
-وأنا هاروح منك فين إلا لو ربنا خدني!
رددت مستعيذة بقلب منقبض:
-بعد الشر عنك يا حبيبي، إن شاءالله اللي يكرهوك.
سألها بوجه لا يعلم إن كانت لاحظت تعاسته الخفية أم لا:
-طيب ممكن نتعشى ولا هنام خفيف؟

عضت على شفتيها السفلى، واشرأبت بعنقها نحو أذنه لتهمس له بتنهيدة أرادت أن تصل فيها حرارة أنفاسها إلى جلده:
-عشا بس.. حاجة تانية لأ، يومين كده ونستأنف!
هز رأسه مبتسمًا وقد فطن لتلميحها المتواري، منحها قبلة صغيرة على شفتيها، وتابعها وهي تبتعد بنظراتٍ مهتمة إلى أن خرجت من الغرفة، أراح ظهره على الفراش وأسند يده خلف رأسه ليقول بنفسه بتثاؤب وذلك الإنهاك يسري في عضلاته:
-يكون أحسن برضوه، أنا حيلي مهدود... !!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة الثالثة والثلاثون بقلم منال سالم


فُرض عليها دون تكليف أن تكون الراعي -الذكوري- لأسرتها في غياب الأب المنوط بتلك المسئوليات الشاقة، تولت خلفًا للراحل هذا الثقل القاسم للأظهر دون شكوى أو كلل، كانت كدرع الحماية لأمها وتوأمتها، فكلتاهما تتشاركان في سمة ترفض أن تتصف هي بها؛ الخوف من المواجهة، تنفست "فيروزة" بعمقٍ وأعادت ترتيب أفكارها في رأسها لعشرات المرات حتى لا تنسى ما اتفقت عليه مع أختها قبل بضعة أيام..،


 
أرادت أن تكون الأمور واضحة منذ البداية حتى لا يُساء فهمها، أو يظن الطرف الآخر أنها تنازلت عن حقها وفرطت في كرامتها، جابت بنظراتٍ متفحصة الواقفين عند الدكان، لم تجد بينهم الحاج "بدير"، وقفت حائرة تفكر فيما ستفعله، رغبت في الحديث معه هو فقط أولاً ليكون شاهدًا على ما سيحدث لاحقًا، تشجعت وقررت السؤال عنه، وبخطى ثابتة تقدمت نحو مدخل الدكان متسائلة بصوتٍ تعمدت أن يكون قويًا:
-سلامو عليكم.


 
تصلب جسده، وإن كان لا ينظر نحوها، بمجرد أن رنت نبرتها المميزة في أذنيه، لا يعرف ما الذي ينتاب كيانه حين تطل عليه بغتةً، وكأن تيارًا كهربيًا قوي الشحنة يسري في أوصاله، تشبث "تميم" بكلتا يديه بالقفص الذي يحمله رافضًا الاستدارة ناحيتها، بينما دنت هي منه لتناديه:
-يا معلم.. "تميم" .. صح؟

لعبت على أعصابه بتلفظ اسمه لا إراديًا، شعر بتلك الرعشة تجتاحه، أليس من الغريب أن يكون لوقع صوتها فقط كل هذا التأثير المهلك عليه؟ وبمجهودٍ ذهنيٍ خارق التفت برأسه نحوها مقاومًا رغبة عينيه في تأمل وجهها، بلع ريقه وتساءل بصوتٍ مال للخشونة:
-خير.. في حاجة؟


 
سألته بوجهٍ شبه عابس، ونظرات ضيقة:
-الحاج "بدير" فين؟
أجابها وهو ينظر في أي شيء إلا عينيها:
-في مشوار وجاي.
ضغطت على شفتيها وكأنها تبتسم بصعوبة لتضيف بعدها:
-طب أنا هستناه.

أحس بخفقة موترة تداعب قلبه وتغازل مشاعره غير المفهومة نحوها، حبس أنفاسه وقد خانته عيناه وتركزتا مع ملامحها الحادة، تنفس الصعداء حين استدارت وبحثت عن مقعد شاغر لتجلس عليه حتى لا ترى تلك الربكة الظاهرة على محياه، اتجه إلى الخلف وهو لا يزال حاملاً القفص بيديه، ثم نادى على أحد عماله ليأمره بصوت خفيض لكنه صارم:
-هات حاجة ساقعة للأبلة، دي مستنية الحاج "بدير"، وخليك قريب منها عشان لو عازت حاجة.


 
رد وهو يومئ برأسه:
-حاضر يا معلم.
نظرة أخيرة من الخلف ألقاها "تميم" عليها، عاد هاجسه المعاتب ليؤنب ضميره من جديد، كيف يولي الاهتمام لغير زوجته؟ لم يطقه مطلقًا، ولهذا ترك عمله هاربًا من الدكان حتى لا يظل محاصرًا في ذلك التخبط المُربك والذي على ما يبدو بات غير محتملٍ بالنسبة له.

معاملة جيدة تلقتها "فيروزة" من قبل الحاج "بدير" الذي لم يدخر وسعه لإرضائها بغض النظر عن سبب زيارتها له بمجرد أن عاد إلى الدكان ووجدها به، أصر على تناولها للحلوى الطازجة المخبوزة في الفرن القريب مع كوبٍ من الشاي الساخن قبل أن يتطرقا إلى أي موضوع، شكرته على حسن ضيافته، واسترسلت قائلة بجدية:
-شوف يا حاج "بدير"، أنا جيتلك بعيد عن خالي عشان نتكلم بصراحة.

حرك براحته عكازه دون أن يزيحه من مكانه، ثم رد مبتسمًا وقد استقام في جلسته على كرسيه الخشبي:
-وأنا جاهز أسمعك يا بنتي.
تشجعت وقالت بتمهلٍ حتى لا تنسى ما تدربت عليه جيدًا:
-دلوقتي أختي معندهاش مانع تسمع لقريبك، هي مش هترجعله، بس هتديله فرصة تشوف إن كان اتغير فعلاً ولا لأ، وبعدها هتقرر إن كانت تكمل أوتسيبه.
هز رأسه في استحسانٍ معقبًا عليها:
-عين العقل.


 
تابعت بنفس اللهجة المتشجعة:
-كل المطلوب منك يا حاج إنك تكون أمين معانا وتراقبه، اعتبر "همسة" زي بنتك و...
قاطعها "بدير" مشيرًا بيده:
-من غير ما توصيني، لو الكلب ده ماتظبطش أنا مش هاقولك هاعمل فيه إيه، كفاية كسفة المرة اللي فاتت
ابتسمت تقول له في امتنانٍ:
-ده العشم برضوه.

واصل القول مؤكدًا:
-متقلقيش من حاجة، طالما أنا محشور في الموضوع فاطمني.
شعرت بالارتياح يغمرها من دعمه وتحفزت للمضي قدمًا في حديثها، لم تفتر ابتسامتها الرقيقة وهي تستطرد بتهذيبٍ:
-وهستأذنك تبلغه إننا هنتقابل بكرة في مطعم "......" هو عارفه!
رد ببساطة:
-حاضر، وأنا هاكون معاه عشان يعرف إن ليكم سند من طرفنا بردك ويعملي مليون حساب.


 
زاد إحساسها بالطمأنينة، وشكرته بتنهيدة حملت في خباياها آلمًا عميقًا:
-شكرًا على ذوقك يا حاج، يا ريت كان في حياتنا ناس زيك، كان هيفرق كتير معانا.
وكأنه استشعر ما يختلج صدرها من أحزان فتقوست شفتاه ببسمة ودودة وهو يخبرها بصدقٍ:
-دي إنتي بنتي، سواء بنسب أو من غيره.

اكتفت بتبادل الابتسام معه، ونهضت من على مقعدها مستأذنة، لم يُصر عليها وودعها بنفس الأسلوب المرحب المليء بالألفة .. لمحتها "خلود" وهي تنحرف عند الناصية فاتسعت حدقتاها في ارتعابٍ، تسمرت في مكانها للحظاتٍ لتتأكد أنها هي، شعرت بالحرقة تضرب أحشائها، كزت على أسنانها بقوة وهي تحاول السيطرة على التشوش الذي أصابها..،

كانت قد قررت الذهاب إلى الدكان لتفاجئ زوجها بعد خبزت له فطائر شهية لم تنسَ أن تدس له فيها مسحة ضئيلة من مسحوق الدواء لتشعل به الرغبة، لكن صدمتها لرؤيتها أفسدت نهارها وأصابتها بالكدر، اُضطرمت الغيرة الحاقدة في قلبها فأعمت بصيرتها، واندفعت بغضبٍ محمومٍ تصاعد في رأسها إلى مدخله، ثم تساءلت بأنفاس شبه لاهثة تعبر عن انفعالٍ واضح وهي تشير بيدها نحو الناصية التي اختفت عندها "فيروزة":
-البت أخت "همسة" كانت بتعمل إيه هنا يا عمي؟ هي متعودة تيجي على طول ولا إيه؟

ثم اشرأبت بعنقها للأعلى لتجول كالمذعورة بين أوجه المتواجدين داخل الدكان وهي تتابع في عجالةٍ:
-و"تميم" فين؟ كان معاها ولا آ.... ؟!
قاطعها "بدير" بانزعاجٍ مستخدمًا يده الممسكة بالعكاز في التلويح لها:
-ابلعي ريقك يا "خلود"، مالك داخلة على الحامي كده ليه؟!
تنفست بعمقٍ لتحجم من أعصابها التي اهتزت وثارت وتوشك على فقدان السيطرة عليها، ضغطت على شفتيها قائلة له بصوتٍ بدا مضطربًا:
-مقصدش، بس غريبة إنها تيجي هنا؟ وبعدين فين "تميم"؟ أنا مش شيفاه!!!

أجابها بزفيرٍ مطول:
-عنده شغل بيخلصه من بدري برا الدكان.
وضعت "خلود" يدها على صدرها الناهج لتتحسس نبضات قلبها المتلاحقة قبل أن تنطق بتضرعٍ:
-الحمدلله.
حاولت أن تستعيد هدوئها، لكن ظل وسواسها الهوسي ينخر في عقلها ويزرع الشكوك في قلبها نحو "فيروزة"، لذا رسمت تلك الابتسامة الزائفة على وجهها وهي تتساءل بخبثٍ ونظراتها يغلفها ذلك الوميض الغامض علها تستدرجه فيخبرها بما يؤكد أو ينفي ما يدور بداخلها:
-على كده يا عمي البت دي كانت جاية في إيه؟

ودون وعيٍ منها أجابت مباشرة وعيناها تحتدان بشكلٍ مريب:
-ل "تميم"؟ مظبوط؟
رد "بدير" في استنكارٍ، وتلك النظرة المستهجنة تكسو وجهه:
-وهي مالها وماله؟! دي كانت جيالي أنا عشان موضوع أختها وأخوكي المفضوح.
عادت لتتنفس بأريحية بعد أن بددت هواجسها المزعومة، وقالت بتبرمٍ:
-مكانتش غلطة يا عمي، هو اتعلم خلاص الدرس من اللي حصل، مافيش داعي نكبره!

نظر لها بضيقٍ، وكأن ما فعله "هيثم" من تجاوزات لا أخلاقية يرضيها، لم يتوقع ردة الفعل الباردة منها، وأضاف على مضضٍ وبتعابيرٍ بدت منزعجة:
-طيب.. قوليله يعمل حسابه ي ... آ..
بتر عبارته عن قصدٍ لينهي الحوار معها مرددًا:
-ولا أقولك أنا اللي هاكلمه بنفسي، مالهاش لازمة نحشر الحريم!

نظرت له باستغرابٍ مستشعرة تبدل معاملته قليلاً، أدركت أنها أخطأت في التصرف بتبلدٍ أمامه، وحاولت تلطيف الأجواء معه، وقالت برقةٍ:
-ماشي يا عمي، الصح اعمله، ده إنت كبيرنا.
لم يكترث بتملقها الزائف، وتركها ليلج إلى الدكان، وقبل أن يلتهي بالأعمال سألها بعينين تنفذان إليها:
-إنتي كنتي جاية ليه؟
ارتبكت وأجابته وهي تشير للعلبة البلاستيكية التي تحملها في يدها:
-كنت.. جايبة ل "تميم" فطير أنا عملاه بإيدي و...

عاد إليها ليأخذ العلبة منها قائلاً بابتسامة متحمسة:
-رزق الرجالة اللي شقيانين من الصبح
انقبض قلبها بتوترٍ رهيب، وحاولت منعه مرددة باعتراضٍ:
-استنى يا عمي، ده أنا عملاه مخصوص ل "تميم" وآ....
هتف مقاطعًا بإصرارٍ:
-مالوش نصيب المرادي، ابقي اعملي غيره، اتوكلي على الله ولما جوزك يرجع هبلغك.

فغرت ثغرها في ذهولٍ وذاك القلق الكبير يعتريها، حتمًا ستحدث كارثة غير أخلاقية بين صفوف الرجال إن تناولوه، تابعته "خلود" بنظراتٍ مترقبة آملة ألا ينادي عليهم، لحسن حظها رن هاتفه المحمول فترك العلبة على مكتبه، استغلت فرصة انشغاله بالمكالمة وابتعاده عن المكتب الخشبي لتدلف للمكان خلسةً وعن عمدٍ أسقطت العلبة بعد أن نزعت غطائها ليتبعثر ما فيها ويتمخض بالتراب والأوساخ،

انسحبت متسللة كما جاءت وهي تبتسم لنفسها في انتشاءٍ بعد أن أنقذت الجميع من تأثير ذلك الدواء المنشط، كتمت ضحكاتها الهيسترية بصعوبة إلى أن سارت في اتجاه الناصية، حينئذ اقتحمت صورة "فيروزة" رأسها ومعها عشرات الأسئلة المتواترة، ماذا لو كان زوجها يلتقي بها في غفلة منها؟ أليس من المحتمل أنها تحاول استمالته لتوقعه في شباكها فيغرم بها؟ غامت نظراتها وغطى تعبيراتها وجومًا ممتعضًا، ثم قالت لنفسها بنبرة لا تبشر بخير:
-شكل رِجلك خدت على المكان وأنا نايمة على وداني في البيت! من هنا ورايح هحطك في دماغي، ما هو اللي يقرب من جوزي أنا أكله بسناني!

استغرقت في أفكارها السوداوية وقررت ألا تسأل زوجها عنها حتى لا يستريب في أمرها إلى أن تتأكد مما يدور في رأسها، لن تدعها لشأنها أبدًا، ستزيحها عن طريقه مهما كلفها الأمر، وإن تطلب ذلك استغلال ظروف أخيها لصالحها غير عابئة بتبعات تهورها، فليحترق مَنْ دونها من يحترق، وليمت كمدًا من يمس عشقها الأول والأخير.

تناولت القرص المسكن ليقتل تلك الآلام التي بدأت في مهاجمتها منذ ليلة أمس، ظنت أنها تعاني من مغصٍ ما، لكن حدة الوخزات لم تكن مُحتملة، ومع هذا تحاملت على نفسها لتخرج إلى تلك المقابلة الهامة التي سيتحدد عليها مصير علاقتها القادمة ب "هيثم"، لم تتكلف "همسة" في ثيابها، وارتدت ثوبًا مزركشًا أغلب ألوانه داكنة، ووضعت عليه سترة من خامة الجينز الثقيلة لتمنحها الدفء، حتى أنها وضعت القليل من مساحيق التجميل لتعطيها لمحة هادئة .. اقتربت منها "فيروزة" وسألتها:
-ها جهزتي يا "هموس"؟

أجابتها وهي تخفي إحساسها بالألم:
-مش ناقص غير أتسرح، وأعمل شعري ديل حصان وأبقى تمام.
حركت رأسها تثني على جمالها الطبيعي:
-من غير حاجة إنتي زي القمر.
اكتفت بالابتسام لها، وتحسست جانبها الأيمن وهي بالكاد تفتح عينيها، تأملتها "فيروزة" في اندهاشٍ وسألتها:
-إنت كويسة؟
فتحت جفنيها، وأجابت مدعية الابتسام:
-يعني جمبي واجعني شوية، بس دلوقتي يروق.

بادرت توأمتها مقترحة عليها:
-لو حاسة إنك تعبانة مش مهم نروح، هاكلم الحاج "بدير" وأعتذرله وآ....
ردت مقاطعة بعنادٍ:
-لأ أنا تمام، احنا أصلاً مش هنطول، هاقول الكلمتين اللي عندي وأمشي
نفخت معقبة عليها على مضضٍ:
-اللي يريحك
أبعدت "همسة" يدها عن جانبها وبحثت عن العطر لتنثر القليل منه على ثيابها، جاهدت لتبدو طبيعية حتى لا تُشعر أسرتها بالقلق، خاصة "فيروزة" التي تبحث عن أي حجة لإلغاء اللقاء.

بوَجْدٍ وشغفٍ لا يستطيع وصفهما كان "هيثم" جالسًا في المقعد المقابل لها على المائدة الثنائية التي جمعتهما، لم يبعد أنظاره عن تأمل وجهها المتقلص قليلاً أو عن عينيها الخجلتان، غمرته حماسة عظيمة أعادت له بسمته المفقودة، كما أنها انتشلته من قاع بؤسه لترفعه إلى عنان السماء حين أُخبر بموافقتها على الالتقاء به، كان كمن بُعث من الموت .. تلبك، واضطرب، وضلت الكلمات الطريق على شفتيه، استجمع نفسه وبادر يقول بربكة عظيمة:
-أنا مش عارف أقولك إيه، أنا أصلاً مش على بعضي، ومش مصدق إنك قصادي.

عضت "همسة" على شفتها السفلى محاولة كتم تأويهة متألمة تريد الخروج لتصرخ بألمها الذي تضاعف، سحبت نفسًا عميقًا وقالت:
-يا ريت تكون اتغيرت فعلاً.
هتف يوعدها دون ترددٍ:
-اقسم بالله ما هيحصل تاني، المدعوق ده أنا توبت عنه، وربك شاهد عليا!
قالت في رضا وهي تومئ برأسها:
-تمام، عشان صحتك مش عشاني
نظر في عينيها مباشرة، وسألها بابتسامة متسعة:
-إنتي خايفة عليا؟

تورد وجهها من جملته الصريحة، وأجابت بحيادية وهي تتحاشى النظر نحوه:
-احم.. يعني طبيعي الواحد يحافظ على نفسه.
قال عن اقتناعٍ مزج فيه بين الجدية والدعابة:
-معاكي حق، وخصوصًا لما نكون داخلين على جواز.
شعرت بالحرج من تلميحاته المتوارية، وصححت له:
-على فكرة أنا موافقتش أرجعلك لسه، كل الحكاية إني هاديك فرصة تانية!

رفع كفيه معلقًا عليها بحبورٍ:
-وماله، أي حاجة منك ترضيني.
ثم دس يده في جيبه ليخرج ميدالية صغيرة مطلية باللون الفضي، قدمها إليها قائلاً بتهذيبٍ:
-اتفضلي
قطبت جبينها متسائلة دون أن تلمسها:
-ايه ده؟
أجاب ببساطةٍ:
-ميدالية بحرف ال H
التوت زاوية فمها بابتسامة متعجبة، وأضافت:
-ما أنا عارفة، ودي بمناسبة إليه؟

وضعها على الطاولة أمامها ثم دفعها برفقٍ للأمام لتغدو قريبة من يدها المسنودة على الطرف الآخر، وتابع من تلقاء نفسه:
-أصل أنا خدت بالي إننا عندنا نفس الحرف، فقولت أجيب حاجة ليكي تنفعك، وفي نفس الوقت تفكرك بيا.
نظرت له في اندهاشٍ، لم يأتِ ببالها أنه سيدرك تشابه الحرف الأول لاسميهما، بدا الأمر مستبعدًا عن تفكيرها لسبب وجيه، معظم الشباب واقعي غير حالم كالفتيات .. لاحظ "هيثم" ترددها، فقال برجاءٍ يحمل قدرًا من المزاح حتى لا ترفض هديته المتواضعة:
-بالله ما ترفضيها، دي مش غالية، ب 10 جنية بس!

علقت ساخرة:
-أدفعهوملك يعني؟
اتسعت ابتسامته الطريفة حتى ظهرت نواجذه، وقال في حبورٍ:
-لأ.. اعتبريني محوشهم معاكي.

على الجانب الآخر من المطعم، ضمت طاولة كبيرة أفراد العائلتين .. لم يكن ليحدث ذلك اللقاء دون حضور قطبيه "بدير"، و"خليل"، وبالطبع جاءت "حمدية" مع زوجها لتشبع فضولها الجائع وتقف على رؤوس الأشهاد، وكذلك آتت "بثينة" مع ابنتها "خلود" ليكونا في قلب تطورات الأحداث، وإن كانت الأخيرة تحتفظ لنفسها بمخططاتٍ أخرى شريرة لم تفصح عنها بعد، حتمًا إن نفذتها ستنهي خطبة أخيها قبل أن تبدأ،

لكنها ستضمن سطوتها المطلقة على من أسلمت له قلبها، أما عن "تميم" فلم يحبذ التواجد بأي حال في مكانٍ يجمعه مع "فيروزة" حتى لا يخلق المشاكل من العدم بناءً على ما اختبره من وساوس زوجته في تلك الليلة العصيبة، اختفى عن الساحة نأيًا بنفسه عن أي التزامات قد تضعه في مواجهة غير محمودة مع كلتيهما إن حدث ما يخشاه، وأخيرًا وليس آخرًا استقرت في مقعدٍ شبه منزوٍ "آمنة" وإلى جوارها ابنتها الأخرى.

لم تتوقف "خلود" عن التطلع إلى من نصبتها عدوتها، ارتكزت عيناها عليها منذ أن وطأت المطعم، رمقتها بنظراتٍ حانقة كارهة لها، كذلك نمت لديها مشاعر الحقد نحوها بشكل مبالغ فيه، فكرت في احتقارها لتروي رغبتها الانتقامية التي تتعطش للفتك بها، وفي نفس التوقيت تحصل على ما يلزمها من معلومات تخص طبيعة علاقتها بزوجها، لذا قالت كتمهيدٍ مدروسٍ بما يشبه فحيح الأفعى بعد أن انتقلت من مقعدها لتجلس إلى جوارها:
-أقولك على حاجة وما تزعليش مني.

ردت "فيروزة" ببرودٍ وقد انتبهت لها:
-إنتي بتكلميني؟
علقت بنوعٍ من الاحتقار، وتلك النظرة الدونية تعلو عينيها:
-محدش عمره هيبصلك وإنتي كده!
رفعت "فيروزة" حاجبها للأعلى بعد أن اعتدلت في جلستها، وقالت بتحفزٍ ظاهر عليها:
-مش فهماكي؟!
تصنعت الدلال، وقالت بغنجٍ هامس:
-الرجالة بتحب البنات المدلعين، اللي زيي كده، أو حتى أختك، لكن المسترجلة اللي عاملة فيها دكر لأ!

اعتبرتها "فيروزة" إهانة مباشرة موجهة لشخصها، خاصة وضحكات "خلود" الكتومة توحي بأنها المنشودة، لذا بكرامةٍ واستعلاء ردت تهاجمها:
-أفندم؟ الكلام ده ليا؟
هزت رأسها مؤكدة:
-أيوه.
هتفت "فيروزة" في تهكمٍ:
-ده باعتبار إنك شايفة الشنب طاير على وشي مثلاً؟
وبتأفف منفر منعكس عليها، أضافت "خلود":
-أنا عن نفسي بأحاول أبلعك بس بصراحة إنتي مش نزلالي من زور
ردت ساخرة منها:
-ابقي اشربي بيبسي جايز أهضم معاكي!

عمدت إلى اللعب بالنيران لتستفزها، فاستطردت مجددًا بقسوةٍ:
-أنا بأقولك الحقيقة ومن غير زعل، يمكن أنا حاولت أتقبلك.
احتقنت دمائها من تطاولها الصريح، وردت بوقاحةٍ:
-وأنا المفروض أضايق وكده؟

أرادت "خلود" استيضاح نواياها المخبأة، فلجأت للتلميح الكاذب على لسان زوجها علها تكشف أمرها، لذا مالت نحوها لتقول بهمسٍ وقلبها يدق في توترٍ:
-أصل جوزي كمان من الآخر مابيطقكيش خالص، ومرضاش يجي النهاردة بسببك مع إني استرجيته وعمي الحاج غلب يضغط عليه، بس هو كان مصمم، يعني ما تأخذنيش في صراحتي معاكي، بس عشان ما تضايقيش لما يشوفك ومايعبركيش!

ثم تراجعت برأسها للخلف لتنظر بتمعنٍ مترقب لردة فعلها، شعرت بنشوة كبيرة تنتابها وقد رأت علامات الغيظ جلية على قسماتها، أصبحت شبه متأكدة من نجاحها في إيجاد ذلك العداء الوهمي بينهما، ابتسمت بانتشاءٍ لتزيد من استفزازها لها، وبكل حقدٍ علقت "فيروزة عليها:
-ده الحال من بعضه يا مرات المعلم الكبير!

ردت جملتها الأخيرة وقد انتفضت واقفة، رأت تلك النظرة المتغطرسة تتراقص في حدقتيها، شعرت بالغل وقررت أن تناطحها في الرد لاستحقاقها ذلك، لذا رمقتها بنظرات احتقارية تليق بها قبل أن تقول بوجهٍ ممتقع وبما يشبه التهكم المحتقر قاصدة التلكؤ في كل كلمة تتلفظ بها لتشعرها بمدى دونيها ووضاعتها بالمقارنة بها:
-تعرفي! يا زين ما .. فتوة الحتة نقى واختار عشان يتجوز! ده مش حسد على فكرة!

تطلعت إليها "خلود" بفمٍ مفتوح والبلاهة تظهر على تعبيراتها وهي تحاول فهم مغزى كلماتها، فتابعت "فيروزة" بابتسامة مزهوة وهي تشير بسبابتها إليها، وكأنها بذلك تحتفل مقدمًا بانتصارها عليها في تلك الجولة الكلامية:
-بس فعلاً إنتو Couple (ثنائي) غريب، ورغم كده لايقين على بعض! بصراحة صعب حد يجمع التوليفة دي سوا؛ زوجة غلاوية دمها سخيف ويلطش، وزوج منفسن من واحدة مايعرفهاش، بس إنتو أبهرتونا! وده مستواكم... !!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة الرابعة والثلاثون بقلم منال سالم


استطاع أن يلمح من زاوية الرؤية الخاصة به ذلك التوتر الدائر من خلفها، انقبض قلبه خيفةً وارتعد من احتمالية نشوبِ عراك قريب، خاصة أن شقيقته لم تكن في حالتها الطبيعية، بدت مغايرة لتلك المستكينة المسالمة التي عاهدها أثناء خطبته، وكأنها قد جاءت متحفزة للتشاجر مع "فيروزة"، لذا اعتصر "هيثم" عقله باحثًا عن المهرب المناسب قبل أن تنتبه هي الأخرى لما يدور من حولها، وببسمة مرتبكة ونظرات تائهة استطرد مقترحًا:
-ما تيجي نبص على البحر من هناك، المياه تحفة الصراحة.


 
تنهدت قائلة بتعبٍ ملحوظٍ في صوتها بذلت أقصى طاقاتها لإخفائه:
-أنا حابة أفضل هنا.
رد مستنكرًا:
-وتضيعي عليكي فرصة زي دي؟
عللت "همسة" رفضها بحرجٍ:
-بس أصل آ....
قاطعها بإصرارٍ علها توافق على طلبه:
-ده احنا بالنهار، والمنظر بيفرق، صدقيني، تعالي معايا مش هتخسري حاجة،..


 
التقط أنفاسه وواصل القول بأسلوبٍ دعابيٍ بحت وهو يشير بيده لظهره:
-ده أنا حاسس إنه هيطلعلي أتب من كتر القعدة، مش واخدة بالك ولا إيه
كتمت تلك الضحكة المرحة على طرفته، وظلت شفتاها تتقوسان ببسمة مهذبة، ثم ردت مستسلمة:
-طيب.

حافظت على ابتسامته المرسومة وهو ينسحب ب "همسة" نحو الشرفة المطلة على البحر في تلك البقعة المعزولة نسبيًا عن الصخب الدائر بالمكان، لكن ظل قلبه قلقًا من توابع الأزمة التي على ما يبدو لن تمضي على خير، ردد لنفسه في رجاءٍ:
-هاتها معايا جمايل يا رب.


 
اعتقدت بتفكيرها الأرعن والخاطئ أنها تحمي زوجها من صائدة الرجال بتلك الطريقة المتهكمة المسيئة، فزيفت الحقائق وادعت الأقاويل الباطلة مستمتعة برؤيتها تزداد كمدًا، لكنها في المقابل استهانت بمن منحتها لقب عدوتها، وتلقت إهانة وقحة نالت منها بأسلوب لا يمكن السكوت عنه، استشاطت عينا "خلود" وتطايرت شرارات الغضب منهما، ثم انتفضت واقفة لتصيح فجأة بصوت مرتفع يحمل الحقد قاصدة إهانتها:
-إنتي واحدة قليلة الأدب ومش متربية.

ردت عليها "فيروزة" بنبرة جليدية دون أن تتأثر ملامحها الجامدة:
-مع أمثالك ببقى كده!
التفت الجميع نحو الاثنتين اللاتين وقفتا في مواجهة بعضهما البعض، ظهرت علامات الكراهية بينهما جلية، وإن كانت الأسباب غير معلومة للبقية، تساءلت "بثينة" في استغرابٍ:
-في إيه يا "خلود"؟ إيه اللي حصل؟!


 
صرخت وهي تجاوب والدتها مستخدمة سبابتها في الإشارة نحو "فيروزة":
-البني آدمة دي غلطت فيا وفي جوزي، وأنا مش هاسكتلها!
تعقدت ملامح والدتها، وسألتها بنفس الوجه المدهوش:
-نعم؟ ليه إن شاء الله؟!

تطلعت إليهما "فيروزة" بنظرات مستهجنة، ثم ردت عليهما متسائلة بابتسامةٍ ساخطة وهي ترى تلك الحرباء تتلون أمامها لتظهر بمظهر البراءة:
-لوحدي كده؟ يعني هفت على دماغي فجأة إني أهزأك، وأجيب من الأرض وأحط على دماغك؟! مش معقولة بصراحة، للدرجادي أنا مش خبيثة زيك!
وقفت "آمنة" إلى جوار ابنتها ترجوها:
-بالراحة يا "فيروزة" مش كده!


 
احتقنت نظرات "خلود" أكثر من تطاولها المتواري، وهتفت مستشهدة بزوج خالتها:
-شايف يا عمي طولة لسانها معايا؟
هتفت "فيروزة" مدافعة عن نفسها قبل أن تدور الدائرة عليها، وينساق الجميع وراء أكاذيبها البغيضة:
-أنا مطولتش لساني على فكرة، أنا حطيتك في مكانك الصح، وقبل ما حد يقولي كلمة، أنا كنت قاعدة في حالي، وهي اللي جت لحد عندي تتمسخر وتتمنظر، فمتجيش تزعل لما أرد عليها بنفس أسلوبها.

هتف "خليل" قائلاً بنبرة مضطربة، وقد توتر من بوادر الجدال المحتدم بينهما:
-اسكتي شوية يا "فيروزة"، خلينا نفهم في إيه!
التفتت ناظرة نحوه بعينين ناريتين، في حين نظرت لها "خلود" بحقدٍ، وعلقت بنبرة تميل للاختناق:
-ابلفيهم بالشويتين دول، أل وأنا اللي مفكرة إننا هنناسب ناس محترمين وولاد أصول، لكن آ...
بترت جملتها الأخيرة عن عمدٍ لتجز على أسنانها قائلة:
-طلعتي بنت آ...


 
وقبل أن تكمل عبارتها قاطعتها "فيروزة" محذرة بلهجةٍ شديدة ألجمت لسانها، وقد تقدمت نحوها خطوة لتنذرها بهجوم بدني وشيك:
-لأ عندك، لو هتغلطي فأنا لوحدى كفيلة أخرسك إنتي واللي يتشددلك!
كان "خليل" مدركًا أن ابنة أخته لن تصمت إن دعس أحدهم على طرفها، لذا اقترب منها وأمسك بها من ذراعها يشدها للخلف وهو يحذرها:
-احترمي وجود كبار العيلة يا "فيروزة".

تدخلت "بثينة" معلقة عليه بكلماتٍ ذات دلالات قوية:
-هي أصلاً فارق معاها حد، ده مافيش احترام خالص، والعينة بينة!!
ردت عليها "آمنة" ونظراتها تحمل العتاب نحوها:
-مايصحش الكلام ده يا حاجة! احنا قبل ما نكون نسايب بينا جيرة وعِشرة!
بينما صاح "بدير" بنبرته الخشنة ليُلزم الجميع عند حده:
-احنا جايين نتفق على جواز ولا خناق، الكل يسكت خالص.

تحركت "حمدية" من مكانها لتستل ذراع "فيروزة" من زوجها، وقالت بصوت مرتبك وهي تغمز له بطرف عينها حتى لا يمنعها من سحبها إليها:
-ما تصلوا على النبي ياجماعة، في إيه بس؟ ده شيطان ودخل بينا.
صاحت "خلود" قائلة بعنادٍ ووجهها يكسوه تعابيرًا منزعجة:
-الجوازة دي ما تلزمناش و...

هدر بها "بدير" بنبرته الصارمة وقد قست نظراته على الأخير:
-"خلود" اقطمي، مش إنتي اللي هتحددي إيه اللي يلزم وما يلزمش.
تحرجت من أسلوبه الجارح، واضطربت نبرتها معترضة بتلعثمٍ:
-يا عمي آ..
قبضت "بثينة" على ذراعها وشدتها إليها، ثم همست لها بنبرة ذات مغزى:
-اهدي، لينا بيت نتكلم فيه، احنا جايين عشان أخوكي.

علقت عليها بوقاحة وبنبرة أسمعت المتواجدين:
-والله لو أختها آخر واحدة في الدنيا و"هيثم" هيموت عليها، دي تتساب عشان أختها، اللي زي دي استحالة تتعاشر!
ردت "فيروزة" بقوةٍ وقد اشتعلت نظراتها بغضبها:
-تقولش احنا ماسكين فيكو، اتفضلوا بالسلامة.
صاح "بدير" عاليًا من جديد بصوتٍ أظهر انزعاجًا شديدًا:
-أنا قولت إيه؟ الكل يحط لسانه في بؤه ويسكت نهائي!

مالت "بثينة" على ابنتها تهمس لها بمكرٍ:
-اهدي دلوقتي يا "خلود"، جوز خالتك متضايق
بينما قال خليل معتذرًا:
-عندي دي يا جماعة، امسحوها فيا، أكيد مش مقصودة..
ثم التفت إلى ابنة أخته يوبخها:
-بلاش أمور الجنان إياها يا "فيروزة"، خلي اليوم يعدي، احنا بنقول شكل للبيع؟
نظرت له شزرًا قبل أن ترد بغيظٍ مدافعة عن نفسها:
-يا خالي هو إنت فهمت في إيه؟ ولا المدام دي عملت إيه؟!

هتف غير مكترثٍ:
-مش عاوز أعرف، طالما الحاج "بدير" قال كلمة، كلنا نسمعله!
اضطرت مرغمة أن تبتلع لسانها في جوفها احترامًا لذلك الرجل الوقور الذي تقدر مواقفه الجيدة، لكن ظلت نظراتها الحانقة ترتكز على وجه "خلود"، في حين حذر "بدير" زوجة ابنه بصرامةٍ ودون أن تطرف عيناه:
-وإنتي يا "خلود" يا تلزمي أدبك مع ضيوفنا، يا إما هيبقالي صرفة مع جوزك، ولا الأفضل اتصل بيه يجي يلمك؟!

ارتجفت أوصالها من كلماته الأخيرة، ونظرت في قلقٍ إلى فيروزة، كانت تسعى لخلق العدواة بين الاثنين من لا شيء على أمل قطع السبل بينهما، ولكن بطيشها غير المدروس كانت تمهد الطريق لمقابلة جديدة، لذا بما يعتريها من ذعرٍ ردت عليه بنزقٍ:
-خلاص يا عمي، مالوش لازمة تكلمه، عشان خاطرك بس عندي، أنا هتأسفلها كمان
ادعت الابتسام وهتفت بلطفٍ غريب للغاية:
-متزعليش مني يا "فيروزة"، احنا هنبقى عيلة!

تطلعت إليها الأخيرة باندهاشٍ وفكها شبه منفرج، ثم قالت على مضض:
-كويس إنك عرفتي غلطتك.
سألتها "خلود" بنظراتٍ ماكرة:
-مش هتتأسفيلي إنتي كمان؟
قالت بنبرة مستخفة:
-أنا مغلطتش فيكي أصلاً!

وقبل أن تأخذ جملتها على محمل شخصي جاد تخلق به مشكلة أخرى جديدة تنحنح "خليل" مقترحًا:
-خدي بنتك يا "آمنة" واقعدوا على تربيذة تانية، خلوا اليوم يعدي
احتدت نظرات "فيروزة" نحو خالها الذي يضعها دومًا قالب الجانية، وغمغمت في يائسٍ:
-إن شاءالله ما عدى، هنخسر إيه يعني
تحركت "آمنة" من مكانها، وتأبطت ذراع ابنتها لتجبرها على التحرك بعيدًا عن الطاولة الكبيرة، انتقلت كلتاهما للجلوس على طاولة أخرى ثنائية، نفخت "فيروزة" من الضيق الشديد، وسألت والدتها:
-طب ده ينفع؟ احنا متمسكين بالناس دي على إيه؟

ردت عليها والدتها بحيادية:
-القرار في إيد أختك دلوقتي، اللي هاتقوله هانعمله!
ضغطت على شفتيها في عدم رضا، وعلقت:
-ماشي.. أتمنى إنها ترفضه!

أشاحت بوجهها المتقلص بعيدًا عن تلك النظرات الناقمة المراقبة لها، تعمق بداخلها إحساسًا قويًا بأن تلك المرأة لا تضمر لها سوى الشر، وإن تمت تلك الزيجة غير المتكافئة ستعاني توأمتها من مشاكل جمة بسببها، وضعت "آمنة" يدها على ذراع ابنتها الشاردة، ابتسمت لها قائلة بنبرتها العطوفة:
-متزعليش يا "فيرو" من اللي حصل، كلها شوية ونخلص من الأعدة دي ونرجع بيتنا.

ردت بقليلٍ من الحنق:
-يا ماما إنتي عارفة إن مافيش حاجة تأثر فيا، بس فعلاً أنا بقيت خايفة على "همسة" من العيلة دي، لا هما ينفعونا، ولا طريقتهم مناسبة لينا
علقت عليها بنبرة متوسمة خيرًا:
-ربنا يهدي أختك.

وبحركة تلقائية درات بأنظارها في أرجاء المطعم تتأمل دون هدف معين من متواجد فيه، ارتفع حاجب "فيروزة" للأعلى قليلاً حين رأت صاحب الوجه المألوف يدنو منها وعلى وجهه ابتسامة لطيفة، تحفزت في جلستها وانعكست بوادر الارتباك على محياها، خاصة أنها رأت عزمه على القدوم إليها تحديدًا، نظرة متوترة حانت منها إلى والدتها التي كانت تنظر إلى داخل حقيبة يدها، ازدردت ريقها وتطلعت إلى "آسر" الذي هتف مرحبًا بألفةٍ زائدة:
-يا محاسن الصدف، قلبي كان حاسس إني هاشوفك تاني.

ثم مد يده لمصافحتها، تحرجت للغاية من جراءته، ثم نهضت لترحب به دون أن تبادله المصافحة، وقالت بلهجة تميل للرسمية:
-"آسر" بيه، أهلاً بحضرتك.
صدفةٌ أم مشيئة القدر، لم يقرر تحديدًا لكن تلك الغبطة التي اكتسحته لرؤيتها كانت تستحق ذلك، لذا هتف بمزيد من المرح الممتزج بضحكاته الحماسية:
-لأ وكمان فاكرة اسمي، ده أنا كده ممكن أتغر.

نظرت "فيروزة" مجددًا إلى والدتها العابسة، حتمًا لم تكن الأخيرة راضية عما يحدث أمام أنظارها، أبعدت عينيها عنها، وتساءلت بنفس اللهجة الرسمية وبتعابيرها الجادة:
-احم.. هو حضرتك هنا مع "ماهر" بيه وباقي العيلة وكده؟
أجابها نافيًا:
-لأ أنا جاي في شغل بأخلصه..

ثم توقف عن الكلام للحظة ليحوز على كامل انتباهها قبل أن يستأنف سؤاله:
-إنتي بقى بتعملي إيه هنا؟
التفتت إلى "آمنة" تجيبه بربكة طفيفة:
-أنا مع والدتي وآ......
قاطعها "آسر" ممررًا يده إلى أمها وهو يرحب بالأخيرة بتهذيبٍ:
-إزي حضرتك يا فندم؟
صافحته متسائلة بفضولٍ واستغراب:
-أهلاً بيك يا ابني، إنت مين؟

تولت ابنتها الإجابة عنه، فقدمته ببسمةٍ متكلفة:
-ده يا ماما "آسر" بيه، ظابط صاحب "ماهر" بيه أخو "علا" صاحبتي
وقبل أن تستشف منها المزيد من المعلومات كان "خليل" يقف على رأس الطاولة متسائلاً بصوتٍ أجش وعيناه محتدتان:
-في حاجة يا حضرت؟

وكالعادة لحقت به زوجته لتشبع فضولها النهم، وتساءلت بابتسامةٍ خبيثة:
-إنتي تعرفي الأستاذ ده يا "فيروزة"؟
استطرد "آسر" موضحًا، ونظراته تدور على جميع الأوجه المحدقة به:
-سوري يا جماعة إن كنت اقتحمت عليكم الأعدة، بس حابب أعرفكم بنفسي، وبالمرة أوضح سوء الفهم اللي حاصل.

-مين ده يامه؟ اللي واقف مع المزغودة دي؟
قبل لحظات، تساءلت "خلود" في اهتمامٍ مبالغ وعيناها مثبتتان على وجه عدوتها، نظرت "بثينة" إلى حيث أشارت ابنتها ودققت النظر إلى ذلك الشخص الذي يرتدي بدلة أنيقة ويتبادل الحديث الحميمي نسبيًا مع "فيروزة"، مالت عليها وقالت بحيرة:
-ولا أعرف، أنا مشفتوش قبل كده.

كزت "خلود" على أسنانها هامسة، وتلك النظرة المشمئزة تكسو حدقتيها:
-بت صايعة بتاعة رجالة، مش ملاحقة تشاغل مين ولا مين! مرة جوزي، ومرة واحد تاني!
للحظة طرأ في بالها فكرة وضيعة كتفكيرها الذي تحول مؤخرًا ليصبح كارثيًا على من حولها، تصنعت البراءة، وقالت بنبرة مرتفعة قدر الإمكان لتضمن سماع الجميع لما تنطق عنه:
-وعلى فكرة يامه دي مش أول مرة أشوف "فيروزة" بتكلم رجالة غُرب، كويس إن ده بيحصل قصادنا، عشان محدش يقول إننا بنظلمها.

استثيرت حمية "خليل" وهتف محتجًا:
-مايصحش الكلام ده يا بنتي، احنا بناتنا متربين! مافيش حد غريب عننا!
هزت كتفيها بحركة مستهزأة، ولوت ثغرها قائلة:
-ما هو واضح إنك مش عارف هما مين، وإلا لكان اللي واقف معاها جه وسلم عليك.
أوغرت ببساطة صدره ناحيتها فانقلبت ملامحه ونهض بأمارات غيظه المتراقصة على صفحة وجهه نحو ابنة أخته قاصدًا إحراجها علنًا، شعرت "خلود" بالنشوة تغمرها من جديد، الآن نالت انتقامها الجزئي منها، وما زال في جعبتها الكثير لأجلها.

ظلت ملامحه هادئة رغم تباين ردات الفعل المنعكسة على الأوجه الناظرة إليه، كان الأمر بديهيًا أحدهم يقتحم جلسة عائلية ليرحب بابنة العائلة دون إظهار احترامه لمن معها، تحتم عليه إصلاح خطأه، وإن تطلب الأمر أكثر من اعتذار، لذا حافظ "آسر" على ابتسامته العملية، وأشار بيده للجميع مُعرفًا بنفسه:
-أنا أسف يا جماعة إني معرفتكوش بيا، دي غلطتي، بس مش مقصودة، أنا "آسر وهبة" مدير فرع الشئون القانونية للمجموعة العربية للملاحة الدولية في دول الخليج.

ومد يده لمصافحة "خليل" الذي بقي حائرًا لثانية قبل أن يصافحه، في حين نظرت له "فيروزة" باندهاشٍ، وتساءلت وكأنها تفكر بصوتٍ مسموع:
-هو إنت مش ظابط؟!
هز رأسه نافيًا قبل أن يجيبها وهو يدير رأسه لينظر ناحيتها:
-لأ يا آنسة "فيروزة".
لعقت شفتيها وعلقت عليه في حيرةٍ:
-بس إنت كنت مع "ماهر" بيه، والظابط "وجدي"!

أوضح لها ببساطة:
-هما أصحابي فعلاً، ومن زمان من أيام ابتدائي، لكن هما دخلوا شرطة، وأنا دخلت حقوق.
ادعت الابتسام لتخفي حرجها من الموقف برمته، وقالت:
-تمام.. كده فهمت.
حاوطت "حمدية" بذراعها كتفي "فيروزة" لتبدو وكأنها تُكن لها مشاعرًا دافئة، ثم تساءلت بفضولٍ ماكر:
-وعلى كده إنت متجوز يا أستاذ؟

انزعجت "فيروزة" من وقاحة سؤالها ونظرت لها بحدة، في حين ابتسم "آسر" حين جاوبها بنبرة ذات مغزى:
-لأ لسه.. ومش خاطب كمان!
اتسعت بسمتها اللئيمة وغمزت ل "فيروزة" بطرف عينها قبل أن تدمدم:
-ربنا يرزقك ببنت الحلال.
سددت لها الأخيرة نظرة نارية مشتعلة، وتنحنحت قائلة بوجهٍ شبه عابس:
-دي فرصة كويسة إننا شوفناك، بس مش حابين نعطلك!

ظلت ملامحه مرتخية وهو يعلق عليها بنوعٍ من الاهتمام البائن عليه:
-مافيش أي عطلة، بالعكس أنا قلبي كان حاسس إني هاشوفك. قصدي إني محظوظ إني اتقابلت مع العيلة الكريمة.
هتفت "حمدية" معبرة بشكلٍ مبالغ فيه وبحنكة ماكرة لتستدرجه:
-ده احنا الأسعد يا أستاذ آ... متأخذنيش أنا ذاكرتي ضعيفة في الأسماء شوية.
نظر نحوها قائلاً بلباقةٍ ليعرف بشخصه مجددًا حتى يتسنى للجميع تذكره:
-اسمي "آسر" يا هانم، "آسر وهبة".

حملقت في زرقة المياه المغرية بنظرات مطولة شبه ساهمة، كانت تهرب من إحساسها المتزايد بالألم بإمعان النظر في تلك الأمواج المتلاحقة، وامتزج صوته الأجش مع أصوات حركة المياه الثائرة ليحفر ذلك لمشهد بجميع مؤثراته في مخيلتها، باتت "همسة" على وشك الصراخ طلبًا للنجدة، لكنها قاومت قدر استطاعتها معتقدة في نفسها أنها ستتغلب عليه. دنا "هيثم" منها، وبقلبٍ يقفز طربًا سألها، وكأنه لا يجد ما يحاورها فيه:
-مبسوطة؟

التفتت ناحيته تطالعه بغرابةٍ، وردت متسائلة:
-من إيه بالظبط؟
ازدرد ريقه وتابع بارتباكٍ أبله مستخدمًا يده في التلويح:
-من المكان، من الجو.. أي حاجة يعني.
هزت رأسها قائلة وذلك الوخز المميت ينخر في جانبها:
-كله تمام.
لاحظ "هيثم" تلك التقلصات الظاهرة على تعبيرات وجهها، دقق النظر فيها وسألها مهتمًا:
-إنتي كويسة؟

ضغطت على شفتيها معترفة له بصوتٍ بطيء مكتوم يعبر عن مدى تألمها، وقد انحنت قليلاً للأسفل وواضعة ليدها على جانبها الأيمن:
-لأ.. حاسة إني.. بأموت.
تبدلت تعابيره المبتهجة للخوف، وسألها وهو يفحصها عن كثب:
-مالك يا "همسة"؟ في إيه؟

أطلقت صرخة عميقة من جوفها قبل أن تتكوم على نفسها على الشرفة وهي تبكي بحرقة من شدة الألم الذي يفتك بجانبها. جثا "هيثم" على ركبته أمامها، تفقدها بنظراته، والتفت برأسه مناديًا في لوعةٍ:
-يا جماعة حد يلحقنا بسرعة!

وعلى إثر صراخها المرعب تجمع المتواجدين بالمطعم، ومن ضمنهم أفراد العائلتين حولها، كانت "فيروزة" الأسبق في الوصول لتوأمتها بعد أن دفعت من يسد الطريق عليها لتبلغها، وضعت يدها على ظهرها وجثت على ركبتيها تسألها في جزعٍ:
-حصلك إيه يا "همسة"؟
رفعت الأخيرة نظراتها الباكية إليها، وأجابتها بصعوبةٍ:
-مش قادرة، بأموت.

اخترقت "آمنة" صفوف المحاوطين لصغيرتها، وهتفت بقلب أم خائف للغاية:
-بنتي، جرالك إيه؟ إنتي كنتي كويسة و..
هتف "هيثم" فجأة وقد حسم أمره:
-أنا هوديها لأقرب مستشفى، مش هاسيبها كده.

لم ينتظر الرد من أحدهم، حيث أزاح "فيروزة" من طريقه بالرغم من تذمرها، وأحنى نفسه عليها ليمرر ذراعيه أسفل ركبتيها وحول جسدها ليتمكن من حملها، ألقت "همسة" برأسها على صدره وجفناها مطبوقان من شدة الألم، لم تتوقف عن البكاء وقالت له بصوتٍ بالكاد سمعه:
-الحقني.
نظر لها بعينين مرتاعتين، وهتف يعدها بصوتٍ لاهث من فرط خوفه عليها:
-أنا معاكي، مش هايحصلك حاجة!

لحظات عصيبة مليئة بالخوف والترقب مرت على كلتاهما وهما ينتظران في ردهة المشفى ما سيخبرهما به الطبيب بعد الكشف الأولي على حالتها، احتضنت "فيروزة" والدتها، وحاولت تهدئتها بكلماتٍ متفائلة بالرغم من الخوف الذي يسري في أوصالها، لكن عليها أن تبدو قوية الشكيمة أمامها، ألا تنهار مع مصائب الدهر، لتكن هي الحائط المتين الذي تستند عليه، تنهدت قائلة لتشد من أزرها:
-إن شاءالله الدكتور هيطلع ويطمنا عليها، "همسة" هتبقى كويسة ومافيهاش حاجة.

ردت بحزنٍ وهي تمسح دمعاتها المنسابة على وجنتيها:
-يا رب
بالطبع لم يتخلَ "بدير" عن دوره الشهم في مد يد العون لتلك الأسرة، وتواجد بنفسه مع "خليل" و"حمدية" ليطمئن بنفسه على الفتاة المريضة، عرض عليهما بجديةٍ:
-متشلوش هم أي حاجة، المهم نطمن عليها
رد "خليل" مجاملاً:
-كتر خيرك يا حاج "بدير"، والله ما عارف أقولك إيه، أنا حاسس إني إيدي متكتفة، ومش عارف أعمل حاجة
ربت على كتفه مهونًا عليه:
-متخافش، كلنا أهل وجيران.

أخفت "حمدية" ابتسامة مستمتعة بالعرض الهزلي الذي يقدمه زوجها، وكأنه يستجدي بذلك عطفه، وإحسانه، والأهم بالطبع نقوده الطائلة، فلا يضطر لإنفاق أي شيء من جيبه بسبب تلك القرابة، تنحنحت تشكره هي الأخرى بوجومٍ زائف:
-احنا غلابة أوي يا حاج، ربنا بعتك لينا في الوقت المناسب.

بينما وقف "هيثم" بجوار الباب المعلق أعلاه لافتة (طوارئ) ونظراته مرتكزة عليها، ظل يغمغم بكلمات غير مفهومة، حانت منه نظرة تائهة إلى والدته التي جلست على المقعد المعدني والتصقت بأخته، كلتاهما لم تتوقفان عن الهمس الغامض، استطردت "بثينة" تقول بتذمرٍ:
-مش عارفة لازمتها إيه أعدتنا دي
ردت عليها "خلود" على مضضٍ:
-البركة في "هيثم"، هو اللي مجرجرنا ورا الهانم بتاعته لحد هنا.

أخفضت والدتها نبرتها وهي تضيف:
-أنا اتشائمت من الجوازة دي، مش جاي من وراها إلا المصايب
همست تؤيدها، وقد شردت تفكر في مخاوفها غير الحقيقية من "فيروزة":
-ومين سمعك!

أوحت ملامح الاثنتان بأنهما غير راضيتان عن تصرف "هيثم" المليء بالمروءة، تجاهلهما الأخير مرغمًا ليبقى في مكانه منتظرًا من يخرج إليه ليطمئنه، انتصب واقفًا حين لمح إحدى الممرضات تسير عائدة من الداخل، أسرع نحوها ليسألها متلهفًا:
-أخبار "همسة" إيه؟
أجابته بنظرة جامدة وهي تتفحص وجهه:
-مين دي؟
صاح منفعلاً:
-البنت اللي لسه جايبها من شوية، ودخلناها عندكم.

هزت رأسها وقد تذكرت شأنها، ثم سألته بسماجةٍ:
-إنت قريبها؟
أجاب بنفاذ صبر وهو يشير بيده:
-أيوه، أنا خطيبها، وأهلها كلهم هنا.
ألقت نظرة عابرة على الأشخاص الذين انتفضوا في أماكنهم، وتحركوا نحوها ليبدو قريبين منها، وعلقت بنبرة روتينية بحتة:
-دلوقتي الدكتور هيخرج من عندها ويطمنكم.

كان "هيثم" على وشك سبها لبرودها الذي لا يُطاق، لكنه أمسك أعصابه وكظم غيظه داخله، فمن المعروف عن تلك الفئة التي تصادف يوميًا عشرات الأنواع من أنماط البشر الثبات الانفعالي والهدوء التام لاعتيادهم الواضح على ردات فعلهم المختلفة ..
لاحقًا خرج طبيب ما من ذلك الرواق الممتد متسائلاً بصوتٍ مرتفع:
-فين قرايب المريضة "همسة"؟

صاحت "فيروزة" عاليًا لتلفت انتباهه وهي تركض نحوه:
-أنا أختها.
بينما تدخل "هيثم" فارضًا ومعرفًا بنفسه:
-وأنا خطيبها.
رمقته "فيروزة" بنظرة حادة قبل أن توجه سؤالها المباشر للطبيب:
-أختي مالها؟
أجابها بلهجة عملية وبجملٍ مرتبة موضحًا طبيعة حالتها:
-عندها اشتباه في الزايدة، واحنا دلوقتي بنعمل معاها الفحوصات اللازمة قبل ما نجهزها للعمليات.

تفاجأت مما أصابها، وردت في صدمةٍ:
-إيه؟ أنا أختي مكانتش بتشتكي من حاجة!
-عيني عليكي يا بنتي، كان مستخبيلك الهم ده فين؟!!
صرخت "آمنة" بتلك العبارة وهي تلطم على صدغيها في ارتعادٍ وحسرة، رمقها الطبيب بنظرة عادية قبل أن يكمل بهدوء اعتاد التعامل به مع عائلة المريض:
-الأعراض واضحة عليها، وزي ما فهمتك احنا بنعمل الفحوصات اللازمة..

ثم وزع نظراته بين "فيروزة" و"هيثم"، وتابع بلهجته الرسمية:
-من فضلكم حد يعدي على الحسابات ويكمل باقي الإجراءات هناك قبل ما نوديها للعمليات.
ردت عليه "فيروزة" دون تفكيرٍ:
-الفلوس مش فارقة معانا، المهم هي تبقى كويسة.
قال مبتسمًا:
-تمام.. متقلقيش، دي حاجة بسيطة، وكل يوم بنعملها، والمرضى بيقوموا منها بخير.

أحست بالارتياح لعباراته المطمئنة، وقبل أن تفكر في خطوتها التالية هتف "هيثم" بجديةٍ:
-خليكي هنا مع أختك وأنا هاتصرف وأشوف عاوزين كام في الحسابات، ماتشليش هم حاجة.
نظرت له بحدةٍ قبل أن تعترض طريقه لتستوقفه بالإجبار، ورغم صفاء نيته إلا أنها شعرت أنه يمس كرامة عائلتها ويخص شأنهم، لذا رفضت عرضه السخي قائلة بكبرياء:
-شكرًا، الحمدلله مستورة معانا، أختي مُلزمة مني، مش من الغريب!

نطق مستنكرًا تزمتها الفارغ:
-حتى لو أنا غريب دلوقتي، فاحنا جيران ومن حتة واحدة، وماتربناش على كده.
أصرت على موقفها الرافض:
-برضوه متشكرين، وكفاية تعبكم لحد كده..
ثم نظرت إلى والدته وأخته المحدقتين بها، وتابعت بما يشبه التهكم:
-ويا ريت تشكرلنا العيلة الكريمة، قاموا بالواجب وزيادة!
رد عليها معاندًا:
-أنا بأعمل بالأصول.

ابتعدت عنه "فيروزة" وهي عاقدة العزم على ألا تقبل المساعدة المادية منه أو من غيره، ستتكفل بمصاريف المشفى وإن كان ذلك يعني الاستغناء عن الأموال المدخرة لشراء ما قد يلزم لتجهيزها مستقبلاً، الأهم نجاتها من ذاك الألم المميت، لذا طلبت من والدتها الانتظار بجوار أختها ريثما تحضر المبلغ المطلوب .. في حين أرهفت "بثينة" السمع للكلمات الأخيرة التي تلفظ بها ابنها، ثم التفتت إلى "خلود" تشكوها في غيظٍ:
-شايفة أخوكي واللي بيعمله؟

علقت عليها ساخرة منه ونظراتها الحقودة مثبتة على "فيروزة":
-أه يامه، الحبيب بيتكلم! عاوز يكسب بونط معاهم!
تقدم "هيثم" مندفعًا ناحية والدته، ودفعها برفقٍ من ظهرها للجانب، ثم سألها بصوتٍ خفيض:
-يامه معاكي قرشين كده سلف أحطهم تحت حساب المستشفى للبت "همسة"، و آ....
قاطعته معتذرة ومدعية الفقر:
-منين يا ابني؟ أنا على الحميد المجيد، يدوب اللي معايا يكفي مصروف البيت لآخر الشهر، لو كان معايا بزيادة كنت اديتك.

غامت عيناه في ضيقٍ، وردد حائرًا، وكأنه يستشيرها وهو يفتش عن الأنسب بين خياراته المتاحة:
-طب أجيب فلوس منين دلوقتي؟!
قالت ببرودٍ يعكس تهكمها:
-دي مش مسئوليتنا، هي معاها أهلها، هما أكيد عاملين حسابهم ومدكنين قرشين تحت البلاطة لزوم الظروف اللي زيي دي، اسمع مني!
نظر لها في عتابٍ والتزم الصمت غير محبذٍ للتعليق عليها، خاب رجائها فيها، وشرد مستغرقًا في أفكاره باحثًا عن حل سريع، اقترحت عليه والدته ببسمة ماكرة:
-طب أقولك روح خد من جوز خالتك، هو مش هايقولك حاجة، ده ياما بيعمل خير وآ...

ودَّ "هيثم" لو تمكن من مساعدتها دون اللجوء لزوج خالته ليثبت لها أنه قادر على تحمل المسئولية في أشد الأزمات، شعر بالعجز وبقلة الحيلة وهو لا يملك في جيبه ما يكفي لإظهار شهامته، ومرة أخرى يندم بشدة لإنفاقه أمواله هباءً .. ضاقت نظراته بشكلٍ منفر، ولم يتحمل كلام والدته غير المقبول، وقاطعها بتبرمٍ:
-خلاص يامه أنا هاتصرف.
نظرت له بغرابةٍ قبل أن تهتف متسائلة:
-هتعمل إيه؟

تجاهل الرد عليها ليهرع في خطواته متجهًا نحو مخرج المشفى، اضطربت أنفاسه وغص صدره بالبكاء، لكن عاد الأمل ليرفرف فوق رأسه وقد تذكره، ودون ترددٍ أخرج من جيبه هاتفه المحمول، وضع الهاتف على أذنه وقد تطرق إلى ذهنه ذلك الحل الذي وجده مناسبًا له، دار حول نفسه في توترٍ وهو يحاول جاهدًا ترتيب أفكاره قبل أن يبوح بها إليه، ثم هتف دون مقدماتٍ حين أجاب عليه الطرف الآخر:
-"تميم"، أنا عاوزك في خدمة مش هنسهالك طول العمر... !!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة الخامسة والثلاثون بقلم منال سالم


حزمة من المشاعر اليائسة غزت وجدانه بعد أن أحصى عقليًا وبحسبة سريعة ما يدخره من مال، لم يملك من كده اليومي حين التزم طريق الحلال سوى القليل الضئيل الذي لا يذكر أو حتى يصلح لشراء باقة من الورد لمعايدتها بعد تماثلها للشفاء، فماذا عن دفع تكاليف العلاج بالمشفى؟ لعن "هيثم" استهتاره الدائم الذي أوصله لتلك الحالة من العوز والاحتياج، عبث بشعر رأسه، وتابع مكالمته مع "تميم" قائلاً له على عجالةٍ:
-أنا محتاج منك قرشين ضروري، وهردهوملك أما ربنا يفرجها معايا.


 
بدا على صوت "تميم" الضيق حين سأله مستفهمًا:
-خير يا "هيثم"؟ عملت مصيبة إيه المرادي؟
أجابه بأنفاسٍ غير منتظمة وهو يتحرك في حركة شبه دائرية خارج المشفى:
-دول مش ليا.
استطاع أن يسمع صوت أنفاسه البطيئة عندما تساءل مجددًا بما يشبه الاستنكار:
-قول إنك رجعت تاني للسكة الشمال، والحكاية فيها عوأ (مشكلة) مع حد؟!


 
هتف نافيًا بصوتٍ مختنق:
-اقسم بالله أبدًا، أنا وعدتك ووعدتها.. ولحد النهاردة ملتزم بكلمتي...
انقطع صوته للحظة قبل أن يتابع بتوسلٍ:
-بس البت هتموت لو ملحقتهاش
على الفور سأله "تميم" وقد تبدلت نبرته:
-بت مين؟
أجابه بتلعثمٍ وتلك النهنهة تختلط بصوته:
-"همسة".. خطيبتي!


 
رد عليه "تميم" يستحثه على تمالك نفسه:
-اهدى كده، وفهمني في إيه، ومستشفى إيه اللي بتحكي عنها، ومتقلقش هاجيبلك كل اللي إنت عاوزه، وبزيادة.
تنفس "هيثم" الصعداء لدعمه الذي هبط عليه كنجدةٍ من السماء، ومسح بيده الدمعات التي فرت من طرفيه، ثم قال وهو يسحب نفسًا عميقًا:
-حاضر، بس بالله عليك ما تتأخر.
اخترقت نبرته أذنيه وهو يرد عليه:
-أنا جايلك في الطريق.
تنهيدة ثقيلة خرجت من جوف "هيثم" أزاحت معها همًا قابضًا للأرواح جثم على أنفاسه طوال تلك الدقائق الماضية، بدأ يستعيد انضباطه، وسرد له تفاصيل ما حدث في المطعم منذ لحظة انهيار "همسة" وذهابه بها إلى المشفى بصحبة أفراد العائلتين.

لم تمهل نفسها الفرصة لالتقاط الأنفاس، بمجرد أن دست المفتاح في قفل الباب ووطأت داخل منزلها، ركضت "فيروزة" نحو غرفة نوم والدتها، اتجهت إلى دولاب الملابس حيث تحتفظ والدتها في الرف الأوسط بصندوقٍ صغير تضع فيه مدخرات الفتاتين من أجل تجهيزهما حين تحين لحظة زواجهما، كانت تعرف هدفها جيدًا، فلم تضع الوقت في البحث والتفتيش، أزاحت الثياب التي يختبئ الصندوق أسفلها، وفتح الصندوق بالمفتاح الصغير المعلق به، أخرجت جميع النقود الموجودة به، وطوتهم بإحكامٍ قبل أن تحشرهم في جيب حقيبتها، كانت على وشك غلق الدولاب حين لمحت علبة القطيفة الحمراء، رددت لنفسها:
-إيه دي؟

مدت يدها للرف العلوي لتسحبها نحوها، ثم فتحتها لتعلو الدهشة المستنكرة كامل ملامحها، كزت على أسنانها متسائلة في ضيقٍ:
-الدهب ده بيعمل هنا إيه؟ المفروض يكون رجع لأصحابه!
أعادت العلبة في مكانها بالرف العلوي، وتابعت حديث نفسها:
-عمومًا ده مش وقته، هتكلم مع ماما في حكايته بعدين، المهم دلوقتي "همسة" وبس.
أوصدت الدولاب وتحركت بخطوات متعجلة إلى خارج الغرفة، أغلقت الباب خلفها، ومنه تابعت سيرها السريع نحو باب المنزل، وهي تأمل في نفسها ألا تكون قد تأخرت على توأمتها.

كل ما شغل حيز تفكيره في تلك الأثناء هو كيفية إحضار النقود المطلوبة دون إضاعة المزيد من الوقت، فالدقائق تكلف كثيرًا في حالة مريض تتوقف حياته على الثمن الذي يدفعه لتلقي العلاج الفعال، كان "تميم" متواجدًا بالدكان أثناء تلقيه للمكالمة الهاتفية، لهذا اتجه إلى الخزانة القديمة الضخمة الموضوعة عند الزاوية ليسحب منها ما يريده من أموال، ركض نحو سيارته، وقادها بتعجلٍ نحو المشفى الذي لم يكن ببعيدٍ عنه، وظل على تواصلٍ مع "هيثم" ليعرف منه آخر المستجدات، وعندما بات أمام مدخل المشفى قال له بصيغة آمرة:
-اطلع استناني عند الحسابات، أنا هاركن العربية في الجراج وجاي
رد بتعجلٍ:
-ماشي.

وفي المكان المخصص لركن السيارات، صف "تميم" خاصته به، ثم ترجل منها وهرول نحو الدرجات يصعدها دفعات، التقط أنفاسه عند الاستقبال وهو يجوب بعينيه القلقتين على الأوجه المتواجدة، أوقف إحدى الممرضات يسألها:
-الحسابات هنا فين؟
أرشدته وهي تشير بيدها:
-هتطلع من السلم اللي هناك ده، الدور الأول، آخر الطرقة يمين.
-متشكر
قالها وقد شرع يهرول في اتجاه السلم ليكمل صعوده الراكض عليه، وقبل أن يصل إلى الغرفة المنشودة كان "هيثم" ينتظره في الردهة، هلل الأخير فور أن رأه:
-"تميم"! أنا أهوو..

ثم ركض نحوه متسائلاً بتوترٍ:
-جبت الفلوس؟
أجابه وهو يخرج من جيبه مظروفًا أبيض اللون وضع به النقود:
-أيوه، شوف دول يكفوا ولا محتاج بزيادة
تناول منه المظروف وألقى نظرة خاطفة على المبلغ الكبير قبل أن يغلقه لينظر إليه قائلاً بامتنانٍ:
-كده تمام أوي، الله يكرمك يا "تميم"، مش عارف أقولك إيه، إنت أنقذتني وآ....
لم يكمل جملته الشاكرة له بسبب صوت "فيروزة" المقاطع بحسمٍ:
-محدش يتدخل!

التفت كلاهما نحوها لينظرا باندهاشٍ لتلك التي تركض وعرقها الغزير ينساب على جبينها، حتى خصلاتها تنافرت وتبعثرت بشكلٍ فوضوي، بالطبع ظهر تأثير رؤيتها المفاجئ على "تميم"، إنها نفس الخفقة العجيبة التي تضرب فؤاده وتصيبه بربكة موترة، حَجم من مشاعره التي تضاربت في حضرتها ليسألها بلهجته الصارمة وهو ينظر إلى عينيها المنزعجتين:
-مندخلش في إيه بالظبط؟ الموضوع عندنا!

رمقته بنظرة حادة، ثم انخفضت نظراتها نحو المظروف، خمنت دون سؤال عما يحتويه، وردت بشموخٍ وهي تتطلع إليهما رافضة إقحام أيًا منهما في شئون عائلتها سواء المادية أو المعنوية:
-لأ معلش دي أختي أنا، مالهاش لازمة تتحشروا في أي حاجة تخصنا
هدر بها "هيثم" وقد استفذت طاقته على الاحتمال:
-بأقولك إيه أنا آ...

قاطعه "تميم" بصوته القوي، ومشيرًا بيده دون أن تبتعد نظراته المتأملة عن وجه "فيروزة":
-خلاص، اهدى يا "هيثم"!
رد عليه بنرفزةٍ واضحة:
-إنت مش شايفها يا "تميم"؟ كلامها يفور الدم!
أدار رأسه نحوه يأمره بصوته الآمر دون أن تخبو صرامته:
-روح يا "هيثم" اعمل المطلوب وخلص الإجراءات!
هز رأسه ممتثلاً له، فصرخت به "فيروزة" محتجة:
-استنى عندك!

وكأنها تُحادث الفراغ حيث تابع "تميم" إلقاء أوامره عليه:
-نفذ الكلام، ماتقفش!
تراقصت في عينيه نظرة انتصار وهو يرد:
-حاضر.
أوشكت "فيروزة" على اللحاق به وإيقافه، لكن اعترض "تميم" طريقها بجسده، توقفت عنوة حتى لا ترطم بصدره بسبب اندفاعها المتعجل، نظرت له شزرًا ثم تحركت في الاتجاه الآخر لتتجاوزه، لكنه سده عليها وقد فرد ذراعيه في الهواء، منحته نظرة نارية من عينيها قبل أن تصرخ به بعصبيةٍ:
-ممكن أفهم إنت بتتحشر ليه؟

رد مبتسمًا، وكأنه يستفزها بهدوئه:
-مش في رجالة موجودين؟ هما اللي بيخلصوا الحاجات دي، فماتتعبيش نفسك.
غمغمت مع نفسها في حنقٍ، وقد شردت تفكر في جملته الأخيرة ذات الدلالة الواضحة:
-الله يسامحك يا خالي، إنت السبب، المفروض تكون بتجري مكاني!

تأمل "تميم" سكونها اللحظي بنظرات متفحصة، كانت كشعلة من النار الملتهبة ألسنتها، والتي يزداد أوجها بشكلٍ مثير حين تغضب، ورغم هذا كانت تجعل كامل حواسه في حالة استنفارٍ عجيبة، وكأنها تحثه بكل ما تملكه من وسائل هجومية على عدم الاستسلام والخوض معها في معركة طويلة الأجل، طالعته بنظرة غريبة حين رأت نظراته الساهمة نحوها، ثم هتفت بتنهيدة محبطة وذلك التقوس المستنكر يعلو زواية شفتيها:
-يعني مش معقول، كده كتير بجد.

حافظ على ثبات نبرته وهو يرد:
-معلش استحمليني.
ابتسمت في سخرية وقد عاد إلى ذهنها مشهدًا ليس ببعيدٍ عنها، حين أخبرتها زوجته بأنه لا يتقبلها مطلقًا، ويكن لها كراهية مفهومة، لم تتحمل سخافة الموقف، وسألته بما يشبه الإهانة:
-للدرجادي إنت منافق كمان؟!
صدمه وصفها الأخير له والمرفوض كليًا، وقال محذرًا وقد اشتدت تعابيره عبوسًا:
-منافق! حاسبي على كلامك.

استرسلت موضحة بكبرياءٍ وقد تصلبت عروقها:
-ما هو مالوش تفسير اللي بتعمله غير كده، أكيد واحد مش طايق يبص في خلقتي، ولا أنا أصلاً بأقبلهن فجأة بقدرة قادر جاي يعمل معروف معايا، لأ شكرًا مش عاوزين حاجة من حد، الحمدلله ربنا ساترها معانا، وموصلش الأمر إننا نشحت على أختي، لأ ومنك!

تطلع إليها في اندهاشٍ متعجب من الأقاويل التي تملي بها أذنيه، وسيطر على غضبه الذي اندلع كردة فعل طبيعية بداخله، سحب شهيقًا عميقًا لفظه دفعة واحدة، ثم قال بتمهلٍ:
-طيب .. أنا مش هسألك على اللي قولتيه ده دلوقتي، أنا مقدر الظروف!
صاحت بنفس النبرة المنفعلة وهي تشيح بيدها أمام وجهه:
-وتسألني ليه أصلاً؟ بصفتك مين؟ ما كفاية مراتك قايمة بالواجب وزيادة
تساءل مندهشًا:
-مراتي؟ وهي مالها بيكي؟!!

نظرت له باحتقارٍ وهي معتقدة أنه يتلاعب بها، ثم قالت بما يشبه السخرية:
-إنت بتهزر صح؟ قالولك عني غبية وبرمي بلايا، إنتو الكلام معاكو خسارة
حاولت تخطيه لكنه احتل الطريق بجسده ومنعها من المرور فلم تجد إلا صدره العريض أمامها، وكأنه بذلك يتحداها، رفعت عينيها إليه فوجدت نظراته المحتقنة مسلطة عليها، وبصوتٍ بدا مشدودًا سألها:
-أنا مش فاهم منك حاجة، قصدك إيه بكلامك ده؟

ضجرت من لغوه الفارغ معها، ومن تلاعبه المستهلك بعقلها، وكأنه بذلك يضيع الوقت عليها، إذًا لتوقفه عند حده إن كان لا يفهم إلا بلغة العنف، ودون أن يتوقع ردة فعلها شحذت "فيروزة" قواها المنفعلة ودفعته من صدره بكلتا قبضتيها لتتمكن من تحريكه من مكانه خطوة للخلف وهي تصرخ به:
-ابعدوا عننا بقى، شيلونا من دماغكم!

تفاجأ من قساوتها العنيفة التي حفزته، أصبحت تعابيره متقلصة للغاية، كانت على وشك تكرار نفس الفعلة الجنونية، لكن امتدت يداه لتمسك برسغيها، ثبتهما للأسفل مستخدمًا قوته الذكورية الكامنة فيه، وشدَّ بأصابعه وعيناه تنظران مباشرة في حدقتيها المحتدتين، استجمع هدوئه، وضبط غضبه، ثم قال لها بصوته الخفيض:
-لو قصدك على خطوبة "هيثم" بأختك، فده اختيارهم، أنا ماليش فيه.
حاولت تحرير يديها من قبضتيه الجامدتين، وهتفت بحنقها:
-واحنا مش عايزين نرتبط بيكم، افهموا بقى!

أرخى أصابعه عنها فسحبت على الفور يديها للخلف، وبدأت تفركهما، تنهد من جديد ثم رفع كفيه أمام وجهها متابعًا كلامه:
-ده مش موضوعنا، المهم دلوقتي نطمن على أختك، مشاكلك مع "هيثم" أو غيره تحليها بعدين.
فتحت "فيروزة" شفتيها لترد عليه بلهجة قاسية شديدة لتلزمه بحدوده معها فلا يتجاوز مطلقًا تحت أي مسمى، لكن الصوت المألوف المنادي باسمها جعلها تدير رأسها للخلف في اتجاه مصدره غير متوقعة ما أبصرته عيناها... !!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة السادسة والثلاثون بقلم منال سالم


رمشت بعينيها عدة مرات لتتأكد من هويته، انفرجت شفتاها عن دهشة مصدومة، كان أمر حضوره إلى هنا بالتحديد مستبعدًا عن ذهنها، لم تتصور مطلقًا أنه سيتبعها إلى المشفى بعد لقائها الحرج معه في المطعم، انطفأت شعلة اللهب الغاضبة الظاهرة على صفحة وجهها ليحل بدلاً منها الارتباك والتوتر، التفتت "فيروزة" كليًا نحوه متناسية وجود "تميم" معها، ورددت بعفوية دون أن تنتقص صدمتها:
-إنت ..؟!


 
تقدم "آسر" بابتسامته المنمقة نحوها، وقال معتذرًا:
-أنا أسف إن كنت مجتش معاكي من الأول..
تأهبت في وقفتها وظلت تتطالعه بغرابةٍ وهو يكمل ببسمته المرسومة بعناية:
-بصراحة مكونتش متأكد إن كانت المستشفى هنا بتقبل الدفع بالفيزا ولا لأ، فروحت البنك أسحب فلوس كاش..
تفاجأت مما فعله، ورأت تلك الحقيبة الجلدية الصغيرة معلقة في يده، وقبل أن يتم جملته للنهاية قاطعته بتلعثمٍ خفيف وقد لانت ملامحها نسبيًا:
-شكرًا يا.. أستاذ "آسر".. مكانش ليها لازمة تتعب نفسك.


 
رد معتذرًا من جديد بتهذيبٍ واضح:
-تعب إيه بس؟ ده أنا مقصر خالص، كان المفروض أتحرك بسرعة عن كده وأقف جمبك من البداية.
لم يستسغ "تميم" تلك اللطافة الزائدة منه، كانت مصطنعة للغاية، شعر وهو يتابع حواره الكلامي بسماجة فائضة غير مستحبة زادته نفورًا من ناحية شخصه اللزج، ابتسمت له "فيروزة" مجاملة، ورققت من نبرتها حين قالت:
-كتر خيرك، كلك ذوق.


 
تصاعدت الدماء بقوة في رأس "تميم" وهو يصغي إلى ردها الناعم معه، هي ليست من النوع المتساهل مع الرجال، بل القسوة عنوان صوتها، وتلك النبرة الأنثوية الهادئة استثارت مشاعره بدرجة أكبر، فأصبح في حالة لا يحسد عليها، تنفس بعمقٍ ليضبط انفعالاته التي بدت في حالة ما بين الجنون والغضب الأعمى، كبحها قدر المستطاع علها تحط في أعماقه، نظر لها مليًا بضيقٍ، شعر وكأنها تتعمد استفزازه برقتها الغريبة مع غيره، لذا تنحنح بصوتٍ مرتفع نسبيًا ليلفت انتباهها إلى وجوده فتكف عن إيذائه بذلك الشكل السافر قبل أن يستطرد قائلاً بنبرة جافة مالت للخشونة:
-متشكرين يا حضرت، الرجالة عملوا الواجب وزيادة.


 
استدارت "فيروزة" ناحيته، حدقت فيه بقسوةٍ، اختفت الرقة من تعبيراتها عندما ردت عليه بعبوسٍ:
-لا معلش، أنا مش عاوزة حد من طرفكم يساعدني.
استقام في وقفته الرجولية فبدا أكثر مهابة وقوة، ثم رد معاندًا إياها:
-ودي مش مساعدة يا أبلة، ده واجب علينا.
قالت بتبرمٍ، وتلك النظرة الحادة تعلو حدقتيها:
-وأنا مش محتاجاه.

ثم التفتت ناحية "آسر" تعتذر منه:
-وبرضوه بأشكرك يا أستاذ "آسر" على ذوقك، لكن مستورة والحمدلله.
هتف الأخير بإصرارٍ:
-يا آنسة "فيروزة"، طبيعي كلنا نقف مع بعض وقت الأزمات، ماتتكسفيش مني..
وبجراءة غير مقبولة مد "آسر" ذراعه نحوها، وأمسك بيدها ووضع النقود في كفها بالإجبار، ذُعرت من حركته المباغتة ونفرت منه، شعرت بالغضب يجتاحها لمحاولته فرض الأمر عليها، احتقن تورد بشرتها، وردت بحدةٍ وهي تحاول إعادة النقود له دون أن تمسه:
-لأ مش هاينفع كده.


 
شخصت أبصار "تميم" من تجاوزه الوقح، ودون تفكيرٍ انتشل النقود من يد "فيروزة"، ثم خطى للأمام خطوتين نحو ذاك اللزج ليقطع عليه طريق الود المائع معها بجسده المشدود، حجب عنها الرؤية عن قصد، ووجه نظراته المنذرة إليه، ثم قبض على معصمه، ودس النقود بعنفٍ في راحته قاصدًا إيلامه .. سدد له نظرة نارية أخرى أشد حدة قبل أن يقول بصوتٍ أجوف مهدد يعكس قساوة غريبة:
-هما الرجالة اللي واقفين قصادك دول مش ماليين عينك؟ عين فلوسك في جيبك.

استنكر "آسر" تصرفه الفظ، وقال بوجه ممتقع:
-افندم..؟
زجره "تميم" بنبرته التي اخشوشنت أكثر:
-سمعتني كويس، ولا تحب أعيد؟!
احتجت "فيروزة" على تدخل "تميم" في شئونها، وإن كانت رافضة لذلك التصرف الجريء من "آسر" لإقناعها بقبول مساعدته، ومع ذلك صبت جام غضبها على الأول، ونهرته بتشنجٍ:
-حد كلمك أصلاً؟ ولا طلب منك تدخل؟ ده شيء يخصني أنا.


 
نظر ناحيتها بعينين غائمتين، ورد بجمودٍ:
-أنا بأعمل الأصول يا أبلة لو كنتي نسيتي...
ثم تركزت كامل نظراته على وجه "آسر" وهو يستأنف تهديده الصريح له:
-في حاجات ماينفعش أشوفها وأعديها، ويحمد ربنا الأخ إنه حوالينا ناس، وإلا كنت خليته يحجز بالفلوس دي سرير في عنبر 6 فوق!
قست تعابير "آسر" وقد فطن إلى كونه يحاول جعل الأمر يبدو استعراضًا للقوة الذكورية، فسأله ببرودٍ متعمدًا تحديه:
-ده تهديد يا أخ إنت؟

تقوست شفتا "تميم" عن ابتسامة مغترة وهو يرد:
-أيوه..
أشار "آسر" بسبابته نحوه موجهًا حديثه ل "فيروزة" ليسألها مباشرة، وبقيت نظراته الساخطة مسلطة عليه:
-قبل ما أغلط فيك، قريبك ده يا آنسة "فيروزة"؟ أصل أنا ماينفعش حد يهددني بالشكل ده وأسكتله!
ابتسامة استخفاف احتلت شفتيها قبل أن ترد:
-ولا أعرفه!

تحفز "آسر" للاشتباك معه بعد أن أعاد النقود إلى داخل الحقيبة الجلدية الصغيرة، وقال متسائلاً بنبرة تحمل الإهانة:
-طب حضرتك بتدخل بصفتك إيه؟! إذا كان الآنسة نفسها متعرفكش! رزالة يعني؟ ولا شو قصادنا؟ يا ريت تفهمنا
اربد وجه "تميم" بغضبه المحموم رافضًا أسلوبه التهكمي المستهون بشخصه وبما يمكن أن يفعله إن فقد أعصابه، وخرجت الأمور عن السيطرة، ثم حدجه بنظرة مخيفة من عينيه اللاتين التهبتا بشدة، ورد بجمودٍ وهو يلكزه في كتفه بعنفٍ:
-دي حاجات أكبر من اللي زيك، صعب تعرفها لوحدك.

اغتاظ "آسر" من تجريحه الواضح لشخصه وتقليله من شأنه، فلجأ لاستحقاره قائلاً بنظرة متعالية:
-خلاص أنا كده فهمت النوع بتاعك، إنت من اللي واخدينها بلوي الدراع.
لم يتحمل استهزاء ذلك الغريب به، فحرك "تميم" ذراعه نحوه ليمسك به من طرف سترته باهظة الثمن، جذبه بقوة نحوه، وكأنه خرقة لا يزن شيئًا، عجز "آسر" عن مقاومته أو الابتعاد عنه، كان غليظًا للغاية في تعامله، ثم حذره الأول بلهجة قاتمة وعيناه تنظران له بشراسةٍ:
-طب كويس إنك عرفت نوعي، عشان لما بأزعل ببقى غبي!

على الفور تدخلت "فيروزة" لتمنعه من الاعتداء عليه، وصاحت فيه بنبرة غلفها الصراخ المهدد:
-ابعد عنه، إنت مابتفهمش غير في البلطجة وبس.
هتف "آسر" يتوعده، وهو يحاول تخليصه نفسه من براثنه، وكأنه بذلك يحاول لم كرامته التي بعثرها بسهولة أمامها:
-خد بالك أنا محامي مهم، أقدر ألبسك تهمة وأنا واقف هنا في مكاني، ده غير إن معارفي كتير، فبلاش اللي زيي يأذيك أحسن.
ضحك "تميم" مستخفًا بجمله المتباهية، وتركه متعمدًا المسح على كتف بدلته كما لو كان ينظفها قبل أن يعلق عليه:
-الصراحة خوفت، وهاجيب ورا.. بس مش عشانك، عشان أخت الأبلة!

ضاقت نظرات "فيروزة" من عبارته المبهمة، في حين عاد "هيثم" من الداخل وقد انتهى من الإجراءات المادية الخاصة بحالة "همسة"، نظر بغرابة إلى الثلاثة المتشاحنين، وتساءل في فضولٍ ليثير انتباههم:
-خلاص يا ابن خالتي، هو في إيه؟!
وضع "تميم" يده على كتفه وهو يهز رأسه في تفهمٍ، ثم قال ببرودٍ، وعيناه تحدقان في وجه "آسر" بتوعدٍ مريب:
-بينا يا "هيثم"، وقفتنا هنا مالهاش لازمة.
تحركت "فيروزة" لتعترض طريقه، ثم هتفت فيه بصوتها الغاضب:
-استنى إنت رايح فين؟

أخرجت النقود من حقيبتها ورفعتها أمام وجهه متابعة بشراسةٍ:
-خد فلوسك اللي دفعتها، أنا مابشحتش .. !
ثم سحبت شهيقًا سريعًا لتكمل به هجومها عليه:
-ولا دي حركة متفق بيها مع مراتك عليا عشان تعايرونا بيها بعدين؟!
رمقها "تميم" بنظرة مستنكرة، مزعوجة، غريبة، نافذة، ومليئة بالغموض، لم تفهم طريقة تحديقه بها، واغتاظت أكثر عندما دفع ابن خالته للجانب ليبتعدا عن طريقها وهو يأمره:
-يالا..

صاحت من خلفه بصوتها المرتفع:
-فلوسك هترجعلك، سامعني.
تجاهلها مرغمًا ليتابع سيره، بينما حملقت "فيروزة" في ظهره وهو يبتعد بنظراتٍ مغتاظة، ودمدمت قائلة لنفسها:
-أنا مشوفتش في حياتي كده!!
ظلت نظراتها تتبعه إلى أن هبط الدرجات واختفى، في حين هندم "آسر" من سترته التي فسد مظهرها مرددًا بعض العبارات المنزعجة، فاستدارت "فيروزة" ناحيته لتقول معتذرة عن وقاحة ذاك البلطجي معه:
-أنا أسفة يا أستاذ "آسر"، إنت اتحطيت في الموقف البايخ ده بسببي، مش عارفة أقولك إيه!

رد مبتسمًا وهو يحرك رأسه للجانبين:
-ولا يهمك، أنا غرضي أساعد و...
ودون أن تسمع باقي جملته قاطعته في امتنانٍ:
-أنا مقدرة ده.. وبأشكرك على اهتمامك.
سألها في جدية:
-طيب أختك فين دلوقتي؟
خرجت تنهيدة بطيئة من جوفها قبل أن ترد:
-هاروح لماما أشوف الوضع إيه.
استأذن منها بأسلوبه اللبق:
-طب تسمحيلي أكون معاكي؟ يعني عشان لو عوزتي حاجة، ماتبقيش لوحدك وكده.

تحرجت من وجوده والذي لن يكون مقبولاً بالمرة بالنسبة لعائلتها، ناهيك عن ظرافة "حمدية" اللا متناهية، والتي ستسعى لاستدراجه واستخراج المعلومات منه، كما لو كانت تعمل (خاطبة) مما سيزيدها حرجًا، لذا حاولت التملص من عرضه، وقالت بجدية:
-أهلي كلهم هنا، اطمن.

لم يجد بدًا من الإصرار أمام رفضها الواضح، فرد في استسلامٍ:
-أوكي يا آنسة "فيروزة"، مش هاضغط عليكي، لكن لو عوزتي حاجة، فأنا في الخدمة.
رانت على شفتيها ابتسامة لطيفة وهي تشكره:
-ميرسي ليك يا أستاذ "آسر".
بادلها ابتسامة ودودة قبل أن يطلب منها راجيًا:
-أتمنى نشيل التكليف بينا، يعني أنا باعتبر نفسي دلوقتي صديق ليكي .. وآ.. وللعيلة.
ضغطت على شفتيها في ترددٍ، وقالت بحسمٍ:
-أفتكر إن كده أحسن، يعني منعًا للمشاكل، وحضرتك شوفت النوعية الناس اللي عايشين معاهم إيه.

قال بما يشبه التغزل بها:
-بس إنتي غير أي حد، مختلفة، ومستقلة، وشخصيتك حلوة.
لم تعرف بماذا تعقب عليه، فقالت وهي تحاول الابتسام:
-شكرًا، هستأذنك هاشوف أختي.
-اتفضلي، وإن شاءالله تبقى كويسة.

لم يمد تلك المرة يده لمصافحتها حتى لا تحرجه، واكتفى بتوديعها بعباراته المهذبة ليبدو حينما تستحضر صورته في ذهنها المحامي المحترم، لوحت له بيدها وظلت متسمرة في مكانها لبعض الوقت، وكأنها قد عادت لتستغرق في أفكارها المهمومة من جديد .. لم تعلم "فيروزة" بوجود من يراقبها من على السلم، أصر "تميم" على البقاء تاركًا "هيثم" يعود بمفرده، ووقف في بقعة تمكنه من متابعتها دون أن تلتقطه عيناها، توهجت غرائز الفتك والعنف بداخله وكأنه في معركة البقاء للأقوى، كبح ما يعتريه بمجهودٍ عنيف، أنبئه حدسه بعد ملاحظة ما يدور من تلميحات وحركات مفتعلة بأن وراء تلك التعابير الوديعة لذلك الرجل ثعلبًا ماكرًا، ولم يخطئ إحساسه -بشأن أحدهم- يومًا.

اتجه عائدًا إلى منطقة الجلوس الخاصة بأهالي المرضى في الردهة الواسعة، جاب بعينيه على أوجه المتواجدين باحثًا عن عائلته، كانت "بثينة" تتخذ المقعد الخلفي وإلى جوارها ابنتها، سار "هيثم" صوبها وجلس على يسارها ليلتقط أنفاسه، سألته الأولى بفضولٍ وبنبرة أقرب للهمس وهي تتفرس في قسماته المرتخية بشكل ملحوظ:
-كنت فين كل ده؟
أجابها بزفير مرهق:
-موجود يامه هاروح فين.
سألته بخبث وذاك الوهج يحتل عينيها:
-ها عرفت تتصرف في فلوس؟!

هز رأسه يجيبها بغموض:
-أه الحمدلله
لم تتقبل مراوغته في الكلام، فألحت عليه بنظرتها المتشككة:
-منين يعني؟
رد بعفويةٍ ودون أن يفصح عن مصدر مساعدته:
-من باب الله.
ابتسامة غير مريحة داعبت شفتيها وهي تحاصره بأسئلتها:
-قولي، استلفت من جوز خالتك؟ مظبوط؟ إنت روحت كلمته؟
نفخ يجاوبها في سأم:
-يامه متركزيش في الحاجات دي، وادعي ربنا يقوم "همسة" بالسلامة.

زمت شفتيها محتجة بقنوط:
-وأدعيلها ليه؟ ما أمها موجودة! هي عدمتها؟
نظر لها بعينين تلومان قساوة مشاعرها، وعاتبها بضيقٍ ظاهر في نبرته وملامحه:
-لله يامه، لله! ادعي لله!
ضجرت "خلود" من مكوثها غير المجدي، فنهضت من مكانها وعلقت حقيبتها على كتفها لتقول بنبرة عازمة مستخدمة يدها في التلويح:
-بأقولك إيه يامه، أنا هاروح البيت ألحق أعمل لقمة ل "تميم"، أعدتي هنا زي قلتها.

رد عليها "هيثم" من تلقاء نفسه ودون أن ينتبه:
-لأ متتعبيش نفسك، جوزك موجود هنا.
وكأن يدها لامست سلكًا مكشوفًا يسري فيه التيار الكهربي فأصابعها بصاعقة مميتة، حدث ما لم يخطر على بالها، أو تضعه في الحسبان .. انتفض كامل جسدها وتخشبت في مكانها ساهمة للحظة قبل أن تفيق من دهشتها الكبيرة، حدقت فيه بعينين جاحظتين، ثم عاجلته متسائلة بوجه شاحب وأغلب مخاوفها تقتحم رأسها حاليًا:
-إنت بتقول إيه؟ جوزي بيعمل إيه هنا؟

أدرك "هيثم" أنه بغبائه وتسرعه تلفظ بحماقةٍ ربما تكشف فأمره فبادر يصلح خطأه بالإدعاء كذبًا:
-اقصد.. أنا شوفته مع جوز خالتي، والبت أخت "همسة"، كانوا بيتكلموا سوا.
هتفت "خلود" بصوت مرتجف وقد أصبح الهواء ثقيلاً عليها:
-هاه! بيتكلموا سوا؟

اكتفى بهز رأسه فتضاعفت مخاوفها، هربت الدماء من عروقها وقد تحقق ما خشيت منه وحدث اللقاء بينهما، فماذا إن تهورت تلك الحقودة وأخبرته بإساءتها إليها؟ أو ما نطقت به لها على لسانه؟ حتمًا ستقع في مأزق كبير، ازدحم رأسها بهواجسها المذعورة، ولم تعد قادرة على تمالك نفسها، تشوشت الرؤية لديها وشعرت بظلام غريب يغلف عقلها، وما هي إلا لحظة ومادت بها الأرض لتسقط فاقدة لوعيها.

كانت الغرفة غارقة في الهدوء إلا من صوت أنفاسها المنزعجة، ألقت "بثينة" نظرة متحسرة على ابنتها التي ما زالت نائمة على الفراش في حالة سكون عجيبة وإن كانت لا تشكو من شيء جدي، مجرد توتر زائد أتلف أعصابها، تأهبت في جلستها حين سمعت صوت أنينها الخفيض، مالت نحوها ومدت يدها لتمسك بكفها المسنود إلى جوار جسدها المسترخي، واستطردت تنوح في سخطٍ:
-كان مالك بالهم ده يا بنتي؟

مسحت بيدها الأخرى على جبينها حين أدارت رأسها نحوها، ابتسمت في حماسٍ وقد رأتها تحاول فتح جفنيها، نادت عليها بتلهفٍ:
-يا "خلود"! سمعاني يا بنتي؟
ردت بوهنٍ:
-أيوه يامه.. أنا فين؟
جاوبتها بحنوٍ:
-إنتي يا حبة عيني وقعتي فجأة من طولك قصادنا، ونقلناكي على الأوضة دي عشان نشوف جرالك إيه.
ابتلعت ريقها في حلقها المرير، وتساءلت بصوتها الضعيف:
-"ت.. تميم" يامه..

أجابت بتبرمٍ وكأنها غير راضية عنه:
-مع الضاكتور بره بيطمن منه عليكي.
سألتها في خوارٍ وقد وضعت يدها على رأسها ال:
-عرف حاجة عن خناقة النهاردة؟
قالت وهي تهز كتفيها بالنفي:
-مافتكرش، وبعدين هو احنا في إيه ولا إيه! ما كفاية المصايب اللي نازلة على دماغنا من الصبح.

دقة خفيفة على باب الغرفة جعلت الاثنتان تتوقفان عن الحديث الخافت، وبابتسامة متفائلة ولجت ممرضة رشيقة إلى الحجرة، نظرت في عدم تصديقٍ حين أمعنت النظر في وجهيهما المألوف، وهتفت ترحب بهما:
-مش معقول خالتي "بثينة"، والله ما أعرف إنكم اللي هنا، ألف سلامة على "خلود".

نهضت "بثينة" من مكانها لتحتضن الممرضة "عائشة" والتي تربطها معرفة جيدة بوالدتها الخياطة، حيث كانت تأتي إلى منزلها ومعها الأقمشة المزركشة لتقوم بحياكتها لها، ابتهجت الأولى، وقالت في حبور:
-الدنيا صغيرة بصحيح يا بت يا "عيشة"، مجاش في بالي إنك شغالة هنا.

أخبرتها عن أحوالها باستفاضة:
-أنا لسه منقولة مبقاليش شهرين للمستشفى دي، حبوا يكرموني فجابوني هنا، والحمد لله أنا مبسوطة.
ربتت على ظهرها تدعو لها:
-ربنا يكرمك بالأحسن.
عادت "عائشة" لتطمئنها بثقةٍ:
-متقلقيش يا خالتي على "خلود"، دي حاجة عادية، خليها ترتاح وماتضغطش على نفسها، مافيش حاجة مستاهلة
زمت شفتيها وعلقت:
-قوليلها، دي واخدة كل حاجة على أعصابها ومغلباني معاها
أضافت تؤكد لها:
-عمومًا الدكتور هيجي يشوفها تاني وهيكتبلها على خروج.

تنهدت تدعو لها مرة أخرى:
-ربنا يصلح حالك ونفرح بيكي قريب.
تصنعت العبوس وعقبت عليها:
-أه والنبي ادعيلي، لأحسن حاسة إني هافضل كده من غير جواز.
لكزتها بخفةٍ في جانب ذراعها وهي تضيف بتهكمٍ:
-ياختي اللي اتجوزوا خدوا إيه غير الهم والنكد
أخفضت نبرتها لتقول في دلال وتلك اللمعة تكسو نظراتها المرحة:
-بردك يا خالتي.. حد يقول للجواز لأ.
ابتسمت "بثينة" وهي ترد:
-ماشي يا "عيشة"..

اقتربت الأخيرة من "خلود" لتتابع سريان المحلول في الإبرة الطبية الموصولة برسغها، وألقت نظرة عابرة على "هيثم" الذي دخل الغرفة متسائلاً باهتمامٍ:
-عاملة إيه دلوقتي يا "خلود"؟
ردت بوهنٍ:
-الحمدلله، فين "تميم"؟
جاوبها مازحًا حتى يخفف من توتر الأجواء:
-بيجيب أكل وجاي، ما هو احنا ماشاء الله علينا، معسكرين كلنا هنا، اخدين المستشفى مقاولة لينا.
سألته "بثينة" على مضضٍ:
-وإنت طبعًا كنت لازق للمحروسة وأهلها
قال بشفاه مقلوبة:
-أيوه يامه، والحمدلله خرجت بالسلامة من العمليات.

أضافت بنبرتها الساخطة:
-هي يعني كانت أول واحدة تعمل الزايدة؟ إنت بس اللي مدلوق عليهم.
هتف محتجًا وقد ارتفع الكدر في عينيه:
-مش خطيبتي يامه، ده الواجب!
انتهت "عائشة" من مهمتها الروتينية، وقالت بابتسامتها وهي تضع يدها على كتف "بثينة":
-طيب يا خالتي أستأذن أنا.
رمقتها بنظرة ذات مغزى قبل أن تأمرها:
-استني يا بت.

أرادت الأخيرة أن تظهر بمظهرها السخي معها، لذا تحركت صوب "هيثم" وأمسكت به من ذراعه، سحبته نحو الزاوية وهمست له:
-شوفلي معاك عشرين جنية كده.
تقلصت تعابيره، وسألها مندهشًا:
-ليه يامه؟
قالت بلهجة صارمة، لكنها خافتة، وهي تكز على أسنانها:
-هاتهم بس.

دس "هيثم" يده في جيب بنطاله الخلفي وأخرج من حافظته ورقة بفئة العشرون جنية، ثم ناولها إياها، طوتها "بثينة" في راحتها، ورسمت تلك البسمة المستهلكة على شفتيها وهي تدنو من "عائشة"، ثم تأبطت في ذراعها لتدفعها للسير معها، وما إن وصلت أعتاب الغرفة حتى وضعت في راحتها المغلقة النقود، واستطردت قائلة بإلحاحٍ:
-خدي دول يا حبيبتي.

تصنعت الحرج منها، وردت:
-مالوش لازمة، خيرك مغرقني يا خالتي.
أصرت عليها بتجهم زائف كتعبير عن عدم تقبلها للرفض:
-يا بت ينفعوا في مواصلاتك، هما دول حاجة
أخذت "عائشة" النقود منها ووضعتها داخل جيب معطفها الأبيض وهي تشكرها:
-تسلميلي يا رب.
علق "هيثم" متبرمًا بعد أن رحلت الممرضة:
-مش لازم الفنجرة الكدابة دي يامه!

نظرت له بتنمرٍ قبل أن توبخه:
-ملكش دعوة.. أنا بأعملنا قيمة.
أخفض صوته وقال متهكمًا:
-من جيبي!
تنفس بعدها بعمقٍ، وأضاف:
-بأقولك إيه يامه أنا هاروح أشوف "همسة" فاقت ولا لسه.
وبخته بنفس أسلوبها الذي يكيل بمكيالين:
-ياخويا اتنيل اقعد جمب أختك اطمن عليها الأول، مسربع على إيه!

رد في انزعاجٍ، وقد ظهر على تعابيره علامات الاستياء:
-ما جوزها معاها، أنا هاعملها إيه
صاحت مستنكرة:
-هو فينه ادلعدي ده؟ محدش شاف طلته البهية.
أولاها ظهره وقد بدأ يتحرك نحو الخارج:
-زمانته جاي.

ارتفعت نبرتها القانطة لتلاحقه حين خرج من الغرفة:
-طبعًا بيجيب طفح للي ما يتسموا.
أدار رأسه للخلف لينظر نحو باب الغرفة بنظرات مستهجنة، ثم هتف لنفسه ساخرًا، وكأنه يهزأ بقولها:
-أل يعني هيطفحوا لواحدهم، ما إنتو قبلهم!

-دي اللي عملناها للست إياها من يومين يا دكتور؟
تساءل أحد الأطباء بتلك العبارة وهو يضع نظارته على أنفه قبل أن يغوص في مقعده ليتابع باهتمامٍ تفاصيل إحدى العمليات الجراحية التي قام بها لإحدى السيدات اللاتي بلغت من العمر أربعين سنة، رد عليه زميله بجديةٍ، وقد كان مكلفًا بمتابعة وضعها الصحي:
-أيوه، للأسف سنها كبير، مع الجراحة دي كمان فرصها للإنجاب هتقل.
قال في أسف:
-ربنا يتولاها.

في تلك الأثناء، أتت الممرضة "عائشة" لتستدعي أحدهما لمخاطبة مدير المشفى لأمر عاجل، ودون قصدٍ منها أرهفت السمع لحديثهما الغامض منتظرة أن ينتهيا منه، لفت انتباهها حين أضاف الأول متعجبًا:
-مع إن عملية الزايدة تعتبر حاجة بسيطة اليومين دول، لكن مكوناش هنشوف ده ونعرف، أكيد ربنا ليه حكمة محدش عارفها.
علق عليه زميله موضحًا:
-التكيسات عندها على المبايض عالية، وحتى بالعلاج المكثف برضوه مش هاتخلف، فرصتها ضعيفة أوي.
رددت في نفسها باستغرابٍ:
-يا ترى بيتكلموا عن مين؟

وقبل أن تشرد في أفكارها الحائرة رفع الطبيب الأول أنظاره نحوها متسائلاً:
-خير؟ في حاجة يا "عيشة"؟
أجابته بربكة طفيفة:
-سيادة المدير عايزك يا دكتور.
أشار لها بيده قبل أن يرد:
-طيب أنا جاي وراكي.

لم تكن "عائشة" لتلقي بالاً لتلك الحالة المبهمة أو تعبأ بتفاصيلها لولا أن رأت "هيثم" يستوقف نفس الطبيب الذي يسير معها ليستعلم منه عن حالة أجرت الزائدة الدودية اليوم مما استرعى فضولها، انقبض قلبها فجأة وقد خُيل إليها أنه يتحدث عن الحالة الميؤوس من إنجابها، بهتت ملامحها وقالت لنفسها في جزعٍ وعيناها ترتكزان عليه:
-يا نصيبتي لو طلعت خطيبته!

دموعها الحارقة كانت سلاحها الفعال الذي ينجح دومًا في استرقاق قلبه واستمالته نحوها، بكت "خلود" في لوعةٍ تشكو له انعدام الأخلاق لدى "فيروزة" لتبادر باتهامها بإفساد الخطبة قبل أن تكتمل متمنية التعاسة لشقيقها الوحيد، فما كان منها إلا محاولة منعها في فرض سطوتها على أختها قليلة الحيلة، حقًا كانت بارعة في إعادة سرد المواقف وتطويعها لتضعها في قالب الضحية المتجني عليها، وضعت يديها في حجرها بعد أن أسندت الوسادة خلف ظهرها، وقالت مجازفة وهي تسبل عينيها نحوه:
-أنا حتى خوفتها بيك، بس ولا همها حد.

أرادت بتلك الجملة الضمنية أن تتبين مدى معرفته بتفاصيل المشاجرة التي دارت بينهما في المطعم، لكنه نطق بغموضٍ لم يشعرها بالارتياح وهو يفرك أصابعه معًا:
-ماشي يا "خلود"، هنتكلم بعدين.
لم تعرف ما الذي يشغل تفكيره ليبدو بذلك الوجوم المثير للريبة، كانت عضلات وجهه مشدودة، نظراته غائمة، حتى صوته كان مغلفًا بالقتامة، بلعت ريقها وسألته بحذرٍ:
-إنت كويس؟ في حاجة مضيقاك يا حبيبي؟ أنا بخير متقلقش..

لم ينظر نحوها "تميم"، واكتفى بالتحديق أمامه، لكن تقلصت تعابيره حين أجابها بسؤالٍ مباغت:
-إنتي قولتيلها إيه بالظبط؟
اصفر وجهها وهي ترد بصوت مهتز:
-قولت لمين إيه؟
أدار رأسه ناحيتها، ثم ثبت عينيه المغلفتين بظلمة مُقلقة عليها وهو يوضح:
-للأبلة .. "فيروزة"!

عادت الدماء الهاربة لتغزو عروقها باندفاع غاضب حين رددت شفتاه اسمها من جديد، شعرت بتلك الحرقة تجتاح أحشائها عندما تطرق لسيرتها، استشاطت غيظًا وكمدًا، وبلا وعيٍ صرخت تهاجمه بعصبيةٍ:
-إنت بتنطق باسمها تاني قصادي؟ إنت عاوز تجنني؟ في إيه بينك وبينها؟ ولا الموضوع جاي على هواك؟
هب واقفًا من جلسته ليطالعها بنظراتٍ قوية نفذت إليها وأرعبتها، ثم أشار لها بسبابته وهو ينذرها بنبرة اكتسبت صرامة شديدة متعمدًا تكرار ترديد اسمها مجردًا دون ألقاب:
-لآخرك مرة بسألك، قولتي ل "فيروزة" إيه... ؟!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة السابعة والثلاثون بقلم منال سالم


ما عادت تعلم سوى أن نارًا اسمها "فيروزة" قد اشتعلت في عروقها وحفزت جميع مشاعرها الثائرة لتبدو أكثر غضبًا، جموحًا، وعدائية .. انتزعت "خلود" الإبرة الطبية الموصولة في رسغها لتنهض عن الفراش، تقدم نحو زوجها ووقفت تتحداه بعينين تحبسان دموعًا حارقة، ثم هدرت تعنفه بكل غضبها المستعر في كيانها:
-إنت بتنطق اسمها تاني؟


 
سحب نفسًا مطولاً يثبط به أي بادرة غضب تلوح في الأفق، كان مدركًا لخطورة غضبه الذي بات على المحك، زفر ببطءٍ، ونظر لها مليًا قبل أن يرد ممتعضًا:
-غيري الموضوع، وامسكي في الهايف!


 
وضعت يديها على صدره، رفعتهما بتمهلٍ لتطوق عنقه، وتطلعت إليه بنظراتها الملتهبة، ثم صرخت فيه وقد امتزج صوتها الحاد مع نحنحة بكائها:
-إنت ليه مش حاسس بيا؟ عارف إني بأحبك وبأغير عليك من الهوا الطاير، ليه بتختبرني بيها كل شوية؟ ليه بتعذبني معاك؟ ده أنا بأموت فيك يا "تميم"
أراحت رأسها على صدره، وحاولت احتضانه لتؤثر عليه بمشاعرها المضطهدة، لكنه أمسك بمعصميها قبل أن يلتفا حوله، أبعدهما بالإكراه لتنظر له مصدومة، ثم تركها وتحرك مبتعدًا عنها ليتابع سؤالها بوجهه المتهجم:
-برضوه مجاوبتيش عليا، قولتيلها إيه؟


 
أدركت أن سلاح دموعها الحزينة لن يجدي معه تلك المرة، لتنتقل إذًا لشيء آخر يُحدث أثره عليه، تهدل كتفاها وارتدت قناع التعاسة لتجيبه بصوتٍ خفيض مهموم وهي تمسح دموعها:
-لو ده هيريحك فأنا اتكلمت معاها يا حبيبي، قولتلها تبعد عنك.. أظن ده من حقي...
لكن غلف صوتها قساوة مخيفة وهي تكمل:
-بس باللغة اللي تفهمها أمثالها!

كاد يسير كل شيء على ما يرام لولا جملتها الاعتراضية الأخيرة، كانت السبيل لكشف الجانب المعتم من شخصها الذي لم يعهده، لم تكن بالزوجة الطيعة المحبة الودودة التي تفيض مشاعرها حبا وحنانا، بل بدت لأول مرة غريبة عما اعتاد عليه، وكأنه يتعرف عليها من جديد؛ شخصية مناقضة لما عاشرها تتسم بالشراسة والأنانية، صراع رهيب مليء بالتخبط والحيرة دار في رأسه تلك اللحظة، أليست تلك الصفات العدائية ما تزعجه وتثير جنونه إن صدرت من "فيروزة"؟ إذًا لماذا لا يتقبلها من زوجته وهي تمتلك كافة الحق لتدافع عن زواجها إن شعرت أنه مهدد من قبل أحدهم؟ أرجأ ما ينتاب عقله مؤقتًا لحين صفاء ذهنه، وصاح معترضًا على ما قامت به، وإن كان بنية حسنة:
-إنتي عملتيلي مشاكل معاها يا "خلود".


 
ردت غير مبالية، وتلك النظرة الحاقدة تكسو حدقتيها البراقتين:
-المهم إنها تبعد عنك ومتقربش منك، إنت جوزي أنا وبس.
احتج بضيقٍ على تسلطها المبالغ فيه:
-أنا مافيش بيني وبينها حاجة عشان تتصرفي كده، وبطلي أوهام في خيالك التعبان ده.
عاد الحنق ليندفع فيها وصاحت تهاجمه باستنكارٍ:
-دلوقتي خيالي بقى تعبان ومش عاجبك؟ طبعًا لازم تدور على العيوب اللي فيا عشان تدافع عنها، وتطلعها ملاك، لكن أنا مراتك حبيبتك فيا العِبر كلها!

ضجر "تميم" من قلبها المستمر للحقائق، وهتف ينذرها وقد ضاق ذرعًا بتيبس عقلها:
-"خلود" بلاش تسوئي فيها أحسنلك.. أنا لحد دلوقتي بأتكلم بالعقل! بلاش تخرجيني عن شعوري.
ارتفعت نبرتها أكثر لتبدو أكثر حدة وهي تسأله:
-قول هتعمل إيه أكتر من كده؟!!
طالعها بنظرات غائمة غير مفهومة، أحبط قليلاً مجيء "بثينة" شجاره المحتدم معها، حيث التفت ناحيتها وهي تتساءل في قلقٍ:
-في إيه يا "خلود"؟ صوتكم واصل لبرا ليه؟!

جلست ابنتها على طرف الفراش واضعة قبضتها المتكورة على خدها، لتبدو وكأنها مغلوبة على أمرها، زفيرٌ ثقيلٌ خرج من بين شفتيها وهي ترد باقتضابٍ مكفهر:
-مافيش يامه.
وقفت "بثينة" قبالة زوج ابنتها ترمقه بنظرات عدوانية، وسألتها مباشرة دون أن يطرف لها جفن:
-هو "تميم" زعلك تاني؟

نفخ الأخير بصوتٍ مسموع كتعبير عن استيائه من تدخلها غير المستساغ في حياته الزوجية، ثم تحرك في اتجاه النافذة ليستنشق بعض الهواء المتجدد حتى لا ينفجر بكبته، تابعته "خلود" بنظراتها المراقبة، تنفست بعمقٍ لتعود إلى طبيعتها المسالمة المستكينة، وأجابت ببسمة رقيقة منمقة:
-لأ .. ده بالعكس بيحبني جدًا ويتمنالي الرضا.

أدار "تميم" رأسه نصف استدارة ناحيتها ليرمقها بنظرة استنكارٍ، ثم حملق في مشهد الطريق الذي تطل عليه النافذة، بينما تساءلت والدتها في عدم اقتناعٍ وعيناها تتفرسان وجهه:
-أومال مش باين كده؟
ظلت ابتسامتها كما هي عندما استرسلت تخبرها:
-أصل أنا كنت عاوزة أمشي من المستشفى وهو مصمم أفضل هنا، إنتي عارفاني مش برتاح إلا في بيتي ومع جوزي حبيبي.

هز "تميم" رأسه في استهجان وهو يصغي إلى أكاذيبها، لو لم يكن طرفًا في ذلك المشهد الهزلي لصدق بسهولة كذبها، رفت ابتسامة مستهزأة على زاوية شفتيه، بدا مدهوشًا بقدرتها على الالتفاف حول الأمور، ومزعوجًا من مهارتها الخفية في تزييف الحقائق، حقًا كانت تُجيد فعل ذلك وبوسائل إقناع فعالة فتنطلي خدعها ببساطة على المستمع إليها، وبالطبع ستكسب عطف وشفقة الآخرين..،

في نظره تحول ذلك الحب المستفيض الذي تعبر لأمها عنه إلى مسخ منفر، وحاول أن يرغم نفسه على عدم الإنصات لها حتى لا يتصرف بجهالةٍ، أراد أن يحكم عقله أولاً، نظرة عابرة ألقاها للممرضة "عائشة" التي هرعت تُنادي في تعجلٍ من على أعتاب الغرفة وهي تجوب بعينيها باحثة عن أحدهم تحديدًا:
-يا خالتي.. فاضية شوية، عاوزاكي في كلمة على السريع.
استدارت "بثينة" نحوها، وسألتها بنبرة مهتمة:
-خير يا "عيشة"؟ في حاجة؟

سحبتها إلى خارج الغرفة لتتمكن من الانفراد بها، ثم سردت عليها ما سمعته بحذافيره سواء داخل غرفة الأطباء أو خارجها حين تبادل ابنها الحديث مع ذلك الطبيب، لطمت "بثينة" على صدرها وقد وَجف قلبها، وحملقت فيها بعينين متسعتين وهي تردد في جزعٍ:
-داهية لا تكون هي!
علقت عليها "عائشة":
-أنا قولتلك اللي أنا سمعته، بس الله أعلم إن كانت هي ولا لأ، وحاولت أطأس وأعرف وطلع مافيش حد عمليات النهاردة للزايدة غيرها، شوفوا هتعملوا إيه.

كانت ابتسامتها مبتورة وهي تشكرها:
-كتر خيرك، معروفك ده معايا مش هنسهولك أبدًا.
برزت أسنانها الفاقدة للبياض الناصع من خلف ابتسامتها الخبيثة قبل أن ترد مجاملة:
-أنا في الخدمة يا خالتي.

تسمرت "بثينة" لدقائق في مكانها ونظراتها شاردة، كانت تعيد تكرار ما سمعته في عقلها وكأنها تمحصه وتختبر صحته، نفضت ما يزدحم به عقلها من أفكارٍ متداخلة حين وصلت إلى تفسير يُرضيها، وقالت لنفسها في ازدراءٍ واضح:
-يعني أختها بومة ومطلعة عينيا، وهي أرض بور مهما تزرع فيها مش هتطرح.. لأ وبيتنططوا علينا كمان! ..
توحشت نظراتها، وأضافت بنبرة عازمة:
-أنا ليا لي كلام مع "هيثم"، الجوازة دي مش هاتكمل!

-أنا مش هاقبل بالفلوس دي يا حاج، ممكن ترجعهم لابنك.
قالتها "فيروزة" بإصرارٍ وقد امتدت يدها برزمة نقود مطوية نحو "بدير" الذي وقف معها خارج غرفة أختها المسجاة على الفراش ليتبادلا الحديث الجاد، نظر لها مطولاً في حيرة، فأخبرته موضحة بحرجٍ:
-هو راح الحسابات يدفعهم مع قريبكم التاني.
ابتسم في لطافةٍ، ورد ببساطة حاسمًا الأمر من جانبه:
-طالما هو اللي دفعهم فأنا مش هاينفع أخدهم منك، ابني مسئول عن تصرفاته!

تجهمت تعبيراتها عندما عقبت عليه:
-وهو مش راضي!
أضاف بهدوءٍ ليشير لمروءته:
-بصراحة وماتزعليش يا بنتي، هو معاه حق، في الأصول "تميم" محدش يقدر يراجعه!
هتفت معترضة ودون أن يعلو صوتها:
-وهو يصح واحد غريب عننا ي ...

قاطعها بتروٍ محاولاً إقناعها بالتراجع عما تفكر فيه وهو يبعد يدها الممسكة بالنقود للخلف لتضعها في حقيبتها:
-ماتأزميش نفسك، الموضوع مش مستاهل، دي حاجة بسيطة بنعملها مع أي حد نعرفه.
أصرت على موقفها موضحة له:
-دي مسألة مبدأ عندي يا حاج "بدير"، احنا متكفلين بنفسنا.
كان من البادي عليها عنادها غير المستسلم، لذا هتف منهيًا حوارهما:
-عامة يا بنتي ده لا مكانه ولا وقته، نطمن على أختك الأول.

ضغطت على شفتيها في حرجٍ من دعمه الأبوي الكبير الذي تفتقده في حياتها، وابتسمت تشكره في امتنانٍ:
-أنا أسفة إن كنت تعبتك معانا وشغلناك طول اليوم
رد برزانة تليق بشخصه:
-ده واجبي.
تلفتت "فيروزة" حولها متسائلة في حيرة:
-أنا بأدور على خالي مش شيفاه.
أجابها "بدير" وهو يجول بنظراته على الردهة:
-كان هنا من شوية، تقريبًا خد مراته وأمك ومشيوا.

أخرجت هاتفها المحمول واتصلت بوالدتها لتستعلم منها عن مكانها فأخبرتها في تعبٍ:
-معلش يا بنتي، أنا مشيت مع خالك من غير ما أقولك، بس عشان قالي أجهز هدوم لأختك تغير فيهم، وأنا شوية وراجعة.
وضعت "فيروزة" يدها أمام فمها لتخفي شفتيها وهي تقول لها:
-ماشي يا ماما، المهم إنك كويسة
ردت بنبرة مرهقة:
-الحمدلله، خليكي جمبك أختك ماتسيبهاش.
تنحنحت مؤكدة لها:
-اطمني.. أنا معاها.

أنهت المكالمة واستدارت برأسها لتحدق في وجه الحاج "بدير"، ثم عللت بسذاجة حتى لا تُظهر حنقها من فرار خالها الاعتيادي بأي حجة تناسبه:
-ماما تعبت من مجهود اليوم، وكمان عايزة تجيب هدوم ل "همسة"، فخالي خدها يوصلها.
هز رأسه في تفهم وهو يرد:
-الله يكون في العون.

لم تنكر "فيروزة" أنها شعرت بضيق مقيت يجتاحها بسبب اختفاء خالها المفاجئ -والمعتاد في نفس الوقت- حين يكون الأمر مرتبطًا بالمسائل المادية، لم تكن مرته الأولى التي يختفي فيها من الوَسط المحيط حتى لا يتورط في دفع أي أموالٍ. عاودت وضع النقود في حقيبتها بعد أن يئست من مساعدة الحاج "بدير" في مسألة إعادتها إلى ابنه، ثم ادعت الابتسام لتقول له:
-بأشكرك من تاني على وقفتك معانا، تقدر تمشي يا حاج "بدير"، احنا مش محتاجين حاجة دلوقتي، "همسة" بقت كويسة وأنا موجودة معاها.

رد بحرجٍ طفيف مستخدمًا عكازه في الإشارة:
-طيب يا بنتي، وأنا بردك مش هاسيبك، هتابع معاكي كل شوية.
ابتسم تودعه في امتنانٍ:
-تسلم يا رب.
استندت "فيروزة" على الحائط بظهرها وشعورها بالإحباطِ يتغلغل فيها، فقد أظهرت لها المواقف التي تمر بها معادن الرجال المتباينة، وبالطبع خالها يحتل المرتبة الأخيرة في قائمة الأكثر رجولة إن لم يكن خارج التصنيف.

بوخزٍ وتأويهات خافتة تململت "همسة" في الفراش وقد انسحب كامل تأثير المخدر من جسدها لتعاود فتح عينيها في تعبٍ، تطلعت أمامها فلم تجد أحدهم بغرفتها المتسعة، أنة موجوعة انطلقت من بين شفتيها وهي تحاول التحرك، رفعت يدها لتضعها على جبينها، اعتصرت ذهنها محاولة استعادة المشهد الأخير، كان آخر ما تتذكره هي تلك الآلام المبرحة التي فتكت بجانبها وهي تستلقي على الطاولة المعدنية بغرفة العمليات، أدارت رأسها لجانبها الأيمن وقد سمعت الصوت الناعم يناديها:
-"هموسة" حمدلله على السلامة، كده تخضينا عليكي؟

أبصرت توأمتها وهي تسحب المقعد لتجلس إلى جوارها بعد أن قبلت أعلى رأسها، واصلت الأخيرة القول بحماسٍ:
-الدكتور طمنا، كلها يومين وتخرجي وترجعي زي الأول وأحسن
تساءلت "همسة" بصوتٍ واهن:
-ماما عاملة إيه؟
جاوبتها بما يشبه المبالغة وهي تحاول كتم ضحكتها:
-قلبتها مناحة، وعملت أفلام وحوارات، وهاتك يا عياط، ومسكت في الدكتور.

نظرت لها في غرابة، فلاحقتها مصححة قبل أن تصدق ثرثرتها الزائفة:
-متقلقيش ماما كويسة، هي بس رجعت البيت عشان تجيبلك هدوم، وأنا يا ستي هاتكفل وأبات معاكي النهاردة.
-فوقتي عشان أعرف أتكلم معاكي، ولا لسه مسهوكة على نفسك؟!!!
استدارت "فيروزة" برأسها للخلف ناحية باب الغرفة حين سمعت تلك العبارة الغاضبة تنطق بها "بثينة"، غامت نظراتها نحوها واحتدت بشكلٍ قاسٍ، ثم هبت واقفة لتهاجمها بصوتٍ يعكس ضيقها الشديد:
-في حد يدخل على واحدة مريضة بالشكل ده؟ ولا حتى يقول كده؟!

تحركت نحوها بحنقها الذي استعر وهي تتابع بنرفزةٍ:
-في حاجة اسمها استئذان وذوق، هي مش مفتوحة على البحري!!
دفعتها "بثينة" من كتفها في غضبٍ بائن لتزيحها عن طريقها مواصلة تقدمها نحو "همسة"، وقفت مجاورة لفراشها، وركزت أنظارها الغامضة عليها قبل أن تستأنف بوقاحةٍ منقطعة النظير:
-مش إنتي طلعتي مابتخلفيش؟

تدلى فك "همسة" السفلي في صدمة مرتاعة من جملتها التي فاقت أي تصور منطقي يمكن أن يطرأ على بال أحد، أحست بانقباضة مخيفة تعتصر قلبها من شدة صدمتها، بينما انقضت "فيروزة" عليها وأبعدتها من كتفها عن توأمتها لتهاجمها كلاميًا بشراسةٍ وقد فارت دمائها:
-إيه كلام الجنان ده؟ إنتي بتقولي إزاي كده عن أختي؟
استحقرت نظراتها نحوها، وقالت بجمودٍ وتلك التعابير الساخطة تغطيها:
-ده مش كلامي، الدكاترة اللي عملوا العملية بيقولوا إن المحروسة ما بتخلفش، وأنا جيت أعرفها.

صرخت بها "فيروزة" رافضة مجاراتها في افتراءاتها:
-أنا مش هاسمحلك تنطقي بحرف زيادة عن أختي يمسها..
ثم دفعتها بعنفٍ من جانبها نحو باب الغرفة لتطردها منها وهي تهدر في انفعالٍ جم:
-يالا من هنا.

نجحت في إخراجها وصفقت الباب خلفها بقوةٍ هزت أركان الغرفة، التفتت ناظرة إلى "همسة" فوجدتها قد انخرطت في بكاءٍ حارق، هرولت نحوها، ثم أحنت جسدها عليها لتضمها بين ذراعيها وفي حضنها محاولة تهدئتها:
-ماتعيطيش يا حبيبتي، دي ست كدابة، مافيش حاجة من دي حقيقية..
ظلام حالك حاوط ببؤبؤيها المتشنجين، كما تبدلت نبرتها المتعاطفة لأخرى قاسية مخيفة حين أكملت بلهجة متوعدة بإحراق الأرض ومن عليها:

وأنا مش هاسكت عن اللي حصل ده، هاجيبلك حق من اللي اتبلى عليكي بكده يا "همسة"... !!!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة الثامنة والثلاثون بقلم منال سالم


سرت حمى الغضب أم الجنون أم كلاهما معًا في كامل جسدها، اندفعت نحو الاستقبال تنتوي الثأر فورًا لمن تسبب في إيذاء توأمتها بذلك الشكل السافر بعد أن تركتها بصحبة الممرضة .. وإن كان ما بها حقيقيًا، فلا يجب تحت أي وضع أن تعلم هكذا، ومن تلك المرأة الوقحة منعدمة الذوق تحديدًا، تلفتت "فيروزة" حولها تبحث عمن تفرغ فيه غضبها الثائر، لمحت الحاجز الرخامي -لا يتعدى طوله المتر ونصف- والذي تقف خلفه بضعة ممرضات يتبادلن معًا الأحاديث الجانبية، اتجهت صوبهن، وبراحتي يديها طرقت بعنفٍ عليه صارخة فيهن:
-واحدة فيكم تقولي مكان الدكتور المسئول عن حالة أختي.


 
نظرن إليها الممرضات في تأفف قبل أن تبادر إحداهن بالرد:
-في إيه يا أستاذة، ماينفعش الزعيق ده هنا
صرخت بها بهياجٍ مبرر مستخدمة يدها في التلويح:
-محدش يقولي أسكت بعد اللي حصل من استهتار وقلة أدب.
علقت عليها أخرى مستنكرة أسلوبها الهمجي في التعامل:
-حضرتك في مرضى وآ...


 
قاطعتها وهي تضرب بيدها على الحاجز الرخامي في عصبيةٍ:
-وأنا عاوزة الدكتور اللي عملها العملية، قوليلي فين مكانه؟!!
نظرت الممرضة بحيرة إلى زميلاتها، وأدركت أنها لن ترحل إن لم تطلعها على مكانه، فقالت على مضضٍ ريثما تستعين أخرى برجال الأمن ليتعاملوا معها:
-هو بيكشف على حالة هنا في غرفة 504 ، ثواني وهانبلغه.
نظرت لها بعينين ناريتين قبل أن ترد:
-ماتتعبيش نفسك، أنا ريحاله!


 
تركتهن في مكانهن وبحثت بعينيها عن رقم الغرفة المنشودة، واحترامًا منها لخصوصية المريض كتمت غضبها مؤقتًا وانتظرت بجوار باب الحجرة المتواجد بداخلها حتى خرج الطبيب منها غير متوقع لتلك الشابة الثائرة التي تنتظره على جمراتٍ متقدة، تطلع إليها يسألها بهدوئه المعتاد:
-في حاجة يا أستاذة؟
اندفعت تمسك به من ياقتي معطفه الطبي وهي تتهمه بصوتها الصارخ:
-إنت إزاي تطلع على أختي الكلام ده؟


 
تفاجأ من اعتدائه الشرس عليه، وحاول إزاحة يديها عنه مستفهمًا:
-كلام إيه؟ أنا مش فاهم حاجة!!
ردت مهددة إياه بصياح مجلجل جذب الأنظار إليهما:
-ده أنا هوديك في داهية إنت وكل اللي معاك، هارتكب جناية هنا
قال في اندهاشٍ وهو يحاول إبعادها عنه:
-ما يصحش اللي بتعمليه ده، احنا هنا في مستشفى محترم.

هدرت فيه بانفعالها الشديد:
-بس يصح تطلعوا أسرار المرضى؟ هي دي الأمانة اللي بين إيديكم؟!!!
هتف الطبيب مستغيثًا بمن حوله:
-يا جماعة حد يشوف في إيه، مش هاينفع كده؟
تشبثت أكثر بياقتيه، وردت بنظرات تتوهج حنقًا:
-وأنا مش هاسيبك النهاردة، حق أختي هيرجع غصب عن عين أي حد.


 
في تلك الأثناء، تلكأت "خلود" وتعمدت أن تتباطئ في استعدادها للرحيل ريثما تنتهي والدتها من أمر أصرت على إنجازه قبل عودتها للمنزل، لم تعلم ما الذي يدور في جعبتها، لكنها كانت واثقة أنها ستفعل ما في صالح ابنها، أرادت "بثينة" أن تسكب الزيت على النيران، أن تلهب الوسط، أن تحرق الأعصاب وتدمرها بما لم تتحرَ صحته، أتمت فعلتها السوداء وعادت إلى ابنتها وتلك البسمة الشيطانية تداعب شفتيها، دنت منها الأخيرة وسألتها في فضول:
-إنتي كنتي فين يامه؟

أجابتها "بثينة" بصوتها الهامس:
-بعدين هاقولك..
ثم ركزت أنظارها على "تميم" الذي كان ملتهيًا بالحديث في هاتفه المحمول، وتابعت بنبرة خفيضة:
-بدل ما جوزك ياخد باله.
التقت نظراتها اللئيمة مع نظراته الثاقبة، لاحظ ربكتها وحركتها المتوترة، أنهى مكالمته دون أن يبعد عينيه متسائلاً:
-في حاجة؟
ردت عليه خالته نافية:
-لا مافيش.
وجه نظراته نحو زوجته يسألها بصيغة الجمع، حتى لا يُظهر انزعاجه من والدتها الفضولية:
-خلصتوا عشان نمشي؟
أجابت "خلود" برقةٍ:
-أه يا حبيبي.


 
ثم سارت في اتجاهه لتتأبط ذراعه وهي تبتسم له، وبالرغم من عبوسه إلا أنه لم يبعد يدها المتعلقة به، تحرك الثلاثة خارج الغرفة في اتجاه الممر نحو المصعد، لكن تلك الجلبة الصارخة بجوار الاستقبال لفتت أنظارهم، كان "تميم" أول من تعرف إلى صوت "فيروزة" الغاضب وفطن لكونها تتشاجر مع أحدهم، ولكن من يا تُرى؟ اشرأب بعنقه محاولاً رؤية المشهد بوضوح وسط التجمع الذي يحجبه عنه...،

استطاع أن يبصرها وهي تقاوم بضعة ممرضات يحاولن منعها من الفتك بالطبيب الذي يصرخ هو الآخر مهددًا بتحرير شكوى ضدها، أثار الأمر استغرابه ناهيك عن ضيقه من تعامل الأخريات معها، حثته رغبة عارمة للتدخل حتى يعرف ما الذي تجابهه الآن، وبتلقائية بحتة أزاح قبضة "خلود" التي جزعت من ابتعاده المفاجئ عنها، لحقت به بخطوات مهرولة، ثم أمسكت بذراعه لتوقفه عنوة وهي تسأله في قلقٍ:
-إنت سايبني ورايح فين؟

بخشونة طفيفة تحرر من قبضتها، وقال دون أن ينظر إليها:
-هاشوف في إيه.. خليكي مكانك.
لحقت بها "بثينة" وأجبرتها على البقاء قائلة لها:
-استني يا "خلود"، خلينا نفهم في إيه
ردت بحرقة، ونيران الغيرة تنبعث من عينيها وكامل حواسها:
-يامه ده رايحلها، إنتي مش شايفة ولا إيه؟

قفز قلب "بثينة" رعبًا في قدميها، خشيت من افتضاح أمرها إن كان الشجار القائم بسبب ما قالته، لم يخطر على بالها أن تكون "فيروزة" بتلك الرعونة والجراءة، ظنت أنها كسرت شوكتها، أحرقت كبدها، لكن طالتها نيران حقدها سريعًا، انكمشت في جلدها، ورددت لنفسها:
-استر يا رب.

وبلا ترددٍ أو تفكير حائر عقد "تميم" النية على مساعدتها، الأحرى أن يقال أنه كان كمن ألقيت عليه تعويذة قوية المفعول فانساق كالمغيب يدفع عن طريقه من يعوقه ليصل إليها، وبصوته الأجش تساءل عاليًا:
-إيه اللي بيحصل هنا يا أبلة؟

نظرت له أولاً بعينيها المشتعلتين غضبًا، ثم تركزت عيناها على الطبيب وأجابت بكلامٍ لم يفهمه:
-هوديه في داهية طالما مش مراعي حق ربنا في أختي.
ودون أن يلم بأبعاد الموقف، انقض على الطبيب ممسكًا به من تلابيبه، سأله بصوتٍ عكس زمجرة متشنجة وهو يهزه في عنفٍ:
-إنت عملت فيها إيه؟

حاول الأخير المناص منه راجيًا:
-يا أستاذ افهم، بلاش شغل الفتوة دي هنا، الموضوع فيه سوء تفاهم.
ثم صاح عاليًا طالبًا النجدة:
-فين الأمن اللي هنا؟
رد "تميم" غير مبالٍ وبجسارة عجيبة دون أن يفلته من قبضتيه المحكمتين حوله:
-حتى لو جبتلي الداخلية كلها، حق الأبلة وأختها هيرجع!

لم تنكر "فيروزة" أنها تفاجأت بردة فعله المستبعدة عن ذهنها، وتطلعت إليه في اندهاشٍ مصدوم للحظة، بينما عمد الطبيب إلى تهدئة ثورته، فاستجداه بدبلوماسية واضحة عله يلين:
-لو ليكم حق هنرجعه، بس نفهم الأول في إيه، بالشكل ده مافيش حاجة هتتحل!
كان منطقيًا في تعامله مما اضطر "تميم" أن ينزع قبضتيه عنه ليفهم الحقيقة كاملة، استجمع نفسه، وقال:
-ماشي يا ضاكتور.. فهمنا بقى!
رد ساخرًا:
-مش أما أعرف أنا الأول!

هدرت فيه "فيروزة" من الخلف وهي تقاتل للتحرر من الممرضات المتكالبات عليها:
-أختي جاية تعمل الزايدة عنكم تطلعوها عقيمة؟!
هتف الطبيب في استنكارٍ عظيم:
-إيه التخاريف دي؟!
أدار "تميم" رأسه في اتجاهها وقد ارتسمت علامات الدهشة على قسماته، بينما تابعت "فيروزة" بنفس النبرة المتشنجة وقد اِربد وجهها بمزيد من الغضب:
-أنا مش جيباه من عندي، الكلام وصل لقريبة الأستاذ، وجاية تعاير أختي بقلب ميت وهي لسه يدوب بتفوق.

رد الطبيب نافيًا:
-محصلش مني حاجة زي كده أبدًا
قالت في تهكمٍ ونظراتها الاحتقارية تعلو حدقتيها:
-والمفروض أنا أصدقك؟!!

شرد "تميم" للحظة مسترجعًا في ذاكرته لحظة اختفاء خالته من الغرفة لبعض الوقت قبل أن تعود وتلك التعابير الشامتة تغطيها، بدأ ذهنه يتفقه للأمر بعد أن أزيلت تلك الغمامة التي تحجب عنه تحليل الأحداث بصورة أكثر وضوحًا، أيعقل أن تكون أخلاقها قد انحدرت لتلك الدرجة لتقوم بذلك الأمر المشين؟ عكست تعابيره الحالية تحفزًا مبررًا، التفت برأسه باحثًا عن "بثينة" بالخلف، رمقها بنظرة نافذة ذات مغزى، وشعرت هي بغضبه المتواري، ابتلعت ريقها وجذبت ابنتها من ذراعها لتقول لها متحججة:
-خلينا نمشي أنا مش قادرة أقف على حيلي.

ردت "خلود" بعنادٍ وعيناها لا تفارقان وجه "فيروزة":
-لأ يامه، مش هتحرك من غير جوزي.
كزت على أسنانها تقول في غيظٍ حانق:
-جوزك هيوديني في داهية لو فضلت واقفة!
تعقدت تعبيراتها، وضاقت نظراتها نحوها قبل أن تسألها:
-قصدك إيه؟!!!!

لمحت "عائشة" الجدال الدائر في الردهة المتسعة، جحظت بعينيها حين رأت أخت المريضة تتشاجر مع الطبيب، وبالطبع التقطت أذناها بعض الكلمات المبهمة للغير لكنها مفهومة بالنسبة لها، مررت نظراتها المتوجسة بين الأوجه المتزاحمة إلى أن رأت "بثينة" في الخلف، اتجهت إليها وسألتها:
-خالتي إنتي عملتي إيه؟
ردت بتلعثمٍ وهي تجاهد لتمالك نفسها:
-ولا حاجة يا "عيشة"!

أحنت رأسها عليها لتهمس في أذنها بارتعابٍ:
-ده لوحد شم خبر إننا اللي ورا الحكاية دي هتجازى فيها!!
حاولت طمأنتها فقالت بثقةٍ مشكوك فيها:
-مافيش حاجة، دلوقتي الخناقة تتفض
ألقت نظرة متأنية على الجدال المحتدم، وعلقت بقلقٍ أكبر:
-ماظنش يا خالتي.
لعقت "بثينة" شفتيها، وتعهدت لها:
-لو الموضوع كبر وحصلك حاجة، فأنا هاعوضك، وهراضيكي.

ردت بتبرمٍ:
-ربنا يعديها بس على خير، وبعد كده نتكلم.
وبنظرات محتقنة وغيظٍ مكبوت حملقت "خلود" في "فيروزة" التي نجحت في الإفلات من الممرضات وهجمت بشراسة على الطبيب تود الاعتداء عليه، منعها "تميم" من الوصول إليه بظهره الذي كان كالحاجز المتحرك يجاريها في حركتها المتعصبة، استفزها بتصرفه فصاحت فيه بنرفزةٍ:
-اوعى من سكتي، أنا مش هاسيبه النهاردة، هاصور قتيل في المستشفى دي!

استدار ناحيتها يشير لها بيديه مكررًا نفس حديث الطبيب:
-هنعمل اللي إنتي عاوزاه، بس نسمعه الأول.
توعدته مستخدمة سبابتها في الإشارة:
-كل واحد اتجرأ على أختي وعاب فيها هيتحاسب.
هز رأسه في تفهمٍ قبل أن يرد:
-حقك.. وأنا بنفسي هتأكد من ده.

توقعت ألا يقف في صفها، لكنها صدمها للمرة الثانية بدعمه المطلق وغير المشروط مما هدأ من انفعالاتها الغاضبة، كتفت ساعديها أمام صدرها وأضافت بتزمت:
-أنا عاوزة يتعمل تحقيق رسمي.
-ده اللي هايحصل.
ردد مدير المشفى تلك العبارة بنبرة واثقة فور أن وطأ الردهة ليستدير الجميع نحوه، جاب بنظراته العميقة على الوجوه الغاضبة، وتابع بصوته الثابت:
-طبعًا ده لو ليكي حق.

صاحت فيه "فيروزة" بحدة، ونظراتها الناقمة تسلطت عليه:
-أنا هنا عشان أختي، مش جاية أعمل قلق على الفاضي.
أكد عليها مدير المشفى بما لا يدع مجالاً للشك:
-تمام.. وهحاسب اللي غلط.

أوشكت "عائشة" أن تتوارى عن الأنظار بعد أن أنهت حديثها السري مع "بثينة" لولا أن لمحها الطبيب المتورط في تلك المشاجرة الغريبة، فصاح يناديها بعد أن ضاق خلقه من كم الإهانات التي تلقاها دون داعٍ:
-يا "عيشة"، تعالي هنا لو سمحتي.
ازدردت ريقها، وسارت في تباطؤ نحوه، أخفضت نظراتها وتساءلت بربكة عظيمة:
-أيوه يا دكتور.

التفت يُخبر مدير المشفى:
-أنا عاوز أستدعيها للتحقيق معانا، لأني شاكك في حاجة معينة
انخلع قلبها من جملته الأخيرة، الآن تأكدت من إقحامها في ذلك التحقيق الرسمي، استدارت برأسها للجانب لتحدق في توتر نحو "بثينة" التي أرسلت لها إشارة ضمنية برأسها حتى لا تجفل قبل أن تفر هاربة من المشفى.

ارتخت أصابعه عن الكيس البلاستيكي المليء بالعصائر ليسقط من يده على الأرضية حين رأها تتلوى من البكاء والألم، اقتحم الغرفة ونظراته المرتاعة مرتكزة على شخصها فقط، تجمد "هيثم" في مكانه مدهوشًا وحائرًا، لا يعرف كيف يُطيب من خاطرها، أو حتى يهون من أوجاعها، نظرة جانبية حانت منه للممرضة التي كانت ترعاها قبل أن يسألها بصوته الخائف:
-حصلها إيه؟

جاء في ذهنه أنها تعاني من آثار انسحاب المسكن من جسدها، ولم يتصور الأسوأ، بينما ردت عليه الممرضة متصنعة الابتسام حتى لا توتره:
-متقلقش، هي هتبقى كويسة..
انخفضت نظراته على "همسة" ليتفحصها وهي في حالة الانهيار المريبة، وسألها مباشرة:
-إنتي حاسة بإيه يا "همسة"، أروح أشوفلك أي ضاكتور هنا لا آ....
قاطعته بمرارة وقهر، وبأنفاسٍ متقطعة:
-اشمعنى أنا؟! ليه ما سبتونيش على عمايا؟ ليه تعمل فيا كده؟

أفزعته جملها المتلاحقة، وهدر متسائلاً بعصبيةٍ لا يعرف من أين انفجرت فيه وانتشرت في كامل كيانه:
-إنتو عملتوا فيها إيه؟!
نظرت له الممرضة بوجهٍ مال للعبوس، وطلبت منه في جدية:
-لو سمحت ماينفعش الانفعال اللي إنت فيه ده! ده مش كويس على حالة المريضة، وأكيد هي مستحملة حد يوترها
صرخ بها:
-ما أنا مش هابقى واقف زي الأطرش في الزفة.

تركت الممرضة مريضتها لتتجه إليه، وقامت بدفع "هيثم" من ذراعه في رفقٍ وهي ترجوه:
-من فضل حضرتك تتفضل برا، خليني أعرف أتعامل مع المريضة
أجبرته على الخروج من الغرفة، وقبل أن يصل أعتابها أتاه صوت "همسة" التعيس، وكأنه يلومه:
-مش مسمحاها على أذيتها ليا، قولها ده، أنا مش مسمحاها!

استدار نحوها في غرابةٍ، ووجهه يعلوه تلك النظرة المستريبة، ابتلع ريقه وشعر أن الأمر له علاقة به بشكلٍ مباشر، اضطر أن يستخدم القليل من العنف ليبعد الممرضة عن طريقه، فلكزها في ذراعها وطرحها نحو الحائط، ثم عاد إلى "همسة" وسألها دون مراوغة:
-قصدك مين بكلامك ده؟
حاولت جمع قوة غير موجودة فيها، ونظرت في عينيه مباشرة بعينين تفيضان الدمع، وأجابته بنحيب:
-اسأل مامتك!

لا تعرف كيف انصاعت لرغبتها وانسحبت من الردهة صاغرة لتقف خارج المشفى وهي تحترق بنيران غيظها وغيرتها الواضحة، استطاعت أن تسمع صوت زفير والدتها المتكرر ليعبر عن سأمها من الانتظار كالمشردين على جنبات الطريق، لكنها تجاهلتها لتنظر كل ثانية نحو بوابة الدخول، هتفت "بثينة" توبخها بضجرٍ:
-ما كفاية وقفة في الطل، خلينا نتنيل نرجع بيتنا، أنا تعبت وزهقت
حدجتها بنظرة قاسية قبل أن ترد وهي تتنفس بأنفاس الضيق:
-وأنا المفروض أكون فوق مع جوزي مش قاعدة تحت هنا!

تصنعت والدتها البراءة، وعاتبتها بلومٍ:
-يعني عاوزة رجلي تيجي في الخاية؟ ترضي لأمك البهدلة من اللي يسوى وما يسواش! ده كويس إني نفدت منها.
علقت تسألها في حنقٍ:
-ومين قالك تتصرفي كده يامه؟ أهوو جه على دماغنا في الآخر، و"تميم" بقى لوحده معاها!
زمت "بثينة" شفتيها وغمغمت في تهكمٍ، وتلك النظرة الساخطة تكسو تعبيراتها:
-تقولش قافلين عليهم باب الشقة، ياختي ده البت زي ضربة الدم قلبتها حريقة وجابت عاليها واطيها!!!

ضغطت "خلود" على أصابع يدها حتى ابيضت مفاصلها، ثم أضافت ونظراتها معلقة بالأعلى:
-يا عالم دلوقتي بيعملوا إيه سوا!
غلت الدماء في رأسها وكادت أن تذيبها، التفتت ناظرة إلى والدتها وهتفت وهي تندفع كالثور الهائج نحو درجات المشفى:
-أنا مش هاستنى أكتر من كده، إياكش الدنيا تولع، أنا مش هاسيبوهلها!
صاحت فيها "بثينة":
-يا بت استني، ماتبقيش غبية!

لم تصغِ لها وواصلت اندفاعها الأهوج للداخل وغيرتها تعميها بالكامل عن التصرف بتعقلٍ وروية، لم يظهر الندم على تعابير أمها التي قالت بتبرمٍ، وكأنها تتحدث مع نفسها:
-يعني عاوزاني أعرف إن البت مافيش منها رجا وأسكت؟ كان لازم أعمل كده عشان تلم الدور وتعرف إن مافيش حد هيبصلها، أنا مش عايزة واحدة زي دي لابني، ليه أتحرم من أحفاد يملوا عليا البيت؟!

جابت الممر الطويل جيئة وذهابًا بخطواتٍ متشنجة، منفعلة، متعصبة، أي شيء سوى أن تكون هادئة، دمدمت بتوعدات غير واضحة، وكزت على أسنانها لاعنة بكلمات لم يسمعها جيدًا، لكنها كانت فرصة جيدة له لتأملها عن قرب دون مقاطعة أو تردد، وضع "تميم" يده على شفتيه ليخفي تلك الابتسامة المستمتعة بمراقبتها، وبيده الأخرى فرك رأسه في توترٍ، بذل أقصى ما يستطيع محاولاً السيطرة على عينيه الناعستين اللاتين تواصلان تأملها وكأنها تسجل ما يخصها في ذاكرته، انتصاب في وقفته حين وجهت له الحديث لتنذره:
-لو اتأكدت إن الدكتور ده مطلع الكلام القذر إياه عن أختي هاخنقه بإيدي، وكمان الست قريبتك، مش هاسيبها، ومحدش هيحوشني، ماشي؟

رفع كفيه في الهواء كتعبير عن إذعانه لها، فتابعت "فيروزة" مفرغة فيه عصبيتها:
-إزاي جالها قلب أصلاً تعمل كده؟ افرض حصل ده مع بنتها!
وكأنها تداركت زلة لسانها بعد لحظة من نطقها، فمن تتحدث عنها هي زوجته، تنفست بعمقٍ، ولفظت الهواء دفعة واحدة، ثم رمقته بنظرة حرجة قبل أن تقول على مضضٍ وبنبرة أقل حدية:
-أنا مقصدش، بس مافيش حاجة بعيدة عن ربنا، المفروض نراعي بعض.

لم يكترث "تميم" للأمر مطلقًا، لتفصح بأريحية عما يجثم على صدرها ويزعجها، كان للمرة الأولى مستمتعًا للغاية وتسيطر عليه نشوة عارمة لاسترسالها في الحديث معه دون أن تهاجمه شخصيًا، وبشكلٍ لا إرادي وجد نفسه يسبل عينيه ناحيتها ليبدو أكثر تأملاً لتعبيراتها المشوقة وهو يسألها بنزقٍ:
-هو إنتي إزاي كده ...؟!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة التاسعة والثلاثون بقلم منال سالم


تجمعت هموم الدنيا وأحزانها على ملامحه التعيسة، فكلما حاول بجهدٍ فتح بابًا للسعادة انغلق بقوة في وجهه ليحاصره أكثر داخل تلك الدائرة السوداء، وكأن الحياة تأبى منحه فرصة أخرى للنجاة من حياة العبث التي كان يعيشها. بعينين تحبسان الدموع الحارقة خرج "هيثم" من المشفى وكلام "همسة" الأخير الذي يلوم والدته يتردد صداه في رأسه، وقف في مكانه كالعاجز يفكر فيما سيفعله، مسح بيده ما يشوش رؤيته من عبرات ليهم بالتحرك، نظرة خاطفة للجانب جعلت قدماه تتسمران، رأى والدته تجلس على الرصيف القريب في غرابةٍ، لم يكترث أبدًا بما تفعله بمفردها، اتجه ناحيتها قاصدًا سؤالها عما اقترفت، وبكل عنفوانه هتف عاليًا ليخرج صوته غاضبًا مشحونًا:
-عملتي في "همسة" إيه يامه؟


 
لم يظهر عليها المفاجأة، بدت متوقعة لثورته الهائجة، طالعته "بثينة" ببرودٍ، وردت:
-اللي المفروض أي أم تعمله لو عايزة مصلحة ابنها
وقف قبالتها مواصلاً صراخه بها:
-إنتي قولتيلها إيه بالظبط؟
نهضت بتكاسلٍ من جلستها غير المريحة مستندة على ذراعه حتى تعتدل، رمقته بنظرة قاسية قبل أن تجيبه بقلبٍ متحجر:
-عرفتها الحقيقة، المحروسة ما بتخلفش!


 
انقباضة عنيفة لوت قلبه واعتصرته بعد جملتها الصادمة تلك، انفرج فمه في ارتعابٍ، وسألها غير مصدقٍ:
-إنتي بتقولي إيه؟
تابعت بنفس المشاعر الجليدية:
-اللي سمعته يا ضنايا، الضاكتور اللي عملها العملية قال إنها ما بتخلفش، وأنا الصراحة مكدبتش خبر، ما هو أنا معنديش غيرك إنت وأختك، مش هاجوزك لواحدة أرض بور مافيش فيها أمل مهما زرعت فيها من تقاوي!

لم يتحمل سمومها التي تبثها، وكأنها حقيقة مطلقة، فصاح مستنكرًا تقريرها لمصيره معها:
-حرام عليكي يامه، هو إنتي دخلتي في علم الغيب؟ محدش عارف إيه اللي هيحصل بكرة.
قالت بتعابير أشد قسوة:
-ربنا قال ناخد بالأسباب، وده اللي عملته!
اختنق صوته وهو يرد:
-افرضي ده كان فيا؟!!!!
هتفت في جزع:
-بعد الشر، إن شاءالله هي!


 
نظر لها في استهجانٍ وعيناه تحتقنان بشكلٍ كبير، ثم ردد في يأسٍ:
-ها أقولك إيه غير حسبي الله ونعم الوكيل
لطمت على صدرها متنمرة على جملته تلك:
-يا نصيبتي؟ بتحسبن على أمك، وفي وشي كمان!
نظرة أخرى مصدومة مليئة بالقهر سددها لها قبل أن يتركها ليمشي في كامل إحباطه الممتزج بحسرته، تهدل كتفاه، واسودت تعابيره، نظرت له "بثينة" في تعجبٍ، ثم هتفت تناديه عله يقف:
-خد هنا يا واد..


 
وكأنها تُحادث الفراغ اجتاز الطريق دون أن يكلف نفسه عناء النظر إليها، مصمصت شفتيها، وقالت في تأفف:
-ده اتجنن ده ولا إيه؟!
عادت لتجلس على الرصيف متابعة بجمود قاسٍ:
-بكرة يعرف إن كان عندي حق!

رأى علامات الإرهاق، التعب، والغضب مجتمعة سويًا مع لمحة جمال خفية لا يبصرها إلا المراقب لها باهتمامٍ وكلها تنعكس على خلجاتها الناعمة، استغرق في تأمله الملي لها وهو لا يدرك أنه يبوح بما يفكر فيه عقله علنًا، تقلصت تعابير وجه "فيروزة" لترمقه بحدةٍ حين لاحظت نظراته الساهمة نحوها، وزاد انزعاجها مع جملته الأخيرة، عبست تسأله بلهجةٍ رسمية:
-أفندم؟!

كانت تبدو خلابة من بعيد، وآخذة للعقول من قريب، سَرح "تميم" يتأملها بعينين مضيئتين بلمعة غريبة، وبفمِ شبه مفتوح، كان مبهوتًا بها، أحس بالضياع وهو شاردٌ في ملامحها، صاحت فيه بصوتٍ ظهر مُتشنجًا حين لازم الصمت بهذا الشكل العجيب:
-أنا بأكلمك، أنا فيا إيه؟! مش فهماك!
استعاد وعيه، وأفاق من شروده ليرد بربكةٍ طفيفة وهو يحك مؤخرة عنقه:
-قصدي يعني جريئة، ومابتخافيش من حد.
رفت ابتسامة مغترة على شفتيها عندما ردت:
-صاحب الحق مابيخافش يا معلم "تميم".


 
قال مندفعًا وقد راقه تلفظها باسمه:
-طالعة حلوة منك..
ضاقت نظراتها بشكلٍ حاد فهتف متصنعًا الجدية:
-يعني إنتي معاكي حق.
أومأت برأسها في استحسانٍ قبل أن تستدير لتدور في نفس الحلقة المفرغة وعينا "تميم" تتبعها باهتمامٍ مبالغ فيه، وكلما عادت لتتطلع إليه ادعى انشغاله بالتحديق في سقفية الممر حتى لا تمسك به وهو يُملي عينيه برؤيتها، توقفت "فيروزة" عن الحركة حين سمعت صوت "خلود" يتساءل في ضيقٍ واتهام مستتر:
-إيه اللي بيحصل هنا؟!

حل الوجوم على قسمات "تميم" فور أن رأها، تحفز في وقفته، وزجرها بخشونةٍ قبل أن تبادر بإلقاء التهم جزافًا عليها:
-في إيه يا "خلود"؟
سألته دون أن تبعد عينيها المتشككتين عن عدوتها:
-هي بتعمل إيه معاك؟
رمقتها "فيروزة" بنظرة نارية وهي تجيبها بأسلوب وقح:
-مستنية أتأكد من اللي أمك قالته عن أختي.


 
تقدمت بثباتٍ نحوها، وسددت لها نظرة احتقارية ثم علقت عليها بفظاظةٍ غير مقبولة:
-أمي مغلطتش، من حقها تتطمن على مرات ابنها، وأنا معاها في ده!
اغتاظت "فيروزة" من طريقتها المستفزة في تبرير سوء تصرفها فناطحتها الند بالند، وردت بانفعالٍ:
-دي لو مراته أصلاً، احنا ما يربطناش بيكم أي حاجة!

وعلى عكس ما كان يظن، اكتشف "تميم" مصادفة تورط زوجته في تلك المسألة الخسيسة، انتقل من مكانه ليغدو قبالتها، قبض على ذراعها بيده القوية، جذبها منه بعيدًا عن "فيروزة"، وضغط عليها بقساوة حتى تأوهت من الألم، ثم هزها بخشونة وهو يسألها:
-يعني كنتي عارفة يا "خلود"؟
تحرجت من انكشاف أمرها بسبب رعونتها، فحاولت الابتسام لتخفي تلبكها، وقالت برقةٍ وصوتها مضطرب:
-"تميم" حبيبي، هنتكلم بعدين و...

قاطعها بصوته الآمر وقد احمر وجهه غضبًا:
-لأ دلوقتي!
استجمعت نفسها، ونظرت في تردد له، ثم حانت منها نظرة سريعة جانبية لوجه "فيروزة" المشدود، تجددت غيرتها القاتلة وتصاعد الدم في عروقها، وبكل برود نطقت:
-الممرضة سمعت الدكتور وهو بيقول إن أختها عندها مشاكل ومش هتخلف، وحابت توجب معانا!
استنكار عظيم سيطر على نظراته نحوها، وبغيظٍ مفهوم هدر في عصبيةٍ:
-بتقولي إيه؟ وإزاي أصلاً تجي تقولكم الكلام ده؟!!

لوت ثغرها في تهكمٍ وهي تعلق عليه:
-عادي يعني.
كانت "فيروزة" تغلي في الخلف وأذناها تلتقطان حديثها الأرعن، اِربد وجهها بمزيد من الحنق، وهدرت تعنفها بشراسةٍ:
-لأ مش عادي اللي عملتوه! دي جريمة هحاسبكم عليها.
لم يختلف حال "تميم" كثيرًا عنها، كان مغلولاً من برود زوجته ومشاركتها في تلك الجريمة الأخلاقية، فصاح يؤيدها وموبخًا زوجته:
-هي معاها حق تقلب الدنيا فوق دماغكم..

قست نظراته بشدة وهو يتابع بزمجرة مجلجلة:
-لأنه لو اتقال عليكي مكونتش هاقبله، وهانفخ اللي قاله! محدش يلوم على الأبلة لما تهد الدنيا!
أحست بالخوف من عدائيته الصارخة، ابتلعت ريقها ورققت من نبرتها وهي تحاول خلق التبرير لوالدتها:
-هي غرضها آ....
قاطعها بصرامة جعلتها ترتجف خوفًا منه:
-ولا كلمة! اتكتمي!
التفتت "خلود" برأسها للجانب لتلقي اللوم على "فيروزة"، فاتهمتها بوقاحةٍ:
-هي اللي عاملة الشبورة دي عشان تلبسنا في أختها المعيوبة!

لم يجد "تميم" بدًا من الكلام المجدي معها، كانت وقحة بشكلٍ سافر لم يتخيل أبدًا أن يصدر منها، تخطت كل الحدود والأعراف، وتجاوزت آداب الحوار المنطقي، كان آخر حديثها كالقشة التي قسمت ظهر البعير، فأصبح رده المناسب لإخراس لسانها الدنيء صفعة مؤلمة على صدغها، تفاجأت "خلود" بفعلته، وحملقت فيه مصدومة، تهدج صدرها واغرورقت عيناها بالعبرات سريعا، لقد فعلها حقا وصفعها أمام تلك اللعينة التي أفسدت حبها الأفلاطوني له، زادت كراهيتها العدائية لها، أحست بنيران تنبعث من رأسها، وقبل أن تلوم زوجها وتبدأ في نوبة بكائها المقهور تركها الأخير تحترق كمدًا في مكانها واتجه إلى "فيروزة" يعتذر منها:
-أنا أسف يا أبلة على اللي حصل.

وبالرغم من محاولته لرأب الصدع فيما حدث إلا أن "فيروزة" قالت بحسمٍ:
-احنا معرفتنا بيكم انتهت، لا خطوبة ولا دياوله...
تركزت نظراتها على "خلود" حين أكملت باقي جملتها:
-بلغ قريبك و.. أخو المدام بده.
غامت عيناه، وقال يرجوها:
-بس آ....
ولكنها هتفت تقاطعه بصلابة وقد توحشت نظراتها:
-خلاص!

شعر "تميم" بكآبة تثقل صدره بعد كلمتها تلك، اكتست تعابيره بحزنٍ غريب، نكس رأسه في خزيٍ، وتسمر مكلومًا في مكانه، ابتعدت عنه "فيروزة" لتتجه إلى زوجته التي ما زالت تضع يدها على وجنتها الملتهبة، رمقتها الأولى بنظرة نارية مستحقرة، وبادلتها الأخيرة نفس النظرات الناقمةن ثم دست يدها في حقيبتها وأخرجت النقود المطوية، أمسكت بيدها عنوة ووضعتهم بها قائلة لها:
-وقبل ما أنسى، ادي لجوزك فلوسه، مابنقبلش الشفقة من حد!

صدمة هبطت على رأسها لتفقدها صوابها، شخصت أبصارها هاتفة:
-إيه؟ هو ..!
تركتها تغمغم بكلماتها المتقطعة دون أن تكترث بها، اتجهت إلى باب مدير المشفى الذي انفتح ليناديها:
-يا أستاذة
تطلعت إليه وهي تتنفس بعمقٍ لتكتم نوبتها الانفعالية التي طفت على السطح، سألته بأنفاس متهدجة:
-أيوه.

أجاب الطبيب مشيرًا بيده:
-ممكن تتفضلي جوا عشان نفهمك سوء التفاهم اللي حصل في حالة أختك.
هزت رأسها مرددة:
-طيب
ولم تلتفت للوراء لتخلف ورائها الاثنين وهما على وشك الانفجار ما بين غضبٍ شديد، وهياج أكبر، انغلق الباب فهرولت "خلود" نحو زوجها تسأله بجنونٍ:
-إيه ده يا "تميم"؟!

سحب النقود منها ودسها في جيبه دون أن يمنحها المبرر المناسب، بلغت ذروة غضبه منها أقصاها، فتحت شفتيها لتسأله لكن الكلمات تحولت لتأويهات وأنات حين انغرست أصابعه في ذراعها ليشدها منه، نظر لها بعينين خاليتين من العطف وهو يأمرها بصوتٍ أجوف، كأنه قادم من عمق سحيق:
-تعالي معايا على البيت، مش هانتكلم هنا!

قادته قدماه إلى منزله، كان كبارقة الأمل الأخيرة المتبقية ليلجأ إليه قبل أن يسقط في بئر آثامه دون رجعة، استقبلته خالته في اندهاشٍ، أصر "هيثم" على الجلوس مع الحاج "سلطان" فقط، اعتبره كجده الذي افتقده، عل كلماته المواسية تطيب من أوجاع قلبه، وبكل ترحاب وود دعاه الكهل العجوز للجلوس معه على سجادة الصلاة، أمسك بسبحته يفرك حباتها بحركة ثابتة مصغيًا له ليفرج عن همومه، فاستفاض ببكاءٍ صادق:
-يا جدي أنا تعبت، معنتش قادر .. طريق الحلال صعب أوي، أنا كل ما حاول أمشي فيه المصايب تكتر عليا والدنيا بتقفل في وشي.

ربت على كتفه مهونًا:
-هتدوق حلاوته في النهاية، اصبر إنت بس.
تساءل في يأسٍ:
-لحد امتى؟ وإزاي؟
زادت نحيبه وهو يتابع بأسى:
-ده أنا مصدقت إنها واقفت ترجعلي بعد الهباب اللي عملته فيها، وقولت خلاص أهي اتحلت وهنبقى لبعض.
ردت عليه "سلطان" متسائلاً:
-قصدك على البنت إياها اللي روحنا كلنا خطبنهالك؟
هز رأسه يجاوبه مسهبًا في الحوار:
-أيوه يا جدي، جت أمي وعملت الفورتينة، وبدل ما تكحلها عميتها، راحت قالتلها إنها مابتخلفش، والله أعلم إن كان ده صح ولا لأ!

بدا الامتعاض المنزعج على وجه "سلطان"، لم يتقبل تصرفها غير المحمود، وقال:
-مايصحش اللي عملته ده.. فين عقلها؟
أخفض نظراته ليتأمل "هيثم" الذي كان غارقًا في أحزانه، فحاول إعادة الثقة إليه فأضاف بتفاؤلٍ ورضا:
-ربنا وحده اللي عالم بالغيب، عارف إيه اللي ينفع فلان، وإيه اللي يضر غيره، منَّه (إحسانه) عطاء، وأخذه عطاء، ماينفعش احنا ندخل في مشيئته.
رد بتنهيدة مهمومة:
-ونعم بالله.

أكد عليه متسائلاً بصوته الجاد:
-سيبك من اللي أمك عاملته، وقولي إنت عاوز إيه؟
أجابه دون ترددٍ أو تفكير:
-أنا عاوزها هي.
ابتسم "سلطان" في حبورٍ، وحثه بتشجيعٍ واضح في نبرته ونظراته إليه:
-خلاص توكل على الله، وماتسيبهاش.
لم تتغير ملامحه العابسة، واستطرد مهمومًا:
-بس مين هايقف معايا بعد ما الليلة باظت؟!

قال بابتسامة واثقة:
-متقلقش، الحبايب كتار، وبعدين ربنا كرمه واسع، خليك واثق في فرجه القريب.
أعاد إلى روحه الملتاعة السكينة بحديثه المفرج للهموم، مال عليه ليحتضنه، ثم أحنى رأسه على كفه الذي التقطه بين راحتيه ورفعه إلى فمه قبل أن يشكره:
-ربنا يخليك ليا يا جدي.

نقل والدتها أولاً إلى منزلها دون أن ينبس بكلمةٍ، ولم تحاول "بثينة" الحديث معه، لقد نالت غرضها، والحديث لن يجدي فيما مضى وانقضى، نظرة مليئة بالغيظ منحها لها حين ترجلت من سيارته، كان غاضبًا بما فيه الكافية لينزع فتيل حنقه فينفجر إما في وجهها أو وجه ابنتها، راقبت "خلود" جفاء معاملته وقساوته البادية على تعبيراته، لذا أطبقت على شفتيها مرغمة، ونظرت إليه بطرف عينها وهي تعتصر ذهنها اعتصارًا لتستدرجه من جديد إلى منطقة مشاعرها المستفيضة، ضغط "تميم" على المكابح فجأة ليأمرها دون أن يكلف نفسه عناء النظر إليها:
-إنزلي.

همست بتلعثمٍ وكأنها تتسول عطفه:
-أنا أسفة .. مكونتش آ...
لم يرغب في سماع هرائها اللزج فهتف مقاطعًا بنفاذ صبر:
-مش عاوز أتكلم، يالا انزلي!
ارتجفت من صراخه العالي، وسألته بحذرٍ، وذلك الهاجس المستعر بشأن عودته لمقابلتها يشتعل بقوةٍ في رأسها:
-طب إنت رايح فين؟

أجابها بصوته الأجوف وهو لا يزال محدقًا أمامه:
-أنا مش ملزم أديكي تقرير بخطواتي.
اختنق صوتها وبكت وهي تصيح فيه:
-بس أنا مراتك، مش واحدة من الشارع، يعني من حقي أعرف إنت رايح فين وجاي منين.
استدار برأسه ليرمقها بنظرات غريبة مليئة بالقسوة والإظلام، ثم قال بغموض أجفل قلبها:
-هنتكلم في ده لما أرجع.

أحست بثقلٍ مرعب يجثم من جديد على صدرها وقد حملت كلماته دلالات مقلقة، أجبرت نفسها على عدم الضغط عليه ريثما تعيد ترتيب أفكارها حتى تجذبه إليها، وبيدٍ مرتعشة فتحت باب السيارة وترجلت منها، أحست بانسحاب روحها مع ابتعاده السريع، وقالت وهي تجز على أسنانها، وكأنها تجدد بهذا الوعد القسم الذي قطعته على نفسها:
-مش هاسيبك يا "تميم" تضيع مني، أنا مراتك، وإنت من حقي أنا وبس!

علمت الحقيقة كاملة من الطبيب نفسه الذي أجرى العملية الجراحية لأختها، لم يكن الحديث الدائر في مكتبه يخصها، بل عن واحدة أخرى أجرت نفس العملية قبل يومين وتعاني من مشاكل أخرى، وتسببت الممرضة المتواجدة أثناء ذلك النقاش في إحداث سوء التفاهم والإضرار بتوأمتها، اقترح مدير المشفى ليبدد أي شكوك تساورها، وكذلك كتعويض عن الإساءة التي جرت:
-احنا مستعدين نعمل تحليل هرمونات دقيق لأختك، ده غير السونار والأشعة على الرحم عشان تتطمن.

بدا اقتراحه مناسبًا لردع من يتجرأ على المساس بها، فوافقت دون تفكيرٍ:
-وماله، أنا معنديش مانع
رد عليه مدير المشفى مشددًا:
-المهم موافقة أختك، ده غير إننا هنعمل تخفيض 20% من تكاليف العمليات والإقامة، ونرد الفرق ليكي، كتعويض مننا كإدارة عن تقصيرنا في حماية أسرار المرضى
شعرت بالرضا من سعيه الدؤوب لإصلاح الخطأ، وقالت بهدوء:
-كده يبقى عداكم العيب.

طلب منها برجاءٍ:
-وأتمنى مايبقاش في تصعيد للأمور، لأن الغلط من الأساس مكانش مننا
قالت على مضضٍ:
-ده مفهوم، بس أنا أختي اللي اتأذت وسمعت كلام جارح مكانش ينفع يتقال
رد مؤكدًا:
-وعشان مايتقالش إن في تغاضي مننا عن التجاوز ده، فالممرضة خدت جزا كمان
هزت رأسها في خفةٍ، وعلقت باقتضاب:
-تمام..

أضاف مدير المشفى أخيرًا:
-عامة يا أستاذة احنا منتظرين موافقة أختك وهنقوم باللازم على طول.
ردت تشكره وقد عادت البسمة لتحتل شفتيها:
-شكرًا على تفهمكم وتقديركم للي حصل.
قال بلهجة رسمية قبل أن ينهي اجتماعه بها:
-ده دورنا.. وربنا يقومها بالسلامة

قبلت أعلى جبينها وهي تمسح بكلتا يديها على وجهها الباكي لتزيح دمعاتها التي بللته، أغدقت عليها بحنانها الأمومي الغزيز، ثم جلست على طرف الفراش ملتصقة بها، اعتذرت "آمنة" لابنتها عن تركها لها ورحيلها، فقالت بنبرة آسفة يختلط بها بكائها:
-حقك عليا يا ضنايا، أنا لو مكونتش سبتك مكانش ده حصل، منهم لله الظلمة، هيروحوا من ربنا فين؟!

تجربة قاسية من كافة الجوانب انخرطت فيها بجوارحها فانعكست آثارها بالسلب عليها، ولم تكن حالتها النفسية تسمح بتخطي الأمر، ما زالت تلك الرجفة تنتابها كلما تذكرت وقع كلامها المؤلم عليها، امتدت يد "همسة" لتتشبث بكف والدتها، وردت تستعطفها بصوتها المبحوح:
-ماتسبنيش يا ماما.
احتضنت كفها بين راحتيها وقالت بصوتها الدافئ وهي ترمقها بنظرتها الحانية:
-أنا جمبك يا حبيبتي، مش هاتنقل من هنا.

ولجت "فيروزة" إلى داخل الغرفة وهامتها مرفوعة للأعلى، ابتسمت متسائلة وقد حققت انتصارها:
-عاملة دلوقتي إيه يا "همسة"؟
أجابت بقهر لم تخفه:
-زي ما إنتي شايفة، قلبي وجعني أوي.
احتلت "فيروزة" الجانب الآخر من الفراش، لكن جلست عند قدمي أختها، وبرفقٍ مسدت على جسدها وهي تقول لتخفف من أحزانها:
-الحمدلله ربنا قدرني وعرفت أرجع حقك، وكمان المستشفى هنا مستعدين يعوضوكي عن اللي حصل.

نظرت إليها من بين دمعاتها الحارقة، ونطقت في انهزامٍ:
-صعب يا "فيروزة"، أنا جوايا حاجة اتكسرت و...
قاطعتها بحزمٍ لتمنع شكوكها من التدفق في عقلها وغزو تفكيرها:
-الدكاترة أكدولي إنهم يقدروا يثبتوا بالتحاليل إنك كويسة، ومحدش هيقدر يفتح بؤه معاكي.
غلف صوتها شجن محسوس حين سألتها مباشرة لتبوح بمخاوفها:
-وافرضوا طلعوا عندهم حق؟

هتفت مستنكرة محدودية تفكيرها وانسياقها وراء تلك الأكاذيب المضللة:
-إنتي هتصدقي الست المجنونة دي؟ كلنا فاهمين هي عملت كده ليه؟ هي مش عايزاكي لابنها، واحنا من الأساس رافضينهم!
انفجرت في نوبة بكاءٍ جديدة وهي تعقب عليها:
-وأنا مش عاوزة أعمل أي تحاليل، خرجوني من هنا، أنا مش عاوزة أفضل في المستشفى دي، رجعوني البيت.

أشفقت والدتها على حالتها البائسة، فقامت من جلستها واحتضنتها بذراعيها لترتمي ابنتها على صدرها، ثم حاولت تهدئتها قائلة:
-حاضر يا "همسة"، هنعمل كل اللي إنتي عايزاه، بس بلاش تقطعي قلبي بكلامك ده.
شاركتها البكاء ولكن بنهنهات أقل، لم تتحمل "فيروزة" ضغط المشاعر المستنزف لأحاسيسها، وقالت بجمودٍ زائف:
-ماشي اللي يريحك.

خرجت من الغرفة ودموعها تسبقها، انتقت أول مقعد شاغر بعيد عن الغرفة لتلقي بجسدها المثقل بالهموم عليه، ورمت حقيبتها بإهمالٍ إلى جوارها، بكت بمعزلٍ عنهما، أحست كم هي متعبة ومستنزفة القوى! دفنت وجهها بين كفيها حتى لا يلمح حزنها أحدهم، فقط وحده من رأى لحظة ضعفها واستسلامها المتوقع بعدما خاضته. كان "تميم" في طريقه مصادفة إلى غرفة أختها ليعتذر منها مجددًا وبندمٍ واضح عما بدر من زوجته، لكن قلبه كان الأسبق في التنبؤ بوجودها، دار بعينيه في المكان ليتأكد مما يراوده من شعورٍ موتر، ووجدها هكذا في تلك الحالة اليائسة، مزيج من الغضب والضيق سيطر عليه..،

تجمد في مكانه يراقبه من زاوية خلفية منزوية لا تستطيع الإمساك به إن رفعت رأسها وتطلعت أمامها، تردد في الحديث إليها، كان يعلم أن حالتها المزاجية المتقلبة لن تسمح بأي تعاطفٍ أو مسامحة، لذا انسحب مضطرًا ليرمم الشرخ مع أختها ووالدتها ربما تكون قد هدأت حينها.

لم تكن توأمتها صعبة الإقناع، بل كانت شابة لينة، طيبة، خلوقة، رقيقة، ومرهفة المشاعر، أشبه بوالدتها عن أختها شعلة النار المتقدة دومًا، ارتضت "همسة" بجمله القليلة المعتذرة وتغاضت عن الإساءة مُسلمة أمرها للمولى، لذا بمجرد أن فرغ "تميم" من حديثه اللبق معها عاود أدراجه ليكمل باقي مهمته الصعبة مع نصفها الآخر، وجدها لا تزال جالسة في مقعدها، ولكنها أراحت ظهرها للخلف، وأغمضت عينيها وقد استندت برأسها على الحائط، اقترب منها ليتأملها عن كثب متسائلاً في توجسٍ شبه خائف:
-هي مالها؟!!

استطاع أن يرى خطين رفعين من الدموع لم يجفا بعد، بل بدا وكأنهما يتجددان باستمرارٍ، أحقًا تبكي في صمت؟ حز ذلك في قلبه بشدةٍ، غصة مريرة اجتاحت حلقه مرددًا لنفسه، وكأنه يلومها:
-احنا السبب.
كور قبضة يده المرتجفة غيظًا وتنفس بعمقٍ حتي يثبط مشاعره الغاضبة حيث اهتاجت من جديد راغبة في الثأر لها، بالطبع ما مرت به واختبرته لتعيد حق أختها ليس بالهين، بينما ما اقترفته خالته أو زوجته لا يمكن المسامحة فيه أو الغفران.

تقدم نحوها وهو يراجع أفكاره في رأسه، لا يعرف لماذا ينشغل كثيرًا بأمرها، وهي التي لا تطيقه أو تمنحه لحظة لُطف عابرة، لكنه كان مهتمًا بشأنها، وقف قبالتها في ارتباكٍ، ثم قال مبادرًا:
-سلامو عليكم.

وعلى ما يبدو لم تشعر به، كانت لا تزال على وضعيتها الساكنة، ظن أنها غفت قليلاً فتشجع للجلوس إلى جوارها، وهنا استطاع أن يرى حزنها عن قربٍ فآلمه ذلك الإحساس العاجز، هو أيضًا متورط في إيذائها معنويًا، ودَّ لو استطاع تعويضها ومحو أحداث اليوم الكئيبة من ذاكرتها، زفر ببطء وقد زادت تعابير تكدرًا، أخفض نظراته ليجد حقيبتها إلى جوارها، راود عقله فكرة متهورة، نفذها دون ترددٍ...،

حيث استلها بحرصٍ شديد دون أن تشعر به، وتمكن من فتح سحابها وأعاد وضع نقودها بها، وبنفس الحذر أعادها إلى جوارها، تنفس بزفيرٍ مسموعٍ نسبيًا ليلفت انتباهها إلى وجوده، لكنها ما زالت في غفلتها المتعبة والقصيرة، فجازف مناديًا باسمها بصوت هامس يميل للعذوبة تسلل إلى وعيها فأوقظها:
-"فيروزة"...!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة الأربعون بقلم منال سالم


ثالث طبقٍ ينزلق من أصابعها المبتلة في الحوض ليتهشم إلى قطعٍ صغيرة وهي تحاول غسله لتُلهي عقلها عن التفكير في زوجها الذي اختفى ليتركها تتآكل بنيران غيرتها، أليس من المفترض أن يعوضها عن إساءته المهينة لها أمام الغرباء حين همَّ للدفاع عن تلك الحقود؟ ما زالت آثار أصابعه محفورة على خدها الذي تلقى صفعته القاسية، ولم تحاول إخفائها بكريم مرطب..،


 
أرادت "خلود" أن تتركها عن عمدٍ لتشعره بالذنب وتأنيب الضمير حين يتطلع إليها، ولتكن أيضًا سلاحها للولوج إلى مشاعره العميقة واستنزافها لصالحها، فمن المفترض أن يدعم زوجته، لا أن يتطاول عليها بذلك الشكل المهين، وأمام من؟ تلك الوقحة الحقيرة! كم تمنت لو أطبقت على عنقها حينئذ وخنقتها حتى أزهقت روحها! شعورٌ استلذته بشدة ورغبت في تنفيذه لترتاح منها نهائيًا.


 
حسنًا ليدرك زوجها أنه المخطئ في تلك القضية الخاسرة، لكن كيف سيتم الأمر؟ عاد عقلها ليعمل بكامل طاقته، اقترح عليها أن تعاتبه على طريقتها المتدللة -وربما المغرية والمثيرة للشهوات- حتى يلين، بالطبع سيستجيب أمام المغريات الفاتنة، وبين متعة الحب ومذاقه سيذوب في عشقها، وبالتالي ستتملك كامل قلبه من جديد .. وربما قليل من العتاب واللوم خلال طقوس علاقتهما الحميمية سيحز في نفسه ويتدارك خطأه، فلا يكرر فعلته الهوجاء مرة أخرى، ارتضت "خلود" لتلك الفكرة الهوسية، ثم مسحت برسغها دموعها الحارقة المتجمعة عند طرفيها، وقالت لنفسها بتوعدٍ مميت ووجه "فيروزة" المقيت يتجلى في خيالها:
-القلم ده هردهولها، بس في وقته!

لم تتمكن من غسل باقي الصحون، وتحركت مبتعدة عن الحوض المبتل وجسدها يرتجف من شدة عصبيتها، أمسكت بمنشفة المطبخ القطنية وجففت بها يديها، خرجت منه وأنفاسها تتسارع، وكأنها تعدو في سباقٍ طويل الأجل، عضت على أناملها بتوترٍ مغتاظ وتابعت معبرة عما يستعر في نفسها:
-"تميم" ده جوزي، ومن حقي أنا بس!


 
هكذا رددت لنفسها عشرات المرات حتى باتت مقتنعة بسطوتها المطلقة عليه وأحقيتها في الحجر على مشاعره واستئثارها بالكامل لأجلها فقط، كركرت ضاحكة بطريقة هيسترية وقد توهمت نجاحها في فعل ذلك.

استيقظت في حالة شنيعة على الصوت الذكوري الذي اقتحم إدراكها وأطلق شارات الإنذار في عقلها لتستفيق من غفوتها وتتنبه له، لم تتبين ما الذي قاله، لكن انتفض جسدها بالكامل وقد رأته قريبًا منها مركزًا نظراته المهتمة عليها، لم تستسغ ذلك الأسلوب الغريب منه، لذا رمقته بحدةٍ وذلك الوجوم يحتل كافة خلجاتها، لم يبتسم "تميم"، وتنحنح متسائلاً في اهتمام:
-إنتي كويسة يا أبلة؟


 
هبت "فيروزة" واقفة، وهدرت فيه بعصبيةٍ:
-إنت بتعمل هنا إيه؟ ورجعت تاني ليه أصلاً؟!
وقف هو الآخر قبالتها، وسألها باهتمامٍ مبالغ فيه من وجهة نظرها:
-لو حاسة إنك تعبانة أشوفلك ضاكتور هنا ولا هنا.
كانت رافضة لأي دعمٍ منه أو من غيره، ودون ترددٍ صاحت بنرفزةٍ وهي تشيح بيدها في وجهه:
-أنا مش عايزة منك ولا من غيرك أي مساعدة، ماتسبونا في حالنا!

ورغم إحراجها له إلا أنه رد بتهذيب علها تلين وتغير الفكرة السيئة التي تتصورها عنه:
-حاضر.. بس عاوز أقولك حاجة.. يعني لو ده هيريحك شوية...
نظر بعمقٍ في عينيها أولاً قبل أن يتابع في ربكةٍ طفيفة:
-فأنا أسف ..


 
استغربت للغاية من اعتذاره غير المتوقع، والذي بدا غير اعتيادي بالنسبة لها، أتبع ذلك ببسمة صغيرة يشوبها القليل من الحزن، جعلته نظراتها الحائرة يزداد ربكة وتخبطًا، لماذا وحدها القادرة على قلب كيانه بشكل يجعله فاقدًا للسيطرة عليه؟ أطبقت على شفتيها ونظرت له بنظرات تتفرس فيه، أسبل عينيه ولم ينتظر ردها، وإنما استدار ليشرع في السير، ظلت مدهوشة للحظات محاولة استيعاب ما فعله للتو، أحقًا اعتذر منها؟ بررت لنفسها الأمر:
-على الأقل حد عنده دم في العيلة الغريبة دي!

هزت رأسها لتنفض تلك المسألة المحيرة عن ذهنها، ثم أحنت جسدها لتلتقط حقيبة يدها، أرادت عدت النقود التي بحوزتها لتستخدمهم في تأجير سيارة أجرة لتُقل توأمتها ووالدتها إلى المنزل، تفاجأت حين عبثت بحافظتها بالكومة الموضوعة بداخلها، أخرجتها لتنظر للرزمة المطوية وتأملتها بفمٍ مفتوح، احتدت عيناها وتساءلت في ذهولٍ:
-إيه اللي جابهم هنا؟


 
على الفور فطنت لتلك المحاولة الذكية من "تميم" لإعادة النقود لها، بالطبع استغل غفوتها المؤقتة وأعادهم، فمن غيره سيتجرأ على فعل ذلك؟ لم ترتضي بفعلته واستنكرتها بشدة، هرولت راكضة بطول الممر لتلحقه قبل أن يختفي، استوقفته عند منتصف الدرج وهي تهبط عليه بتعجلٍ منادية إياه بصوتها المنزعج:
-ثواني يا معلم.

اعتاد على تمييز رنة صوتها وسط أي جلبة، وكأن حواسه السمعية قد تم إعادة برمجتها لتتعرف عليها بسهولة، استدار بجسده نحوه، ويده لا تزال ممسكة بالدرابزون، كانت وسيلته لكبح تلك العواصف الشعورية التي تطيح بثوابته، هبطت باقي الدرجات حتى أصبحت في مواجهته، وبنظرة غاضبة سألته وهي ترفع النقود نصب عينيه:
-ممكن تقولي إيه دول؟ بيعملوا إيه هنا في شنطتي؟

أخفض نظراته نحو يدها الموجهة إليه، وبجمود يكسو تعابيره أجابها ناكرًا:
-معرفش!
قالت مباشرة غير مصدقة نكرانه المكشوف لشكها الحتمي فيه:
-إنت رجعت لي الفلوس تاني، مظبوط؟
تلك النظرات المحملة بالغضب والجراءة، بالإقدام والشجاعة أصابته في مقتل، وتلقائيًا لاحت بسمة عذبة على شفتيه حين استطرد قائلاً عن ثقةٍ ليزيدها حيرة:
-أنا خدت حقي خلاص، معرفش حاجة عن دول.

رفعت حاجبها للأعلى، وعلقت في تهكمٍ:
-والله، أومال هما رجعوا لواحدهم؟! زهقوا من أعدتهم في جيبك فنطوا في شنطتي!
كانت تمتلك حسًا فكاهيًا يثير إعجابه بشكل كبير، وبصورة لا يتخيلها وحدها كانت قادرة على إزاحة أي هموم تحتل قلبه وإن كانت لا تدرك ذلك .. ظل "تميم" محافظًا على تعابيره الهادئة قبل أن يهز كتفيه معقبًا بنفس الابتسامة التي أشرقت أكثر على وجهه:
-جايز.. ما هو المال الحلال مابيضعش.

قطبت جبينها بانزعاجٍ وهي ترد بابتسامة شبه ساخرة:
-يا سلام!
خفقة مداعبة للفؤاد هزته حين لانت نبرتها وارتخى جفنيها، كانت رغم ما تمر به من ظروف قاسية متماسكة، ذات شموخ يليق بها، وبصدقٍ استطرد يمتدحها:
-وعلى فكرة إنتي بنت جدعة أوي.
حملقت فيه في اندهاشٍ، فأكمل بتنهيدة بطيئة:
-دي الحقيقة..

ثم أملى عينيه بنظرة أخيرة ساهمة لوجهها المتجهم، آه لو رأه يبتسم مجددًا مثل ليلة خطبة أختها، فتنته آنذاك بنعومتها غير المتكلفة، ضحكاتها احتلت فراغات الهواء وبقيت آثارها ترن في أذنيه كلما غاص في أحلامه المحرمة، استحوذت تلك الذكرى الجميلة على مخيلته وهو يتأملها عن كثبٍ، أفاق من تفكيره الحالم سريعًا ليستنكر بشدة شروده غير الجائز فيها، فجأة تبدلت تعابيره للوجوم، وقال منهيًا الحوار:
-أشوفك على خير.

ابتلع غصة مريرة في حلقه وهبط الدرجات بخطواتٍ متلاحقة، كأنه يفر منها قبل أن تكتشف الارتباك البائن الذي يعانيه في وجودها، لكن بقيت شفتاه ترددان في ألم يوخز صدره ويحز بشدة في قلبه:
-يا ريتني قابلتك من زمان!

عاونتها على السير بضعة خطوات حتى وصلت إلى أعتاب الغرفة، لكنها لم تتحمل المزيد، فقدت "همسة" كامل قواها وتضاعف إحساسها بالألم، لذا لجأت "فيروزة" للاستعانة بكرسي مدولب لتنقلها به إلى الخارج، وبحرصٍ واضح أجلستها عليه، وقامت بدفعها بتمهلٍ نحو المصعد، ومنه هبطت بها إلى الطابق السفلي حيث انتظرتهما "آمنة"، وما إن رأت ابنتيها حتى أقبلت عليهما، ثم هتفت تقول في حيرة:
-أنا كلمت خالك كذا مرة بس ما بيردش، هنعمل إيه دلوقتي؟

ردت "فيروزة" بسخطٍ:
-ده الطبيعي بتاعه، مش مستغربة بصراحة.
حاولت الابتسام لتخفي ضيقها، وقالت:
-ما تقلقيش يا ماما، أنا هاطلع أوقف تاكسي من على ناصية الشارع وأجيبه لحد هنا، هي كام خطوة بس هتمشيها "هموس" لحد ما نطلع برا.
ثم مالت على توأمتها تستأذنها:
-معلش يا قلبي هتعبك.
ردت "همسة" بوهنٍ:
-المهم أرجع البيت!
قبلتها والدتها من رأسها، وأضافت مؤكدة:
-هانت يا حبيبتي، فات الكتير، كلها شوية ونبقى في بيتنا.

تركتهما "فيروزة" على مقربة من الاستقبال لتخرج بخطوات شبه متعجلة من المشفى متجهة إلى الطريق الرئيسي باحثة عن سيارة أجرة مناسبة، لم تنتبه بسبب تركيزها الشديد في هذا الأمر إلى السيارة المرابطة عند الباب الرئيسي، حيث كان "تميم" ينتظر بداخلها، فقد عَلم من توأمتها مسبقًا بمسألة خروجها، وحثته شهامته على البقاء لتقديم المساعدة لثلاثتهن حتى النهاية، لمحها وهي تعدو نحو ناصية الشارع فترجل من السيارة ليناديها..،

لكنه انزعج من مناداتها باسمها علنًا، انحنى نحو المقود لينزع مفاتيحه من مكانها، ثم اعتدل في وقفته وبدأ يسير في اتجاهها لكن اعترض طريقه مصادفة "هيثم"، كان الأخير في حالة يائسة، عضلات وجهه متقلصة، نظراته غائمة، أوقفه عنوة ممسكًا به من كتفيه ليسأله بنبرته الجادة:
-"هيثم"، جاي ليه دلوقتي؟

أجابه بصوته الأجوف ونظراته مثبتة على باب المشفى:
-عاوز أطمن على "همسة" يا "تميم".
ظل متشبثًا به حتى لا يتحرك، وقال:
-مش هاينفع.
هتف بحرقةٍ ونظراته تزداد إظلامًا:
-ليه بس؟ أنا معملتش فيها حاجة؟ ليه أتاخد بذنب غيري؟

رد بعقلانية حتى لا يزيد الطين بلة بالضغط عليها في ذلك التوقيت الحرج:
-أنا عارف كل ده، بس صدقني الوضع مش مناسب للكلام.
استطاعت عيناه أن تبصراها وهي تجلس متألمة بالقرب من المدخل، هتف بلوعةٍ وقد احتبست العبرات في مقلتيه:
-هي هناك أهي، سيبني أروحلها.
أمسك بمعصمه ليحثه على التماسك وعدم الاندفاع قائلاً له بما يشبه الرجاء:
-معلش، اهدى، إنت كده هتبوظ فرصتك معاها!
دفعه بعصبيةٍ ليناديها:
-"همسة"!

وكأن قدماه ركبت الريح فركض في اتجاهها، قطع الطريق في لمح البصر، ووقف عند كرسيها يلتقط أنفاسه، تطلعت إليه في صدمة، لكنه جثا أمامها يرجوها بصوته الباكي:
-اسمعيني يا "همسة"، اديني فرصة أشرحلك اللي حصل!
ردت وهي تحاول لملمة كرامتها التي تبعثرت على يد والدته:
-معدتش في بينا حاجة
صرخ بهيسترية:
-أنا ماليش ذنب اقسم بالله، ومش فارق معايا حاجة، كل اللي عاوزه إنتي وبس!

أمسك به "تميم" من ذراعيه ليبعده عنها، وقال مبررًا:
-متأخذوناش يا جماعة، هو في حالة مش طبيعية.
هتفت فيه "آمنة" تتوسله:
-خده من هنا يا ابني، احنا مش ناقصين مشاكل، كفاية كده
عادت "فيروزة" لتتفاجئ بوجودهما فصاحت منفعلة في "هيثم" لتطرده:
-إنت بتعمل إيه هنا؟ ابعد بقى عن أختي!
التفت "تميم" يقول مبادرًا ليطمئنها:
-متقلقيش يا أبلة، أنا هامشيه، صدقيني معرفش إنه جاي تاني.

نظرت له شزرًا وبغل، ظنت أنه يقف وراء تلك المحاولة الرخيصة لاستجداء مشاعر أختها والتأثير عليها، وذلك ما ترفضه قطعيًا، تجمع غضبها على وجهها وهتفت تتهمه قاصدة كشف تضليله لها:
-إنت كداب!
رد "تميم" مدافعًا عن نفسه بصوتٍ قوي:
-إنتي غلطانة يا أبلة! موصلتش لكده!

دمدم "هيثم" بصوته المختنق مستعطفًا الجميع، ومبرئًا لساحته:
-أنا ماليش ذنب اقسم بالله، والله ما أعرف أي حاجة.
اتجهت "فيروزة" خلف توأمتها، ووضعت يدها على مسند الكرسي ثم قامت بدفعه وهي تأمرهما:
-وسعوا إنتو الاتنين..
ثم تابعت بحزمٍ:
-دي صفحة اتقطعت من حياتنا.

لم يشعر "هيثم" بالخجل من نفسه وهو يستجديها، ليبذل أقصى ما يستطيع حتى تقتنع بمشاعره الصادقة، لذا اعترض طريق سيرها، وانحنى بغتة على الكرسي ليوقفه بقوته المتشنجة من مسنديه، شهقت "همسة" في قلقٍ من اقترابه الشديد منها، وحدقت فيه بعينين تائهتين، بينما نظر مباشرة في عينيها معترفًا لها بأنفاس مضطربة:
-أنا عاوزك إنتي، ومش فارق معايا حد غيرك إنتي وبس.

التفتت ناظرة إلى والدتها في خوفٍ، واستنجدت بها:
-ماما خليني أمشي من هنا.
وضعت "آمنة" قبضتيها على ذراعه محاولة انتزاعه، وهتفت بصلابةٍ
-وسع يا ابني لو سمحت.
اقترح "هيثم" بصوته اللاهث محاولاً معها حتى الرمق الأخير:
-طب تعالي هنوصلك بدل بهدلة المواصلات..
والتفت برأسه نحو "تميم" متابعًا باقي جملته:
-"تميم" ابن خالتي هنا، والعربية آ....
قاطعته "فيروزة" بصرامة وعيناها تطلقان شرارات الغضب:
-مش هايحصل، ابعدوا عننا!

قالتها ونظراتها ارتكزت على "تميم" الذي لم ينقصه إلا وجود ذاك السمج ليكتمل غيظ يومه، حيث كان "آسر" في تلك الأثناء يخترق البوابة حاملاً باقة من الورد بين ذراعيه، لفت أنظاره التجمع القريب منه، لكن وحدها كانت محط اهتمامها، هندم نفسه، وصاح مناديًا وهو يدنو مبتسمًا منها:
-آنسة "فيروزة".

سدد له "تميم" نظرة نارية محتدة، وتقلص وجهه بشكلٍ عظيم وهو يمر بجواره .. تفاجأت "فيروزة" بحضوره كالبقية، رفرف جفناها بشكلٍ لا إرادي غير مرحب به، واحتفظت ملامحها بتأففها، لعقت شفتيها ورددت:
-أستاذ "آسر".
مرر نظراته على المتواجدين، وبلطفٍ لزج أزعج "تميم" تحديدًا استطرد يقول:
-الحمدلله إني لحقتكم، حمدلله على سلامة أختك يا آنسة "فيروزة".

ثم انحنى على أختها ليناولها باقة الورد وتلك الابتسامة الصغيرة مرسومة على محياه، وضعتها "همسة" في حجرها ونظرت في حيرة إلى توأمتها قبل أن ترد الأخيرة عنها:
-الله يسلمك.
أشار "آسر" بيده للخلف متابعًا بودٍ غريب قاصدًا به "آمنة":
-أنا معايا العربية، اتفضلي يا أمي أوصلك.
اعترضت "فيروزة" فورًا:
-شكرًا، مش محتاجين عربية، أنا جبت واحدة خلاص.
أصر عليها وقد أسبل نظراته عليها:
-والله ما ينفع يا آنسة "فيروزة"، مش هاقبل بالرفض، دي حاجة بسيطة خالص...

وقبل أن تعارضه تابع موجهًا حديثه إلى والدتها حتى يقنعها فتضغط على البقية بالقبول:
-وبعدين حضرتك يا حاجة بتفكريني بوالدتي الله يرحمها، يعني مقدرش أسيب أمي في موقف زي ده، أنا كده مش هاكون مبسوط، العربية موجودة، وأنا مش هاتعب في أي حاجة.

ظهرت علامات التردد على "آمنة"، ونظرت في حيرة إلى ابنتها التي رمقتها بنظرة تخبرها فيها بإعلامه برفضها، لكن الحالة المؤلمة التي كانت عليها "همسة" أجبرتها على الاختيار، فقالت مستجيبة لاقتراحه:
-خلاص يا "فيروزة"، مش هيجرى حاجة، خلي الأستاذ يوصلنا.
انفرجت أسارير "آسر" وهتف في سعادة:
-اتفضلوا..

ثم بلباقةٍ واضحة عليه استأذن من "فيروزة":
-عن إذنك، أنا هازوئها، كفاية إنتي تعبانة طول اليوم معها.
لم يمهلها الفرصة للاعتراض عليه، أزاحها برفقٍ بوضع يديه على مقبضي الكرسي مما اضطرها لسحب كفيها والابتعاد عنه .. تابع كلاً من "هيثم" و"تميم" العرض الرخيص الذي قام به ذلك الشخص الغريب، تصاعدت الدماء في وجه الأول واِحمر غضبًا، بينما شعر الثاني باحتقانٍ يسري في كامل أوصاله، وقبل أن يهم ابن خالته باللحاق بهم شد على معصمه ليثبته وهو يأمره بصوتٍ غلفه الضيق:
-خليك مكانك!

رد "هيثم" يسأله بغيظٍ مضاعف:
-هي رايحة فين؟ ومين اللطخ ده؟!
تنفس بصعوبة وببطء حتى لا يفقد أعصابه، ثم أردف قائلاً بخشونةٍ ونظراته تتبع "فيروزة":
-سيبهم يا "هيثم"، مش هنعمل مشكلة على الفاضي!

غمغم الأخير لاعنًا ذلك الغريب بكلمات غاضبة وقد اندلع غضبه، لكنه لم يشعر بتلك النيران التي استعرت في صدر "تميم" وانتشر لهيبها الحارق في خلاياه، وكأن ذلك التبلد الذي صاحبه طوال الفترة الماضية -قبل أن يتعرف أكثر ل "فيروزة"- قد تحول لنوع مغاير من المشاعر الغريبة، لكنها حتمًا ستلازمه كثيرًا... !!
يتبع..

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول الحلقة الحادية والأربعون والأخيرة بقلم منال سالم


أوصله إلى منزله ليضمن ابتعاده ولو بشكلٍ مؤقت عن اختلاق المشاكل، ثم تابع القيادة إلى بيته، فهناك معركة مؤجلة بينه وبين "خلود" حتما ستشعلها فور عودته .. كانت زوجته تنتمي لهذا النوع من الناس الذي لا يلوم نفسه أبدًا، المبررات متواجدة لأي كارثة ترتكبها، من وجهة نظره المحدودة كان رده في هذا الموقف العسير إلزاميًا لإيقاف سموم كلماتها القاتلة..،


 
دس المفتاح في قفله وهو يتوقع انتظارها له، صدقت توقعاته وكانت بالفعل جالسة على الأريكة في حالة تحفز واضحة .. وما إن أغلق الباب خلفه حتى انتفضت واقفة، نظرت نحوه مطولاً بنظرات يملأوها الغل، ثم سألته بغضبها المشحون لساعاتٍ في صدرها:
-خلصت اللي وراك؟ فضيت دلوقتي عشان نتكلم؟ ولا هتطنشي زي ما رمتني في الشارع ولا كأني كلبة تعرفها مش مراتك اللي ليها حق عليك؟!
نفخ مطولاً وهو يهمس لنفسه:
-اللهم طولك يا روح.
انفجرت تلومه على الفور لتنشط ذاكرته بما ارتكبه في حقها:
-طبعًا عمرك ما هتطلع نفسك غلطان مهما عملت!


 
لم ينكر أنه شعر بالخجل من نفسه، لكنها كانت كفيلة باستفزازه وتبديد أي إحساسٍ بالندم، ألقى "تميم" بميدالية مفاتيحه على الطاولة، وتابع السير عبر الردهة متجاهلاً إياها، لكنها لحقت به ولسانها الصارخ يسبقه في إلقاء التهم عليه بصورة تهكمية:
-كنت عندها صح؟ واطمنت عليها يا معلم؟ ما هي الأبلة بتاعتك أهم من مراتك اللي بهدلتها وضربتها وأهانتها عشان ترضيها!!!

لم ينقصه سوى صراحتها الفجة لتوقظ مشاعره الحانقة، رد يحذرها بخشونة وقد نفذت قواه على الصبر:
-بلاش تحوري وتهلفطي في الكلام، والأحسن خلينا نتكلم بعدين، لما نهدى احنا الاتنين.
أسرعت "خلود" في خطاها لتتجاوزه وهي في قمة غيظها، ثم وقفت أمامه ترمقه بعينين تقدحان بالغضب، امتدت قبضتها لتمسك به من ذراعه، ثم أدارت وجهها للجانب وهي تصرخ فيه:
-أحور؟ ده إنت إيديك لسه معلمة على وشي، شايف؟!!!!


 
أطبق شفتيه مانعًا نفسه من الرد عليها، كان رده عنيفًا معها، ولكنه كان الخيار المناسب -من وجهة نظره- لإخراس لسانها الطائش، هدرت تلومه بصوت مال للاختناق لتشعره بفداحة جريرته:
-وطبعًا مش ندمان! ما إنت راجل! محدش هيلومك إن عملت فيا ما بدالك..
انفجرت في نوبة بكاء لتبدو سهلة الإقناع وهي تكمل تعنيفها له:
-واحدة غيري كانت قلبت الدنيا على ضربك ليها، بس أنا طبعًا لأني غبية وبأحبك استحملت الإهانة ومافتحتش بؤي، اضربت وسكت عشان خاطرك.


 
علقت غصة مؤلمة في حلقه بتذكيرها لتهوره، وقال مبررًا على مضضٍ وهو يتحاشى النظر نحوها:
-إنتي اللي خلتيني أوصل معاكي لكده.
تحركت لتقف أمام عينيه، وهتفت بنبرة ناقمة:
-أيوه إنت الملاك البريء وأنا الشيطان الرجيم!!!
رمقها بنظرة حادة قبل أن يسألها:
-إنتي مش شايفة إنك غلطانة؟

ردت نافية بوجه مكفهرٍ:
-لأ طبعًا، أنا بأعمل زي أي واحدة مكاني تهمها مصلحة أخوها
هتف مستنكرًا تبرير وقاحتها الفجة:
-وده كلام يتقال؟ بتعايري البت بأختها اللي أصلاً متعرفش حاجة
نظرت له بقساوةٍ وهي تعقب عليه بنبرة أشد تشنجًا مستخدمة يدها في التلويح:
-وإنت الصراحة كنت ذوق على الآخر معايا، ده إنت ضربتني قصادها؟


 
التزم "تميم" الصمت وهو يراها تشير إلى صدغها الملتهف، عمدت "خلود" إلى خفض نبرتها حين تابعت بصوت يكسوه القهر:
-إنت وجعتني، وكسر قلبي اللي بيحبك.
أغمض عينيه لوهلة تاركًا إحساسه بالذنب يتغلغل فيه، واستغلت تلك النقطة ببراعة فأضافت ضاغطة عليه ليعترف بخطئه:
-إنت ليه ساكت؟ قول إنك ندمان على اللي عملته فيا؟ قول إنت البت دي تستاهل تتهزق، مش أنا مراتك حبيبتك اللي اتعامل كده.

حقًا كان تبدد أي شعورٍ يراوده بإعادة التفكير في تصرفه العنيف بكلماتها الحاقدة التي تنم عن جانب بشع مناقض كليًا لشخصيتها المستكينة، نظر لها شرزًا وبوجهٍ مقلوب، اغتاظت من سكوته فأمسكت به من ياقتيه تهزه بعنفٍ وهي تصرخ لائمة:
-رد عليا يا "تميم"؟ إنت مبسوط لما بتشوفني كده؟ ليه بتبعدني عنك؟ ليه بتعاملني زي الغريبة؟ ده أنا مراتك مش واحد صاحبك، ياخي ده إنت أصحابك عارفين كل حاجة عنك أكتر مني.


 
لم يجد بدًا من ذلك النقاش العقيم معها، لن تعترف بخطئها، ولن يظهر لها ندمه إن كان يشعر به بالفعل، وضع قبضتيه على معصميها، وأزاح يديها بعيدًا عنه ليتمكن من السير، تبعته بصوتها المنفعل تلومه بحرقةٍ:
-حرام اللي بتعمله فيا، حس بقى بيا، ده أنا بأموت قدامك، وإنت مش همك..
اكتسى صوتها بقساوة وتحدٍ سافر حين استأنفت التلميح عن قصدٍ:
-أنا لو كنت مكانك، وبأكلم واحد غيرك ومن وراك، تفتكر كنت هتسمح ب آ....

لم يطق كلماتها النارية التي أشعلت حميته الذكورية فاستدار هادرًا بها:
-متكمليش!
نظرت له باستهجانٍ قبل أن تسأله بنفس أسلوبها المتسلط:
-الغيرة وجعتك صح؟ ولا كرامتك نأحت عليك؟
أظلمت نظراته، واخشوشنت نبرته وهو ينذرها:
-إنتي متجوزة راجل مش شرابة خُرج!

علقت بتلميح ماكر وهي تومئ بحاجبها:
-أديك مش قابل الفكرة، بس حلال ليك وحرام عليا
ثارت أعصابه بعد أن فشل في كبحها، فنهرها بلهجته القاسية:
-عارف إني غلطت، واتهورت، وخالفت عهدي معاكي، وضربت بالقلم.. بس إنتي كنتي الله ينور قالبها حريقة، لسانك زي المنشار عمال يحف في رقاب الناس، كنتي متوقعة مني إيه؟! أفضل ساكت وسايبك تسوئي فيها؟!

توترت نظراتها مع ارتفاع نبرته واحمرار وجهه، وتشجعت قائلة بجحودٍ:
-لكن تضربني عشان ترضي الصايعة دي، ومراتك اللي ضحت بعمرك واستنتك سنين مش مهم تموت بغيظها! رد عليا أنا كلامي صح؟!
توحشت نظرات "تميم" وهتف معبرًا عن تفكيره نحوها بصورة مُشككة فيها:
-مش دي "خلود" اللي أنا اتجوزتها، مش دي البني آدمة اللي بتحبني، أنا شايف قدامي واحدة تانية، نسخة من خالتي، ده لو مكونتش أسوأ منها!

خفق قلبها ارتعابًا من طريقته الغريبة في الحديث معها، وكأنه يظهر لها ندمه على ارتباطه بها، تنفس بعمقٍ وأضاف:
-ولما جيت اتجوزتك كان برضايا، قدرت فيكي انتظارك ليا بعد سنين الغَبرَة دي كلها، فبلاش كل شوية تحسسيني إنك عملتي معايا جميلة، وضحيتي وشبابك ضاع عشاني، يا ستي كنتي سيبيني يوم ما اتحبست، والله ما كنت هالومك زي دلوقتي، على الأقل ساعتها كنا ريحنا بعض، وجايز مكوناش وصلنا لكده النهاردة، إنك تعايري غيرك باللي بتعمليه.

امتلأت مقلتاها بالعبرات سريعًا، لم تقاوم انسيابها، تركتها تغرق وجهها وسألته بصوتٍ ما زال يلومه:
-بقى دي جزاتي في النهاية؟ هو ده مقابل حبي ليك؟
رد بجفاءٍ:
-الجواز مش كله حب يا "خلود"، في مشاكل كل يوم هاتقابلنا، واللي بيحب بجد مش هيأذي حبيبه!

ارتمت في أحضانه ومرغت رأسها في صدره وهي تبكي، لفت ذراعيها حول خصره وحاولت ضمه إليها، لكنه كان كالصخر جامدًا لا يظهر عليه التأثر بدموعها المذروفة، خرج صوتها متقطعًا وهي تتسول مشاعره المفقودة:
-أنا بأحبك، ومستعدة أسامحك بس تفضل ليا، أنا معرفتش في حياتي إلا إنت.

لم يشعر بدفء جسدها المغري، بدا كالشوك بالنسبة له، وبهدوءٍ أخفى خلفه كومة من المشاعر الحانقة انسل من بين أحضانها، وأبعد ذراعيها عنه كأنه ينبذها، ثم تحرك مبتعدًا وقال بنبرة مليئة بالجفاء:
-"خلود" أنا تعبان.

لم يذهب إلى غرفة نومهما، بل غير وجهته لغرفة النوم الأخرى موصدا الباب خلفه، أراد الانعزال عنها لبضعة أيام، ليهدأ كلاهما، لكنها لم تتحمل جفائه، شعرت بدمائها تغلي للفظه المتعمد لتيار حبها المتدفق، لحقت به وقبضت على المقبض محاولة فتح الباب، لكنها فشلت، فكورت قبضتها وطرقت عليه بعنفٍ مواصلة صراخها اللائم:
-ماشي يا "تميم"، بس خليك فاكر إنت بتظلمني إزاي.
أتاها صوته من الداخل يقول ببرود استثار أعصابها التالفة:
-تصبحي على خير.
ضربت من جديد على الكتلة الخشبية وهي تغمغم بسبة خافتة، لكنها لم ولن تيأس أبدًا من تكرار المحاولة، فزوجها من حقها هي فقط.

-أنا جمبك، فمتحمليش هم أي حاجة، أنا السند ليكي يا حبيبتي.
رددت "فيروزة" تلك الكلمات المطمئنة لتبعث إحساس الأمان المفقود لتوأمتها التي تكومت على نفسها في فراشها مستسلمة لأحزانها المتكالبة عليها، مسدت برفقٍ على شعرها المنسدل، وظلت تدلك عنقها في لطفٍ حتى بدأت تشعر بالنعاس، انحنت عليها تقبلها من جبينها وهمست لها:
-إنتي وماما أغلى ناس في حياتي، ربنا يخليكوا ليا.

وما إن تأكدت من سقوطها أسيرة لسلطان النوم حتى نهضت من جوارها، وبحرصٍ واضح في خطواتها أغلقت الباب بهدوء خلفها، أنهت "همسة" ادعائها الزائف باستغراقها في النوم عندما تأكدت من خروجها، فتحت عينيها وأعادت تجسيد المشاهد المؤلمة التي مرت بها دون أن تزيح الغطاء عنها، اختبأت أسفله وتلك الرجفة تسري في جسدها، كانت أجبن من أن توافق على إجراء تحليل الهرمونات لتتأكد من شكوكها، ارتعبت من فكرة احتمالية إصابتها بالعقم، سيطر على تفكيرها ذلك الهاجس المخيف، وقالت لنفسها:
-طب افرض طلع الكلام ده حقيقة، هاعمل إيه ساعتها؟

بدأت الأفكار السوداوية تهاجمها بقوةٍ، استرسلت مع نفسها في جزعٍ:
-ساعتها مين هايقبل يتجوز واحدة زي؟ مافيش راجل هيرضى يعيش من غير عيال وخلفة يتباهى بيها؟ طب وأنا؟
بكت رغمًا عنها تاركة لإحساسها بالقهر الانتشار فيها، ارتجفت شفتاها حين اعترفت لنفسها بصوتها الخافت:
-مش هابقى أم!
انسابت دمعاتها أكثر مع تغلغل ذلك الشعور المؤلم بداخلها، كتمت أصوات شهقاتها بطرف الغطاء، ودت لو أعيدت عقارب الساعة للوراء فلم تسمع ما أذاها نفسيًا ودمرها معنويًا.

تماثلت للشفاء تقريبًا وباتت قادرة على الحركة دون ألم موخز كالسابق بعد مرور بضعة أيامٍ على عودتها للمنزل، والحق يُقال أن والدتها لم تتوانِ عن رعايتها بشكلٍ مكثف لتفيق من أوجاعها وهي في صحة جيدة، سمعت "همسة" صوت الدقات المتكررة على باب المنزل وهي تجلس بالصالة تشاهد التلفاز، فقالت من تلقاء نفسها:
-هافتح أنا يا ماما.

وبتمهلٍ خطت نحو الباب لتدير مقبضه، نظرت مدهوشة إلى الرجلين اللذين احتلا الفراغ أمامها، بدت مبهوتة بحضورهما غير المتوقع، تداركت نفسها وردت مرحبة ومشيرة بيدها حين ألقى عليها الحاج "سلطان" التحية:
-وعليكم السلام، اتفضلوا.

زيارة مفاجئة قرر أن يقوم بها الجد الكبير ومعه ابنه "بدير" لتلك العائلة لوضع بنود اتفاقية جديدة من أجل إتمام تلك الزيجة المعقدة فقط إن ارتضت "همسة" بها أو أضافت عليها بشروطها، أجلستهما في الصالون، واستأذنت بتهذيبٍ:
-هأبلغ ماما إنكم هنا.
رد "بدير" بصوته الهادئ:
-وماله، وخالك شوية وهيحصلنا ...

تبادل مع والده نظرة مفهومة قبل أن يتابع:
-أنا مبلغه قبل ما أجي.
شعرت بالتوتر الحائر يصيبها، كانت متأكدة أن للأمر علاقة ب "هيثم"، ذاك المثابر الذي لم تتوقف عن التفكير فيه لليلة واحدة، ورغم قلقها من تلك الزيارة الجادة إلا نوعًا من المشاعر الفرحة الصافية سرت فيها .. تساءلت "فيروزة" في فضولٍ:
-هو مين جه برا؟

أجابتها وهي تعض على شفتها السفلى:
-ده.. الحاج "بدير" وأبوه
تغيرت تعابيرها المرتخية حين تساءلت على مضضٍ:
-ودول جايين ليه؟ مش خلاص فضينا الموضوع
هزت كتفيها قائلة:
-معرفش
قالت "فيروزة" بنبرة عازمة:
-وأنا داخلة عندهم.
أمسكت بها "همسة" من ذراعها لتُعلمها:
-وعشان تبقي عارفة خالك جاي كمان.

امتعاض منزعج تشكل على محياها بعد أن سمعت ما قالته، زفرت معلقة عليها وقد فطنت نسبيًا لأسباب ذلك التجمع الذكوري:
-أنا كده فهمت هما جايين ليه.
مسحت "فيروزة" بيدها على مقدمة رأسها لتسوي من خصلاتها المتنافرة، وببسمة متكلفة هتفت ترحب بهما:
-شرفت بيتنا يا حاج "بدير"..
اقتربت منه لتصافحه، ثم التفتت نحو "سلطان" ترحب به بنفس ذات الابتسامة:
-إزي حضرتك يا حاج؟

أجاب الأخير في هدوءٍ:
-الحمدلله يا بنتي، احنا في نعمة ورضا من ربنا.
جلست موزعة نظراتها بينهما وهي تقول:
-منورين، خير في حاجة مهمة؟
أجابها "بدير" بغموض:
-دلوقتي هتعرفي، ماتستعجليش يا بنتي.
هتفت بنزقٍ مستخدمة يدها في الإشارة للخلف:
-أنا مجهزة الشبكة بتاعتكم، اعذرونا إن كنا اتأخرنا عشان نرجعها، و...

قاطعها في ضيقٍ:
-دي خرجت من ذمتنا من زمان.
وقبل أن تسألهما كان "خليل" يقف على أعتاب الغرفة مهللاً:
-يا مراحب بالناس الكُمل.

بالطبع حضوره سيفسد أي محاولة منها لإنهاء ما يحاول إعادته، انضمت إليهم "آمنة" وقد أعدت صينية مليئة بأكواب الشاي، أسندتها على الطاولة وقامت بتوزيعها وهي تستقبلهم بودها الدائم، اتخذت مكانها بجوار ابنتها، وقبل أن يتطرق "بدير" للموضوع الهام الذي جاء من أجله استأذن قائلاً:
-يا ريت بنتنا "همسة" تكون موجودة، لأن الكلام يخصها.
صح تخمين "فيروزة" وعبست ملامحها كليًا، تحفزت في جلستها، وكأنها تريد القتال، لكن بضغطة لطيفة من والدتها على فخذها حثتها في صمت على البقاء ساكنة ريثما يُعرف بالضبط سبب الزيارة.

اتضحت الأمور بعد نقاشٍ طويل مفصل، وعُرضت الشروط عليها لتفكر فيها مليًا قبل أن تمنحهم قرارها النهائي؛ حيث تقرر أن تقيم "همسة" في منزل صغير بعيد عن "بثينة" ومقره بالطابق العلوي ببناية الحاج "سلطان" سيتم استئجاره باسمها لمدة خمس سنوات دون أن تدفع مليمًا فيه لتكون تحت رعاية عائلة "بدير"، وبعدها يغدو ملكها، وسيتم فرشه بالأثاث الحديث، كذلك المحل الذي رغب خالها في تأجيره لأجل الإنفاق عليه وعلى أسرتها سيتم شرائه ويصبح ملكًا بالمناصفة لكليهما..،

كما ستُمنح مؤخر صداق لا بأس به إن فكرت في الانفصال لاحقًا ليغنيها عن الحاجة للآخرين، أما عن "هيثم" فإن تجرأ يومًا ومسها بسوء فالعواقب ستكون وخيمة عليه، لم تقبل "فيروزة" بكل تلك الضمانات، وهتفت محتجة:
-احنا مش في سوق عشان تبيعوا وتشتروا في أختي، للدرجادي مافيش إلا هي، ما تدورا على واحدة تانية غيرها.

رد "خليل" معترضًا وفي صوته هجوم بائن على شخصها وقد بات وشيكًا من تحقيق أحلامه:
-ومين قالك إننا بنعمل كده؟ ده جواز على سنة الله ورسوله، بنوفق راسين في الحلال، والحاج "بدير" وأبوه الله يكرمهم قايمين بالواجب وزيادة، نرفض احنا ليه؟
قالت بنبرتها الساخرة وهي ترمقه بنظرة احتقارية يستحقها:
-ده لما تكون "همسة" شبه قريبهم ومنسجمين مع بعض، لكن ده لا فكر ولا حتى تعليم، يعني من الآخر ماينفعوش بعض أبدًا، وما تأخذنيش يا خالي، احنا كده بنرميها عشان الفلوس.

قبض على ذراعها يشدها منه في غيظٍ:
-إنتي اتهبلتي يا بت، بنرميها إزاي يعني؟ خطيبها شاريها وعايزها بشنطة هدومها، محدش غصبه على ده!
انتزعت ذراعها من يده انتزاعًا والتفتت موجهة حديثها إلى توأمتها لتفتح بصيرتها:
-إنتي رأيك إيه يا "همسة" في ده؟ شايفة إن "هيثم" يناسبك؟ ده أمه وأخته قاموا معاكي بالواجب من غير أي حاجة، هتستحملي تعيشي مع ناس مش طايقينك، ليه تعرضي نفسك للمهانة من تاني معاهم؟ وعشان مين؟

ثم حركت رأسها نحو والدتها متابعة حديثها حتى تدعمها:
-وإنتي موافقة يا ماما ترمي بنتك لواحد الله أعلم هيعمل فيها إيه لو أمه قلبته عليها؟
صاح "خليل" عاليًا ليوقف ما اعتبره هراءاتها:
-يا شيخة الناس جايين بتقلهم ومتمسكين بيها، وأكدوا مافيش حد هيمسها بسوء.

هتفت في سخطٍ ونظراتها الحادة مرتكزة عليه:
-والمفروض أنا أصدق، "همسة" مش مروحة ولا تلاجة عشان أحط في بطني بطيخة صيفي وأطنش لأن معايا الضمان، أسفة يا خالي بس أنا مش موافقة.
كز على أسنانه بقوةٍ وعينان تطقان حنقًا منها، لم تعبأ بتهديده البائن في نظراته وملامحه، الأهم أن تطمئن على أختها، لكنها تخشبت مصعوقة في مكانها عندما نطقت "همسة" بصوتٍ أجوف نهائي:
-أنا موافقة اتجوز "هيثم"!

للمرة الثانية خذلتها وأجبرتها على أن تحني رأسها في انهزامٍ، رمقتها "فيروزة" بنظرة مقهورة مستجدية ترجوها فيها بالتراجع، لكنها أكدت من جديد بوجهٍ جليدي، وصوت ثابت، وكأن واحدة أخرى هي من تتحدث:
-أنا مش هلاقي أحسن منه ليا.

سبع سنوات عجاف مرت عليه بصعوبة شديدة خلال فترة حبسه، كان مذاق أيامه فيها كالزقوم في جوفه، لم يهنأ لليلة واحدة طوال تلك المدة التي ظن أنها لن تمضي أبدًا لطولها المستهلك للأعصاب، كانت الدقائق كالساعات، والساعات كالأيام، بصعوبة استطاع أن ينجو وسط تلك البيئة الإجرامية التي تخضبت فيها أخلاقيات البشر بأسوأ وأخطر السلوكيات المنحرفة والمهلكة للإنسانية، كانت تحميه غريزة البقاء وإن كانت على حساب الآخرين..،

المهم أن يُبقى على حياته .. وتلك الليلة كانت مجرد البداية لدوامة من التعاسة، عانى "تميم" من نفس ذلك الشعور العميق بالخوف من المجهول، حين كان يغفو بنصف عين حتى لا يُقتل غدرًا، تملكه نفس الإحساس المستنزف لأعصابه وساد لأيام متتالية قرر فيها مجافاة زوجته علها تتعلم درسها، لكنه بقي معظم ساعات الليل ساهمًا ومحبطًا، تمحص في مشاعره المتخبطة حتى وصل لنقطة أدرك فيها أنه لم يحب "خلود" يومًا، بل لم يبادلها أي نوع من المشاعر سوى تلك التلقائية الناجمة عن القرابة بينهما، لم يحبذ أن يعود لتلك الذكريات.

تقلب على جانبيه في الفراش الضيق، والذي عزز من تذكيره لحياته البائسة في السجن، ألقى "تميم" بالغطاء على الأرضية بركله بقدمه، أحس بارتفاع حرارة جسده، تضاعف توتره وانزعاجه، أطبق على جفنيه ليجبرهما على النوم، أبى كلاهما الانصياع له وظل باقيًا لوقت لا بأس به حتى تمكن منه الإرهاق وسقط في غفوة قصيرة، حينها داهمت أحلامه بوقفتها المتعالية وأنفها المرفوع للأعلى في إباءٍ تُجيد التعبير عنه، كانت كالطاووس في زهوها، شموخها، ورغبة الغير في امتلاكها، اقترب ليتفحصها عن قربٍ وهي ترتدي ذلك الثوب الحريري الأبيض الذي تحركه نسمات الهواء بانسيابية عجيبة، برزت ساقها اليسرى في إغراء مستفز فتجمدت نظراته على بشرتها الناعمة.

كان مدهوشًا بكل ما يخصها، رفع نظره ببطءٍ ليجوب على فاتنته، معذبة أحلامه ودقات قلبه تعدو بسرعة أكبر، فتلك المرة جاءته وفي عينيها تحدٍ مغرٍ، حفزت مشاعره العميقة واستدعتها ليغدو مهددًا بالسقوط صريع إغرائها الفتاك، ألحت عليه رغبة شديدة بالتمتع بها، باختراق أنسجتها، بالغوص معها في متعة لا حصر لها، بلع ريقه وتودد إليها بشكل لم يستطع السيطرة فيه على نفسه، وكأن كل حواسه ورغباته اتحدت معًا لتدفعه دفعًا لإشباع تلك النزوة المحرمة..،

مد يده خلف عنقه ليجذبها إليه، والتقم شفتيها الشهيتين بشفتيه، أحس باحتباس أنفاسه، باختناقٍ رهيب يجثم على صدره، حينئذ استفاق من أحلامه الجامحة وشفتي "خلود" تطبقان على خاصته بقوة لتحصل على قبلات مطولة عميقة، نفض جسدها المسجي عليه كالمذعور وهو يسألها بأنفاس لاهثة من فرط الانفعال:
-إنتي بتعملي إيه؟
همست بصوت بطيء ينهج:
-أنا بأحبك.. مقدرش أبعد عنك.

هبط عن الفراش وهو يكاد لا يصدق محاولتها لنيل متعتها خلال غفوته، ألقى نظرة منزعجة عليها فوجدها قد تأنقت في ثوب حريري شفاف من اللون الأصفر يظهر أكثر مما يخفي، ابتلع ريقه بصعوبة، وحاول ضبط انفعالاته غير المنتظمة ليستعيد هدوئه، زحفت "خلود" على الفراش لتنزل ساقيها من عليه، وقفت قبالته بصدرها المتهدج وتلمست ذقنه بأناملها في حركة ناعمة مغرية، أسبلت عينيها نحوه لتطالعه بنظرات مليئة برغبة جائعة، خبت نبرتها قائلة له:
-أنا عايزاك ليا وبس.

أمسك بأناملها بيده التي بدت جافة في تعامله معها، ورد متسائلاً بتجهمٍ:
-إنتي دخلتي إزاي؟
أجابت ببساطة:
-كل مفاتيح الأوض واحدة بتفتح أي باب، إنت نسيت ولا إيه؟ مش كفاية خصام؟
نفخ في ضيقٍ واضح عليه، وقال وهو يحرر أصابعها من قبضته:
-ماشي يا "خلود".
التصقت به ليشعر بنعومة جسدها عليه فتوقظ الرغبة فيه، وقالت بدلالٍ:
-أنا نفسي فيك أوي يا حبيبي، إنت وحشتني.

بالطبع لم يكن في حالة مزاجية رائقة ليتقبل منها ذلك النوع المستهلك من المشاعر المحفزة للرغبات وجذبه باستماتةٍ إلى الفراش، تنفس بعمقٍ، واستطرد دون أن يجرحها:
-بعدين يا "خلود"، أنا تعبان ومش قادر.
تحولت نبرتها للصراخ فجأة وقد تبدلت تعابيرها الهادئة لعواصف وشيكة:
-إنت بترفضني؟ ده أنا مراتك، ومن حقي أتمتع بجوازي منك، ياخي ده أنا جاية على نفسي وبأصالحك، ولا خلاص مابقتش أنفع وآ...

قاطعها بخشونةٍ:
-إنت بتفسري المواضيع على مزاجك، قولتلك أعصابي تعبانة، مش قادر أعدي اللي حصل سواء منك أو مني كده عادي، أنا بشر وبأحس.. خلينا ناخد وقتنا.
قالت في صوت هامس وناعم لتغريه وهي تقترب منه لتمسك بيده وتجبره على تلمس مفاتنها حتى يذوب الجليد بينهما:
-وأنا عاوزة أنسيك اللي حصل ده كله.. ونبدأ من جديد.

وجد "تميم" نفسه عاجزًا عن مبادلتها أي مشاعر ولو بالإكراه، كان ناقمًا على تصرفاتها السيئة، ولم يتجاوز ما فعلته بعد، أما هي فقد كانت عاقدة العزم على ألا تتركه يهرب من مخالبها بسهولة، ستطوقه بحيلها التي تتفنن فيها لتهلك أعصابه، وتجعله خاضعًا لها ليشبع تلك النشوة الوقتية، المهم أن يكون بين يديها الليلة، لذا تدللت عليه أكثر، وشرعت في تقبيله بشغفٍ محموم، كانت متأكدة من تأثيرها عليه، حاول الهروب من حصارها فقال وهو يداعب طرف ذقنها:
-طب هاعمل لنفسي قهوة الأول، خليني أفوق كده معاكي.

كان اقتراحًا جيدًا للفرار بهدوءٍ حتى يفكر في طريقة يتخلص بها منها، هتفت "خلود" من ورائه بصوتها المغري وبأنفاسٍ حارة:
-ماشي يا حبيبي، وأنا هستناك في الأوضة التانية، متتأخرش عليا، أنا على ناري لحد ما تيجي.
اللا تعبير كان الأبلغ في الرد، لذا لم يعلق عليها واتجه إلى المطبخ وباله مشغول بالبحث عن حل سريع لينجيه من ليلة غرامية ليست في وقتها، وقف في المنتصف حائرًا، لا يعرف أين تضع لوازم إعداد القهوة...،

فتح الأدراج يفتش بتلكؤ عما يحتاجه، وكأنه بذلك يكتسب المزيد من الوقت حتى يصفو ذهنه المشوش ويصل لما يرضيه ولا يحرجها .. أحضر الكنكة، والمعلقة، وتبقى له إحضار البن وكذلك السكر، وجد ضالته في الدرج العلوي، لكن لفت أنظاره تلك الزجاجة الداكنة الغريبة والمخبأة في الخلف، مد يده ليلتقطها وتفحصها عن كثب بعينين مدققتين، تساءل في استغرابٍ حين لم يجد أي بيانات توضح ماهية الموجود فيها:
-إيه العلبة دي؟!

نزع الغطاء البلاستيكي الأبيض عنها ودلق ما فيها في راحته، اعتلته دهشة مستريبة وقد تناثرت حبات دواء زرقاء على باطن كفه، انتقى واحدة وتفحصها في اهتمامٍ متسائلاً مع نفسه، وكأنه يفكر بصوتٍ مسموع:
-غريب أوي البرشام ده! ده بتاع إيه بالظبط؟
ساورته الشكوك حول طبيعته، وبنظرة ذكية تابع حديث نفسه:
-ده لا عليه بيانات ولا اسم ولا أي حاجة!

استراب أكثر في طبيعته، لكنه لم يضع في باله أدنى احتمال بأن يكون ذاك النوع المعروف بالمنشطات الجنسية، وإن كان لونه المميز يدعو للشك، أعاد حبات الدواء للزجاجة فيما عدا واحدة احتفظ بها في راحته ليريها لها، وخرج من المطبخ وعقله يردد:
-طب هي حطاه هنا ليه؟!

احتفظ بالعلبة في جيبه حتى يتحرى عنها، وسار ومعه الحبة عائدًا إلى غرفة النوم، احتضن القرص بين سبابته وإبهامه ليتمكن من رفعه أمام عينيها متسائلاً:
-"خلود"، البرشام ده بتاع إيه؟
وكأن عقربًا سامًا لدغها في جلدها، انتفضت من رقدتها المغرية لتتطلع إليه بنظرات مرتاعة، هربت الدماء من وجهها، وقالت بتلعثمٍ:
-ده.. ده.. بتاعي.

سألها وهو يراقب ردات فعلها المثيرة للشك:
-وبيعمل إيه في المطبخ؟!
حاولت أن تستجمع نفسها لتبدو هادئة، لكن تمكن منها خوفها من اكتشاف حقيقة الدواء، ازدردت ريقها وواصلت القول كذبًا:
-دي فيتامينات عشان لما آ.. بتيجلي الظروف كل شهر.

تعقدت تعابيره وانعقد حاجباه، لم يكن مقتنعًا بما تقوله لكونه المسئول عن إحضار ما يخصها من لوازم نسائية، فتحرى أكثر منها بملاحقتها بأسئلته:
-إنتي مقولتليش عليه مع إني بأجيبلك كل حاجة من الصيدلية، ده عبارة عن إيه يعني؟
أعملت عقلها بقوة لتخرج كذبتها مرتبة مقنعة وهي تجيبه:
-ده كان من أمي، كنت بأخده من وأنا بنت.

سألها بنظرة متشككة:
-وليه مافيش عليه بيانات؟ وبعدين ما تحطيه مع باقي الدوا طالما مهم!
ارتبكت أنفاسها من أسئلته التي لا تنتهي، وأجابت بتوترٍ:
-عشان مانسهوش، ويبقى قريب مني..
ثم تصنعت الابتسام وسألته دون أن تختفي نظرات القلق من عينيها:
-وبعدين إنت شاغل بالك بيه ليه؟
دنت منه وألقت بذراعها على كتفه متسائلة في خبثٍ، ونظراتها إليه غير مريحة:
-مش إنت سايب العلبة في المطبخ؟
أجاب نافيًا:
-لأ.. دي في جيبي.

ارتجفت وقفز قلبها في قدميها رعبًا بعد جملته التي هددت بالإطاحة بكل أحلامها إن اكتشف أمر الدواء، جاهدت لتحافظ على ثباتها، ولكن اهتزت بسمتها وبدت مبهوتة مما أثار ريبته، حاولت التغطية على رجفتها وتغنجت في وقفتها لتبدو أكثر إغراءً وهي تطلب منه:
-طب هات العلبة، وأنا هاعينها مع باقي الدواء!

استشعر رنة قلق خفيفة في صوتها بالرغم من ميوعتها، وقال معاندًا:
-لأ خليه معايا، ماهو مش أي حاجة تتاخد كده وخلاص! مش جايز مُضرة، حتى لو كانت من أمك.
سيطر عليها خوفها وأصرت عليه بصوت متعصب:
-يا "تميم" دي فيتامينات، وأمي متعودة تجيبهالي.. مافيش فيها حاجة.
قال بنظرات غريبة تتفحص تباين ردات فعلها القلقة:
-وأنا روحت فين؟ خليه معايا لحد ما أجيبلك أنا زيه.

تدلى فكها السفي في ارتعابٍ أشد، حتمًا سينكشف أمره وتصبح في خبر كان، اختفى الوهج المسيطر على نظراتها ليحل الخوف كبديل عنه بشكلٍ مبالغ فيه، وببرود لم يرحها أضاف "تميم":
-أنا هاعمل القهوة، وراجع.
ردت بصوتٍ مضطرب وقلبها يخفق بتوترٍ:
-خد راحتك، أنا أصلاً حاسة إني دايخة ومش قادرة، الظاهر إن معاك حق، أنا هنام.

هز رأسه في تفهمٍ وهو يقول لنفسه بارتياحٍ:
-الحمدلله جت منك.
انتظرته حتى اختفى عن أنظارها ودارت في الغرفة بعصبية متواترة، فركت كفيها المتعرقين بذلك العرق البارد معًا، ورددت بصوتها المذعور:
-لازم أخد منه العلبة دي، واتخلص من اللي فيها النهاردة قبل بكرة، وإلا لو عرف ده إيه هاروح في داهية!
..............................................................................
لم يغمض لها جفن وبقيت ساكنة وهي تستلقي إلى جواره على الفراش تعد اللحظات عدًا حتى تتمكن من إتمام مهمتها الطارئة، أرهفت "خلود" السمع إلى أنفاسه التي بدأت تنتظم لتعلن عن استغراقه في النوم، حينها أزاحت الغطاء عن جسدها المتلبك ونهضت بتباطؤ حريص من عليه لتتجه إلى ثيابه الملقاة على مقعد التسريحة بخطواتٍ خفيفة وهي حابسة لأنفاسها، ألقت نظرة مرتعبة عليه، كان جسده هادئًا، أبعدت سترته وتلك القشعريرة الموترة تسري في بدنها، همست لنفسها لتبدد خوفها المتفشي فيها:
-مافيش حاجة هتحصل، اجمدى وانقذي نفسك.

سحبت البنطال الذي كان يرتديه ونظراتها مثبتة على وجهه النائم، ركزت كامل انتباهها على التفتيش في جيوبه باحثة عن الدواء، وجدته بسهولةٍ في جيبه الجانبي، تنفست الصعداء وطوت عليه أصابعها، وبنفس الحذر تسللت من الغرفة لتصبح في الخارج، وضعت يدها على قلبها النابض تتحسس خفقاته المتتابعة في جنونٍ، للحظة فكرت في التخلص من الزجاجة بما فيها، وبالفعل اتجهت نحو الحمام، أوشكت على إلقاء الأقراص في المرحاض لكنها تراجعت عن تلك الفكرة الطائشة في اللحظة الأخيرة، حيث أنها ستثير الشكوك أكثر فيه إن اختفت الزجاجة دون مبرر منطقي، ابتسمت لنفسها في مكرٍ، وقالت:
-طب وليه لأ؟ ما أنا أطلعه هو اللي غلطان، ويبقى أنا المظلومة في الحكاية دي!

قامت "خلود" بتبديل الأقراص المعنية بأخرى بيضاء وملونة مسكنة للآلام وبحثت عن بضعة أقراص مصبوغة باللون الأزرق لكنها لم تجد، وضعت ما جمعته في نفس الزجاجة مستبعدة أنه قد أفرغ ما فيها بالكامل لينظر في محتوياتها، ابتسمت لنفسها في انتشاءٍ وهي معتقدة أنها حققت نجاحًا باهرًا، خرجت من الحمام لتعيد وضع الزجاجة في مكانها لكنها تناست الجيب المقصود، فوضعتها في الجانب الآخر، وعادت لتتمدد على الفراش وتلك الابتسامة الشيطانية تتراقص على شفتيها.. لكنها لم تدرك اختلاس "تميم" النظرات نحوها، هنا تأكد في قرارة نفسه أنها تخفي عنه شيء ما، وفي الغد القريب سيتحرى عنه.

انتهت..
فريق مدونة يوتوبيا يتمنى لكم قراءة ممتعة
ونسعد بآرائكم وطلباتكم في التعليقات
لقراءة الجزء الثاني من راية الطاووس الأبيض : اضغط هنا

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-