رواية همس السكون كاملة بقلم فاطمة علي محمد

رواية همس السكون كاملة بقلم فاطمة علي محمد

رواية همس السكون - جميع الفصول
رواية همس السكون كاملة بقلم فاطمة علي محمد


رواية مقدمة.نشأتُ على حكايات جدتي الرائعة، كانت كتيرًا ما تُطربني بحكاية سندريللا والأمير العاشق.
فكنت على يقين بأن كل سندريللا لابد أن ينتظرها أميرها، ليُتوجها ملكةً على عرش قلبه.
إلتهمت حدقتايّ سطورًا عديدة، من روايات رومانسية، لينبثق ذلك البريق الغامض منهما.
كنت دائما بطلة تلك الروايات، أغير أحداثها بإرادتي الحرة.
عنيدة.سوف أتحداه بكامل طاقتي..... سيخضع لسلطان قلبي..... يقدم فروض العشق المتيم..... يبحث بكل السبل عن طريقة لإرضائي.... سأكون بؤرة الإهتمام.... صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة.سأكون أنا محرك الأحداث، وصانعة مصيري.
خاضعة.رومانسية، رقيقة، خاضعة لأحكام قلبي، مُلبية لجميع أوامره.....سأكون ضعيفة بين يديه.... مسلوبة الإرادة..... عاشقة حتى الثمالة....كقطعة شطرنج يحركها كيفما يشاء.. وقتما يشاء.
طفلةدائما ما أكون طفلته المدللة، التي تتعلق بعنقه رافضة التخلي عنه.متذمرة بشدة على كل أفعاله... أكانت تروق لي أو أبغضها...... سأطالبه بمزيد من الدلال.... الإعتناء.... الرعاية.... وقليلُ من الحلوى.
فأنا بإنتظار فارسي العاشق، أبحث عنه بين كل الوجوه...هل سيكون زميلي بالجامعة؟!!!أمأستاذي؟!!!سيكون جاري؟!!!أم.....
لكن... دائما ما تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن..

همس السكون الفصل الأول 

الله أكبر.. الله أكبر... الله أكبر.. لا إله إلا الله...
الله أكبر.. الله أكبر.. ولله الحمد.

الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. لا إله إلا الله..
الله أكبر... الله أكبر.. ولله الحمد.

تعالت تكبيرات عيد الأضحى بذلك الحي الهادئ، بطرقاته الواسعة، وأشجاره المصطفة على الجانبين، واجهات المباني الموحدة بألوان هادئة كسكان هذا الحي، فهم أسرة واحدة كبيرة، يتسابقون في أعمال الخير، ومؤازرة بعضهم البعض.

توافد المصلون بثيابهم الجديدة، وشذي عطورهم الذكية، ونفوسهم الطيبة، قاصدين المسجد الكبير، الرجال والشباب يحتلون الساحة الخارجية للمسجد التي يكسوها ذلك الفراش الأخضر، أما النساء والفتيات يقطنون داخل المسجد، فتلك من أهم عادات أعياد المسلمين.
تعم الفرحة والسعادة الحي بأكمله، الجميع يعايدون بعضهم البعض حتى قبل صلاة العيد، أما تلك البناية المقابلة للمسجد، بالطابق السابع والأخير بها، تتعالي صيحات "حنان":
ستوووووب
(حنان ربة منزل من الطراز الأول ، في العقد الخامس من عمرها، شُغلها الشاغل زوجها "عبد العزيز"، وإبنتها "همس" ، والفتي المشاغب "عمر" وتربيتهم تربية صالحة)

يا"همس"، إنتي يابنتي صلاة العيد هتبدي، أبوكي وأخوكي نزلوا من بدري، هتأخرينا... يلا يابنتي.

ياناس أنا مطبقة، أنا والبنات طول الليل بنجهز البلالين للإحتفال، كان هذا ما حادثت به" همس" ذاتها، ليتعالي صوتها :
حاضر ياماما هظبط الحجاب وجاية على طول

إستنونا.......
("همس عبد العزيز" في بداية العقد الثالث من عمرها، فتاة رقيقة وجميلة، مرحة وعاشقة للحياة، متيمة بأبطال الروايات، دائما ما تتخيل لقائها الأول بأميرها العاشق، في السنة النهائية بكلية الإعلام، عمر فتاها المدلل)

غادرت "همس" غرفتها المبهجة كحياتها، بألوانها الوردية، وفراشها الأبيض الذي يتوسط الغرفة، وتلك الأريكة الوردية، وخزانة ثيابها البيضاء ، ٠وتسريحتها التي تتزين بالقليل من أدوات التجميل، أما هذا الحائط المقابل لفراشها، فهو كمعرض لصورها بمراحلها العمرية المختلفة، كذلك صورها مع أسرتها الصغيرة .

لتخرج إلى تلك الردهة الواسعة التي تتوسطها طاولة كبيرة للطعام بمقاعدها العشر، تلتفت يمينا لتجد والدتها تحتل إحدى الأرائك تنتظرها بحنق، تركض همس نحوها لترتمي بأحضانها، وتقبلها بمشاكسة:
صباح الفل على عيون أحلى "نونا" في الحي.

رمقتها "حنان" بمكر : كلي بعقلي حلاوة يا بنت "عبد العزيز"، يلا إتأخرنا على صلاة العيد، عشر دقايق ويقيموا الصلاة

إبعتدت "همس" عنها قليلًا لترمقها بإبتسامة ، وتنحني على يدها مقبلةً إياها بحب :
كل سنة وإنتي وسطنا يانونا ، والسنة الجاية تكوني إنتي وزيزو في مكة.

ربتت " حنان" على كتف إبنتها بحنان، وتشدد من إحتضانها :
ويسعدك يا"همس" يابنتي، ويرزقك بإبن الحلال اللي يريح قلبك.

أومأت " همس" برأسها في أحضان والدتها :
أيوة يانونا ، عايزاه كدة زي عمر اللي في مسلسل حب للإيجار، ركزي بقا في الدعوة دي.

لكمتها "حنان" برقة :
خليكي إنتي عايشة في التركي، والروايات بتاعك،
لتشهق "حنان" بتذكر، وتهب من جلستها : الصلاة، ربنا يسامحك يا"همس".

لحقت بها" همس" بضحكاتها المرحة، وتبعت خطي والدتها بسعادة :
أوك ماما، علشان أخلص صلاة وأطلع أنا وعمر والبنات على طول.

تعالت تكبيرات الإمام للصلاة، يتبعه المصلون رجالًا ونساءًا داعين الله أن يكون عيدهم القادم بمكة المكرمة، ليتم الإمام ركعتي العيد، وتنتهي الصلاة، لينفض الجميع، يبدأ الشباب بجمع الفراش الذي يكسو الساحة، والفتيات بتوزيع بعض الحلوى على الأطفال.

ركضت "همس" جاذبة أيدي صديقاتها "هايدي" ( صديقة همس وزميلتها بالجامعة، تسكن بالبناية المجاورة لها، على قدر متوسط من الجمال)
و"ضحى" ( تصغر همس بعامين، بكلية التجارة جامعة القاهرة، تسكن بنفس البناية مع همس، تتمتع بقدر كبير من الجمال)
متوجهين إلى الروف العلوي للبناية أو "عالم همس" لتتعالي هتافات هذا المشاغب "عمر"
(الأخ الأصغر والوحيد لهمس، طالب بالصف الثالث الثانوي، شاب وسيم، محبوب من جميع سكان الحي)
:إستنوا هنا أنا جاي معاكوا.

صاحت" ضحي" بحماس :
بسرعة يا عمور، الأطفال مستنين زي كل سنة، يلا يا"همس"، يلا يا"هايدي".

تبعهم "عمر" راكضًا ليستلقوا جميعهم المصعد، قاصدين"عالم همس".

توقف المصعد، ليغادروه جميعا، رامقين تلك اللافتة المزينة بتلك النجوم اللامعة، لتضع "همس" المفتاح بالمكان المخصص له، وتديره يمينًا، تتنهد براحة ممزوجة بسعادتها، فهذا عالمها الخاص، تدفع الباب بهدوء، ليتسمروا جميعًا من روعة هذا العالم الذي تفوح منه رائحة الياسمين الممزوج بالفل و الورد الجوري، اللافندر، التوليب، وزهور أخرى نادرة، لتتدلي به تلك النجمات اللامعة ، تكسو أرض هذا العالم اللون الأخضر الزاهي. نعم فهذا العالم قطعة من الجنة.

إستدارت "همس" بكامل جسدها لتصبح بمواجهتهم، تجوب بحدقتاها ملامحهم الذاهلة، تحرك يدها بهدوء أمامهم، مردفةً:
إيه؟ روحتوا فين؟!!

أغمضت "هايدي" عيناها وفتحتها مرات عديدة، لتتنفس بعمق فتستنشق ذلك الشذي بهيام، قائلةً:
دي حتة من الجنة يا "همس".

أردفت "ضحي" بشرود:
حقك ماتدخليش حد "عالم همس"، وتمنعينا كلنا من إستخدام الروف.

ليصيح "عمر" بجدية:
تمنعكوا كلكوا آه، لكن أنا أخوها، يعني لازم أدخل الجنة دي.

رفعت "همس" سبابتها محذرة، وهي تردف:
هندخل نرمي كيس البلالين، ونخرج على طول، محدش يلمس أي حاجة، ولا يقرب من أي زهرة، فاهمين.

آومأ ثلاثتهم بهذيان :
وعد.

أردفت "همس" بقلة حيلة:
ماشي.. هصدقكم، دي أول وآخر مرة.

رمقها "هايدي" بإستنكار، مردفة:
لأ طبعًا... أومال هنرمي البلالين كل سنة منين؟!!

سحبت "همس" نفسًا عميقًا، لتزفره ببطئ :
ربنا يسهل... خلينا في العيد ده. يلا.

دلفوا جميعًا إلى "عالم همس"، ذلك المكان الواسع بمساحة البناية كاملةً، ماعدا تلك الغرفتين الجانبيتين، فهو حديقة زهور جميلة، وزاهية، وبعضها زهور نادرة، مزينة بتلك النجمات المضيئة، لتكسو عالمها بالغموض.

إلتقطوا ذلك الكيس العملاق من الأرض، ليرفعوه جميعا أعلى سور الروف، ويفتحوا طرفيه، لتتطاير البالونات الملونة فتغطي سماء الحي. قفز الأطفال رافعين أذرعهتم بسعادة لإلتقاط البالونات، ورفع الجميع أعينهم بسعادة، مبتسمين لتلك الحورية التي تتفنن في إسعاد الجميع.

ربنا يسعدها يا"عبد العزيز" يا أخويا زي مابتسعد الأطفال دي كل سنة.

أجابه "عبد العزيز " بإبتسامة إمتنان:
ربنا يخليك يا"محمود" ياأخويا.

(محمود الأخ الأكبر لعبد العزيز، طيب وعطوف، لكن زوجته هي المسيطرة، والد قاسم هذا الشاب المستهتر الطالب بكلية تجارة من ٦ سنين. )

همس" قاسم" بخفوت :
أيوة ده أحسن وقت ألمح فيه لعمي "عبد العزيز" على موضوع "همس"

فأردف بخبث :
"همس" بقت عروسة ياعمي، المفروض تبطل لعب العيال ده.

رمقه "عبد العزيز" بإبتسامة مستنكرة :
لعب عيال إيه يا ابني؟!
أنت مش شايف الأطفال حواليك مبسوطة وفرحانة إزاي؟

قطع حديثهم "حاتم" (شاب وسيم، متواضع ، خلوق، إنضم للحي حديثًا هو وزوجته، بالبناية المقابلة لبناية عبد العزيز)
: كل سنة وحضرتك طيب يا عم "عبد العزيز"، والسنة الجاية تكون على جبل عرفات يارب.

صافحه "عبد العزيز" بحرارة وبشاشة :
وأنت طيب يا "حاتم" ياابني، آمين يارب، ونكون صحبة يارب.

إلتفت "حاتم" حوله بسعادة لسعادة الأطفال:
ماشاء الله الأنسة "همس" قدرت تفرح الأطفال، ربنا يفرحك بيها.

رمقه "قاسم" بتحفز مردفًا :
نعم؟!! ... والمطلوب إيه يعني؟!

قاطعه "عبد العزيز" بحنق :
ده أستاذ "حاتم" منقول جديد للحي وهو والمدام.

إنفرجت إبتسامة "قاسم"، فأردف بحفاوة:
أهلا وسهلا يا أستاذ "حاتم" ، نورت الحي.

أومأ "حاتم" بإقتضاب، مردفًا:
ميرسي.... وإلتفت نحو "عبدالعزيز" مبتسمًا :
عيد سعيد ياعمي.. بعد إذنك.

غادر "حاتم" هامسًا بتهكم :
لا خوفت ياواد... أعوذبالله دا أنت عيل سمج، مش عارف ده إبن أخو الراجل الطيب ده إزاي؟... ، وإزاي قريب الملاك دي؟!!...
ليرفع عيناه لأعلى رامقًا "همس" بإبتسامة فخر، مكملًا بتساؤل :
و قريب "عمر" السكر ده إزاي؟!! .

يلا نطلع نفطر ونقعد فوق لحد ميعادنا مع الجزار:
هذا ما تفوه بها" عبد العزيز".

ربتت "محمود" على كتف شقيقه بود :
يلا يا "أبو همس"، "أم قاسم" طلعت فوق مع "أم همس" عشان يحضروا الفطار، علشان بعد ما ندبح أروّح على طول، الواحد حاسس بشوية تعب.

أردف "عبد العزيز" بقلق :
سلامتك من التعب يا حبيبي ، بس لازم تقضوا اليوم كله معانا، وعلى آخر النهار إبقوا روحوا.

"قاسم" برجاء:
أيوه يابابا نقضي اليوم مع" همس" ..أحممم أقصد و"عمر"، يعني معاكوا كلكم.

إبتسم "عبد العزيز" إبتسامة مصطنعة، فهو يرى "قاسم" شاب مستهتر، ليردف :
تنوروا يا ابني، ماهما أخواتك برضوا وأنت أخوهم الكبير، يلا إتفضلوا.

*********

"عالم همس"

إقتربت "هايدي" من إحدي الزهور النادرة، لتستنشقها بسعادة، مردفة :
الله يا "همس" حلوة قوي الزهرة دي ..،نوعها إيه ؟

لتركض "همس" نحوها بصدمة : ماتلمسهاش، دي زهرة رقيقة جدًا.. ودي نوع من أنواع الأوركيد.

ودي يا"همس"؟!!
: تعالي بها صوت "ضحى".

إقتربت "همس" منها بإبتسامتها العذبة : دي شقائق النعمان، ودي بيني وبينها عشق خاص، واحدة صاحبتي جابتهالي من سوريا، والتربة بتاعتها زي ماانتي شايفة تشبة للتربة الجبلية.

رمق "عمر" أخته بنظرات حب ممزوجة بفخر، ليردف بسعادة :
كويس إنك عرفتي تتفاوضي مع صاحب البيت عشان يسيبلك الروف .

زفرت "همس" بإقتضاب، مردفة:
ماتفكرنيش..... مارضيتش غير لما كل سكان العمارة وافقوا... ده غير الإيجار، طلب مبلغ كبير.

تذم فمها بإستياء مكملة :
و كتب العقد بالعافية، والأوضتين اللي ورانا دول مليش علاقة بيهم.

ليقطع حديثها صوت والدها هاتفًا بإسمها.

دفعهم برفق خارج عالمها، مردفةً :
يلا من هنا.. بابا بينادي، زمانهم جهزوا الفطار.. .. يلا قبل ما السمج "قاسم" ينقض على الأكل ويخلصه.

رمقها "عمر" بنظرات ممتعضة، ليردف : ياي... إفتكري حاجة عدلة.. دا واد دم أمه يلطش.

ليغادر الجميع قاصدين منازلهم.

*********

قصر السيوفي
.
قصر ضخم على الطراز الحديث.. بإرتفاع أربعة طوابق، حديقة شاسعة على مرمى البصر، بها ثلاث حمامات سباحة. ومرأب كبير للسيارات، وإسطبل كبير للخيول.

على حافة أحد حمامات السباحة شاب يضع إحدى يداه بجيب سرواله الجينز الأزرق، ويهاتف أحدهما بشكل حانق، نقترب منه قليلًا، لكنه يتجاهلنا :

سيدي!!!هل من نظرة؟!!

إستدار كليًّا ليرمقنا بنظرة غاضبة، ولكن وإن كنت في أوج غضبك، يشع ذلك الحُسن من وجهك، فماذا إن كنت هادئ؟!!

ماهذا التيشيرت الأبيض الذي تزينه بوسامتك وجسدك الرياضي؟!!! .
ماتلك الغابة الإستوائيه التي تزين ماستيك اللامع؟!!! ، أتلك ما تسمعي بعيون القطط؟!!!

أم أنك أقسمت أن تقتل النساء بتلك اللحية الخفيفة التي تزين وجهك؟
أستحلفك.. بلاها تلك النظرة القاتلة.
لما تفتعل كل تلك الثورة سيدي؟!!

أَ أنت.! .. "ثائر" (ثائر أحمد السيوفي، ثلاثون عامًا، رجل أعمال من الطراز الرفيع، رئيس مجلس إدارة السيوفي جروب)

ليردف بنبرة عالية بعض الشئ:
يعني برضه مصمم على اللي في دماغك، يا صاحبي؟!!! ، النهاردة العيد.. كل سنة وأنت طيب، والعيلة كلها متجمعة من غيرك، يعني سعادتنا هتبقى ناقصة.

المتصل :......

تنهد ثائر بإستسلام، مردفًا:
ماشي.. خليك براحتك، وسلم على "منة"، وأنا جايلك بكرة.

تعالت صيحاتها بسعادة:
أبيه "ثائر" الكل مستنيك على الفطار.

أومأ برأسه، قبل أن يردف :
أوك "هيا" حبيبتي
(هيا صلاح السيوفي، إبنة عم "ثائر" ذات الثمانية عشر عام، طالبة بالجامعة الأمريكية، ذات جمال راقي، هادئة الطباع، أميرة عائلة السيوفي)

إتجه "ثائر"نحوها بإبتسامته العذبة ، فيرفع يده قليلًا ليضمها إلى جانبه بحنان الأخ، مردفًا بحنو غامر :
يلا يا "يوكا"

ضمت خصره بكلتا ذراعيها، لتميل برأسها على صدره بأمان، مردفةً :
كل سنة وانت طيب يا أعظم أبيه "ثائر" في العالم.

قبّل "ثائر" رأسها بحنان :
وانتي طيبة يا أميرة عيلة "السيوفي".

ليتوجها سويا ناحية ذلك البهو العملاق، الذي تتوسطه طاولة طعام ضخمة، يحتضنها عدد كبير من المقاعد الراقية.

تترأس تلك الطاولة "فريدة" هانم السيوفي (جدة أحفاد السيوفي، بنهاية عقدها السابع من عمرها، لكنها تحتفظ بجمالها الفاتن، قاسية نوعًا ما، التقاليد عندها أولًا وأخيرًا)

إلى يمينها "نجلاء" (والدة "ثائر" و "حمزة" أحمد السيوفي، في نهاية العقد الخامس من عمرها، هي أم لجميع أحفاد السيوفي، تمتلك حنانًا يغطي العالم)

إلى جانبها "حمزة" ( حمزة أحمد السيوفي، الشقيق الأصغر لثائر، مهندس بمجموعة السيوفي، في منتصف العقد الثالث من عمره، شاب جادي لأبعد الحدود، حياته كلها العمل، والرياضة).

رمقته "فريدة" بصرامة، مردفةً بحدة:
الفطار جاهز من بدري، لازم نبعتلك حد؟!!! ، إنت عارف إن مواعيد الفطار مقدسة في البيت ده.

إقترب "ثائر" بثبات من والدته، ليقبل رأسها بحنان، مستنشقًا رائحة الأمان من قربها، ليهمس :
كل سنة وإنتي طيبة يا ست الكل.

رفعت "نجلاء" يدها لتربت على يد ولدها، ورمقته بنظرات حنونة، مردفةً :
وإنت طيب يا حبيبي، ربنا يسعدك.

جذب "ثائر" مقعده بجوار والدته، ليحتله بكبريائه وشموخه المعهودين،
لما لا وهو الحفيد الأكبر لعائلة السيوفي؟!! ، تنهد بهدوء ملتفتًا لجدته :
بس فين باقي الأسرة الكريمة يا "فريدة" هانم؟!!! ، مش شايف غيرنا هنا.

أنا هنا أهو :
هتف بها "خالد "
( خالد صلاح السيوفي، ٢٦ عام، شاب مستهتر، كل همه السفر والسهر مع الشلة، خريج جامعة أمريكية).

دائما ما يحاول كسب رضا جدته، حتى ولو بأساليبه الملتوية، لكنها دائما ما تنجح في كشف مكره
يردف "خالد" بإبتسامة:
صباح الخير"فريدة" هانم.

تركت السكين من يدها، مردفةً بغضب :
مفيش إلتزام ولا إحترام للمواعيد، دي قمة الإستهتار والتسيب،
لترفع عيناها نحو "هيا"، صائحةً بغضب جليّ:
وإنتي هتفضلي واقفة عندك كده كتير؟!!! .

حاولت "هيا" أن تستجمع شجاعتها، وقوتها ، لكن دون جدوى، ليزداد توترها أضعافًا، فتهمس بتلعثم :
أوك تيتة.. هقعد أهو.

تطايرت شرارات الغضب من مقلتاها، فصرخت حانقة :
"فريدة" هانم.... مفيش حاجة إسمها تيتة.

تجمعت الدموع بمقلتاها متحجرة ، لترمق "ثائر" بأسي، فيحتضنها بنظراته المطمئنة، والحنونة، فهو يعلم مدى رقة أميرتهم الصغيرة، فإنفرجت إبتسامة خفيفة بشفتاها ، لتجذب مقعدها المجاور لمقعد "خالد"، وتحتله بهدوء.

رمقها "فريدة" بغضب، صائحةً :
سايبة الكرسي ده فاضي ليه؟!!

ألقى "ثائر" ملعقته بغضب، هاتفًا :
أظن كلنا عارفين الكرسي ده بتاع مين...
فمكانه هيفضل مستنيه لحد مايرجع بيته تاني.

هبت " فريدة" من مقعدها بغضب، لتصيح :
وأنا قولت إنه مالوش مكان في القصر ، وعمره ما هيدخله طول ما أنا عايشة.

هب "ثائر" هو الآخر من مقعده، هاتفًا بحنق :
براحتك... بس في الحالة دي إعتبريني بره القصر، وإنسي إن ليكي حفيد إسمه "ثائر السيوفي"

ليغادر القصر بغضب جامح، فتتبعه "نجلاء " بحزن لحال أولادها، فتهتف راجيةً:
إستني يا"ثائر ".

ثبت محله، فيستدير كليا إحترامًا لوالده، مردفًا بإبتسامة ودودة :
نعم ياماما.. أوامرك يا ست الكل.

إبتسمت "نجلاء" برضا، فهي تعلم القلب الكبير وراء ذلك الثائر. إقتربت منه بحب، لتلتقط كفه بحنان، مردفةً :
حبيبي ماينفعش كده، دي مهما كانت جدتك، يعني لازم تقدرها وتحترمها، ومصير الغايب يعود.

تنهد "ثائر " براحة، فوالدته من تمتلك الحق في مراجعة قراراته، ليردف بهدوء:
تحت أمرك يا حبيبتي، هخرج شوية وهرجع آخر النهار.

ربتت على يده بحنان ، فولدها هو عمود هذه العائلة، هو أمانها ودرعها الواقي، لتهمس بود :
ماشي ياحبيبي، بس إفتكر إنك عمود القصر ده، وأنك السند لأخواتك كلهم، و بالأخص "هيا"، إنتي أمانها وضهرها لحد ما تسلمها لإبن الحلال اللي يصونها، دي أمانة عمك، ومرات عمك الله يرحمهم.

إقترب منها "ثائر" ليرفع يده أعلى رأسها فيقربها قليلًا منه، ويدمغ قبلة حانية على رأسها، مغمضًا عيناه بهدوء، هامسًا :
الله يرحمهم يارب، ربنا يخليكي لينا يا حبيبتي.

إبتعد عنها قليلًا ، ليصبح مقابلا لها، مردفًا بمحبة :
أنا همشي دلوقتي، لو إحتاجتي حاجة إتصلي بيا.

ليغادر "ثائر " متوجههًا نحو مرأب السيارات فيستقل سيارة جيب سوداء، وينطلق مغادرًا القصر.

........

منزل عبد العزيز.

أخذت " حنان" تعد للفطور أنواع الطعام المختلفة ، وتغمرها سعادة شديدة لإجتماع أسرتها، وأسرة " محمود" ببيتها، فهي دائما ما تدعو الله عزوجل أن يظل مفتوحًا بوجود" عبد العزيز" زوجها ورفيق دربها بالحياة، لتردف بإبتسامة :
خدي يا"همس" طلعي الأكل ده على السفرة.

تناولت "همس" الأطباق، وهمت بمغادرة المطبخ،
لتجد من يجذب تلك الأطباق من يدها ، لترمقه بإبتسامة متهكمة، فهي تعلم مدى سماجة هذا الكائن الذي أردف بإبتسامة :
هاتي من إيدك يا ست البنات.

جذبت "همس" الأطباق نحوها، مردفةً بحدة :
أنا هوديها يا "قاسم" ، مش تقيلة يعني!!، روح إنت إقعد مع بابا وعمي وطنط...

لتتعالي هتافاتها :
يا"عمر"كلم " قاسم" كان بيدور عليك.

إقترب "عمر" واضعًا يده أعلى كتف "قاسم"، مردفًا بسخرية :
ماتيجي تقعد مع الرجالة يا كبير، وسيب عمايل الأكل ده للستات.

أردف "قاسم" بتبرير:
بس أنا بساعد مرات عمي.

"عمر" هامسًا لذاته يابني أنا عارف إنك هنا عشان "همس"، بس ده ولا في أحلامك، دي لو هتفضل من غير جواز عمرنا ما نوافق بيك، ليبتسم إبتسامة ماكرة، مردفًا بصوت مسموع :
ياإبني ده أنا اللي إسمي إبنها، ما بساعدهاش وقاعد مع الرجالة بره،

ليجذب يده نحو الخارج بإصرار:
بس تعالي بس نقعد بره.

إستدار "قاسم" و"عمر" ليغادرا المطبخ، وإلتفت "عمر " برأسه نحو شقيقته، ليرسل لها قبلة طائرة، فتبادله "همس" القبلات الفضائية بسعادة لوجود ذلك السند بحياتها، رغم صغر سنه، لكنه رجلًا بجميع أفعاله وتصرفاته.

شردت "همس" بضيق، محدثةً ذاتها بحنق :
يخربيت كده ده أنت واد رخم، إمتى الفطار يخلص خليكوا تمشوا من هنا ؟!! ، والله لو على عمو بس يقعد العمر كله، لكن إنت وأمك لأ ولا لحظة حتى...

ليقطع شرودها نداء والدتها:
يا"همس" خدي الماية دي معاكي ياحبيبتي....، ويلا علشان نفطر.

توجت "همس" لطاولة المطبخ، لتحمل زجاجات المياه، وبعض الأكواب الزجاجية، مردفةً بإبتسامة ودودة :
عيوني يا "نونا" وأديني أخدت الماية، يلا إنتي كمان تعالي.

إتجهتا سويا قاصدين طاولة الطعام، لتردد "حنان" ببشاشة وترحاب :
إتفضل يا "أبوقاسم"، يلا "أم قاسم"، يلا ياجماعة، مش محتاجين عزومة إنتوا في بيتكم.

ليصيح "قاسم":
عزومة إيه ياطنط!! على رأيك إحنا في بيتنا.
فيرمق "همس" بنظرات إعجاب، ليجد صفعة خفيفة من "عمر" إستقرت على ظهره، مع كلمات ساخرة:
أكيد يا "قاسم" بيت عمك في مقام بيتك، مش كده يابابا؟.

رمق "عبد العزيز " ولده بنظرات مترجية، فهو يعلم مدى ضيق أولاده من إبن عمهم، ليبادله "عمر" إبتسامة خفيفة فهو أيضا يعلم مدى حب والده لشقيقه، وعدم رغبته في إزعاجه يومًا ما.

إجتمعت الأسرتان حول الطاولة بسعادة، فتجمعهما نادر الحدوث، أو حدوثه بالأعياد. تخلى "عبد العزيز " عن مقعده بطيب نفس لشقيقه، وجلس بآخر، وبدأوا يتجاذبون أطراف الحديث، ولا يخلو الجو من نكات "قاسم" السخيفة، لتهتف والدة قاسم بإبتسامة ماكرة :
ماشاء الله عليكي يا "همس" بقيتي عروسة زي القمر، وdress تحفة عليكي.

إبتسمت "همس" إبتسامة متصنعة، لعلمها مغزى حديث زوجة عمها:
ميرسي ياطنط، عروسة إية!!! لسه بدري على الكلام ده، أنا بفكر في مستقبلي وشغلي الأول.

إبتسمت "أم قاسم" إبتسامتها الخبيثة، مردفةً :
البنت مالهاش إلا بيتها وجوزها، هتعملي إية بالشغل؟!!! ، وراجل مين هيوافق إن مراته تشتغل مذيعة؟!!! .

تطايرت شرارات الغضب من حدقتاها، كادت أن تتفوه بكلمات لاذعة، لتوقفها نظرة والدها المحذرة، وكلماته الهادئة:
لسه بدري على الكلام ده يا "أم قاسم"، مستقبلها أهم.

لتلوي "أم قاسم" فمها عدة مرات متتالية، هامسةً بصوت خفيض :
مش عارفة أنتوا شايفين نفسكم على إية؟!!!
ولا هي اللي فاكرة نفسها الأميرة ديانا،.. حكم.

ليميل "محمود" نحوها، مردفًا بخفوت : ماينفعش الكلام ده، كل واحد حر في حياته.

رمقته بنظراتها النارية، لتموت الكلمات بين شفتاه، ويسعل بقوة عدة مرات ، فيناوله "عبد العزيز" كأس الماء، مردفًا بلهفة :
سلامتك يا "أبو قاسم"، إتفضل إشرب.

مال "عمر " نحو "همس" واضعًا يده أعلى فمه، ليخفي كلماته المتهكمة :
حنفي....
لتهمس "همس" بسخرية هي الأخرى : هتنزل المرادي.

رمقتهم " حنان" بنظرات عاتبة، فيقطع الأشقاء حديثهم إحترامًا لنظرة والدتهما.

ليقاطعهم رنين هاتف"عبد العزيز" فقد حان موعدهم مع الجزار لذبح أضحية العيد.

غادر "عبد العزيز"، "محمود"، "قاسم"، " عمر " المنزل متوجهين إلى الجزار لإتمام مراسم ذبح الأضحية، وتوزيعها على الفقراء والمساكين.
لتردد "حنان " بود :
نورتينا يا "أم قاسم" كل سنة وإنتي طيبة يا حبيبتي، والسنة الجاية تكوني على عرفات.

حادثت "همس" ذاتها بحنق خفيف :الموضوع شكله هيطول، وأنا هموت وأنام،
لتردف بصوت هادئ، بعدما نهضت من مقعدها :
بعد إذنك ياماما، أنا فاصلة ومحتاجة أنام.

بادلتها " حنان" إبتسامة حب، مردفةً بحنو :
إتفضلي يا حبيبتي... إنتي مطبقة من إمبارح.

لتغادر "همس" إلى غرفتها وعلامات الإرهاق تكسو ملامحها.

إعتدلت "أم قاسم " في جلستها، وعدلت من وضع حجابها بتوتر، لتربت على ساق "حنان"، مردفةً بجدية :
بقولك يا "حنان" ياختي، إيه رأيك لو ناخد "همس " لـ "قاسم"؟ وأهو إبن عمها وأولى بيها من الغريب.

حمحمت "حنان" مردفةً :
غريب إيه وقريب إيه يا "أم قاسم"!!!! ، وبعدين "همس" لسه في الدراسة، و لسه بدري على الكلام ده.

أجابتها "أم قاسم " بإبتسامة ماكرة :
بدري من عمرك يا حبيبتي، وإحنا في سنها كان عيالنا بتجري حوالينا.

أردفت "حنان" بجدية :
ده كان زمان.... الزمن إتغير، دلوقتي البنت لازم تختار حياتها بنفسها..
لتتنهد "حنان" بحنق، مكملة :
ماتقومى يا حبيبتي تريحيلك شوية في أوضة" عمر" علي ما الرجالة تخلص وترجع.

همست "أم قاسم" بتفكير عميق:
الأحسن أنام مع البت "همس" عشان أفتح الموضوع معاها، وأهو الزن على الودان أقوى من السحر....

لترفع صوتها نسبيًا :
لأ... أنا هدخل أنام في أوضة "همس".

إبتسمت "حنان" إبتسامة باهتة ، لتردف بأسف :
معلش يا حبيبتي "همس" مابتحبش حد ينام جنبها..... إتفضلي إنتي في أوضة "عمر".
لتجذب يدها برفق، متوجهة نحو غرفة "عمر "

...........

قصر السيوفي.

غادر "حمزة" طاولة الطعام بجدية، بعدما إنتهى من تناول فطوره، لتهب "هيا" من مقعدها متتبعةً خطاه بشرود، فهو ساكن الروح والفؤاد، هو معشوق الطفولة والشباب، لتهتف بإشتياق :
"حمزة".

توقف "حمزة"، ليستدير بكامل جسده فيصبح مواجهًا لها ، بنظراته الصارمة:
أيوه يا "هيا".... فيه حاجة؟!

هامت بنظراته المهلكة لها ، لتتنهد بعشق جارف ، مغمضةً عيناها بولهٍ، _يا إلهي!!!! .... فرنين صوتك يُراقص أوتار قلبي... يأخدني لعالم وردي... أنت ملكه المتوج، وأنا أميرته العاشقة.... ليتك تستشعر دقات قلبي!! ، ليتك ترى بريقي الذي يزداد لمعانًا بحضورك الطاغي!!! ، ليتك تتلمس رجفة جسدي قربك!!! _.

لينتفض جسدها بقوة ، فتعود إلى أرض الواقع فور هتافه المستنكر :
"هيا "!!! ... كنتي عايزة حاجة؟!!

لملمت "هيا" ذاتها بثبات ظاهري، يواري تلاطم ذراتها العاشقة :
أبدًا... كنت هقولك كل سنة وإنت طيب.

وإنتي طيبة حبيبتي:
كان هذا ما هتف به "خالد " بسعادة ، ليقترب منها، محتضنها بعطف وود ، فيقبل جبينها بحنو.

إلتفت نحوه بإبتسامة، فكم كانت تتمنى أن تكون تلك الكلمة مغلفةً بغلاف شفتاه الحانية، لكن _ليس كل ما يتمناه المرء يدركه_، لتردف بمشاكسة :
وإنت طيب "لودي".... وبعدين ماينفعش كده، فين العيدية؟!!! .
لتمدد يداها نحوهما بإبتسامتها الساحرة.

تعالت ضحكات "خالد" الساخرة ، ليردف مستنكرًا :
بقا "هيا السيوفي " محتاجة عيدية!!! .

إبتعدت عن أحضانه بتذمر طفولي ، فعديته لا تعنيها شئ، ولكن أي شئ يتلمسه معشوقها بأنامله تحتفظ به بالقرب من قلبها النابض بعشقه_، لتصيح بطفولية :
أيوه..! عايزه عيدية منكم إنتو الإتنين.

إلتقط "حمزة" بضع وريقات مالية من جيب بنطاله ، ليلتقط كفها فاتحًا إياه، فيضعها به، مردفًا بجدية :
كل سنة وإنتي طيبة "يوكا"، وآدي وعديتك يا ستي .

سرت تلك الرجفة اللذيذة بأوصالها، مجرد أن لمست أنامله كفها، لتتسارع ضربات ذلك الأهوج، فتتلعثم كلماتها، مردفةً :
و.... إنت... وإنت طيب.

غادر "حمزة" القصر دون إنتظار بقية كلماتها، ليتوجه نحو "السيوفي جروب"، رغم إجازة العيد، فهو لايبالي بتلك الإجازات ، فحياته لا تكتمل إلا بعمله الجاد.

تابعته بنظراتها الولهة، حتى إختفي عنها ، لتجد "خالد" يردف بجدية :
أنا مسافر يومين مع أصحابي، ما تيجي معانا يا "يوكا".

لتتنهد بألم يعتصر فؤادها ، لمغادرة معشوقها كمن يستكثر عليها بضع لحظات قربه، لتردف بحزن :
لأ يا" لودي"، سافر إنت .. أنا هطلع أوضتي أنام .

أومأ لها برأسه قبل أن يغادر لينضم إلى أصدقائه، لتبدأ رحلتهم إلى شرم الشيخ.

**********

شاطئ نيل القاهرة.

وقف "ثائر " بشموخه الراسخ، واضعًا كلتا يداه بجيبي سرواله، يتأمل تلك البواخر النيلية الصاخبة؛ بأصوات الأغاني المرتفعة، وهتافات السعادة التي تتعالي من أناسٍ بسطاء للغاية ، يمتلكون القليل من المال، ولكن أيضًا يمتلكون الكثير من السعادة، فتنهد بأسي لسعادته المفقودة، مع فقدانه رفيق دربه، ليعلو صوتًا رجوليًا ممزوج بنبرة تهكمية ساخرة :
برضه لسه بتيجي هنا يا "ثائر"!!!! .

رواية همس السكون الفصل الثاني 

شاطئ نيل القاهرة.

وقف "ثائر " بشموخه الراسخ، واضعًا كلتا يداه بجيبي سرواله، يتأمل تلك البواخر النيلية الصاخبة؛ بأصوات الأغاني المرتفعة، وهتافات السعادة التي تتعالي من أناسٍ بسطاء للغاية ، يمتلكون القليل من المال، ولكن أيضًا يمتلكون الكثير من السعادة، فتنهد بأسي لسعادته المفقودة، مع فقدانه رفيق دربه، ليعلو صوتًا رجوليًا ممزوج بنبرة تهكمية ساخرة :
برضه لسه بتيجي هنا يا "ثائر"!!!! .

بادله "ثائر" نظرة جانبية ساخرة، فمن يمتلك حق الوصول لتلك النقطة السرية، سواه هو، فهذا المكان لم يرحب يومًا بزائرين سواهما، ليردف بنفس نبرته التهكمية :
ما أنت عارف... ده المكان الوحيد اللي بشكيله همومي... لكن، السؤال الأهم؛ إنت جاي هنا ليه؟!!
اللي أعرفه إنك حليت كل مشاكلك،
وداخل على نهاية سعيدة.

رمقه بتلك النظرة الجانبية الغامضة، ليجاوبه بإبتسامة عاشقة :
ده نفس المكان اللي بيفرح معايا من قلبه،
زي ماعاش معايا كل لحظات ضعفي وألمي ووجعي، قولت آجي أطمنه عليّا.

ليسحب نفسًا عميقًا، مغمضًا عيناه بسكون ، فيزفره براحة وهدوء ، فتلك البقعة من الأرض لها سحرها الخاص، الذي يذيب همومه جميعًا، ليعود صفحة ناصعة البياض، مردفًا بثبات :
أخباره إيه ؟!!، عايش إزاي؟!...
لسه مصمم على اللي في دماغه؟

زفر " ثائر" بقلة حيلة ويأس، مردفًا :
مش شايف غيرها، ما إنت عارف لما الموضوع بيتعلق بالقلب، بيكون صعب التدخل..... عموما ده إختياره، وده قراره.

ليبتسم إبتسامة خفيفة، مكملًا :
بس برافو عليك.. شكك كان في محله، وإنتظارك كان بفايدة.

إتسعت إبتسامة ذلك المجهول بسعادة غامرة، ليرفع قبضته نحو مضخته الثائرة مردفًا بيقين :
ده... عمره ماصدق كلامها، ولا عمر دقاته نقصت دقة واحدة، بالعكس كانت بتزيد وبتأكد عشقها.

ليستديرا سويّا فيكونا بالمواجهة، بنظراتهم الغامضة، الثاقبة، فاتحين أذرعتهما بإبتسامة إشتياق، فيعانقا بعضهما بمحبة، ليردف "ثائر" بشوق :
وحشتني يا صاحبي.

شدد هو الآخر من معانقته، ليربت على ظهره برجولية، مردفًا :
وحشتني يا "ثائر".

إبتعد عنه قليلًا، ليتمسك بذراعيه بقوة ، فتعالت ضحكات "ثائر" الرجولية، مردفًا بإستنكار:
فين من آخر مرة؟!!!

ليلتفت رامقًا مياهه الغامضة بثبات وشموخ، مكملًا :
أقسمت ماتيجي هنا غير وأنت منتصر،ومحقق كل أهدافك.

إستدار نحوه بثبات وكبرياء ، رامقًا إياه بتحدٍ سافر، مردفًا :
مش هنسي ثورته يوم ماشاف ضعفي، وإنكساري.... كان زي أب هيتجنن عشان شايف إبنه ضعيف ومهزوم، فأخدت عهد علي نفسي ماجيش هنا غير عشان أفرحه بإنتصاري.

وضع"ثائر" يداه بجيبي بنطاله ، وتنهد بعمق وهدوء، لتزداد نظراته غموضًا يبخر مياهه الساكنة، مردفًا بود :
وهي عاملة إيه دلوقتي؟!!

تسارعت ضربات قلب ذلك المجهول ، فمجرد ذكر شئٍ يخصها، تتعالي صرخات فؤاده العاشق ، لتزداد إبتسامته عشقًا، وتلألأت دمعات السعادة بمقلتاه، ليهمس بحنين:
لقيت نفسها.... رجعتلي "لينا" بتاعت زمان.

ليوليه ظهره مغادرًا، خاطيًا بضع خطوات رزينة ، ليستوقفه صوت "ثائر":
"على " خليك فاكر صاحبك.

إبتسم "علي" إبتسامته الجانبية الساخرة، ليردف بمشاكسة :
"ثائر" خليك فاكر صاحبك.

فكان لقاء إستعراض قوي وغموض لفارسين حقيقين.
.............

قصر السيوفي.

الحديقة الخارجية للقصر.

جلست "فريدة" هانم على مقعدها الوثير ، لتتناول فنجان قهوتها الصباحية، ترتشفه على مهلٍ بتذوقٍ وإستمتاع، لتعيده إلي الطاولة الأمامية لها.
فترمق تلك المقابلة لها بغموض، مردفةً:
الولد ده لازم يتجوز يا" نجلاء" ، هيفضل لحد إمتى رافض الجواز بالشكل ده ؟!
فعشان كده أنا أخترت له بنت كويسه جدا، ومن عيلة كبيرة، و عزمتهم عندنا على العشا.

حمحمت " نجلاء" بتوتر، لعلمها تحكم "فريدة" وسيطرتها، وكذلك عِند ولدها ورفضه الدائم لتحكماتها، فهي دائما ما تضيع بينهما، لتردف بإرتباك:
بس.... "ثائر" عمره ماهييجي بالأمر الواقع.

هبت من مقعدها بغضب جامح ، إزداد أضعافًا لتأكدها أن ذلك "الثائر" لن يتوان في عصيانها، لتصرخ بغضب أقوي:
وأنا مابجيش بلوي الدراع، واللي أنا عايزاه هيتعمل، لو مش عاجبه يحصل إبن عمه.

انتفض قلب "نجلاء" رعبًا، فهي لن تتحمل إبتعاده عنها ولو قليلًا، كذلك لن تتخل عن أمانة شقيق زوجها، فأبنائه أمانة لديها، أقسمت أن تحافظ عليها لآخر أنفاسها، لتهب فزعة، هاتفةً بإستنكار :
إنتي بتقولي إيه يا "فريدة" هانم!!!!
إنتي عايزة "ثائر" يسيب القصر ويمشي؟!
طب وأخواته؟ !! طب و"هيا"؟ !!!
إنتي عارفه هي متعلقة بيه إزاي.

قاطعتها "فريدة" بحدة غاضبة :
ده مش شغلي.... عايزاه يبقي بالقصر؟.... يبقى يقابل الناس الليلة دي، ويوافق على الجواز، وإلا قسمًا بربي، ليخرج من القصر، ويتحرم من إخواته، وإنتي عارفة إني عملتها قبل كده، يعني مش هيفرق معايا حاجة.

تسللت إلى مسامعهما شهقات مكتومة ، فتلتفت "نجلاء" خلفها بصدمة، أما تلك المستبدة لم تحرك ساكنًا، لتركض "نجلاء" نحو تلك البائسة ، لتجدها جماد ساكن ، ودمعاتها تسيل أنهارًا متدفقة ، وتحارب لإلتقاط أنفاسها، لتردف "نجلاء" بلهفة وصدمة:
"هيا"... حبيبتي... إهدي.. خدي نفسك.

تقطعت أنفاسها، تسارعت دقاتها ، كادت أن تفقد وعيها لتجد من يتلقاها بحنان، يحتضنها برفق، ليبث إليها أمانها الذي كادت أن تفقده، فدائما هو سندها، لتستقر أعلى صدره بأمان فتستسلم لمصيرها .

حملها "ثائر" بين ذراعيه كطفلٍ صغير ، ليصعد بها ذلك الدرج الرخامي متوجهًا نحو غرفتها. يميل قليلًا نحو مقبض الباب، ليفتحه دالفًا إلى الغرفة، ويقترب من فراشها الوثير، لينحني قليلًا، واضعًا إياها برفق، ومن ثم يسحب الغطاء عليها، ويقترب من جبينها، ليدمغ قبلته الأخوية الحانية.

إلتفت نحو والدته بثبات ،و إلتقط كفها ليحتضنه بين يداه بحنو، هامسًا بغموض:
خدي بالك منها يا ماما.

ليغادر الغرفة ونيران الجحيم تتأجج بحدقتاه.

.........

شقة "عبد العزيز" .
غرفة "همس".

تململت في فراشها بتكاسل شديد ، لتفتح إحدى عيناها ببطئ، فتتسع مقلتاها بذعر من أثر الصدمة. تهب جالسة في فراشها، لتجذب دثارها نحوها جيدًا ، موارية جسدها عن تلك الأعين الثاقبة، لتصيخ مستنكرة:
فيه إيه يا طنط؟!!!!
إنتي قاعدة كده ليه؟!!!
وبتبصيلي كده ليه؟!!

إعتدلت "أم قاسم" في جلستها بفراش "همس" وإقتربت منها قليلًا، لتتراجع "همس" بجذعها الأعلى للخلف أكثر مما قبل، فتتلمس "أم قاسم" شعرها مردفةً بإبتسامة :
إيه الحلاوة دي!!!.. شعرك حلو... وانتي حلوة وإنتي نايمة، يابخت اللي هتبقى من حظه ونصيبه.

نفضت "همس" يدها عنها بعيدا، ليزداد توترها، فتهتف بإرتباك وإستنكار:
إيه الكلام اللي بتقوليه ده يا طنط؟!!
وبعدين إزاي دخلتي أوضتي؟!!
وفين ماما؟! يا ماماااااا

دلفت "حنان " إلى الغرفة بصدمة، وإستنكار من جرأة تلك السيدة، ألهذا الحد لا تحترم حرمة البيت؟!!...، لتصيح بحنق جامح:
فيه إيه يا "همس"؟!! مالك يا "أم قاسم"؟!!
كنتي عايزة حاجة؟!!، وبعدين مش قولتي رايحة الحمام!!!

لتتلعثم "أم قاسم" في حديثها :
أ... أبدًا يا حبيبتي.... كنت عايزة أنام شوية.

رمقتها "حنان" بنظرة حادة نوعًا ما، لتهتف بحدة:
طيب.. ما أنا قولتلك إدخلي نامي في أوضة "عمر"، وكمان قولتلك "همس" مابتحبش حد ينام جانبها.

هبت من مجلسها بإرتباك ، لتتعالي ضحكاتها المتوترة، فتضرب يد "نجلاء" برفق، مردفةً:
إيه ياختي؟!.. ماهي زي بنتي برضه، فيها إيه لما أنام جانبها؟

شعور قوي راود "همس" بأنها ستقتلها يومًا ما، ما كل هذا البرود يا أمرأة؟!، وما تلك السماجة التي أورثتيها إبنك؟!!!.... لترمق والدتها بنظرات راجية أن تخرجها من غرفتها.

إبتسمت "حنان" إبتسامة مصطنعة، لتومأ برأسها عدة مرات، مردفةً بإمتعاض:
أكيد ياحبيبتي...
ومن ثم تجذبها من يدها، مردفةً:
إتفضلي معايا بقا قبل الشاي مايبرد.

لتغادر "أم قاسم" أولاً، وتتبعها "حنان" بغضب قبل أن تلتفت نحو إبنتها بنظرات قليلة الحيلة، فتحرك "همس" رأسها بإبتسامة شاكرة لوالدتها لإنقاذها من تلك الدخيلة المتطفلة، وتغلق "حنان " باب الغرفة خلفها بهدوء.

زفرت "همس " بقوة وإرتياح، لتهوي بكامل جسدها أعلى فراشها مرة أخرى، وتتمنى أن تمر ساعات بقاء زوجة عمها وإبنها بالمنزل بسرعة، فقد نفذت كامل طاقتها على تحملها.

...

تناولت "حنان" و "أم قاسم" الشاي بصمت و سكون ، لتجدا من يطرق الباب بهدوء ومن ثم يفتحه ويدلف إلى الشقة، مردفًا ببشاشة :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

لتجاوبه "حنان" بإبتسامة :
وعليكم السلام، إتفضلوا.

دلف أربعتهم إلى الشقة، ليجلسوا متنهدين براحة وسعادة ، ليردد "عبد العزيز" بإبتسامة رضا:
الحمد لله..... السعادة اللي على وشوش الناس دي تساوي ملايين والله... ربنا يقدرنا كل سنة وتكون دايما في زيادة.

ربتّ "محمود" على كتف شقيقه بعرفان، مردفًا:
كتر خيرك يا خويا.. إنت اللي شجعتني على الأضحية..... الواحد كان في غفلة، مع إن الحمد لله ربنا فاتحها علينا.

ليربت "عبد العزيز " على يد شقيقه بحنو ومحبة ، فرغم كونه الشقيق الأصغر إلا أنه يشعر بمسئوليته تجاهه، لأنه يستشعر طيبته الزائده التي جعلته مطمع للجميع وأولهم زوجته، وإبنه "قاسم"، المستغلين لتلك الطيبة بما يلائم مصالحهم، فيردف بإبتسامة:
إنت الخير والبركة يا "أبو قاسم" .... ربنا يديك الصحه ياحبيبي، وبعدين أنا ماعملتش حاجة، يدوب أقترحت عليك وأنت ما إتأخرتش في فعل الخير.

ليقاطع حديثهما "عمر" بتمنى :
يا سلام على كوباية شاي من إيدك يا "نونا"، إلحقي إبنك دماغه مصدعة من الدوشة اللي كانت عند الجزار.

إبتسمت "حنان" بمحبة وود، مردفةً برضا :
الزحمة دي رزق يا إبني، ربنا يكتر من أمثالهم، ويسعدوا ناس أكتر،

لتشير بسبابتها نحو عينيها، مكملةً:
وحاضر من عيوني.. أحلى طقم شاي ليكم كلكم.

هتف "محمود " مقاطعًا :
معلش يا "أم همس" إعفينا إحنا .. يادوب نلحق طريقنا، لأني حقيقي تعبان ومحتاج أرتاح.

ويهب واقفًا :
يلا يا"أم قاسم" يلا يا "قاسم".

وقف "عبد العزيز "، "حنان"، ليردف الأول برجاء:
ما تقعدوا ياجماعة نتغدى سوا، لسه بدري.

ليربت "قاسم" على صدره عدة مرات، مردفًا بتوسل :
أه والنبي يابابا... خلينا شوية.

إسترقت "همس " السمع من خلف باب غرفتها، لتعلو ملامحها علامات الإقتضاب، وهمس بخفوت مستنكرة:
والله إنت عيل رخم..... إمتي يا أخي تمشي إنت وأمك الحيزبونة دي؟
أعوذ بالله منكم..... والنبي يابابا ما تمسك فيهم قوي، عايزة أقعد براحتي، ده الولية لقيتها فوق راسي على السرير.

لتستمع إلى أصوات فتح باب المنزل، فتفتح باب غرفتها قليلًا، وتختلس النظرات المترقبة ، حتى وجدت عمها وعائلته غادروا بالفعل، وقام والدها بإغلاق الباب خلفهم.

زفرت بقوة وإرتياح ، لتفتح باب غرفتها على مصرعيه وتنضم إلى أسرتها، مقتربة من والدها لتحتضنه بسعادة، هاتفةً:
كل سنة وأنت طيب يا بابا، والسنة الجاية إنت و"نونا" تكونوا في مكة بإذن الله .

شدد "عبد العزيز "من إحتضانها بحنان، مردفًا :
وإنتي طيبة ياقلب بابا، ليخرج ورقة مالية، هاتفًا:
ودي عديتك يا ست البنات.

لينقض عليه "عمر"، ويحتضنه بقوة، صائحًا بتذمر طفولي :
وأنا يابابا.. فين عديتي ؟!!

تعالت ضحكات "عبد العزيز "بسعادة، مردفًا:
إتفضل ياسي "عمر" عديتك أهي .

تناولها عمر بفرحة غامرة ، ليقبل يد والده بسعادة ومحبة وود.

رمق "عبد العزيز" تلك المتأملة لحالهم بحنان عاشق متيم، محتضنًا إياها بنظراته الولهه، هامسًا :
وإنتي يا "نونا" مش عايزة عدية؟!!!

لتحجب حدقتاها دمعات السعادة، وتحمد ربها سرًا على نعمة أسرتها الحنونة، مردفةً بصدق:
إنتوا عديتي يا "زيزو".

رمقت "همس" "عمر" بنظرات غامضة، ليبدأ بتقليد عازفي الكمان في حركاتهم، وتشدو "همس " بأنغام رقيقة، لتتعالي ضحكات "حنان" الخجولة، وكذلك ضحكات والدهم لسعادة أسرته الصغيرة.

.......

السيوفي جروب.

مبنى هرمي الشكل ، من الزجاح العازل، يتوسط تلك الجزيرة المنعزلة عن المنطقة السكنية، يصل إليه ذلك الجسر الخشبي المتوسط الحجم ، الذي يعبره جميع العاملين بالمجموعة للوصول إليها، إلا أصحابها الذين يعتبرونه بسياراتهم وصولًا إلى المرآب الخاص بهم .

توقفت سيارة "حمزة" بهدوء، ليترجل عنها متجهها نحو الباب الرئيسي للمجموعة.

بدت علامات الدهشة على ملامح أفراد الأمن، ليدلف "حمزة " إلى الشركة بشموخ وكبرياء عائلة "السيوفي"، مرتديِا نظارته الشمسية. يخطو بخطي ثابتة رزينة، يدوي أصدائها بالمكان الخاوي من العاملين به، حتى وصل إلى المصعد وإستقله متجهها نحو ذلك الطابق الذي يحوي مكتبه.

ثوانٍ ويتوقف في الطابق المنشود، ليغادره. بضع خطوات أخرى وكان دالفًا إلى مكتبه الراقي، (غرفة واسعة بألوانها الحادة، تتوسطها طاولة إجتماعات متوسطة ، أقصى اليسار مكتب كبير خلفه مقعد أسود جلدي، يعتلي المكتب جهاز حاسوب نقال ، وبعض الأوراق والملفات، أقصى اليمين أريكتين من الجلد البني، تتوسطهما طاولة صغيرة)

إتجه "حمزة" نحو مكتبه بخطى رزينة ، ليجذب المقعد و يحتله بإسترخاء طارحًا رأسه للخلف، و يغمض عيناه للحظات لتمر لقطات سريعة لفتاة تفترش الأرض غارقةً بدمائها ، وترفع يدها نحوه بتوسل، لحظات وتهوي جثة هامدة.

إنتفض جسده بقوة، وسرت تلك القشعريرة بأوصاله ، ليفتح عيناه بذعرٍ جليّ، فدائما ما تراوده تلك الأحداث والمشاهد الغامضة.

ليهب من مقعده بتوتر وإرتباك ، وتلك الحبيبات تزين جبينه ببذخ، ليأكل مكتبه ذهابًا وإيابًا ، مشددًا على خصلات شعره بأسي وألم

إتجه صوب حمامه الخاص، ليقتحمه بقوة ، واضعًا رأسه أسفل المياه الباردة، ليتركها تنساب أعلى رأسه بقوة وغزارة.

ليدوي رنين الهاتف بمكتبه، فينتفص جسده برعب وذعر ، و يرفع رأسه للمرآة، فيواجه نظراته الزائغة بتوتر، بقلق، بإستنكار، ويزفر بقوة، فيغادر نحو مكتبه ويجاوب على ذلك الإتصال.

إلتقط الهاتف بحنق شديد ، ليجد الإتصال قد إنتهى، وما من مجيب له، فيُلقيه على سطح المكتب بقوة غاضبة، ويهوي بمقعده في محاولة منه للإسترخاء.

لتنفتح نافذة الشرفة بقوة وتصطدم بالحائط بضجيج صاخب. يسري تيار هوائي شديد، ليبعثر أوراقه بالأنحاء،فيلمح طيف فتاة تخطو ببطئ شديد، مرتدية فستانها الأبيض، وتتطاير خصلات شعرها الأسود حولها بغموض ،و ترمقه بنظرات غامضة، غاضبة، لائمة، غير مفهومة، فترفع يدها نحوه بهدوء محاولةً جذبه نحوها بسعادة.

إنتفضت أوصاله بذعرٍ شديد، يحاول أن يستجمع كامل قوته وثباته، يتحرك من موضعه متجهًا نحوها بهدوء وترقب ، يقترب، يقترب أكثر بثبات ظاهري، تزداد نظراتها غموضًا، تحاول التقرب إليه ، كاد أن يتلمسها.

لتتعالي دقات خافتة بباب مكتبه، فيستدير نحوه للحظات، إلا أنه يلتفت سريعًا نحو الفتاة، فيجد مكتبه خاويًا، لا أثر لوجودها، سوي ذلك الشذي الغامض، يشعر بسكون الهواء، يلتفت نحو النافذة، لتتسع حدقتاه صدمة، فالنافذة مغلقة. يلتفت حوله مذهولًا، فالمكتب مُرتب والأوراق بوضعها أعلى سطح المكتب.

.........

سيارة "خالد".

قادها "خالد" بسرعة جنونية و إلى جانبه "سوزي" (فتاة مستهترة، شقراء، مغرورة، تحاول بشتى الطرق إرضاء "خالد"، كي يتزوجها)
"عماد" و"صوفي" أصدقاء "خالد" دائما مايقدمون فروض الولاء والطاعة فهو الممول الأساسي لهم ولرحلاتهم، وسهراتهم الماجنة.

لتتعالي أصوات الموسيقى الغربية، وتتمايل الفتيات معها بإستهتار شديد ، لتهتف " سوزي" مستنكرة :
غردقة إية دي اللي نروحها يا "لودي" ؟!!!
شرم كانت أحسن بكتير.

إلتفت نحوها "خالد " وجذب خصرها نحوه بوقاحة، ونظراته تجوب منحناتها بجرأة، هامسًا:
هنحضر حفلة "جينفر لوبيز" يا قطة.

تعالت صرخات الفتيات بسعادة :
"جي لو"...!!!!!

لتنهال عليه بالقبلات الوقاحة، هامسةً :
انت أحسن "خالد" في الدنيا، I Love u baby

هتف "عماد" بهذيان:
أيوة كده يا صاحبي ، حفلة "جي لو"، ورقص، وشرب، وبنات، وسهر للصبح بقا.

رمقه "خالد" في مرآة سيارته بسخرية، مردفًا:
حقك.!!!
إنت دافع حاجة من جيب أبوك ، كله من ثروة "السيوفي".

حرك "عماد" رأسه بترنح شديد، هاتفًا:
ربنا يخللينا البوص الكبير "ثائر السيوفي"
ويزود فلوسه كمان، عشان نعرف ننبسط يا صاحبي.

رمقه "خالد " بلا مبالاة، مردفًا بسخرية:
لو البوص عرف اللي بنعمله هيسحب كل حاجة، ومش هنلاقي جنيه نتفسح بيه.

لتتدخل "صوفي " بصدمة، صائحةً:
لا.. لا.. لا.... الفلوس دي هي اللي مظبطانا.
طول عمري بقولك يا "لودي" تعرفني على "ثائر " وأنا أظبطه وأتجوزه.

تعالت ضحكات "خالد" الساخرة، ليردف بتهكم :
"ثائر السيوفي " يتجوزك إنتي!!! ... أكيد بتهزري.

لتهتف "صوفي"بحنق :
ليه.. ماعجبش ؟!!

يمط "خالد" شفتاه بلا مبالاة، مردفًا:
أجمل بنات في البلد هتموت عليه، لكن هو مش شايف ولا واحدة فيهم، كتير منهم تتمنى إشارة واحدة وهتكون تحت رجله، بس هو مش فارق معاه ولا واحدة.

لتردف "سوزي" بسخرية:
الخط مشغول ولا إيه؟!! .... أكيد فيه واحدة ساكنة القلب .

أردف "خالد" بتعجب لحال إبن عمه الذي لم يشاهده يومًا بصحبة فتاة ، أو وصل إلى مسامعه يومًا أنه أحب فتاة :
عمره ماحب يابنتي، قلبه مغلق لصاحبة الصون والعفاف.

لتتعالي ضحكاتهم الساخرة، وتنطلق السيارة مسرعة نحو هدفها المحدد.

.........

قصر السيوفي.
بهو القصر.

إحتلت "فريدة" هانم مقعدها بكبرياء، تشع عيناها بتحدٍ سافر، فلديها الهاجس القاتل بالسيطرة على أحفادها، وأهمهم ذلك "الثائر" الذي يرفض تدخلها، وسطوتها.

هبط الدرج بثباته المعهود ، واضعًا يداه بجيبي بنطاله بكبرياء ، ليرمقها بتحدٍ قاتل، بأنفاسٍ منتظمة، حتى إقترب منها فأردف بشموخٍ :
أفندم!!!
عايزة إية؟!!

هبت من مجلسها، لتصبح في مواجهه، وأردفت بحدة :
تتجوز البنت اللي إخترهالك.

أردف بثباته الغامض:
ولو محصلش؟

لتتعالي نبرة صوتها ببعض الغضب:
أظن إنت عارف الإجابة!! ومتأكد إن ما عنديش عزيز، و أهم حاجة إسم العيلة.

ثار ذلك البركان الخامد وإنفجر، ليصرخ بغضبٍ جامح :
إسم العيلة!!!!
عيلة إية؟!!!
العيلة اللي ماكنش عندها جنيه واحد نشتري بية إزازة دوا ل "هيا"!!!! .
العيلة اللي حضرتك ضيعتي ثروتها بسهراتك وحفلاتك!!!!.
العيلة اللي كل قرايبنا إتخلوا عنها ورفضوا يساعدوها بقرش واحد!!!! .
العيلة اللي تعبت وحفرت في الصخر لعشر سنين علشان أرجع إسمها تاني..... علشان أعمل إمبراطورية "السيوفي" بمساعدته هو، وسهرنا طول الليل في المواني، والشوارع.
إحنا الإتنين بس، عارفه ليه؟!!!!
عشان نحافظ على إخواتنا، ونحميهم، ونعيشهم في مستوى يليق بيهم.
كنا بنستخسر في نفسنا القرش، ونقول إخواتنا أولى.
الوحيدة اللي وقفت جانب العيلة دي وسندتها هي أمي، اللي ماكنتيش موافقة على جوازها من أبويا.
فاكرة عملت إيه، وليه ؟

ليصرخ بقوة غاضبة، لو هبت على بستان لإقتلعت أشجاره من جذورها :
كان عشان خاطر "هيا" اللي بتهددي ببعدها عني.

ليرفع سبابته في وجهها محذرًا : ماتختبريش صبري، وتضغطي على نقطة ضعفي، فاهمة.

إبتسمت إبتسامتها الساخرة، لتجاوبه بتهكم:
اللي عندي قولته، عايز إخواتك، نفذ الأمر.

لقد أعطت إشارة لذلك الوحش "الثائر" ليكشر عن أنيابه، فصرخ بقوة دوت بأرجاء القصر :
مش "ثائر السيوفي" اللي ياخد أوامر من حد.
ولا يسمح لأي مخلوق على وش الأرض يهدده، ولا يهدد حد يخصني بالأخص "هيا"

لتتعالي ضحكاته الساخرة، مكملًا :
إنتي فاكرة إني مقدرش أسيب القصر ده، وأشتري قصر أكبر وأحسن منه مليون مرة، وأخد إخواتي ونعيش فيه.

ليرفع ذراعيه مشيرًا إلى أنحاء القصر :
وأسيبلك القصر ده تعيشى فيه لوحدك.

لمح "ثائر" قلقًا دفينًا بحدقتاها، فهي تعلم مقدرته على إتخاذ تلك الخطوة، ومدي قوته وصلابته، ليردف بتهكم :
مسكينة!!! ..... حاجة واحدة بس اللي مخلياني أكمل في المكان ده، يوم ما فقدها، ورحمة أبويا أخليه كوم تراب.

رواية همس السكون الفصل الثالث

نهار يوم جديد محمل بالسعادة والراحة لبعض، وربما يكون محمل بالشقاء والصدمات للبعض الآخر، فالحياة لا تُرضي جميع الأطراف.

قصر السيوفي.

أنا حرة.... اللي عايزة أعمله هعمله.....
مش فارق معايا.

أنا حرة.... اللي عايزة أعمله هعمله.....
مش فارق معايا.

أنا حرة.... اللي عايزة أعمله هعمله.....
مش فارق معايا.

ترددت تلك الكلمات بذهنه لمراتٍ ومرات عديدة، ليضغط زر السرعة أكثر وأكثر ، فيزداد لُهاثه أكثر، وتنفر عروقه بغضبٍ حانق. زينت حبيبات العرق كامل جسده بجاذبية وقوة، إشتعلت تلك الحمم البركانية بمقلتاه، لتتلاطم دقاته بإستجداء، فمجهوده الزائد تجاوز أقصى طاقتها.
مجهود إن إستمر به، فإنفجارها مؤكد لا محالة.

دقات خجولة داعبت باب الغرفة، لتخرجه من ثورته المُهلكة، فيقلل السرعة تدريجيًا، ليهتف بلهاث:
أدخل.

دلفت بإبتسامتها العذبة التي دائمًا ما تزين ثغرها الصغير، وفستانها الوردي القصير حتى أسفل ركبتيها بقليل، مطلقة العنان لشعرها البني المموج، فيفوح شذاها بالأنحاء، لتردف بعذوبة :
صباح الخير يا أبيه.

أوقف الجهاز الرياضي تمامًا، مُلتقطًا منشفته الصغيرة ليجفف جبينه بإرهاق جامح ، محاولاً ضبط تنفسه بهدوء، ويترجل عن الجهاز، ملتقطًا زجاجة مياه صغيرة، ليرتشف بعضها على مهلٍ، مبتسمًا بحنان، وأردف:
صباح الفل يا قلب أبيه، أخبارك إيه النهارده؟!! نمتي كويس؟!!

إتسعت إبتسامتها العذبة ، وتراقصت السعادة بمقلتاها، فهي إسشعرت وجوده قربها طيلة الليل، حتى إطمئن عليها، وإنتظمت أنفاسها مُعلنةً إستسلامها للنوم بعد مقاومة مُميتة منها، كي تستشعر قربه، وأمانه الذي دائما مايدفعها لمحاربة الحياة والإنتصار عليها، فأردفت برضا :
الحمد لله.... من زمان مانمتش بإسترخاء كده.... شكرًا يا أبيه.

إقترب منها بخطى هادئة ، ورفع يده نحو رأسها، ليجذبها نحوه بمحبة ، مقبلًا إياها بحنان أخوى، وأردف بود :
إنتي أختي الصغيرة يا "يوكا" ، يوم ما تحتاجيني مجرد ما تفكري بس .... تلاقيني في ضهرك... بس عايزك قوية، صلبة، ماتخفيش من أى حاجة، لأن إخواتك كلهم في ضهرك.

:أكيد طبعا كلنا في ضهرها.
إلتفتا سويا ليجدا "حمزة" بطالته الخاطفة للأنفاس، بكامل وسامته، ورجولته، بتلك الحِلة السوداء ، وشعره المنمق بجاذبية، وعبير عطره الآخاذ، فيقترب منها واضعًا يده حول ذراعيها، مكملًا بإبتسامته المهلكة لها :
دي أميرتنا الجميلة.

تعالت صيحات الإستغاثة من ذلك القلب الملهوف، طالبًا الرحمة من قُربه المهلك _ إن لم يبتعد قليلًا سأقفز من موضعي لأحتضنه بعشق، ليخمد ثورتي العارمة_.

رفعت عيناها صوبه بوله، لتتلاقي مع عيناه الآسرة لها ، فتذوب كقطعة جليد إقتربت بتهور من بركان ثائر، فإنصهرت، بل كادت أن تتبخر.

أما هو فنظراته غامضة، لم تستطع فك طلاسمها، أو الغوص في أعماقها، دائما ما كانت نظراته لها حادة ، ثابتة، جدية، ليردف بثبات :
ولا إيه يا "يوكا".؟؟

أجمعت قواها الخائرة بثبات، لتتنهد بهدوء، مردفةً:
أكيد يا "حمزة"،إنتوا دايما السند ليّا، ودايما في ضهري تقوني، وتساندوني .

لتهرب بنظراتها نحو "ثائر" بإبتسامتها المتوترة:
بعد إذنك يا أبيه، أنا هروح أشوف طنط "نجلا".

أومأ "ثائر" برأسه مرة واحدة قبل أن يردف :
إتفضلي "يوكا"، وزي ما إتفقنا.

لتركض هاربة من قربه القاتل، قبل أن تفضحها نظراتها الممزوجة بدمعاتها المتمردة.

تابعها "ثائر" بنظراته حتى إختفت عن الأنظار، ليلتفت بأنظاره نحو "حمزة"، ويردف مستنكرًا :
رايح فين بدري كده؟!!!، الساعة لسه سبعة.

زفر "حمزة" زفرة نارية، ليرمقه بنظرات غامضة، مردفًا بثبات :
رايح الشركة.

إلتهمت علامات الدهشة، الإستنكار ملامح "ثائر"، ليعقد جبينه مردفًا :
الشركة؟!!!

حمحم "حمزة" ليحول مجري الحديث، مردفًا :
خالد لسه ماوصلش؟!!

فيُجاريه "ثائر" في الحديث، لتيقنه من رغبة شقيقه في التهرب بحديثه في الوقت الحالي، وتأكده أن هناك سبب قوي وراء ذلك الذهاب المبكر للشركة:
جاي في الطريق، حضر حفلة "جي لو" واستجم يومين العيد، وأخيرا أفتكر إن له أهل يسأل عليهم.

أردف "حمزة" بضيق :
حياة "خالد " مش عجباني، سفر، وسهرات، حياة مش طبيعية، ولا عمره فكر ينزل معانا المجموعة ويساندنا في الشغل، مع إنه ذكي ومجتهد.

شرد "ثائر" بالفراغ أمامه بغموض، هامسًا بخفوت :
هيتظبط إن شاء الله.

........

غرفة "نجلاء".

إرتدت إسدالها، لتتوجه نحو سجادة صلاتها، و تقف بين يدي ربها بخشوع، مؤدية فرضها بتضرعٍ.
وما إن إنتهت من صلاتها حتى بدأت بالدعاء لأبنائها "ثائر" و "حمزة" بالهداية والتوفيق والسداد في الرأي، وأن يرزقهما الله بالزوجات الصالحات.

كما دعت الله لـ "خالد"و "هيا" كذلك بالهداية، والصلاح، وأن ينير الله لـ "خالد" له طريقه ، و يفرق بينه وبين أصدقاء السوء، وأن يثبته الله في طريق الحق، وأن يرزق "هيا" الزوج الصالح الذي يسعدها، ويكون لها خير السند.
وتشدد في دعائها ورجائها من الله أن يرد إليهم الغائب.....

قاطعتها دقاتها الخجولة، فتأذن "نجلاء" لها بالدخول، مردفةً:
أدخلي يا "يوكا ".

فتحت "هيا" الباب ودلفت إلى الغرفة بسعادة غامرة ، لتدنو منها وتجلس جوارها، فتفتح "نجلاء " ذراعيها بحنان، وتحتضنها، مربتةً على ظهرها، هامسةً :
أميرة عيلة "السيوفي" أخبارها إيه النهاردة؟

شددت "هيا " من إحتضانها، مردفةً بسعادة :
الحمد لله.. كويسة يا "نوجا" .

لتبتعد عنها قليلًا، وتدنو بجذعها واضعةً رأسها أعلى فخذها، فتسري تلك الطمأنينة بأوردتها، فرفعت عيناها نحو عينا "نجلاء" مردفةً:
عارفة يا "نوجا".... أبيه "ثائر" ماسبنيش لحد ما روحت في النوم.

داعبت "نجلاء" خصلات شعر "هيا" بحنان أم محبة، هامسةً بصوت مسموع :
ما إنتي أختهم الصغيرة يا "يوكا".....

لتهب "هيا" من موضعها ، و تجلس في مواجهة "نجلاء"، وعلامات الغضب تأكل ملامحها، فتهتف بحنق مقاطعةً كلمات" نجلاء":
إيه حكاية إخواتي اللي كلكوا بتقولوها دي؟!!
مش إخواتي يا "نوجا" !!!.. أخويا "خالد"، والتاني اللي مشي وسابني ومسألش فيا، ولا فكر في بعده هكون عاملة إية؟!!

ضيقت "نجلاء" عيناها بمكر، فهي تستشعر مدى عشقها لولدها، دائما ما ترى نظراتها الولهة له، وإشتعال وجنتاها قربه، لتردف بخبث :
ليه يا "هيا"؟!! "ثائر" مش أخوكي؟!!

حركت رأسها كثيرًا رافضةً سؤالها، قبل أن تهتف :
لأ طبعًا.... أبيه "ثائر" أخويا، وإنتي عارفة أنا بحبه إزاي، دا أنا مابحسش بالآمان غير بوجوده، وأي حاجة في حياتي برجع له فيها الأول، عشان متأكدة من حبه وخوفه عليا....

لتقاطعها "نجلاء" بذلك السؤال الماكر : و"حمزة"؟؟

راقبت تحول ملامحها إلى عاشقة، متيمة، ولهة، ببريق حدقتاها الصارخة بعشقه، وحمرة وجنتاها الخجولة، تسارع دقاتها التي تصم أذانها.
لتهمس بتنهيدة حارقة :
"حمزة".

لتقترب منها "نجلاء" بهدوء، هامسةً جوار أذنها بمكر مبطن :
أيوه "حمزة"!! .

همست "هيا" بهيام:
ده اللي كبرت معاه، وكبر عشقه جوايا كل يوم أكتر من اللي قبله، ده اللي شايفة أيامي الجاية معاه وبيه وفـ حضنه، ده النفس اللي داخل جوايا ونفسي أحبسه في صدري لآخر العمر .
"حمزة" عمري ماشوفته أخ ليا، بالعكس دايما شايفاه حبيبي....

تنهدت "نجلاء" بسعادة لإعتراف تلك العاشقة، فلطالما تمنتها زوجة لإبنها، فأردف بخفوت :
هاااا... وإيه كمان؟!!!

إنتفضت "هيا" من عالمها الحالم، لتهبط إلى أرض الواقع، مردفةً بفزع :
"نوجا"..... إنتي هنا؟!!!

لتجذبها نحوها و تحتضنها بحنان الأم، مربتةً على ظهرها، وأردفت :
للدرجة دي بتحبيه؟!!!

إنهمرت شلالاتها، وتعالت شهقاتها، مردفةً:
بحبه!!!!.. دي كلمة ماتوصفش إحساسي بيه،
بس للأسف هو مش حاسس بيا، ولا عمره هيحس، ولا هيشوف حبي وعشقي ليه، لأنه شايفني أخته وبس.

ربتت "نجلاء" على كتفها بحنو ، لكن تلك القبضة القوية إعتصرت قلبها بقسوة ، لتفر دمعة هاربة من مقلتاها، و تنهدت بقلة حيلة، فهي تعلم أنه لا سلطان على القلوب.

.......

"السيوفي جروب"

صفّ "حمزة" سيارته بهدوء، ليترجل عنها بثباته المعهود، ويخطو بخطواته الرزينة، مبتسمًا إبتسامته الخلابة مُلقي التحية إلى أفراد الأمن الذين باتوا لا يتعجبون من زياراته الغريبة، فالشركة خاوية، لم يحضر إليها أحد بعد، والوقت مازال مبكرًا على حضور أحد للعمل.

توجه نحو مكتبه بنظراته الغامضة، ودلف إليه غالقًا بابه بهدوء، ليستند بجذعه على الباب زافرًا زفرة قوية.

خطي بضع خطوات واثقة حتى وصل إلى مقعدة، فإحتله بإسترخاء، محركًا إياه يمينًا ويسارًا بتنهيدات هادئة، وأغلق عيناه بهدوء وثبات.

إنفتحت تلك النافذة بقوة لتصطدم بالحائط بضجيج صاخب، فيسري تيار هوائي شديد، مبعثرًا أوراقه بالأنحاء.

فتح "حمزة"عيناه بثبات، لم يتحرك إنشًا واحدًا، حتى لمح طيف فتاة تخطو نحوه ببطئ شديد، مرتدية فستانها الأبيض، تتطاير خصلات شعرها الأسود حولها بمشهد مفزع ، ترمقه بنظرات غامضة، غاضبة، لائمة، غير مفهومة، وترفع يدها نحوه بهدوء محاولةً جذبه نحوها بسعادة.

زفر زفرة هادئة واضعًا كفاه أعلى سطح المكتب، ليهب واقفًا بغموض، خاطيًا نحوها بخطوات ثقيلة، فيقترب منها تدريجياً، حتى أصبحت بمواجهته. رمقها بنظراته الثاقبة واضعًا يداه بجيبي بنطاله ، لحظات وتدق الباب تلك الدقات العالية، لكن تلك المرة لم يلتفت نحوها قيد أُنملة، ليشاهد إنصراف تلك الروح المُعلقة.
...........

شقة "عبد العزيز".

إجتمعت الأسرة حول طاولة الطعام ليتناولوا طعامهم بسعادة ودفء، فتتناول "همس" فطورها مسرعةً، ليردف والدها مستنكرًا :
إيه يابنتي؟!!! حد بيجري وراكي... براحة الأكل مش هيطير، خدي نفسك.

إبتلعت طعامها بصعوبة، لتلتقط كأس مياه وتتجرعه دفعة واحدة، وتبتلع كل ما بحلقها من طعام، مردفةً :
يدوب يابا ألحق عم "إبراهيم" موصياه على نوع زهور جديد، وميعاد إستلامي ليه النهارده، يعني لازم أروح بدري قبل ما حد يسبقني وياخدهم.

أردف "عبد العزيز" بإصرار:
خدي "عمر" معاكي، ماتروحيش لوحدك.

ليقاطعه "عمر" بأسف :
ياريت ياوالدي.... بس عندي درس وأتأخرت عليه والله... يادوب ألحق.
ويلتفت نحو شقيقتها، مكملًا :
معلش يا "همس"... ممكن تأجلي الميعاد.

أردفت "همس " بإبتسامتها الباشة:
ولا يهمك ياحبيبي.. روح درسك، أنا هروح عشان الميعاد مش هينفع يتأجل، وبعدين ده المشتل قريب مننا... ساعة بالكتير أكون روحت وجيت بالسلامة.

نهض "عبد العزيز" من مقعده، ليرفع ساعته مقابلة لعيناه، ويردف :
تعالي أوصلك ياحبيبتي قبل ماأروح الشغل، لسه نص ساعة على ميعاده.

نهضت "همس" مردفة بسعادة :
ثواني يا "زيزو" هجيب شنطتي وآجي .

ليعلو رنين هاتفه، لإبلاغه عن مشكله بالعمل، ووجوب إسراعه للتدخل بحلها، فيعتذر منها لعدم تمكنه من الذهاب معها أو توصيلها. :
معلش يابنتي لازم أروح الشغل حالًا.

إقتربت "همس" من والدها بإبتسامة رقيقة، لتطبع قبلتها على وجنته، مردفةً بمشاكسة:
ولا يهمك يا "زيزو"، هروح لوحدي، وبعدين إنت مخلف رجالة، وكمان ما أنا بروح الجامعة لوحدي كل يوم

لتبتعد عنه قليلًا، وترفع رأسها بتباهي، جاذبةً طرفي ياقتها بكلتا يداها، هاتفةً:
وبعدين بنتك بكرة تبقى مذيعة مشهورة، ويبقى عندي معجبين، ويشاوروا عليا ويقولوا المذيعة الشهيرة أهي، ويجيوا يتصورا معايا كمان.

قبّل "عبد العزيز " جبين إبنته برضا، وفخر، داعيا المولى عزوجل أن يحفظها ويحقق أحلامها وأمنياتها هي وشقيقها "عمر"، ويغادر متوجهها نحو عمله.

لتلملم "حنان" بقايا الطعام، مردفةً بنصح :
ماتتأخريش يا "همس "، وتليفونك على طول مفتوح، ويكون متاح، وأول ماتوصلي عند عم "إبراهيم " تتصلي بيا،
ولما تخلصي تتصلي بيا.... فاهمة.

إقتربت "همس" منها لتداعب وجنتاها بمشاكسة، مردفةً:
حاضر يا "نونا"..... أي تعليمات تانية يا باشا .

أردفت "حنان" بتفكير:
لو إفتكرت هتصل بيكي،
لتلتفت نحو "عمر" مرددةً:
وإنت برضه... تليفونك مفتوح... أكلمك ترد عليا، حتى لو في الدرس... تخلص تكلمني.. فاهم.

"عمر" بتأفف :
ياماما أنا بقيت راجل.... يعني مش صغير عشان المحاضرة دي كلها.

لتلكمه بخفه في صدره، مردفةً بضيق :
بقيت راجل على أمك يا واد.

إحتضنها "عمر" بحنان، مقبلًا رأسها، وأردف:
لو بقيت راجل على الدنيا كلها، عمري ما أبقى راجل عليكي يا ست الكل...

لتحتضن "حنان" أبنائها بسعادة ممزوجة بالخوف والترقب للقادم.

........

"السيوفي جروب"

دلف "ثائر" إلى الشركة بخطي ثابتة، واثقة، بطالتة المُهلكة، وشذاه العابق ، ليتوقف العالم به للحظات، فترمقه هذه بنظرة إعجاب شديد، لوسامته وجاذبته وغموضه ، وترمقه الأخرى بنظرات عشق ملتاع، وأخرى بنظرات حقدٍ دفين.

رمقه هذا بنظرات إعجاب لذلك العقل المدير لهذا الكيان، وآخر بنظرات غيرة وحسد لما وصل له بهذا السن الصغير،
وآخر بنظرات كارهه لإنجذاب الفتيات نحوه.
لتخرجهم دقات خطواته من خيالاتهم إلى واقعهم.

توجه نحو مصعده الخاص الذي يُقله إلى قمة الهرم، فمن غيره يستحق أن يعتلي تلك القمة؟!!!
ليتوقف المصعد به ، ويغادر قاصدًا مكتبه، فيجد سكرتيرته الحسناء بإنتظاره، فاتحةً له باب المكتب حتى دلف وتبعته إلى الداخل ، لتملي عليه التقارير الخاصة بالعمل.

وضع نظارته الشمسية، ومفاتيح سيارته أعلى سطح المكتب، ليجذب المقعد الجلدي قليلًا فاتحًا أزرار حلته، ويعتليه بكبرياء، لتبدأ "هند" ( فتاة جميلة ببداية العقد الثاني من عمرها، مخلصة في عملها، لكنها تعشق ذلك "الثائر".)
بسرد تفاصيل التقارير ومواعيد العمل والمقابلات العملية ، ولا مانع من إختلاس نظراتها العاشقة له بين الحين والآخر، إلى أن إنتهت من جميع تقاريرها.

إزدادت معالم الجدية على وجهه، فأردف بصرامة:
الإجتماع كمان ساعة، أكدي على كل المديرين، وإتصلي بأستاذ "حمزة" بلغيه إنه فيه إجتماع في مكتبي بعد عشر دقايق.

دونت "هند" تلك الملحوظات بدفترها بعملية وجدية، لتردد:
أي أوامر تانية يافندم؟

أشار لها برأسه قبل أن يردف بنفس الصرامة:
لا... إتفضلي على مكتبك... قهوتي وقهوة أستاذ "حمزة" توصل لنا قبل الإجتماع.

أردفت" هند" بعملية :
تحت أمرك يا فندم... بعد إذنك،

لتغادر المكتب بهدوء، غالقةً الباب بنفس الهدوء، وتستند على بابه مطلقةً تنهيدة حارة، وتهمس بعشق:
إيه ده!!!
بحب قمر..... بس لو يحس بيا... لكن بقالي ٣ سنين مرمية قدامه ولا عمره فكر يبصلي بصه واحدة..... مش عارفة إيه ده؟!!!... قلبه حجر، مابيحسش.

فتح "ثائر " حاسوبه ليبدأ العمل بجدية وإحترافية لا مثيل لهما.
فسنوات جهده في تأسيس ذلك الكيان لم تضع هباءًا، بل أتت ثمارها الطيبة.

رفع عيناه متأملًا ذلك المكتب، وتلك الأريكة التي لطالما جلسا عليها سويا، ليلتفت نحو تلك الطاولة التي دائما ما إحتلا طرفاها ليكملا بعضهما البعض حتى وإن كان "ثائر " هو الأقوى والأكفأ والأحق بالإدارة، ولكن هو أيضا له قوته وذكائه الخاص، لكنه تخل عن كل هذا تخل عن رفيق دربه، وشريك رحلته، وصديق عمره.

لتخرجه دقات رزينة، يليها إقتحام "حمزة" للمكتب، تتبعه "هند" بفنجاني قهوة، لتضعهما أعلى طاولة الإجتماعات بناءا على إشارة "ثائر"، وتغادر بعدها المكتب بهدوء .

توجه "حمزة" نحو مقعده على الطاولة، ليتبعه "ثائر" محتلاً مقعده هو الأخر، مردفًا بثبات :
عملت إيه؟!!!

إبتسم "حمزة" إبتسامة جانبية ساخرة، مردفًا بتأكيد:
زي ما توقعت بالظبط.

إلتقط "ثائر" قهوته ليرتشفها بإستمتاع، مكملًا حديثه:
وعملت إيه في أرض العلمين الجديدة ؟

أجابه "حمزة" بجدية:
كله تمام، والإجراءات كلها خلصت، بس لازم تسافر عشان المعاينة وتوقيع العقود، وبكده نبدأ في العمل بالمشروع بمجرد توقيع العقود وإستخراح التصاريح.

طالع "ثائر" الحاسوب أمامه، ليستخرج بعض البيانات الخاصة، ويردف :
مشروع أسوان إنتهى، والإفتتاح آخر الأسبوع، جهز نفسك عشان تسافر وتحضر الإفتتاح مع المحافظ.

هتف "حمزة" بجدية :
أوك تمام... بس عندنا مشكلة؛ الشحنة اللي مستوردنها موقفنها في الجمارك وبيماطلوا في تصاريح خروجها.

لتشتعل نيران الغضب بمقلتاه، و يضرب سطح الطاولة بقوة يداه، صائحًا :
يعني إيه بيماطلوا؟!!!
أومال ساعة القبض مابيماطلوش ليه؟!!! ، ده أنا بدفع فلوس عشان آخد حقي، وأنجز مصالحي..... عمومًا إتصل برجالتنا في الجمارك خليها تخلص الموضوع ده.

ليضيق عيناه بغموض، هامسًا بخفوت: وبعدين نبقى نشوف حل... أكيد فيه حد بيلعب من ورانا، وقاصد يعطلنا!

..........

غادرت "همس" منزلها لتستوقف سيارة أجرة تقلها إلى مشتل الزهور (هو مكان متخصص لإنتاج وإكثار نباتات الزينة والزهور المختلفة) ، لتحضر الزهور التي إتفقت عليها مع "إبراهيم "، بعد قرابة الربع ساعة، تتوقف السيارة، لتترجل عنها بعدما أعطت السائق أجره الذي طلبه.

خطت بضع خطوات، وهبطت عدة درجات إلى أن وصلت إلى جنة من الزهور، فأخذت تستنشق عبيرها بسعادة، وتقترب منها بحرص محدثةً إياها بإسترسال :
الله... معقول الجمال ده!!!!
كل ما آجي هنا إنبهاري يزيد بالجمال والألوان والعطور الروعة دي.
إنتوا عالم، عشق، إدمان، إنتوا جنة.

لترتسم إبتسامة صادقة على وجه ذلك الرجل الذي تفنن الزمن في نحت ملامحه، ليقترب منها، مردفًا:
جاية بدري، قبل ميعادك بنص ساعة، كنت متأكد أنك مش هتستني لما أتصل بيكي.

إستدارت كليًّا نحوه، وفراشات السعادة تحوم حولها لتزينها بهالة من الضوء، فتردف:
صباح الفل ياعم "إبراهيم"، بعدين إستني إزاي يعني؟!!!
مجرد ما كلمتني إمبارح وأنا بتخيل جمال الزهور دي، بتخيل مكانها فين بالظبط في "عالم همس" والتناغم بينها وبين أصحابها هناك.

أردف عم "إبراهيم" بإبتسامته الحنونة:
وأنا طول عمري بقول مستحيل حد يعشق الزهور أكتر مني، طلعتي أنتي سابقاني بكتير يا بنتي.
ليتنهد براحة : تعالي يابنتي شوفي وأختاري اللي يعجبك.

إتجها سويا نحو ركن خاص بالمشتل يحتوي على مجموعة نادرة من الزهور الرائعة.
لتختار "همس" ما ينتقصها، وتغادر حاملة إياها بحرص أم حنونة، خائفةعلى صغيرها .

إنتظرت "همس" لإستوقاف أي وسيلة نقل للعودة إلى مسكنها، لكن لا فائدة من ذلك، بدأ الحنق يتسلل إلى أوردتها، أخذت تلتفت يمينًا ويسارًا بتذمر، ليستوقفها ذلك المشهد المستفز، شاب يضرب فتاة صغيرة لم تتجاوز السادسة بعد، ينهال عليها بوحشية بتلك العصا الخشبية الغليظة، تبكي الفتاة بكاءًا أدمي قلب "همس "، تتوسل له البنت أن يعفو عنها ويسامحها، أن يتركها لأجل الله، تقسم ألا تعيد ذلك الخطأ مرة أخرى، إلى أن خارت قواها وكادت أن تفقد وعيها.

ركضت "همس " نحوهما بألم إعتصر قلبها، وغضب نهش أوصالها. تحاول أن تخلض الفتاة من بين براثنه، لكنه لا يستجيب لكلامها، فتنحي أزهارها جانبًا، وتلتفت له بغضب ثائر، صارخةً:
حرااام عليك اللي بتعمله في البنت ده ، إيه ماعندكش شوية رحمة، سيبها.

صرخ في وجهها بوحشية :
إنتي مالك!! بنتي وبربيها، ماتدخليش إنتي، وإمشي من وشي.

لكن الفتاة ترمقها بنظرات توسل إن تنفذها من بين يدي والدها، لتتمرد دمعة دامية من مقلتاها، فترمق ذلك الوحش بتحدٍ سافر، جاذبة الفتاة خلف ظهرها، وتحميها بذراعيها الرقيقة، صارخةً بغضب :
يعني إيه بنتك؟!!!! ،... ده يعني يديك الحق إن تضربها بالوحشية والقسوة دي.

ضرخ الأب بغضب :
إنتي ماتعرفيش هي عملت إيه.

لتصرخ "همس " :
مهما كان اللي عملته، لازم يبقى في قلبك رحمة لبنتك، دي بنتك حتة منك، بكرة هي اللي تسندك وتقف جانبك.

رفع الرجل عصاه بقوة قاصدًا ضرب إبنته، لتهوي العصا على رأس "همس " وتبدأ الأرض بالدوران حولها، كادت أن تسقط أرضًا لتتلقاها تلك الذراع القوية، راكلًا ذلك الأب بركلة قوية في معدته، فينحني على إثرها متألمًا.
ساعدها على الوقوف بصلابة وثبات ، ليدنو من الفتاة مبتسمًا يتلمس وجنتها بأنامله ليزيل دموعها الغزيرة. وزفر زفرة قوية، ليستقيم بوقفته ملتفتًا نحو ذلك الشاب فيلقنه درسًا لن ينساه يومًا.

جذب تلك العصا من يده بغضبٍ، وإنهال عليه بها بقوة، صارخًا بغضب وإستنكار:
إيه إتوجعت؟!!

ليزداد في ضربه، مردفًا بتهكم وسخرية: ياراجل ماتبقاش طري كده، دا أنت بتضرب بيها البنت من الصبح، ومش راحمها، وحتى ماتوجعتش عشانها.

صرخ الشاب بتوسل :
أبوس إيدك كفاية، وبعدين دي بنتي وكنت بربيها.

ليزداد المنقذ في ضربه أكثر، هاتفًا:
وإنت أب مفتري وظالم، وأنا بربيك.... ده لو التربية بالضرب!!!! ، فإسمح لي بالمهمة دي.

وإنهال عليه ضربًا حتى تفتت العصا بيده صارخًا :
إعتذر من البنت، وإعتذر من الأستاذة.

يومأ برأسه متألمًا، ليتجه نحو "همس " مطأطأً رأسه، فيردف :
أنا أسف يا أستاذة، ماكنتش أقصدك إنتي.

رمقه "همس" بجمرات قاتلة، مردفةً:
فعلا... كنت تقصد الطفلة اللي يدوب ست سنين.

لتلتفت نحوها وتدنو لمستوى طولها وتحتضنها بحنان، هامسةً:
حبيبتي.. فين بيتك؟

رفعت الفتاة ذراعها مشيرةً نحو مشتل مجاور لمشتل عم "إبراهيم"، وأردفت:
ساكنين في المشتل ده، أنا وبابا
لتتعالي شهقاتها : والله كسرت الزهرية غضب عني، كانت تقيلة عليّا ووقعت مني.

رفع ذلك المنقذ سبابته في وجهه محذرًا:
كل يوم هعدي عليك في المشتل، لو بس إشتكت منك في أي حاجة، مش هرحمك...... فااااااهم.

تلبش جسده بخوف، ليهمس بتلعثم :
حاضر... والله ما هلمسها بعد كده.

إلتفت نحو الفتاة، ليمسد خصلات شعرها المبعثرة بإهمال، و تراب الأرض يلوثها ببذخ ، كما لوث ثيابها البالية، فيردف بحنو :
إسمك إيه يا حبيبتي؟

فركت عيناها بأناملها الملوثة، قبل أن تردف :
"ياسمينا".

جذب يدها برفق، ليجفف دمعاتها بسبابته، مردفًا:
أنا هعدي عليكي كل يوم لو إحتاجتي أي حاجة تشاوري بس..... هجيلك بكرة ومعايا حاجات حلوة كتير.... ماشي.

أومأت "ياسمينا" برأسها عدة مرات، قبل أن تردف :
ماشي... هستناك يا عمو.
لتلتفت نحو "همس " :
وإنتي كمان يا أبلة هتيجي معاه.

إبتسمت "همس" بحنان، مردفةً :
أكيد يا حبيبتي... هجيلك على طول.

غادرت "ياسمينا" والإبتسامة تعلو وجهها الباكي، متجه نحو مسكنها البسيط، ليتبعها والدها مطأطأ الرأس.

إستقامت "همس " في وقفتها، لتبتسم بعرفان، مردفةً:
بشكر حضرتك جدًا يا أستاذ "حاتم" مش عارفة من غير وجودك كنت عملت إية؟

بادلها "حاتم " الإبتسامة، وأردف:
أنا اللي بشكرك على شجاعتك، ووقوفك في وش الظلم.

لتضيق عيناها بإستغراب: بس إيه اللي جابك هنا؟!!!

أشار بسبابته نحو بناية مقابلة لهما، وأردف بإبتسامة :
أبدًا يا ستي.. أنا فتحت مكتب هندسي في العمارة دي، ولمحتك من الشباك، فطبعًا ما ينفعش أقف أتفرج، فجيت أساعدك.
ليتسائل بتعجب :
بس إيه جابك هنا، وبدري كده؟!!

لتقص له "همس" كل الحكاية، متبادلين الضحكات المرحة.

........

قصر السيوفي.

إعتلت "فريدة " مقعدها بغرور، رامقةً "هيا" بنظرات غاضبة، هاتفةً بغضب :
وأنا قولت مفيش خروووووج، وأصحابك اللي دون المستوى دول.... اللي مستغلينك وبتصرفي عليهم، تقطعي علاقتك بيهم، وإختاري أصحاب أرقى من كده شوية.

تلعثمت "هيا" في حديثها :
ب... بس يا "فريدة" هانم أنا ماليش غير صاحبة واحدة، وعمرها ما إستغلتني في حاجة، ولا عمري صرفت عليها جنيه، وبعدين دي بنت دكتور مشهور، ومعاهم فلوس، ومرتاحين ماديًا.

لترفع "فريدة" رأسها بتعالي، هاتفةً:
بس معندهاش أصل... مش بنت بشوات.... بنت ناس عادية من عامة الشعب حتى لو معاهم فلوس الدنيا.

لتتدخل "نجلاء" بالحديث، محاولة التخفيف عن "هيا" :
خلاص يا "يوكا" ممكن تعزميها هنا ياحبيبتي، وأنا هحضرلك الأكل اللي تطلبيه،
وقضوا اليوم سوا في الجنينة أو في أوضتك.

قاطعتها "فريدة" بصرامة، مردفةً:
البنت دي مش هتدخل القصر، معاتش غير الأشكال دي كمان.

لتقترب "نجلاء " من أذن" فريدة" بحرص، فتهمس ببعض الكلمات، لتهب "فريدة" من جلستها بغضب، تاركةً إياهما، وتبتسم "نجلاء" بإنتصار، لتستدير نحو "هيا" بإبتسامتها الحنية، مردفةً :
يلا يا حبيبتي... روحي أخرجي وإتبسطي مع صاحبتك، ولو عايزة تعزميها هنا، إعزميها في الوقت اللي يريحك.

إعتلت علامات الدهشة ملامح "هيا"، لتفتح ثغرها إلى آخره، وتتسع مقلتاها بذهول، هاتفةً:
إنتي قولتلها إيه يا "نوجا" خلاها تتحول كده؟!!!!

ربتت "نجلاء" على كتفها بحنو، هامسةً :
المهم إنتي يا حبيبتي، شوفي صاحبتك وأخرجوا وإتبسطوا.

قبلتها "هيا" بسعادة، لتغادر بقفزاتها الفرحة، وضحكاتها المدوية بأرجاء القصر.

........

سيارة "خالد"

قاد سيارته بأقصى سرعة متاحة، ليتعالي رنين هاتفه، فيلتقطه بغضب، لإستكشاف هوية المتصل،و يلقيه جانبه بعصبية، لكن لم يتوان المتصل عن الإتصال، حتى أجاب "خالد" صارخًا:
عايز إيه ياسي زفت؟؟؟
قولتلك ميت مرة ماليش في العك ده، أنا عارف إني بسهر وبرقص و بسافر ، لكن لحد الزنا، مستحيل أغضب ربنا للدرجة دي، وإنتوا شلة زبالة، وأنا بكره نفسي إني عرفتكم في يوم من الأيام.
ليلقي هاتفه على المقعد المجاور له مرة أخرى، وينطلق بسيارته.

لتخرج سيارة كبيرة من العدم تطارده بإصرار، في محاولة من السائق بالفتك بحياته وإنهائها ، يراوغها "خالد" بإحتراف ومهارة.

لكن هذا ما يزيد السائق إصرار وعزيمة، ليتبعه بقوة، يرتطم به مرة، وينجو "خالد" مرة أخرى.

.......
"السيوفي جروب"

ما زال الإجتماع قائم بين "ثائر" و"حمزة"، ومازالت الجدية والإحترافية مسيطرة على الأجواء، لتتعالي رنات هاتف "ثائر" الخاص بأفراد أسرته، يلتقطه بلهفة :
ده "خالد"!!!
ليفتح الخط، ضاغطًا أعلى مكبر الصوت : إنت فين ياااد؟!!!

فيستمعا إلى صرخات شقيقهما، وأصوات عالية حوله،
بعدها صوت إصطدام قوي مصحوب بصرخة قوية من أخيه ، ينقطع بعدها الإتصال.

رواية همس السكون الفصل الرابع

أحد أكبر المستشفيات الخاصة.

أسطول سيارات كامل تبع سيارة الإسعاف بحرص، لما لا وهي تحمل بين طياتها الشقيق الأصغر لـ "ثائر السيوفي ".
حالة من الفوضى إجتاحت الساحة الخارجية للمشفى، عشرات الصحفيين والمراسلين بكاميراتهم ينتظرون بترقب وصول" آل السيوفي ".

إستقرت سيارة الإسعاف أمام الباب الرئيسي للمشفى، وحاوطتها تلك السيارات الجيب السوداء التي تقل جيوش "ثائر السيوفي "
ليترجل عنها هؤلاء الضخام الأجساد، مرتدون حلاتهم السوداء ليصطفوا كسياج ضخم حاجبين الرؤية عن هؤلاء المتطفلين وعدساتهم.

فُتحت سيارة الإسعاف على مصرعيها، ليترجل عنها "ثائر" وبعض من الفريق الطبي بالمشفى ، ليحملوا "خالد" الفاقد لكل معالم الحياة على ذلك الفراش المتحرك، مهروليين،و مقتحمين ذلك المشفى، ليصرخ بهم "ثائر" بجنون :
دكتووور.... دكتور بسرعة.
ليقابله طاقم طبي على أعلى مستوى، يقودهم مدير المشفى، فقد أعلنت حالة الطوارئ بها، وجُمعت كل الأطباء بمجرد إتصال من "حمزة السيوفي".

إستعدت غرفة العمليات لإجراء تلك الجراحة الدقيقة، فالإصابات بالغة نتيجة سقوط سيارته من أعلى الجبل بالطريق من العين السخنة إلى الزعفرانة ، بعد مطاردة تلك السيارة له، وتم نقله بطائرة "ثائر" الخاصة.

دلف "خالد" إلى غرفة العمليات، وتبعه الفريق الطبي كاملًا، ليجذب "ثائر" مدير المشفى من ياقه بكلتا يداه ، فأصبح مواجههًا له، ليرمقة بتلك العيون شديدة الإحمرار ونيران الغضب تتطاير منها، و حمم أنفاسه الحارقة تلفح وجهه، لصك ع أسنانه، ضاغطًا كل حرف تشدق به، محذرًا:
لو حصل له حاجة هولع في المستشفى على اللي فيها.... فاهم.

لترتعد أوصال الطبيب برعبٍ حقيقي، و يبتلع لعابه بهلع، مشيرًا برأسه كعلامة موافقة، دون التفوه ببنت شفة .

تركه "ثائر" بغضب، ونيران ثورته تأكل ذرات روحه وكيانه ، كلما تذكر صرخات "خالد" وإستغاثته .

لينسكب الوقود بغزازة فيلهب نيران حقده ويأججها، كلما تذكر مشهد سيارة أخيه الهاوية من أعلى الجبل، لتستقر بوادٍ عميق مهشمة، طابقةً على عظام أخيه بلا هوادة.

تذكر رفض الجميع الإقتراب من السيارة خشية إنفجارها بين لحظة وأخرى.
الجميع إستسلم وتراجع بهزيمة مبكرة ، فلم يكلف أحدهما نفسه شرف المحاولة، فأي محاولة ولا توجد صلة أو قرابة بين المصاب وبين أحدهم، ليقفوا مشاهدين فقط، منتظرين الإنفجار ليقسموا أن توقعاتهم صائبة.

دوى صوت مروحية بالأنحاء، ليجدوا ذلك "الثائر" معلقًا بحبلًا معدنيًا
(Wire) متدليًا من مروحيته الخاصة بثبات وإصرار على إنقاذ أخيه ، لتطأ قداماه أرض ذلك الوادي، فينزع عنه ذلك الحبل، ويركض مهرولًا نحو أخيه وبيده منشار كهربائي، ليبدأ بتشغيله بحرص قاطعًا كل ما يحاوط جسد "خالد" من معدن.

تلاطمت دقات قلبه، وعلى أنينه، كلما هتف بإسم "خالد" ليكون جوابه الصمت القاتل.
لهثت أنفاسه، وكست ذرات العرق جبينه، لتتساقط بعيناه فتشوش الرؤية قليلًا.

رفع يده مزيلًا حبيبات العرق عن مُقلتاه بظهر يده، فتتعالي أنفاسه. حاول كثيرًا لإنقاذه، حتى أزال كل ماحوله، ليجده غارقًا بدمائه، جذبه نحو بذعر جامح ، حاملًا إياه بين ذراعيه بألم ينخر ذرات جسده وروحه ، ليركض مبتعدًا عن السيارة، فيدوي إنفجارًا شديدًا، وتتطاير ألسنة اللهب بالسماء، ويحجب الدخان الرؤية عن الجميع.

هوى "حمزة" أرضًا، لتتعالي صرخاته المدمية للقلوب، فقد خسر أخويه في ذلك الإنفجار اللعين، ليصرخ بأسمائهما بلوعة تعتصر ذرات روحه، فيدوي صدى نداءاته بالأنحاء، ليردد ذلك الجبل صراخاته المؤلمة، كمن يتشفي به، مكررا ما يحرق روحه بإستنكار.

تعالت أصوات المروحية بالأنحاء. ليرفع "حمزة" عيناه الباكية، فيلمح ذلك المشهد الذي بث إكسير الحياة إلى روحه....
"ثائر" معلقًا من خصره وممسكًا بالحبل بإحدي يداه ، وباليد الأخرى يحتضن "خالد" بقوة، للتحرك المروحية بهما بحرص شديد حتى إستقرا بالقرب من "حمزة" .

ركض "حمزة" نحوهما مهرولًا ليطمئن على "خالد " بحنان الأخ الأكبر ولهفته وقلقه.

لحظات وتهبط المروحية، لتحمل بين جنباتها شباب عائلة" السيوفي" بقلوبٍ ممزقة ومحترقة ، ليقسما بالإنتقام والثأر لأخيهم، وأن يذيقا من تجرأ على تلك الفعلية الشنيعة العذاب أضعافًا مضاعفة.

أفاق "ثائر" من شروده على صراخ الممرضة، وطلبها لفصيلة دم (-O) ليجذب يدها بقوة صرخًا:
أنا فصيلة دمى(-O)، خدوا كل الدم اللي تحتاجوه.

ويلتفت نحو "حمزة" صارخًا :
إتصل بالشركة، وشوف كل اللي فصيلة دمه(-O) و إستأذنه أنه يتبرع بكيس دم، وأصرف له مكافأة كمان.

أومأ له" حمزة" برأسه عدة مرات بلاوعي، فهو بعالم آخر لا يستمع لحرفٍ واحد مما تفوه به شقيقه.

تبع "ثائر" خطوات الممرضة بخطى مهزومة، لكي يبث إكسير الحياة لأخيه بدمائه، فلو أراد روحه لتخلي عنها بطيب خاطر في سبيل إستعادتة "خالد" لوعيه، وحياته.

.........

قصر السيوفي.

دلفت "هيا" إلى القصر صارخة بجنون وصدمة ، بعدما شاهدت الأنباء عن حادث شقيقها، لتسيل دمعاتها الحارقة ، وتعتصر تلك القبضة الوحشية قلبها الصغير بلا رحمة، لتصرخ بوجعٍ أدمي القلوب:
ياماماااااااا........ "خالد"...... "خالد".

إنتفض جسد "نجلاء"، ليهوي من يدها ذلك الكوب الزجاجي، فيتفتت ويتناثر كذرات أرواح أولادها المحترقة، لتلتفت نحو "هيا" صائحة بفزع، وذعر :
مالو "خالد"؟!! .... إنطقي.

تعالت شهقاتها بقوة ، وإختلطت أحرفها بنيران دمعاتها، لتهتف بإرتباك وهذيان:
ع... عمل حادثة... وفي المستشفى..... بتصل بأبيه "ثائر " أو "حمزة" تليفوناتهم مقفولة.

إنهمرت دمعات "نجلاء" بأسي، فإن لم يكن "خالد" إبنها بالدماء ، فهو قطعة من روحها وقلبها ، لم تفرق يومًا بينه وبين أخوته في الحب أو المعاملة، فجميعهم لديها سواء، لتحرك رأسها رافضةً لتلك الكلمات القاتلة، صارخةً بلا وعى:
إنتي بتقولي إية؟!!!
أكيد ده كذب..... "خالد" كويس، وشوية وهيدخل علينا من باب القصر، أكيد دي إشاعات، "خالد" كويس.

وتجذب "هيا" إلى أحضانها بذعر، لتشدد من إحتضانها باكية، فيتعالي دعائهما الممزوج بشهقاتهما.

لكن هناك من نزلت عليه تلك الصاعقة، فأحرقته، ليرتجف جسدها بقوة، كادت أن تهوى أرضًا لولا تمسكها بذلك التمثال، لتتمرد دمعات تلك المتحجرة القلب، فتسيل على وجنتاها بلوعة، وحسرة، وندم ، فحتي وإن كانت قاسية، فهؤلاء أحفادها وأمانة ولدها.

لتزيل تلك الدمعات بقوة وكبرياء ، زافرة زفرة قوية ، وتخطو بخطواتها المرتعشة صارخة بغضب :
بطلوا عياط.....و يلا نروح لهم المستشفى.

لتتبعها "نجلاء"و "هيا"، وتستقلن السيارة، وينطلق السائق مسرعًا نحو المشفى التي يصارع بها "خالد" الحياة.

..........

شقة عبد العزيز.

دلفت "همس " إلى مسكنها تشدو بأنغام عذبة تُطرب لها النفوس. تقترب من زهورها التي مازالت تختضنها بعشق لتستنشق شذاها وعبيرها بلذة وإستمتاع ، حتى إقتربت من الطاولة لتضعها أعلاها ، صائحة بسعادة :
يا أهل المنزل... لقد أتيت.... هل من ترحيب؟!!!!

طلت عليها "حنان" من المطبخ، ممسكة بيدها مغرفة، واليد الأخرى قطعة قماش صغيرة، وعلامات السعادة تحتل ملامحها، لتهتف بحفاوة:
أهلًا بيكي يا حبيبتي، حمدالله على سلامتك، تعالي أنا في المطبخ بحضر الغدا.

لتستدير "حنان" بكامل جسدها دالفةً إلى المطبخ مرة أخرى، وتتبعها "همس" متمتمة :
أنا شامة ريحة بشاميل.
لتبلع لعابها محركةً لسانها أعلى شفتاها كمن يتلذذ بطعام شهي.

إقتربت من "حنان" بتسلل لتقف جانبها واضعةً يدها أعلى كتفها، لتتلذذ برائحة الطعام، وتلتقط بعض حبات المكرونة فتتناولها بسعادة، لتضربها "حنان" ضربة خفيفة على يدها، مردفة بتذمر :
إستني لما تدخل الفرن، ويكون بابا و"عمر" رجعوا بالسلامة ... وكلنا نتغدا سوا، والكفتة هشويها وهما موجودين، عشان تكون سخنة.

إلتقطت "همس " حبة خيار من الطبق، لتستدير مغادرة المطبخ وهي تردف :
أوك... أنا فوق هظبط شوية حاجات كده على ما يوصلوا..... الموبايل معايا إبقى رني عليا وأنا هنزل على طول.

لتفتح "حنان" باب الفرن وتضع صينية المكرونة، رادفةً بإبتسامة:
ماشي يا حبيبتي.

.........

المشفى.
غرفة ما

إحتل "ثائر" أحد المقاعد الخشبية بغضب ينهش خلاياه ، و ذلك الأنبوب الرفيع متصل بذراعه ليسحب بعض من دمائه فيمتلئ ذلك الكيس البلاستيكي ، فتسحب الممرضة ذلك المحقن من ساعده، لتجد من يعتصر معصمها بقوة غاشمة ، ويرمقها ببركان ثائر ،صاكًا على أسنانه، مردفًا بإستنكار:
بتعملي إيه؟!!

إرتجف جسد الفتاة بقوة، لتهمس متلعثمة:
خـ... خلاص أخدنا منك كيسين دم، وكده كفاية.

ليزداد من إعتصار معصمها، ضاعطًا على كل حرف تفوه به:
قولتلك خدي كل الدم اللي هيحتاجه..... فاهمة.

لتهمس برعبٍ جليّ:
مش هينفع حضرتك، كده ممكن تفقد وعيك.

إزدادت ملامحه قسوة غاشمة؛ قسوة تبث الرعب في نفوس كل من يلمحه أو يمر حوله، ليصيح بفحيح :
مش إنتي اللي تقوللي إيه ينفع وإيه ماينفعش، هاتى كيس كمان وخدي الدم اللي يرجع أخويا للحياة.

حركت الفتاة رأسها بذعر ، هامسةً بإرتباك : حاضر.... حاضر.

لتضع كيس جديد على ذلك الحامل الحديدي، لتوصل به ذلك الأنبوب فيبدأ بسحب الدماء إليه .
..........

غرفة العمليات.

ملقي على ذلك الفراش ، مُبهم الملامح، ملوث بدمائه، عاري الجسد، إلا من قطعة قماش صغيرة تستر ماوجب ستره، ممدد الذراعين جانبًا ، يضخ بأحدهما دماء شقيقه الثائر على الدنيا حتى ينتقم لأخيه، والأخر معلق به ذلك المحلول المختلط ببعض العقاقير الطبية.
أما تلك الأسلاك التي تلتصق بصدره لتستشعر ضربات قلبه الخافتة، ومعدل ضغطه الذي قارب على السكون.

و تلك الذرات التي تُعيد محاولاتها البائسة في إنعاش رئتاه عابرة ذلك الأنبوب المعلق بفمه لإعطائه قبلة الحياة.

كل تلك الأشياء تتوسل بقوة لذلك الخامد، الذي تقل مقاومته تدريجيا، حتى بات يربطه بالحياة خيط ضعيف أوشك على التمزق.

ليرى والداه يطلا عليه بالأبيض فاتحين أذرعتهما ترحيبا بصغيرهما، وهما يبتسما بشوق للقاءٍ طال، فهل آن أوانه؟!!!
... يقتربا منه محاولين إحتضانه، وتعويض فترة فراقهما له.

فيبتسم إبتسامة خفيفة، راضية، مشتاقة، لتهطل دمعة هاربة من مُقلتاه.

الأطباء يجرون أدق الجراحات، فذلك الحادث مصيره الموت لا محالة، لكن فإن حدث هذا، فسيكون مصيرهم الهلاك المؤكد على يد ذلك الأسد الثائر.

...........

أمام غرفة العمليات.

إستند على ذلك الحائط الذي بات أقل قسوة وأكثر لينًا مما يحيط به من أحداث ، طارحًا رأسه للخلف، ليستعيد إبتسامة ومشاغبة أخيه أمام عيناه، كم كان عفوي عاشق للحياة.

فلاش باك.
غرفة "حمزة"

هاتف أحدهما بعصبية جامحة، ليتعالي صوته الغاضب :
مش "حمزة السيوفي" اللي واحدة زيك تاخده كوبري عشان توصل لحد تاني..... ورحمة أبويا لأخليكي تندمني بقية عمرك.

ليلقي الهاتف بقوة غاضبة، يصطدم بذلك الحائط الصلد فيهوي حُطامًا، كحطام قلبه،
ويلتقط أحد المقاعد بغضب جامح، فيلقيه من شرفة غرفته، صرخات مكتومة ، سبات ولعنات لتلك الحمقاء التي إستغلت حبه وثقته، للوصول إلى شاب آخر.

بتلك الردهة الأمامية لغرفة "حمزة"
يخطو بخطوات واسعة مطلقًا صفيرًا سعيدا،و يلقى مفتاح سيارته بالهواء ويعيد إلتقاطه، ليستوقفه أصوات ذلك الضجيج المنبعث من غرفة "حمزة". يتوقف عن الحركة، ويتمكن القلق من خلاياه، ليخطو مسرعًا نحو الغرفة ويفتح بابها بقوة ، ليقتحمها ملهوفًا، مستنكرًا.

فتلك المرة الأولى التي يرى فيها "حمزة "
_الذي لطالما لقبه بالصوّان_، يشتغل نيرانًا، غاضب، حانق على كل شئ، يُلقي كل ما تصل إليه يداه، فقد أصبحت غرفته
كسوقٍ لقطع الغيار.

إقترب منه بلهفة، وتوتر، رافعًا يده في محاولة لجذب تلك الأشياء من يد "حمزة" ، ليجد لكمة قوية موجهة نحو فكه.

حرك "خالد" فكه يمينًا ويسارًا بهدوء، ليرمق "حمزة" بنظرات غامضة، ومن ثم يرد له اللكمة بواحدة أقوى، فيستشيط "حمزة" غضبًا ويلكمه مرة أخرى.

لتدور مباراة ملاكمة بين خصمين متكافئين، فتصبح سجالًا لمدة تتجاوز الخمسة عشر دقيقة، حتى خارت قواهما، وتقطعت
أنفاسهما، فهويا طريحي الأرض ، يلهثون بقوة محاولين ضبط أنفاسهما، لتتسلل ضحكة ساخرة من بين شفاه "خالد" ، فيرمقه الآخر بغضب جامح. تعالت ضحكات "خالد" على ما وصلا إليه من تعبٍ وإرهاق.

ليبدأ ذلك الفيروس في التسلل إلى شفتاه، فتتعالي ضحكاتهم المودوية _ فكما يقولون بأن الضحك عدوي_.

بعد دقائق من الضحك المتواصل هب "خالد" جالسًا، ليوجه نظراته صوب ذلك المستلقي أرضًا، مردفًا بصرامة:
مش رجالة "السيوفي"، اللي أي واحدة أيًا كانت مين!! أو مدى تأثيرها توصلنا لكده، اللي باعك بيعه وإنت الكسبان، بس حقك، أوعى تسامح فيه يوم من الأيام.

ليستقيم واقفًا، فيعدل من هيئته، ويستدير مغادرًا الغرفة.

ليخرج "حمزة" من ذكرياته، شهقات "هيا" المؤلمة، تركض نحوه بإنهيار يتبعها "نجلاء" و "فريدة".

إقتربت منه ببكاء أدمي قلبه، فهي لا تتحمل فكرة فقدان شقيقها، تعتصر ذراعيه بيداها الرقيقة، صارخةً بلوعة :
"خالد" فين يا "حمزة"؟؟؟
أخويا فين؟!!
قوللي إن الكلام ده كذب، قوللي إنها إشاعات.

لتسقط أرضًا، متمسكةً بطرف قميصه، وشلالاتها عاجزة عن تسكين ألامها المستوطنة لذلك النابض بوجعٍ كاسر.

إنحني نحوها بإنكسار ، إقترب منها ليجذبها إلى أحضانه علّه يشعرها ببعض الأمان الذي أوشكت على فقدانه ، تتشبث بأحضانه بقوة، تستمد طاقتها على التحمل من معشوقها الذي لطالما تمنت أن يستشعر عشقها، لكن اليوم فشاغلها الوحيد سلامة شقيقها.

شدد من إحتضانها بقوة غريبة فهو من إستشعر الأمان في ذلك الوطن، تسلل إلى قلبه إحساس عجز عن تفسيره، أو إدراك معانيه.

لتهتف "نجلاء" في محاولة منها لإعادتهما لأرض الواقع، فهي تؤمن بعشق إبنها الدفين :
"خالد" عامل إيه دلوقتي يا"حمزة"؟

رفع عيناه بتوسل نحو والدته، مردفًا: إدعيله ياماما، هو محتاج دعائنا كلنا.

أما تلك "الفريدة" فتراقب المشهد صامتة، عاجزة عن التعبير، تسبقها دمعاتها الحارقة، لتختلط بحروفها المتلعثمة:
هيبقى كويس.... صح؟.

أومأ برأسه والأسي قد نهش ملامحه، قبل أن يردف:
إن شاء الله يا" فريدة" هانم.

..........

"عالم همس"

دلفت إلى عالمها الخاص الذي مازالت تبتكر طرقًا عدة لتزينه وتهيئته بما يتلائم مع أحلامها التي لطالما سعت لتحقيقها.

إتجهت نحو ذلك الحوض الجانبي للأزهار، لتنحني نحوه، وتجلس على ركبتيها بسعادة، فتلتقط ذلك الجاروف وتبدأ بحفر بؤرة صغيرة لنقل شتلها الرقيقة.

ما إن إتمت نقلها ، حتى جذبت رشاش المياه وبدأت بروي أزهارها بالترتيب، لتعلو نغمة هاتفها مُعلنة عن هوية المتصل، لتحادث نفسها بدهشة :
"عمر"!!!!، المفروض يكون في الدرس وقافل الموبايل، خير يارب.

ضغطت زر الإجابة، لتضعه بالقرب من أذنها، مردفة بإستنكار:
خير ياسي "عمر" سايب الدرس ومتصل بيا دلوقتي ليه؟!!!

ليجاوبها صوت غير مألوف لها ، فيساورها القلق ويهاجم خلاياها:
حضرتك أنا مش" عمر "، صاحب التليفون ده عمل حادثة، وهو دلوقتي في مستشفى.......

إعتصرت تلك القبضة الفولاذية قلبها بلا هوادة، لتنهمر دمعاتها شلالات متدفقة ، لتصرخ صرخة مكتومة، رادفة بتلعثم :
حا... حادثة؟!!! حادثة إية؟!!!
هو.... هو كويس؟!

المتصل في محاولة لطمئنتها :
والله حضرتك هو كويس... كسر بسيط في رجله.

إزدادت في البكاء والنحيب، لتصيح بلا تصديق:
لأ... إنت بتكذب..... أخويا ماله؟!!

المتصل : أبدًا والله.
ليتسلل إلى مسامعها صوت شقيقها : هات التليفون... أنا هكلمها.

زفرت زفرة قوية تطرد بها ذلك الخوف والقلق اللذان تمكنا منها، وتحل محلهما الطمأنينة والراحة، فترفع عيناها شاكرة ربها على حفظه لشقيقها.

"عمر" بصوت يشوبه بعض الألم :
أيوه يا حبيبتي أنا كويس، ده كسر بسيط..... ممكن تيجي المستشفى عشان تاخديني البيت، بس من غير ماتعرفي ماما وبابا عشان مايقلقوش على الفاضي.

"همس" بهدوء :
ماشي... هتصرف وأجيلك.

غادرت عالمها، للهبوط إلى مسكنها في محاولة إختلاق عذر وسبب لإقناع والدتها للخروج، دون الإفصاح عن حقيقة الأمر.

بعد محاولات مريرة إستطاعت إقناعها بالذهاب لشراء أحد الكتب الضرورية لها من أجل إتمام البحث الخاص بدراستها.

.........

المشفى.

أمام غرفة العمليات.

حالة من الترقب الممتزجة بالقلق، والرجاء، والدعوات الصادقة من أم تكاد أن تفقد ابن روحها، وأخت تشعر بتمزق خلاياها وتفتتها،
وأخ لا يتذكر سوي لحظاتهما السعيدة، وقوة وصلابة أخيه حتى وإن بدي غير ذلك.

أما تلك الجدة فنيرانها متأججة، تتآكل داخليا حتى وإن لم تظهر هذا.

لينضم إليهم ذلك البركان الخامد حتى الآن، فهو بإنتظار الإطمئنان على أخيه، ليعطي إشارة بحرق الأخضر واليابس.

ليهب عليهم إعصار يقتلع كل مايقابله، حمم بركانية تُقذف من حدقتاه، لتحدث المواجهة الصامته بين الأخوة، نظرات قاتلة فرصاصات المدافع أهون منها بآلاف المرات.
نظرات لائمة، عاتبة ، متهمة له بالتقصير وعدم قدرته على صون ذلك العهد والقسم بالمحافظة على أشقائه.

أما "ثائر" فنظراته أسفة، نادمة، معترفة بإهماله الغير مقصود، متوسله للعفو، راجية للمسامحة.
لتتحول إلى أعين متوعدة بالهلاك والإنتقام والثأر لأخيه مهما كلفه هذا.

جذب شقيقته بين ذراعيه، يحتويها بحنان مُشرب بألم الفراق والبعد، لتشدد من إحتضانها له بأسي، وتتعالي شهقاتها المدمرة لكيانه وخلايا روحه، لتهتف :
"خالد " يا أبيه "حاتم" ....." خالد" تعبان قوي، بالله عليك خليه يقوم ويرجع لينا....... والله وحشني.... مش قادرة أتخيل حياتي من غيره..... مش كفاية إنت سيبتني ومشيت..... مش هقدر أتحمل بعده عني، عشان خاطري خليه يرجع لينا يا أبيه .

قبّل "حاتم" رأسها بدمعاته المتمردة، ليزفر بقوة، صارخًا بغضب جحيمي :
مين اللي عمل كده يا "ثائر"؟!!!

تحولت عينا "ثائر" لجحيم مستعر، ضاغطا أسنانه بتوعد :
نص ساعة ويكونوا تحت رجلينا، رجالتنا راجعت تسجيلات الكاميرات، ووصلت لأرقام العربية.

قبّل جبين "هيا" بحنو، ليبعدها عنه متوجهها نحو "ثائر" ليهمس بالقرب من أذنه بفحيح :
يتفرموا.... يتمنوا الموت ومايطلهوش، وبإيدينا، مش بإيد الرجالة.

...........

ترجلت عن سيارة الأجرة مهرولة، في محاولة منها للولوج إلى المشفي لتجد حائط بشري يمنع جسدها الضئيل من المرور.

فترفع سبابتها في وجه أحدهما محذرة إياه ( أي تحذير هذا يافتاة، ألم تلتفتي إلى ضآلة جسدك بالمقارنة بتلك القاطرات البشرية) :
لو مبعدتش عن وشي مش هيحصل طيب.

لم تتلقى أي جواب لتهديداتها الحمقاء، ليتعالي صراخها الحانقة :
يا أغبيا أخويا جوا وعامل حادثة، لازم أطمن عليه.

(إصمتي يا فتاة فالأحجار لا ترى لا تسمع ، لا تتكلم، وهذه أحجاز "ثائر السيوفي" .).
يتجه نحوها أحد الأطباء في محاولة لإستكشاف الأمر :
فيه إيه يا أنسة؟!!!

نهش الغضب ملامحها الرقيقة، لتردف بضيق:
قولنا أخويا جوا... جاي في حادثة عربية،ولازم أدخل.

أزاح الطبيب أحدهما، قبل أن يردف:
دخلها يا إبني... فيه حالة تخصها جوا.

لتدفعه "همس " بقوتها البائس، مردفةً:
وسع كده.... إيه!!! الرئيس في المستشفى ولا إيه؟!!!

إتجهت مُهرولة نحو الإستعلامات، لتستعلم عن غرفة شقيقتها:
لو سمحتي "عمر عبد العزيز " جه في حادثة عربية، غرفته فين؟

أردفت فتاة الإستعلامات بجدية:
غرفة رقم 1276 الدور الخامس، والأسانسير على إيدك الشمال.

غادرت "همس" مُسرعة نحو المصعد، لتستقله قاصدة غرفة شقيقها.

لحظات و يتوقف المصعد بالطابق المنشود، لتنفتح أبوابه على مصرعيها، فتغادره باحثة عن الغرفة حتى وجدتها، فإقتحمتها بقوة، ودقات قلبها متلاطمة، فقلقها على شقيقتها لم ينضب بعد ، لتجده مُلقي بالفراش، وساقه اليمني مجبرة بتلك الجبيرة الزرقاء، لتسبقها دمعاتها، وتركض نحوه فتجذبه نحوها ، لتحتضنه بقوة، هاتفةً :
سلامتك يا "موري". إزاي حصل كده؟!!!

:حضرتك أنا اللي خبطه، وبكرر إعتذاري.

لتستدير نحو صاحب هذا الصوت، فتجده (شاب في منتصف عقده الثاني، وسيم حد الخيال، زرقة عيناه تنافس محيطات العالم، خيوط ذهبية تنسج ببراعة لتضفي جمالًا على ذلك الرأس ذو البشرة الحنطية، وجسده الذي يدل على أنه لاعبًا أولمبيا)

لتلوح بيدها في وجهه صارخةً بغضب جليّ :
وأنا أعمل إيه بأسفك ده؟!!
أسفك هيرجع لأخويا رجله سليمة زي ماكانت، ولا الخضة اللي كانت هتموتني، ومليون فكرة جت في راسي لحد ماوصلت هنا وشوفته بعنيا......

لكن ذلك الهائم بحركة شفاهها الكرزية، وأنغام صوتها الدافئ الذي تلهو على أوتار قلبه، و تلك الإبتسامة البلهاء التي تزين ثغره فتزيده جمالًا.....

لتتوقف عن حديثها بخجل من تلك النظرات المتفحصة، وتشيح بوجهها عنه، لترمق أخيها مستنكرةً، فيهتف :
خلاص يا" همس" "أحمد" ماكنش يقصد، أنا اللي ظهرت قدامه فجأة.

أما ذلك الهائم، فيردد إسمها بتلذذ، وإستمتاع :
"همس".... "همس" .

لترمقه وقد تملك الغضب من ذراتها، فتهتف بحنق:
في إية يا كابتن؟!!!

حمحم "أحمد" بخجلٍ:
أنا أسف يا أنسة "همس".

ليلتفت نحو "عمر" بإبتسامته العذبة، مكملًا:
أنا أسف يا" عمور"، وزي ما إتفقنا خلاص بقينا أصحاب، ورقمي معاك كلمني في أي وقت،
ويلتفت نحو "همس " مردفًا:
ورقمك معايا وأنا أكيد هكلمك قريب.

دقات خفيفة على الباب، يتبعها دلوف الطبيب للإطمئنان على "عمر" والسماح له بالخروج، و تلك الإبتسامة العملية تعتلي معالم وجهه، ليردف بثبات :
تمام يا أستاذ "عمر" تقدر تخرج ونشوفك بعد ست أسابيع، وتمشي على الأدوية اللي كتبتها لك.

أردفت "همس" بجدية :
بعد إذنك يا دكتور، الحالة إيه بالظبط؟.... وقبل ما تتكلم أنا شايفة إن رجله مكسورة.
سؤالي.... هل الكسر ده هيأثر عليه بعد كده في الحركة ؟

إزدادت إبتسامة الطبيب، ليبث الإطمئنان إلى قلبها، مردفًا:
ما تقلقيش حضرتك ده كسر بسيط، وإن شاء الله مش هيأثر عليه..... يعني هيجري ويتنطط ويلعب كرة قدم كمان.

ليكمل بجدية:
ممكن تعرضي الأشعة على أي دكتور تاني هيأكد لك كلامي.

ضيقت عيناها بتفكير، لتتنهد براحة، مردفةً:
أوك... فين الأشعة دي؟!!!

أردف الطبيب بجدية أكثر مما قبل:
ممكن تنزلي الدور الثاني، الغرفة اللي جنب غرفة العمليات، إستلميها من هناك.

ليغادر الطبيب الغرفة، لإستكمال باقي عمله.

فتستدير بجذعها نحو شقيقها، هاتفةً بصرامة:
هنزل أجيب الأشعة، وآجي عشان نروح على طول.

كاد أن يتحدث "أحمد" ، لتنظر له بغضب، فيبتلع كلماته بشرود، وتغادر هى متجهه نحو الغرفة المجاورة لغرفة العمليات.

.......

غرفة العمليات.

أكثر من سبع ساعات، والأطباء يحاولون السيطرة على جراجه ونزيفه المتواصل، إرهاق جلّي يكسو ملامحهم، لكن الجدية والصرامة، تجتاح أوصالهم.

مازالت نبضاته تتباطأ تدريجياً، "محاولات مستمية من والداه لجذبه نحوهما، فأي أنانية يتمتعون بها؟!!! ، ليحرموا إخوته من أنفاسه الدافئة"، ينخفض الضغط، يقل النبض. تتقارب الذبذبات من الإستقامة.
بل إنها إستقامت، وإتصلت صافرات الإنذار.

.......

إجتمع الجميع أمام غرفة العمليات ودمعاتهم تحجب الرؤية، فاقدين الإحساس بالمكان، لكن إحساسهم بالوقت قاتل، فيمر عليهم كأعوام عجاف.

غادرت "همس " المصعد، لتتبع إشارات التوجهه نحو غرفة الأشعة، يتوقف الوقت بالجميع، تخطو خطواتها الهادئة، لتقترب من تلك الغرفة ببطئ معاكس لتسارع دقات قلبها، تقترب أكثر وأكثر لتصل إلى تلك المسافة الفاصلة بين "آل السيوفي" المغيبون، وذلك الذي إستقامت دقات قلبه.
تتلاطم ضربات قلبها بقوة، صارخة، مستجدية ، ليحيطها ذلك المجال المغناطيسي الغريب، فتدب رجفة شديدة بجسدها الضئيل ، ينتابها شعور بإختلال توازنها، بل فقدانها لوعيها.

لتجر قدماها بثقل غامض ، يزداد من تلاطم دقاتها، فترفع يدها نحو موضع مضختها في محاولة لإخماد تلك الدقات الثائرة، حتى خرجت من هذا المجال، لتنتظم دقاتها بشعور غامض ومبهم .
يتبع .. 
الحلقة قيد الكتابة وسيتم رفعها قريبًا
كي نتمكن من اعلامك عند صدورها إنضم لنا على تليجرام : من هنا 
أو اكتب في جوجل بعد قليل ( رواية همس السكون مدونة يوتوبيا) وستجد الرواية كاملة داخل الموقع.
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-