رواية نجمة الباشا بقلم دينا إبراهيم و رحمة سيد

رواية نجمة الباشا بقلم دينا إبراهيم و رحمة سيد 

لقراءة باقي روايات الكاتبة دينا إبراهيم : اضغط هنا
لقراءة باقي روايات الكاتبة رحمة سيد : اضغط هنا  
رواية نجمة الباشا المقدمة - رواية نجمة الباشا روكا -- رواية نجمة الباشا رحمة سيد - رواية نجمة الباشا الحلقة الأولى - رواية نجمة الباشا كاملة - رواية نجمة الباشا البارت الأول - رواية نجمة الباشا الفصل الأول
رواية نجمة الباشا بقلم دينا إبراهيم و رحمة سيد 

نُرشح لك هذه الموسيقى كي تستمتع لها وأنت تقرأ رواية نجمة الباشا 

رواية نجمة الباشا كاملة مكتوبة بقلم دينا إبراهيم روكا - ورحمة سيد

هز سليم كتفيه بلامبالاة وبرود جعلوا قلب نجمه ينتفض فزعًا بين ضلوعها خاصة حين أجابها:
-تفتكري المجرمين باخدهم فين؟!
على الحبس طبعًا.


تيقنت نجمه من صدق كلامه حينما وجدت نفسها أمام باب "الزنزانة" فعليًا، تلك اللحظة أحست نجمه أن كل شيء يدور من حولها سوى تلك الزنزانة التي تمثلت أمامها في هيئة وحش لكنها زمجرت في عناد متمسكة بفكرة عشقه لها:
-انت متقدرش تعمل كده وأنا مش هسمحلك تهني بالطريقة دي!
أشار سليم إلى أذنه ثم اردف متهكمًا:
-تسمحيلي ؟
طموحة أوي انتي يا نجمة!


ابتعدت نجمة عنه تحاول التراجع لكنه منعها ممسكًا معصمها في حزم فهتفت فيه صارخة:
-انت فاكرها سايبها أنا هوديك في داهيه لو قربت مني!
-جدعه، افتح الباب يا عسكري.
تسمرت نجمة مكانها بعيون منفرجة تتابع الباب يُفتح حتى قاطع سليم صدمتها بصوتٍ متسلِ :
-متقلقيش انا هاسيبك مع ستات جايين بتهم شبه تهمتك، مش هاوديكي مع قتالين قتلة.
سيتم اضافة الحلقات الجديدة فور كتابتها (فتابعنا)

رواية نجمة الباشا الحلقة الأولى 


الفصل الأول:

خرجت "نجمة" من كلية "الآثار" بملامح بيضاء طفولية رقيقة تنبض بالإرهاق بعد يوم طويل في المحاضرات، عدلت خصلاتها السوداء الناعمة خلف أذنها منزعجة من تمردها، نظرت أمامها مباشرةً متمنية إيجاد وسيلة مواصلات فارغة تنقلها فورًا لمنزلها، فاستوقفها رؤيته...!
وقف "سليم" مستندًا بظهره على سيارته عاقدًا ذراعيه معًا يرتدي بذلته السوداء الخاصة بالشرطة والتي تكرهها، تقابلت أعينهم في وصال سريع مخضب بالمشاعر، تكره حصاره لها وحضوره الطاغي، وتكره نظراته الرجولية التي تسبر أغوارها فترسل لها ذبذبة من المشاعر تبعث فيها ما تحاول هي دفنه.
أما هو فلم يكن أفضل حالًا منها وعيناه تأبى أن تطيعه فتظل مُثبتة عليها وكأنها لا تبصر غيرها، تأسره بطلتها المُهلكة رغم شحوبها بل تأسر قلبه الذي يذوب فيها كل مرة يقع نظره عليها، فتشدد على أقفال قلبه المغلقة بمفاتيحها...
سرعان ما أنهت وصال الأعين لتحرمه حلاوة النظر لهما وشوقه لتلك العيون التي سرقت منامه منذ النظرة الأولى، ضاقت عيناه بنفاذ صبر وغضب عندما نظرت له من أعلاه لأسفله بنظره يعلمها جيدًا، وأكملت طريقها دون أن تتوقف وكأنها لا تراه...
كان يعلم أنها لن تكلف نفسها عناء التحدث معه او حتى نهره، ولكن ماذا يفعل في قلبه العصي الذي يختض داخله قلقًا عليها خاصة كل يوم أحد منذ بداية هذا الفصل الدراسي اللعين فهو يعلم أن محاضراتها تنتهي في وقت متأخر أكثر من اللازم، فيظل ينتظرها كل أحد طوال شهرين مضوا حتى تنتهي ثم يراقبها بحرص حتى تصل بيتها دون علم منها ولكنه اليوم تعمد إعلان حضوره ووجوده بصراحة بعد شجارهم الأخير الشرس التي افتعلته هي بدون مبرر لتخبره بعدها برغبتها في الابتعاد عنه!.
تحركت "نجمة" مبتعدة عنه في عناد، عندما استوقفها نداء أحد زملائها لأسمها قبل ان يمد الأبلة يده بتلقائية يلامس ذراعها كي يوقف تقدمها لاهثًا بسبب ركضه خلفها:

-انتي بتجري كده ليه يا نجمة!
مش قولتلك هوصلك في طريقي.

عادت نجمة خطوة للخلف محاولة عدم احراجه فخالد لطيف ومهذب ويساعدها كثيرًا عند غيابها بل ويتكبد عناء الامضاء في كشف الحضور بدلًا عنها دون طلب منها، ثم هزت رأسها نافية بابتسامة مُجاملة تشكره:

-لأ شكرًا يا خالد أنا هروح لوحدي وكده كده هاخد تاكسي متتعبش نفسك.

هز خالد رأسه بإصرار، فهو ينتظر ذلك اليوم من الأسبوع للأسبوع حتى يتقرب منها بأي طريقة لكنها كل مرة تهرب منه:

-تعب إيه بس، مفيش تعب ولا حاجة يا ستي، الوقت اتأخر واحتمال كبير متلاقيش مواصلات دلوقتي،
واحنا طريقنا واحد يعني مش هروح حته مخصوص.

تحركت نجمة من جديد وبنبرة رقيقة شاكرة ردت في محاولة لتثنيه عن إصراره:

-صدقني مفيش داعي، شكرًا جدًا بجد.

أما "سليم" فكان يتابعهما في صمت قاتل وكل ثانية تمر تجعله يتراقص على جمر الانتظار لا يصدق أنها تتجرأ على محادثة رجل غيره أمام عينيه، ازدرد ريقه محاولًا إطفاء نيران صدره وهو يراها تتحدث مع ذلك الأحمق بينما هو مُحرم عليه سماع صوتها أو التثبت بحق امتلاكها ..... وفوق ذلك هي تقف هناك بكل وقاحة توزع ابتسامات لا يحق لغيره أن يغرق في حلاوتها...
كان يحاول تكبيل غضبه وغيرته ولكن زمام انفعالاته فلت من يده ووقت وقوفهما سويًا يزداد، تقدم نحوهما بخطى نارية حتى أصبح أمامهما مباشرًا، ودون أن يعير الأحمق الواقف أمامه أي اهتمام كان يحادث "نجمة" في نبرة أجشه تحمل الكثير من الغضب والوعيد المكتوم :

-امشي قدامي على العربية.

حاولت هي كبح الدهشة التي استباحت ملامحها لتدخله الغير مسبوق بينما تجهم وجهه خالد وهو يشاهد في دهشة دخول شاب من رجال الشرطة بينهما فقاطعه بنبرة منذهله لا يستوعب المنافسة:

-إيه ده، مين ده يا نجمة وساحبك يوصلك ليه مش فاهم!

اقترب منه "سليم" خطوة وأردف من بين أسنانه بنبرة خافتة مُقلقة:

-اسحبها؟
لا أنا ابقى ابن عمها يا خفيف يعني مش ساحبها ولا حاجة وأحمد ربنا اني هعدي وقفتكم دي على خير لكن اعمل حسابك لو اتكررت تاني،
ساعتها أنت اللي هتتسحب معايا، فاهم يالا ؟!

أغمضت نجمة عيناها في ذعر تستغفر بصوت منخفض وهي تدعو ألا يتضخم الأمر لشجار يسبب لها فضيحة أكبر، فرفعت يداها امام سليم تفصل بينه وبين زميلها المسكين المرتبك ورددت بحروف متوترة كحالها:

-خلاص يا سليم ، شكرًا يا خالد وبعتذرلك عن سوء الفهم.

استدارت حتى تذهب وهي تواكب خطوات سليم مشيرة بنظرة غاضبة متوعدة إليه بينما هو ينفث الدخان من أنفه خاصةً حينما استطرد "خالد" بنبرة أرادها أن تعكس التهكم لكنها خرجت مهتزة قليلًا:

-ولا يهمك يا نجمة انا بس مش فاهم الكابتن دخل حامي علينا كده ليه؟

-كابتن؟!

كز سليم على أسنانه وكاد يعود إليه لولا نجمه التي وقفت له بالمرصاد تقتله بنظراتها، فزمجرت تحاول إيقافه عن أخذ دور الفرعون المُدمر محذرة:

-سليم!

حاول بصعوبة تمالك أعصابه حتى لا يتسبب لها بمشكلة تكون جدار عازل جديد بينهما، فيما حاول خالد ألا يظهر قلقه من تهديد سليم له تاركًا لنجمة إبراز ملامحها بالنفور والغيظ من استغلاله لسلطته بهذه الطريقة..!
ولم ينتظر سليم أكثر بل تمادى بسحب نجمة من ذراعها نحو سيارته وما إن ابتعدوا خطوتين حتى نفضت ذراعها بعيدًا عنه لكنها استمرت في سيرها مزمجره فيه وقد زالت قشرة الهدوء والتماسك ليتناثر الغضب على ثناياها:

-أنت بتتدخل وبتعملي مشاكل كمان، وفرحان أوي بالبدلة اللي أنت لابسها.

لم يرد سليم عليها حتى لا يطحنها بكلمات سامة، ولكنها لم تصمت بل ازداد سعير غضبها من صمته المستفز:

-أنا بكلمك يا بني ادم ولا أنت مش بتنطق وتتشطر غير على الغلابه!

رفع سليم حاجبه الأيسر ساخرًا:

-الواد الصايع ده غلبان؟
والنبي انتي اللي غلبانه وهبلة!

انفعلت أكثر عندما وصلا للسيارة ووقف جوارها في ثبات يحجز جسدها من التراجع ويدفعها للركوب وبعد إغلاق الباب اتجه بخطوات قوية تصرخ بالهيبة قبل أن يجاورها في كرسي السائق وينطلق بالسيارة فصاحت فيه بغيظ:

-وأنت مالك أصلاً، أنا مش قولتلك ابعد عني، جاي الكلية ورايا ليه؟!

حينها استدار لها سليم قائلًا بصوته الرجولي الخشن وبثبات أذهلها:

-عشان أنتي عارفه وانا عارف إني مش هبعد إلا أما اكون متأكد إنك فعلاً مش عايزاني،
إنما أنتي مرة تشغليني ومرة تتجنني زي دلوقتي، انتي عايزه ايه بالظبط يا بنت الناس؟!

أشارت نجمة بيدها نحو صدرها وهي تتشدق بانفعال وارتباك:

-أنا مش بشاغل حد أنا كنت بعتبرك صديق .. اه .. صديق .. واديني رجعت لعقلي ومش عايزة يكون ليا أصدقاء شباب في حياتي، مش طيقاك يا أخي الله!
عايز تتأكد أكتر من كده إيه؟

فعليًا لم يعد يفهم ما يدور في دواخلها، احيانًا يشعر أنه نجح في تسلق جدران قلبها وانه تسلل داخلها مسيطرًا على وهجها العاطفي، واحيانًا اخرى يشعر أن كل خلية بها تنفر منه بل أسوأ هي تجعله ينفر من نفسه بنظراتها تلك..!

زفر أنفاسه بحدة وهو يقول مستنكرًا:

-انتي ليه مصره تستفزيني بأسلوبك ده؟

استدارت بنصف جسدها ترفض النظر نحوه أو الإجابة وقالت في قسوة:

-أنا مش مُلزمه أتكلم معاك أكتر من كده، انت أصريت تشبهني واللي حصل حصل خلاص ... يا... يا باشا!

ارتفع طرف فمه في شبة ابتسامة قاسية كي لا ينسى رزانته ويمطرها بوابل من الشتائم الوقحة لأنها تصر على جرح كبريائه والاستهزاء بمركزة دون أي مبرر، فأخبرها ساخرًا:

-أشبهك؟
ليه ركبتي العربية مع قَتْاَل قُتله؟

عادت ترمقه في غل وقالت بنبرة تتقطر بالتهكم:

-يمكن ومين عالم اللي في إيده سلطة بيعمل أيه في خلق ربنا!

-سلطة أيه هو انا رئيس الجمهورية!
وبعدين مهما كانت سلطتي قوية أكيد مش أقوي من سلطة ربنا،
تفتكري لو مشيت أضر في الناس زي ما خيالك المريض مصورلك، السلطة دي هتفدني بأية قدام ربنا؟

-بقولك أيه متعملش نفسك مؤمن أوي انتوا مفترين ومعدومين الضمير أصلًا!

-هما مين دول اللي مفترين يا بنت ال...

عض سليم فوق شفتيه يكبح كلماته القاسية فطبيعة عمله أجبرته على كسب بعض الخصال الحادة في طباعه منها رفض الإهانة بشكل قطعي ولكن نجمة هي النجمة التي تعتلي عرش قلبه رغم جحودها وقسوتها الغير مبررة نحوه.

قطعت أفكاره عندما التفتت نحوه تلوح بيدها في وجهه مؤكدة:

-شوفت مقدرتش تستحمل كلمة واحدة، وبتسأل مش طيقاك وبكرهك ليه ده أنت جبروت.

أوقف السيارة في حدة والتفت يميل نحوها مجبرًا جسدها على الابتعاد للهرب منه قليلًا في خوف.
انتقلت عيونه كالقناص فوق ملامحها ووجهها المتخضب بحمرة فجائية بسبب قربه، ثم سرق منها شهقة رفيعة عندما مد كفه يلامس معصمها يستشعر نبضاتها الهادرة مع ملمس بشرتها الناعمة بينما كفه الاخر يقبض على جانب عنقها ووجهها في قوة يجبرها على النظر في عينيه بثبات، مستطردً في غموض حاد:

-نجمة بتحبيني ولا لا؟

كانت تنظر له ببلاهة عاجزة عن الرد بل عاجزة عن التنفس وقد اقترب منها لهذه الدرجة لأول مرة ورغم لمسته الخاطئة الغير مقبولة إلا انها لم تقوى على منع مشاعرها نحوه من الانتفاض بكل الزوايا داخل صدرها لكنها تمالكت نفسها بما يكفي لتجيب في ارتباك حاد وعيون مرتعشة:

-قولت لا، الله .. هو.. هو بالعافية..

أبعدت عيناها عنه تشعر كمن يتعرى من مشاعره بنظراته الثاقبة ثم دفعت كفه عن وجهها.
عادت ابتسامته الجذابة تتسع فوق شفتيه وتنير محياه قبل ان يخبرها في ثقة مخلوطة مع نبرة جفاء أثناء تعديله لجلسته مشغلًا سيارته:

-كل حرف بيطلع منك كدب، انا مش بس ظابط بيشم الكدب من على بُعد ميل أنا واخد دورات لغة جسد كمان فلما تحاولي تكدبي سيطري على جسمك أكتر من كده.

كانت تنظر له بأعين وفم منفرجين يعبران عن ذهولها مما يتفوه به لكنها هتفت في غصب:

-أنت مش طبيعي ... لا لا أنت مش طبيعي ...

-اه فعلًا، أنا اللي فضلت ألاعبك ٨ شهور، وبعدين جيت قولتلك من غير أي مبرر اني هقطع علاقتي بيكي وكسرت قلبك مش كده؟

أخبرها في تهكم أثناء انشغاله بالطريق، فاعتدلت تزمجر اعتراضها في غرور :

-اولًا كان في مبرر اني مش هرتبط بظابط، ثانيًا أنا ملعبتش بيك احنا كنا مجرد اصحاب مش ذنبي انك فهمت علاقتنا غلط.

توقفا في اشارة المرور فالتفت برأسه يطالعها من اسفلها لأعلاها قبل أن يردف ساخرًا:

-اه فعلا الحق عليا انا اللي فضلت اشاغلك عشان اوقعك على جدور رقبتك مش كده،
يا شيخه منك لله ده أنا هاين عليا اخزق عنيكي دي بإيدي!!

-أنت .. أنت إنسان مش محترم وانا ندمانة اني قربت منك في يوم!

قالت نجمة في غيظ تخفي مشاعر الخجل داخلها، فجاءها رده السريع الحازم:

-ابقي قابليني لو عرفتي تبعدي!

جزت على اسنانها ثم التفتت تنظر للنافذة في غضب عندما تجاهل النظر نحوها تمامًا وملامح الرضا تملئ وجهه فعضت على شفتيها تكبح غيظها ثم عقدت ذراعها أمام صدرها في دفاعية.
أغمضت جفونها تبتلع إحراجها وخجلها الذي سببه بتصريحاته ولعنت ذلك القلب الذي يرفض الانصياع لها ويذوب في تصريحاته الصارمة ويتركها هاربًا نحو ذكريات تتمنى نسيانها.

***

مطت نجمة رأسها من باب الغرفة الخاصة بالعروس داخل القاعة واتسعت ابتسامتها وهي ترى العريس يتقدم أصدقاءه متجهًا في حماسة شديدة نحو الغرفة، فسرق انتباهها صوت ضحكة رجولية مشاكسة بطريقة جذابة حولت نظرها لذلك الشاب الذي يجاور صديقه يحاول مواكبة خطواته الحماسية قبل أن يهتف ممازحًا في نبرة مغيظة تستهدف صديقة دون خجل:

-أنت على طول مستعجل كده، رامي أنا مش مرتاحلك، انت هتفضحنا مش كده؟!

حرك العريس كفه بإهمال غير مبالي بكلماته المغيظة أو بضحكات رفاقهم مقتربًا أكثر من الباب فاتسعت أعين نجمة التي تخلت عن هيامها بذلك الوسيم وابتسامته الجذابة مغلقة الباب بإحكام تمنع دخولهم وهي تلتفت نحو العروس المحاطة بأكثر من شخص ما بين ترتيب ثوبها ووضع أحمر شفاهها:

-يلا بسرعة بسرعة العريس وصل!

صرخت "نجمة" بصديقتها العروس "داليدا" التي قابلتها بصرخة حماسية متجاهلة عامل التزيين الذي يضع بصعوبة لمساته الأخيرة فوق وجهها دون أن يلطخ فستان زفافها الأبيض البراق.

-اوعي تخلي يدخل يا نجمة لحد ما اجهز.

-عيب عليكي يا أنا يا هو انهارده.

انفتح الباب فاندفعت نجمة تتمسك بقبضته مطلة برأسها صارخة وسط ضحكاتها:

-ممنوع ممنوع لازم تستنى الفريست لوك.

-يا نجمة بطلي سخافة عايز أشوف مراتي.

تلك الفتاة الضحوكة المسماة "نجمة" اسم يجسد أحلامه حرفيًا اجبرت ابتسامه كبيرة بلهاء على وجه سليم الواقف بجوار صديقه المتذمر والذي يحاول دفع الباب ليدخل لكن نجمة العنيدة اندفعت للخارج لتمنعه.
توهجت عيون سليم وقد سرقت انفاسه بفستانها الذهبي الملفوف باحترافية حول جسدها الممتلئ نوعًا ما، زم شفتيه وارتفع حاجبه متفاجئ باكتناز خصرها الصغير مقارنةً بما تملكه من مفاتن أسفله.
أغلقت نجمة الباب في قوة فانتشلته من جموده ثم سندت بجسدها الصغير فوق الباب الخشبي لاويه معصمها للخلف كي تمسك المقبض بأصابعها الرقيقة غير مبالية بأظافرها المنمقة بلون ...آآمم ... حسنًا هو لا يعلم مسمى هذا اللون الباهت المريب وحقيقةً لا يريد.
حرك سليم رأسه متعجبًا من التفاهة التي تتقاذف داخل أفكاره، ولكنه يميل لذلك حين يتشتت انتباهه وتلك الفتاة نجحت بجدارة في لفت انتباهه بخيوط الشقاوة المنبعثة من عيناها وقد جذبته لها دون أن يدري.

-دي بتهزر يا سليم قولها تدخلني، مش كده!

قطع رامي المزمجر أفكاره وهو يطلب مساعدته، فوجد نفسه يتحدث دون تفكير بصوت شارد:

-ايه يا رامي سيبها براحتها!

شعر بقلبه ينقبض بشعور غريب يجتاحه لأول مرة عندما ارسلت نجمة ابتسامة واسعة تخصه بها وحده، وزاد تيهه وارتباكه أكثر حين علت الزغاريد وبعض الكلمات التي لم يستوعبها قبل أن تبتعد "نجمة" عن الباب سامحة لصديقه بالدخول بحركة مسرحية.
تابع حركة أصابعها وهي تميل للأمام فتحركت عيناه تلقائيًا فوق عودها الملفوف ثم تنحنح مبعدًا أنظاره عن جسدها صعودًا لعينيها ولدهشته كانت الفتاة تطالعه بابتسامة مشاكسة تخبره بأنه تم القبض عليه متلبسًا ونظراته المشتعلة تأكل جسدها الشبيه بجسد الحوريات.
ارتفع حاجبه في ذهول ولكنه ابتسم لها بتروي وقد أثارت جنونه بتلك النظرة المشاغبة التي رمقته بها فأججت نيران رجولته في أعماقه قبل أن تخفض في خجل عيونها المكحلة بطريقة تبرز لون العسل في عينيها.
خرج سليم من صومعة أحلامه الحارة عندما استدارت متجاهلة إياه منضمة للهرج والمرج في الداخل وكأن تلك اللحظة الخاطفة لم تسرق كيان كلاهما.
تنفس بعمق لا يصدق انه يقف في قاعة عُرس صديقه يتصرف كالمراهق تاركًا تلك النجمة التي لم يرى مثيلها مهمة التلاعب بمشاعره ... أين الثبات يا باشا ؟!
فكر متهكمًا ثم حرك كفه على وجهه يحاول تمالك رباط جأشه والاحتفاظ بابتسامته الواسعة على محياه وهو يقابل العروسان اللذان خرجا بملامح تفصح عن السعادة التي تتملكهما ليبدأ بذلك الاحتفال الكبير.
مر الوقت سريعًا في الاحتفال وكل ما كان يفكر به سليم هو انه يفقد صوابه تدريجيًا فها هو يراقص أصدقائه وعيونه لا تحد عن جسدها حوري الهيئة متابعًا عن كثب تحركات "نجمة" التي تتجاهله وترفض عيناها الاعتراف بوجوده وكأنها تتعمد عدم النظر نحوه.
الأمر الذي أثار حنقه وغضبه بشكل غير مبرر، فبالرغم انه مر بعدد ليس قليل من العلاقات النسائية خاصة مع كونه "الضابط" الذي يجذب بهيئته ومركزه الكثير من الجميلات إلا انه لم يشعر بمثل هذا الشعور الغريب من قبل فهو لا يعرف الفتاة نجمة من الأساس ومع ذلك يشعر بالامتلاك بل أسوأ هو يشعر بخليط من مشاعر التحدي والرفض بينما يراها لاهيه برقصاتها السخيفة مع صديقاتها بأصواتهم العالية المزعجة.
أقترب سليم من الركن البعيد من حلبة الرقص واندس بين أصدقائه القدامى سامحًا لهم بجره لمشاركتهم المرح بل سامحًا لنفسه بإبعاد تفكيره عنها ولكنه ظل يتلصص بنظراته نحوها كل بضع ثواني حتى التقت أعينهم أخيرًا فوجد نفسه يرسل لها ابتسامه صغيرة عاودتها هي بكل ترحاب ومرة أخرى تسرق أنفاسه وفضوله بتلك النظرات الحارقة قبل ان تستدير بعيدًا عنه.
عضت نجمة فوق شفتيها لا تصدق أنها نجحت في لفت انتباه الوسيم ذو العيون الرائعة، ثم اتجهت تعانق العروس أثناء ميلها نحوها هامسة في نبرة ممازحة:

-داليدا الف مبروك وكل حاجة بس صاحب جوزك قمر وانتي لازم تخليه يتجوزني هالحين.

ضحكت داليدا وهي تضع شفتيها قرب أذنها قائلة:

-انهي واحد عشان في ماسورة رجالة قمر ضربت قدامي.

-الأسمر الطويل اللي واقف بين رامي والولد الأبيض ده.

-قصدك سليم؟
أيه ده، ده بيبص عليكي!

انفرجت أسارير نجمة واتسعت عيونها في رضا هامسة:

-يا بركة دعاكي يا أمي بيبص عليا و "سليم" وانا بعشق الاسم ده،
لا لا جوزونا بسرعة بدل ما أروح أقوله بحبك وافضحكم!

-والله مجنونة، بت ده بجد مش بيشيل عينه من عليكي، انتي عملتيله ايه؟

ضحكت نجمة بمكر هامسة :

-ده سر الصنعة يا ماما خليكي في جوزك وسيبيني أنا هعرف اجيبه على بوزة.

قطع حديثهم وصله جديدة من الأغاني التي استدعت استعراض العروسين فوقفت نجمة تصفق بابتسامه سعيدة سامحه للعريس بسحب زوجته ولم تنتبه لذلك الذي جاء بجوارها يطالعها وكأنها أحجية.
شعرت نجمة بنظرات حارة تخترق جانب وجهها فمالت برأسها تطالع الواقف جانبها لتتقابل عيناها بعينيه البنية وكعادته قابلها بابتسامه رائعة خطفت أنفاسها فارتبكت نظراتها وابعدت عيناها بوجه أحمر عن مرماه.
الان تخجل فكرت ساخرة بينما ارتفع جانب وجه سليم متعجبًا للون القرمزي الذي تملك وجهها في تصريح واضح يعبر عن خجلها فأصبح أكثر تشتتًا بالإشارات المختلفة التي ترسلها إليه.
مر أحدهم بجواره فدفعه مجبرًا إياه على ملامسه كتفه بكتفها فزادت ابتسامته عندما نظرت له باعين متسعة قبل ان تلتفت بارتباك بعيدًا عنه، علت ابتسامه واسعه على وجهه قبل ان يميل قليلًا نحوها ليخبرها:

-متأسف والله في واحد خبط فيا، مكنتش أقصد.

ارسلت له ابتسامه صغيرة خرجت خجلة رغم رغبتها في رسم المبالاة واجابته:

-حصل خير.

-انا اسمي سليم على فكرة، صاحب العريس.

-وانا نجمة صاحبة العروسة.

-نجمة ... اسمك جميل أوي شبهك يا نجمة.

ضحكت ممتنه قبل ان تخبره بشجاعة تحاول امتهانها:

-اعتبر دي معاكسة؟

ارتفع جانب وجهه في ابتسامه جذابة متعجب للمشاغبة التي تتنقل من عينيها لتستقر داخله فتبهت عليه وهو يؤكد بنبرة أكثر مشاغبة:

-حسب هترضي ترغي معايا بعدها ولا هتنفضيلي؟

وضعت نجمة يدها فوق فمها تخفي ضحكة عالية قبل ان ترمش بعيونها الواسعة مؤكدة:

-أسفة مش برغي مع شباب معرفهاش.

رمقته بنظرتها المراوغة التي أثارت فضوله نحوها اكثر وأكثر وذهبت بعيدًا وسط صديقاتها ولكنه لم يستلم وتتالت لقاءات الأعين بينهما، فهي تبعث له بابتسامات خجلة تارة ونظرات ماكرة تارة أخرى وكأنها تعلم تمامًا انها أشعلت فتيل فضوله والتحدي داخله.

رواية نجمة الباشا الفصل الثاني





كانت نجمة في حالة من الصدمة الضاحكة تفشل في التحكم في ابتساماتها الواسعة لا تصدق انها تفعل ما توبخ صديقاتها وتستنكره حين يفعلنه ولكن سليم فرض خيوطه على قلبها ليشعله بشرارة جديدة عليها ودون أن يتفوه بكلمة واحدة.
هو من بدء بالهجوم وما هي فيه ليس سوى حالة غريزية عن صوابها المفقود، فكرت في صلافة ثم التفتت تبحث عنه بعينيها فوجدته يبتعد نحو الخارج يحاول الإجابة على الهاتف، ضاقت عيونها في تساؤل:
ترى مع من يتحدث، هل ستتفاجأ الآن بارتباطه وتسقط فوق جدران أحلامها المحطمة ؟!
عضت شفتيها مفكرة في اتباعه وارضاء الفضول، فماذا ستخسر، لقد تخطت الواقع واستسلمت لجنون إعجاب منذ البداية وسلكت طريق لم تمر به يومًا.
جذبت نجمة حقيبتها مخرجة هاتفها واتبعت خطاه تبحث عنه بعينيها وهي تعبث بهاتفها للاتصال بوالدتها وشعرت بغيظ حقيقي لأنه اختفى عن مرمى بصرها لكنها انشغلت حين قاطعتها والداها التي أجابتها:

-الو يا نجمة، خلصتي الفرح؟

-الو يا ماما لا لسه شوية متقلقيش انا بتصل بس عشان اطمنك عليا.

-طيب متتأخريش أحسن أبوكي يبهدلك نص ساعة بالكتير.

ضحكت نجمة وهي تستمع لهمهمات والدها بجوار والدتها لابد إنه يتذمر لها بانه لم ينطق بحرف وان هي من تتحدث باسمه، وتمنت في تلك اللحظة من كل قلبها أن تجد شريك العمر كي تعيش معه مثل تلك العلاقة الرائعة الطفولية، فقالت مؤكدة بنبرة مشاغبة:

-خلاص يا ست ماما نص ساعة وهروح، مع السلامة دلوقتي.

-خدي بالك من نفسك وكلميني أول ما تتطلعي من الفرح ومتنسيش تبعتيلي اللوكيشن لو ركبتي أوبر.

أسرعت والدتها في تلو إرشاداتها ولكن كل ما لفت انتباه نجمة المرتبكة هو ذلك الشاب المار من جوارها وهو يلقي كلمات الغزل فحاولت إنهاء المكالمة قبل ان تنتبه والدتها وتطالبها بالعودة فورًا ولكن نجدها الله حين توقف الشاب عن مضايقتها وأبتعد دون كلمة أخرى.
على ما يبدو أنه انتبه لحديثها مع والدتها على الهاتف ... ابتسمت متهكمه، حسنًا فعلى الأقل لديه مبادئ ... كعدم التعرض للفتيات أثناء حديثهن مع والدتهن، فكرت ساخرة قبل أن تقاطع والدتها في نبرة عجلة:

-حاضر، حاضر يا ماما مع السلامة.

-مع السلامة.

تنفست الصعداء ما أن أغلقت الهاتف ثم التفت حولها أمله أن تلمح سليم فتفاجأت به يقف خلفها مباشرةً بطوله الفارع مقارنه بطولها المتوسط الواصل لمنتصف صدره الآن عرفت لما هرب الشاب، شهقت بعنف وما زاد من اضطرابها انه كان محور افكارها فخشيت بان يكون قد استمع لدواخلها بطريقةٍ سحريةٍ ما، لكنها اردفت في حدة متذمرة:

-قلبي كان هيقف على فكرة.

ضحك سليم رافعًا كلا كفيه أمامه في استسلام ثم غمزها بطرف عينه في مكر:

-سلامة قلبك، ان شاء الله قلبي أنا.

حاولت السيطرة على ابتسامة ترغب في الظهور وقالت بينما تعقد ذراعيها أمامها:

-على فكرة الشغل ده مش هينفع معايا.

-طيب ايه اللي ينفع معاكي؟

رمشت أكثر من مرة بعيون متعجبة من صراحته المباشرة لكنه فاجأها أكثر حين استكمل بثبات يحسد عليه:

-شوفي عشان ابقى صريح معاكي، أنا حاسس اني مشدود ليكي وعايز اتعرف عليكي أكتر.

-اه قولتلي...

قالت في نبرة ساخرة قبل ان تقضب حاجبيها مستكملة في حده:

-طيب شوف يا أستاذ سليم، أنا كنت فكراك حد محترم بس جو التعرف والارتباط ده....

-ايه ايه وحدي الله في قلبك كده، انتي فهمتيني غلط، أنا مقصدتش اللي في بالك.

-أومال تقصد ايه؟

عقدت ذراعيها في دفاعية أمام صدرها تنتظر اجابته:

-انا عايز أتعرف عليكي بأي طريقة تعجبك، ان شاء الله تكتبيلي عنوان بيتكم،
انا بعمل كل ده عشان خاطرك مش اكتر لأني حاسس والله أعلم انك هتحبيبني وهتموتي فيا.

قالها سليم بابتسامه كبيرة مشاغبة وعيون لامعة في إصرار فرفعت حاجبها قبل أن تخبره في شموخ:

-ده عشم ابليس في الجنة.

-هنشوف.

قال في تحدي واضح قبل ان يشير للداخل هامسًا في تهكم بعيون مشاكسة:

-اتفضلي لأحسن رقصة تفوتك لا سمح الله!

-حاجة ما تخصكش.

قالت في ميوعة متعمدة التمايل امامه للداخل، فأجابها في غموض وتحدي:

-وماله كله في وقته.

رمقته بعناد والتفتت للعودة تاركة الحبال لابتسامه كبيرة واسعة ابتلعت وجهها، فاقدة السيطرة على قلب يدق بعنفوان، سعيدة وفخورة بأن شعلة الجنون وشرارات الإعجاب كانت متبادلة ولم تتملكها وحدها.
بينما اتبعها سليم بنظراته الثاقبة وخطواته الثابتة وهو يتوعد بأن يمتلكها قريبًا.
***

خرجت نجمة من افكارها حين انتبهت لوصولها واقترابه من منزلها فهتفت به في رفض:

-متدخلش أكتر من كده نزلني هنا.

-لا هوصلك عند بيتك.

-أنت ليه انسان مستفز بقولك نزلني لحد من أهلي يشوفني وتبقى مصيبه.

اخبرته مستنكره عناده واصراره، فصرح متهكمًا:

-أنا عايز كده ومتقلقيش هبقى أصلح غلطتي.

ارتعشت شفتاها وقد جفت من القلق والذعر محاولة الهمس في توسل:

-عشان خاطري يا سليم نزلني هنا، بلاش فضايح!

-لا أنا عايز فضيحة يمكن وقتها ألاقي مبرر اتقدملك بيه ونخلص من حججك الفارغة.

اقترب من مبناهم فهبطت عبراتها وهي تضع طرف أصابعها فوق وجهها وتدور بجسدها شبه تخفي نفسها بالمقعد لتتوسل له باكية بحروف أسمه:

-يا سليم عشان خاطري.

أطبق فكيه والتفت يرمق هيئتها الخائفة فارتعش قلبه الخائن للرعب المتجلي في عيونها ليزفر وهو يضرب بكفه فوق مقود السيارة وينطلق مسرعًا متخطي مبناها وإلى خارج الطريق لكنه لم يتمالك غضبه وصاح في مشاعر حارقة:

-ليه عايزة نبقى كده؟
بدل ما تبقي حلالي، عايزة تبقي جانبي وانتي خايفة كده!

-انت مش فاهم حاجة كده أفضل لينا احنا مننفعش لبعض!

ردت بين شهقات بكائها فاستكمل بلهيب الغضب:

-ليه مُصره تهدمي كل حاجة بينا بالطريقة دي؟

استمرت في البكاء دون ان تجيبه فهتف بها في نبرة تعبر عن الحرقة داخله:

-ليه توصليني اني بدل ما ابقى فخور بتعبي وبمركزي ابقى كاره حتى البدلة اللي لابسها،
عملت أيه عشان العنف الغير مبرر ده عليا وعلى شغلي ؟

-انا اسفه، بس مش هينفع.

اخبرته بين بكاءها المتواصل فهز رأسه بخيبة أمل قبل أن ينظر أمامه بكبرياء قائلًا بنبرة جافة:

-نشفي دموعك وانزلي، انا هرجع وراكي لحد ما توصلي.

هزت رأسها مقهورة ثم مسحت عبراتها قبل ان تحاول الهبوط لكنه اوقفها لا يصدق سخرية القدر الذي دفعه للتصريح بمثل هذه الاتهامات، قائلًا:

-ولو رفضاني كان لازم تفكري في ده قبل ما تلعبي عليا، أنا مش من الرجالة اللي تلفي وتضحكي عليهم وبعدين ترميهم.

نظرت له مصعوقة لاتهاماته المخجلة ونظرته الموجعة فيها ولكنها لن تبرر ولن تدافع فهي تستحق وهي من بدء اللعبة وربما سليم هو عقابها، أغمضت جفونها عندما استطرد هامسًا في خفوت مرعب:

-وابقى خلي اللعب ينفعك، انزلي.

ترجلت وقد نجح في غرز شعور بالرخص داخل صدرها، فتحركت كالمغيبة تجفف دموعها لا تشعر به يتبعها ولا تشعر بالعيون المتسائلة من حولها حتى انقذها القدر أخيرًا بأن وصلت لمبناهم بعد دقائق مرت طويلة وفرت هاربة إلى منزلها.

*****

بعد مرور ساعات دخل سليم إلي منزله يشعر بإرهاق كبير حين اوقفته والدته قائلة:

-أيه يا سليم جاي بدري يعني؟

-لا يا ماما أنا هاخد دوش واريح ساعة وهنزل تاني.

اخبرها وهو يقبل رأسها ويتحرك نحو غرفته لكنها اتبعت مستكملة:

-طيب كويس انك جيت كنت عايزاك أنا وخالتك في خدمة.

ضحك سليم في خفة على اختيارها للكلمات لكنه اخبرها في نبرة صادقة:

-أؤمريني انتي وخالتي.

-الواد نبيل ابن خالتك مدوخها وعايزاك تشده عشان تربيه شويه.

ارتفع كلا حاجبيه في تعجب صريح قبل ان يرد متسائلًا:

-عايزاني احبسهولها؟!

-يووه، تحبسهولها أيه يا سليم، بقولك ابن خالتك!

ضحك سليم وهو يبعثر خزانته بحثًا عن ما يريد وأردف:

-ايوة يعني عمل أيه نبيل ومطلوب مني أيه؟

-المنيل عايز يخلي أمه تبيع الدهب بتاعها كله وتدهوله من ورا ابوه.

توقف سليم واستدار نحو والدته يتساءل في نبرة منذهلة:

-ده اللي هو ازاي؟
هو اتجنن ولا ايه ولا هو مش عارف أبوة.

مطت والدته شفتيها لليمين قائلة في خيبة أمل:

-محدش فاهم دماغه والله يا ابني وكل اللي نازل عليه ان امه تبيع الدهب عشان يتجوز المحروسة!

رمى سليم الملابس من يده فوق الفراش غاضب على ابن خالته وقيمة المهتزة، ليخبرها في انزعاج واضح:

-يا ماما الله يرضى عليكي سبيني أحبسه، ده لازم يتربى.

-والله يا ابني ما عارفة، المهم كلمه وعقله.

عض سليم فوق شفتيه في وعيد صامت لقريبه المجنون قبل ان يخبرها مؤكدًا:

-إلا هعقله، ده أنا هخلي يبوس ايدها قبل وبعد كل وجبة في اليوم.

ابتسمت والدته في رضا لكنها هزت رأسها فاقدة الأمل في فهم ملامحه وتكهناته الغامضة ثم اتجهت للخارج مردفه:

-تسلملي يا حبيبي أنا هروح اجهزلك الغدا، ربنا يباركلي فيك ويرزقك ببنت الحلال قادر يا كريم.

ارتفع جانب وجهه في سخرية مغمغمًا:

-بس متقوليش كده لتتحرق في مكانها.

انعقد حاجبي والدته وسألته قبل أن تغلق الباب:

-بتقول أيه؟

-بقول يارب يا ماما، يارب.

وبذلك دلف إلى المرحاض وكل خلية في تفكيره تحارب لأخذ هدنة من التفكير في نجمة وطبيعة علاقتهما المتدهورة منذ فترة.

*****

أما في منزل نجمة، كانت جالسة في غرفتها تتلاعب بخصلات شعرها بإصبعها بينما ملامحها تتلوى غضبًا، والأفكار تتشابك داخل عقلها كخيوط العنكبوت... تلعنه وتعلن الفوضى التي أثارها بكيانها وتلعن حظها التعس فلأول مرة في حياتها تنسى مبادئها وتخاطر بألقاء شباكها على الجنس الآخر..... وماذا أخرجت من جعبتها .... دونًا عن كل الرجال وقعت في سليم.

-استغفر الله العظيم، فعلًا الغلط عقابه وقتي.

تمتمت تحاول إيجاد مبررات لعقلها الغاضب من اللعبة التي بدأتها هي ويقتلها وصفة لها بالتلاعب فهو الذي يُلاعب أوتار انوثتها بمهارة، يحاصرها بوجوده الرجولي حولها فلا تشعر سوى ونفورها يذوب من حولها.
يحاربها بأقوى سلاح يُذيب الأنثى .."الاهتمام".. لا يكف عن جعل تلك الشعلة تلهبها بعاطفة لم تجربها قبلًا.
يحاول ويحاول ليطعن رفضها تحت قدمها، فكيف لها هي ألا تلين؟!
ألا تذوب في متعة ذلك الاهتمام الدافئ وتلك المعاملة التي تشعرها بأنها ملكة يسعى ويحارب للوصول إليها؟!
ولكنها كالعادة كلما تركت نفسها لطوفان العاطفة، سرعان ما يصحو هاجسها من غفوة لذة العشق ليحذرها، يُخيفها، يدهس استسلامها أسفل عجلاته.
تنهدت في حرارة تمنت لو لم تكتشف مهنته أبدًا، وتركت ذاكرتها تتماوج مع ذكريات يوم الزفاف.

***
بعد انتهاء الزفاف وذهاب العروسين، وقفت نجمة بين مجموعة من الفتيات يحاولن التقاط شبكة لطلب تطبيق المواصلات الشهير ولكن ب دقائق من المحاولات تدخل "سليم" المراقب للوضع وبعد إلحاح وافقوا على أن يقوم بإيصالهم بحجة أن الوقت قد تأخر.
كبحت ابتسامه انتصار وهي تتابع عيناه تلاحقها في تذمر حين جلست في الكرسي الخلفي خلفه مباشرةً تحرمه من جلستها جواره لكنها كلما رفعت عيناها العسلية تنظر للمرآة تصطدم بنظراته العابثة المتابعة لها بتفحص ليرميها بغمزة من طرف عينه دون أن يلاحظها غيرها .
أبعدت نجمة وجهها سريعًا محاولة كبح ابتسامة ناعمة خجولة على شفتاها ثم أدارت رأسها بالكامل للجهة الاخرى بتمنع ..
واصلوا الطريق وسط احاديث صديقاتها فقابلوا في طريقهم لجنة للشرطة، أطلقت احدى صديقاتها صفير منخفض توقع مناوشاتهم قائلة مستفسرة:

-اووه ده في لجنة وبيفتشوا هو في حاجة ولا إيه!

هز سليم رأسه بابتسامة خفيفة وثقة متمتمًا:

-عادي متقلقيش.

اقتربوا من الكمين ثم أخرج سليم حافظة البطاقة الخاصة به، مخرجًا رأسه من شباك السيارة ليصيح مشيرًا بيده في تحية عسكرية شهيرة:

-مساء الفل يا باشا.

رد الضابط التحية وما إن نظر للبطاقة في يده حتى ابتسم ونظر للعساكر الواقفة في الطريق آمرًا بحفاوة شديدة:

-افتح يابني عدي الباشا.

ثم أشار لسليم بابتسامة مُجاملة:

-اتفضل يا باشا.

-متشكرين ربنا معاكم.

تمتم بها سليم وهو يستلم محفظته منطلقًا بالسيارة، نال ما حدث إعجاب الفتيات إلا نجمة التي رفعت حاجبها الايسر وتمتمت بشقاوة متهكمة:

-باشا !! هو انت من الأعيان ولا إيه؟

ابتسم سليم في فخر مشاكسًا لها هو الآخر بهزة مؤكدة من رأسه:

-اه طبعًا اومال!

حينها تدخلت إحدى صديقاتها تخبرها بنبرة منبهرة:

-طبعًا من الأعيان يابنتي مش رائد قد الدنيا!

تجمدت نجمة في جلستها لثواني قليلة وشحبت ملامحها وتلك الكلمة تخترق اذنها ضاربة صخرة مخاوفها بمطرقة الصدمة، سعلت بخفة قبل أن تتمتم بعدها بصوت منخفض وكأنها تتوسل التكذيب:

-مين ده اللي ظابط؟
سليم؟

أومأت الاخرى مؤكدة برأسها، بينما قال سليم بمرح مستنكرًا صدمتها:

-إيه ماشبهش ولا أيه!

تحشرجت أنفاسها وحينها فقط... كل المشاعر التي انتابتها، كل الشقاوة والعبث الذي ظهر في حضرته، انقضى وفر ادراج الريح !!
***

أغمضت جفونها وقد عادت نجمة لواقعها عساها تغلق الوميض الخافت داخلها الذي يخبرها أنها تلاعبت به بالفعل، هزت رأسها نافية تنفيه بمبررات واهية.
وحينما أرادت سحق ذلك الوميض بين ثنايا الظلام، أمسكت هاتفها لتتصل بصديقتها المقربة "دنيا" ، أجابتها بعد قليل ليأتيها صوتها المرهق:

-الوو ازيك يا نجمة؟

تمتمت نجمة بود تخفي ارتباكها:

-الحمدلله بخير، ازيك انتي يا حبيبتي واخبار صحتك دلوقتي؟

-انا الحمدلله بخير انتي عامله ايه؟
من يوم المستشفى مشوفتكيش وحشتيني أوي.

خجلت نجمة أن تخبرها بأنها خشيت الاتصال فتتسبب لها بمشاكل جديدة تنتهي بعقاب زوجها المجنون لها، لكنها قالت في تلعثم:

-الحمدلله وانتي وحشاني اكتر، بس الكلية شغلتني شوية،
مال صوتك أنتي تعبانة ولا إيه؟!

اتاها صوت دنيا المبحوح بتعب والذي أثار اوتار شفقتها، وحنقها في آنٍ واحد:

-لأ ده دور برد، وأنا مطبقة من أمبارح بخلص تجهيز عزومه اهل احمد عشان هيجوا بكره ومش عايزه خناق مع أحمد لو ملاقاش كل حاجة جاهزة انتي عرفاه!
هزت نجمة رأسها بتأكيد، كيف لها ألا تعرفه ... فحتى لو لم تكفي حكايات دنيا على سبيل الفضفضة لتعرف انه شخص عنيف بربري، يتعامل معها احيانًا وكأنه يعامل احد المجرمين، فتلك الآثار القبيحة التي رئتها توشم جسد صديقتها كافية لتعرف قُبح شخصيته .... فزوج دنيا هو السبب الرئيسي لمخاوفها، فهذا البربري ضابط مُتسلط مستغل لسلطته كذاك الذي يلاحقها هنا وهناك.. !!
خرجت من شرودها لتقول بصوت خرج حاد من فرط انفعالها دون أن تقصد:

-ما تريحي يا بنتي صوتك باين عليه التعب جدًا، وخليه يطلب اكل جاهز او حتى أجلوا العزومة،
انتي هتموتي نفسك عشان هو عايز يعزم أهله هو للدرجة دي مش حاسس بالمصيبة اللي عملها؟!

اتاها ردها في قلة حيلة:

-لو أهلي كنت أجلت العزومة يا نجمة لكن لو قولتله أجلها او هات أكل جاهز مش هخلص منه ومن خناقه وتهزيقه وهجيب لنفسي كلام أنا في غنى عنه!
خلينا ماشيين كويسين بالزق كده احسن، كفاية العيل اللي في بطني!

غمغمت نجمة بغيظ:

-سبحان ما مصبرك عليه بصراحة!

ابتسمت "دنيا" ابتسامة مصطنعة فلولا اكتشافها لحملها لأصرت على موقفها في الطلاق ولكن ذويها وذويه مع تهديداته الحادة بانتزاع الطفل المنتظر منها جعلها تستسلم لقدرها، أغمضت جفونها تصفي ذهنها قبل ان تغير الموضوع:

-سيبك مني المهم انتي إيه اخبارك، مفيش جديد في حياتك؟!

سعلت نجمة ثم تنهدت مردفه بتردد:

-هو بصراحة في، أنا متصلة بيكي عشان أحكيلك حاجة كنت مخبياها!

تشدقت دنيا في لهفة سعيدة بمحور الحديث:

-بجد طب احكيلي بسرعة يا مقصوفة الرقبة.

تنهدت نجمة تعلم رد فعلها لكنها بدأت تقص عليها كل شيء بدءًا من أول مرة رأت فيها " سليم " وصولاً بركضه خلفها هنا وهناك وحتى أخر مشاجرة بينهما، صرخت دنيا وهي تدفع كلماتها دفعًا لحافة لسانها:

-اوعي يا نجمة، اوعي!
ظباط لا، الشباب مليانين الدنيا بس اوعي من الظباط دول ملهمش أمان، أنا أتلسعت مرة وبقولك بلاش اديكي شايفة أحمد وشايفة حياتنا عامله ازاي، والله لولا اللي في بطني ما هستحمل!

الاجابة كما توقعتها تمامًا، ولكن شيء داخلها اندفع يسيطر على لجام لسانها وهو يبرر له ولو مرة:

-بس هو مش بيعاملني زي أحمد، اكيد مش كل الظباط زي بعض يعني قصدي آآ....

قاطعتها دنيا بصوت أجش تقطع حيرتها من جذورها:

-لا يا دنيا كلهم كده بحكم شغلهم مبقاش عندهم مشاعر، ولو على المعاملة الحلوة كلهم بيبقوا كده في الأول يا نجمة الممنوع مرغوب هيعمل اي حاجة عشان يوصلك،
ما انتي عارفه أحمد مكنش كده أيام الخطوبة.

حديث "دنيا" وجد صداه بقوة داخل نجمة التي كانت معبئة بتلك الهواجس، فهتفت تنهي ما اتصلت لأجله:

-ده كان رأيي وقراري خصوصا بعد اللي حصل معاكي، بس كنت حابه افضفض يا دنيا،
أنا مش همشي ورا احتمال ١٠٪ انه كويس وادمر حياتي على سبيل التجربة !!

أكدت دنيا لها في سرعة:

-بالظبط، انتي تستاهلي احسن من كده بكتير، تستاهلي تعيشي كل لحظة في راحة من غير تفكير وقلق.

ابتسمت نجمة ابتسامة صغيرة تخفي خلفها قهر كبير ثم قالت في خفوت:

-تسلميلي يا دودو، مش هعطلك اكتر بقا وهسيبك تشوفي اللي وراكي عشان ميجيش ينكد عليكي.

حركت دنيا رأسها مؤكدة في نبرة مرح حمل مرارة في طياته:

-انتي بتقولي فيها، هيجي ينكد عليا فعلًا لو لقاني بتكلم خصوصًا إنه النهارده جاي بدري شوية.

وبلحظة وكأن زوجها كان ينتظر حديثهما، اقتحم المزعج المكان صائحًا بصوت حاد أعلى من اللازم:

-هو ده اللي مش لاحقه تخلصي، أنا شايف انك عماله ترغي في التليفون مع الناس الفاضية!

زفرت دنيا بتمهل تحاول ألا تنفعل وإلا سيحدث ما لا تحمد عقباه، ثم أجابت محاولة التبرير:

-دي نجمة كلمتها شوية عشان بقالي كام يوم مكلمتهاش.

زمجر الآخر بغضب اشتعل من اللا شيء بمجرد تذكر نجمة التي يستشعر مقتها بسهولة كلما قابلها في لقاءاتهم المعدودة:

-وطبعًا بتحكيلها قصة حياتنا والهانم بتسخنك عليا صح؟!

-لا طبعا.

نفت دنيا سريعًا ولكنه لم يعطها الفرصة بل انتشل الهاتف من بين أصابعها هاتفًا في الهاتف بنبرة غليظة:

-متكلمهاش تاني أحسنلك، هي دلوقتي واحدة متجوزة ووراها مسؤوليات مش عندها فراغ زيك وبطلي تدخلي نفسك في خصوصيات الناس!

انهى جملته بأغلاق الهاتف في وجه نجمة التي انتفخت اوداجها بالغضب وهي تهز رأسها فاقدة الأمل في صلاحه.
لن تكرر خطأ صديقتها..
لن تضع نفسها تحت رحمة شخص همجي عنيف يحتاج أن تبرر له لو تحدثت يومًا إلى صديقتها....!


رواية نجمة الباشا الحلقة الثالثة

جلس سليم يقلب الملف بين يديه يتفحص بدقة سجل المكالمات الخاص بنجمة طوال الأسبوعين الفائتين، بينما يحاول قمع شعاع صغير داخله يشير إلي عدم صواب أفعاله لكنها من تدفعه لذلك وتجعل الشك سمة علاقتهما بأسلوبها وتلاعبها المستمر به.
ثم من سيكون لديه قدرة التطفل على الطرف الآخر ولن يفعل خاصة وان كان هذا الطرف كحبيبته المتمردة.
وعلى قدر جنونه وهيامه بها إلا انه يقسم بانه لن يرحمها إن اتضح بانها تخدعه كما يظن، زفر ثم نظر إلي الساعة فبعد غياب أسبوعين عن انظاره ومسامعه وذهابه مرات عديدة لانتظارها عند الجامعة دون ظهور منها قرر الذهاب إلي منزلها ومراقبة ان كانت تذهب لمحاضراتها بطريقة خفيه ما أم انها لا تذهب بالفعل كي لا تخاطر برؤيته.
زمجر أنفاسه في حده فها هو يموت ويذوب ذوبًا في لهفة لرؤياها بينما هي تعتزل الحياة كلها لتتجنب لمحه، صدق من قال أن الحياة غير عادلة.... هتف ينادي العسكري الواقف خلف الباب:

-محمد..

-أوامرك يباشا...

-دخلوا العيال اللي برا الحجز وابقى اعرضهم ع المأمور قبل ما يروح،
انا عندي مشوار مهم لو حد سأل عليا قوله طلع حملة.

وبذلك اندفع جاذبًا قبعته أسفل ذراعه متجهًا للخارج.

*****

مرت أكثر من ساعتين وهو يقف بسيارته على بعد بنائين من بنايتها، نظر إلي ساعة معصمه مفكرًا ساعة أخرى يتأكد بها إنه لم يُفوت نزولها وانها تغيب عن دراستها بالفعل، مط شفتيه في تذمر فها هو في أواخر العشرين من عمره يفعل ما لم يفعله وقت مراهقته.
أمسك هاتفه يحاول الاتصال بها أملًا أن تكون أخرجت رقمه من قائمة الحظر، وضع الهاتف فوق أذنه قبل ان يجز اسنانه برفض ونقم على افعالها حين اتاه رفض انطلاق المكالمة إلا إنه تجمد في مكانه ما أن رفع رأسه ليراها تخرج من المبنى بملابس بيتيه وشعر مرفوع أعلى رأسها بطريقة مهمله قبل أن تدخل إلى المتجر أسفل بنايتهم.
كبح رغبة شديدة في أن يهبط ويصفعها في منتصف الطريق لأنها لا تعاقبه بالابتعاد وحده بل تعاقب ذاتها معه، فتلك الهالات السوداء التي تحيط عيونها الذابلة والكيلوجرامات المفقودة من جسدها في أيام قليلة تعكس مدى اضطراباتها الحادة.
تابع خروجها بعد دقائق بحقيبة شراء دون أن ترفع رأسها من الأرض لتعود إلى المنزل في خطوات رتيبة مُتعبة وكأن فراقهما ينهكها جسديًا.
عض على شفتيه وأشعل محرك السيارة مقررًا المغادرة قبل أن يفعل ما يندم عليه عائدًا بشكل مباشر إلى مركز الشرطة لمتابعه أعماله المُهملة التي قد يعاقب عليها قريبًا.
طوال الطريق كان يحاول التوقف عن التفكير في بشرتها الشاحبة وتلك الهالات السوداء فعقله المشتت غير قادر على التفكير ناهيك عن التخطيط لخدمة أهدافه، فزفر يحاول إبعادها عن أفكاره لكن كل ما يسيطر عليه هو سؤال واحد....

لماذا تُصر على تحطيم قلبه بعد أن علقته بها؟

لا يزال يتذكر أول مرة قابلها فيها ولا تزال نظراتها القاتلة محفورة داخل صدره، يتذكر كيف كانت ترفعه للسماء كلما تقرب منها وكلما شعر بمشاعرها نحوه لتنفلت من أصابعه بعدها بقليل وتلقيه دون رحمة دافنه أماله تحت سابع أرض.
تذكر كيف حطم دفاعاتها ونجح في سرقة مكالمات وأحاديث طويلة بينهما خاصة حين وجد حساباتها على مواقع التواصل الالكتروني، كان يظن بانها تزيد من لوعه كي تشعل شوقه لها أو انها تخشى أن يظنها فتاة سيئة لكنها صدمته حين اعترفت له بعد ثمان أشهر ذاب فيها ذوبًا بأنها ترفض وجوده في حياتها لأنه رائد شرطة فهي ترفض الارتباط بهذا الفصيل ...
ضحك في سخرية متهكمًا، الوقحة كانت تحادثه بتعالي وكأنه مجنون حرب هارب من العقاب....
وصل إلى العمل أخيرًا دون شعور بالوقت وقد التهمه كل تفكيره وما ان دلف مكتبه حتى نادى في حدة:

-محمد.

-باشا!

صرح العسكري وهو يلقي تحيه عسكرية فاستكمل سليم في وجوم:

-نادي مسعد.

توجه العسكري الشاب للخارج في سرعة، وما هي إلا لحظات قليلة حتى دخل رجل سمين نسبيًا يرفع كفه في تحية قائلًا في قوة:

-اؤمر يافندم..

مسك ورقه وقلم ثم دون عنوان واسم قبل ان يعطيها له طالبًا:

-عايزك بكره تطلعلي مخبر العنوان ده يسأل عن البنت دي في المحل اللي كاتب اسمه،
وأكد عليه يا مسعد ميسألش في أي مكان غيره، يسأل هناك وياخد بعضه ويرجعلي ... مفهوم؟!

-مفهوم يا باشا..

سحب الورقة سريعًا قبل أن يغادر، جلس سليم فوق مقعده يدور به لليمين قليلًا وهو يعض شفتيه بتفكير ووعيد قائلًا:

-ماشي يا نجمة، مبقاش أنا لو معرفتش اميلك تحت رحمتي.

*****

جاء اليوم التالي سريعًا وعند الظهيرة زفرت نجمة في غيظ اثناء ارتداءها رداء الصلاة الفضفاض الخاص بوالدتها التي تحوم حولها منذ الصباح تريد فهم التحول الطارئ في تصرفاتها وسبب امتناعها عن الذهاب للجامعة:

-يا نهار اسود وكمان بتلبسي اسدالي اللي هرياني تأليس عليه!
نجمة لو في حد بيضايقك في الكلية قوليلي وأنا هتصل بابن خالتك حالًا يجي معاكي ويحميكي.

-ماما ابن خالتي مهندس مش بودي جارد وبعدين يحميني ايه وهو اصلا هربان من الجيش!

-بنت إيه هربان من الجيش دي!
اسمها جاله إعفا من الجيش.

-قصدك جاله واسطه يا ماما.

أخبرتها نجمة بانزعاج وتهكم فوالدتها لا تتوقف عن الحديث عنه لأنها تتمنى أن توافق على الزواج منه بأي طريقة منذ سنوات، اتجهت نحو باب المنزل متسائلة:

-عايزة حاجه غير الزيت والملح؟
مش هفضل كل شويه نازله اجيب حاجات.

-لا.

اجابتها والدتها بأنف مرفوع واتجهت للمطبخ متجاهلة إياها، هزت نجمة رأسها وذهبت للمتجر وبعد شراءها ما تحتاجه وقفت أمام الرجل الذي اتسعت عيناه ما أن رءاها وتجاهل المال في يدها قائلًا في نبرة متوترة:

-انسة نجمة كويس انك نزلتي، انهارده الصبح في واحد جه سأل عنك !

وضعت يدها فوق صدرها بتعجب متسائلة:

-واحد سال عني أنا؟
ومقالش هو مين؟

-لا، بس والله أعلم كده شكله مخبر.

شحب وجه نجمة وتسمرت في وضعها للحظات قبل أن تخبره في لهجة محرجة دفاعية يشوبها الغضب على شخص بعينيه:

-مخبر وانا هيسأل عني مخبر ليه يا عم محمد!

-والله يا بنتي انا قولت اللي حسيته.

-ماشي يا عم محمد على العموم كتر خيرك، بس لو ممكن طلب بلاش لو شوفت بابا تقوله حاجه من دي انت عارف بابا بيتوتر بسرعه.

قالت نجمة من بين اسنانها وهي توشك على البكاء رغم قناع الصلابة الذي ترتديه أمام الرجل المسن فأجابها الرجل سريعًا:

-من عيني يا بنتي، ربنا يباركلك ويبعد عنك ولاد الحرام.

اومأت رأسها في حركة ضعيفة شاكرة ثم اتجهت في خطوات سريعة غاضبة نحو المنزل ولديها إحساس يخبرها بإن ما حدث هو بفعل سليم المبجل الذي يرفض تركها في سلام وغروره يأبى رفضها..
دلفت المنزل ثم وضعت الاغراض فوق الطاولة مستأذنه والدتها بالدخول لغرفتها والنوم فتمتمت والدتها بموافقتها ولكنها تذمرت في غيظ:

-ما انتي بتنامي كل يوم وش الفجر وانتي سهرانه على المحروق التلفون، لازم تبقي مرهقة كده.

حركت نجمة رأسها بعشوائية واتجهت للداخل ممسكه هاتفها عازمة على محادثته فهي لن تتركه يشوه سمعتها، انتفضت بغضب تنتظر رده وبمجرد أن فتح الخط حتى انفجرت الكلمات من بين شفتاها كقنابل ضارية:

-انت ازاي تخلي مخبر يسأل عني!
أنت عايز تشوه صورتي في الشارع ولا انت مجنون ولا إيه بالظبط؟!

سمعت همهمته الباردة وهو يسألها متعمدًا حرق أعصابها:

-هاا خلصتي ولا لسه ؟

اتسعت عيناها ذهولًا من هدوءه ولم تستطع النطق رغم أن الحروف كانت تتصارع للخروج من بين شفتاها لإغراقه بوابل من الشتائم، استغل سليم صمتها وأكمل بنبرة منتصرة احرقت اعصابها بالغضب اكثر:

-كنت متأكد إنك هتكلميني على فكره!

لتزمجر فيه بحدة:

-ما أنت لو عندك احساس ومعملتش اللي عملته مكنتش هتصل لكن الباشا ماسبليش خيار تاني.

استطرد "سليم" في قلة حيلة مصطنعة ونبرة درامية:

-اعملك إيه مش أنتي اللي بتختاري الطريقة الصعبة، فيها إيه لو كنتي رديتي عليا بكل هدوء من غير الحوارات دي كلها؟

صرخت نجمة في انفعال من بين أسنانها:

-انا يا سيدي مش عايزة أرد ولا أكلمك!

سمعت تأتأته المستفزة تأتيها عبر الهاتف وهو يتابع بصوته الرجولي الأجش:

-تؤ تؤ، مش كل ما الجنونه تهب تقوليلي مش عايزه اكلمك مش لعب عيال هو.

اصطنعت نجمة الهدوء ومن ثم راحت تخبره:

-طب اهوه بكل هدوء وعقل هادي بقولك أنا مش عايزه أعرفك وبعد اذنك اخرج من حياتي.

-مش قبل ما اعرف ليه؟
ولا انتي عندك إنفصام، لأني متأكد ان جواكي مشاعر نحيتي!

جزت نجمة على أسنانها بكل الغيظ الذي يحمله العالم معترفة:

-ماشي جوايا يا سليم بس أنا مش عايزة المشاعر، هاه ايه رأيك في الصيغة دي؟!

تنهيدة ارتياح كادت تخرج من بين شفتا سليم، واخيرًا مع انتهاء جملتها رست عاصفة التفكير داخله لتستقر بين جنبات قلبه مؤكدة أنها تحمل له مشاعر، فتجاهل كل ما قالت ليجيب بنفس البرود:

-رأيي إني عايز أقابلك، حددي معاد يناسبك لأني مش هسيبك إلا لما نحط النقط على الحروف.

-يانهار اسود، يانهار اسود، نقول طور يقول احلبوه!

-على فكره بقا انا صبري بدأ ينفد، فـ انا اللي هحدد يوم *** الساعة *** ولو ملاقتكيش قدامي في نفس الدقيقة،
قسما عظمًا لتلاقيني قدام باب بيتكوا وقد اعذر من انذر !

وما إن انهى جملته حتى أغلق الهاتف في وجهها، لتكتمل ابعاد الذبحة الصدرية التي كادت تُصيبها حرفيًا مرددة:

-قفل في وشي السكة!!

بينما على الطرف الآخر كانت ابتسامه سليم المشاكسة تملئ وجهه وهو يتخيل وملامحها تشتعل غضبًا وغيظًا، أعاد رأسه للخلف يعيد اعترافها الغير مباشر بأنها تكن مشاعر له، ورغمًا عنه عادت ذاكرته لثاني لقاء جمعهما.

***
كانا متواجدان في حفل عيد ميلاد المقام في منزل داليدا صديقة "نجمه" وزوجها رامي صديق "سليم" الذي كان أول الحاضرين، ما ان علم بحضور نجمة التي فاجأته بحصارها لأفكاره طوال الأسابيع الماضية مقررًا استغلال فرصته وألا يتردد كالمرة السابقة فتلك المرة لن يتركها حتى يجد طريقة للتواصل معها.
في بداية اليوم كانت نظرات نجمه تنم عن امرأة رافضة حانقة تجاهه، لكنه استطاع بمشاكساته وغزله المستمر تحويلها إلى نظرات أخرى لامعه متوهجة بمشاعر وجدت صداها بين ثنايا صدر سليم وأحسها كرجل..
انتظر بشدة إطفاء الشموع وانصراف كل شخص بصحنه إلى الطرف الذي يريد، مراقبًا نجمه تتجه نحو الشرفة حيث استكانت مغمضة عيناها بعيدًا عن الضوضاء مستمعة بالهواء الطلق، وخلال دقيقة تقريبًا كان سليم خلفها لتظهر ابتسامة صغيرة على شفتي نجمه، فقد كانت متيقنة أنه سيتبعها.
قطع سليم الصمت مرددًا بابتسامة رجولية تعلقت بها عيون نجمه بينما ينظر هو لخصلاتها المتطايرة حول وجهها المتورد:

-شكلك بتحبي الشتا!

سألته نجمه بنفس الابتسامة:

-عرفت منين؟

غمزها سليم بطرف عينه ومن ثم أخبرها بزهو مصطنع:

-خبرة بقى.

أومأت نجمه رأسها وهي تنظر للا شيء امامها فعم الصمت لثواني قبل أن تتساءل من باب الذوق:

-هو أنت ورامي صحاب من بدري؟

أومأ سليم مؤكدًا بابتسامة سعيدة وقد فتحت بابً لأي حديث:

-اه من بدري فعلاً من أيام ثانوي، اشمعنا؟

هزت نجمة كتفاها وهي تردد:

-لأ اصلي اتفاجأت لما شوفتك، متوقعتش إنه يعزمك يعني وكده بس قولت اكيد انتوا صحاب اوي زيي انا وداليدا.

كانت تتحدث وأصابعها تتحرك بعشوائية لتزيح خصلات شعرها عن وجهها ثم تعود لتمريرها فوق ذراعها تتطلب الدفء، بينما سليم يتابعها في شغف حار ولهفة عكس تحذيرات عقله من التسرع حتى لا يُقلقها، لكنه على غير المعتاد رمى بتحذيراته عرض الحائط واقترب منها وهو يخلع سترته قبل أن يضعها على كتفاها بحركة مباغتة.
تمسك بمشاعر الصدمة الجلية على وجهها حتى يكبح أصابعه من رغبتها جذب السترة وهي معها حتى تلتصق به.
اكتفت نجمة بشهقة مكتومة متفاجئة لفعلته وهي ترفع عيناها تلقائيًا له ممسكه بعينيه البُنية اللامعة في وصال مُلغم بمشاعر تتفجر داخل كلاهما مع كل ثانية تمر، حتى سمعته يهمس أمام وجهها في خشونة مفعمة بالعاطفة وأنفاسه اقتربت حتى صارت تلطم وجهها:

-أنتي جميلة جدًا..

ابتلعت ريقها بتوتر، فليس لسانه وحده الذي ينطق بجملة الغزل فعيناه ... وآآهٍ من عيناه حين تتشابك بألسنة نيران العاطفة فتجبرها على الاستسلام.
سعلت بقوة ثم عادت خطوة للخلف تشدد على السترة بأصابع مهزوزة حتى انتزعتها من بين أصابعه وهي تتمتم بصوت رقيق خافت:

-ميرسي.

ارتفع طرف فمه وقد راقه توترها الذي يدل على أنها لم تخض تلك التجربة سابقًا كما كان يشك، رفعت نجمه كأس الصودا تشربه كي تخفف من حدة توتر الموقف مشيرة برأسها للداخل:

-هروح اخد من داليدا موبايلي عشان هي بتشحنهولي.

حرك سليم رأسه وهو يراقبها بابتسامة واسعة، ركضت نجمة في ارتباك لكنها اصطدمت بإحدى الفتيات اللواتي كن يمزحن ويركضن فسقط الكأس على ثياب نجمه التي شهقت وهي تنظر لفستانها المبتل، اعتذرت الفتاة مسرعة:

-سوري يا نجمه سوري بجد مخدتش بالي منك والله.

حركت نجمه رأسها قائلة من بين ابتسامة مجاملة:

-حصل خير..

اقتربت داليدا من الخلف تتفحص فستانها متسائلة:

-هجبلك حاجة تلبسيها عشان الفستان حتى لو حاولنا ننشفه مش هينشف بسهولة!!

حركت نجمه رأسها نافية وهي تخبرها:

-لأ لأ مفيش داعي أنا هروح.

-متأكدة، مش عايزة تقضي اليوم؟

-لا حلو كده، انا اصلا كنت مروحه.

ربتت داليدا على كتفها متابعة في حنو:

-طيب يا حبيبتي زي ما تحبي.

ابتسمت لها نجمه ثم تنهدت متجهه نحو المرحاض، اتبعها سليم الذي لم يرد التدخل لكنه وقف أمام المرحاض منتظرًا خروجها، وبالفعل خرجت بعد دقائق وعلامات اليأس تعلو وجهها، ليباغتها سليم ما إن خرجت قائلًا:

-تعالي معايا هوصلك بالعربية.

رمشت نجمه قبل أن تحرك يدها نافية بهدوء:

-ميرسي يا سليم بس البيت مش بعيد أنا هروح لوحدي.

اقترب سليم أكثر حتى اصبح امامها مباشرةً يشير إلى ملابسها المُبللة التي التصقت بها نوعًا ما:

-انتي عايزاني أسيبك تمشي دلوقتي لوحدك وهدومك لازقه على جسمك كده؟!

عضت على شفتاها في حرج وهي تنظر لملابسها، ورغمًا عنها كأي انثى كلماته الغيورة جعلت شيء من السعادة يداعب جوارحها، ولكنها هزت رأسها نافية في إصرار:

-صدقني البيت مش بعيد، لو بعيد كنت قولتلك، أنا همشي عشان بدأت ابرد من الهوا، باي.

قالت أخر كلماتها بارتباك وهي تعيد له سترته بينما تفر هاربة من أمامه قبل أن يعترض، زفر سليم بصوت مسموع وهو يمسح على خصلاته متعجبًا من عنادها، ولكنه وضع السترة فوق كتفه في إهمال مقررًا التوجه خلفها دون موافقتها.
كانت نجمه في طريقها لمنزلها تسير مسرعة داعية ان تمر الليلة على خير دون يخرج عليها قطاع طرق أو مغتصبون مثلًا، أو ذلك الكلب المجنون الذي يكرهها ويكره وجودها في المنطقة، لكنها ما انهت تفكيرها حتى استوقفها كلب كبير ذو هيئة مُرعبة لأي كائن حي ناهيك عن أنثى ناعمة.
تجمدت لحظات تنظر للكلب الذي بادلها النظر قبل أن ينطلق بخفه مزمجرًا بنباحه، صرخت نجمه وهي تراه يتقدم نحوها مطلقة ساقيها للرياح راكضة للخلف حيث استقبلها بين أحضانه سليم الضاحك الغير متوقع لمظهرها المرتعب، تعلقت بصدره بينما تصرخ في فزع غير مبالية بمن اصطدمت:

-الحقني.. كلب.. في كلب.

استغل سليم الفرصة ليُقربها منه ويسألها باستمتاع:

-الحقك وتديني رقمك؟

هزت نجمه رأسها مؤكدة بهلع:

-حاضر ...ااه ... هيعضنا اهو شوف الكلب.

نظر سليم للكلب الذي ينبح دون أن يتقدم نحوهما حتى وبحركة خفيفة من يده كان الكلب يعود ادراجه، أطلقت نجمة زفرة ارتياح، ليستطرد بنبرة ساخرة وهو يرمقها بطرف عيناه:

-لما انتو مش قد الكلاب بتنزلوا لوحدكوا ليه!

وضعت نجمه يدها على صدرها تتنفس بصوت مسموع وهي تتمتم بصوت واهن مغتاظ:

-أنت مش فاهم، الكلب ده مستقصدني كل ما أعدي من هنا.

ارتفع حاجبي سليم في سخرية لكنه همس في خشونة مراوغة غامزًا إياها:

-لو مضايقك الكلب، اسلسلهولك واجبهولك راكع يا قمر.

ضحكت نجمه لكنها استدارت تتنحنح وهي تخبره:

-انا اتأخرت.

سارت خطوة ولكنها توقفت حين قال بعبث ماكر:

-طب اديني رقمك عشان لو الكلب اتعرضلك تاني!

ضحكت نجمه وهي تهتف دون أن تتوقف عن السير او تنظر نحوه:

-زيرو واحد ..............

ومنذ تلك اللحظة والتواصل بينهما لم ينقطع فقد حرص سليم على توطيد علاقتهما طوال الشهور التالية بالحديث والغزل المستمر متعمدًا الانخراط في حياتها حتى وان كان تحت مسمى الصداقة ارضاءً لسبب داخلها لا يعلمه!
***

-بااشاا انا مظلوم يا باشا.

صدح الصوت الإجرامي الغليظ والمندفع من الباب، فانتفض سليم واقفًا في خضه بعد ان اخرجه من سحر ذكرياته ليغمغم مغتاظًا:

-ده أنت لو مظلوم، أنا هفضل اظلم فيك لحد ما تختفي،
الله يحرقك، قطعتلي الخلف !

مسح سليم على وجهه في غيظ ثم أعاد انتباهه مرغمًا إلى الرجال أمامه على أمل مزاولة عمله تاركًا جنون نجمته الآن.

رواية نجمة الباشا الحلقة الرابعة 

الفصل الرابع:

في اليوم المتفق عليه اللقاء....

كان سليم يتراقص على لهب الانتظار وهو يتصل بها مرة بعد مرة وتلك البلهاء لا تجيبه ابدًا خالطة الأفكار السوداء في عقله يمينًا ويسارًا مطعونة بسم القلق، زفر مقررًا فتح ذلك الموقع الالكتروني كي يتأكد ان كان تمسك هاتفها أم لا.
أمسك جهازه اللوحي يبحث عن الحساب الخاص بها ليرى متى كان أخر ظهور، فتملكت الدهشة الممزوجة بالغيظ ملامحه وهو يرى صورة منشورة للتو من حساب صديقتها معلنة تواجدهم في مطعم بأحد الفنادق!!
تفحص الصورة التي تجمعها مع خليط من الفتيات والشباب وتابع تلك السعادة الني تلوح له من وجهها الأبيض وكأنها تتعمد إغاظته.
تبًا لها..
ها هو يحترق بجمرات الانتظار والقلق وهي هناك مع رجال آخرون تستمتع بوقتها، ركز ببصره على المنشور يحاول تحديد تفاصيل الفندق لاعنًا اهمالها وعدم تفكيرها في نظرة الناس بوجودها في فندق مع هذ الجمع حتى لو أصدقاء.
بل اسوأ هي لم تفكير في خيالاته المظلة التي تتساءل لما دونًا عن كل المطاعم هم متجمعون في فندق؟
عض شفتيه يبعد الشيطان عن أفكاره لا يرغب في الخوض بتلك المنطقة حتى لا يجن جنونه، نهض سليم تاركًا المكان الذي كان ينتظرها فيه، والغضب يغلي بين دماءه، يقسم على إعادة تربيتها وعقابها على اجتماعها برجال آخرون، لا يصدق ان ذويها وافقوا على ذهابها معهم.
استقل سيارته متوجهًا للمكان المنشود في وعيد واخيرًا بعد وقت ليس بطويل، وصل أمام الفندق، كاد ينزل ويقتحم المكان ليحطمه فوق رأسها لكنه جذب عدة أنفاس يفكر قبل أن يخرج هاتفه متصلًا بها وكالعادة لم تجيب، فأرسل لها رسالة كان محتواها:

" أنا تحت فندق **** لو مطلعتيش حالًا، قسمًا بالله هنزلك بفضيحة وما هيهمني أي حد يا نجمه "

على الطرف الآخر رن هاتف نجمة بأحد الاشعارات فرفعته في اعتيادية، لتتقابل مع رسالة سليم الغاضبة، ارتج قلبها في صدمة وفزع، مدركة تمامًا أنه قادر على فعلها وهي في غنى عن أي ضجة قد تُصيب سُمعتها بلطخة لن تستطع إزالتها يومًا.
نهضت في سرعة تغادر جلسة العشاء متحججة بكلمات مختصرة لأصدقائها الذين لاحظوا توترها ووجهها الشاحب لكنهم لم يعترضوا ظنًا ان والديها قد عرفوا بأمر خروجها دون موافقتهم.
تحركت في خطوات مهتزة نحو باب الفندق وكل خلية بها تتوسل أن يكون كاذب قاصدًا إخافتها لأنها لم تتواجد في مكان لقاءهما، ولكن للأسف عيناها رصدت هيئته الغاضبة التي لا تبشر بالخير، تقدمت منه في سرعة تعدل خصلات شعرها كحركة تلقائية حينما تتوتر، ثم سلطت فوهة حروفها بوجهه تحت بند جملة ' افضل وسيلة للدفاع هي الهجوم ' فراحت تصيح غاضبة رغم توترها البين:

-أنت بتهددني بالفضايح يا حضرت الباشا!

أومأ سليم مؤكدًا كلماتها، وراقبت عيونه البنية تشتعل بلون غليان القهوة وقد سكبت بنزين على تماسكه دون أن تلاحظ، فرد في لهجته الجافة:

-لأ مش بهددك، أنا بنفذ على طول.

اتسعت عيناها من ثبات نبرته وهو يؤكد إقباله على فعلته القبيحة، ولكن قبل أن تنطق كان يسحبها من مرفقها بعنف مقصود ليُدخلها السيارة متمتمًا بصوت خافت من بين أسنانه:

-أمشي قدامي، الحساب مش قدام الناس.

ضحكت في عنف ساخر خالي من المرح اثناء محاولتها تخليص يدها من قبضته العنيفة المؤلمة:

-لأ وأنت الصراحة بتخاف من الشوشره والفضايح أوي.

أغلق الباب في عنف أشد من اللازم هز ثباتها ثم اتجه في خطوات ثابتة إلى مقعده مشعلًا محرك السيارة بثبات يُحسد عليه رغم هياج صدره بالغضب ورغبته في فك أسر وحشه الثائر الراغب في الانقضاض عليها، لكنه زمجر مجيبًا في نبرة ذات مغزى:

-لو عليا مش بخاف، هما اللي هيخافوا لو شافوا هعمل فيكي أيه!

لوت شفتاها في تهكم وعناد يرتسم ملامحها، ولكن لم تستطع السيطرة على اهتزاز وتر الثبات الذي استبدل بالخوف من كلماته وغضبه الذي تراه يكاد يُمزق مجحري عيناه المُخيفة.
وصلا إلى مكان هادئ نوعًا ما به عدد قليل جدًا من الناس ثم نزل من السيارة وهو يزجرها بنظراته:

-انزليلي.

-مش نازلة!

هتفت في خوف وتحدي لكنها ابتلعت جملتها فاتحة باب السيارة كي تترجل وحدها ما إن اندفع نحوها ونواياه الواضحة بإنزالها عنوة تسيطر على ملامحه وبدون أي تردد كان يزمجر فيها مفجرًا كل مشاعره:

-إنتي ازاي تسمحي لنفسك انك تخرجي مع شباب يا محترمة!

-مش شباب بس على فكره كان في بنات، وبعدين ده Fun day يعني اكيد مش هروح لوحدي!

أجابته بصوت مرتبك يتردد ما بين الانخفاض والعلو وهي ترمش جفونها في تلقائية متوترة، فازداد صراخه حدة وهو يشد على خصلاته القصيرة يكاد يقتلعها من فرط الغضب والغيظ:

-إنتي هتجننيني ليه ولا الهانم فاكرة ان ملهاش حاكم ولا رابط؟!
ده انا هخليه fun زفت على دماغك ودماغهم انهارده.

اخفت ارتجافه جسدتها وقفزت مكانها كالقطة الشرسة التي كلما اضعفها إعصار غضبه تحاول النجو بخربشتها:

-وأنت مالك أصلاً دي المرة المليون اللي بقولك فيها انك مش وصي عليا،
هتفهم أمتى ان محدش لي حكم عليا؟!

جذبها سليم من ذراعها بعنف يقربها منه دون اهتمام بفضول بعض المارة المتعلق بشجارهما، صائحًا في نفس الحدة:

-هنشوف يا نجمة في حاكم ولا لا!

سمحت نجمة ليدها بدفعه رافضه اقترابه الماجن منها ثم رفعت حاجبها الأيسر ساخرة:

-إيه هتخليني رافعه ايدي لفوق نص ساعة ولا هتحبسني في اوضة الفيران.

انتهت جملتها بتأوه متألم حين ضغط سليم على ذراعها في عنف وهو يعض شفتيه كي لا يمطرها بوابل من الألفاظ الخارجة الحصرية للمجرمين، لكنه أخرج صوته كالفحيح محملًا بوعيد العقاب:

-ده هيتحدد على حسب أهلك بيعاقبوكي ازاي!

تجمدت نجمه في مكانها تسأله بحروف مبهوتة كملامحها وداخلها يتوسل ألا يكون ما تتوقعه صحيح:

-إيه علاقة أهلي بالموضوع؟!

ارتسمت ابتسامة صفراء مقيته على وجهه وهو يرد متعمد البرود وكأنه يخبرها بطقس اليوم:

-ازاي مش لازم يعرفوا أن بنتهم بتتسرمح مع الشباب من وراهم ومش في اي سرمحه دي سرمحة فنادق!

زعزع الخوف ثباتها ولكنها حاولت إحكام زمامه فرفعت حاجبها الأيسر مرددة بسخرية ظاهرية:

-لا والله، متقدرش تعمل كده وهتقولهم بصفتك مين أصلاً؟

عقد سليم ذراعاه معًا قاصدًا إحراق كل خلية بها بالذعر:

-الله، ليه كده ده احنا عشرت شهور يا شيخة وسجل المكالمات يشهد علينا،
ولا تلاقيكي كنتي بتمسحيه، ما أنا عارف هواياتك انك تشاغلي الرجالة وابوكي نايم.

صرخت فيه نجمه الغاضبة والتي انسابت دموعها في ألم غير متوقعة وقاحته وكلماته الجارحة:

-وأديك عرفت إني مش محترمة وبتاعة رجالة حل عني بقا.

حينها انقشعت قشرة البرود التي تغطي ملامحه وهو يقترب منها ليهدر فيها بنبرة غليظة متوعدة:

-بعينك، أنا هوريكي بتاعة الرجاله بيحصل فيها أيه لما تقع مع راجل بجد!

وقبل أن تنطق بكلمة اخرى كان يسحبها بقوة معاودًا إدخالها للسيارة وكأنها شيء مملوك وليست بشر، حاولت الهبوط وهي تصرخ في عنفوان رافضة التواجد معه أكثر، وسمحت لغضبها في إطلاق سيل من الشتائم نحوه لكنه تجاهل كلماتها الوقحة مغلقًا الأبواب الكترونيًا، تاركًا إياها تصرخ بنبرة منفعلة:

-افتح الباب، وسيبني في حالي بقولك!

لم ينظر لها حتى وهو يغمغم بنبرة جافة:

-هسيبك عند أهلك!

ضربت نجمه على السيارة أمامها في جنون وذعر وهي تزمجر:

-أنت مجنون يا سيدي أنا مش محترمة، مالك ومالي بتتدخل في حياتي ليه!

ضرب سليم كفه في السيارة بقوة أكبر وقد اشتعل بسبب موافقتها المستمر على كلماته بأنها غير سوية وكأنها تؤكد له سوء ظنونه، يدري انها تتغني بتلك الكلمات لمضايقته لكن رجولته ونخوته لا تتحمل سماع تكرارها على التوالي، فدوى صوته الهادر يشق عنادها والحرب في عينيها:

-انا اللي مش عايزك، ومش عايز أعرف حتى انتي محترمه ولا لا!

انغرست كلماته في قلبها فقبعت ساكنه في مقعدها وقد تملكها البكاء الهستيري، كارهة حياتها وكلماته ولما آلت عليه الأمور بينهما، لم يهتز سليم الغاضب ببكائها الذي يمزق نياط قلبه...
فلم يعد للحديث بقية......
مالت تستند برأسها على المقعد تحاول تجفيف دموعها وإيقاف تأوهاتها الباكية بأي طريقة، لكن قلبها يفور ويتألم لظنونه بها، مر الوقت بينهما وكلاهما غارق في هذا اليوم المشؤم الذي تحولت بعده مجريات علاقتهما للأبد....

***
وقف سليم امام سيارته يستند بجسده فوق مقدمتها ناظرًا لساعة يده في ترقب، يتنظر خروج "نجمة" من "الكورس" بفارغ الصبر.
مرر أصابعه بين خصلات شعره القصيرة يحاول الحفاظ على إطلالته المهندمة أملًا في إثارة إعجابها، ويتملكه شعاع من التوتر لأنها المرة الأولي التي يخاطر بلقائها خارج إطار دائرة أصدقائهم المشتركين.
ابتسم يتذكر أحاديثهم التي بدئت منذ ليلة الميلاد الخاصة بصديقه المفضل، تنهد فالمشاكسة لاتزال تسلب عقله بدلال نظراتها وكلماتها مع تمنعها المستمر، لكنه لم ييأس متأكدًا أن الإعجاب بينهما متبادل ولم يهدأ حتى وصل لجميع حساباتها على مواقع التواصل الالكتروني وصارا يتحادثان طوال اليوم وبدون توقف حتى سحرته وصار يتطلع لها أكثر من تلك النجمة المنتظرة بعد نسره فوق كتفه.
عض شفتيه متذكرًا كيف استمر في رسائله المؤكدة بانه لا يرغب سوى في صداقتها وكيف استسلمت في نهاية الأمر رغم جملتها الشهيرة التي صار يحفظها عن ظهر قلب "احنا مجرد أصدقاء مش حاجة اكتر"، لمعت عيونه بلمعة مكر وما اجملها من صداقة مليئة بالمُغازلة والحب، وكأن هناك رجل سيستطيع مقاومه سحرها الساذجة، لكنه قرر مجاراتها في اللعبة واثق من رضوخها الوشيك لمكنونات قلبيهما.

-بالله عليك اديني خمسة جنيه افطر، مكلتش من اسبوع!

قطع تفكيره الرومانسي، دخول "صابر" غلام سمين في سن المراهقة ممن يمتهنون التسول كان متخذ من الدائري القريب من عمله مقرًا لتسوله، ولكن الصغير لم يتعرف عليه دون بدلته الرسمية، فمد سليم أصابعه يضع فوق السيارة حقيبة ورقيه كانت في يده قبل أن يمسك مقدمة قميصه قائلًا:

-خد ياض بخدودك دي هنا، اسبوع ايه اللي مكلتش فيه ده انت واكل اخواتك قبل ما تنزل!
هو أنا مش قايل تبطل تسول وبعتك لواحد تسترزق منه باليومية.

ارتبك "صابر" ما أن خلع سليم نظارته الشمسية وتعرف عليه فأجابه في ارتباك وتلعثم:

-باشا!
والله يا باشا الراجل طلع مفتري وبهدلني والدنيا جت عليا أوي نزلت اشحت بدل ما اسرق ولا أموت من الجوع يباشاا.

انهى كلماته بمسرحية محترفة فمط سليم خدي صابر في استنكار واضح مردفًا:

-تموت من الجوع ودي تيجي بردو، بقولك أيه انا الشغل ده ميمشيش معايا،
انت شكلك مش هترتاح غير وأنت في الأحداث .. صح ؟!

-لا والله العظيم يا باشا اقسم بالله، أنا عايز اشتغل بس هو جه عليا جامد!

اخبره "صابر" في سرعة وقد سيطر عليه الخوف من تهديدات سليم المبطنة فربت سليم على وجهه مرة اخرى يهدئه بصوته الرخيم:

-يا ابني انت صعبان عليا، احنا نازلنا قرار نلم اي حد بيشحت مش عايز مستقبلك يضيع في الأحداث..

حرك صابر رأسه يعبر عن فهمه للحديث وكاد يبكي من ضيق الحال وقلة الحيلة لكن سليم استكمل يحثه في صدق:

-انت بقيت طول بعرض وكلها سنتين وتبقى راجل، متتنازلش عن كرامتك وتهين نفسك عشان القرش،
بلاش تضيع فرصتك واسمع كلامي!

-حاضر يا باشا اخر مرة والله.

اخبره الغلام في نبرة منخفضة صادقة وهو يخفض رأسه كالمذنب، فأخبره سليم بخشونة وحنو متناقضان:

-انا هبعتك لواحد تاني قوله انك من طرفي ولو عملك اي حاجه انت عارف مكاني تعلالي فورًا، فاهم !!

تحرك سليم نحو سيارته يبحث عن ورقه يدون عليها العنوان والاسم ثم أعطاها لصابر الذي حاول الابتعاد عنه سريعًا لكنه اوقفه من جديد مخرجًا محفظته قبل أن يعطيه بعض المال قائلًا:

-خد روح أفطر وتطلع على الراجل على طول، أنا هتصل بيه كمان ساعه اشوفك روحت ولا لا!

-ربنا يخليك لينا يا باشا والله هطلع على هناك فُريرة.

تركه سليم وراقبه يركض بجسده رغم وزنه الزائد بعيدًا عنه، حرك رأسه في يأس قبل أن يعود لمكانه عند مقدمه السيارة ممسكًا بالحقيبة الورقية أعلاها.
لكنه ما كاد يستند بشكل كامل حتى انتفض قلبه وهو يرى نجمة خارجه، استقام في حماسة وتقدم منها بترقب وطيف ابتسامه خفيفة على شفتيه.
تسمرت نجمة ما ان انتبهت لوجوده ووقفت تطالعه في ذهول، اقترب سليم منها بابتسامه مشاكسة وكاد يفتح فمه للحديث لكنها سبقته متسائلة في نبرة فظة مرتعبة:

-سليم، أنت بتعمل إيه هنا؟

-امم، أنا كمان مبسوط إني شوفتك.

أجاب سليم والسخرية تنضح من حدقتاه قبل أن يمد كفه الممسك بالحقيبة الصغيرة التي لم تنتبه لها حتى، نظرت حولها في ارتباك قبل أن تسأل في خفوت:

-إيه ده؟

-افتحي شوفي مش هيعضك.

رمقته باستخفاف تخفي خلفه الفضول ثم مدت يدها تلتقطها، اتسعت عيناها في تعجب هامسة:

-تشيز كيك بالفراولة!

-ومعاها دبل شوت اسبرسو متلج، أو كان متلج.

أخبرها في فخر ممازحًا، فنظرت نجمة بعيدًا لحظه تحاول كبح ابتسامة رضا على هذا الاستعراض الصريح بالاهتمام، فقد اخبرته في محادثة أمس عن رغبتها في تناولهم وعندما اخبرها باعتياديه أن تحصل عليهما بعد كورسها تحججت بالمكان البعيد وانها ان تأخرت ستأكل والدتها رأسها.

-طيب قولي شكرًا، ما تبقيش متلبدة المشاعر كده.

قاطعها صوته الساخر فعادت عيناها الحانقة نحوه تخبره في غلاظة:

-مشاعر!!
لا خدهم مش عايزة حاجة.

-بس بس يخربيت اللي يهرج معاكي، خليها يا ستي ألف هنا على قلبك.

قال سليم سريعًا يوقف رحيلها ويدها الممتدة نحوه بأنف شامخ، لكنها استمرت في دلالها مستكملة في عتاب:

-بغض النظر ان شكرًا وكل حاجة، بس متستعبطش وتجيني تاني، ولا أنت عايز تعملي مشاكل لو حد شافنا؟

تنهد في ملل لكنه اجابها بشفاه ممطوطة ومكر لم يُخفى عليها:

-أنا عارف ان الكورس ده لوحدك ومعكيش اي حد من زمايلك ومتقلقيش مش هتحصل تاني، بس لو عايزة انا ممكن اتقدم ونخرس الألسنة!

وكأي أنثى وقعت في الفخ الذي أعده لها بين حروفه الماكرة وارتبكت في ثوان لتخبره متلعثمة:

-قولتلك مش بحب الكلام ده، احنا مجرد أصحاب.

رفت جفونها بشكل متوالي وهي تبرر، ليخبرها والانزعاج يملئ نبرته:

-ماشي يا نجمة، أنا متأسف ليكي، عن أذنك.

كاد يرحل وقد شعر بالضيق يتملك صدره لأنها لم تشعر بالزلزال الذي زلزله منذ رآها إلا إنها اوقفته بنبرتها المقطرة بدلال خفي كعادتها كلما انهالت عليه بسماجتها:

-وهتسيني واقفه في الشارع كده، طيب تعالى وقفلي تاكسي.

رمقها بجانب عينيه قبل ان يهز رأسه فاقدًا الأمل في فهم إشاراتها المبعثرة لكنه اخبرها في قبول:

-اتفضلي يا ستي، ومش هقولك انك زي القمر انهارده لتتقمصي.

سمع صوت ضحكتها الصغيرة لكنها اكتفت بنظراتها المائعة التي تنجح في تشتيت خلايا عقله وتجعله عاجزًا عن فهم طبيعة مشاعرها نحوه.
رن هاتفها داخل حقيبتها أثناء تحركهم على جانب الطريق سويًا قاطعًا لحظة مغازلة صامته بين الأعين، رفعت الهاتف ثم أجابت سريعًا بابتسامه واسعة:

-ألو يا رودي ....آآ..
مستشفى ليه، أيه اللي حصل؟

انهت جملتها في فزع، فاتاها الرد سريعًا:

-مش واقته يا نجمة حصلينا على مستشفى ****** ولما تيجي هفهمك اللي حصل!

أغلقت نجمة الهاتف ونظرت بعيون متسعة إلي سليم القلق قائلة في لهجة سيطر عليها الاضطراب:

-وقفلي تاكسي حالًا، دنيا صاحبتي في المستشفى ولازم اروحلها.

-طيب هدي نفسك وتعالي اوصلك أفضل، انتي شكلك مهزوز.

حركت رأسها في نفي أثناء تحركها كالمجنونة تبحث عن وسيلة مواصلات مؤكدة:

-مينفعش يا سليم، ممكن حد يشوفنا.

تحرك سليم وراءها الذي يصارع لمتابعه جانبي الطريق حولهما يخشى أن يصيبها مكروه، لكنه نجح في إيقاف سيارة أجرة سريعًا ووقف يتابعها تختفي على مهل.

***
هرعت نجمة حيث تقبع دنيا لتقابل رودي الباكية بانهيار امام باب غرفتها فسألت في هلع ونبضات متسارعة وكأنها في مارثون:

-بتعيطي ليه كده، دنيا جرالها حاجة!

-جوزها ضربها علقة موت يا نجمة!

كادت تدلف للغرفة حيث دُنيا لكن نادية صديقتهم الرابعة اوقفتها مردفه في جدية تحذرها:

-استني يا نجمة لما تدخلي حاولي متبينيش أن الموضوع صعب.

ارتبكت نجمه وشعرت بدوار خفيف لكنها سألت وهي تكاد تخر باكية أمام قدمي نادية:

-هو عمل فيها أيه؟

زفرت ناديه قبل ان تسرد على نجمة تفصيل اعتداء زوج دُنيا عليها بالضرب، وضعت نجمه كفها فوق وجهها تخفي ذعر كلمات نادية وهي تخبرها:

-مفيش مكان سليم في وشها، وحفاظًا على نفسيتها محدش هيقولها، هي متكسرة يا قلبي ومحتاجه مننا التشجيع.

تحركت نجمة إلى الداخل بعد دقائق طويلة أفرغت فيها شحنت بكاءها مع صديقاته بالخارج، ولكنها لم تكن كافية عندما رأت دنيا مستلقية فوق الفراش في ضعف وآثار الضرب والكدمات ظاهرة على وجهها وذراعيها.
المتوحش المجنون البشع، حسبي الله ونعمة الوكيل في كل جبروت تخلى عن إنسانيته بتلك الطريقة.

-نجمه!

خرج صوت دنيا ضعيفًا قبل ان تستمر في بكاءها الصامت بنشيج مزق اوتار قلب نجمة، فرافقتها نجمة رحلتها الباكية وهي تحاول أن تهدأ من روعها:

-شوفتي عمل فيا ايه المفتري!

-معلش يا حبيبتي ربنا ينتقم منه، انتي لازم ترفعي عليه قضيه ولازم يتعاقب بالقانون.

-قانون، أحمد هو القانون يا نجمة!

منه لله زي ما كسر عضمي وكسر نفسي المفتري، عشان عارف محدش قادر عليه يبهدلني كده،
أنا استحملت اهانه كتير منه لكن ده ضرب موت وأنا مستحيل أعيش معاه تاني.

كانت تغمغم بهذيان تشعر بالألم يفرض حصاره على كل خلاياها ليست الجسدية فقط وإنما تشعر بروحها تأن من فرط الألم وقلة الحيلة.
فيما شعرت نجمة بالتيه وهي تربت على أصابع دنيا المتشابكة مع أصابعها ورغمًا عنها بكت في حسرة وقهر لأن مبنى حبها الصغير تهاوت أساساته أمام عينيها.
ففي تلك اللحظة وهي ترى صديقتها مُهانه جريحة لأنها تحت رحمة رجل أعمته السلطة وجنون العظمة، اتخذت قرارها بأن حياتها غالية وليست للتجربة لتقول أن سليم مختلف، لا لن ترتكب أبدًا نفس الخطأ ولن تتزوج ضابط مهما كان يبهرها بروعة كروعة "سليم".
منذ البداية وهي تحارب للابتعاد، حاولت طمس مشاعرها ورفض تودده إليها ولكنه حاوطها بحباله من كل جانب حتى وقعت في شباكه بكل رضا.
تنفست في حده نعم هي من بدأت تلك المهزلة بسيرها خلف قلبها الساذج لكنها أيضًا من ستنهيها بعقلها الثابت.
"سليم" صفحة غامضة لن تكتشفها، ستطوى إلى الأبد ولن تستسلم لمحاولاته وكلماته المعسولة من جديد، لن تخاطر مهما كانت تعشقه.

رواية نجمة الباشا الحلقة الخامسة 

مر اسبوعين منذ أوصلها سليم أمام منزلها دون ان ينفذ تهديداته بمحادثه أهلها وفضح أمر خروجها مع زملاءها الشبان، ومن وقتها لم يحادثها ولم يعيرها اهتمام كالسابق، بل يحاول معاقبتها بالتجاهل، فكرت في غل لأنه بالفعل يشعرها بالحزن والشفقة على الذات في غيابه.
هزت قدمها بعصبية وهي جالسة على فراشها تقضم أظافرها، مَن يظن نفسه هذا المتعجرف، هي أساسًا لا تتمنى سوى أن يخرج من حياتها نهائيًا!
كانت تردد لنفسها تلك الكلمات، ولكنها كأي أنثى تُظهر قشرة الرفض والبرود، إلا أن أسفل تلك القشرة كانت روحها تتراقص فرحًا راضية بحبه وتمسكه بها، دخلت والدتها غرفتها تقاطع افكارها بتذكيرها:

-نجمة اعملي حسابك بكره متروحيش حته عشان العريس جاي.

رمشت نجمة في ذهول متسائلة:

-عريس مين يا ماما؟!

-أنتي هتشليني يا نجمة، العريس اللي كلم أبوكي من طرف عمك!
بصي جهزي طقم لطيف عشان متدوخنيش بكره وحاولي تديله فرصة بلاش تطفشيه كالعادة.

انكمشت ملامح نجمة في انزعاج واضح قبل ان تردف مستنكرة:

-ماما ده شغال في الخليج، انتي هتسبيني اسافر الخليج؟

-ايوة يا اختي بالسلامة والقلب دعيلك، احمدي ربنا العريس يتيم يعني مش هتجلطي حد من عيلته!

اخبرتها والدتها ساخرة غير مهتمة بملامح نجمة المنذهلة من اجابه والدتها، ثم زفرت وشعرت بالغيظ يتولد داخلها أكثر وأكثر، لمحت هاتفها فطالت نظرتها له قبل ان تنتفض ممسكة به مقررة الاتصال بسليم في لحظة جنون تنوي غلق تلك الصفحة نهائيًا، هذا ما أقنعت به نفسها وهي تنتظر رده المتأخر.
بينما على الطرف الآخر كان سليم يتابع أسمها المُنير لشاشة هاتفه في تأني وتفكير فقد كان متخذ قرارًا بعدم الاقتراب منها وحفظ ماء الوجه بعد نفاذ صبره معها، ولكنه في الباطن كان منتظر أن تبادر هي بالحديث وأن تأتيه معتذرة عن جنونها، التوى ثغره في ابتسامة منتصرة منبعها يقينه أنها كانت ستتصل.
أجاب في نهاية المكالمة قبل أن تفصلها مباشرةً، ليخرج صوته أجش بارد ظاهريًا .. محترقًا بالشوق داخليًا:

-أهلاً نجمه هانم بنفسها بتتصل بيا!

لا تعلم ماذا دهاها لكنها صاحت في شراسة توقعها سليم تمامًا:

-أنا مش متصلة عشان جمال عيونك على فكره!

-أنا كنت متأكد إنك هتتصلي على فكره، وده يثبتلك كلامي.

-كلام إيه يا أبو كلام؟!

-إنك بتحبيني وبتحاربي مشاعرك ليا!

أطلقت نجمه ضحكة ساخرة لا تمت للمرح بصلة فهي ضحكة تحمل غضبًا مفخخًا داخلها، قبل أن تخبره في لهجة حازمة:

-بمناسبة المشاعر أنا متصلة أقولك إن جايلي عريس بكره وهوافق عليه فياريت تمسح رقمي من عندك وإياك تتصل بيا تاني !

-نعم يا أختي؟!!

أخبرها في صدمة يشعر بالبرودة تكتنفه قبل ان تفور دماءه صاعدة دفعه واحدة نحو رأسه تغلي، فأجابته مسرعة في تشفي:

-زي ما سمعت، يعني أنا لا بحبك ولا نيله.

قالتها بلامبالاة وهي تلعب بخصلاتها بين أصابعها، وقد لمعت عينـاها متلذذة بعقابه، سعيدة بخنجر الغيرة الذي غرزته داخله وها هي ترى أثار نزيفه في نبرته الهادرة بغضب أسود وانفعال عاطفي:

-بقولك إيه شغل العيال ده مش عليا، قسمًا بالله يا نجمة واللي خلق الخلق ما هتكوني لغيري!

رفعت نجمه حاجبها في تحدي وكأنه يراها وتمتمت في ميوعة متعمدة اشعاله:

-هو عافيه، أنا عايزة اتجوز العريس ده.

زمجر سليم في شراسة ووحش الغيرة داخله يزأر مترجمًا جنونه:

-أيوه عافيه، وننوس عين أمه اللي هيجيلك أنا هكسر رجله قبل ما يفكر يطلعلك يا نجمه سمعاني؟

تأففت نجمه في ملل متعمدة إغاظته:

-كلام متوقع من بني أدم عنيف همجي عايش وسط مجرمين!

وصلها صوت ألفاظه الخارجة قبل صوت قبضته العنيفة على سطح مكتبه متابعًا بصوت يتطاير منه ألسنة اللهب:

-هو انتي لسه شوفتي عنف وهمجية، أنا هوريكي الهمجية الحقيقية، حذرتك أكتر من مرة بس الظاهر إنك مفكراني بلعب وبهزر معاكي!

سألته نجمة في برود تخفي توجسها:

-هتعمل إيه يعني؟

تنهد سليم تنهيده عميقة يتمالك بها أنفاسه المضطربة، وتحمل في جعبتها الكثير والكثير قبل أن يخبرها بنبرة خافتة مُخيفة:

-كل خير، خليها مفاجأة.

-على فكره متقدرش تعمل حاجة وقولتلك مش عايزة أشوف وشـ.....

اتسع فاهها عندما أغلق الهاتف بوجهها دون أن ينتظرها تكمل بقية جملتها، رمت الهاتف بعصبية على الفراش مرددة في نبرة مغتاظة:

-فاكر نفسه رئيس الجمهورية!

*****

في اليوم التالي ... في منزل عائلة نجمة...

كان والديها مجتمعين في حضور ذلك العريس "ننوس عين أمه"، حتى صدح صوت والد نجمه بابتسامة مُرحبة هادئة ينادي:

-هاتي الشربات يا نجمه.

داخل المطبخ كان نجمه تتحسس وجهها بتوتر علها تزيل قلقها وتوترها، توترها من الموقف الذي توضع فيه لأول مرة، وقلقها من رد فعل ذاك البربري، بدأت تشعر أن الحياة تشهر بوجهها جميع أسلحة الضغط العصبي خاصة بعد شجار والدها المعتاد مع صاحب المبني الذي يرغب في إخراجهم من البيت بحجة ان الإيجار القديم انتهى والغبي اختار هذا اليوم الشؤم من بدايتة لتجديد تهديداته الواهية ..!

تنفست بصوت مسموع قبل أن ترفع رأسها وتمسك بالصينية الموضوع عليها أكواب "الشربات" متجهه للخارج حيث أنظار الجميع سُلطت عليها كالمرصاد، بعد أن قدمت للجميع الأكواب اقتربت تجلس جوار والدتها ووالدها فقال العريس في ود:

-ماشاء الله ربنا يحميها.

حاولت نجمة رسم ابتسامة مجاملة على ثغرها، ولكن دون فائدة فكل ذرة في جسدها تنفر وتشعر بالخطأ من جلوسها معه وكأن سليم نجح في افساد حياتها بامتلاكه روحها.
أجبرت تلك الابتسامة اللعينة على وجهها لكنها قُتلت في مهدها حين صدحت طرقات عنيفة على باب المنزل، نهض والدها بسرعة يخبر العريس في هدوء مصطنع وقد ظنه المجنون صاحب المبنى:

-زي ما انت، هشوف مين ده اللي بيخبط بالشكل ده وراجع حالاً.

وبالفعل توجه نحو الباب والغضب على محياه والوعيد لكنه تجمد مكانه ما إن رأى عناصر الشرطة تداهم البيت، فسأل الضابط بتوتر فرض سيطرته:

-خير يا باشا في إيه؟

أشار الضابط بيده للعساكر من خلفه بالدخول قائلًا بصوت أجش:

-بعد اذنك كده يا حاج وهتعرف في إيه!

ابتعد على مضض ليدلف الشرطي الذي كان يتفحص المكان في ملل حتى لمح علبة من الشوكولا فوق الطاولة فنظر لأحد رجاله نظرة ذات مغزى، حرك لها الأخر رأسه بالفهم في صمت.
ابتعد الشرطي مستمرًا في التفحص حتى وصل للغرفة حيث يجلس الجميع وفي أعقابه شاهين والد نجمة تاركًا عناصر الشرطة ينتشرون في المكان من خلفهم، حاول شاهين تهدئة الذعر الخام المرتسم على نجمة هي ووالدتها لكن دون جدوى.

-تمام يا فندم لقيناه!

دخل أحد العساكر ممسكًا بعلبة الشوكولا المهداة من العريس، راقب الجميع الشرطي يفتح العلبة تحت أنظار الجميع المتعجبة ما عدا نجمة التي لديها شعور عن سبب ما يحدث لكنها تكذبه، فتحها الشرطي قليلاً مخرجًا مواد مخدرة تحت انظار الجميع المصدومة، قبل أن يقول آمرًا بما زاد صدمتهم أضعافًا:

-هاتوهم على البوكس!

شهقت نجمه في فزع وهي تمسك بوالدتها:

-هاتوهم إيه احنا عملنا إيه!!

-هو إيه اللي بيحصل يا باشا، احنا عملنا إيه؟

خرج صوت العريس المرتعب اخيرًا لكن الشرطي تجاهله وبالفعل تم سحب الجميع لسيارة الشرطة وسط اعتراضات وصياح من الجميع خاصةً العريس الهلع، ولم يستطع أي شخص تخمين ما يحدث سواها ولم يبرد الضابط نيران الخوف التي أحرقتهم بأي اجابة....!

وصلوا قسم الشرطة بعد وقت مر عليهم كالسنوات، وجلسوا جميعهم وملامحهم تحكي عن خوف طبيعي وجد مساره بين عروقهم وهم في انتظار أي توضيح، ودون أي مقدمات كان "سليم" يقتحم المكان بهدوء تام واضعًا يده في جيب سرواله يُطالعهم بنظرات متفحصة خاصة ذلك الأبله الذي تجرئ ليطلب يد مجنونته، حدجه بنظرات نارية متوعدة قبل أن يزمجر سليم بعصبية مفرطة مُخيفة:

-محمد، خدوه تحت.

امسك العسكري العريس من ياقته وسط اعتراضه ساحبًا له خلفه دون أن يعلم احد إلي أين؟
كانت رؤيه سليم بمثابة الرصاصة التي سقطت على قلب نجمه لم تتوقع للحظة أن يصل به التهور والغرور والهمجية إلى ذلك الحد....
كلما وضعت له حدًا وأقنعت نفسها أنه لن يتخطاه مهما زاد تهوره، يفاجئها هو بتخطيه وهدمه فوق رأس توقعاتها..!
تابعت عيناه الخاوية الهادئة تستقر فوق هيئتها المرتعبة حتى تقدم والد نجمه ووالدتها في وقت واحد يهتفون لسليم باستفسار متوجس:

-في إيه يا حضرة الظابط أحنا معملناش حاجة!

فأشار سليم برأسه نحو علبة الشكولاتة التي أحضرها العريس:

-علبة الشكولاتة فيها مخدرات!

شهقة الصدمة نحرت جوف جميع الحاضرين، فهز والدها رأسه نافيًا بهيستيرية:

-والله العظيم يا باشا دي هدية جابها الله يحرقه العريس معاه دي مش بتاعتنا!

-ايوة يا سعادة الباشا لو عايز تقبض على حد أقبض عليه هو،
أنا من الأول كان قلبي حاسس ان السفر ده وراه مصييه.

تدخلت والدتها المتوترة وهي تلقي بالاتهامات فوق المسكين الذي أوقعه حظه معهم، حينها تقدمت نجمه تصيح بشراسة وجرأة فاجأت الجميع:

-أنا متأكدة إنه مستحيل يعمل كده أكيد في حاجة غلط.

حينها أشار لها سليم برأسه بابتسامة صفراء دبت القلق بقلوب والديها:

-طيب يا شاطرة أنا شايف أنك تيجي معايا!

تدخل والدها المذعور يسأل في قلق تجلى على ملامحه:

-تروح فين يا باشا؟

هز سليم رأسه في هدوء وهو يشير له ولوالدها بالجلوس ومن ثم أجاب:

-لأ متقلقش يا حاج ده تحقيق فردي كلكم هتمروا بيه ورا بعض،
حضرتك أقعد ارتاح، انا مصدق ان مستحيل ناس محترمه زيكم تعمل حاجة زي كده، وان الكلب ده وقعكوا معاه.

ارادت نجمة الصراخ فيه وودت لو تمتلك من الشجاعة ما يكفي لتعترف لوالدها بطبيعة علاقتها به وانه كاذب، ولكن الخوف أخرسها، فماذا ستخبره:

ذلك الشرطي هو حبيب سابق يرغب في الانتقام مني؟!

خرجت من افكارها حين اومأت والدتها رأسها في حركات مضطربة وهي تقترب من والدها مؤكدة في امتنان:

-اه والله العظيم يا ابني احنا محترمين، منه لله البعيد ربنا يجازي ولاد الحرام ويحميك لشبابك يا ابني.

ابتسم سليم في خفوت قبل ان يلتفت لمطالعة نجمة مغمغمًا:

-هيجازيهم، هيجازيهم يا حجة!

رفع سليم يده مشيرًا لها بالخروج أمامه ففعلت على مضض من والدها القلق، سارت نجمه أمام سليم الذي دفعها للتحرك في صمت ما ان أغلق الباب وما إن ابتعدوا قليلاً عنهم حتى سألت نجمه بصوت حاد غاضب:

-تحقيق إيه أنت هتكدب الكدبة وتصدقها ولا إيه؟!

هز سليم كتفيه بلامبالاة وبرود جعلوا قلب نجمه ينتفض فزعًا بين ضلوعها خاصة حين أجابها:

-تفتكري المجرمين باخدهم فين؟!
على الحبس طبعًا.

تيقنت نجمه من صدق كلامه حينما وجدت نفسها أمام باب "الزنزانة" فعليًا، تلك اللحظة أحست نجمه أن كل شيء يدور من حولها سوى تلك الزنزانة التي تمثلت أمامها في هيئة وحش لكنها زمجرت في عناد متمسكة بفكرة عشقه لها:

-انت متقدرش تعمل كده وأنا مش هسمحلك تهني بالطريقة دي!

أشار سليم إلى أذنه ثم اردف متهكمًا:

-تسمحيلي ؟
طموحة أوي انتي يا نجمة!

ابتعدت نجمة عنه تحاول التراجع لكنه منعها ممسكًا معصمها في حزم فهتفت فيه صارخة:

-انت فاكرها سايبها أنا هوديك في داهيه لو قربت مني!

-جدعه، افتح الباب يا عسكري.

تسمرت نجمة مكانها بعيون منفرجة تتابع الباب يُفتح حتى قاطع سليم صدمتها بصوتٍ متسلِ :

-متقلقيش انا هاسيبك مع ستات جايين بتهم شبه تهمتك، مش هاوديكي مع قتالين قتلة.

تحرك بها خطوة ولكن نجمه تلقائيًا تعلقت بساعده تضغط عليه بقوة وكأنها تستنجد به هامسة في صوت مبحوح وحروف مرتعشة من الخوف:

-لأ يا سليم بالله عليك ما تسبنيش مع الناس دي ولو دقيقة واحدة.

رفع حاجبه الأيسر قائلًا في نبرة ماكرة:

-ليه ام دلال جوا هتدلعك أحلى دلع، اهي الست دي هتعجبك أوي لأنها مدوباهم عشرين القادرة.

علت انفاسها في هلع واخبرته في نبرة مهتزة من شفاها المرتعشة تناشد الحب داخله:

-أرجوك يا سليم بلاش تخوفني!

اتسعت ابتسامته الصلفة قبل أن يمسك يدها متعمد إثارة مخاوفها:

-أسف أنا بحب اخوف الناس اللي مش بترضى تتجوزني!

-لا لا أنا راضية اتجوزك!

حركت رأسها مؤكدة كلماتها، فأكمل سليم بنفس المكر الرجولي:

-هتتجوزيني حالًا؟!

تعلقت انظارها المغتاظة به لكنها أومأت برأسها موافقة تكاد تبكي كالأطفال حينما اتخذ خطوة للأمام، فتشدقت في قوة مرتعدة:

-حالًا بس مشيني وحياة امك!

كان يرغب سليم في معاقبتها أكثر ولكن الخوف السابح في عيونها اتاه بنتيجة عكسية، فوجد نفسه يتراجع ليقبض على كفها الصغير المستقر فوق ذراعه يتحسس فوقه في رقه، هامسًا لها في نبرة هادئة رغم خشونته:

-خلاص اهدي وحياة امي مش هدخلك.

استدار معها ساحبًا لها خلفه تحت أعين عناصر الشرطة المتسائلة والمجرمين المتعجبة، كانت تركض تكاد تسبقه وتجذبه هي خلفها، فشد على يديها يوقف تقدمها ثم ادخلها برفق نحو مكتبة.
أجلسها أمامه واعطاها كوب من العصير الخاص به، ثم جلس أمامها مستطرد في مشاكسة املًا في تخفيف ذبذبات خوفها:

-لما أنتي جبانه كده عامله نفسك بسبع رجالة ليه؟

زمت نجمه شفتاها ونظرت لأسفل دون إجابة، بينما استمر سليم يطالعها يحاول ازاله ضباب الغيرة المجنونة عن مخيلته.
عضت نجمة فوق شفتيها دون حديث فداخلها مضطرب متذبذب ما بين الخوف من مخالفته والعودة لكونه سليم المجنون بها، مع لمحة من الرضا المريب بفعلته السوداء.
ترجم سليم ذبذباتها كخوف مطلق وشعر بصدره يضيق لرؤيته الخوف يتملكها منه، حرك أصابعه فوق وجهه في حدة وقد طارت روح المشاكسات تمامًا من الموقف.

-أيه؟!

انتفضت نجمة المتسائلة بتلقائية في توجس تراقب تحركاته عن كثب وكأنه سيقفز عليها أي لحظة، عض شفتيه وقد اشعلت حركتها غضبه على نفسه وعليها لأنها من أوصلتهم لذلك الطريق فوجد نفسه يتهمها في حدة:

-مبسوطة دلوقتي وانا بثبتلك ان الضباط جبروت مش كده؟
فرحانه انك وصلتيني أعمل حاجة عمري ما تخيلت اني أعملها!

طالعته في صمت واستسلام لا تزال تشعر بالخطر والارتباك من اتهاماته، فازداد غيظه من صمتها الذي كان هو سببًا فيه وهتف مؤكدًا:

-أنا مش كده وعمري ما مشيت ورا رغباتي الشخصية وعلى فكرة كل مهنه فيها الشريف والفاسد،
لكن انتي مش عايزة تشوفي غير اللي يرضي جنونك وضغطتي عليا لحد ما وصلتيني لكده!

أخفضت نجمة بصرها ترغب في البكاء ولا تريد التفكير في صحة كلماته، ولا تريد اخباره انه برغم ما يحدث إلا انها متأكدة انه ليس بشخص سيء وانها تثق في انفعالاته فهو في أسوأ لحظات جنونه يحاكم نفسه قبل محاكمتها:

-أنا مجرد انسان يعني وارد أغلط أنا مش مثالي ولا نبي،
لكن أنتي وجودك في حياتي لعنة وغلطتي الوحيدة اني مش قادر أسيبك!

حرك أصبعه في الهواء يؤكد كلماته للفراغ فأغلقت عيناها باتت لا تعرف أيحادثها هي أم يحادث نفسه، لا تدري كيف تلبسها البرود وقتها لكنها ارتشفت كوب العصير دفعة واحدة ثم رفعت رأسها تتمتم في خفوت:

-رجعني عند ماما وبابا زمانهم قلقانين.

عم الصمت المكان حولهما حتى قطعه سليم حين هز رأسه مرتين عاجز عن فهمها أو فهم نفسه من الأساس، تحرك نحو الباب لكنه عادة مرة أخرى خاتمًا كلماته:

-الإنسان لما بيكون قدام متصيد للأخطاء مش بتطلع منه حاجة صح!
خليكي هنا انا هخرج اجبهم وانهي الحوار.

اخبرها سليم وهو يحارب شعوره بتأنيب الضمير فما حدث قد حدث وانتهى الأمر لكن نجمة السائلة في تردد اوقفته:

-طيب وال ... العريس؟

حينها تبخر كل شعوره بالذنب وتأجج على حافة ملامحه ذلك الوحش مسلوب التفكير المعمى بالغيرة:

-متختبريش صبري يا نجمة،
ولو صعبان عليكي، تحبي تونسيه؟

حركت نجمه رأسها نافية في عنف وبتلقائية تامة دون مبرر خرجت منها ضحكة بلهاء تفصح عن جنون المشاعر المضطربة داخلها، قائلة:

-لا ما يبقى وحيد عادي!

ارتفع حاجب سليم غير قادر على فك الإشارات التي تعطيها له تلك الشقية التي وقع صريع عشقها وكأنها لم تلاحظ مشهد خوار قواه ونفاذ صبره منذ قليل، تحرك في صمت مغادرًا لإصلاح جنونه مع عائلتها.
أما نجمة فكانت تشعر بأعاصير من فرط الانفعال والخوف الذي مرت به منذ لحظات ولكن في عبق تلك الانفعالات والمخاوف الجلية كان هناك فتيل اشتعل بين ضلوعها يُنير ما كانت تحاول اطفائه تجاه سليم..
فهناك رضا مريب بفعلته حتى وإن كان الجنون سمتها..
ترى هل المشكلة به أم بها لتشعر بمثل هذا الشعور؟!!

رواية نجمة الباشا الحلقة السادسة

أغلق "سليم" الهاتف مع المأمور بعد أن أخبره بتأجيل طلب أجازته في الوقت الحالي، تنهد بينما يفرك عينيه المنغلقة يشعر أن الآم رأسه قد زادت، عض شفتيه في آسى فقد مر أسبوعين منذ تلك الليلة التي جن جنون غيرته فيها بسبب نجمة، ولم يتذوق فيهما طعم النوم مع الهاجس التي زرعته نجمة ملتهمًا ما تبقى من عقله.
يشعر بتأنيب ضمير قاتل كلما تذكر الذعر الخام داخل مقلتيها صحيح أنه تراجع عن لعبته معها ما أراده هو تطبيق المقولة المتبعة في مجاله "قرصة ودن" كي لا تنساق وراء جنونها وتفقده هو صوابه، ليكتشف بعدها انه فاقد لصوابه بالفعل فـ نجمة حبيبته وليست أحد المجرمين ليفعل فعلته تلك.
استقام ثم مط ذراعيه يحاول التغاضي عن شعور التكسير المتملك لجسده متمتمًا:

-منك لله يا نجمة، بهدلتي قلبي وضيعتي عقلي ودلوقتي صحتي بتروح مني بسببك يا شيخة!

توقف عن مط ذراعيه ثم رمش مرتين على التوالي قبل ان تنكمش ملامحه في استنكار هامسًا:

-والله عال وبقيت أكلم نفسي كمان!

زفر في حدة وانزعاج مما وصل إليه حاله فها هو يجلد ذاته داخل جدران مكتبه ويحارب مشاعر شوقه لها ولصوتها الرقيق بينما هي تعيش حياتها منعزلة عنه دون أن تفكر مرة بالتواصل معه!
ليسخر عقله منه، لما تلومها وأنت الجاني في معاقبة نفسك بعدم الاقتراب منها مقتنعًا بأن أي حركة منك ستجد رد فعل من نجمة مصدره خوفها منك ومما يمكنك فعله بها.
زمجر مستنكرًا جنونه، فقد قولب ذاته بفعلته داخل قالب الجبروت دون وعي منه وبالطبع هي لن تبادر بالاتصال به وكل فعل منها حوله سيكون كالمشي على قشور البيض.
حرك كفيه فوق خصلات شعره القصيرة في شبة هستيريا يرغب في اقتلاع رأسه الذي يتخذ بها قرارات متهورة دون تفكير، فها هو الآن يخشى التقرب من سارقة القلب فيكتشف انه خسرها وفقد ثقتها للأبد.

-ايه يا باشا أخبار النجمة أيه ؟

قطع "عدي" زميله أفكاره فرمقه سليم في ذهول قبل ان يرد متعجبًا:

-نجمة، أنت عرفت منين؟!

عقد عدي بين حاجبيه متمتمًا ببلاهة وهو يتقدم من سليم يتحسس جبهته:

-مالك يا سليم يا حبيبي ما كل الناس عارفه هو سر !!

ازداد ذهول سليم أضعافًا وعقله المُغيب بمُعذبته ونجمته يرميه نحو هوة بعيدة كل البعد عما يقصده عدي، لكنه همس في عدم فهم:

-كل الناس عارفه ازاي يعني، جاوب بصراحة عرفت منين موضوع نجمه ده؟

حينها لم يستطع عدي كبت ضحكته وهو يربت بأصابعه فوق كتفه في استنكار:

-في أيه يا أبو المجاريح مالك؟
أنا قصدي النجمة اللي فوق كتافك يا حضرت الظابط، الترقية يعني ده أنت ضايع.

حينها زفر سليم بعنف وهو يضرب على جبهته غير مصدقًا... لا يصدق أن كل الإشارات بعقله أصبحت تشير لشيء واحد... نجمته التي قلبت حياته وتفكيره وعقله رأسًا على عقب.

أما عدي فقد جلس جواره غامزًا بطرف عيناه مشاكسًا إياه:

-اللي واخده عقلك!

حرك سليم رأسه في قلة حيلة محيطًا وجهه بيداه معًا يؤكد على جملة صديقه التي أحسها بكل جوارحه:

-هي سرقت عقلي وسرقت قلبي وسرقتني من حياتي كلها فعلًا يا عدي.

ارتفع حاجبي عدي الذي هز رأسه وهو يسبل أهدابه مغمغمًا بنبرة درامية ساخرة:

-اممممم وإيه كمان يا حنين؟

حينها انتبه سليم أنه إنساق خلف التيه الذي يجتاح روحه، فهب يضرب عدي الذي تعالت ضحكاته بينما سليم يزمجر بغيظ:

-تصدق أنا راجل مشوفتش تربية عشان افضفض مع واحد زيك، اتكل على الله ياعم شوف رايح فين!

ضحك عدي على حالة صديقه ثم قال من وسط ضحكاته بينما يلقي السلام مغادرًا:

-خلاص ياعم ماتزقش اديني ماشي، لو احتاجتني أي وقت رنلي.

-اتكل على الله يا عم!

صاح بها سليم في انزعاج ثم جلس يزفر بعنف مقررًا معاودة اشغاله التي يؤجلها منذ الصباح فقاطعه صوت رنين هاتفه، ليتمتم مستنكرًا:

-مش هنشتغل في يومنا ده!

رفع الهاتف فكاد يسقط من بين أصابعه عند لمح أسم نجمة يضيء الشاشة، فجأة ارتبك متسائلًا هل يجب أن يجيب؟
شعر بسعادة مختبئة خلف رجفة تملكت قلبه، لكن الوقت قد فات والرنين توقف.
أغمض جفنه الأيمن أثناء زمه لشفتيه يشعر بالحيرة لكنه يخشى اجابتها خوفًا من قرارها بمواجهته بفعلته المشينة لأنه حاليًا لن يتمكن من ايجاد مبرر لها، أما ان كانت تتصل بدافع الخوف فوقتها ستتمزق احشاءه وهنا أيضًا لن يجد رد مناسب.
عاد الهاتف للرنين من جديد لكنه استقام مغادرًا مقررًا ترك هاتفه داخل حقيبته الصغيرة خوفًا من الاستسلام والتراجع عن قراره.

*****

قبل ساعتين من تلك الواقعة....

داخل منزل نجمة، استيقظ الجميع على صوت خبطات متتالية متسارعة الرتم فوق باب المنزل، خرج والدها اولًا هاتفًا:

-طيب طيب، في حد يخبط كده؟!

فتح الباب في انزعاج واضح لكنه فوجئ باندفاع أربعة رجال توسطهم صاحب المبنى الذي يقطن فيه والذي يحاول منذ الأزل إبطال عقد الإيجار القديم الخاص بشقتهم واسترجاعها، هتف "شاهين" والد نجمة مستنكرًا:

-انت اتجننت يا صلاح، بتتهجم عليا في بيتي؟

-اصبر على رزقك لسه التهجم مجاش وقته،
أنا جاي اديك إنذار بالإخلاء الودي يعني أنت تعزل من سكات ونقطع العقود ويا دار ما دخلك شر...قولت أيه؟

تقدمت نجمة في خطوات مرتعشة تحاول مساندة والدها مستهجنة:

-أيه شغل قطاع الطرق ده يا أستاذ صلاح،
بابا ماضي عقد مع والدك الله يرحمه واللي أنت بتعمله ده ما يصحش ومتفتكرش اننا هنسكت ونعديه بالساهل ابدًا.

تدخل والدها يدفعها نحو زوجته يخشى عليها من الشر المشع من عيون هؤلاء الرجال، ثم حاول دفع الرجال للخارج أثناء حديثه الحاد:

-ادخلي جوا يا نجمة، كلامنا برا يا صلاح مش وسط اهل بيتي،
أنا سبق وقولتلك رجعلي فلوسي وانا هاخد بيها شقه وامشي من هنا،
لكن انت عايز تتجبر عليا وتاخد مني شقتي وفلوسي اللي دافعها لأبوك.

دوت ضحكة صلاح الذي أغلق الباب محتميًا برجاله قائلًا في لهجته الساخرة:

-فلوس؟
وهي شوية الملاليم اللي ادتهم لأبويا دول فاكرهم فلوس، دول اعتبرهم حق قعادكم في شقتي يا حبيبي.

اشتغل وجه شاهين بالغضب ليخبره مزمجرًا:

-مش هيحصل يا صلاح وانا مش هسكت على حقي وبالقانون.

دوت ضحكة صلاح من جديد أثناء تحريكه لأصابعه معلنًا في تحدي:

-حلو يا حبيبي، خلي بقى القانون ينفعك.

علت صرخات نجمة ووالدتها وهن يتابعن أحد الرجال يندفع كي يعتدي على والدها بالضرب في قوة ردت جسده للخلف، اندفعت نجمة تدافع عن والدها وسط صرخاتها المرتعبة ليمسك رجلًا أخر معصمها موقفًا تقدمها.

-كفاية!

صرخ صلاح في رجُله رافعًا كفه كي يتوقف قبل أن يهدد شاهين والشر ينضح من مقلتاه:

-معاك لحد بليل يا شاهين لو الورق مجاش واتقطع قدامي هولع في البيت باللي فيه،
ميبقاش من ماله ولا يهناله يا ... يا حبيبي ... بينا يا رجالة.

دفع الرجل نجمه نحو والدها المستند على ركبتيه والذي يرفض إظهار الضعف أمام أهل بيته فصاح شامخًا:

-وديني ما هسيبك يا صلاح وديني ما هسيبك!

لم يبالي صلاح بتهديداته وأشار لرجاله باتباعه والمغادرة مغلقين الباب خلفهم، أمسكت نجمة بذراع والدها تشعر بالقهر هامسة وسط بكاءها:

-قوم يا بابا منهم لله.

-متعيطيش يا نجمة ابوكي مش هيسكت على الإهانة اللي حصلت دي.

هزت رأسها توافقه والدماء السائلة على جانب فمه تسقط على قلبها كالسم القاتل وتسخر من ضعفها ولأول مرة في حياتها تمنت لو كانت رجلًا وليست امرأة ضعيفة، تقدمت والدتها المرتعدة نحو زوجها وحسدتها نجمة للقوة التي تظهرها ملامحها وهي تواسي زوجها:

-ولا عاش ولا كان اللي يهينك يا اخويا، احنا مش هنسكت قوم معايا، قوم..

سندته والدتها محتضنة إياه نحو غرفتهما مغلقة الباب أمامها ومنها إلي المرحاض بالتأكيد لتضميد جروحه البسيطة ولإخفاء قهره عن عيني ابنتهما، مسحت نجمة دموعها في غضب ما ان انتقلت أفكارها إلى سليم وتلقائيًا وجدت نفسها تركض تبحث عن هاتفها متناسية وعودها ومخاوفها بعدم الاقتراب منه فقلبها يعلم ان لا سند لها غيره.
بلعت حسرة تجاهله عندما اتصلت أكثر من مرة فقوبلت بعدم اجابته، رمت الهاتف من يدها وسحبت ملابسها مقررة المخاطرة والذهاب بنفسها إليه وبالفعل دقائق قليلة وكانت تتسلل للخارج دون اخبار والديها برحيلها متأكدة ان ذويها منشغلان ولن ينتبها إليها الآن.

*****

وقف سليم أمام سيارة مخفر الشرطة يحادث بعض زملاءه قبل ان يهتف لأحد الرجال:

-حد يجيبلي شنطتي من فوق قبل ما نطلع.

-حاضر يا باشا.

هرع الرجل ينادي أحد العساكر ولم ينتبه سليم للباقي وقد لمح نجمة تتقدم نحو البناء في عزم وهالة منظرها الشاحب والدموع الجافة فوق وجنتيها، تقدم نحوها في هلع حتى انتبهت له وغيرت مسار خطواتها تقابله سريعًا، ارتجف قلبها في اطمئنان تحاول اطفاء مخاوفها عندما وقف أمامها مباشرة يتفحصها بقلق يشع من عينيه متسائلًا في نبرة متوترة:

-نجمة، مالك يا نجمة، حصل أيه؟

حاولت السيطرة على ارتعاشه شفتيها وكبح حزنها لكنها انفجرت باكية تخبره في اضطراب دون قدرة على تمالك مشاعرها:

-بابا ... بابا يا سليم اتضرب.

اضطرب سليم واتسعت عيناه وهو يتابع انهيارها وسمح لنفسه بمسك ذراعها وسحبها معه نحو سيارته المركونة على بُعد أمتار قليلة منهما ومن أعين المارين.
جلست جواره في صمت تحاول السيطرة على شهقاتها بينما يبحث هو عن قنينة الماء يقدمها لها ويراقبها ترتشف منها وتتنفس في بطء، لا يريد أن يزيد من هلعها وحدسه ينبئه بأن هناك كارثة قد حلت بها دفعتها للقدوم إليه بتلك الطريقة، فأخبرها في صوت يخفي خلفه الكثير من الهواجس:

-براحة أهدي وأحكيلي كل اللي حصل؟

حركت نجمة رأسها في موافقة وجذبت بضع أنفاس وهي تتعلق بالأمان داخل عينيه بتلقائية، ثم اخذت في تلو ما حدث على مسامعه وملامحها تتنقل ما بين الغضب والقهر بينما يهز سليم رأسه يحثها على الاستمرار حتى انهت سردها بجملتها التي خطفت قلبه:

-ولقيت روحي جيالك وعارفة أنك الوحيد اللي هتقدر تسندني.

رفع أصابعه يربت على جانب وجهها الرقيق مؤكدًا:

-وأنا مش هخيب ظنك، روحي البيت وسبيلي أنا الموضوع ده،
وغلاوة دموعك دي ما هيعدي انهارده غير وأنا جايبلك حقك.

احتضنت نجمة يده بكفيها هامسة في امتنان وخجل:

-أنا اسفة اني بشغلك وبخليك....

-بس بلاش كلام عبيط، لو مش أنتي اللي هتشغليني، هنشغل بمين؟

حركت نجمة رأسها ولأول مروة تشعر بالامتنان وبقيمته لكونه شرطي قادر على مساعدتها واستعادة حقها.

*****

في مساء ذات اليوم داخل قسم الشرطة...

وقف سليم في انتظار حضور نجمة ووالدها أمام ذلك الرجل المدعو "صلاح" الذي كان يقف وسط رجاله عاقدًا حاجبيه والضيق يستوطن ملامحه غير راضٍ أبدًا عما يحدث ويخطط له سليم .. فرفع سليم هاتفه محادثًا نجمة في خفوت:

-انتوا فين؟

-احنا داخلين القسم اهوه يا دنيا متقلقيش.

-دنيا، ماشي مقبولة منك، مع السلامة.

اخبرها سليم الساخر ثم أغلقت نجمة الهاتف فسمعت توبيخ والدها من جديد:

-طيب يا نجمة، أنا هوريكي تتصرفي ازاي من غير رأيي!

-الله يا بابا قولتلك كنت مخضوضة وبعدين معملتش حاجه انا رجلي وقفت قدام القسم وكنت هرجع،
بس الرائد سليم لما شافني أصر يعرف في أيه ولما عرف اصر يساعدنا!

توقف والدها يتذمر في وجهها مستنكرًا:

-والرائد سليم يساعدنا بتاع أيه!

هنا تدخلت والدتها مدافعة عن ابنتها قائلة:

-وبعدين معاك يا شاهين، أكيد الراجل حاسس بتأنيب ضمير لما مرمطنا على الفاضي المرة اللي فاتت مش موضوع يعني.

حركت نجمة الخجلة رأسها مرات متتالية بالموافقة، فزفر والدها قبل أن يستغفر الله متمتمًا:

-انا مش عارف سبتكم تيجوا معايا ازاي!

امسكت نجمة بذراع والدتها التي تتبع زوجها بأنف شامخ فهي من رفضت الجلوس وتركه يأتي وحيدًا.

وبالفعل وصل "شاهين" حيث سليم المنتظر ودلفت بعده زوجته ونجمة التي احتدت ملامحها بغل ما إن رأت صلاح، فأشار سليم لشاهين قائلًا في هدوء:

-اهلًا يا استاذ شاهين، اتفضل أقعد.

ثم نظر لصلاح نظرة مُحذرة وأكمل:

-تقدر تقعد يا صلاح.

عاد سليم لينظر إلي شاهين المتجهم الملامح ليصدح صوته أجش ثابت وعملي:

-صلاح ندمان وهيحل الموضوع بشكل ودي يا استاذ شاهين.

حينها ارتفع صوت صلاح معترضًا وهو يشير بيده:

-هحله بس مش هاسيب حقي يا باشا.

أندفع بعده شاهين يزمجر بنبرة شرسة:

-ده أنا اللي مش هسيب حقي.

رفع سليم يده ينهي صراع جديد كاد يشتعل، ثم أردف بنبرة حازمة:

-نهدا شوية وكل واحد هياخد حقه، صلاح هياخد شقته وأنت هتاخد فلوسك يا استاذ شاهين.

فأومأ شاهين مؤكدًا برأسه:

-وهو ده اللي أنا قولته يا حضرت الظابط، أنا أصلًا مش عايز شقته أنا عايز فلوسي.

فتح صلاح فمه يكاد يزمجر والطمع يحركه:

-ملكش عندي .....

قاطعه سليم الذي أشار له بيده ليصمت، يُحذره بنظرة خفية من غضب يُدرك صلاح عاقبته جيدًا لو أصر على طمعه..!

ثم قال سليم بنبرة دبلوماسية:

-هاتدي الحاج شاهين فلوسه يا صلاح وليك عنده إنه يخلي البيت وتاخد بيتك، هو ده الصح والعدل.

كانت نجمة تراقب ما يحدث بابتسامة منتصرة وهي ترى صلاح يبتلع اعتراضه على مضض، قبل أن يهز رأسه موافقًا :

- ماشي يا باشا بس من بكره البيت يفضى !

اومأ سليم برأسه، ثم وقف أمام صلاح الذي استقام هو الآخر احترامًا، ليشير سليم بعينيه نحو شاهين آمرة بصوت خافت لكنه حاد مُقلق:

-حلو، أعتذر للحاج شاهين، وإيدك لو اتمدت على أي حد تاني هقطعهالك أنت وشوية الأوباش اللي كنت جايبهم، ماشي؟!

مرر صلاح يده فوق وجنته متذكرًا صفعة تذوقها قبل قليل لكنه حارب خوفه محاولًا الاعتراض في حنق:

-لا يا باشا ما هو السبب هو اللي ...

قاطعة سليم في صوت حازم بينما يهز رأسه متشدقًا من بين ابتسامة صفراء محذرة:

-اعتذر يا صلاح وخلينا نحلها ودي، ولا أنت عايز تونسني انهارده في القسم؟

زحف التوتر لملامح صلاح التي انكمشت رويدًا رويدًا ثم استسلم في النهاية لينطق على مضض:

-انا اسف يا حاج شاهين، مش هتتكرر تاني.

حرك شاهين رأسه الشامخة يتنهد مطولًا وقد رُدت له كرامته التي هُدرت على يد الحقير.
انهى سليم الوضع حين ربت على كتف صلاح بشيء من العنف المتعمد وهو يتابع من بين أسنانه بابتسامة لا تمت للمرح بصلة:

-جدع يا صلاح، ما يوصلنيش انك ظهرت قدامهم تاني أبدًا ولا يكون ليك علاقة بيهم، اتفقنا يا صلوحه؟

بلل صلاح شفتيه هامسًا موافقته دون أن يستطع النطق بالمزيد...

فيما كانت نجمة تحدق في سليم بابتسامة واسعة، وداخلها شعور عنيف يهتاج به صدرها من الامتنان و... الحب !
خجلة أنها من أسقطت كل مبادئها المزعومة ودفنتها تحت سابع أرض متخطيه فوقها نحو استغلال سلطته في مساعدتهم...
لتدرك أن الوظيفة التي كانت تطلق عليها شعارات الاستغلال والجبروت ليس بهذا السوء، بل لكل مهنة مميزات وعيوب...

*****

بعد مرور شهران.....

كانت نجمه ممددة على فراشها ممسكة بهاتفها تتلاعب به وتلك الابتسامة تزين ثغرها أثناء عبثها بصورة سليم على شاشة الهاتف لتُكبرها... تسأل نفسها متى استسلمت لهوج تلك العاطفة ؟!...
لقد حارب سليم مخاوفها بمواقفه الرجولية التلقائية، محى شبح تلك الصورة التي كانت مرسومة بعقلها عن شخصيته كضابط.
حتى في أكثر لحظاته جنونًا وتهورًا عندما أتى بها وبأهلها إلى قسم الشرطة لم يستغل ضعفها ليتزوج بها رغم توقعها لذلك، بل أدركت حرص سليم الكبير على ألا يزرع خوف داخلها تجاهه هو لا يريدها خائفة ابدًا بل يريدها راضية بكامل ارادتها...!
وها هي أعلنت رضوخها لتلك النبضات الجاهرة العصية ... وما أروعه حينما يكون الاستسلام لــ "سليم " .. المتعجرف دومًا بامتلاكه لها.
تنهدت لا تصدق حتى تلك اللحظة أن مشاعره اجتاحتها حتى تشجعت أمام نفسها بل أقوى هي صارحت "دنيا" رمز مخاوفها وهواجسها نعم كانت مكالمة قصيرة ولم تكن دنيا راضية لكنها شعرت بانتصار كبير وبأنها كسرت حاجز غبي خفي عن الأعين داخلها...
هي فخورة بنفسها لأنها صارحتها بمشاعرها نحو سليم بل ودافعت عنه.. دافعت عنه وكأنها تدافع عنه ضد هاجسها.
لوت ثغرها في تذمر فقد مر شهران عليهما يتحدثان فيهما كل لحظة من اليوم، تطورت فيها علاقتهما إلى الأفضل، ومع ذلك هو لم يصارحها مرة بحبه صراحةً أو يطالب بالزواج منها كما كان يفعل في أسوأ احوالهما.
انتفضت نجمة من افكارها فكالعادة كلما تذكرته حضر، نظرت للهاتف المهتز معلنًا عن اتصاله، وتلك الابتسامة التي تخصه بها وحده عادت لتجد مكانها على ثغرها، ثم اجابت وهي تستحضر صوتها العذب:

-ايوه يا سليم.

شاكسها الاخر متمتمًا:

-عليكي واحدة سليم بتجيب أجلي!

ضحكت برقة ولم تعلق، ليكمل سليم في حنو:

-وحشتيني يا نجمة.

تمتمت نجمه مجيبة في خجل:

-امم، ميرسي.

ارتفع حاجبي سليم مستنكرًا وكأنها تراه وأستطرد:

-إيه ميرسي دي ان شاء الله؟
لا اظبطي كده لاظبطك، أقولك وحشتيني تقوليلي وأنت وحشتني يا سليم يا حبيبي!

كبحت نجمه ضحكتها بصعوبة، ثم سألته في مكر مغيرة الموضوع:

-خلصت شغلك؟

تنهد سليم مبتسمًا يعشقك دلالها وقد أدرك محاولتها لتغيير الموضوع:

-ايوه ياستي خلصته، بس عندي شغل تاني أهم بكتير.

سألته نجمه عاقدة حاجبيها بعدم فهم:

-شغل إيه اللي أهم؟

حك سليم ذقنه النامية ثم أجاب بصوت أجش مُذبذب موقفًا محرك السيارة بعد أن كان يسير في المنطقة التي تقطن بها نجمة، وتحديدًا أمام بنايتها ولكنه لن يخبرها بذلك كي لا تظنه مختلًا نفسيًا يطاردها أو شيء من هذا القبيل، سعل سليم في خفة يزيل الحرج من أفعاله عن صوته قبل أن يخبرها في صراحة:

-في موضوع كده شاغلني أوي ومش عارف أعمل إيه بجد تعبت منه!

-موضوع إيه؟! ما تتكلم من غير ألغاز يا سليم مالك ؟


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-